بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 53930
تحميل: 4252


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53930 / تحميل: 4252
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 9

مؤلف:
العربية

أقول: قال ابن أبي الحديد: روى عوانة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبيّ: أنّ عثمان لمّا كثرت شكايته من عليّعليه‌السلام ، أقبل لا يدخل عليه أحد من أصحاب النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ شكاه إليه، فقال له زيد بن ثابت الأنصاري و كان من شيعته و خاصّته: أ فلا أمشي إليه فاخبره بموجدتك فيما يأتي إليك؟ قال:

بلى. فأتاه زيد و معه المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي و عداده في بني زهرة، و امّه عمّة عثمان في جماعة فدخلوا عليه.

ثمّ قال له زيد: إنّ اللّه قدّم لك سلفا صالحا في الإسلام، و جعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به، فأنت للخير كلّ الخير أهل، و عثمان ابن عمّك، و والي هذه الامّة، فله عليك حقّان: حقّ الولاية و حقّ القرابة و قد شكا إلينا أنّ عليّا يعرض لي، و يردّ عليّ أمري، و قد مشينا إليك نصيحة لك، و كراهية أن يقع بينك و بين ابن عمّك أمر نكرهه لكما.

فقال عليّعليه‌السلام : و اللّه ما احبّ الاعتراض، و لا الردّ عليه، إلاّ أن يأبى حقّا للّه لا يسعني أن أقول فيه إلاّ بالحقّ، و و اللّه لأكفنّ عنه ما وسعني الكفّ.

فقال المغيرة بن الأخنس و كان رجلا وقاحا، و كان من شيعة عثمان و خلصائه: إنّك و اللّه لتكفّنّ عنه أو لتكفّنّ فإنّه أقدر عليك منك عليه و إنّما أرسل هؤلاء القوم من المسلمين إعذارا [ إعزازا ] إليك ليكون له الحجّة عندهم عليك.

فقال له عليعليه‌السلام : يا بن اللعين الأبتر، و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع، أنت تكفّني؟ فو اللّه ما أعز اللّه امرأ أنت ناصره، اخرج أبعد اللّه نواك، ثمّ أجهد جهدك، فلا أبقى اللّه عليك و لا على أصحابك إن أبقيتم.

فقال زيد: إنّا و اللّه ما جئناك لنكون عليك شهودا، و لا ليكون مشينا [ ممشانا ] إليك حجّة، و لكن [ مشينا فيما بينكما ] التماس الأجر أن يصلح اللّه

٢٦١

ذات بينكما، ثمّ قام فقاموا معه( ١) .

قال ابن أبي الحديد: و هذا الخبر يدلّ على أنّ اللفظة «تكفّني» لا «تكفيني» كما ذكره الرضيّ، لكنّ الرضيّ طبّق هذه اللفظة على ما قبلها، و هو قوله: «أنا أكفيكه» و لا شبهة أنّه رواية اخرى( ٢) .

قلت: و رواه أعثم الكوفي في (تاريخه) مثل (ابن أبي الحديد) و زاد: أنّ الأصل في وقوع المشاجرة بين عليّعليه‌السلام و عثمان، أنّ عثمان أراد إخراج عمّار بعد أبي ذرّ إلى الربذة أيضا.

و مختصر روايته: أنّ عمّار لمّا سمع بوفاة أبي ذر في الربذة ترحّم عليه في حضور عثمان، فغضب و قال: ارسلوه إلى محل كان فيه أبو ذر. فقال له عمّار: مجاورة الكلاب و الخنازير أحبّ إليّ من جوارك.

و خرج من عنده و عزم عثمان على إخراجه، فاجتمع بنو مخزوم حلفاء عمّار إلى عليّعليه‌السلام و قالوا له: ضربه مرّة و فتقه اخرى، و الآن أراد إخراجه، فالق عثمان ينصرف عن هذا و إلاّ تكون فتنة. فدخل عليّعليه‌السلام على عثمان و قال له: أخرجت أبا ذر و هو من أجلّ الصحابة حتّى مات في الغربة، فانصرف وجوه المسلمين عنك و الآن أردت اخراج عمّار فاتّق اللّه. فغضب عثمان و قال:

يجب إخراجك أوّلا حتّى لا تجترى‏ء أمثال عمّار و فسادهم منك.

فقال له عليّعليه‌السلام : إنّك لا تقدر على ذلك، و فساد أمثال عمّار من أعمالك لا منّي، فأعمالك خلاف الدين فينكرون عليك. ثم خرج من عنده فاجتمع الناس إليه و قالوا: أراد عثمان أن يخرجنا جميعا حتّى نموت بعيدين من أهالينا.

فقالعليه‌السلام : قولوا لعمّار: لا يخرج من بيته. فاطمأن بنو مخزوم

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠٢ ٣٠٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠٣.

٢٦٢

باستظهارهعليه‌السلام ، و قالوا له: لو كنت معنا لم يقدر عثمان على إضرارنا. فبلغ ذلك إلى عثمان، فشكاهعليه‌السلام إلى الناس فقال له زيد بن ثابت: لو تأذن القى عليّا.

فخرج هو و المغيرة بن الأخنس إليهعليه‌السلام إلى آخر ما مرّ( ١) .

و تاريخ تأليف كتاب أعثم سنة (٢٠٤) كما صرّح به مترجمه المتوفى، و كلّ منهما عامّيّ( ٢) .

قول المصنّف: «و من كلام لهعليه‌السلام » اقتصر عليه في (المصرية)( ٣ ) ، مع أنّه قال المصنّف بعده: «و قد وقعت مشاجرة بينه و بين عثمان، فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان: أنا أكفيكه. فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام للمغيرة» كما يشهد له نقل (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٤ ) مع اختلاف يسير، و اخترنا لفظ ما في (ابن ميثم) لكون نسخته بخطّ المصنّف.

