بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 53331
تحميل: 4136


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53331 / تحميل: 4136
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 9

مؤلف:
العربية

تتمة الفصل الثامن و العشرون

٤ - الكتاب (٢٧) و من عهد لهعليه‌السلام إلى محمد بن أبى بكر حين قلّده مصر:

فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ اُبْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اَللَّحْظَةِ وَ اَلنَّظْرَةِ حَتَّى لاَ يَطْمَعَ اَلْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ وَ لاَ يَيْأَسَ اَلضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ اَلصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَ اَلْكَبِيرَةِ وَ اَلظَّاهِرَةِ وَ اَلْمَسْتُورَةِ فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَ إِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ وَ اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّ اَلْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ اَلدُّنْيَا وَ آجِلِ اَلْآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ اَلدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ اَلدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا اَلدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ اَلدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ اَلْمُتْرَفُونَ وَ أَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ اَلْجَبَابِرَةُ اَلْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ اِنْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ اَلْمُبَلِّغِ وَ اَلْمَتْجَرِ اَلرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ

١

زُهْدِ اَلدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اَللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ لاَ تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لاَ يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ فَاحْذَرُوا عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمَوْتَ وَ قُرْبَهُ وَ أَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَ خَطْبٍ جَلِيلٍ بِخَيْرٍ لاَ يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً أَوْ شَرٍّ لاَ يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى اَلْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا وَ مَنْ أَقْرَبُ إِلَى اَلنَّارِ مِنْ عَامِلِهَا وَ أَنْتُمْ طُرَدَاءُ اَلْمَوْتِ إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ وَ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وَ هُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ اَلْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ وَ اَلدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَ عَذَابُهَا جَدِيدٌ دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ وَ لاَ تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ وَ لاَ تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ وَ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اَللَّهِ وَ أَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ اَلْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْهُ وَ إِنَّ أَحْسَنَ اَلنَّاسِ ظَنّاً بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لِلَّهِ وَ اِعْلَمْ يَا؟ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ؟ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ؟ مِصْرَ؟ فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ وَ أَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلاَّ سَاعَةٌ مِنَ اَلدَّهْرِ وَ لاَ تُسْخِطِ اَللَّهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّ فِي اَللَّهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ وَ لَيْسَ مِنَ اَللَّهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ أقول: رواه الشيخان في (أماليهما)، و رواه الثقفي في (غاراته)، و رواه ابن أبي شعبة الحلبي في (تحفه) و رواه الطبري في (تاريخه).

أمّا الشيخان فرويا بإسنادهما إلى كتاب إبراهيم الثقفي عن عبد اللّه بن محمد ابن عثمان عن علي بن محمد بن أبي سعيد عن فضيل بن الجعد عن أبي إسحاق الهمداني قال: ولّى عليّعليه‌السلام محمد بن أبي بكر مصر و أعمالها و كتب له كتابا و أمره أن يقرأه على أهل مصر و ليعمل بما أوصاه به، فكان الكتاب:

٢

بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى أهل مصر و محمد بن أبي بكر، سلام عليكم فإنّي أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد: فإنّي أوصيكم بتقوى اللّه فيما أنتم عنه مسؤلون و إليه تصيرون، فإنّ اللّه تعالى يقول: كل نفس بما كسبت رهينة( ١ ) و يقول:

و يحذركم اللّه نفسه و إلى اللّه المصير( ٢ ) و يقول: فو ربّك لنسألنّهم أجمعين. عمّا كانوا يعملون( ٣) .

و اعلموا عباد اللّه أنّ اللّه عزّ و جل سائلكم عن الصغير من عملكم و الكبير فإن يعذّب فنحن أظلم و إن يعف فهو أرحم الراحمين، يا عباد اللّه إنّ أقرب ما يكون العبد من المغفرة و الرحمة حين يعمل للّه بطاعته و ينصحه في التوبة، عليكم بتقوى اللّه فإنّها تجمع الخير و لا خير غيرها و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها من خير الدنيا و خير الآخرة، قال اللّه عز و جل: و قيل للذين اتّقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة و لدار الآخرة خير و لنعم دار المتقين( ٤) .

اعلموا يا عباد اللّه أنّ المؤمن من يعمل لثلاث: إمّا لخير فإنّ اللّه يثيبه بعمله في دنياه. قال سبحانه لابراهيم: و آتيناه أجره في الدنيا و إنّه في الآخرة لمن الصالحين( ٥ ) فمن عمل للّه تعالى أعطاه أجره في الدنيا و الآخرة و كفاه المهم فيهما و قد قال تعالى يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للّذين أحسنوا في هذه الدّنيا حسنة و أرض اللّه واسعة إنّما يوفّى الصابرون أجرهم

____________________

(١) المدثر: ٣٨.

(٢) آل عمران: ٢٨.

(٣) الحجر: ٩٢ ٩٣.

(٤) النحل: ٣٠.

(٥) العنكبوت: ٢٧.

