الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ0%

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام
الصفحات: 318

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف: علي موسى الكعبي
تصنيف:

الصفحات: 318
المشاهدات: 160027
تحميل: 5071

توضيحات:

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 318 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 160027 / تحميل: 5071
الحجم الحجم الحجم
الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
العربية

عطاء ، قال : قلت لأبي جعفر الباقرعليه‌السلام : «رجلان من أهل الكوفة أخذا ، فقيل لأحدهما : ابرأ من أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فبرئ واحد منهما ، وأبى الآخر ، فخُلّي سبيل الذي برئ ، وقُتل الآخر؟ فقالعليه‌السلام :أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه ، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجّل إلى الجنّة »(١) .

وضيّق الوليد بن عبد الملك على الشيعة في العراق ، فهربوا إلى نواحي مكة والمدينة من قمع الحجّاج ، فعزل الوليد عمر بن عبد العزيز من المدينة ، وأبدله بالجلاّد عثمان بن حيّان ، الذي فرض عليهم الحصار ، وأخذ عليهم الطرق ، حيث ارتقى المنبر فقال : واللّه ما جربت عراقياً قط إلاّ وجدت أفضلهم عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول وإنّي واللّه لا أوتى بأحد آوى أحداً منهم ، أو أكراه منزلاً ، أو أنزله ، إلاّ هدمت منزله ، وأنزلت به ما هو أهله(٢) . فكان يلقي القبض على من تمكّن منهم ، ويعاقبهم ويحبسهم ، ثم يبعث بهم إلى الحجّاج في العراق.

وروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أن يحيى بن أم الطويل ـ وهو من أصحابه ـ طلبه الحجّاج ، فقال : تلعن أبا تراب ، وأمر بقطع يديه ورجليه وقتله ، وأما أبو خالد الكابلي فهرب إلى مكّة ، وأخفى نفسه فنجا(٣) .

وقطع يوسف بن عمر بنفسه يد سليمان بن خالد بن دهقان ، أبو الربيع الأقطع ، لخروجه مع زيد ، وكان قارئاً فقيهاً وجهاً(٤) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٧٥ / ٢١.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٢٥٩.

(٣) معجم رجال الحديث / الإمام الخوئي ١٢ : ٣٧.

(٤) رجال النجاشي : ١٨٣.

٢١

وكتب هشام بن الحكم إلى خالد بن عبد اللّه القسري يقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده ، لقصيدة رثى بها زيد بن عليعليه‌السلام وابنه ومدح بني هاشم. فلم يشعر الكميت إلاّ والخيل محدقة بداره ، فأُخذ وحبس في المحبس ، وخلّصه أبان بن الوليد ، وكان صديقه(١) .

وأمر الإمام الباقرعليه‌السلام جابر بن يزيد الجعفي أن يتظاهر بالجنون ، كي يتخلّص من بطش السلطة ، فخرج وفي عنقه كعاب قد علقها ، وقد ركب قصبة ، وهو يردّد أشعاراً واجتمع عليه الصبيان والناس ، والناس يقولون : جُنّ جابر ابن يزيد جنّ ، وذهب إلى الرحبة ، وما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك إلى واليه أن انظر رجلاً يقال له : جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه ، وابعث إليّ برأسه. فسأل الوالي عنه ، فقيل له : كان رجلاً له علم وفضل وحديث فجنّ ، وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم ، فعفى عنه(٢) .

رابعاً ـ ظهور الحركات المناهضة للسلطة :

كان من تداعيات سياسة الجور والاستبداد التي انتهجها طغاة بني اُمية ، واستهتارهم بقيم وتعاليم الإسلام ، أن تألبت عليهم الأمة بجملة نهضات تاريخية اندلعت هنا وهناك ، بدأها أهل البيت بثورة الحسينعليه‌السلام ، وختموها بثورة زيد وابنه يحيى.

١ ـ نهضة الطف (سنة ٦٠ ـ ٦١ هـ ) :

وصل يزيد لعنه اللّه إلى ذروة السلطة بعهد من أبيه معاوية ، وكان حاكماً منحرفاً مستهتراً بقيم الإسلام ، أشاع مظاهر الفساد والمنكر ، وتجاهر بالكفر

__________________

(١) الاغاني / أبو الفرج ١٥ : ١١٤ ، الغدير / الأميني ٢ : ١٩٤.

(٢) الكافي ١ : ٣٩٦ / ٧.

٢٢

والفسوق وأنواع الرذيلة(١) ، وحين وصل إلى سدة الحكم أراد انتزاع البيعة من الحسينعليه‌السلام ، فامتنع الحسينعليه‌السلام ، ورأى أن مجرّد السكوت عن هذا الحاكم الفاسق يشكّل خطرا داهماً على الإسلام كدعوة ودين ، فكيف يبايعه وهو وارث الرسول ووصيّه وسبطه وسيّد شباب أهل الجنة ، من هنا اختار طريق الصراع المسلح والثورة على الطغيان اليزيدي ، فخرج من المدينة بعياله وأهل بيته وأنصاره الصادقين ، وأعلن أهداف نهضته ، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإحياء معالم الدين ، وطلب الإصلاح في الأُمّة وإيقاظ ضميرها وتحريك وجدانها ، كي يحيا من حيي عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة.