____________________

(١) الفتوح لابن أعثم الكوفي ١: ١٦، تحقيق سهيل زكار، دار الفكر، بيروت.

(٢) قال ياقوت في معجم الأدباء ٢: ٢٣٠ ٢٣١ ما لفظه: «أحمد بن أعثم الكوفي أبو محمّد الاخباريّ المؤرّخ، كان شيعيّا، و هو عند أصحاب الحديث ضعيف، و له كتاب التاريخ إلى آخر أيّام المقتدر، ابتدأه بأيام المأمون، و يوشك أن يكون ذيلا على الأوّل، رأيت الكتابين». و عدّ العلاّمة المجلسي رحمه اللّه في البحار ١: ٢٥ كتاب الفتوح من كتب تواريخ العامّة، و قال: و تاريخ الفتوح للأعثم الكوفي و تاريخ الطبري و... و قال حاجي خليفة في كشف الظنون في ذيل عنوان فتوحات الشام: و صنّف فيها أبو محمّد أحمد بن أعثم الكوفيّ و ترجمه أحمد بن محمّد المنوفيّ إلى الفارسية. و قال الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة ٣: ٢٢١: قال المنوفيّ في أوّل ترجمة «الفتوح»: «ذكر عندي كتاب الفتوح الذي ألّف سنة ٢٠٤» و هذا فيه غلط في تاريخ التأليف جزما، فإنّ ياقوت المعاصر للمترجم، لأنّه توفي سنة ٦٢٦، أخبر بأنّه رأى الكتابين: الفتوح المنتهي إلى عصر الرشيد، و التاريخ المنتهي فيه إلى أيّام المقتدر المقتول سنة ٣٢٠، و هما لأحمد بن أعثم. فمؤلّف هذا التاريخ كيف يكون تأليف فتوحه سنة ٢٠٤؟ فالظاهر أنّ المترجم بما أنّه لم يظفر بتاريخ ابن أعثم و إنّما ظفر بفتوحه فقط المنتهي إلى حدود سنة ٢٠٤، حسب ذلك تاريخ الفراغ لمؤلّفه و ترجمه الى الفارسية....

(٣) نهج البلاغة ٢: ٢٥.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠١، شرح ابن ميثم ٣: ١٦٣.

٢٦٣

ثمّ من مشاجراتهعليه‌السلام مع عثمان غير ما في المتن ما في (مروج المسعودي): أنّ عليّاعليه‌السلام لمّا رجع من تشييع أبي ذرّ استقبله الناس و قالوا له:

إنّ عثمان عليك غضبان لتشييعك لأبي ذرّ، فقالعليه‌السلام : غضب الخيل على اللّجم( ١ ) إلى أن قال: فقال له عثمان: أو لم يبلغك أنّي نهيت الناس عن تشييع أبي ذرّ؟ فقال له عليّعليه‌السلام : أو كلّ شي‏ء أمرتنا به نرى طاعة اللّه و الحقّ في خلافه اتّبعنا فيه أمرك؟ لا و اللّه. قال عثمان: أقد مروان إلى أن قال:

قال عثمان لهعليه‌السلام : فو اللّه ما أنت عندي بأفضل من مروان. فغضب عليعليه‌السلام و قال: ألي تقول هذا القول، و بمروان تعدلني؟ إلى أن قال: فلمّا كان من الغد و اجتمع الناس إلى عثمان شكا إليهم عليّاعليه‌السلام و قال: إنّه يعيبني و يظاهر من يعيبني يريد بذلك أبا ذرّ و عمّارا و غيرهما فدخل الناس بينهما، فقالعليه‌السلام : ما أردت بتشيع أبي ذرّ إلاّ اللّه( ٢) .

و ما في (تاريخ الثقفي) على ما في تقريب الحلبي عن عبد الرحمن بن معمّر عن أبيه قال: لمّا قدم بأبي ذرّ من الشام إلى عثمان كان ممّا أنّبه( ٣ ) عثمان به أن قال: أيّها النّاس، إنّه يقول: إنّه خير من أبي بكر و عمر. قال أبو ذرّ: أجل، أنا أقول و اللّه لقد رأيتني رابع أربعة من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما أسلم غيرنا، و ما أسلم أبو بكر و لا عمر، و لقد ولّيا و ما ولّيت.

فقال عليّعليه‌السلام : و اللّه لقد رأيته و إنّه لربع الإسلام. فردّ عثمان ذلك على عليعليه‌السلام ، و كان بينهما كلام، فقال عثمان: و اللّه لقد هممت بك. قال عليّعليه‌السلام :

____________________

(١) قال الميدانيّ في مجمع الأمثال ٢: ٥٦ ما لفظه: يضرب لمن يغضب غضبا لا ينتفع به، و لا موضع له، و نصب «غضب» على المصدر، أي: غضب غضب الخيل.

(٢) مروج الذهب ٢: ٣٥٠ ٣٥١، و نقله الشارح بتصرّف و تلخيص.

(٣) التأنيب: المبالغة في التوبيخ و التعنيف. النهاية ١: ٧٣، مادة (أنب).

٢٦٤

و أنا و اللّه لأهمّ بك. فقام عثمان و دخل بيته( ١) .

و نقل (ابن أبي الحديد) أيضا مقدارا من مشاجراته( ٢) .