٣

بغير حساب( ١ ) ، و ما أعطاهم لم يحاسبهم به في الآخرة قال تعالى: للّذين أحسنوا الحسنى و زيادة( ٢ ) و الحسنى هي الجنّة و الزيادة في الدنيا، و إن اللّه تعالى يكفّر بكلّ حسنة سيّئة، قال عز و جل إنّ الحسنات يذهبن السيّئات ذلك ذكرى للذاكرين( ٣ ) حتى إذا كان يوم القيامة حسبت لهم حسناتهم ثم أعطاهم بكلّ واحدة عشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، قال عز و جل: جزاء من ربك عطاء حسابا( ٤ ) و قال: أولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا و هم في الغرفات آمنون( ٥ ) فارغبوا في هذا رحمكم اللّه و اعملوا له و حاضّوا عليه.

و اعلموا يا عباد اللّه أنّ المتّقين حازوا عاجل الخير و آجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، أباحهم اللّه ما كفاهم و أغناهم، قال عز اسمه: قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون( ٦ ) ، سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون و شربوا من طيبات ما يشربون، و لبسوا من أفضل ما يلبسون و سكنوا من أفضل ما يسكنون و تزوّجوا من أفضل ما يتزوّجون و ركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذّة الدنيا مع أهل الدنيا و هم غدا جيران اللّه، يتمنّون عليه فيعطيهم ما تمنّوه و لا يردّ لهم دعوة و لا ينقص لهم نصيبا من اللذة، فإلى هذا

____________________

(١) الزمر: ١٠.

(٢) يونس: ٢٦.

(٣) هود: ١١٤.

(٤) النبأ: ٣٦.

(٥) سبأ: ٣٧.

(٦) الأعراف: ٣٢.

٤

يا عباد اللّه يشتاق من كان له عقل و يعمل له بتقوى اللّه، و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه.

يا عباد اللّه إن اتّقيتم اللّه و حفظتم نبيّكم في أهل بيته فقد عبدتموه بأفضل ما عبد، و ذكرتموه بأفضل ما ذكر و شكرتموه بأفضل ما شكر، و أخذتم بأفضل الصّبر و الشّكر، و اجتهدتم بأفضل الاجتهاد، و ان كان غيركم أطول منكم صلاة و أكثر منكم صياما فأنتم أتقى للّه عزّ و جلّ منهم و أنصح لأولي الأمر.

احذروا عباد اللّه الموت و سكرته، فإنّه يفجأكم بأمر عظيم بخير لا يكون معه شرّ أبدا أو بشرّ لا يكون معه خير أبدا، فمن أقرب إلى الجنّة من عاملها و من أقرب إلى النّار من عاملها، إنّه ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أيّ المنزلتين يصير إلى الجنّة أم النّار و عدوّ للّه أم وليّ، فان كان وليا فتحت له أبواب الجنة و شرع له طرقها و نظر إلى ما أعد اللّه له فيها، ففرغ من كلّ شغل و وضع عنه كلّ ثقل، و إن كان عدوا للّه فتحت له أبواب النّار و شرع له طرقها و نظر إلى ما أعدّ اللّه فيها فاستقبل كلّ مكروه و ترك كلّ سرور، كلّ هذا يكون عند الموت و عنده يكون اليقين، قال اللّه تعالى: الّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السّلم ما كنّا نعمل من سوء بلى إنّ اللّه عليم بما كنتم تعملون. فادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرّين( ١) .

عباد اللّه إنّ الموت ليس منه فوت فاحذروه قبل وقوعه و أعدّوا له عدّته، فإنّكم طرد الموت، إنّ أقمتم له أخذكم و إن فررتم منه أدرككم، و هو ألزم لكم من ظلّكم، الموت معقود بنواصيكم و الدنيا تطوى خلفكم عند ما تنازعكم إليه

____________________

(١) النمل: ٢٨ ٢٩.

٥

أنفسكم من الشهوات، فكفى بالموت واعظا، و كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: «أكثروا ذكر الموت فإنّه هادم اللذّات حائل بينكم و بين الشهوات».

يا عباد اللّه ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشدّ من الموت، القبر، فاحذروا ضيقه و ضنكه و ظلمته و غربته، إنّ القبر يقول كلّ يوم: أنا بيت الغربة، أنا بيت التراب، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود و الهوام، و القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، إنّ العبد المؤمن إذا دفن قالت الأرض مرحبا و أهلا قد كنت ممّن أحبّ أن يمشي على ظهري، فإذ وليتك فستعلم كيف صنيعي بك فتتّسع له مدّ البصر، و إن الكافر إذا دفن قالت له الأرض: لا مرحبا بك و لا أهلا، لقد كنت من أبغض من يمشي على ظهري، فإذ وليتك فستعلم كيف صنيعي بك، فتضمّه حتى تلقي أضلاعه، و إن المعيشة الضنك التي حذّر اللّه منها عدوّه، عذاب القبر، إنّه يسلّط على الكافر في قبره تسعة و تسعين تنينا فينهشن لحمه و يكسرن عظمه يتردّدن عليه كذلك إلى يوم يبعث، لو أن تنينا منها تنفخ في الأرض لم تنبت زرعا.

