بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 53908
تحميل: 4246


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53908 / تحميل: 4246
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 9

مؤلف:
العربية

ألست كميّا في الحروب مجرّبا

شجاعا إذا شبت له الحرب محربا

سريعا إلى الهيجا إذا حمس الوغا

فأقسم لا أعدو الغدير منكبا

ثم صعد إلى جبل تبل فرأى شيهمة و هي الانثى من القنافذ فرماها فأقعصها و معها ولدها فارتبطه، فلمّا كان الليل هتف به هاتف من الجن:

يا بن الحمارس قد أسأت جوارنا

و ركبت صاحبنا بأمر مفظع

و عقرت لقحته و قدت فصيلها

قودا عنيفا في المنيف الأرفع

و نزلت مرعى شائنا و ظلمتنا

و الظلم فاعله و خيم المرتع

فلنطرقنك بالذي أوليتنا

شر يجيئك ماله من مدفع

فأجابه ابن الحمارس:

يا مدّعي ظلمي و لست بظالم

إسمع أريك مقالتي و تسمّع

إن كنتم جنّا ظلمتم قنفذا

عقرت فشرّ عقيرة في مصرع

لا تطمعوا فيما لديّ فما لكم

فيما حويت و حزته من مطمع

فأجابه الجنّي:

يا ضارب اللقحة بالعضب الأفل

قد جاءك الموت و وافاك الأجل

و ساقك الحين إلى جن تبل

فاليوم أقويت و أعيتك الحيل

فأجابه ابن الحمارس:

يا صاحب اللّقحة هل أنت بجل

مستمع مني فقد قلت الخطل

و كثرة المنطق في الحرب فشل

هيجت قمقاما من القوم بطل

ليث ليوث و إذا همّ فعل

لا يرهب الجنّ و لا الانس أجل

من كان بالعقوة من جن تبل

فسمعها شيخ من الجن فقال: لا و اللّه لا نرى قتل إنسان مثل هذا ثابت القلب ماضي العزيمة. ثم قام و أنشد:

١٢١

يا ابن الحمارس قد نزلت بلادنا

فأصبت منها مشربا و مناما

فبدأتنا ظلما بعقر لقوحنا

و أسأت لمـّا أن نطقت كلاما

فاعمد لأمر الرشد و اجتنب الرّدى

إنّا نرى لك حرمة و ذماما

و اغرم لصاحبنا لقوحا متبعا

فلقد أصبت بما فعلت أثاما

فأجابه ابن الحمارس:

اللّه يعلم حيث يرفع عرشه

أنّي لأكره أن اصيب أثاما

أمّا ادّعاؤك ما ادّعيت فإنّني

جئت البلاد و لا اريد مقاما

فأسمت فيها مالنا و نزلتها

لاريح فيها ظهرنا أيّاما

فليغد صاحبكم علينا نعطه

ما قد سألت و لا نراه غراما

ثم غرم للجن لقوحا متبعا للقنفذ و ولدها.

و هذه الحكاية و إن كانت كذبا إلاّ أنّها تتضمّن أدبا و هي من طرائف أحاديث العرب فذكرناها لأدبها و إمتاعها، و يقال: إن الشرقي كان يضع أشعارا و ينحلها غيره( ١) .

فأما مذهب العرب في أنّ لكلّ شاعر شيطانا يلقي إليه الشعر فمشهور و الشعراء كافة عليه، قال بعضهم:

إنّي و إن كنت صغير السنّ

و كان في العين نبوّ عنّي

فإنّ شيطاني أمير الجنّ

يذهب بي في الشعر كلّ فن

و قال حسان بن ثابت:

إذا ما ترعرع فينا الغلام

فما أن يقال له من هوه

إذا لم يسد قبل شدّ الإزار

فذلك فينا الذي لا هوه

ولي صاحب من بني الشيصبان

فطورا أقول و طورا هوه

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ٤٢١ ٤٢٤.

