الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ0%

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام
الصفحات: 318

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف: علي موسى الكعبي
تصنيف:

الصفحات: 318
المشاهدات: 160022
تحميل: 5071

توضيحات:

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 318 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 160022 / تحميل: 5071
الحجم الحجم الحجم
الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
العربية

وصف النار وأهلها :

عن عمرو بن ثابت ، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ، قال : «إن أهل النار يتعاوون فيها كما يتعاوى الكلاب والذئاب ممّا يلقون من ألم العذاب.

ما ظنّك ـ ياعمرو ـ بقومٍ لا يقضى عليهم فيموتوا ، ولا يُخفف عنهم من عذابها ، عطاش فيها جياع ، كليلة أبصارهم ، صم بكم عمي ، مُسودّة وجوههم ، خاسئين فيها نادمين ، مغضوبٌ عليهم فلا يرحمون ، ومن العذاب لا يُخفّف عنهم ، وفي النار يُسجرون ، ومن الحميم يشربون ، ومن الزقوم يأكلون ، وبكلاليب النار يخطمون ، وبالمقامع يضربون ، والملائكة الغلاظ الشداد لا يرحمون ، فهم في النار يسحبون على وجوههم ، ومع الشياطين يقرنون ، وفي الأنكال(٢) والأغلال يصفدون ، إن دعوا لم يُستجب لهم ، وإن سألوا حاجة لم تقضَ لهم ، هذه حال من دخل النار »(٣) .

وعن زرارة ، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ، قال : «إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أسري به إلى السماء لم يمر بخلق من خلق اللّه إلاّ رأى منه ما يحب من البِشر واللطف والسرور به حتى مرّ بخلق من خلق اللّه ، فلم يلتفت إليه ، ولم يقل له شيئا ، فوجده قاطبا عابسا ، فقال : يا جبرئيل ، ما مررت بخلق من خلق اللّه إلاّ رأيت البشر واللطف والسرور منه إلاّ هذا ، فمن هذا؟ قال : هذا مالك خازن النار ، وهكذا خلقه ربّه. قال : فإنّي أحبّ أن تطلب إليه أن يريني النار. فقال له جبرئيل : إنّ هذا محمّدا رسول اللّه ، وقد سألني أن

__________________

(٢) الأنكال : جمع نكل ، القيد الشديد.

(٣) أمالي الصدوق : ٦٥١ / ٨٨٦.

٢٢١

أطلب إليك أن تريه النار. قال : فأخرج له عنقا منها (١) فرآها ، فما افترَّ ضاحكا (٢) حتى قبضه اللّه عزّوجلّ »(٣) .

٤ ـ مجابهة البدع والمفاهيم الخاطئة :

الابتداع شرك وضلال :

قام الإمام الباقرعليه‌السلام بدور بارز في الدفاع عن العقيدة الإسلامية المتمثلة بالكتاب الكريم وسنة النبي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعلهما الميزان في تقييم الأعمال وإن كل ما خالفهما فهو بدعة وضلال(٤) .

وعلى ضوء ذلك بين لأصحابه عدم مشروعية صلاة الضحى وصلاة التراويح جماعة في شهر رمضان ، فقد سأل زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل أبا جعفر الباقر وأبا عبد اللّه الصادقعليهما‌السلام عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة ، فقالا : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ، ثم يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي ، فخرج في أول ليلة من شهر رمضان ليصلّي ، كما كان يصلّي ، فاصطفّ الناس خلفه ، فهرب منهم إلى بيته وتركهم ، ففعلوا ذلك ثلاث ليال ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اليوم الثالث على منبره ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلاً في شهر رمضان لصلاة الليل ، ولا تصلّوا صلاة الضحى ، فإن تلك معصية ، ألا

__________________

(١) أي طائفة منها.

(٢) أي ابتسم وبدت ثناياه.

(٣) أمالي الصدوق : ٦٩٧ / ٩٥٢.

(٤) يُنظر : أُصول الكافي ١ : ٥٦ / ٨ ، وعقاب الأعمال : ٥٧٨ / ٣.

٢٢٢

فإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة سبيلها إلى النار ، ثم نزل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول : قليل في سُنّة خير من كثير في بدعة »(١) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام أن رجلاً من الأنصار سأله عن صلاة الضحى ، فقال : «أول من ابتدعها قومك الأنصار ، سمعوا قول رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة ، فكانوا يأتون من ضياعهم ضحى فيدخلون المسجد فيصلون فيه ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنهاهم عنه »(٢) .