يا عباد اللّه إن أنفسكم الضعيفة و أجسادكم الناعمة الرقيقة التي يكفيها اليسير تضعف عن هذا، فإن استطعتم أن تنزعوا أجسادكم و أنفسكم ممّا لا طاقة لكم به و لا صبر لكم عليه فاعملوا بما أحبّ اللّه و أتركوا ما كره اللّه.

يا عباد اللّه إنّ بعد البعث ما هو أشدّ من القبر، يوم يشيب فيه الصغير و يسكر فيه الكبير و يسقط فيه الجنين و تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، يوم عبوس قمطرير، يوم كان شرّه مستطيرا، إنّ فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم، و ترعد منه السبع الشداد و الجبال الأوتاد و الأرض المهاد، و تنشقّ السماء فهي يومئذ واهية و تتغير فكأنها كالدهان، و تكون الجبال

٦

كثيبا مهيلا بعد ما كانت صمّا صلابا، و ينفخ في الصور فيفزع من في السماوات و الأرض إلاّ ما شاء اللّه، فكيف من عصى بالسمع و البصر و اللسان و اليد و الرجل و الفرج و البطن، إن لم يغفر اللّه له و يرحمه من ذلك اليوم لأنّه يصير إلى غيره، إلى نار قعرها بعيد و حرّها شديد و شرابها صديد و عذابها جديد و مقامعها حديد لا يفتر عذابها و لا يموت ساكنها، دار ليس فيها رحمة و لا تسمع لأهلها دعوة.

و اعلموا يا عباد اللّه ان مع هذا رحمة اللّه التي لا تقصر عن العباد، جنة عرضها كعرض السماء و الأرض اعدت للمتقين، لا يكون معها شرّ أبدا، لذّاتها لا تملّ و مجتمعها لا يتفرق، سكّانها قد جاوروا الرحمن و قام بين أيديهم الغلمان بصحاف من ذهب فيها الفاكهة و الريحان.

ثم اعلم يا محمد بن أبي بكر أنّي قد ولّيتك أعظم أجنادي في نفسي، أهل مصر، فإذ ولّيتك ما وليتك من أمر الناس فأنت حقيق أن تخاف منه على نفسك و ان تحذر منه على دينك، فإن استطعت ألاّ تسخط ربّك برضا أحد من خلقه فافعل، فإنّ في اللّه عز و جل خلفا من غيره و ليس في شي‏ء سواه خلف منه، إشتدّ على الظالم و خذ عليه، و لن لأهل الخير و قرّبهم و اجعلهم بطانتك و أقرانك إلى أن قال:

يا محمّد بن أبي بكر إعلم أن أفضل العفّة الورع في دين اللّه و العمل بطاعته، و إنّي أوصيك بتقوى اللّه في أمر سرّك و علانيتك و على أيّ حال كنت عليه، و الدّنيا دار بلاء و دار فناء و الآخرة دار الجزاء و دار البقاء، و اعمل لما بقي و اعدل عمّا يفنى و لا تنس نصيبك من الدنيا.

أوصيك بسبع هن جوامع الاسلام: تخشى اللّه عز و جل في النّاس و لا تخش الناس في اللّه، و خير القول ما صدّقه العمل، و لا تقض في أمر واحد

٧

بقضاءين مختلفين فيختلف أمرك و تزيغ عن الحق، و أحبّ لعامّة رعيّتك ما تحبّ لنفسك و أهل بيتك و اكره لهم ما تكره لنفسك و أهل بيتك فإنّ ذلك أوجب للحجّة و أصلح للرعية، و خض الغمرات إلى الحقّ و لا تخف في اللّه لومة لائم، و انصح المرء إذا استشارك و اجعل نفسك اسوة لقريب المسلمين و بعيدهم.

جعل اللّه مودّتنا في الدين، و حلاّنا و إيّاكم حلية المتقين، و أبقى لكم طاعتكم حتى يجعلنا و إيّاكم بها اخوانا على سرر متقابلين.

أحسنوا أهل مصر مؤازرة محمّد أميركم و اثبتوا على طاعته تردوا حوض نبيكم، أعاننا اللّه على ما يرضيه و السلام و رحمة اللّه و بركاته( ١ ) ( ٢) .

و أمّا ما رواه الثقفي، فروى عن يحيى بن صالح عن مالك بن خالد الأسدي عن الحسن بن إبراهيم عن عبد اللّه بن الحسن قال: كتب عليّعليه‌السلام إلى أهل مصر لما بعث محمد بن أبي بكر إليهم يخاطبهم فيه و يخاطب محمدا أيضا فيه:

أمّا بعد، فإنّي أوصيكم بتقوى اللّه في سرائركم و علانيتكم و على أيّ حال كنتم عليها، و ليعلم المرء منكم أنّ الدنيا دار بلاء و فناء و الآخرة دار جزاء و بقاء فمن استطاع أن يؤثر ما بقي على ما يفنى فليفعل فإنّ الآخرة تبقى و الدنيا تفنى، رزقنا اللّه و إياكم بصرا لما بصرنا و فهما لما فهمنا حتى لا نقصر عمّا أمرنا و لا نتعدى إلى ما نهانا.

