بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 53932
تحميل: 4252


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53932 / تحميل: 4252
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 9

مؤلف:
العربية

أقول: قال ابن أبي الحديد: و أوّله أمّا بعد، فإنّ الدّنيا حلوة خضره ذات زينة و بهجة، لم يصب إليها أحد إلاّ و شغلته بزينتها عمّا هو أنفع له منها، و بالآخرة امرنا و عليها حثثنا فدع يا معاوية ما يفنى و اعمل لما يبقى، و احذر الموت الذي إليه مصيرك، و الحساب الذي إليه عاقبتك.

و اعلم أنّ اللّه تعالى إذا أراد بعبد خيرا حال بينه و بين ما يكره، و وفّقه لطاعته، و إذا أراد اللّه بعبد سوءا أغراه بالدنيا، و أنساه الآخرة و بسط له أمله، و عاقة عمّا فيه صلاحه. و قد وصلني كتابك فوجدتك ترمي فيه غير غرضك، و تنشد غير ضالّتك، و تخبط في عماية، و تتيه في ضلالة، و تعتصم بغير حجّة، و تلوذ بأضعف شبهة. فأمّا سؤالك المتاركة و الإقرار لك على الشام، فلو كنت فاعلا ذلك اليوم لفعلته أمس. و أمّا قولك: إنّ عمر ولاّكه فقد عزل من كان ولاّه صاحبه، و عزل عثمان من كان عمر ولاّه، و لم ينصب للناس إمام إلاّ ليرى من صلاح الامّة، ما قد كان ظهر لمن قبله و اخفي عنهم عيبه، و الأمر يحدث بعده الأمر، و لكل وال رأي و اجتهاد، فسبحان اللّه...( ١) .

«فسبحان اللّه ما أشدّ لزومك للأهواء المبتدعة» كإقراره على الشام، لأن عمر ولاّه.

«و الحيرة المتعبة» هكذا في (المصرية)( ٢ ) ، و لكن في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم( ٣ ) و الخطية): «المتبعة».

«مع تضييع الحقايق» بأنّ للوالي أن يعمل بما يراه صلاحا، حتى إنّ عمر أوّل ساعة خلافته عزل خالد بن الوليد، الذي فوّض أبو بكر اموره إليه و جعله

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٥٣ ١٥٤.

(٢) نهج البلاغة ٣: ٦٩.

(٣) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٥٣، و شرح ابن ميثم ٥: ٨٠.

٤٢١

أمير امرائه، لأنّ عمر رأى: أنّ خالدا قتل مسلما، و هو مالك بن نويرة لحقد له معه، و زنا مع امرأته في أيّام أبي بكر، و أغضى أبو بكر منه.

«و اطراح الوثائق التي هي للّه طلبة و على عباده حجّة» و تلك الوثائق وجوب إطاعة الإمام، قال تعالى... أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول و اولي الأمر منكم...( ١) .

«فأمّا إكثارك الحجاج» أي: المحاجة.

«في عثمان و قتلته فإنّك إنّما نصرت عثمان حيث كان النصر لك و خذلته حيث كان النصر له» قال ابن أبي الحديد: روى البلاذري: أنّ عثمان لما أرسل الى معاوية يستمده، بعث معاوية يزيد بن أسد القسري جدّ خالد بن عبد اللّه القسري، أمير العراق و قال له: إذا أتيت ذا خشب فأقم بها و لا تتجاوزها، و لا تقل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فإنّني أنا الشاهد و أنت الغايب. فأقام بذي خشب حتى قتل عثمان، فاستقدمه فعاد بالجيش الذي كان أرسل معه، و إنّما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان فيدعوا إلى نفسه.

و كتب معاوية عند صلح الحسنعليه‌السلام له كتابا إلى ابن عباس يدعوه فيه إلى بيعته، و يقول له فيه: و لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك للّه رضى، و أن يكون رأيا صوابا، فإنّك من الساعين على عثمان و الخاذلين له، و السافكين دمه، و ما جرى بيني و بنيك صلح فيمنعك منّي و لا بيدك أمان.

فكتب إليه ابن عباس جوابا طويلا، يقول فيه: و أما قولك: إنّي من الساعين عليه و الخاذلين له و السافكين دمه، و ما جرى بيني و بينك صلح فيمنعك مني.

فأقسم باللّه لأنت المتربّص بقتله، و المحبّ لهلاكه، و الحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره، و لقد أتاك كتابه و صريخه يستغيث بك و يستصرخ فما

____________________

(١) النساء: ٥٩.

٤٢٢

حفلت به، حتى بعثت إليه معذرا بآخره، أنت تعلم أنّهم لن يتركوك حتى تقتل، فقتل كما كنت أردت، ثمّ علمت عند ذلك أنّ الناس لن يعدلوا بيننا و بينك، فطفقت تنعي عثمان و تلزمنا دمه و تقول: قتل مظلوما. فإن يك قتل مظلوما فأنت أظلم الظالمين، ثم لم تزل مصوبا و مصعدا و حائما و رابضا، تستغوي الجهّال، و تنازعنا حقّنا بالسفهاء، حتى أدركت ما طلبت و إن أدري لعلّه فتنة لكم و متاع إلى حين( ١) .

و في (خلفاء ابن قتيبة): كتب معاوية إلى محمّد بن مسلمة الأنصاري: فهلاّ نهيت أهل الصلاة عن قتل بعضهم بعضا، أو ترى أنّ عثمان و أهل الدار ليسوا بمسلمين؟ عصيتم اللّه و خذلتم عثمان.

فكتب إليه محمّد بن مسلمة: لعمري يا معاوية ما طلبت إلاّ الدّنيا، و لا اتبعت إلاّ الهوى، و لئن كنت نصرت عثمان ميّتا لقد خذلته حيّا( ٢) .

«و السلام» ليس في (ابن ميثم)( ٣) .