ادعاءات وأباطيل :

عمل الحاكم الأموي على تصدير أكذوبة مفادها أن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة ، وأخرى أن اللّه تبارك وتعالى ، أو أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث صعد إلى السماء ، وضع قدمه على صخرة بيت المقدس ، وتمّ وضع الأحاديث على هذا المنوال ، حين منع عبد الملك بن مروان أهل الشام من الحج أيام كانت مكة بيد ابن الزبير ، فجعل عبد الملك يجبرهم على تغيير وجهة الحج إلى بيت المقدس تحت غطاء أمثال هذه الأحاديث التي تفضل البيت على الكعبة.

قال اليعقوبي : منع عبد الملك أهل الشام من الحج ، وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم اذا حجوا بالبيعة ، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة ، فضج الناس ، وقالوا : تمنعنا من حج بيت اللّه الحرام ، وهو فرض من اللّه علينا!

فقال لهم : هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول اللّه قال : لا تشدّ

__________________

(١) من لايحضره الفقيه ٢ : ١٣٧ / ١٩٦٤ ، الاستبصار ١ : ٤٦٧ / ١٨٠٧ ، تهذيب الأحكام ٣ : ٢٢٦.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ٢١٤.

٢٢٣

الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي ، ومسجد بيت المقدس. وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام ، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول اللّه وضع قدمه عليها ، لما صعد إلى السماء ، تقوم لكم مقام الكعبة ، فبنى على الصخرة قبة ، وعلق عليها ستور الديباج ، وأقام لها سدنة ، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة ، وأقام بذلك أيام بني أمية(١) .

وكان موقف الإمام الباقرعليه‌السلام يسير باتجاه تكذيب أمثال هذه الأباطيل.

عن زرارة ، قال : كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفرعليه‌السلام وهو محتب مستقبل الكعبة ، فقال : «أما أن النظر إليها عبادة ، فجاءه رجل من بجيلة يقال له : عاصم بن عمر ، فقال لأبي جعفرعليه‌السلام : إن كعب الأحبار كان يقول : إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة. فقال أبو جعفرعليه‌السلام :فما تقول فيما قال كعب؟ فقال : صدق ، القول ما قال كعب. فقال أبو جعفرعليه‌السلام :كذبت وكذب كعب الأحبار معك ، وغضب. قال زرارة : ما رأيته استقبل أحداً بقول كذبت غيره. ثم قال :ما خلق اللّه عزوجل بقعة في الأرض أحب إليه منها ـ ثم أومأ بيده نحو الكعبة ـولا أكرم على اللّه عزوجل منها ، لها حرّم اللّه الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض ، ثلاثة متوالية للحج : شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وشهر مفرد للعمرة وهو رجب »(٢) .

وروى جابر بن يزيد الجعفي ، قال : قال محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام : «يا جابر ، ما أعظم فرية أهل الشام على اللّه عزّوجلّ! يزعمون أن اللّه تبارك وتعالى حيث صعد إلى السماء ، وضع قدمه على صخرة بيت

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦١.

(٢) الكافي ٤ : ٢٣٩ / ١.

٢٢٤

المقدس ، ولقد وضع عبد من عباد اللّه قدمه على حجره ، فأمرنا اللّه تبارك وتعالى أن نتخذه مصلّى. يا جابر ، إن اللّه تبارك وتعالى لا نظير له ولا شبيه ، تعالى عن صفة الواصفين ، وجل عن أوهام المتوهّمين ، واحتجب عن أعين الناظرين ، لا يزول مع الزائلين ، ولا يأفل مع الآفلين ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع العليم »(١) .

ومن الأباطيل التي روّج لها الحاكم الأموي قولهم قبّحهم اللّه : إن أبا طالب في ضحضاح من نار ، للطعن بايمانه ، والحط من أهل بيته ، وقد رد الإمام الباقرعليه‌السلام هذه الفرية بشدة ، فقد سئلعليه‌السلام عما يقوله حثالة الناس : إن أبا طالب في ضحضاح من نار. فقال : «لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفة أخرى لرجح إيمانه. ثم قال : ألم تعلموا أن أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام كان يأمر أن يحج عن عبد اللّه وابنه وأبي طالب في حياته ، ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم »(٢) .

وقد قدمنا في الفصل الأول أن حكام بني أمية وعمالهم عملوا على النيل من مقام النبوة ، والاستخفاف بزوار قبر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة(٣) .