و اعلم يا محمد أنّك إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فان عرض لك أمران أحدهما للآخرة و الآخر للدنيا فابدأ بأمر الآخرة، و لتعظم رغبتك في الخير و لتحسن فيه نيّتك، فإنّ اللّه عز و جل يعطي العبد على قدر نيته، و إذا أحبّ الخير

____________________

(١) أمالي المفيد: ٢٦٠ ح ٣ المجلس ٣١.

(٢) أمالي الطوسي ١: ٢٤ الجزء ١.

٨

و أهله و لم يعمله كان إن شاء اللّه كمن عمله، فإنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال حين رجع من تبوك «إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير و لا هبطتم من دار إلاّ كانوا معكم ما حبسهم إلاّ المرض» يقول كانت لهم نية ثم اعلم يا محمد أنّي ولّيتك أعظم أجنادي، أهل مصر، و ولّيتك ما ولّيتك من أمر الناس فأنت محقوق أن تخاف على نفسك و تحذر فيه على دينك و لو كان ساعة من نهار فإن استطعت أن لا تسخط ربّك لرضى أحد من خلقه فافعل، فإنّ في اللّه خلفا من غيره و ليس في شي‏ء خلف منه، فاشتدّ على الظالم و لن لأهل الخير و قرّبهم إليك و اجعلهم بطانتك و اخوانك( ١) .

و عن يحيى بن صالح أيضا بالإسناد قال: كتب عليّعليه‌السلام إلى محمد و أهل مصر: أمّا بعد فإنّي أوصيكم بتقوى اللّه و العمل بما أنتم عنه مسؤولون و أنتم به رهن و إليه صائرون، فإنّ اللّه عز و جل يقول: كلّ نفس بما كسبت رهينة( ٢ ) و قال: و يحذّركم اللّه نفسه و إلى اللّه المصير( ٣ ) و قال فو ربّك لنسألنّهم أجمعين. عمّا كانوا يعملون( ٤) .

فاعلموا عباد اللّه أنّ اللّه سائلكم عن الصغير من أعمالكم و الكبير، فإن يعذّب فنحن الظالمون و إن يغفر و يرحم فهو أرحم الراحمين.

و اعلموا أنّ أقرب ما يكون العبد إلى الرّحمة و المغفرة حين ما يعمل بطاعة اللّه و مناصحته في التوبة، فعليكم بتقوى اللّه تعالى فإنّها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها، خير الدنيا و خير الآخرة، يقول سبحانه: و قيل للّذين اتّقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا

____________________

(١) الغارات ١: ٢٢٨ ٢٣٠.

(٢) المدثر: ٣٨.

(٣) آل عمران: ٢٨.

(٤) الحجر: ٩٢ ٩٣.

٩

للّذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة و لدار الآخرة خير و لنعم دار المتّقين( ١) .

و اعلموا عباد اللّه أن المؤمنين المتقين قد ذهبوا بعاجل الخير و آجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، يقول اللّه عز و جل قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة( ٢ ) ، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا من أفضل ما يأكلون و شربوا من أفضل ما يشربون و لبسوا من أفضل ما يلبسون، أصابوا لذّة أهل الدّنيا مع أهل الدنيا مع أنّهم غدا جيران اللّه يتمنّون عليه لا يردّ لهم دعوة و لا ينقص لهم لذّة أما في هذا ما يشتاق إليه من كان له عقل؟

و اعلموا عباد اللّه أنّكم إن اتّقيتم ربّكم و حفظتم نبيّكم في أهل بيته، فقد عبدتموه بأفضل ما عبد و ذكرتموه بأفضل ما ذكر و شكرتموه بأفضل ما شكر و أخذتم بأفضل الصبر و جاهدتم بأفضل الجهاد، و إن كان غيركم أطول صلاة منكم و أكثر صياما إذ كنتم اتقى للّه و أنصح لأولياء اللّه من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخشع.

و احذروا عباد اللّه الموت و نزوله و خذوا له فإنّه يدخل بأمر عظيم، خير لا يكون معه شرّ أبدا و شرّ لا يكون معه خير أبدا، ليس أحد من الناس يفارق روحه جسده حتّى يعلم إلى أيّ المنزلين يصير، إلى الجنة أم إلى النار، أعدوّ هو للّه أم وليّ، فإن كان وليّا فتحت له أبواب الجنّة و شرع له طريقها و نظر إلى ما أعدّ اللّه عزّ و جلّ لأوليائه فيها، فرغ من كلّ شغل و وضع من كل ثقل، و إن

____________________

(١) النحل: ٣٠.

(٢) الأعراف: ٣٢.

١٠

كان عدوّا فتحت له أبواب النّار و سهّل له طريقها و نظر إلى ما أعدّ اللّه لأهلها و استقبل كلّ مكروه و فارق كلّ سرور، قال تعالى: خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين( ١) .