٢٢ - في الكتاب (٦٢) إِنِّي وَ اَللَّهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وَ هُمْ طِلاَعُ اَلْأَرْضِ كُلِّهَا مَا بَالَيْتُ وَ لاَ اِسْتَوْحَشْتُ وَ إِنِّي مِنْ ضَلاَلِهِمُ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ وَ اَلْهُدَى اَلَّذِي أَنَا عَلَيْهِ لَعَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ نَفْسِي وَ يَقِينٍ مِنْ رَبِّي وَ إِنِّي إِلَى لِقَاءِ اَللَّهِ لَمُشْتَاقٌ وَ بِحُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاجٍ وَ لَكِنَّي آسَى أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَ فُجَّارُهَا فَيَتَّخِذُوا مَالَ اَللَّهِ دُوَلاً وَ عِبَادَهُ خَوَلاً وَ اَلصَّالِحِينَ

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٦: ١٥٤ ١٥٥، و الآية ١١١ من سورة الأنبياء.

(٢) الإمامة و السياسة ١: ١٠٠ ١٠١.

(٣) شرح ابن ميثم ٥: ٨١.

٤٢٣

حَرْباً وَ اَلْفَاسِقِينَ حِزْباً فَإِنَّ مِنْهُمُ اَلَّذِي قَدْ شَرِبَ فِيكُمُ اَلْحَرَامَ وَ جُلِدَ حَدّاً فِي اَلْإِسْلاَمِ وَ إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ لَهُ عَلَى اَلْإِسْلاَمِ اَلرَّضَائِخُ فَلَوْ لاَ ذَلِكَ مَا أَكْثَرْتُ تَأْلِيبَكُمْ وَ تَأْنِيبَكُمْ وَ جَمْعَكُمْ وَ تَحْرِيضَكُمْ وَ لَتَرَكْتُكُمْ إِذْ أَبَيْتُمْ وَ وَنَيْتُمْ أَ لاَ تَرَوْنَ إِلَى أَطْرَافِكُمْ قَدِ اِنْتَقَضَتْ وَ إِلَى أَمْصَارِكُمْ قَدِ اُفْتُتِحَتْ وَ إِلَى مَمَالِكِكُمْ تُزْوَى وَ إِلَى بِلاَدِكُمْ تُغْزَى اِنْفِرُوا رَحِمَكُمُ اَللَّهُ إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ وَ لاَ تَثَّاقَلُوا إِلَى اَلْأَرْضِ فَتُقِرُّوا بِالْخَسْفِ وَ تَبُوءُوا بِالذُّلِّ وَ يَكُونَ نَصِيبُكُمُ اَلْأَخَسَّ وَ إِنَّ أَخَا اَلْحَرْبِ اَلْأَرِقُ وَ مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ وَ اَلسَّلاَمُ قول المصنف «و منه» أي: و من كتابهعليه‌السلام إلى أهل مصر مع الأشتر لمّا ولاّه، إلاّ أنّه قلنا في شرح صدره أنه خطبة خطبعليه‌السلام بها في الكوفة بعد فتح مصر و قتل محمّد بن أبي بكر، و سؤال الناس له عن قولهعليه‌السلام في أبي بكر و عمر و عثمان، رواه ابراهيم الثقفي في (غاراته)( ١ ) ، و ابن قتيبة في (خلفائه)( ٢) ، و الكليني في (رسائله)( ٣ ) ، على اختلاف، لكن كتبهاعليه‌السلام لهم حتى تقرأ عليهم، كما صرّح به في رواية ابن قتيبة: فأمر كاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع أن يقرأها، و عيّنعليه‌السلام عشرة من ثقاته لئلاّ يشغب الناس، كما صرح به في رواية الكليني، و مضمون فقرات الذيل تدلّ أيضا على كون الكلام خطبة في التحريض على الجهاد، و لا مناسبة لها أن تكون كتابا إلى أهل مصر، فالظاهر أنّ المصنّف رأى أنّهعليه‌السلام كتب للناس بعد فتح مصر، فلم يتدبّر و توهّم أنّهعليه‌السلام كتب

____________________

(١) الغارات ١: ٣٠٢ ٣٢٢.

(٢) الإمامة و السياسة ١: ١٥٤ ١٥٩.

(٣) لم أجد نسخته، و لكن نقله عنه السيد ابن طاووس في كشف المحجّة لثمرة المهجة و عنه العلاّمة المجلسي رحمه اللّه في بحار الأنوار ٨: ١٨٤ ١٨٨، ط الكمباني.

٤٢٤

بالكتاب إلى أهل مصر. فزاد (مع الأشتر) من الخارج.

ثمّ «و منه» في (المصرية)( ١ ) ، و لكن في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ٢ ) : «و من هذا الكتاب»، فهو الصحيح.

روى الأوّل عن رجاله، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه قال: خطب عليعليه‌السلام بعد فتح مصر و قتل محمّد بن أبي بكر إلى أن قال بعد ذكر بعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أيّام الثلاثة و آثام الثالث في أيامه: و إنّ فيهم من قد شرب فيكم الخمر، و جلد الحدّ، يعرف بالفساد في الدين، و في الفعل السيى‏ء، و إنّ فيهم من لم يسلم حتّى رضخ له رضخة، فهؤلاء قادة القوم، و من تركت ذكر مساويه من قادتهم مثل من ذكرت منهم، بل هو شرّ و يود هؤلاء الذين ذكرت لو ولّوا عليكم، فأظهروا فيكم الكفر و الفساد و الفجور و التسلّط بجبرية، و اتّبعوا الهوى، و حكموا بغير الحقّ، و لأنتم على ما كان فيكم من تواكل و تخاذل، خير منهم و أهدى سبيلا، فيكم العلماء و الفقهاء، و النجباء و الحكماء، و حملة الكتاب و المتهجّدون بالأسحار، و عمّار المساجد بتلاوة القرآن، أفلا تسخطون و تهتمون أن ينازعكم أمري؟ فو اللّه لئن أطعتموني لا تغوون، و إن عصيتموني لا ترشدون، خذوا للحرب اهبتها و أعدّوا عدّتها، قد شبّت نارها، و علا سناؤها، و تجرّد لكم فيها الفاسقون، كي يعذبوا عباد اللّه و يطفئوا نور اللّه، إلاّ أنّه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع و المكر و الجفاء، بأولى في الجدّ في غيّهم و ضلالهم من أهل البرّ و الزهادة و الإخبات في حقّهم و طاعة ربهم، و اللّه لو لقيتهم فردا و هم مل‏ء الأرض ما باليت و لا استوحشت، و إنّي من ضلالتهم التي هم فيها، و الهدى الذى نحن عليه، لعلى ثقة و بيّنة و يقين