ومن مكة قصد العراق مصمِّما على تحقيق أهداف نهضته ، فتسابق هو وأصحابه إلى الشهادة ونيل الرضوان ، وسجّلوا ملحمة البطولة والفداء بدمائهم الزكيّة حتّى تضرّجوا بدم الشهادة على طفّ كربلاء. ولم ينم بنو أمية مل ء جفونهم بعد مصرع الحسينعليه‌السلام ، بل هزّت واقعة الطف عروشهم ، وزلزلت الأرض تحت أقدامهم ، وكشفت عن أقنعتهم المزيفة ، فكانت رائدة الثورات والانتفاضات التي بدّدت سلطانهم ومزّقت ملكهم أي ممزّق.

٢ ـ ثورة أهل المدينة (سنة / ٦٣ هـ ) :

بعث أهل المدينة وفداً إلى الشام ، فعادوا وهم يشهدون أن يزيد رجل لا دين له ، يشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، ويلعب بالكلاب ، ويعزف بالطنابير ، وينكح الأمهات والبنات والأخوات ، فخلعه أهل المدينة ، وبايع الأنصار عبد اللّه بن حنظلة الأنصاري ، وبايعت قريش عبد اللّه بن مطيع بن الأسود والمنذر بن الزبير ، فوجّه إليهم يزيد جيشاً بقيادة السفّاح مسرف بن عقبة ،

__________________

(١) راجع : الفخري في الآداب السلطانية : ٥٥ ، مروج الذهب ٣ : ٦٧.

٢٣

فاستباح المدينة ثلاثة أيام لجنده بأمر يزيد ، انتهك فيها الجيش الأموي مدينة الرسول ، فهتك الأعراض ، وأزهق نفوس وجوه الناس من قريش والأنصار والمهاجرين ، ونهب الأموال(١) .

٣ ـ حركة التوابين (سنة / ٦٥ هـ ) :

أمير هذه الثورة الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي ، وكان ممّن كاتب الحسينعليه‌السلام ليبايعه ، فلما عجز من نصرتهعليه‌السلام ندم وحارب(٢) ، ودعا الناس إلى التوبة ، فبايعه نحو خمسة آلاف على الثأر للحسينعليه‌السلام ، فسار بهم نحو الشام لحرب عبيد اللّه بن زياد ، فعسكروا في عين الوردة ، فالتحم القتال ثلاثة أيام ، فأبلوا بلاء حسناً ، وقاتلوا شوقاً ورغبةً إلى رضوان ربّهم ، وأصدقوا القتال والتوبة حتّى قُتل سليمان وخيرة أصحابه ، وانحاز الباقون إلى بلدانهم(٣) .

٤ ـ حركة ابن الزبير (سنة / ٧٣ هـ ) :

دعا عبد اللّه بن الزبير إلى نفسه ، فبُويع له بالخلافة عقب وفاة معاوية بن يزيد سنة ٦٤ هـ.

وهكذا استامها كل مفلسِ.

وتوسّعت حركته في رقعة جغرافية واسعة ، فشملت الحجاز والبصرة والكوفة وفارس والأهواز وخراسان ومصر واليمن وأكثر الشام ، وجعل قاعدة ملكه المدينة ، وكانت له مع الأمويين وقائع هائلة ، حتّى سيّر عبد الملك بن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٠ ، المنتظم / ابن الجوزي ٦ : ٧ ، الطبقات الكبرى ٥ : ٦٦ ، تاريخ الإسلام / الذهبي ٥ : ٢٣ ، تهذيب الكمال / المزي ١٤ : ٤٣٦ / ٣٢٣٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ : ٣٩٥ / ٦١ في ترجمة سليمان بن صرد نقله عن ابن عبد البر القرطبي المالكي.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٧ ، المنتظم ٦ : ٣٥.

٢٤

مروان إليه الحجّاج الثقفي ، فانتقل إلى مكة ، وعسكر الحجّاج في الطائف ، ونشبت بينهما حروب شديدة رمى فيها الحجّاج الكعبة بأحجار المنجنيق ، وانتهت بمقتل ابن الزبير في مكة سنة ٧٣ هـ بعد أن خذله عامّة أصحابه ، وكانت مدّة ملكه تسع سنين.

وكان ابن الزبير خبيثاً ، عدوّاً للحقّ ، بخيلاً قليل العطاء ، كثير الحسد والخلاف ، شديد العداوة والبغضاء لآل أبي طالب ، تحامل على بني هاشم تحاملاً شديداً ، حتّى أنّه حين تسلّط على المدينة ترك الصلاة على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته ، فقيل له : لِمَ تركت الصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال : إنّ له أُهيل سوء إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم ، فأنا أحبّ أن أكبتهم. وحين امتنع محمد بن الحنفية وعبد اللّه بن عباس عن بيعته ، أخذهما ابن الزبير مع أربعة وعشرين رجلاً من بني هاشم ، فحبسهم في حجرة زمزم ، وحلف باللّه الذي لا إله إلاّ هو ليبايعن أو ليحرقنّ بالنار ، فأنقذهم جيش المختار ، وكان ينال من علي بن أبي طالبعليه‌السلام ويسبّه(١) . من هنا كان أبو جعفر الباقرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمّيها فتنة ابن الزبير(٢) .