هذا، و قالوا: كان اسم أبي المغيرة بن أخنس أبيّا، فلمّا خرجت قريش إلى بدر، و أتاهم الخبر عن أبي سفيان بسلامة العير، قال ابيّ لبني زهرة و كان حليفا لهم: ارجعوا. فرجعوا. فقيل: خنس بهم أبيّ، فسمّي الأخنس( ٣) .

قولهعليه‌السلام : «يا بن اللعين» قال ابن أبي الحديد: جعلعليه‌السلام أباه لعينا، لأنّه كان من أكابر المنافقين، ذكره أصحاب الحديث كلّهم في المؤلّفة الذين أسلموا يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم، و أعطاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غنائم حنين مائة من الإبل لتأليفه( ٤) .

قلت: و روى (أسباب نزول الواحدي): أنّ فيه نزل و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا و يشهد اللّه على ما في قلبه و هو ألدّ الخصام.

و إذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و اللّه لا يحبّ الفساد. و إذا قيل له اتّق اللّه أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنّم و لبِئسَ المِهاد( ٥) .

ففيه قال السّدي: أقبل الأخنس بن شريق الثقفي إلى المدينة فأظهر الإسلام، فأعجب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك منه، و قال الأخنس: إنّما جئت اريد الاسلام، و اللّه يعلم إنّي لصادق. ثمّ خرج من عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمرّ بزرع القوم من

____________________

(١) نقله عنه العلاّمة المجلسي رحمه اللّه في بحار الأنوار، ٨: ٣٣٧ ط الكمباني.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٤ ٢٥٥.

(٣) اسد الغابة ١: ٤٧ ٤٨، الإصابة ١: ٢٥.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠١.

(٥) أسباب النزول: ٣٩، و الآيات ٢٠٤ ٢٠٦ من سورة البقرة.

٢٦٥

المسلمين و حمر، فأحرق الزرع و عقر الحمر، فأنزل فيه تلك الآيات( ١) .

و منه يظهر قول ابن أبي الحديد: أسلم يوم الفتح( ٢) .

قال ابن أبي الحديد: و أبو الحكم بن الأخنس أخو المغيرة، قتله أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم احد كافرا في الحرب، و الحقد الذي في قلب المغيرة عليهعليه‌السلام من جهة أخيه هذا( ٣) .

قلت: و خرج ابنه عبد اللّه بن المغيرة، و ابن أخيه عبد اللّه بن أبي عثمان يوم الجمل عليهعليه‌السلام في الناكثين فقتلا( ٤) .

و في (إرشاد محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد): مرّ أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم الجمل في القتلى على عبد اللّه بن المغيرة، فقالعليه‌السلام : أمّا هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار، فخرج مغضبا لقتل أبيه و هو غلام حدث حيّن( ٥ ) لقتله.

ثمّ مرّعليه‌السلام بعبد اللّه بن أبي عثمان بن الأخنس، فقالعليه‌السلام : أمّا هذا فكأنّي أنظر إليه و قد أخذ القوم السيوف هاربا يعدو من الصفّ، فنهنهت عنه فلم يسمع من نهنهت فقتله( ٦) .

«الأبتر» قال ابن أبي الحديد: جعلعليه‌السلام أباه أبتر، لأنّ من كان عقبه ضالاّ خبيثا، فهو كمن لا عقب له، بل من لا عقب له خير منه( ٧) .

قلت: الأصل في كلامهعليه‌السلام قوله تعالى: إنّ شانِئكَ هوم الأبتر( ٨ ) نزل

____________________

(١) أسباب النزول: ٣٩.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠١.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠١.

(٤) الجمل للمفيد: ٣٩٣ ٣٩٤.

(٥) الحين بالفتح: الهلاك يقال: حان يحين حينا، و حيّنه اللّه فتحيّن. (لسان العرب ٣: ٤٢٣ ٤٢٤، مادة: حين).

(٦) الإرشاد ١: ٢٥٥ ٢٥٦، الجمل: ٣٩٣ ٣٩٤، بحار الأنوار ٣٢: ٢٠٨.

(٧) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠١.

(٨) الكوثر: ٣.

٢٦٦

في العاص أبي عمرو بن العاص.

و في (الأسباب) أيضا: تحدّث العاص مع النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند باب بني سهم، ثمّ دخل المسجد فقالت له قريش: من كنت تحدّث؟ قال ذاك الأبتر و قد كان ابنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خديجة مات، و كانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر فأنزل تعالى سورة الكوثر( ١) .

«و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع» قال ابن أبي الحديد: قالعليه‌السلام ذلك لكون المغيرة من ثقيف، و في نسب ثقيف طعن فهم يزعمون أنّهم من هوازن من قيس عيلان، و قيل: إنّهم من إياد بن نزار، و قيل: إنّهم من بقايا ثمود( ٢) .

و قال الحجّاج: يزعمون أنّا من بقايا ثمود و قد قال تعالى: و ثمودَ فما أبقى( ٣) .

قلت: و مع كونه بهذه المثابة من الخباثة افتعل له سيف الوضّاع خبرا في كون قاتله من أهل النّار( ٤ ) ، لكونه قتل مع عثمان يوم الدار( ٥) .

«أنت تكفيني؟ فو اللّه ما أعزّ اللّه من أنت ناصره» يعنيعليه‌السلام عثمان.

«و لا قام من أنت منهضه» أي: مقيمه، و ناهضة الرجل بنو أبيه الذين يغضبون له، هذا، و في (بلاغات أحمد بن أبي طاهر البغدادي): لمّا قتل عليّعليه‌السلام بعث معاوية في طلب شيعته، فكان في من طلب عمرو بن الحمق الخزاعي فراغ منه فأرسل إلى امرأته فحبسها في سجن دمشق سنتين، ثم إنّ عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض بلاد الجزيرة، فقتله

____________________

(١) أسباب النزول: ٣٠٦ ٣٠٧.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠٣ ٣٠٥.