____________________

(١) نهج البلاغة ٣: ١٣١.

(٢) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٢٥، و لكن في شرح ابن ميثم ٥: ٢٠١: و منه أيضا.

٤٢٥

و بصيرة، و إنّي إلى لقاء ربي لمشتاق، و لحسن ثوابه لمنتظر، و لكن أسفا يعتريني و حزنا، أن يلي أمر هذه الامّة سفهاؤها و فجّارها، فيتخذوا مال اللّه دولا، و عباده خولا، و الفاسقين حزبا. و ايم اللّه لو لا ذلك لمّا أكثرت تأنيبكم و تحريضكم، و لتركتكم إذا و نيتم و أبيتم، حتى ألقاهم بنفسي متى حمّ لقاؤهم، فو اللّه إنّي لعلى الحقّ، و إنّي للشهادة لمحبّ، فانفروا خفافاً و ثقالاً، و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل اللّه ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعملون( ١ ) و لا تثاقلوا إلى الأرض فتقرّوا بالخسف و تبوؤا بالذل، و يكن نصيبكم الأخس. إنّ أخا الحرب اليقظان، و من ضعف أردى، و من ترك الجهاد كان كالمغبون المهين، اللهمّ اجمعنا و إيّاهم على الهدى، و زهّدنا و إيّاهم في الدّنيا، و اجعل الآخرة خيرا لنا و لهم من الاولى( ٢) .

و في الثاني: قام حجر بن عدي و عمرو بن الحمق و فلان إلى عليعليه‌السلام ، فسألوه عن أبي بكر و عمر، و قالوا: بيّن لنا قولك فيهما و في عثمان، فقال كرم اللّه وجهه: أو قد تفرغتم لهذا، و هذه مصر قد افتتحت و شيعتي فيها قد قتلت؟

إنّي مخرج إليكم كتابا انبئكم فيه ما سألتموني، فاقرؤه على شيعتي. فأخرج إليهم كتابا إلى ان قال: و إنّ منهم لمن شرب فيكم و جلد حدّا في الإسلام، فهؤلاء قادة القوم، و من تركت ذكر مساويه منهم شرّ و أضر، و هؤلاء الذين لو ولّوا عليكم لأظهروا فيكم الغضب و الفخر و التسلط بالجبروت، و التطاول بالغصب و الفساد في الارض، و لاتبعوا الهوى، و ما حكموا بالرشاء، و أنتم على ما فيكم من تخاذل و تواكل، خير منهم و أهدى سبيلا، فيكم الحكماء و العلماء و الفقهاء، و حملة القرآن و المتهجدون بالأسحار، و العبّاد و الزّهاد في

____________________

(١) التوبة: ٤١.

(٢) الغارات ١: ٣٠٢ ٣٢٢، و نقله الشارح بتصرّف و تلخيص.

٤٢٦

الدّنيا، و عمّار المساجد و أهل تلاوة القرآن، أفلا تسخطون و تنقمون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم و الأراذل و الأشرار منكم؟ اسمعوا قولي إذا قلت، و أطيعوا أمري إذا أمرت، و اعرفوا نصيحتي إذا نصحت، و اعتقدوا حزمي إذا حزمت، و التزموا عزمي إذا عزمت، و انهضوا نهوضي و قارعوا من قارعت، و لئن عصيتموني لا ترشدوا و لا تجتمعوا، خذوا للحرب اهبتها و أعدّوا لها آلتها، فإنّها قد وقدت نارها و علا سناها، و تجرّد لكم الظالمون كيما يطفئوا نور اللّه، و يقهروكم.

عباد اللّه إنّه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع و الجفاء، بأولى في الجدّ في غيّهم و ضلالهم و باطلهم، من أهل النزاهة و الحق، و الاخبات بالجدّ في حقّهم، و طاعة ربهم و مناصحة إمامهم، إنّي و اللّه لو لقيتهم وحيدا منفردا، و هم في أهل الأرض، إن باليت بهم أو استوحشت منهم، إنّي في ضلالهم الذي هم فيه، و الهدى الذي أنا عليه، لعلى بصيرة و يقين و بيّنة من ربّي، و إنّي للقاء ربّي مشتاق، و لحسن ثوابه لمنتظر راج، و لكن أسفا يعتريني، و جزعا يريبني، من أن يلي هذه الامة سفهاؤها و فجّارها، فيتخذوا مال اللّه دولا و عباد اللّه خولا و الصالحين حربا و القاسطين حزبا، و ايم اللّه لو لا ذلك، ما أكثرت تأليبكم و تحريضكم، و لتركتم، فو اللّه إنّي لعلى الحقّ، و إنّي للشهادة لمحبّ، أنا نافر بكم إن شاء اللّه...( ١) .