١٢٢

و كانوا يزعمون أنّ اسم شيطان الأعشى مسحل و اسم شيطان المخبل عمرو قال الأعشى:

دعوت خليلي مسحلا و دعوا له

جهنّام جدعا للهجين المذمم

و قال آخر:

لقد كان جنّيّ الفرزدق قدوة

و ما كان فينا مثل فحل المخبّل

و لا في القوافي مثل عمرو و شيخه

و لا بعد عمرو شاعر مثل مسحل( ١)

قلت: و مرّ قول أبي النجم:

إنّي و كلّ شاعر من البشر

شيطانه انثى و شيطاني ذكر

قلت: و قالوا أنشد الفرزدق الصدر من أبيات لجرير فينشد الفرزدق العجز لها، فتعجب المنشد فقال له الفرزدق: أو ما علمت أن شيطاننا واحد.

قال: و أنشد الخالع فيما نحن فيه لبعض الرجاز:

ان الشياطين أتوني أربعة

في غلس الليل و فيهم زوبعه

و هو لا يدل على ما نحن فيه فلا وجه لإدخاله في هذا الموضع.

و من مذاهبهم أنّهم كانوا إذا قتلوا الثعبان خافوا من الجن أن يأخذوا بثأره فيأخذون روثه و يفتونها على رأسها و يقولون «روثة راث ثائرك»، قال بعضهم:

طرحنا عليه الروث و الزجر صادق

فراث علينا ثأره و الطوائل

و قد يذرّ على الحيّة المقتولة يسير رماد و يقال لها: «قتلك العين فلا ثأر لك»، و في أمثالهم لمن ذهب دمه هدرا «هو قتيل العين» قال الشاعر:

و لا أكن كقتيل العين وسطكم

و لا ذبيحة تشريق و تنحار

فأما مذهبهم في الخرزات و الأحجار و الرّقى و العزائم فمشهور، فمنها

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ٤٢٤.

١٢٣

«السّلوانة» و يقال: «السّلوة»، و هي خرزة يسقى العاشق منها فيسلو في زعمهم و هي بيضاء شفّافة، قال:

لو أشرب السلوان ما سليت

ما بي غنى عنكم و إن غنيت( ١)

و قال اللّحياني: السلوانة تراب من قبر يسقى منه العاشق فيسلو، و قال عروة ابن حزام:

جعلت لعرّاف اليمامة حكمه

و عرّاف نجد إن هما شفياني

فقالا نعم نشفي من الداء كلّه

و قاما مع العوّاد يبتدران

فما تركا من رقية يعرفانها

و لا سلوة إلاّ و قد سقياني

و قال آخر:

سقوني سلوة فسلوت عنها

سقى اللّه المنيّة من سقاني

قال: أي سلوت عن السلوة و اشتد بي العشق و دام( ٢ ) قلت: ما فسره خلاف الظاهر، و الظاهر ان المراد سلوت عن المحبوبة، و إنّما دعا عليها لأن عنده في العشق لذة أزالها الراقي. فقالوا: عشق رجل جارية مملوكة، فقالوا اشترها، قال: إذن يذهب عشقي و في العشق لذة. و قال الشمردل:

و لقد سقيت بسلوة فكأنّما

قال المداوي للخيال بها ازدد( ٣)

و من خرزاتهم «الهنمة» تجلب بها الرجال و يعطف بها قلوبهم، و رقيتها:

أخذته بالهنمه بالليل زوج و بالنهار أمه.

و منها «الفطسة» و «القبلة» و «الدردبيس» كلّها لاجتلاب قلوب الرجال،

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ٤٢٥.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ٤٢٦.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ٤٢٦.

١٢٤

قال الشاعر:

جمّعن من قبل لهنّ فطسة

و الدردبيس تمائما في منظم

فانقاد كلّ مشذّب مرس القوى

لحبالهن و كلّ جلد شيظم

و قيل: الدردبيس خرزة سوداء تتحبّب بها النساء إلى بعولتهن، توجد في القبور العادية، و رقيتها:

أخذته بالدردبيس، تدر العرق اليبيس، و تذر الجديد كالدريس.

و أنشد:

قطعت القيد و الخرزات عنّي

فمن لي من علاج الدردبيس

و أصل الدردبيس الداهية، و نقل إلى هذه لقوة تأثيرها.