(٣) المصدر نفسه ٨: ٣٠٦، و الآية ٥١ من سورة النجم.

(٤) تاريخ الطبري ٤: ٣٩٠، سنة ٣٥.

(٥) تاريخ الطبري ٤: ٣٨٢، سنة ٣٥، شرح ابن أبي الحديد ٨: ٣٠٦.

٢٦٧

و بعث برأسه إلى معاوية و هو أول رأس حمل في الإسلام فبعث معاوية بالرأس إلى امرأته في السجن إلى أن قال: فسمعها الاسلع الهلالي، و كان رجلا أسود أصلع أصعل، تذكر معاوية فقال: من تعني هذه عليها لعنة اللّه.

فالتفتت إليه، فلمّا رأته قالت: خزيا لك و جدعا، أ تلعنني و اللعن بين جنبيك، و ما بين قرنك إلى قدميك، اخسأ يا هامة الصعل و وجه الجعل، فأذلل بك نصيرا و اقلل بك نصيرا. فبهت الاسلع منها و اعتذر إليها( ١) .

و في (كنايات الجرجاني) قال أبو حيان: رأيت أبا حامد في مجلس ابن أمّ شيبان يناظر خصما له، فابتدر أبو جعفر الأبهري ليتكلّم مداخلا، فأنشد أبو حامد:

فإن تك قيس قدمتك لنصرها

فقد خزيت قيس و ذلّ نصيرها( ٢)

«اخرج عنّا أبعد اللّه نواك» في (الصحاح): النوى: الوجه الذي ينويه المسافر من قرب أو بعد و هي مؤنّثة( ٣) .

«ثمّ ابلغ جهدك» في (الصحاح): قال الفرّاء: الجهد بالضمّ الطاقة، و بالفتح من قولك: اجهد جهدك في هذا الأمر، أي: ابلغ غايتك و المراد فيما تستطيع من الإيذاء و الإضرار( ٤) .

«فلا أبقى اللّه عليك إن أبقيت» شيئا ممّا يأتي من يديك. و قد قالعليه‌السلام نظير هذا الكلام لحبيب بن مسلمة الفهريّ لمّا بعثه معاوية إليهعليه‌السلام في صفّين ففي (الطبري): أنّ حبيبا قال لهعليه‌السلام : كان عثمان خليفة مهديّا، يعمل بكتاب اللّه، و ينيب إلى أمر اللّه، فاستثقلتم حياته، و استبطأتم وفاته، فعدوتم عليه

____________________

(١) بلاغات النساء لابن أبي طاهر البغدادي: ٨٧، دار النهضة الحديثة، بيروت.

(٢) الكنايات للجرجاني: ١٠٠، مطبعة السعادة، مصر.

(٣) الصحاح ٦: ٢٥١٦، مادة (نوى).

(٤) المصدر نفسه ٢: ٤٦٠، مادة (جهد).

٢٦٨

فقتلتموه فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنّك لم تقتله نقتلهم به، ثمّ اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولّي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم.

فقالعليه‌السلام له: و ما أنت لا أمّ لك و هذا الأمر؟ اسكت فإنّك لست هنا لك و لا بأهل له فقام و قال: و اللّه لترينّي بحيث تكره. فقالعليه‌السلام : و ما أنت، و لو أجلبت بخيلك و رجلك؟ لا أبقى اللّه عليك إن أبقيت عليّ أحقرة و سوءا؟ اذهب فصوّب و اصعد [ صعّد ] ما بدا لك( ١) .

٢٦٩

١١ - الخطبة (١٣٠) و من كلام لهعليه‌السلام لأبي ذرّ رحمه اللّه لما اخرج إلى الرّبذة:

يَا؟ أَبَا ذَرٍّ؟ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ إِنَّ اَلْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ وَ اُهْرُبْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ وَ مَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ وَ سَتَعْلَمُ مَنِ اَلرَّابِحُ غَداً وَ اَلْأَكْثَرُ حُسَّداً وَ لَوْ أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرَضِ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً ثُمَّ اِتَّقَى اَللَّهَ لَجَعَلَ اَللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ اَلْحَقُّ وَ لاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ اَلْبَاطِلُ فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ أقول: قال ابن أبي الحديد: روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في (سقيفته) عن عبد الرزّاق، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال: لمّا أخرج أبو ذرّ إلى الربذة أمر عثمان، فنودي في الناس أن لا يكلّم أحد أبا ذرّ، و لا يشيّعه. و أمر مروان أن يخرج به فخرج به، و تحاماه الناس إلاّ عليّ بن

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٧، سنة ٣٧.

٢٧٠

أبي طالبعليه‌السلام و عقيلا أخاه، و الحسن و الحسين عليهما السلام و عمّارا، فإنّهم خرجوا معه يشيّعونه، فجعل الحسنعليه‌السلام يكلّم أبا ذرّ، فقال له مروان: ألا تعلم أنّ الخليفة قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت لا تعلم ذلك فاعلم. فحمل عليّعليه‌السلام على مروان بالسوط بين اذني راحلته، و قال له: تنحّ نحّاك [ لحاك ] اللّه إلى النّار فرجع مروان مغضبا إلى عثمان، فأخبره الخبر، فتلظّى على عليّعليه‌السلام . و وقف أبو ذرّ فودّعه القوم، و معه ذكوان مولى امّ هاني بنت أبي طالب.