و في الثالث: و روايته عن علي بن إبراهيم بإسناده عنهعليه‌السلام : و إنّ منهم من قد شرب الخمر و ضرب حدّا في الإسلام، و كلّكم يعرفه بالفساد في الدين، و إن منهم من لم يدخل في الإسلام و أهله حتى رضخ عليه رضيخه، فهؤلاء قادة القوم، و من تركت لكم ذكر مساويه أكثر و أبور، و أنتم تعرفونهم بأعيانهم

____________________

(١) الإمامة و السياسة ١: ١٥٤ ١٥٩، و نقله الشارح بتصرّف و تلخيص.

٤٢٧

و أسمائهم، كانوا على الاسلام ضدا، و لنبي اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حربا، و للشيطان حزبا، لم يتقدّم إيمانهم، و لم يحدث نفاقهم، و هؤلاء الذين لو ولّوا عليكم، لأظهروا فيكم الفخر و التكبر، و التسلّط بالجبرية و الفساد في الأرض، و أنتم على ما كان منكم من تواكل و تخاذل، خير منهم و أهدى سبيلا، منكم الفقهاء و العلماء و الفهماء، و حملة الكتاب، و المتهجدون بالأسحار.

ألا تسخطون و تنقمون ان ينازعكم الولاية السفهاء البطاء عن الإسلام الجفاة فيه؟ اسمعوا قولي يهديكم اللّه إذا قلت، و أطيعوا أمري إذا أمرت، فو اللّه لئن أطعتموني لا تغووا، و إن عصيتموني... قال اللّه تعالى:... أ فمن يهدي إلى الحقّ أحقّ ان يتّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون( ١ ) ، و قال تعالى لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :... إنّما أنت منذر و لكلّ قوم هاد( ٢) .

فالهادي بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هاد لامته على ما كان من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن عسى أن يكون الهادي إلاّ الذي دعاكم إلى الحقّ و قادكم إلى الهدى؟ خذوا للحرب اهبتها، و أعدّوا لها عدّتها، فقد شبّت و اوقدت نارها، و تجرّد لكم الفاسقون لكيما يطفئوا نور اللّه بأفواههم، و يغروا عباد اللّه، ألاّ إنّه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع و الجفاء، أولى بالحقّ من أهل البرّ و الاخبات في طاعة ربّهم، و مناصحة إمامهم، انّي و اللّه لو لقيتهم وحدي و هم و أهل الأرض ما استوحشت منهم و لا باليت، و لكن أسف يريبني، و جزع يعتريني، من أن يلي هذه الامّة فجّارها و سفهاؤها، يتّخذون مال اللّه دولا، و كتابه دخلا، و الفاسقين حزبا، و الصالحين حربا، و أيم اللّه لو لا ذلك ما أكثرت تأنيبكم و تحريضكم، و لتركتكم إذ أبيتم، حتى ألقاهم متى حمّ لي لقاؤهم، فو اللّه إنّي لعلى الحقّ، و انّي

____________________

(١) يونس: ٣٥.

(٢) الرعد: ٧.

٤٢٨

للشهادة لمحبّ، و إنّي إلى لقاء ربّي لمشتاق، و لحسن ثوابه لمنتظر، انّي نافر بكم فانفروا خفافاً و ثقالاً و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل اللّه و لا تثاقلوا إلى الأرض فتعمّوا بالذل و تقرّوا بالخسف، و يكون نصيبكم الخسران، إنّ أخا الحرب اليقظان الأرق، إن نام لم تنم عينه، و من ضعف أودى، و من كره الجهاد في سبيل اللّه، كان المغبون المهين، إنّي لكم اليوم على ما كنت عليه أمس، و لستم لي على ما كنتم عليه. من تكونوا ناصريه، أخذ بالسهم الأخيب.

و اللّه لو نصرتم اللّه لنصركم و ثبّت أقدامكم، إنّه حق على اللّه أن ينصر من نصره، و يخذل من خذله، أ ترون الغلبة لمن صبر بغير نصر، و قد يكون الصبر جبنا، و إنّما الصبر بالنصر، و الورود بالصدور، و البرق بالمطر، اللهمّ اجمعنا...( ١) .

«إنّي و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض» أي: ملؤها.

«ما باليت» أي: ما اكترثت.

«و لا استوحشت» من وحدتي، كما أنّ إبراهيمعليه‌السلام ما استوحش من وحدته في توحيده، و كون جميع أهل الأرض مشركين، فإنّ الأنبياء و أوصياء الأنبياء لا يبالون من قيام جميع أهل الدنيا على خلافهم، و لا يستوحشون من إنفرادهم. و لمّا كان الناس يشيرون على الحسينعليه‌السلام ببيعة يزيد، لكونه ذا سلطان و الناس كلّهم معه، و عدم ناصر له، كان يقول: و اللّه لو لم يكن لي في الدّنيا ملجأ و لا مأوى لمّا بايعت يزيد.

«و إنّي من ضلالهم الذي هم» أي: العثمانية و الطالبين بدم عثمان.

«فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي» و كذلك

____________________

(١) نقله عنه السيد ابن طاووس في كشف المحجّة لثمرة المهجة:، و عنه العلاّمة المجلسي رحمه اللّه في بحار الأنوار ٨:

١٨٤ ١٨٨، ط الكمباني.

٤٢٩

كانت شيعتةعليه‌السلام فكان عمّار يقول: و اللّه لو ضربونا حتى نبلغ سعفات هجر، لعلمت أنّا على الحقّ و هم على الباطل.

«و إنّي إلى لقاء اللّه لمشتاق و بحسن» هكذا في (المصرية)( ١ ) ، و الصواب:

(و لحسن) كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم( ٢ ) و الخطيّة).

«ثوابه لمنتظر راج» ان قتلت أو مت و في (الطبري): أن الحرّ لمّا كان يساير الحسينعليه‌السلام في الطريق، يقول له: اذكّرك اللّه في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلن. فقالعليه‌السلام له: أ فبالموت تخوفني؟ و هل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، ما أدري ما أقول لك؟ و لكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه لقيه و هو يريد نصرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له: أين تذهب فإنّك مقتول فقال له:

سأمضي و ما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقّا و جاهد مسلما و آسى الرجال الصالحين بنفسه و فارق مثبورا يغش و يرغما( ٣ ) «و لكنّي آسى» بالفتح من (اسي) بالكسر، أي: حزن.