و من خرزاتهم «القرزحلة»، أنشد ابن الأعرابي:

لا تنفع القرزحلة العجائزا

إذا قطعنا دونها المفاوزا

و هي من خرز الضرائر إذا لبستها المرأة مال إليها بعلها دون ضرّتها.

و منها خرزة «العقرة» تشدها المرأة على حقويها فتمنع الحبل، ذكر ذلك ابن السّكّيت في إصلاح المنطق.

و منها «الينجلب»، و رقيتها:

أخذته بالينجلب

فلا يرم و لا يغب

و لا يزل عند الطّنب

و منها: «كرار»، و رقيتها:

يا كرار كرّيه

إن أقبل فسرّيه

و إن أدبر فضرّيه

من فرجه إلى فيه

و منها «الهمرة»، و رقيتها:

يا همرة اهمريه

من استه إلى فيه

١٢٥

و ماله و بنيه

و منها: «الخصمة» خرزة الدخول على السلطان و الخصومة تجعل تحت فص الخاتم أو في زر القميص أو في حمائل السيف، قال بعضهم:

يعلق غيري خصمة في لقائهم

و مالي عليكم خصمة غير منطقي

و منها: «الوجيهة» و هي كالخصمة حمراء كالعقيق.

و منها: «العطفة» خرزة العطف، و «الكحلة» خرزة سوداء تجعل على الصبيان لدفع العين عنهم، و «القبلة» خرزة بيضاء تجعل في عنق الفرس من العين، و «الفطسة» خرزة يمرض بها العدو و يقتل و رقيتها:

أخذته بالفطسه

بالثوباء و العطسه

فلا يزال في تعسه

من أمره و نكسه

حتى يزور رمسه

و من رقاهم للحب:

هوابه هوابه

ألبرق و السحابه

أخذته بمركن

فحبه تمكن

أخذته بابره

فلا يزل في عبره

جلبته بإشفى

فقلبه لا يهدا

جلبته بمبرد

فقلبه لا يبرد

و ترقى الفارك زوجها إذا سافر عنها فتقول: «بأفول القمر، و ظلّ الشجر، شمال تشمله، و دبور تدبره، و نكباء تنكبه، شيك فلا انتعش». ثم ترمي في أثره بحصاة و نواة وروثة و بعرة و تقول:

حصاة حصت أثره

نواة أنأت داره

روثة راث خبره

لقعته ببعره

١٢٦

و قالت فارك في زوجها:

أتبعته إذ رحل العيس ضحى

بعد النواة روثة حيث انتوى

الروث للريث و للنأي النوى

و قال شاعر:

رمت خلفه لمـّا رأت و شك بينه

نواة تلتها روثة و حصاة

و قالت نأت منك الديار فلا دنت

وراثت بك الأخبار و الرّجعات

و حصّت لك الاثار بعد ظهورها

و لا فارق الترحال منك شتات

و قال رجل يخاطب امرأته:

لا تقذفي خلفي إذا الركب اغتدى

روثة عير و حصاة و نوى

لن يدفع المقدار أسباب الرّقى

و لا التهاويل على جن الفلا

و هذا الرجز أورده الخالع في هذا المعرض، و هو بأن يدل على عكس هذا المعنى أولى، لأن قوله «لن يدفع المقدار بالرقي و لا بالتهاويل على الجن» كلام يشعر بأن قذف الحصاة و النواة خلفه كالعوذة له لا كما تفعله الفارك التي تتمنى الفراق( ١) .

قلت: بل دلالته على عين المعنى في غاية الوضوح، فإن قذف الروثة و الحصاة و النواة ليس إلاّ لعدم الرجوع، و لم يقل أحد إنّها تكون للعوذة له من البلاء، و أما قوله «لن يدفع المقدار الرقى» فمعناه أنّه لو كان رجوعي مقدارا لا تأثير لرقاك كما لا تأثير للرقى في التهاويل على الجن.