٥ ـ حركة المختار الثقفي (سنة / ٦٥ ـ ٦٧ هـ ) :

وهو من زعماء الثائرين على بني أمية ، وأحد الشجعان الأفذاذ ، بدأت حركته بعد ثورة التوّابين ، فعندما انتهت المواجهة ، دخل الذين انحازوا إلى الكوفة من جيش ابن صرد تحت مظلّة المختار ، ذلك لأنّ شعار المختار هو الثأر لدماء الحسينعليه‌السلام ، والاقتصاص من قاتليه ، فكثر أتباعه ، واستولى على

__________________

(١) تاربخ اليعقوبي ٢ : ٢٦١ ، تاريخ الخلفاء : ١٩٦ ، المنتظم ٦ : ١٣٨ ، الاستيعاب / ابن عبد البر٢ : ٣٠٢ ، الاعلام / الزركلي ٤ : ٨٦ و ٧ : ٢٤٧.

(٢) اكمال الدين / الصدوق : ٣٨٦ / ٢.

٢٥

الكوفة ، وتتبّع قتلة الحسينعليه‌السلام فقتلهم ، فأقرّ عيون آل أبي طالب ، واستولى على الموصل والجزيرة ، وبقي حتّى بعث ابن الزبير جيشا كثيفا بقيادة أخيه مصعب ، فهزم المختار وقتله وقتل أصحابه ، وكانوا زهاء خمسة آلاف أسير ، وأبردوا برأس المختار إلى ابن الزبير في مكة ، فترحّم عليه ابن عباس ، ورغم أن الإمام زين العابدينعليه‌السلام لم يكن طرفاً في حركة المختار ، لكنّه استبشر فرحاً حين أبرد برأس ابن زياد إليه ، وخرّ ساجدا ودعا له وجزاه خيراً ، وبارك ابن الحنفية للمختار أخذ ثأرهم(١) ، فويل لقاتله من النار.

٦ ـ حركة ابن الأشعث (سنة / ٨١ ـ ٨٢ هـ ) :

وكانت بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي ، الذي سيّره الحجّاج بجيش لغزو بلاد الترك وراء سجستان ، فتمرّد عليه وخلع طاعته وطاعة عبد الملك بن مروان سنة ٨٠ هـ ، وكان أغلب أصحابه من القرّاء وأهل العلم ، كالحسن البصري ، وعامر الشعبي ، وسعيد بن جبير ، ومالك بن دينار ، وابن أبي ليلى وغيرهم ، وزحف بهم عبد الرحمن سنة ٨١ هـ إلى العراق ، فكانت له وقائع مع الحجّاج ، ظفر فيها عبد الرحمن ، وتمّ له ملك سجستان وكرمان والبصرة وفارس ، واستولى على الكوفة ، فقصده الحجّاج ، فحدثت بينهما موقعة دير الجماجم التي دامت مئة وثلاثة أيام ، وانتهت بخروج ابن الأشعث من الكوفة ، ومن ثم مقتله ، وبعث برأسه إلى الحجّاج سنة ٨٥ هـ(٢) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٩ ، مروج الذهب / المسعودي ٣ : ٨٦ ، الفتوح / ابن أعثم ٦ : ٢٠٠ ، رجال الكشي : ١٢٥ ، شرح الأخبار / القاضي النعمان ٣ : ٢٧٠.

(٢) راجع : تاريخ الإسلام ٦ : ١٠ ، الاعلام ٣ : ٣٢٣.

٢٦

٧ ـ ثورة زيد بن عليعليه‌السلام (سنة / ١٢١ هـ ) :

وهو أخو الإمام الباقرعليه‌السلام ، وكان عابداً ورعاً فقيهاً سخيّاً شجاعاً ، ويعرف حليف القرآن ، كانت أحداث ثورته في زمان الإمام الصادقعليه‌السلام ، غير أن بداية تحرّكه كان في زمان الإمام الباقرعليه‌السلام ، وذلك أن هشاماً أشخصه إلى الشام ، فحجبه عنه مبالغة في الاستهانة به ، ثم ضيّق عليه وحبسه ، وقال له يوماً : بلغني أنّك تذكر الخلافة وتتمنّاها ، ولست هناك لأنّك ابن أمة! فقال زيد : ان لك جواباً.

قال : تكلّم. قال : انه ليس أحد أولى باللّه ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه ، وهو إسماعيل بن إبراهيم ، وهو ابن أمة ، قد اختاره اللّه لنبوته ، وأخرج منه خير البشر. فقال هشام لعنة اللّه وملائكته عليه : فما يصنع أخوك البقرة! فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه ، ثم قال : سمّاه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الباقر ، وتسمّيه أنت البقرة! لشدّ ما اختلفتما! لتخالفنّه في الآخرة كما خالفته في الدنيا ، فيرد الجنة ، وترد النار. وقال زيد : لم يكره قوم قطّ حرّ السيوف إلاّ ذلّوا. ثمّ أمر هشام بحمله إلى عامله ، وقد جرت هذه المقابلة بين زيد وبين هشام في حياة الإمام الباقرعليه‌السلام ، وكان ذلك بدايات نهضته.