«أن يلي أمر هذه الامة سفهاؤها و فجّارها» من تواكلكم و تخاذلكم، كما كان كذلك أيّام عثمان و في (صفين نصر): أنّهعليه‌السلام لمّا أراد المسير إلى الشام، قام خطيبا و قال: سيروا إلى أعداء السنن و القرآن، سيروا إلى بقيّة الأحزاب و قتلة المهاجرين و الأنصار( ٤) .

بل لم يختصّ ما ذكرهعليه‌السلام بايّام عثمان، أ لم يل أمر الناس أيّام أبي بكر خالد بن الوليد الذي قتل مالك بن نويرة غدرا و فجر بامرأته؟ أو لم يل أمر الناس أيّام عمر المغيرة بن شعبة الذي زنا محصنا؟ و كان صاحب تلك النفس

____________________

(١) في نهج البلاغة ٣: ١٣١ «و حسن».

(٢) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٣٢٥، و لكن في شرح ابن ميثم ٥: ٢٠١ «و حسن» أيضا.

(٣) تاريخ الطبري ٥: ٤٠٤، سنة ٦١.

(٤) وقعة صفّين: ٩٤.

٤٣٠

الخبيثة الذي حمل معاوية على استلحاق زياد به، و على استخلاف يزيد السكير القمّير على الامّة، و لمّا اعترضوا على عثمان بتوليته المنافقين، أجابهم بتوليه عمر المغيرة مع نفاقه، و إنّما كانت تولية الفجّار و السفهاء أيّام عثمان أكثر.

و في (حلية أبي نعيم) في ابيّ، عن قيس بن عباد قال: قدمت المدينة للقاء أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يكن فيهم أحد أحبّ إليّ لقاء من أبيّ بن كعب، فقمت في الصفّ الأوّل، فخرج، فلمّا صلّى حدّث فما رأيت الرجال متحت أعناقها إلى شي‏ء منهم إلى أبي، فسمعته يقول: هلك أهل العقد( ١ ) و رب الكعبة قالها ثلاثا هلكوا و أهلكوا. أما إنّي لا آسي عليهم، و لكنّي آسي على من يهلكون من المسلمين( ٢) .

«فيتخذوا مال اللّه دولا» أي: متداولا بينهم و في (الصحاح): قال محمّد بن سلام الجمحي: سألت يونس عن قوله تعالى:... كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم...( ٣ ) ، فقال: قال أبو عمرو بن العلاء: الدولة بالضم في المال، و الدولة بالفتح في الحرب. و قال عيسى بن عمر: كلتاهما تكون في المال و الحرب سواء( ٤) .

في (المروج): قال سعيد بن العاص لمّا كان واليا على الكوفة من قبل عثمان، في بعض الأيّام: إنّما هذا السواد يعني العراق فطير لقريش. فقال له الأشتر: أ تجعل ما أفاء اللّه علينا بظلال سيوفنا و مراكز

____________________

(١) قال ابن الأثير: يريد البيعة المعقودة للولاة. النهاية ٣: ٢٧٠، مادة: (عقد).

(٢) حلية الأولياء ١: ٢٥٢.

(٣) الحشر: ٧.

(٤) الصحاح ٤: ١٧٠٠، مادة: (دول).

٤٣١

رماحنا بستانا لك و لقومك؟( ١ ) و فيه: ذكر عبد اللّه بن عتبة: أنّ عثمان يوم قتل، كان عند خازنه من المال خمسون و مائة ألف دينار، و ألف و ألف درهم، و قيمة ضياعه بوادي القرى و حنين و غيرهما مائة ألف دينار، و خلف خيلا كثيرا و إبلا( ٢) .

و في (معارف ابن قتيبة): آوى عثمان الحكم بن أبي العاص، الذي سيّره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم لم يؤوه أبو بكر و لا عمر، و أعطاه مائة ألف درهم. و تصدق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمهزور موضع سوق المدينة على المسلمين، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان، و أقطع فدك و هي صدقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مروان، و فتح افريقية فأخذ الخمس، فوهبه كلّه لمروان، فقال عبد الرحمن بن حنبل الجمحي و كان عثمان سيّره:

و أعطيت مروان خمس العباد فهيهات شأوك ممّن سعى و طلب إليه عبد اللّه بن خالد بن اسيد صلة، فأعطاه أربعمائة ألف درهم( ٣) .

و في (تاريخ اليعقوبي): و زوّج عثمان ابنته من عبد اللّه بن خالد بن اسيد، و أمر له بستمائة ألف درهم، و كتب إلى عبد اللّه بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة.

و حدّث أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن يسار، قال: رأيت عامل صدقات المسلمين على سوق المدينة، إذا أمسى أتاها عثمان، فقال له: ادفعها إلى الحكم بن أبي العاص. و كان عثمان إذا أجاز أحدا من أهل بيته بجائزة، جعلها فرضا من بيت المال، فجعل يدافعه و يقول: يكون فنعطيك. فألحّ عليه فقال له عثمان:

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٣٤٦.

(٢) المصدر نفسه ٢: ٣٤١ ٣٤٢.

(٣) المعارف لابن قتيبة: ١٩٥، دار المعارف، مصر، ط ٢.

٤٣٢

إنّما أنت خازن لنا، فاذا أعطيناك فخذ، و إذا سكتنا عنك فاسكت. فقال: كذبت و اللّه، ما أنا لك بخازن و لا لأهل بيتك، إنّما أنا خازن المسلمين. و جاء بالمفتاح يوم الجمعة و عثمان يخطب، فقال: أيّها الناس زعم عثمان أنّي خازن له و لأهل بيته، و إنّما كنت خازنا للمسلمين، و هذه مفاتيح بيت مالكم. و رمى بها، فأخذها عثمان و دفعها إلى زيد بن ثابت( ١) .