وإزاء ذلك قدم الإمام الباقر دروساً عملية في مشروعية زيارة قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور الأئمة المعصومين من أهل البيت: وشدَّ الرحال إليهم ، والتوسل والاستشفاع بهم ، منها حديث الإمام الباقرعليه‌السلام عن أبيه علي بن

__________________

(١) التوحيد : ١٧٩.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٤ : ٦٨.

(٣) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١٥ : ٢٤٢.

٢٢٥

الحسينعليهما‌السلام ، أنّه كان يقف على قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويلتزق بالقبر(١) .

وروى ابن عساكر بالاسناد عن قيس بن النعمان أنه خرج يوماً إلى بعض مقابر المدينة ، فوجد الإمام الباقرعليه‌السلام جالساً عند قبر أبيه يبكي بكاءً شديداً ، وأن وجهه ليلقي شعاعاً من نور ، فقال له في بعض حديثه : «هذا قبر أبي ، فأي أنس آنس من قربه ، وأي وحشة تكون معه ». قال قيس : فانصرفت وما تركت زيارة القبور مذ ذاك(٢) .

تصحيح مقولات خاطئة :

مارس الإمام الباقرعليه‌السلام عملية تصحيح لبعض المقولات الخاطئة الجارية على ألسن الناس ، فقال يوماً رجل عنده : اللهم أغننا عن جميع خلقك. فقال أبو جعفرعليه‌السلام : «لا تقل هكذا. ولكن قل : اللهم أغننا عن شرار خلقك ، فإن المؤمن لا يستغني عن أخيه »(٣) .

وقالعليه‌السلام : «كم من رجل قد لقي رجلاً فقال له : كب اللّه عدوك ، وما له من عدو إلاّ اللّه »(٤) .

مواجهة حركة الغلو :

إن حركة الغلو من الاتجاهات المدمرة في الفكر الإسلامي ، لذلك كان لأهل البيت: كلمتهم حيثما يظهر الغلو ، وهي كلمة واحدة أعلنوا فيها عن كفر الغلاة والحادهم ، ولعنوهم ودعوا أصحابهم إلى البراءة منهم ، لحرصهم على

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥٥١ / ٢.

(٢) تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٨١.

(٣) تحف العقول : ٢٩٣.

(٤) تحف العقول : ٢٩٤.

٢٢٦

تنزيه تعاليم الإسلام من التشويه والتحريف والافتراء ، ولتصحيح المسار الإسلامي بكل ما حوى من علوم ومعارف واتجاهات ، ولم يدخروا في هذا السبيل وسعاً.

وتصدّى الإمام الباقرعليه‌السلام لحركة الغلو وحذر من مقالات الغلاة ، وفنّد ادعاءاتهم الباطلة.

وهكذا فعل مع المغيرة بن سعيد ، روى سليمان الكناني ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، أنه قال له : «هل تدري ما مثل المغيرة ؟ قال : قلت : لا. قال :مثله مثل بلعم . قلت : ومن بلعم؟ قال :الذي قال اللّه عزّوجلّ : «الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ »(١) ».

وأعلن الإمام الصادقعليه‌السلام عن لعن المغيرة بن سعيد ، وحذر أصحابه مما كان يفتريه المغيرة على أبي جعفرعليه‌السلام ، وصرح أنه كان يكذب على أبي جعفرعليه‌السلام ، فأذاقه اللّه حر الحديد(٢) ، وعرى ما دسه من الكفر والزندقة في كتب أصحابه(٣) . وكان من شيوع ذلك وذيوعه أن ذكره حتى الشعراء ، فقد جاء أبو هريرة العجلي الشاعر إلى الإمام الباقرعليه‌السلام فأنشده :

أبا جعفر أنت الولي أحبّه

وأرضى بما ترضى به وأتابعُ

أتتنا رجالٌ يحملون عليكمُ

أحاديث قد ضاقت بهنّ الأضالعُ

أحاديث أفشاها المغيرة فيهم

وشر الأمور المحدثات البدائعُ(٤)

__________________

(١) رجال الكشي ٢ : ٤٩٤ / ٤٠٦ ، والآية من سورة الأعراف : ٧ / ١٧٥.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٤٣٦ و ٤٨٩.

(٣) رجال الكشي ٢ : ٤٩١ / ٤٠٢.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٤١ ، عيون الأخبار / ابن قتيبة ٢ : ١٥١.