وحين خرج زيدعليه‌السلام بايعه غالب أهل الكوفة على الدعوة إلى الكتاب والسنّة ، وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين ، وإعطاء المحرومين ، والعدل في قسمة الفيء ، وردّ المظالم ، ونصرة أهل البيت ، والطلب بثارات الحسينعليه‌السلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والرضا من آل محمد ، وبايعه كثير من الفقهاء والعلماء ، وأبلى بلاءً حسناً في قتال الأمويين ، ثم تخلّف عنه أهل الكوفة ، فجاهد حتى قُتل رضوان اللّه تعالى عليه ، وصلب نحو أربع سنين ، ثم أحرقه

٢٧

يوسف بن عمر بالنار ، وألقى رفاته بالفرات ، بأمر الوليد بن يزيد ، وترحّم عليه ابن أخيه الإمام الصادقعليه‌السلام (١) .

وأخبر الإمام الباقرعليه‌السلام عن خروج أخيه زيد بالكوفة ، وأنّه يُقتل ويُطاف برأسه ، ويُصلَب بالكناسة(٢) .

٨ ـ ظهور الدعوة العباسية (سنة / ٨٧ ـ ١٣٢ هـ ) :

روى ابن عساكر أن ابتداء دعاة بني العباس إلى محمد بن علي ، وتسميتهم إيّاه بالإمام ، كان في خلافة الوليد سنة ٨٧ هـ ، ولم يزل الأمر في ذلك يتزايد إلى أن توفّى سنة ١٢٤ هـ ، وأوصى إلى ابنه إبراهيم(٣) .

وذكر المسعودي أنّه كان مبدأ الدعوة العباسية في سنة ١٠٠ هـ ، حيث أفضى بها أبو هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس سنة ٩٨ هـ ، وعرف بينه وبين الدعاة ، وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده ، وأمره أن يكون ابتداء الدعوة سنة ١٠٠ هـ(٤) .

ولما دخلت سنة ١٠٠ هـ بثّ محمد بن علي دعاته بالآفاق يدعون إلى بني العباس ، وفي سنة ١١١ هـ ظهرت دعوتهم ، وكثر من يجيبهم إلى خلع

__________________

(١) مصادر ترجمته : الطبقات الكبرى ٥ : ٣٣٣ ، تاريخ الطبري ٥ : ٥٥٨ و ٥٠٧ ، مقاتل الطالبيين : ٨٩ ، التنبيه والاشراف : ٢٧٩ ، مروج الذهب ٢ : ١٩١ و ٢٠٧ ، الارشاد ٢ : ١٦٨ ، كشف الغمة ٢ : ٣٣٧ و ٣٥٣ ، شرح نهج البلاغة ٣ : ٢٨٦ ، البدء والتاريخ / المقدسي ٦ : ٤٩ ، وفيات الأعيان ٦ : ١١٠ ، الخرائج والجرائح / الراوندي ١ : ٢٧٨ و ٢٨١ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٢ ، المنتظم ٧ : ٢٠٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٨٩ ، الهداية الكبرى : ٢٣٩.

(٣) تاريخ دمشق ٤٥ : ٣٦٨.

(٤) التنبيه والاشراف : ٢٩٢.

٢٨

بني أمية(١) .

وواصل إبراهيم بن محمد تحدّي السلطة الأموية بعد أبيه ، حتى مقتله في حبس مروان بن محمد سنة ١٣١ هـ ، واستطاع الدعاة تصدير بعض الشعارات العلوية لاستقطاب المدّ العلوي ، ومنها الرضا لآل محمد ، فكثر من يأتيهم ويميل معهم ، سيّما بعد مقتل زيد بن علي سنة ١٢١ هـ ، حتى أطاحوا بالعرش الأموي سنة ١٣٢ هـ.

وقد أخبر الإمام الباقرعليه‌السلام هشام بن عبد الملك بدنو زمان ملك بني العباس ، حين أشخصه إلى الشام ، وسأله هشام : «أنت أبو جعفر الذي تقتل بني أمية ، فقالعليه‌السلام : لا ، قال : فمن ذاك؟ فقالعليه‌السلام :ابن عمّنا أبو العباس بن محمد ابن علي ، فنظر إليه هشام وقال : واللّه ما جرّبت عليك كذباً ، ثم قال : ومتى ذاك؟ قال :عن سنيات واللّه ما هي ببعيدة »(٢) .

وعن أبي بصير أن الإمام أبا جعفرعليه‌السلام أخبر بني العباس بملكهم ، وكانوا في ناحية مسجد المدينة ، منهم داود بن علي ، وسليمان بن خالد ، وأبو جعفر الدوانيقي. فقالعليه‌السلام وهو يشير إلى أبي جعفر الدوانيقي : «أما واللّه لا تذهب الليالي والأيام ، حتى يملك ما بين قطريها ، ثم ليطأن الرجال عقبه ، ثم ليذلن له رقاب الرجال ، ثم ليملكن ملكاً شديداً.

وقالعليه‌السلام حين سأله الدوانيقي عن الدولة :دولتكم قبل دولتنا ، وسلطانكم قبل سلطاننا ، سلطانكم شديدعسر لايسر فيه ، وله مدّة طويلة ، واللّه لايملك بنو أمية يوماً إلاّملكتم مثليه ، ولاسنة إلاّملكتم مثليها ، ولتتلقفهاصبيان منكم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٠.

٢٩

فضلاً عن رجالكم ، كما تتلقّف الصبيان الكرة ، أفهمت؟ ثم قال : لا تزالون في عنفوان الملك ترغدون فيه ، ما لم تصيبوا منّا دماً حراماً ، فإذا أصبتم ذلك الدم غضب اللّه عزّوجلّ عليكم ، فذهب بملككم وسلطانكم ، وذهب بريحكم »(١) .