«و عباده خولا» أي: رقيقا لهم و ملكا و في (صفين نصر): لمّا أراد عليعليه‌السلام المسير إلى الشام، قام قيس بن سعد بن عبادة، فقال: انكمش بنا إلى عدوّنا، و لا تعرج فو اللّه لجهادهم أحبّ إليّ من جهاد الترك و الروم، لإدهانهم في دين اللّه و استذلالهم أولياء اللّه من أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من المهاجرين و الأنصار و التابعين بإحسان، و إذا غضبوا على رجل حبسوه، أو حرموه، أو سيّروه، و فيئنا لهم في أنفسهم حلال، و نحن لهم في ما يزعمون قطين. يعني: رقيق( ٢) .

«و الصالحين» كأبي ذر و عمّار.

«حربا» و في (تاريخ اليعقوبي): لمّا بلغ عثمان وفاة أبي ذر، فقال عمّار: نعم، رحم اللّه أبا ذر من كل أنفسنا. فغلظ ذلك على عثمان، و بلغه عن عمّار كلام، فأراد أن يسيّره أيضا...( ٣) .

«و الفاسقين» كالوليد بن عقبة الفاسق بنصّ القرآن فيه، و هو أخو عثمان لامّه، و عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، الذي أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله و لو وجد متعلقا بأستار الكعبة، و هو أخوه من الرضاع.

«حزبا» و في (صفين نصر): قام عمّار في صفين، فقال: امضوا عباد اللّه إلى

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٦٨ ١٦٩.

(٢) وقعة صفّين: ٩٢ ٩٣.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٧٤.

٤٣٣

قوم يطلبون في ما يزعمون بدم الظالم لنفسه، الحاكم بغير ما في كتاب اللّه، إنّما قتله الصالحون، المنكرون للعدوان، الآمرون بالإحسان. فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم لو درس هذا الدين: لم قتلتموه؟ فقلنا:

لأحداثه. فقالوا: إنّه ما أحدث شيئا. و ذلك لأنه مكّنهم من الدّنيا فهم يأكلونها و يرعونها، و اللّه ما أظنهم يطلبون دمه، إنّهم ليعلمون إنّه لظالم، و لكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها و استمرؤها، و علموا لو أن الحقّ لزمهم لحال بينهم و بين ما يرعون فيه منها، و لم يكن للقوم سابقة في الإسلام، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا: قتل إمامنا مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة و ملوكا...( ١) .

و فيه: و قال هاشم بن عتبة المرقال لعليعليه‌السلام : سر بنا إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم، الذين نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم، و عملوا في عباد اللّه بغير رضى اللّه، فأحلّوا حرامه و حرّموا حلاله، و استولاهم الشيطان و وعدهم الأباطيل، و منّاهم الأماني حتّى أزاغهم عن الهدى، و قصد بهم قصد الردى، و حبّب إليهم الدنيا، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها، كرغبتنا في الآخرة...( ٢) .

و ما قالهعليه‌السلام من أنّه يأسى أن يلي أمر الامّة من يتخذ مال اللّه دولا، و عباده خولا... أخبر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل. فدخل أبو ذر على عثمان بعد إرسال معاوية له من الشام على قتب بغير وطاء و قد ذهب لحم فخذيه، فقال عثمان: بلغني أنّك تقول: سمعت النبي يقول: إذا كملت بنو أبي العاص ثلاثين اتّخذوا عباد اللّه خولا و دين اللّه دغلا. فقال له: نعم، سمعته يقول ذلك. فطلب منه شاهدا فشهدعليه‌السلام له لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتّفق عليه في أبي ذر: ما أظلت الخضراء و لا

____________________

(١) وقعة صفّين: ٣١٩.

(٢) المصدر نفسه: ١١٢.

٤٣٤

أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر.

روى ذلك المسعودي( ١ ) و اليعقوبي( ٢ ) و الواقدي( ٣ ) و غيرهم.

«فإنّ منهم الذي قد شرب فيكم الحرام و جلد حدّا في الإسلام» قال ابن أبي الحديد:

قال الراوندي: «هو المغيرة». و أخطأ لأن المغيرة اتّهم بالزنا و لم يحدّ، و لم يجر للمغيرة ذكر في الشرب، و أيضا لم يشهد المغيرة صفين مع معاوية، و لا مع عليعليه‌السلام ، و ما للراوندي و هذا؟ إنّما يعرف هذا الفن أربابه. و الذي عناهعليه‌السلام الوليد بن عقبة بن أبي معيط( ٤) .

قلت: لا ريب في إرادتهعليه‌السلام الوليد، كما يفصح عنه كلامه الآخر الّذي رواه الطبري عن زيد بن وهب: أنّ عليّاعليه‌السلام مرّ على جماعة من أهل الشام بصفين، فيهم الوليد بن عقبة و هم يشتمونه، فأخبروهعليه‌السلام بذلك فوقف في ناس من أصحابه، فقال: انهدوا إليهم و عليكم السكينة و سيماء الصالحين و وقار الاسلام، و اللّه لأقرب قوم من الجهل باللّه عزّ و جلّ، قوم قائدهم و مؤدّبهم معاوية، و ابن النابغة، و أبو الأعور السلمي، و ابن أبي معيط شارب الحرام و المجلود حدّا في الاسلام، و هم أولى يقومون فيقصبونني و يشتمونني، و قبل اليوم ما قاتلوني و شتموني، و أنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام، و هم يدعونني إلى عبادة الأصنام، فالحمد للّه، قديما عاداني الفاسقون فعبّدهم اللّه.