٢٢٧

ولكي لا يقع أصحابه في متاهة الغلو وأحابيل أهله ومقالاتهم الباطلة ، أكّد الإمام الباقرعليه‌السلام على المؤمنين أن لا يتجاوزوا الحدّ فيهم: ، ولا يغتروا بما يقوله الغلاة من نبوّتهم أو أُلوهيّتهم ، وأكد أنهم عبيد اللّه لا يشركون به شيئاً ، وما بينهم وبين اللّه من قرابة إلاّ بالطاعة ، وطلب من شيعته أن يكونوا النمرقة الوسطى ، يرجع إليهم الغالي ، ويلحق بهم التالي(١) .

* * *

__________________

(١) اعلام الدين : ١٤٣ ، و : ٣٠١ ، كشف الغمّة ٢ : ٣٦٢.

٢٢٨

الفصل السابع

اسهامه في العلوم

أظهر باقر العلمعليه‌السلام طاقات هائلة من العلم تركت بصماتها إلى اليوم ، في جل العلوم والمعارف التي أسهم فيها ، كعلوم القرآن والتفسير والحديث والأصول والفقه والتشريع والكلام والطب واللغة والأدب والسيرة والتاريخ والملاحم والحكم العالية والمواعظ السامية.

قال الشيخ المفيد : روى أبو جعفرعليه‌السلام أخبار المبتدأ وأخبار الأنبياء ، وكتب عنه الناس المغازي ، وأثروا عنه السنن ، واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكتبوا عنه تفسير القرآن ، وروت عنه الخاصة والعامة الأخبار ، وناظر من كان يرد عليه من أهل الآراء ، وحفظ عنه الناس كثيراً من علم الكلام(١) .

وقال أبو زهرة : كانعليهما‌السلام مفسراً للقرآن ، ومفسراً للفقه الإسلامي ، مدركاً حكمة الأوامر والنواهي ، فاهماً كل الفهم لمراميها ، وكان راوية للأحاديث ، يروي أحاديث آل البيت ، ويروي أحاديث الصحابة من غير تفرقة ، ولكمال نفسه ونور قلبه وقوة مداركه ، أنطقه اللّه تعالى بالحكم الرائعة ، ورويت عنه عبارات في الأخلاق الشخصية والاجتماعية ، ما لو نظم في سلك لتكون فيه

__________________

(١) الارشاد ٢ : ١٦٣.

٢٢٩

مذهب خلقي سام ، يعلو بمن يأخذ به إلى مدارج السمو الإنساني(١) .

قال الشاعر :

والخير كل الخير في لسانه

والعلم كل العلم في بيانه

منطقه منطقة الكمال

ناطقة العدل والاعتدال

بل هو مفتاح مفاتيح الهدى

وعنده الغيب شهود أبدا

به تجلت صفوة المعارف

في قلب كل سالك وعارف(٢)

ويمكن الإشارة إلى انجازات الإمام الباقرعليه‌السلام العلمية ضمن النقاط التالية :

١ ـ الآثار العلمية المنسوبة إليهعليه‌السلام :

نسبت إلى الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام مؤلّفات عدة ، رواها عنه أصحابه ، يتضمن غالبها علمي التفسير والحديث ، وهي كما يلي :

١ ـ تفسير القرآن : رواه عنهعليه‌السلام زياد بن المنذر ، أبو الجارود العبدي(٣) .

٢ ـ نسخة أحاديث : رواها عنهعليه‌السلام خالد بن أبي كريمة(٤) .

٣ ـ نسخة أحاديث أخرى : رواها عنهعليه‌السلام خالد بن طهمان ، أبو العلاء الخفّاف. قال مسلم بن الحجاج : أبو العلاء الخفاف له نسخة أحاديث ، رواها عن أبي جعفرعليه‌السلام (٥) .

٤ ـ كتاب : رواه عنه عبد المؤمن بن القاسم الأنصاري(٦) .

__________________

(١) الإمام الصادق / محمد أبو زهرة : ٢٤.

(٢) الأنوار القدسية : ٧٥.

(٣) الفهرست للنديم : ٣٦ ، الذريعة ٤ : ٢٦٢.

(٤) رجال النجاشي : ١٥١ / ٣٩٦.

(٥) رجال النجاشي : ١٥١ / ٣٩٧.

(٦) تأسيس الشيعة : ٢٨٥.

٢٣٠

٥ ـ كتاب : رواه زرارة بن أعين الشيباني(١) .

٦ ـ رسالتهعليه‌السلام إلى سعد بن طريف الاسكاف الحنظلي ، وكان قاضياً(٢) .

٧ ـ رسالتهعليه‌السلام إلى سعد بن عبد الملك الأموي نسبا ، المعروف بسعد الخير ، وقد روى ثقة الإسلام الكليني هذه الرسالة بسندين(٣) .