٩ ـ حركات الخوارج :

كان الخوارج تيارات فكرية مختلفة ، تتّفق جميعاً على لغة التكفير واستباحة الدماء ، فمنهم الأزارقة ، أتباع نافع بن الأزرق ، وكانت لهم حروب شديدة مع الأمويين في البصرة والأهواز ، قاتلوا أهل الشام مع ابن الزبير أولاً ، فلما علموا أنّه يتولّى عثمان فارقوه ، فانتدب المهلب لقتالهم ، فحاربهم وهزمهم ، وانحازوا إلى الأهواز ، ثم إلى فارس ، وقتل نافع بن الأزرق سنة ٦٥ هـ ، ثم لم يزل يواقعهم من بلد إلى بلد حتى قُتل ابن الزبير ، وخلص الأمر إلى عبد الملك ، واستمر في قتالهم حتى سنة ٧٨ هـ حيث ضعف أمرهم.

ومنهم النجدات ، أتباع نجدة الحروري ، استولوا على حضرموت والبحرين واليمن والطائف واليمامة وعمان وهجر ، وكان أول أمره مع نافع بن الأزرق ، وفارقه لاحداثه في مذهبه ، ثم خرج باليمامة أيام عبد اللّه بن الزبير ، وأتى البحرين واستقرّ بها ، وتسمّى بأمير المؤمنين ، ووجّه إليه مصعب بن الزبير جيشاً بعد جيش فهزمهم حتى قُتل.

ومنهم الأباضية ، وهم أتباع عبد اللّه بن أباض ، الذي تخلّف عن قتال ابن الزبير مع ابن الأزرق ، فتبرّأ ابن الأزرق منه ، وقتل ابن أباض في أيام مروان بن محمد ، وافترقت هذه الجماعة فيما بينها(٢) .

__________________

(١) الكافي ٨ : ٢١٠ / ٢٥٦ ، ونحوه في الصواعق المحرقة : ١٢١ ، والخرائج ١ : ٢٧٣.

(٢) الأخبار الطوال / الدينوري : ١٩٩ ، لسان الميزان / ابن حجر ٣ : ٢٤٨ / ١٠٨٣ ،

٣٠

خامساً ـ نشوء العقائد المنحرفة :

١ ـ الدعوة إلى الجبر :

الجبر هو الاعتقاد بنسبة أفعال العباد إلى اللّه تعالى ، ويقول المجبرة : ليس لنا صنع ، أي لسنا مخيرين في أفعالنا التي نفعلها ، بل اننا مجبورون بإرادته ومشيئته تعالى ، فهم يعطلون أي دور للإنسان في أقواله وأفعاله ، وقد تبنّى الأمويون مقولة الجبر من أجل تثبيت أركان دولتهم ، بدعوى أن اللّه آتاهم الملك قدراً مقدراً ، فلا يجوز انتزاعه منهم ، ونشط الجبر في أحضان البلاط الأموي كعقيدة يتذرّعون بها لتبرّر ظلمهم ، وتنزيه ساحتهم مما ارتكبوه من مفاسد وموبقات ، مدّعين أنّها من قضاء اللّه وقدره ، وهم منها براء ، وإن كانت تجرى على أيديهم.

٢ ـ ظهور المفوضة :

في مقابل القول بالجبر ، ظهر اتجاه منحرف آخر يدعو إلى القول بالاختيار ، أو التفويض المطلق ، وهؤلاء يرون أن اللّه سبحانه لا دخل له في أفعال العباد سوى أنّه خلقهم وأقدرهم ، ثمّ فوّض أمر أفعالهم إلى سلطانهم وإرادتهم ، ولا دخل لأي إرادة أو سلطان عليهم ، فنفوا كل أثر لمشيئة اللّه وإرادته.

وقد وقف الأمويون بوجه أصحاب هذه الفكرة الهدامة ، لأنّها تنقض ما جعلوه أساساً لأركان سلطانهم ، وهو القول بالجبر ، فأخذ عبد الملك بن مروان معبداً الجهني وعذّبه ثمّ قتله ، وقبض هشام على غيلان الدمشقي وقتله.

وقد طال معترك الكلام بين أصحاب الجبر والاختيار ، حتّى تصدّى الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام لنقض المقولتين ، وهدوا الناس إلى مذهب وسط بين الجبر

__________________

الفرق بين الفرق / البغدادي : ٧٠ ، الأعلام ٤ : ١٩١ و ٥ : ٢٠٠ و ٧ : ٣٥١ و ٨ : ١٠.

٣١

والاختيار ، وهو الأمر بين الأمرين ، فجمعوا الآراء المتشعّبة ، مستندين إلى ما آي الكتاب الكريم في هذا الشأن.

قال أبو جعفر الباقر وأبو عبد اللّه الصادقعليه‌السلام : «إنّ اللّه عزّوجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذّبهم عليها ، واللّه أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون »(١) .

ومنع الإمام الباقرعليه‌السلام أصحابه من الائتمام بمن يقول بالقدر ، قال الحارث ابن سريج البزّاز : «قلت لمحمد بن علي إن لنا إماماً يقول في القدر ، فقال :اُنظر كل صلاة صلّيتها خلفه أعدها ، إخوان اليهود والنصارى ، قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون »(٢) .