قال: فأمّا مذهبهم في القيافة و الزجر و الكهانة و اختلافهم في السانح و البارح و تشّامهم باللفظة و الكلمة و تأويلهم لها و تيمّنهم بكلمة اخرى و ما كانوا يفعلونه من البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، فكلّه معروف لا حاجة

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ٤٢٦ ٤٢٨.

١٢٧

لنا إلى ذكره ها هنا...( ١) .

قلت: قال أبو عبيدة: سأل يونس رؤبة و أنا شاهد عن السانح و البارح، فقال: السانح ما ولاّك ميامنه و البارح ما ولاّك مياسره، و العرب تتيمّن بالسانح و تتشأم بالبارح، و في المثل «من لي بالسانح بعد البارح»، و قال الأعشى «جرت لهما طير السناح بأشأم»، و في المثل: «إنّما هو كبارح الأرويّ».

قال (الجوهري): الأرويّ مساكنها في قنان الجبال لا يكاد الناس يرونها سانحة و لا بارحة إلاّ في الدهور مرة( ٢) .

و في (المروج): حدّث المنقري عن العتبي: وقف عبيد الراعي ذات يوم مع ركب من ثقيف على نفر و كانوا يريدون استقصاد رجل من تميم إذ سنحت ظباء سود منكرة، ثم اعترضت الركب مقصرة في حضرها واقفة على شأنها، فأنكر ذلك عبيد الراعي و لم ينتبه له أصحابه، فقال عبيد:

ألم تدر ما قال الظباء السوانح

أطفن أمام الركب و الركب رائح

فكرّ الّذي لم يعرف الزجر منهم

و أيقن قلبي أنّهن نوائح

ثم شارفوا مقصدهم فألفوا الرئيس قد نهشته أفعى فأتت عليه.

قال أبو عبيدة: و هذا من غريب الزجر، و ذلك أنّ السانح مرجو عند العرب و البارح هو المخوف، و أظن عبيدا إنّما زجر الظباء في حال رجوعها و وصف الحال الأول في شعره، كما أنّ من شرط الواصف أن يبدأ بهوادي الأسباب فيوضّح عنها، فهذا وجه زجر عبيد في شعره( ٣) .

و في (المروج) (ذكر ما ذهب إليه العرب في النفوس و الهام و الصفر

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ٤٢٩.

(٢) الصحاح للجوهري ١: ٣٧٦ ٣٧٧.

(٣) مروج الذهب ٢: ١٤٨.

١٢٨

و غيرها) منهم من زعم ان النفوس في الدم لا غير، و ان الروح الهواء الذي في باطن جسم المرئي منه نفسه، و لذلك سمّوا المرأة نفساء لمّا يخرج منها من الدم، و لذلك تنازع الفقهاء فيما له نفس سائلة إذا سقط في الماء هل ينجسه أم لا، و قال تأبّط شرّا لخاله الشنفرى «ألجمته عضبا فسالت نفسه سكبا».

و قالوا: إنّ الميّت لا ينبعث منه الدم و لا يوجد فيه، و النماء مع الحرارة و الرطوبة، لأن كلّ حي فيه حرارة و رطوبة فإذا مات بقي اليبس و البرودة، قال ابن براق:

و كم لاقيت ذا نجب شديد

تسيل به النفوس على الصدور

إذا الحرب العوان به استهامت

و حال فذاك يوم قمطرير

و طائفة منهم تزعم أنّ النفس طائر ينبسط في جسم الإنسان، فإذا مات أو قتل لم يزل مطيفا به متصورا إليه في صورة طائر يصرخ على قبره مستوحشا، و في ذلك يقول بعضهم:

سلط الطير و المنون عليهم

فلهم في صدى المقابر هام

و هذا الطائر يسمّونه «الهام» و الواحدة هامة، و جاء الإسلام و هم على ذلك حتى قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و سلم «لا هام و لا صفر».

و يزعمون أنّ هذا الطائر يكون صغيرا ثم يكبر حتى يصير كضرب من البوم و هي أبدا تتوحش في الديار المعطلة و النواويس و حيث مصارع الموتى.