٨ ـ نسخة الباقر والصادقعليهما‌السلام لأبي عثمان عمر بن جميع الأزدي البصري ، القاضي بالري ، ذكرها النجاشي مع سندها(٤) .

٩ ـ مناظرتهعليه‌السلام مع الهروي في خلافة أبي بكر ، وهي موجودة في مجموعة مع مناظرة ابن أبي جمهور ، ومناظرة ركن الدولة في المكتبة الرضوية(٥) .

١٠ ـ ووصلت إلينا عدّة مناظرات وحوارات ساخنة للإمام الباقرعليه‌السلام مع العلماء من مختلف أوساط الامة وغيرهم ، منها : مناظرته مع عمرو بن عبيد المعتزلي(٦) ، وسالم التمار من البترية(٧) ، ونافع بن الأزرق مولى عبد اللّه بن عمر(٨) ، وقتادة بن دعامة البصري(٩) ، وطاوس اليماني(١٠) ، وعبد اللّه

__________________

(١) تأسيس الشيعة : ٢٨٦.

(٢) رجال النجاشي : ١٧٨ ، نقد الرجال ٢ : ٣٠٩.

(٣) الكافي ٨ : ٥٣ / ١٦ و ١٧.

(٤) الذريعة ٢٤ : ١٤٨.

(٥) كشف الحجب والأستار : ٥٥٣ ، الذريعة ٢٢ : ٢٨٧.

(٦) روضة الواعظين : ٢٠٣.

(٧) الاحتجاج ٢ : ٦٣.

(٨) الكافي ٨ : ١٢٠ / ٩٣ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٠ ، الارشاد ٢ : ١٦٤ ، الاحتجاج ٢ : ٥٧ ، روضة الواعظين : ٢٠٤ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٠.

(٩) الكافي ٦ : ٢٥٦.

(١٠) الاحتجاج ٢ : ٦١ و ٦٤ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٢.

٢٣١

ابن عباسعليهما‌السلام (١) ، وهشام بن عبد الملك(٢) ، والأبرش بن الوليد الكلبي وزير هشام بن عبد الملك(٣) ، والخضرعليه‌السلام (٤) ، وعالم النصارى(٥) .

١١ ـ ونقلت عنهعليه‌السلام مواعظ ووصايا ورسائل كثيرة ، سنعرض نماذج منها ومن المناظرات في آخر الفصل.

٢ ـ دوره في علوم القرآن :

بيان فضل القرآن :

تحدث الإمام الباقرعليه‌السلام عن فضل القرآن ، ولا يخفى ما في ذلك من دفع باتجاه الاهتمام بالكتاب الكريم ، روى سعد الخفاف ، عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث طويل عن فضل القرآن ، قال : «يا سعد ، تعلّموا القرآن ، فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق ، والناس صفوف ، إلى أن قال : فيخر تحت العرش ، فيناديه تبارك وتعالى : يا حجّتي في الأرض وكلامي الصادق الناطق ، ارفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع. فيرفع رأسه ، فيقول اللّه تبارك وتعالى : كيف رأيت عبادي؟ فيقول : يا رب ، منهم من صانني وحافظ عليّ ولم يضيّع شيئاً ، ومنهم من ضيّعني واستخفّ بحقّي

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٠.

(٢) دلائل الإمامة : ٢٣٥ ، نوادر المعجزات : ١٣١ ، الارشاد ٢ : ١٦٣ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٧٩ ، الاحتجاج ٢ : ٥٧ ، شرح الأخبار ٣ : ٢٨٠ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٥ ، روضة الواعظين : ٢٠٣.

(٣) الكافي ٦ : ٢٨٦ / ١ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٩.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٣ ، شرح الأخبار٣ : ٢٧٨ ، ونقله ابن حجر في الاصابة ٢ : ٢٦٤ ، عن كتاب أخبار مكة للفاكهي ، وكتاب النسب للزبيري.

(٥) الكافي ٨ : ١٢٢ / ٩٤ ، دلائل الإمامة : ٢٢٩ / ١٥٧ ، الخرائج والجرائح ١ : ٢٩١.

٢٣٢

وكذب بي ، وأنا حجّتك على جميع خلقك. فيقول اللّه تبارك وتعالى : وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني ، لأثيبنّ عليك اليوم أحسن الثواب ، ولأعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب »(١) .