٣ ـ الدعوة إلى الإرجاء :

المراد بالإرجاء التأخير ، والمرجئة هم الذين يبالغون في إثبات الوعد ، ويرجون المغفرة والثواب لأهل المعاصي ، ويرجئون حكم أصحاب الكبائر وسائر المذنبين إلى الآخرة ، فلا يحكمون عليهم بكفر ولا فسق ، ويرى المرجئة أن الإيمان معرفة بالقلب وتصديق باللسان ، وهو قول بلا عمل ، ولا يضرّ معه ذنب أو معصية ، وهو لا يزيد ولا ينقص(٣) .

وقد روّجت السلطة الأموية لفكرة الإرجاء ، لتبرير هوس طغاتهم بالدماء ، وإيغالهم بالجريمة والظلم ، واستباحة الحرمات ، واستخفافهم بأحكام الدين ، وتعطيل الكتاب والسنّة ، كي يبقوا رغم ذلك مؤمنين ، لا يضرّ بإيمانهم

__________________

(١) التوحيد / الصدوق : ٣٦٠ / ٣.

(٢) اعتقاد السنّة / ابن منصور : ٧٣١.

(٣) راجع : الملل والنحل ١ : ١٢٥.

٣٢

معصية ، ولا ينقصه عمل!

روي أنّه لما استخلف يزيد بن عبد الملك (١٠١ ـ ١٠٥ هـ ) قال : سيروا سيرة عمر بن عبدالعزيز ، فأتوه بأربعين شيخاً شهدوا له أن الخلفاء لا حساب عليهم ولا عذاب(١) ، فأقبل على الجور والبذخ ، وانهمك بالشرب وسماع الغناء.

ويشير طاوس اليماني لآثار هذا الاعتقاد في أفكار الناس بقوله : عجبت لإخواننا من أهل العراق يسمّون الحجّاج مؤمناً ، قال الذهبي : يشير إلى المرجئة منهم ، الذين يقولون : هو مؤمن كامل الإيمان مع عسفه وسفكه الدماء وسبّه الصحابة(٢) .

ووقف أئمّة أهل البيت: بوجه هذا الفكر الهدّام ، فروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه لعن المرجئة ، وقال في حديث : «اللهمّ العن المرجئة ، فإنّهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة »(٣) .

وهناك المزيد من الحديث الوارد عن الإمام الباقرعليه‌السلام ينقض فيها أفكار المرجئة صيانة لأفكار الناس ، وإن لم يسمهم تقية من بطش السلطة ، فأكد في حديثه لبعض شيعته أن الإيمان قول وعمل ، قالعليه‌السلام : «ما تنال شفاعتنا إلاّ بالتقوى والورع والعمل الصالح والجدّ والاجتهاد ، فلا تغترّوا بالعمل ويسقط عنكم ، فإذن أنتم أعزّ على اللّه منّا »(٤) . وقالعليه‌السلام : «الإيمان إقرار وعمل ، والإسلام إقرار بلا عمل »(٥) .

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٢٤٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ٥ : ٤٤.

(٣) الكافي ٨ : ٢٧٦ / ٤١٧.

(٤) أعلام الدين في صفات المؤمنين / الديلمي : ١٤٣.

(٥) تحف العقول : ٢٩٧.

٣٣

وعن أبي الصباح الكناني ، عنهعليه‌السلام قال : «قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : من شهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمداً رسول اللّه ، كان مؤمناً؟ قال : فأين فرائضاللّه؟

قال :وسمعته يقول : كان علي عليه‌السلام يقول : لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام.

قال : وقلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إنّ عندنا قوماً يقولون : إذا شهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمداً رسول اللّه ، فهو مؤمن. قالعليه‌السلام :فلِمَ يضربون الحدود ، ولِم تُقطع أيديهم؟! وما خلق اللّه عزّوجلّ خلقاً أكرم على اللّه عزّوجلّ من المؤمن ، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين ، وأنّ جوار اللّه للمؤمنين ، وأنّ الجنّة للمؤمنين ، وأنّ الحور العين للمؤمنين ، ثم قال عليه‌السلام : فما بال من جحد الفرائض كان كافراً؟ »(١) .

وتقوّل بعضهم على الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : اذا عرفت فاعمل ما شئت ، تماشياً مع ما يذهب إليه مروّجو الإرجاء ، فصحّح الإمام الصادقعليه‌السلام هذا الحديث مبيّناً وجه التحريف فيه ، قال فضيل بن عثمان : سُئل أبو عبد اللّهعليه‌السلام فقيل له : إنّ هؤلاء الأخابث يروون عن أبيك يقولون : إنّ أباكعليه‌السلام قال : إذا عرفت فاعمل ما شئت ، فهم يستحلّون بعد ذلك كلّ محرم. قالعليه‌السلام : «ما لهم لعنهم اللّه؟! إنّما قال أبي عليه‌السلام : إذا عرفت الحقّ فاعمل ما شئت من خير يقبل منك »(٢) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٣ / ٢.

(٢) معاني الأخبار : ١٨١.