إنّ هذا لهو الخطب الجليل، أنّ فسّاقا كانوا غير مرضيين، و على الإسلام و أهله متخوفين، خدعوا شطر هذه الامّة، و اشربوا قلوبهم حبّ الفتنة، و استمالوا

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٣٤٨ ٣٥٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٧١ ١٧٢.

(٣) نقله عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٣: ٥٥ ٥٦.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٢٧.

٤٣٥

أهواءهم بالافك و البهتان، قد نصبوا لنا الحرب في إطفاء نور اللّه...( ١) .

لكن ردّه الراوندي: بأنّ المغيرة اتّهم بالزنا، و (لم يحدّ) تجنب عن الحقيقة، و إلاّ فالمغيرة زنا محققا، و إنّما منع عمر الشاهد الرابع من أداء شهادته كاملا، حتّى لا يحدّه، و قد قال الحسنعليه‌السلام لمعاوية: بأنّ اللّه يسأله عن ذلك، كما ان قوله في ردّه: إنّ المغيرة لم يشهد صفين مع أحد، في غير محلّه، فإنّ كلامهعليه‌السلام ليس في من شهد صفين بالخصوص، لأنّ كلامهعليه‌السلام لم يكن في صفين، بل في الكوفة بعد النهروان كما عرفت، و المغيرة و إن اعتزل لدهائه لاحتماله غلبة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما اتّفقت و دفعوها بالحيلة، إلاّ أنّه لم يكن أدون من الوليد، و قد ولّي بعدهعليه‌السلام على الناس أيّام حياته لتخاذل أصحابهعليه‌السلام ، و قد عرفت أنّه هو الذي حمل معاوية على استلحاق زياد و استخلاف يزيد، و مفاسدهما في الإسلام معلومة، و هو الذي أقام خطباء يسبّونهعليه‌السلام لمّا بويع معاوية، فضلا عن سبّه بنفسه أيّام حياته على المنبر، بوصية معاوية إليه لمّا ولاّه.

ثم إنّ ابن أبي الحديد نقل عن (أغاني أبي الفرج) أحوال الوليد، شربه و غير شربه. و نحن نقتصر منها على ما له زيادة دخالة، فمن رواياته عن ابن شوذب: صلّى الوليد بأهل الكوفة الغداة أربع ركعات ثم التفت اليهم فقال:

ازيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم( ٢) .

و عن هشام الكلبي، و أبي عبيدة، و الأصمعي، قالوا: كان الوليد زانيا، يشرب الخمر، فشرب بالكوفة و قام ليصلّي بهم الصبح، فصلّى بهم أربع ركعات، ثم التفت إليهم فقال: أ ازيدكم؟ و تقيأ في المحراب و أنشد في الصلاة:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٤٥، سنة ٣٧.

(٢) الأغاني ٥: ١٢٥، شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٢٩.

٤٣٦

علّق القلب الربابا بعد ما شابت و شابا فشخص أهل الكوفة إلى عثمان فأخبروه، فأتي به، فأمر رجلا أن يضربه الحدّ، فلمّا دنا منه قال: نشدتك و قرابتي من الخليفة. فتركه، فخاف عليعليه‌السلام أن يعطّل الحدّ، فقام إليه فحدّه بيده، فقال له الوليد نشدتك: و القرابة. فقال عليعليه‌السلام له: اسكت. فإنّما هلك بنو إسرائيل لتعطيلهم الحدود. فلمّا فرغ من حدّه قال: لتدعوني قريش بعدها جلاّدا( ١) .

و عن مطر الوراق قال: قدم رجل من أهل الكوفة إلى المدينة، فقال لعثمان:

إني صليت صلاة الغداة خلف الوليد، فالتفت في الصلاة إلى الناس فقال:

أ أزيدكم فإنّي أجد اليوم نشاطا؟ و شممنا منه رائحة الخمر. فضرب عثمان الرجل، فقال الناس: عطّلت الحدود و ضربت الشهود( ٢) .

و عن الزهري قال: خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد، فقال لهم عثمان: أ كلّما غضب رجل على أميره رماه بالباطل؟ لئن أصحبت لكم لأنكلنّ بكم. فاستجاروا بعايشة، و أصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا و كلاما فيه بعض الغلظة، فقال: أما يجد فسّاق العراق و مرّاقها ملجأ إلاّ بيت عايشة؟ فسمعت ذلك، فرفعت نعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قالت: تركت سنّة صاحب هذا النعل. و تسامع الناس فجاؤوا حتّى ملؤوا المسجد إلى أن قال: و دخل رهط من الصحابة على عثمان، فقالوا له: اتّق اللّه و لا تعطّل الحدود، و اعزل أخاك عنهم. ففعل( ٣) .

و لمّا عزله أمّر عليها سعيد بن العاص، فلمّا قدمها قال: اغسلوا المنبر فإنّ

____________________

(١) الأغاني ٥: ١٢٦، شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٣٠.

(٢) الأغاني ٥: ١٣١، شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٣٣.

(٣) الأغاني ٥: ١٣٠ ١٣١، شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٣٢ ٢٣٣.

٤٣٧

الوليد كان رجسا نجسا. فلم يصعده حتى غسل( ١) .

و عن ابن الأعرابي: أنّ أبا زبيد وفد على الوليد حين استعمله عثمان على الكوفة، فأنزله الوليد دار عقيل عند باب المسجد، و استوهبها فوهبها له، فكان ذلك أوّل الطعن عليه من أهل الكوفة، لأنّ أبا زبيد كان يخرج من داره حتى يشق المسجد إلى الوليد فيسمر عنده و يشرب معه، و يخرج و يشقّ المسجد و هو سكران، فذاك نبههم عليه( ٢ ) . و كان أبو زبيد نصرانيا.