قراءتهعليه‌السلام :

كان الإمام الباقرعليه‌السلام كآبائه أحسن الناس قراءة وصوتاً ، روى معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام ، قال : «إن أبا جعفر عليه‌السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، وكان إذا قام من الليل وقرأ ، رفع صوته ، فيمر به مار الطريق من الساقين وغيرهم فيقومون فيستمعون إلى قراءته »(٢) . وقد أخذ عنه القراءة عرضاً بعض أصحابه منهم حمران بن أعين(٣) .

شروط تلاوة القرآن :

للإمام الباقرعليه‌السلام وصايا في تحمّل القرآن وقراءته ، تتناغم مع قداسة هذا الكتاب العظيم ، وتحقيق أهدافه في تهذيب النفوس والأخذ بمجامع القلوب ، من هنا جدير بكل مسلم أن يجعل تلك الوصايا نصب عينه حينما يقرأ كتاب اللّه.

قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : «قراء القرآن ثلاثة : رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة ، واستدر به الملوك ، واستطال به على الناس ، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده ، وأقامه اقامة القدح ، فلا كثّر اللّه هؤلاء من حملة القرآن. ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه ، فأسهر به ليله ، وأظمأ به نهاره ، وقام به في مساجده ، وتجافى به عن فراشه ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٥٩٦ / ١.

(٢) مستطرفات السرائر / ابن ادريس : ٩٧ / ١٧.

(٣) غاية النهاية / ابن الجزري ١ : ٢٦١.

٢٣٣

فبأولئك يدفع العزيز الجبار البلاء ، وباولئك يديل اللّه عز وجل من الأعداء ، وبأولئك ينزل اللّه عزوجل الغيث من السماء ، فواللّه لهؤلاء في قراء القرآن أعز من الكبريت الأحمر »(١) .

ثم قالعليه‌السلام : «إذا قرأتم القرآن فبينوه تبياناً ، ولا تهذّوه (٢) هذاً كهذّ الشعر ، ولا تنثروه نثر الرمل ، ولكن افرغوا له القلوب القاسية. ولا يكن هم أحدكم آخر السورة ، واقرءوه بألحان العرب وأصواتها ، واياكم ولحون أهل الكبائر ، وأعربوا به فإنّه عربي ، ولا تقرأوه هذرمة (٣) ، وإذا مررتم بآية فيها ذكر الجنة فقفوا عندها واسألوا اللّه الجنة ، وإذا مررتم بآية فيها ذكر النار فقفوا عندها وتعوذوا باللّه من النار ، وحزّنوه بأصواتكم ، فإن اللّه تعالى أوحى إلى موسى بن عمران عليه‌السلام : إذا وقفت بين يدي فقف موقف الذليل الفقير ، وإذا قرأت التوراة فاسمعنيها بصوت حزين »(٤) .

وعن جابر ، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ، قال : «قلت له : إنّ قوما إذا ذُكّروا بشيء من القرآن أو حدثوا به صعق أحدهم حتى يرى أنّه لو قطعت يداه ورجلاه لم يشعر بذلك. فقال :سبحان اللّه! ذاك من الشيطان ، ما بهذا أمروا ، إنّما هو اللين والرقة والدمعة والوجل »(٥) .

وعن أبي بصير عنهعليه‌السلام : «ورجّع بالقرآن صوتك ، فإن اللّه يحبّ الصوت

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٢٧ / ١ ، أعلام الدين : ١٠١.

(٢) الهذ : السرعة في القطع والقراءة.

(٣) الهذرمة : سرعة القراءة.

(٤) أعلام الدين : ١٠١.

(٥) أمالي الصدوق : ٣٢٨ / ٣٨٧.

٢٣٤

الحسن يرجع فيه ترجيعاً »(١) .

التفسير :

تعدّ الأخبار الواردة في التفسير عن أهل البيت: بالأسانيد المعتمدة من أوثق مصادر التفسير ، وأثبتت الدلائل أنهم الأقدر على تفسير آي الكتاب وإدراك مضامينها وفهم دقائقها ، لأنهم أعدال الكتاب الذين قرن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم وبينه ، وذكر أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض.

وأكد الإمام الباقرعليه‌السلام هذه الحقيقة في أكثر من مناسبة ، فقالعليه‌السلام : «إن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الراسخين في العلم ، فقد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان اللّه لينزل عليه شيئاً لم يعلمّه إياه ، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه »(٢) .

وعن جابر ، عن أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال : «ما يستطيع أحد أن يدّعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء »(٣) . أي أن العلم بجميع القرآن من حيث معانيه الظاهرة ومعانيه الباطنة منحصر بهم: .