و اعلموا عباد اللّه أنّ الموت ليس منه فوت فاحذروه و أعدّوا له عدّته، فانكم طرداء الموت، إن أقمتم أخذكم و إن هربتم أدرككم و هو ألزم لكم من ظلّكم معقود بنواصيكم و الدنيا تطوى من خلفكم. إلى آخر ما مر عن الاماليّين مع أدنى اختلاف، ففيه بدل قوله «من ذلك اليوم... «و اعلموا عباد اللّه أنّ ما بعد ذلك اليوم أشدّ و أدهى»( ٢) .

و أما الحلبي فقال في (تحفه): «و منه إلى محمد بن أبي بكر و أهل مصر:

أمّا بعد فقد وصل كتابك و فهمت ما سألت عنه و أعجبني اهتمامك بما لا بدّ لك منه و ما لا يصلح المسلمين غيره، و ظننت أنّ الذي أخرج ذلك منك نيّة صالحة و رأي غير مدخول، أمّا بعد فعليك بتقوى اللّه في مقامك و مقعدك و سرّك و علانيتك، و إذا أنت قضيت بين الناس فاخفض لهم جناحك و ليّن لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك و آس بينهم في اللحظ و النظر، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم و لا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، و أن تسأل المدعي البيّنة و على المدّعى عليه اليمين، و من صالح أخاه على صلح فأجز صلحه إلاّ أن يكون صلحا يحرّم حلالا أو يحلّل حراما، و آثر الفقهاء و أهل الصدق و الوفاء و الحياء و الورع على أهل الفجور و الكذب و الغدر، و ليكن الصالحون الأبرار إخوانك و الفاجرون الغادرون أعداؤك، و ان أحبّ اخواني الي أكثرهم للّه ذكرا و أشدّهم منه خوفا، و أرجو أن تكون منهم إن شاء اللّه. و إنّي أوصيكم بتقوى اللّه فيما

____________________

(١) الزمر: ٧٢.

(٢) الغارات ١: ٢٣١ ٢٤٤.

١١

أنتم عنه مسؤولون و عمّا أنتم إليه صائرون، فإنّ اللّه تعالى قال في كتابه:

كلّ نفس بما كسبت رهينة( ١ ) و قال و يحذّركم اللّه نفسه( ٢ ) . مثل ما مر مع أدنى اختلاف و الأصل في الجميع واحد.

و أمّا الطبري فروى عن أبي مخنف عن الحارث بن كعب الوالبي عن أبيه قال: كنت مع محمد بن أبي بكر حين قدم مصر فقرأ عليهم عهده «هذا ما عهد عليه عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى محمّد بن أبي بكر حين ولاّه مصر، أمره بتقوى اللّه في السرّ و العلانية و خوف اللّه عز و جل في المغيب و المشهد، و باللين على المسلمين و بالغلظة على الفاجرين، و بالعدل على أهل الذمة و بانصاف المظلوم و بالشدة على الظالم، و بالعفو عن الناس و بالاحسان ما استطاع، و اللّه يجزي المحسنين و يعذّب المجرمين، و أمره أن يدعو من قبله أهل الطاعة و الجماعة، فإنّ لهم في ذلك من العاقبة و عظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره و لا يعرفون كنهه، و أمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل لا ينقص منه و لا يبتدع فيه، ثم يقسمه بين أهله على ما كانوا يقسمون عليه من قبل، و أن يليّن لهم جناحه و أن يواسي بينهم في مجلسه وجهه، و ليكن القريب و البعيد في الحق سواء، و أمره أن يحكم بين الناس بالحق و أن يقوم بالقسط و لا يتّبع الهوى و لا يخاف في اللّه عزّ و جلّ لومة لائم، فإنّ اللّه جلّ ثناؤه مع من اتّقى و آثر طاعته و أمره على ما سواه( ٣) .

و رواه الثقفي في (غاراته) كما مرّ في سابقه، و مرّ خبر انّ أن محمدا لما قتل أخذ كتبه أجمع فبعث بها إلى معاوية و فيها كتاب كتبهعليه‌السلام له فيه أدب

____________________

(١) المدثر: ٣٨.

(٢) تحف العقول: ١٧٦ ١٨٠. و الآية ٢٨ من آل عمران.

(٣) تاريخ الطبري ٤: ٥٥٦.

١٢

و سنّة و أن معاوية كان ينظر فيه و يتعجّب منه و قال لجلسائه: نقول للناس: إنّه كان من كتب أبي بكر، و أنهعليه‌السلام تأسف على وصول ذلك الكتاب إلى معاوية.

و الظاهر عدم نقل ذلك الكتاب لنا لأن المفهوم من الخبر الثاني أنّه كان مشحونا من سنن لا يعرفها الناس، و الكتاب الواصل ليس فيه إلاّ مختصر من الوضوء و الصلاة.

قول المصنف (و من عهد لهعليه‌السلام إلى محمد بن أبي بكر) زادهم (ابن ميثم)( ١ ) و (الخطية) «رحمه اللّه» و (ابن أبي الحديد)( ٢ ) «رضي‌الله‌عنه ».