و يزعمون أنّ الهامة لا تزال عند ولد الميت في محلته بفنائهم لتعلم ما يكون بعده فتخبره به حتى قال الصلت بن امية لبنيه:

هامتي تخبّرني بما تستشعروا

فتجنبوا الشنعاء و المكروها

و عن حاتم طي و سنورد خبره:

١٢٩

أتيت لصحبك تبغي القرى

لدى حفر صدحت هامها( ١)

و للعرب في الغيلان أخبار ظريفة، يزعمون ان الغول يتغول لهم في الخلوات و يظهر لخواصهم في أنواع من الصور فيخاطبونها و ربّما ضيّفوها، و قد أكثروا من ذلك في أشعارهم، منها قول تأبط شرّا:

و أدهم قد جبت جلبابه

كما اجتابت الكاعب الخيعلا

فأصبحت و الغول لي جارة

فيا جارتي أنت ما أهولا

و يزعمون أن رجليها رجلا عنز.

و كانوا إذا اعترضتهم الغول في الفيافي يتجزون و يقولون:

يا رجل عنز إنهقي نهيقا

لن نترك السبسب و الطريقا

و ذلك انها كانت تتراءى لهم في الليالي و أوقات النهار فيتوهمّون أنّها إنسان فيتبعونها فتزيلهم عن الطريق التي هم عليها و تتيههم، و كان ذلك قد اشتهر عندهم و عرفوه فلم يكونوا يزولون عمّا كانوا عليه من القصد، فإذا صيح بها على ما وصفنا شردت عنهم في بطون الأودية و رؤوس الجبال.

قال: و قد ذكر جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب أنّه شاهد ذلك في بعض أسفاره إلى الشام قبل الإسلام، و هذا مشهور عندهم في أخبارهم.

و حكي عن بعض المتفلسفين أنّ الغول حيوان شاذّ من جنس الحيوان لم تحكمه الطبيعة و أنه لمّا خرج منفردا في نفسه و هيئته توحّش من مسكنه فطلب القفار و هو يناسب الإنسان و الحيوان البهيمي في الشكل.

و ذهبت طوائف من الهند إلى أنّ ذلك إنّما يظهر من فعل ما كان غائبا من الكواكب عند طلوعها مثل طلوع الكوكب المعروف بكلب الجبار، و هي الشعرى العبور، و أنّ ذلك داء يحدث في الكلاب، و سهيل في الحمل و الذئب في

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ١٣٢ ١٣٤ بتصرف.

١٣٠

الدب، و حامل رأس الغول يحدث عند طلوعه تماثيل و أشخاص تظهر في الصحاري و غيرها من العالم فتسمّيه عوام الناس غولا و هي ثمانية و أربعون كوكبا و قد ذكرها بطليموس.

و زعمت طائفة: أن الغول اسم لكل شي‏ء يعرض للسّفّار و يتمثّل في ضروب من الصور ذكرا كان أو انثى إلاّ أنّ أكثر كلامهم على أنّه انثى. و قد قال أبو المطراب:

و حالفني الوحوش على الوفاء

و تحت عهودهن و باالبعاد

و غولا قفرة ذكرا و انثى

كأن عليهما قطع النجاد

و قال كعب بن زهير الصحابي:

فما تدوم على حال تكون بها

كما تلوّن في أثوابها الغول

و كانت العرب قبل الإسلام تزعم أنّ الغيلان توقد بالليل النيران للعبث و التحيل و اختلال السابلة، قال أبو المطراب:

فللّه در الغول أي رفيقة

لصاحب قفر حالف و هو معبر

أرنّت بلحن بعد لحن و أوقدت

حواليّ نيرانا تلوح و تزهر

و قد فرّقوا بين السعلاة و الغول، قال عبيد بن أيّوب:

و ساخرة منّي و لو أنّ عينها

رأت ما رأت عيني من الهول جنّت

أبيت بسعلاة و غول بقفرة

إذا الليل و ارى اللحن فيه أرنّت

و وصفها بعضهم فقال:

و حافر العنز في ساق مدملجة

و جفن عين خلاف الإنس بالطول

و للناس كلام كثير في الغيلان و الشياطين و المردة و الجن و القطرب و القدار و هو نوع من أنواع المتشيطنة يعرف بهذا الإسم يظهر في أكناف اليمن و التهائم و أعالي صعيد مصر، و انّه ربما يلحق الإنسان فينكحه فيتدوّد