قال ذكوان: فحفظت كلام القوم و كان حافظا فقال له عليّ: يا أبا ذرّ، إنّك غضبت للّه. أنّ القوم خافوك على دنياهم، و خفتهم على دينك، فامتحنوك بالقلى، و نفوك إلى الغلى [ الفلا ]، لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا، ثمّ اتّقى اللّه لجعل اللّه له منها مخارجا. يا أبا ذرّ لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ، و لا يوحشنّك إلاّ الباطل.

ثمّ قال لأصحابه: ودّعوا عمّكم. و قال لعقيل: ودّع أخاك. فتكلّم عقيل، فقال: ما عسى أن نقول يا أبا ذرّ و أنت تعلم أنّا نحبّك، و أنت تحبّنا، و اتّق اللّه فإنّ التقوى نجاة، و اصبر فإنّ الصبر كرم، و اعلم أنّ استثقالك الصبر من الجزع، و استبطاءك العافية من اليأس، فدع اليأس و الجزع.

ثمّ تكلّم الحسنعليه‌السلام فقال: يا عمّاه لو لا أنّه لا ينبغي للمودّع أن يسكت.

و [ لا بدّ ظ ] للمشيّع أن ينصرف، لقصر الكلام و إن طال الأسف، و قد أتى القوم إليك ما ترى، فضع عنك [ همّ ظ ] الدنيا بتذكّر فراقها، و شدّه ما اشتدّ منها برخاء [ برجاء ] ما بعدها، و اصبر حتّى تلقى نبيّك و هو عنك راض.

ثمّ تكلّم الحسينعليه‌السلام فقال: يا عمّاه، إنّ اللّه تعالى قادر على أن يغيّر ما ترى، و اللّه كلّ يوم هو في شأن، و قد منعك القوم دنياهم، و منعتهم دينك،

٢٧١

فما أغناك عمّا منعوك، و أحوجهم إلى ما منعتهم، فاسأل اللّه تعالى الصبر و النصر، و استعذ به من الجشع و الجزع، فإنّ الصبر من الدين و الكرم، و إنّ الجشع لا يقدّم رزقا، و الجزع لا يؤخّر أجلا.

ثمّ تكلّم عمّاررضي‌الله‌عنه مغضبا فقال: لا آنس اللّه من أوحشك، و لا آمن من أخافك. أما و اللّه لو أردت دنياهم لأمّنوك، و لو رضيت أعمالهم لأحبّوك، و ما منع الناس أن يقولوا بقولك إلاّ الرضا بالدنيا، و الجزع من الموت، و مالوا إلى سلطان جماعتهم عليه، و الملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم، و منحهم القوم دنياهم، فخسروا و الدّنيا و الآخرة، و ذلك هو الخسران المبين.

فبكى أبو ذرّ و كان شيخا كبيرا، و قال: رحمكم اللّه يا أهل بيت الرحمة إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مالي بالمدينة سكن و لا شجن( ١ ) غيركم، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشام، و كره أن أجاور أخاه و ابن خاله بالمصرين، فافسد الناس عليهما، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر و لا دافع إلاّ اللّه، و اللّه ما اريد إلاّ اللّه صاحبا، و ما أخشى مع اللّه وحشة.

ثمّ رجعوا إلى المدينة، فقال عثمان لعليّعليه‌السلام : ما حملك على ردّ رسولي، و تصغير أمري؟ فقال: أمّا رسولك، فأراد أن يردّ وجهي فرددته. قال: أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذرّ؟ قال: أو كلّما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه؟ قال: أقد مروان. قال: ممّ؟ قال: من شتمه و جذب راحلته. قال: أمّا راحلته فراحلتي بها، و أما شتمه إيّاي، فو اللّه لا شتمني شتمة إلاّ شتمتك مثلها، و لا أكذب عليك.

فغضب عثمان، و قال: لم لا يشتمك، كأنّك خير منه؟ قال عليّعليه‌السلام : أي و اللّه و منك. ثمّ قام فخرج إلى أن قال: فقالت قريش و بنو اميّة لمروان: أ أنت

____________________

(١) الشجن بفتحتين: الحاجة (المصباح المنير ١: ٣٦٨، مادة: شجن).

٢٧٢

رجل جبهك علي، و ضرب راحلتك، و قد تفانت وائل في ضرع ناقة، و ذبيان و عبس في فرس، و الأوس و الخزرج في نسعة أ فتحمل لعليّ ما أتاه إليك؟

فقال مروان: و اللّه لو أردت ذلك لما قدرت عليه( ١) .

قلت: و رواه محمّد بن يعقوب في (روضته) عن عدّة من أصحابه، عن سهل الآدميّ، عن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن حفص التميمي، عن أبي جعفر الخثعميّ قال: لمّا سيّر عثمان أبا ذرّ إلى الربذة شيّعه أمير المؤمنينعليه‌السلام و عقيل و الحسنانعليهما‌السلام و عمّار، فلمّا كان عند الوداع قالعليه‌السلام له: يا أبا ذرّ، إنّما غضبت للّه عزّ و جلّ، فارج من غضبت له، إنّ القوم خافوك على دنياهم، و خفتهم على دينك، فأرحلوك عن الفناء و امتحنوك بالبلاء و و اللّه لو كان السماوات و الأرض على عبد رتقا ثمّ اتّقى اللّه جعل اللّه له منها مخرجا، فلا يؤنسنّك [ يونسك ] إلاّ الحقّ، و لا يوحشنّك [ يوحشك ] إلاّ الباطل.