(حين قلّده مصر) جميع ما نقله المصنف لم يكن حين التقليد بل حينه و بعده كما عرفت من روايات غارات الثقفي، قلّده بعد قيس بن سعد بن عبادة.

قولهعليه‌السلام «و اخفض لهم جناحك» خفض الجناح كناية عن التواضع و يعبّر عنه بالفارسية «بشكسته بالي» و الأصل فيه قوله تعالى لنبيه: و اخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين( ٣) .

في (تاريخ بغداد): كان موسى بن إسحاق القاضي لا يرى متبسّما قطّ، فقالت له امرأة: أيّها القاضي لا يحلّ لك أن تحكم بين الناس، فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «لا يحل للقاضي أن يحكم بين اثنين و هو غضبان» فتبسّم( ٤) .

«و ألن لهم جانبك» قال تعالى لنبيه: فبما رحمة من اللّه لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضّوا من حولك( ٥) .

«و ابسط لهم وجهك» قال لقمان لابنه: و لا تصعّر خدك للناس و لا تمش

____________________

(١) شرح ابن ميثم ٤: ٤١٩.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٥: ١٦٣.

(٣) الشعراء: ٢١٥.

(٤) تاريخ بغداد ١٣: ٥٣.

(٥) آل عمران: ١٥٩.

١٣

في الأرض مرحا انّك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا. كلّ ذلك كان سيّئه عند ربّك مكروها( ١) .

«و آس» أي: ساو، و في النهاية أي: إجعل كلّ واحد منهم اسوة خصمه.

«بينهم في اللحظة» أي: النظر بمؤخّر العين.

«و النظرة» أي: تأمّل الشي‏ء بالعين.

في الخبر كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم لحظاته بين جلسائه( ٢ ) ، و قال خالد بن صفوان لوال دخل عليه: قدمت فأعطيت كلاّ بقسطه من نظرك و مجلسك و صلاتك و عدلك حتى كأنّك من كلّ أحد أو كأنّك لست من أحد.

«حتى لا يطمع العظماء في حيفك» أي: جورك.

«لهم و لا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم» و قالعليه‌السلام لشريح: ثمّ و اس بين المسلمين بوجهك و منطقك و مجلسك حتّى لا يطمع قريبك في حيفك و لا ييأس عدوّك من عدلك( ٣) .

روت العامّة عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خلا عمر لبعض شأنه و قال:

أمسك عليّ الباب، فطلع الزبير، فكرهته حين رأيته، فأراد أن يدخل، فقلت: هو على حاجة، فلم يلتفت إليّ و أهوى ليدخل، فوضعت يدي في صدره، فضرب أنفي فأدماه، ثم رجع، فدخلت على عمر فقال: ما بك؟ قلت: الزبير، فأرسل إليه، ثمّ دخل الزبير، فجئت لأنظر ما يقول له، فقال له: ما حملك على ما صنعت أدميتني للناس. فقال الزبير يحكيه و يمطّط في كلامه «أدميتني»، أتحجب عنّا يا ابن الخطاب، فو اللّه ما احتجب عنّي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا أبو بكر. فقال عمر

____________________

(١) الاسراء: ٣٧ ٣٨.

(٢) معاني الاخبار: ٨٢.

(٣) الكافي ٢: ٤١٣ ح ١: الفقيه ٣: ٨ ح ١٠: التهذيب ٦: ٢٢٦ ح ١.

١٤

كالمعتذر: إنّي كنت في بعض شأني، فلما سمعته يعتذر إليه يئست من أن يأخذ لي بحقّي منه، و خرج الزبير، فقال عمر: إنّه الزّبير و آثاره ما تعلم( ١) .

«فان اللّه تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم و الكبيرة» و كل صغير و كبير مستطر( ٢ ) ، و يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا( ٣ ) ، يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم. فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره. و من يعمل مثقال ذرّة شرّا يره( ٤) .

«و الظاهرة و المستورة» قال لقمان لابنه: يا بني إنّها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها اللّه إنّ اللّه لطيف خبير( ٥ ) ، يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور( ٦ ) و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فإنّه آثم قلبه( ٧ ) ، إن السمع و البصر و الفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولا( ٨) .

و عن أبي جعفرعليه‌السلام : كان في بني إسرائيل قاض كان يقضي بالحق فيهم، فلما حضره الموت قال لامرأته: إذا أنا متّ فاغسليني و كفّنيني و ضعيني على سريري و غطّي وجهي، فإنّك لا ترين سوء، فلمّا مات فعلت ذلك، ثم مكثت بذلك حينا، ثم إنّها كشفت عن وجهه لتنظر إليه، فإذا هي بدودة

____________________

(١) رواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٢١: ٤٥ ٤٦، بتصرّف.

(٢) القمر: ٥٣.

(٣) الكهف: ٤٩.

(٤) الزلزلة: ٦.

(٥) لقمان: ١٦.

(٦) غافر: ١٩.