١٣١

دبره فيموت و ربما يتوارى للانسان فيذعره، فإذا أصاب الإنسان ذلك منه يقول له أهل تلك النواحي: «أ منكوح أم مذعور؟» فإن قال: منكوح يئس منه و ان كان مذعورا اسكن روعه، و ذلك أنّ الإنسان إذا عاين ذلك سقط مغشيا عليه، و منهم من لا يكترث به لشهامة قلبه و شجاعة نفسه.

(و فيه): و ذكر عن علقمة بن صفوان بن امية الكناني جد مروان بن الحكم لامّه أنّه خرج في بعض الليالي يريد مالا له بمكة، فانتهى الى الموضع المعروف ب «حائط حرمان» فإذا هو بشق قد ظهر له و قال:

علقم إنّي مقتول

و إنّ لحمي مأكول

أضربهم بالمسلول

ضرب غلام مشمول

رحب الذراع بهلول

فقال علقمة:

شقّ مالي و لك

إغمد عني منصلك

تقتل من لا يقتلك؟

فقال شق:

علقم، غنيت لك

كيما ابيح معقلك

فاصبر لمّا قد حمّ لك

فضرب كلّ منهما صاحبه فخرا ميتين، و هذا مشهور عندهم و أن علقمة قتلته الجن. و ذكر عن الجن بيتين من الشعر قالتهما في حرب بن امية حين قتلته و هما:

و قبر حرب بمكان قفر

و ليس قرب قبر حرب قبر

و استدلّوا على أنّ هذا من قول الجنّ أنّ أحدا من الناس لم يتأتّ له أن ينشد هذين البيتين ثلاث مرات متواليات لا يتتعتع في إنشادها، لأن الإنسان

١٣٢

قد ينشد و العشرين بيتا و الأقل و الأكثر أشد من هذا الشعر و أثقل و لا يتتعتع فيه( ١) .

و ممّن قتلته الجن: مرداس السلمي، و هو أبو (عباس بن مرداس السلمي).

و منهم: الغريض المغنّي بعد أن ظهر غناؤه، و قد كانت الجن نهته أن يغنّي بأبيات من الشعر فغناها فقتلته.

و عن منصور بن يزيد الطائي قال: رأيت قبر حاتم طي‏ء ببيعة و هو أعلى جبل له واد يقال له الحامل و إذا قدر عظيمة من بقايا قدور حجر مكفأة في ناحية من القبر من القدور التي كان يطعم فيها الناس، و عن يمين قبره أربع جوار من حجارة و على يساره أربع جوار من حجارة كلّهن صاحبة شعر منشور متحجّرات على قبره كالنائحات عليه لم ير مثل بياض أجسامهن و جمال وجوههن، مثّلهن الجن على قبره و لم يكن قبل ذلك، و الجواري بالنهار كما وصفنا فإذا هدأت العيون ارتفعت أصوات الجن بالنياحة عليه و نحن في منازلنا نسمع ذلك إلى أن يطلع الفجر، فإذا طلع سكتن و هدأن، و ربما مرّ المارّ فيراهن فيفتتن بهن فيميل إليهن عجبا به، فإذا دنا وجدهن حجارة( ٢) .

و حدث ابن دريد عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال: سمعت شيخا من العرب قد أناف على المائة يقول: إنّه خرج وافدا على بعض ملوك بني امية، قال: فسرت في ليلة صهاكية حالكة كأن السماء قد برقعت نجومها بطرائق السحاب و ضللت الطريق، فتولّجت واديا لا أعرفه فأهمتني نفسي بطرحها حتى الصباح، فلم آمن عزيف الجن فقلت: «أعوذ بربّ

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ١٣٤ ١٤١.

(٢) مروج الذهب ٢: ١٤١ ١٤٢.