٣٤

مواقف الإمامعليه‌السلام من السلطة :

اتّبع الإمامعليه‌السلام اُسلوب الحيطة إزاء عنف رجال السلطة وبطشهم ، فانصرف عن هموم السياسة ، ودعا أصحابه إلى مقاطعة السلطة ، ولم يبخل بإسداء النصح لبعضهم حيثما يتعلّق الأمر بمصالح المسلمين ، وإذا كان قد اتّقى على نفسه وأصحابه من رجال السلطة ، فإنّه لم يتردّد من مواجهة بعض الحكام في مواقف فرضوها عليه ، فكم من كلمة حق قالها أمام سلطان جائر ، وانقطع إلى نشر علوم الإسلام ومعارفه ، وواصل مسيره في هداية الناس والدعوة إلى اللّه ، وقضاء حقوق المسلمين والسعي في حاجاتهم ، وتنبيههم على مواضع الخطر ، وسعى إلى بيان مظلومية أهل البيت: ، والتجاوز على حقوقهم.

١ ـ الدور العلمي :

اعتنى الإمام الباقرعليه‌السلام بتشييد مدرسة أهل البيت العلمية على الأسس التي وطّدها آباؤه: ، وسعى إلى استقطاب الجماهير حول علوم أهل البيت ، فكان يقصده ويشدّ إليه الرحال جمع غفير من كبار التابعين وأعيان الفقهاء والمحدثين وغيرهم على اختلاف أغراضهم وأهدافهم ومعتقداتهم ومبانيهم الفكرية ، فيتحلّقون حوله للدرس في رواق المسجد النبوي الشريف ، الذي يمارس به التعليم ، أو في مسجد مكة ، أو في مجلس بيته العامر بطلبة العلم ورواته وبالمستفتين الوافدين من مختلف ديار الإسلام سيما في أيام الحج.

وهكذا كان باقر العلم رائد مدرسة أهل البيت: في الفقه والحديث والتفسير وسائر العلوم الأخرى ، وكانت مدرسته تتميز بالسعة والشمول لكل أبناء الأمة ، وتتميز بالخطاب الإسلامي الموحّد ، فهي مدرسة الإسلام التي استقطبت كل أبنائه دون استثناء.

٣٥

٢ ـ بيان مظلومية أهل البيت: :

سعى الإمام الباقرعليه‌السلام إلى بيان مظلومية أهل البيت: ، وبيّن ـ في أكثر من مناسبة ـ إقصاءهم عن مراتبهم وجحود منزلتهم ، مع أنهم ثاني الثقلين وأولى الناس بالناس ، ومع تفوقهم على سواهم بالعلم والمعرفة ، وبيّن اتفاق الحكام على قتلهم واستذلالهم وحرمانهم من حقوقهم ، والكذب عليهم بما لم يقولوه من الأحاديث الموضوعة ، روى ابن أبي الحديد أن أبا جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام قال لبعض أصحابه : «ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس ، إن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس ، فتمالأت علينا قريش ، حتى أخرجت الأمر عن معدنه ، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا ، ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ، ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ، ثم غدر به وأسلم ، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ، ونهبت عسكره ، وعولجت خلاليل أمهات أولاده ، فوادع معاوية ، وحقن دمه ودماء أهل بيته ، وهم قليل حق قليل ، ثم بايع الحسينعليه‌السلام من أهل العراق عشرون ألفاً ثم غدروا به ، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه.

ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام ، ونقصى ونمتهن ، ونحرم ونقتل ، ونخاف ، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء فى كل بلدة ، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ، ليبغضونا إلى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد

٣٦

موت الحسنعليه‌السلام ، فقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة.

وكان من يذكر بحبنا والانقطاع الينا سجن ، أو نهب ماله ، أو هدمت داره.

ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسينعليه‌السلام ، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة ، حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي ، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعله يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق اللّه تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ، ولا وقعت ، وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع »(١) .

وعن المنهال بن عمرو ، قال : كنت جالسا مع محمد بن علي الباقرعليه‌السلام ، اذ جاءه رجل فسلم عليه ، فردعليه‌السلام ، قال الرجل : كيف أنتم؟ فقال له محمدعليه‌السلام : «أو ما آن لكم أن تعلموا كيف نحن ، انما مثلنا في هذه الأمّة مثل بني إسرائيل ، كان يُذبح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم ، ألا وان هؤلاء يذبّحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ، زعمت العرب أنّ لهم فضلاً على العجم ، فقالت العجم : وبماذا؟ قالوا : كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عربيا. قالوا لهم : صدقتم. وزعمت قريش أنّ لها فضلاً على غيرها من العرب ، فقالت لهم العرب من غيرهم : وبما ذاك؟ قالوا : كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرشيا. قالوا لهم : صدقتم ؛ فإن كان القوم صدقوا فلنا فضل على الناس ، لأنّا ذرية محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيته خاصة وعترته ، لا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٣.

٣٧

يشركه في ذلك غيرنا.

فقال له الرجل : واللّه إنّي لأحبّكم أهل البيت. قال : فاتّخذ للبلاء جلبابا ، فواللّه إنّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي ، وبنا يبدأ البلاء ثمّ بكم ، وبنا يبدأ الرخاء ثمّ بكم»(١) .