و مات الوليد فويق الرقّة، و مات أبو زبيد هناك، فدفنا جميعا في موضع واحد، فمرّ أشجع السلمي بقبريهما، و قال:

مررت على عظام أبي زبيد و قد لاحت ببلقعة صلود( ٣ ) فكان له الوليد نديم صدق فنادم قبره قبر الوليد( ٤ ) و عن الزهري: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجز في غزاة بني المصطلق مواساة لأصحابه، فقالوا له: قلت قولا لا ندري ما هو؟ كنت تقول: «جندب و ما جندب و إلاّ قطع زيد الخير» فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هما رجلان يكونان في هذه، يضرب أحدهما ضربة يفرّق بين الحقّ و الباطل، إلى أن قال: و أمّا جندب هذا فدخل على الوليد و عنده ساحر يقال له: أبو شيبان، فيخرج مصارين بطنه ثم يردها، فجاء من خلفه فضربه و قتله، و قال:

العن وليدا و أبا شيبان و ابن حبيش راكب الشيطان

____________________

(١) الأغاني ٥: ١٤٥، شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٤٢.

(٢) الأغاني ٥: ١٣٥، شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٣٦.

(٣) البلقع و البلقعة: الأرض القفر التي لا شي‏ء بها. الصحاح ٣: ١١٨٨، مادة: (بلقع). و أرض صلود: لا تنبت. أساس البلاغة: ٢٥٧، مادة: (صلد).

(٤) الأغاني ٥: ١٤٦، شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٤٣.

٤٣٨

رسول فرعون إلى هامان( ١ ) و عن ابن عباس قال: قال الوليد لعليّعليه‌السلام : أنا أحدّ منك سنانا، و أبسط منك لسانا، و أملأ للكتيبة. فقال له عليعليه‌السلام : اسكت يا فاسق فنزل القرآن فيهما:

أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون( ٢ ) . قال: و قال ابن عبد البرّ صاحب (الاستيعاب): لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن، إنّ قوله تعالى:

إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا...( ٣ ) انزلت في الوليد لمّا بعثه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصدقا، فكذب على بني المصطلق و قال: إنّهم ارتدوا و امتنعوا من اداء الصدقة، و فيه و في عليّعليه‌السلام نزل أ فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون( ٤ ) في قصتهما المشهورة( ٥) .

قال: و روى أبو الفرج مسندا: أنّ امرأة الوليد جاءت إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشتكي إليه الوليد بأنّه يضربها، فقال لها: قولي له إنّ النبي قد أجارني، فأنطلقت، فمكثت ساعة، ثمّ رجعت فقالت: إنّه ما قلع عنّي. فقطع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هدبة من ثوبه، و قال لها: اذهبي بها إليه و قولي له: إنّ النبي قد أجارني، فانطلقت، فمكثت ساعة ثم رجعت، فقالت: ما زادني إلاّ ضربا. فرفع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده ثم قال: «اللهمّ عليك بالوليد» مرتين أو ثلاثا( ٦) .

و في (المروج): كان الوليد يشرب مع ندمائه و مغنّيه من أوّل اللّيل إلى الصباح، فلمّا آذنه المؤذن بالصلاة، خرج في غلائه فتقدّم إلى المحراب في

____________________

(١) الأغاني ٥: ١٤٤، شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٤١.

(٢) السجدة: ١٨.

(٣) الحجرات: ٦.

(٤) السجدة: ١٨.

(٥) الأغاني ٥: ١٤٠ ١٤١، شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٣٨ ٢٣٩.

(٦) الأغاني ٥: ١٤١، و شرح ابن أبي الحديد ١٧: ٢٣٩ ٢٤٠.

٤٣٩

صلاة الصبح، فصلّى بهم أربعا، و قال: تريدون أن ازيدكم؟ قيل: و قال في سجوده و قد أطال: اشرب و اسقني. فقال له بعض من كان خلفه في الصفّ الأوّل: ما تريد لا زادك اللّه مزيد الخير، و اللّه لا أعجب إلاّ ممّن بعثك علينا واليا؟

و القائل عتاب بن غيلان الثقفي. و خطب الوليد الناس فحصبوه بحصباء المسجد، فدخل قصره يترنّح و يتمثل بأبيات لتأبط شرّا:

و لست بعيدا عن مدام وقينة

و لا بصفا صلد عن الخير معزل

و لكنني أروي من الخمر هامتي

و أمشي الملا بالساحب المتسلسل

و في ذلك يقول الحطيئة:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالغدر

نادى و قد تمّت صلاتهم

أ أزيدكم ثملا و ما يدري

ليزدهم اخرى و لو قبلوا

لقرنت بين الشفع و الوتر

حبسوا عنانك في الصلاة و لو

خلّوا عنانك لم تزل تجري

و أشاعوا في الكوفة فعله، و ظهر فسقه و مداومته شرب الخمر، فهجم عليه جماعة، منهم أبو زينب بن عوف الأزديّ، و جندب بن زهير الأزدي و غيرهما، فوجدوه سكران مضطجعا على سريره لا يعقل، فأيقظوه من رقدته فلم يستيقظ، ثم تقيّأ عليهم ما شرب من الخمر، فانتزعوا خاتمه من يده، و خرجوا من فورهم إلى المدينة، فأتوا عثمان فشهدوا عنده على الوليد: أنّه شرب الخمر. فقال عثمان: و ما يدريكم أنّه شرب خمرا؟ قالوا: هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهلية. و أخرجا خاتمه فدفعاه إليه، فرزأهما و دفع في صدرهما، و قال: تنحّيا عنّي. فخرجا و أتيا عليّاعليه‌السلام و أخبراه بالقصة، فأتى عثمان و هو يقول: دفعت الشهود و أبطلت الحدود. فقال له عثمان: فما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إلى صاحبك، فإن أقاما الشهادة عليه في وجهه و لم يدل بحجة، أقمت

٤٤٠