(٧) البقرة: ٢٨٣.

(٨) الاسراء: ٣٦.

١٥

تقرض منخره، ففزعت من ذلك، فلمّا كان الليل أتاها في منامها فقال لها:

أفزعك ما رأيت؟ قالت: أجل لقد فزعت. فقال لها: أما لئن كنت فزعت ما كان الذي رأيت إلاّ في أخيك فلان، أتاني و معه خصم له، فلمّا جلسا إليّ قلت: اللّهم اجعل الحق له و وجّه القضاء على صاحبه، فلمّا اختصما كان الحق له و رأيت ذلك بيّنا في القضاء، فوجّهت القضاء له على صاحبه، فأصابني ما رأيت لموضع هواي مع موافقة الحقّ( ١) .

«فإن يعذّب» قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينقضي كلام شاهد الزور بين يدي الحاكم حتى يتبوأ مقعده من النار( ٢) .

«فأنتم أظلم» قال ابن أبي الحديد: أفعل ها هنا بمعنى فاعل( ٣) .

قلت: يمكن أن يكون من باب و جزاء سيّئة سيّئة مثلها( ٤ ) و يمكن أن يكون المراد: إنكم أظلم من كلّ عبد عصى سيّده.

«و إن يعف فهو أكرم» من كلّ سلطان يعفو عن رعيته: و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير( ٥) .

«و اعلموا عباد اللّه أنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدنيا و آجل الآخرة فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم» قد عرفت في أسانيده أنهعليه‌السلام إستشهد لكلامه بقوله تعالى: قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده و الطيّبات من الرزق قل هي للّذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيمة

____________________

(١) الكافي ٧: ٤١٠ ح ٢، التهذيب ٦: ٢٢٢ ح ٢١، أمالي الطوسي ١: ١٢٦ ١٢٧ الجزء ٥.

(٢) الكافي ٧: ٣٨٣ ح ٣.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٥: ١٦٥.

(٤) الشورى: ٤٠.

(٥) الشورى: ٣٠.

١٦

كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون( ١) .

«سكنوا من الدّنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما اكلت فحظوا» يقال:

حظي فلان عند السلطان، و حظيت المرأة عند الزوج.

«من الدّنيا بما حظي به المترفون» قال ابن دريد: رجل مترف: منعّم( ٢) .

«و أخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون» قد عرفت من روايات الثقفي انّه بدّل قوله «فحظوا إلى المتكبرون» بقوله «فأكلوا معهم من طيّبات ما يأكلون، و شربوا من طيبات ما يشربون، و لبسوا من أفضل ما يلبسون، و سكنوا من أفضل ما يسكنون، و تزوّجوا من أفضل ما يتزوّجون، و ركبوا من أفضل ما يركبون»( ٣ ) ، و ما هنا إجمال و ثمة تفصيل، فاللّذائذ الدنيوية منحصرة في هذه الستة من المآكل و المشارب و الملابس و المساكن و المناكح و المراكب.

«ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلّغ» أي: زاد التقوى الذي وصفه تعالى بكونه خير زاد.

«و المتجر الرابح» و هو الايمان و عمل الصالحات.

«أصابوا لذّة زهد الدنيا في دنياهم» لأن الزهد فيها ليس بترك نعيمها بل بعدم العلقة بها كما قال تعالى لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم( ٤ ) ، و أما الحريص فدائما متألم بفوت ما فات من دنياه و عدم حصول زيادة له.

____________________

(١) الاعراف: ٣٢.

(٢) جمهرة اللغة ١: ٣٩٣.

(٣) الغارات باختلاف يسير ١: ٢٣٦، و أمالي المفيد: ٢٦٣، أمالي الطوسي ١: ٢٦.

(٤) الحديد: ٢٣.

١٧

«و تيقنوا أنّهم جيران اللّه غدا في آخرتهم» سلام قولا من ربّ رحيم( ١) ، و الملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار( ٢ ) ، وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة( ٣) .

«لا تردّ لهم دعوة» و لهم ما يدّعون( ٤) .

«و لا ينقص لهم نصيب من لذّة» و إذا رأيت ثمّ رأيت نعيما و ملكا كبيرا.

عاليهم ثياب سندس خضر و إستبرق و حلّوا أساور من فضة و سقاهم ربهم شرابا طهورا. إنّ هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا( ٥) .

«فاحذروا عباد اللّه الموت و قربه» فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون( ٦) .

«و أعدّوا له عدّته» و أنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربّ لو لا أخّرتني إلى أجل قريب فأصّدّق و أكن من الصالحين. و لن يؤخّر اللّه نفسا إذا جاء أجلها و اللّه خبير بما تعملون( ٧) .

«فإنّه يأتي بأمر عظيم و خطب» أي: شأن.

«جليل، بخير لا يكون معه شرّ أبدا أو شرّ لا يكون معه خير أبدا» قال ابن أبي الحديد: نص في مذهب أصحابنا في الوعيد، أنّ من دخل النّار فليس بخارج منها، و لو كان خارجا منها لكان الموت قد جاءه بشرّ معه خير...( ٨) .