من هنا فإن الحديث عن تفسير الإمام الباقرعليه‌السلام واسع بسعة التفسير المأثور عنه ، لكننا سوف نقتصر على بيان بعض الأمثلة من التفسير الوارد عن الإمام الباقرعليه‌السلام .

١ ـ عن محمد بن مسلم ، قال : «سألت أبا جعفرعليه‌السلام ، فقلت : قوله

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦١٦ / ١٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٩٦ ، تفسير العياشي ١ : ١٦٤ / ٦.

(٣) الكافي ١ : ٢٢٨ / ٢.

٢٣٥

عزوجل : «يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ »(١) . فقال عليه‌السلام : اليد في كلام العرب القوّة والنعمة ، قال اللّه : «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الاْءَيْدِ »(٢) ، وقال : «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ »(٣) ، أي : بقوّة ، وقال : «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ »(٤) ، أي قوّاهم ، ويقال : لفلان عندي أيادٍ كثيرة. أي فواضل واحسان ، وله عندي يد بيضاء ، أي نعمة »(٥) .

٢ ـ وعن زرارة ومحمّد بن مسلم : أنّهما قالا : قلنا لأبي جعفرعليه‌السلام : «ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي ، وكم هي؟ فقال :إن اللّه عزوجل يقول : «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الاْءَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاة »(٦) ، فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر.

قالا : قلنا : إنما قال اللّه عزوجل : «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ » ، ولم يقل : افعلوا ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال :أو ليس قد قال اللّه عزّوجلّ في الصفا والمروة : «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا »(٧) ؟ ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض؟ لأن اللّه عزّوجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك التقصير في السفر شيء

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٧٥.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ١٧.

(٣) سورة الذاريات : ٥١ / ٤٧.

(٤) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢.

(٥) التوحيد : ١٥٣ / ١.

(٦) سورة النساء : ٤ / ١٠١.

(٧) سورة البقرة : ٢ / ١٥٨.

٢٣٦

صنعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكره اللّه تعالى في كتابه »(١) .

٣ ـ وفي حديث نافع بن الأزرق أنه سأل الباقرعليه‌السلام عن مسائل ، منها قوله تعالى : «وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ »(٢) من الذي يسأل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان بينه وبين عيسى خمس مائة سنة؟ قال : فقرأ أبو جعفرعليه‌السلام : «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً »(٣) ثم ذكر اجتماعه بالمرسلين والصلاة بهم في المسجد الأقصى وسؤاله منهم على من يشهدون ، وما كانوا يعبدون. قالوا : نشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وحده لا شريك له ، وأنك رسول اللّه ، أخذت على ذلك عهودنا ومواثيقنا(٤) .

أولاً : القول بسلامة القرآن من النقصان ، وأنه الذي بأيدي المسلمين مابين الدفتين ، وقد حرص أهل البيت: في الحفاظ على سلامة القرآن من التحريف ، وعدم ضياع أي حرف منه.

وصرح الإمام الباقرعليه‌السلام في رسالته إلى سعد الخير أن التحريف المزعوم في الكتاب الكريم إنما يقع من الجهال في شرحه وتفسيره ، لا في حروفه ، قالعليه‌السلام : «كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية »(٥) .

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٧٨ / ١٢٦٦.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٤٥.

(٣) سورة الاسراء : ١٧ / ١.

(٤) الكافي ٨ : ١٠٣ ـ ١٠٤ / ٩٣ ، الاحتجاج ٢ : ٦٠ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٣.

(٥) الكافي ٨ : ٥٦ / ١٧.

٢٣٧

وفي هذا السياق ، نفى الإمام الباقرعليه‌السلام أن يكون القرآن نزل على سبعة أحرف ، عن زرارة ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : «إن القرآن واحد ، نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة »(١) . فالأحرف المدعاة إنما هي أخبار آحاد واختلاف من قبل الرواة ، والقرآن لا اختلاف فيه من حيث صورة ألفاظه ، بل نزل بلغة واحدة ، وعلى قراءة واحدة ، هي لغة قريش ، لقوله تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ »(٢) وكان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرشياً.

رابعاً : تأويل المتشابه الذي يعارض العقائد الإسلامية التي أرادها اللّه ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بمعانٍ مناسبة لجوّ الآيات والروايات ، مثل تنزيه الخالق عن التجسيم التشبيه والتعطيل ، وتنزيه الأنبياء عن المعاصي ، واستحالة روءية الخالق في الدنيا والآخرة ، والأمر بين الأمرين وغيرها من عقائد الإسلام الأصيل ، وذلك بالاستفادة من معاني الكلمات المجازية عند العرب ، أو من الآيات الأخرى التي تكمل بمجموعها معنى النص القرآني ، كما في تأويل الإمام الباقرعليه‌السلام لكلمة اليد في الحديث المتقدم.