ثمّ تكلّم عقيل فقال: يا أبا ذرّ، أنت تعلم أنّا نحبّك، و نحن نعلم أنّك تحبّنا، فإنّك قد حفظت منّا [ فينا ] ما ضيّع الناس إلاّ القليل، فثوابك على اللّه عزّ و جلّ، و لذلك أخرجك المخرجون و سيّرك المسيّرون، فاتّق اللّه، و اعلم أنّ استثقالك [ استعفاءك ] البلاء من الجزع، و استبطاءك العافية من اليأس، فدع اليأس و الجزع و قل: حسبي اللّه و نعم الوكيل.

ثمّ تكلّم الحسنعليه‌السلام فقال: يا عمّاه، إنّ القوم قد أتوا إليك ما ترى، و إنّ اللّه عزّ و جلّ بالمنظر الأعلى، فدع عنك ذكر الدّنيا بذكر فراقها، و شدّة ما يرد عليك لرخاء ما بعدها، و اصبر حتّى تلقى نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو عنك راض.

ثمّ تكلّم الحسينعليه‌السلام فقال: يا عمّاه، إنّ اللّه تعالى قادر على أن يغيّر ما ترى و هو كلّ يوم في شأن، إنّ القوم منعوك دنياهم، و منعتهم دينك، فما

____________________

(١) السقيفة و فدك: ٧٦ ٧٩. شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٢ ٢٥٥، و نقله الشارح بتصرّف و تلخيص.

٢٧٣

أغناك عمّا منعوك، و ما أحوجهم إلى ما منعتهم، فعليك بالصبر و إنّ الخير في الصبر، و الصبر من الكرم، و دع الجزع فإنّ الجزع لا يغنيك.

ثمّ تكلّم عمّاررضي‌الله‌عنه فقال: يا أبا ذرّ، أوحش اللّه من أوحشك، و أخاف من أخافك، إنّه و اللّه ما منع الناس أن يقولوا الحقّ إلاّ الركون إلى الدّنيا و الحبّ لها، ألا إنّما الطاعة مع الجماعة، و الملك لمن غلب عليه، و إنّ هؤلاء القوم دعوا الناس إلى دنياهم فأجابوهم إليها، و وهبوا لهم دينهم فخسروا الدّنيا و الآخرة و ذلك هو الخسران المبين.

ثمّ تكلّم أبو ذرّ فقال: عليكم منّي السلام و رحمة اللّه و بركاته، بأبي و امّي هذه الوجوه فإنّي إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و مالي بالمدينة شجن و لا سكن غيركم، و إنّه ثقل على عثمان جواري بالمدينة كما ثقل على معاوية بالشام، فآلى أن يسيّرني إلى بلدة، فطلبت إليه أن يكون ذلك إلى الكوفة، فزعم أنّه يخاف أن افسد على أخيه الناس بالكوفة، و آلى باللّه أن يسيّرني إلى بلدة لا أرى بها أنيسا و لا أسمع لها حسيسا( ١ ) ، و إنّي و اللّه ما اريد إلاّ اللّه عزّ و جلّ صاحبا و مالي مع اللّه وحشة حسبي اللّه لا إله إلاّ هو عليه توكّلت و هو ربّ العرش العظيم( ٢) .

قول المصنّف: «و من كلام لهعليه‌السلام لأبي ذرّرضي‌الله‌عنه لمّا خرج» هكذا في (المصرية)( ٣ ) ، و الصواب: «لمّا اخرج» كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ٤) ، و أيضا لم يخرج هو بل اخرج كما عرفت و تعرف.

«إلى الربذة» في (المعجم): الربذة من قرى المدينة على ثلاثة أميال

____________________

(١) الحسيس: الصوت الخفيّ. (المصباح المنير ١: ١٦٦، مادة: حسس).

(٢) الكافي ٨: ٢٠٦ ٢٠٨، و الآية ١٢٩ من سورة التوبة.

(٣) نهج البلاغة ٢: ١٧.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٢، شرح ابن ميثم ٣: ١٤٥.

٢٧٤

[ إيام ]، قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت في فيد تريد مكة، و بها قبر ابي ذر( ١) .

قال ابن أبي الحديد: اعلم أنّ الذي عليه أكثر أرباب السيرة و علماء الأخبار و النقل، أنّ عثمان نفى أبا ذرّ أوّلا إلى الشام، ثمّ استقدمه إلى المدينة لمّا شكا منه معاوية، ثمّ نفاه من المدينة إلى الربذة لمّا عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام.

و أصل هذه الواقعة أنّ عثمان لمّا أعطى مروان بن الحكم و غيره بيوت الأموال، و اختصّ زيد بن ثابت بشي‏ء منها، جعل أبو ذرّ يقول بين الناس و في الطرقات و الشوارع: بشّر الكافرين بعذاب أليم، و يرفع بذلك صوته، و يتلو قوله تعالى:... و الّذين يكنزون الذّهب و الفضّة و لا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذاب أليم( ٢ ) ، فرفع ذلك إلى عثمان مرارا و هو ساكت.

ثمّ إنّه أرسل إليه مولى من مواليه: أن انته عمّا بلغني عنك. فقال أبو ذرّ:

أينهاني عثمان عن قراءة كتاب اللّه؟ فو اللّه لأنّ أرضي اللّه بسخط عثمان أحبّ إليّ من أن اسخط اللّه برضا عثمان.

فأغضب عثمان ذلك و أحفظه، فتصابر و تمالك [ تماسك ] إلى أن قال عثمان يوما، و الناس حوله: أ يجوز للإمام أن يأخذ من بيت المال شيئا قرضا، فإذا أيسر قضى؟

فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذرّ: يا بن اليهوديّين، أ تعلّمنا ديننا فقال عثمان: قد كثر أذاك لي، و تولّعك بأصحابي، الحق بالشام. فأخرجه إليها.