____________________

(١) يس: ٥٨.

(٢) الرعد: ٢٣ ٢٤.

(٣) القيامة: ٢٢ ٢٣.

(٤) يس: ٥٧.

(٥) الإنسان: ٢٠ ٢٢.

(٦) الاعراف: ٣٤.

(٧) المنافقون: ١٠ ١١.

(٨) شرح ابن أبي الحديد ١٥: ١٦٦.

١٨

قلت: يمكن حمل كلامهعليه‌السلام على القرآن و أكثر الأخبار في الاقتصار على ذكر المؤمنين المخلصين و الكافرين دون المؤمنين المسرفين.

و في (اعتقادات الصدوق): قيل لأمير المؤمنينعليه‌السلام : صف لنا الموت.

فقال: على الخبير سقطتم، هو أحد ثلاثة أمور ترد عليه: إمّا بشارة بنعيم الأبد و إمّا بشارة بعذاب الأبد، و إمّا تحزين و تهويل و أمر مبهم لا يدرى من أيّ الفرق هو، فأمّا وليّنا المطيع لأمرنا فهو المبشّر بنعيم الأبد، و أمّا عدونا المخالف علينا فهو المبشّر بعذاب الأبد، و أمّا المبهم أمره الذي لا يدرى ما حاله فهو المؤمن من المسرف على نفسه يأتيه الخير مبهما محزنا ثم لن يسوّيه اللّه تعالى بأعدائنا و لكن يخرجه من النار بشفاعتنا، فاعملوا و أطيعوا و لا تتكلوا و لا تستصغروا عقوبة اللّه عزّ و جلّ، فإنّ من المسرفين ما لا يلحقه شفاعتنا إلاّ بعذاب ثلاثمئة ألف سنة.

و سئل الحسنعليه‌السلام عن الموت فقال: أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا انقلبوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، و أعظم ثبور يرد على الكافرين إذا نقلوا عن جنتهم إلى نار لا تبيد و لا تنفد.

و لما أشتدّ الأمر بالحسينعليه‌السلام نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر بهم تغيّرت ألوانهم و ارتعدت فرائصهم و وجلت قلوبهم و وجبت جنوبهم، و كان الحسين و بعض خصائصه تشرق ألوانهم و تهدأ جوارحهم و تسكن نفوسهم، و قال بعضهم لبعض: انظروا إليه ما يبالي الموت، فقالعليه‌السلام لهم: صبرا بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم من البؤس و الضرّاء إلى الجنان الواسعة و النعيم الدائم، فأيّكم يكره أن ينقل من سجن إلى قصر و ما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينقل من قصر إلى سجن و عذاب أليم.

١٩

و قيل لعلي بن الحسينعليه‌السلام : ما الموت؟ فقال: للمؤمن كنزع ثياب و سخة قملة أو فك قيود ثقيلة و الاستبدال بأفخر الثياب و أطيبها روائح و أوطأ المراكب و آنس المنازل، و للكافر كخلع ثياب فاخرة و النقل عن منازل أنيسة و الاستبدال بأوسخ الثياب و أخشنها و أوحش المنازل و أعظم العذاب.

و قيل لمحمد الباقرعليه‌السلام : ما الموت؟ قال: هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلاّ انّه طويل لا ينبه منه إلاّ يوم القيامة، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره و رأى في منامه من أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره فكيف حال فرحه في النوم و وجله فيه، هذا هو الموت فاستعدوا له.

و قيل للصادقعليه‌السلام : صنف لنا الموت. فقال: هو للمؤمن كأطيب ريح يشم فينعس لطيبه و ينقطع التعب و الألم كلّه عنه، و للكافر كلسع الأفاعي و لذع العقارب و أشد. قيل له: فإنّ قوما يقولون: إنّه أشدّ من نشر بالمناشير و قرض بالمقاريض و رضخ بالحجارة و تدوير قطب الأرحية في الأحداق. فقالعليه‌السلام :

كذلك هو على بعض الكافرين و الفاجرين، ألا ترون منهم من يعاين تلك الشدائد؟ قيل: فما بالنا نرى كافرا يسهل عليه النزع فينطفى‏ء و هو يضحك و يتحدّث و يتكلّم، و في المؤمنين من يكون كذلك، و في المؤمنين و الكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد؟ فقالعليه‌السلام : ما كان من راحة للمؤمن هناك فهو عاجل ثوابه، و ما كان من شدّة فتمحيصه من ذنوبه ليرد الآخرة نفيضا نظيفا مستحقا لثواب الأبد لا مانع له دونه، و ما كان من سهولة هناك على الكافر فليتوفّى أجر حسناته ليرد الآخرة و ليس له إلاّ ما يوجب العذاب، و ما كان من شدة على الكافر هناك فهو ابتداء عقاب اللّه عند نفاد حسناته، ذلكم بأن اللّه عدل لا يجور.

و دخل موسى بن جعفرعليه‌السلام على رجل في سكرات الموت لا يجيب

٢٠