٣ ـ مقاطعة السلطة :

لم يكن الإمام الباقرعليه‌السلام ذلك المعارض الذي يرى الخروج بالسيف كوسيلة للوصول إلى السلطة ، رغم إيمانه بأنّه أولى الناس بالأمر ، ويعلّل ذلك في حديثه إلى جابر بن يزيد الجعفي بعدم وجود الناصر ، قال جابر : «قلت لهعليه‌السلام : يا سيدي ، أليس هذا الأمر لكم؟ قال : نعم. قلت : فلِم قعدتم عن حقّكم ودعواكم ، وقد قال اللّه تعالى : «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ »(٢) ؟ قال :فما بال أمير المؤمنين عليه‌السلام قعد عن حقّه حيث لم يجد ناصراً ، أو لم تسمع اللّه تعالى يقول في قصّة لوط عليه‌السلام : «قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ »(٣) وفي حكاية عن نوح عليه‌السلام : «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ »(٤) ، ويقول في قصة موسى عليه‌السلام : «قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ »(٥) ، فإذا كان النبي هكذا ، فالوصي أعذر. يا جابر ، مثل الإمام مثل الكعبة ، يؤتى ولا يأتي» (٦) .

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ / ٧.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

(٣) سورة هود : ١١ / ٨٠.

(٤) سورة القمر : ٥٤ / ١٠.

(٥) سورة المائدة : ٥ / ٢٥.

(٦) كفاية الأثر / الخزاز : ٢٤٧.

٣٨

من هنا دعا الإمام الباقرعليه‌السلام أتباعه إلى مقاطعة السلطة وتحريم التعاون مع رموزها الذين أمعنوا كثيراً في إقصاء أهل البيت: عن ممارسة دورهم الرسالي ، ومارست ضدّهم شتّى أساليب الظلم والجور والقتل.

وهذا الموقف جاء في مقابل فتاوى فقهاء البلاط من المتزلّفين المتملّقين الذين يحاولون إضفاء الشرعية الزائفة على ممارسات حكام الجور ، يقول الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ اللّه قال : لأعذبنّ كلّ رعية في الإسلام دانت بولاية إمام جائر ، وإن كانت الرعية في أعمالها برّة تقية ، ولأعفونّ عن كلّ رعية في الإسلام دانت بولاية إمام عادل من اللّه ، وإن كانت الرعية ظالمة مسيئة »(١) .

وسعى الإمام الباقرعليه‌السلام إلى تنبيه الأمّة على أن أي تعامل مع الحكام يعتبر تقويةً لظلمهم وجبروتهم ، ومشاركةً لهم في جناياتهم ، فحرّم التورّط في أعمال الظلمة ، ومعونتهم ولو لتمرير المعاش ، عن أبي بصير ، قال : «سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن أعمالهم فقال لي :يا أبا محمد ، لا ولا مَدّة قلم ، إن أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلاّ أصابوا من دينه مثله »(٢) .

وجعل ذلك بمثابة فريضة واجبة الأداء ، عن أبي مريم عبد الغفار بن القاسم ، قال : «دخلت على مولاي الباقرعليه‌السلام وعنده أُناس من أصحابه ...فقلت : يا سيدي ، فما تقول في الدخول على السلطان؟ قال : لا أرى لك ذلك. قلت : فإنّي ربما سافرت الشام ، فأدخل على إبراهيم بن الوليد. قال :يا عبد الغفار ، إن دخولك على السلطان يدعو إلى ثلاثة أشياء : محبّة الدنيا ، ونسيان الموت ، وقلّة الرضا بما قسم اللّه . قلت : يا ابن رسول اللّه ، فإنّي ذو عيلة ، وأتّجر إلى ذلك

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٨٦ / ٢.

(٢) الكافي ٥ : ١٠٦ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٣٣١ / ٩١٨.

٣٩

المكان لجرّ المنفعة ، فما ترى في ذلك؟ قال : يا عبد اللّه ، إني لست آمرك بترك الدنيا ، بل آمرك بترك الذنوب ، فترك الدنيا فضيلة ، وترك الذنوب فريضة ، وأنت إلى إقامة الفريضة أحوج منك إلى اكتساب الفضيلة »(١) .

٤ ـ إسداء النصيحة :

حرص الإمام الباقرعليه‌السلام على إسداء النصيحة لجميع المسلمين بما في ذلك بعض سلاطين بني مروان.

دخل عمر بن عبد العزيز المدينة وصاح مناديه : من كانت له مظلمة وظلامة فليحضر ، فأتاه أبو جعفر الباقرعليه‌السلام ، فلما رآه استقبله وأقعده مقعده ، فقالعليه‌السلام : «إنّما الدنيا سوق من الأسواق يبتاع فيها الناس ما ينفعهم وما يضرّهم ، وكم قوم ابتاعوا ما ضرّهم فلم يصبحوا حتى أتاهم الموت ، فخرجوا من الدنيا ملومين ، لمّا لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة ، فقسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم ، فنحن واللّه حقيقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنّا نغبطهم بها فنوافقهم فيها ، وننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوّف عليهم منها ، فنكفّ عنها.

فاتّقِ اللّه ، واجعل في نفسك اثنتين : اُنظر إلى ما تحبّ أن يكون معك إذا قدمت على ربّك فقدّمه بين يديك ، واُنظر إلى ما تكره أن يكون معك إذا قدمت على ربّك فارمِه وراءك ، ولا ترغبنّ في سلعة بارت على من كان قبلك ، فترجو أن تجوز عنك ، وافتح الأبواب ، وسهل الحجاب ، وانصف المظلوم ، ورد الظالم.

ثلاثة من كُنّ فيه استكمل الإيمان باللّه : من إذا رضي لم يدخله رضاه في

__________________

(١) كفاية الأثر : ٢٥٠.

٤٠