____________________

(١) معجم البلدان ٣: ٢٤.

(٢) التوبة: ٣٤.

٢٧٥

فكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار، فقال أبو ذرّ لرسوله: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها، و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها، و ردّها عليه.

ثمّ بنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال أبو ذرّ: يا معاوية، إن كانت هذه من مال اللّه فهي الخيانة، و إن كانت من مالك فهي الإسراف. و كان أبو ذرّ يقول بالشام: و اللّه لقد حدثت أعمال ما أعرفها، و اللّه ما هي في كتاب اللّه و لا سنّة نبيّه، و اللّه إنّي لأرى حقّا يطفأ و باطلا يحيا، و صادقا مكذّبا، و إمرة [ أثرة ] بغير تقى، و صالحا مستأثرا عليه.

فقال حبيب بن مسلمة الفهريّ لمعاوية: إنّ أبا ذرّ لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجة( ١) .

و قال ابن أبي الحديد أيضا: روى شيخنا الجاحظ في (سفيانيّته) عن جلاّم بن جندل الغفاريّ، قال: كنت عاملا [ غلاما ] لمعاوية على قنّسرين و العواصم في خلافة عثمان، فجئت إليه يوما أسأله عن حال عملي إذ سمعت صارخا على باب داره يقول: أتتكم القطار تحمل [ بحمل ] النار، اللهمّ العن الآمرين بالمعروف، التاركين له، اللهمّ العن الناهين عن المنكر المرتكبين له.

فازبأرّ( ٢ ) معاوية و تغيّر لونه و قال: يا جلاّم، أ تعرف الصارخ؟ قلت: لا.

قال: من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كلّ يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ثمّ قال: أدخلوه. فجي‏ء بأبي ذرّ بين قوم يقودونه، حتّى وقف بين يديه، فقال له معاوية: يا عدوّ اللّه و عدوّ رسوله تأتينا كلّ يوم فتصنع ما تصنع، أما إنّي لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمّد من غير إذن عثمان

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٥ ٢٥٧.

(٢) ازبأرّ الرجل: اقشعرّ. (لسان العرب ٦: ١٣، مادة: زبر).

٢٧٦

لقتلتك، و لكنّي أستأذن فيك.

قال جلاّم: و كنت احبّ أن أرى أبا ذرّ، لأنّه رجل من قومي، فالتفتّ إليه فإذا رجل أسمر ضرب( ١ ) من الرجال، خفيف العارضين، في ظهره حنى [ جنأ ]، فأقبل على معاوية و قال: ما أنا بعدوّ للّه و لا لرسوله، بل أنت و أبوك عدوّان للّه و لرسوله، أظهرتما الإسلام و أبطنتما الكفر، و لقد لعنك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و دعا عليك مرّات أن لا تشبع، و سمعته يقول: «إذا ولي الامة الأعين الواسع البلعوم، الذي يأكل و لا يشبع، فلتأخذ الامّة حذرها منه».

فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذرّ: بل أنت ذلك، أخبرني بذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و سمعته يقول و قد مررت به: «اللهمّ العنه و لا تشبعه إلاّ بالتراب»، و سمعته يقول: «است( ٢ ) معاوية في النار». فضحك معاوية و أمر بحبسه، و كتب إلى عثمان فيه. فكتب عثمان إليه: «أن احمل جندبا على أغلظ مركب و أوعره». فوجّه به من سار به الليل و النّهار، و حمله على شارف( ٣ ) ليس عليها إلاّ قتب، حتّى قدم به المدينة، و قد سقط لحم فخذيه من الجهد. فلمّا قدم بعث إليه عثمان أن الحق بأيّ أرض شئت. قال: بمكّة؟ قال: لا. قال: بيت المقدس؟ قال: لا. قال: بأحد المصرين؟ قال: لا، و لكنّي مسيّرك إلى الربذة.

فسيّره إليها، فلم يزل بها حتّى مات.

قال: و في رواية الواقديّ: أنّ أبا ذرّ لمّا دخل على عثمان قال له:

____________________

(١) الضرب: الرجل الخفيف اللحم. قال طرفة:

أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه

خشاش كرأس الحيّة المتوقّد

 (الصحاح ١: ١٦٨، مادة: ضرب).

(٢) الاست: العجز. و قد يراد به حلقة الدبر، و أصلها سته على فعل بالتحريك، يدلّ على ذلك أنّ جمعه أستاه، مثل جمل و أجمال. (الصحاح ٦: ٢٢٣٣، مادة: سته).

(٣) ناقة شارف: عالية السنّ. (أساس البلاغة: ٢٣٣، مادة: شرف).

٢٧٧

لا أنعم اللّه بقين عينا

نعم و لا لقّاه يوما زينا

تحيّة السّخط إذا التقينا

فقال أبو ذرّ: ما عرفت اسمي «قينا». و في رواية اخرى، قال: لا أنعم اللّه بك عينا يا جنيدب فقال: أنا جندب، و سمّاني النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد اللّه، فاخترت اسمه الذي سمّاني به على اسمي. فقال له عثمان: أنت الذي تزعم أنّا نقول:

يد اللّه مغلولة( ١ ) و إنّ اللّه فقير و نحن أغنياء( ٢ ) ؟ فقال أبو ذرّ: لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال اللّه على عباده و لكنّي أشهد أنّي سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا، جعلوا مال اللّه دولا و عباده خولا».