١٣٣

هذا الوادي من شرّه و أستجيره في طريقي هذا و أسترشده»، فسمعت قائلا يقول من بطن الوادي:

تيامن تجاهك تلق الكلا

تسير و تأمن في المسلك

فتوجهت حيث أشار إليّ و قد أمنت بعض الأمن، فإذا أنا بأقباس نار تلمع أمامي في خللها كالوجوه على قامات كالنخيل السحيقة، فسرت و أصبحت بأوشال و هو ماء لكلب يقارب برية دمشق و قد ذكر اللّه تعالى ذلك من فعلهم فقال و أنّه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا( ١) .

قلت: و قال ابن قتيبة تقول العرب: ان الهدهد امّه ماتت فدفنها في رأسه فلذلك أنتنت ريحه، و قد ذكر هذا امية بن أبي الصلت فقال:

غيم و ظلماء و فضل سحابة

أيام كفن و استراد الهدهد

يبغي القرار لأمه ليجنها

فبنى عليها في قفاه يمهد

فيزال يدلج ما مشى بجنازة

منها و ما اختلف الحديد المسند( ٢)

و قال: و تقول العرب في الديك و الغراب: إنهما كانا متنادمين، فلمّا نفد شرابهما رهن الغراب الديك عند الخمّار و مضى فلم يرجع إليه و بقي الديك عنده حارسا، قال امية أيضا:

بآية قام ينطق كلّ شي‏ء

و خان أمانة الديك الغراب

و في (الصحاح): و الهديل فرخ كان على عهد نوحعليه‌السلام فصاده جارح من جوارح الطير قالوا: فليس من حمامة إلاّ و تبكي عليه، قال:

____________________

(١) مروج ٢: ١٤٣ ١٤٤، و الآية من سورة الجنّ: ٦.

(٢) ابن قتيبة

١٣٤

و ما من تهتفين به لنصر

بأسرع جابة لك من هديل( ١)

 (و في حيوان الجاحظ): من خرافات العرب ما ذكروا أن جرهما كان من نتاج ما بين الملائكة و بنات آدم، و كان الملك من الملائكة إذا عصى ربّه في السماء أهبطه إلى الأرض في صورة البشر و في طبيعته كما صنع بهاروت و ماروت حين كان من شأنهما و شأن الزهرة و هي أناهيد ما كان فلمّا عصى اللّه تعالى ملك و أهبطه إلى الأرض في صورة رجل تزوج أم جرهم فولدت جرهما، و لذلك قال شاعرهم:

لا همّ إنّ جرهما عبادكا

النّاس طارف و هم تلادكا

و من هذا النسل و من هذا التركيب كانت بلقيس ملكة سبأ، و كذلك كان ذو القرنين امه «فيرى» كانت آدمية و أبوه «عبرى» من الملائكة، و لذلك لمّا سمع عمر بن الخطاب رجلا ينادي يا ذا القرنين قال: أفرغتم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة( ٢) .

قلت: و من خرافاتهم أنّهم كانوا يقولون: إنّ الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه لم يصبه الدعاء، كأنّهم يزعمون أنّه مثل ما لو كان الإنسان في مكان يرمى فيه بالسهام فاضطجع لم يصبه سهم.

فلمّا أسر الكفار خبيب بن عدي الأوسي أحد العشرة الذين بعثهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عينا و باعوه بمكة بعد بدر من قريش فأخرجوه من الحرم و صلبوه، قال ابن هشام في سيرته، فلمّا أوثقوه للقتل قال: «اللّهم إنّا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا» ثم قال: «اللّهم أحصهم عددا و اقتلهم بددا و لا تغادر منهم أحدا». قال معاوية: كنت حضرته مع أبي يومئذ فيمن

____________________

(١) صحاح للجوهري ٥: ١٨٤٨.

(٢) حيوان الجاحظ ٦: ١٩٨.

١٣٥

حضره فلقد رأيتني يلقيني أبي إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب، و كانوا يقولون: إنّ الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زالت عنه.