ومثال تنزيه الخالق من صفة المخلوق ، ما سأل عمرو بن عبيد الإمام الباقرعليه‌السلام ، عن قول اللّه تبارك وتعالى : «وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى »(٣) ، ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفرعليه‌السلام : «هو العقاب. يا عمرو ، إنه من زعم أن اللّه قد زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق ، وإنّ اللّه تعالى

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٣٠ / ١٢.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ٨١.

٢٣٨

لا يستفزّه شيء فيغيره »(١) .

وعن أبي حمزة ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال : في قول اللّه عزوجل : «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ »(٢) ، قال : «فيهلك كل شيء ويبقى وجه اللّه عزوجل ، واللّه أعظم من أن يوصف؟! ولكن معناها كل شيء هالك إلاّ دينه ، ونحن الوجه الذي يؤتى اللّه منه »(٣) .

ومثال على مبدأ الأمر بين الأمرين ، وهو مبدأ وسط بين الجبر والتفويض ، ما رواه جابر بن يزيد الجعفي ، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ، قال : «سألته عن معنى (لا حول ولا قوة إلاّ باللّه ). فقال : معناه: لا حول لنا عن معصية اللّه إلاّ بعون اللّه ، ولا قوة لنا على طاعة اللّه إلاّ بتوفيق اللّه عزوجل »(٤) . فلا تفويض مطلق ، ولا جبر مطلق ، بل إن للإنسان حولاً وقوةً ، لكنهما خاضعان للإرادة الإلهية ، وعلى أساس هذا الاتجاه من الوعي فسروا آيات القرآن ، ونفوا عن كلام اللّه تعالى كل ما يفهم منه الجبر أو التفويض.

خامساً : النهي عن التفسير بالرأي ، ويراد به الأخذ بالاعتبارات الظنية في التفسير ، يقول شيخ الطائفة الطوسي في مقدمة تفسيره : ان تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الأئمة: الذين قولهم حجة كقول النبي(٥) .

__________________

(١) الكافي ١ : ١١٠ / ٥.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٨٨.

(٣) اكمال الدين : ٢٣١ / ٣٣ ، المحاسن١ : ٢١٨ / ١١٦ ، بصائرالدرجات : ٨٥ / ٣ و ٥.

(٤) التوحيد : ٢٤٢ / ٣ ، معاني الأخبار : ٢١ ، الاحتجاج : ٤١٢.

(٥) التبيان ١ : ٤.

٢٣٩

وقد نهى الإمام أبو جعفرعليه‌السلام عن الأحتكام إلى الحدس والظن والتخمين في التفسير ، أو أن يفسره الإنسان بذوقه ومن تلقاء نفسه ، في عدة أحاديث ، منها ما رواه ثقة الإسلام الكليني عن زيد الشحام ، قال : «دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفرعليه‌السلام فقال :يا قتادة ، أنت فقيه أهل البصرة ؟ قال : هكذا يزعمون. فقال أبو جعفرعليه‌السلام :بلغني أنك تفسر القرآن ؟ فقال له قتادة : نعم. فقال له أبو جعفرعليه‌السلام :بعلم تفسره أم بجهل ؟ قال : لا ، بعلم. فقال له أبو جعفرعليه‌السلام :فإن كنت تفسره بعلم ، فأنت أنت ، وأنا أسألك ؟ قال قتادة : سل. قال :أخبرني عن قول اللّه عزوجل في سبأ : «وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ »(١) . فقال قتادة : ذلك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال ، يريد هذا البيت ، كان آمنا حتى يرجع إلى أهله. فقال أبو جعفرعليه‌السلام :نشدتك اللّه يا قتادة ، هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت ، فيقطع عليه الطريق ، فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة : اللهم نعم.

فقال أبو جعفرعليه‌السلام :ويحك يا قتادة ، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت. ويحك يا قتادة ، ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يروم هذا البيت عارفاً بحقنا ، يهوانا قلبه ، كما قال اللّه عزّوجلّ : «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ »(٢) ولم يعن البيت فيقول : إليه ، فنحن واللّه دعوة إبراهيم عليه‌السلام التي من هوانا قلبه قبلت حجّته

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٨.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٧.

٢٤٠