فقال عثمان لمن حضر: أسمعتموها من النبيّ؟ قالوا: لا. قال عثمان:

ويلك يا أبا ذرّ أ تكذب على النّبيّ؟ فقال أبو ذرّ لمن حضر: أما تدرون أنّي صدقت قالوا: لا و اللّه ما ندري. فقال عثمان: ادعوا لي عليّا. فلمّا جاء فقال عثمان لأبي ذرّ: اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص. فأعاده، فقال عثمان لعليّعليه‌السلام : أ سمعت هذا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: لا، و قد صدق أبو ذرّ. قال عثمان:

كيف عرفت صدقه؟ قال: لأنّي سمعت النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «ما أظلّت الخضراء، و لا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ». فقال من حضر: أمّا هذا، فسمعناه كلّنا من النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال أبو ذرّ: احدّثكم أنّي سمعت هذا من النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتتّهموني ما كنت أظنّ أنّي أعيش حتّى أسمع هذا من أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( ٣) .

و قال ابن أبي الحديد: و روى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن

____________________

(١) المائدة: ٦٤.

(٢) آل عمران: ١٨١.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٧ ٢٥٩.

٢٧٨

صبهان، مولى الأسلميّين، قال: رأيت أبا ذرّ يوم دخل به على عثمان، فقال له:

أنت الذي فعلت و فعلت فقال أبو ذرّ: نصحتك فغششتني، و نصحت صاحبك فاستغشّني قال عثمان: كذبت و لكنّك تريد الفتنة و تحبّها، قد أنغلت( ١ ) الشام علينا. فقال له أبو ذرّ: اتّبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام.

فقال له عثمان: مالك و ذلك لا امّ لك قال أبو ذرّ: ما وجدت عذرا لي إلاّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فغضب عثمان و قال: أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب اضربه، أو أحبسه، أو اقتله، فإنّه فرّق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الإسلام.

فتكلّم عليّعليه‌السلام و كان حاضرا فقال: اشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون:... و إن يَكُ كاذِباً فعليه كذبُهُ و إن يكُ صادِقاً يُصِبكم بعض الذي يَعِدكُم إنّ اللّه لا يهدي من هو مسرفٌ كذّابٌ( ٢ ) فأجابه عثمان بجواب غليظ، و أجابه عليّعليه‌السلام بمثله، و لم يذكر الجوابين تذمّما منهما( ٣) .

قلت: ذكر إبراهيم الثقفي الجوابين و هما: أنّ عثمان قال لهعليه‌السلام : بفيك التراب فقالعليه‌السلام له: بل بفيك( ٤) .

و قال ابن أبي الحديد: قال الواقدي: ثمّ إنّ عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذرّ، أو يكلّموه. فمكث كذلك أيّاما ثمّ أتى به فوقف بين يديه، فقال أبو ذر: ويحك يا عثمان أما رأيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رأيت أبا بكر و عمر هل هديك كهديهم؟ أما إنّك لتبطش بي بطش جبّار [ عنيد ].

فقال عثمان: اخرج عنّا. قال أبو ذرّ: فما أبغض إليّ جوارك فإلى أين

____________________

(١) أنغلهم حديثا سمعه: ثمّ إليهم به، و النغل: الإفساد بين القوم و النميمة. (لسان العرب ١٤: ٢٢٢، مادة: نغل).

(٢) غافر: ٢٨.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٩.

(٤) بحار الأنوار ٨: ٣٢٤ ط الكمباني، عن تقريب المعارف.

٢٧٩

أخرج؟ قال: حيث شئت. قال: أخرج إلى الشام أرض الجهاد؟ قال: إنّما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها، أ فأردّك إليها؟ قال: فأخرج إلى العراق. قال: لا، إنّك إن تخرج إليها تقدم على قوم اولى شبه و طعن على الأئمّة و الولاة، اخرج إلى البادية. قال: أصير أعرابيّا بعد الهجرة؟ قال: نعم. قال أبو ذرّ: فاخرج إلى بادية نجد. قال: لا تعدونّ الربذة( ١) .

و قال: و روى الواقدي أيضا عن مالك بن أبي الرجال، عن موسى بن ميسرة: أنّ أبا الأسود الدؤلي قال: كنت احبّ لقاء أبي ذرّ لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة، فجئته فقلت له: ألا تخبرني، أخرجت من المدينة طائعا، أم أخرجت كرها؟ فقال: كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم، فاخرجت إلى المدينة، فقلت: دار هجرتي و أصحابي. فأخرجت من المدينة إلى ما ترى.

ثمّ قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ مرّ بي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضربني برجله و قال: لا أراك نائما في المسجد. فقلت: بأبي أنت و أمّي غلبتني عيني، فنمت فيه. قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: آخذ سيفي فأضربهم به. فقال: ألا أدلّك على خير من ذلك؟ انسق معهم حيث ساقوك، و تسمع و تطيع. فسمعت و أطعت، و اللّه ليلقينّ اللّه عثمان و هو آثم في جنبي( ٢) .

قلت: و روى الثقفيّ في (تاريخه) كما في (تقريب الحلبيّ) كثيرا ممّا رواه الواقدي( ٣) .

و روى أيضا: أنّ أبا الدرداء و صاحبا له لقيا رجلا شهدا الجمعة عند معاوية بالجابية، فقال الرجل: خبر كرهت أن اخبركما به. فقال أبو الدرداء:

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٥٩ ٢٦٠.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٨: ٢٦٠ ٢٦١.

(٣) نقله عنه العلاّمة المجلسي رحمه اللّه في بحار الأنوار، ٨: ٣٣٦ ٣٣٨ ط الكمباني.

٢٨٠