قلت: و في حياة الحيوان للدميري: إنّ الصيّاد إذا أراد أن يصيد الضبع رمى في جحرها بحجر فتحسبه شيئا تصيده فتخرج لتأخذه فتصاد، و يقال لها و هي في جحرها «أطرقي أم طريق، خامري أم عامر أبشري بجراد عطلى و شاة هزلى» فلا يزال يقال لها ذلك حتى يدخل عليها الصائد فيربط يديها و رجليها ثم يجرّها.

و الجاحظ يرى هذا من خرافات العرب( ١) .

____________________

(١) حياة الحيوان للدميري ١: ٥٢٠.

١٣٦

الفصل التاسع و العشرون في ما يتعلق بعثمان و عمر

١٣٧

١٣٨

١ - الخطبة (٧٥) و من كلام لهعليه‌السلام لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة فى دم عثمان:

أَ وَ لَمْ يَنْهَ؟ أُمَيَّةَ؟ عِلْمُهَا بِي عَنْ قَرْفِي أَ وَ مَا وَزَعَ اَلْجُهَّالَ سَابِقَتِي عَنْ تُهَمَتِي وَ لَمَا وَعَظَهُمُ اَللَّهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ لِسَانِي أَنَا حَجِيجُ؟ اَلْمَارِقِينَ؟ وَ خَصِيمُ اَلْمُرْتَابِينَ وَ عَلَى كِتَابِ اَللَّهِ تُعْرَضُ اَلْأَمْثَالُ قول المصنف: «لمّا بلغه اتّهام بني أميّة له بالمشاركة له في دم عثمان».

روى الطبريّ: أنّ عثمان صعد يوم الجمعة المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، فقام رجل، فقال له: أقم كتاب اللّه. فقال عثمان: اجلس. فجلس حتّى قام ثلاثا، فأمر به عثمان فأجلس [ فجلس ]، فتحاثوا بالحصباء حتى ما ترى السماء و سقط عثمان عن المنبر، و حمل فأدخل داره مغشيّا عليه، و دخل عليّعليه‌السلام

١٣٩

عليه و هو مغشيّ عليه، و بنو أميّة حوله، فأقبلت بنو أميّة بمنطق واحد، فقالوا:

يا عليّ أهلكتنا و صنعت هذا الصنيع به أما و اللّه لئن بلغت الذي تريد لتمرّنّ عليك الدّنيا. فقام عليّعليه‌السلام مغضبا( ١) .

قولهعليه‌السلام : «أو لم ينه أميّة علمها بي عن قرفي» أي: عن رميي و اتّهامي قال الشاعر:

فكم يبقى على القرف الإخاء( ٢)

في (نقض الإسكافيّ): قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : قال لي مروان: ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم. قلت: فما بالكم تسبّونه على المنابر؟

قال: إنّه لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك( ٣) .

«أو ما وزع» أي: أو ما كفّ، و يقال للكلب: «وازع» لأنّه يكفّ الذئب عن الغنم.

«الجهّال سابقتي» في الإسلام.

«عن تهمتي» في (خلفاء ابن قتيبة): ذكروا أنّ رجلا من همدان يقال له برد قدم على معاوية، فسمع عمرا يقع في عليّعليه‌السلام ، فقال له: يا عمرو، إنّ أشياخنا سمعوا النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و سلم يقول: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فحقّ ذلك أم باطل؟

فقال عمرو: حقّ، و أنا أزيدك أنّه ليس أحد من صحابة النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و سلم له مناقب مثل مناقب عليّ. ففزع الفتى، فقال عمرو: إنّه أفسدها بأمره في عثمان. فقال برد: هل أمر أو قتل؟ قال: لا، و لكنّه آوى و منع. قال: فهل بايعه الناس عليها؟

قال: نعم. قال: فما أخرجك من بيتعه؟ قال: اتّهامي إيّاه في عثمان. قال له: و أنت

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ٣٦٤ ٣٦٥، سنة ٣٥، و النقل بتلخيص.

(٢) أساس البلاغة: ٣٦٣، مادة (قرف)، و البيت هكذا:

إذا ما الحاسدون سعوا فشنّوا

فكم يبقى على القرف الإخاء

(٣) نقله عنه ابن أبي الحديد في شرحه ١٣: ٢٢٠.

١٤٠