بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 53931
تحميل: 4252


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53931 / تحميل: 4252
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 9

مؤلف:
العربية

و قد كان أشرف على عسكر معاوية بالفتح( ١) .

و كذلك قوله: (حتى استبانت عليهم الحجّة و انقطعت منهم المعذرة) بلا محصل، فإنّ معاوية و أصحابه إنّما كانت الحجّة عليهم مستبينة من أوّل الأمر، و إنّما الخوارج استبانت عليهم الحجّة، بأنّ دعوة معاوية إلى القرآن كانت مكيدة.

و كذلك قوله: (فمن تم على ذلك منهم فهو الذي أنقذه اللّه من الهلكة، و من لج و تمادى فهو الراكس الذي ران اللّه على قلبه، و صارت دائرة السوء على رأسه) بلا مفاد، فإنّ معاوية و أصحابه لم يرضوا بحكم القرآن حتى يتمّوا عليه أو لا يتمّوا، و انّما الخوارج أمضوا أوّلا عهد التحكيم، ثم لم يتمّوا عليه، و قالوا: انّه كفر.

و بالجملة هذا كسابقه افتراء عليهعليه‌السلام .

٢٦ - الخطبة (٢٢٨) و من كلام لهعليه‌السلام :

لِلَّهِ بَلاَءُ فُلاَنٍ فَلَقَدْ قَوَّمَ اَلْأَوَدَ وَ دَاوَى اَلْعَهْدَ وَ أَقَامَ اَلسُّنَّةَ وَ خَلَّفَ اَلْفِتْنَةَ ذَهَبَ نَقِيَّ اَلثَّوْبِ قَلِيلَ اَلْعَيْبِ أَصَابَ خَيْرَهَا وَ سَبَقَ شَرَّهَا أَدَّى إِلَى اَللَّهِ طَاعَتَهُ وَ اِتَّقَاهُ بِحَقِّهِ رَحَلَ وَ تَرَكَهُمْ فِي طُرُقٍ مُتَشَعِّبَةٍ لاَ يَهْتَدِي بِهَا اَلضَّالُّ وَ لاَ يَسْتَيْقِنُ اَلْمُهْتَدِي أقول: قال ابن أبي الحديد: المراد بفلان عمر، حدّثني فخار بن معد الموسوي: أنّ في النسخة التي بخط المصنّف تحت (فلان): عمر. و سألت

____________________

(١) وقعة صفّين: ٤٨٩، تاريخ الطبري ٥: ٤٨ ٤٩، سنة ٣٧، و شرح ابن أبي الحديد ٢: ٢١٦ ٢١٧، و النقل بتصرف و تلخيص.

٤٨١

النقيب فقال: هو عمر. فقلت: أيثني عليه أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟ فقال: نعم، أما الإمامية فيقولون: إنّ ذلك من التقيّة و استصلاح أصحابه. و أمّا صالحية الزيدية فيقولون: إنّه أثنى عليه. و أمّا جاروديتهم فيقولون: إنّه كلام قاله في أمر عثمان، أخرجه مخرج الذم و التنقص لأعماله، كما يمدح الآن الأمير الميّت في أيّام الأمير الحيّ بعده، فيكون ذلك تعريضا به( ١) .

و قال الراوندي: المراد به بعض أصحابهعليه‌السلام . و هو بعيد، على أنّ الطبري صرّح أو كاد أن يصرّح، بأن المراد بهذا الكلام عمر، فقال: لمّا مات عمر قالت ابنة أبي خيثمة: وا عمراه، أقام الأود و أبرأ العمد، أمات الفتن و أحيا السنن، خرج نقي الثوب بريئا من العيب( ٢) .

و روى صالح بن كيسان عن المغيرة، قال: لمّا دفن عمر أتيت عليّا و أنا احبّ أن أسمع منه في عمر شيئا، فخرج ينفض رأسه و لحيته و قد اغتسل و هو ملتحف بثوب، لا يشك أنّ الأمر يصير إليه، فقال: رحم اللّه ابن الخطاب، لقد صدقت ابنة أبي خيثمة: ذهب بخيرها و نجا من شرّها. أما و اللّه ما قالت و لكن قوّلت( ٣) .

أقول: إنّما الكلام في أصل الخبر و تحقق نسبة العنوان إليهعليه‌السلام ، و الظاهر أنّه كسابقيه، و إنما الرضي عفا اللّه عنه إذا رأى كلاما فصيحا منسوبا إليهعليه‌السلام يقبله بدون تدبّر في معناه، و لو مع وجود شواهد على خلافه، كما أنّه في (مجازاته النبويّة) نسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث من رأى الأذان في النوم( ٤ ) ، مع أنّه في متواتر أخبار الإمامية إنزال جبرئيلعليه‌السلام

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٢: ٣ ٥.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) تاريخ الطبري ٤: ٢١٨، سنة ٢٣، شرح ابن أبي الحديد ١٢: ٥.

(٤) المجازات النبويّة للشريف الرضي: ٣٩٣ ح ٣١٠، مؤسسة الحلبي، القاهرة.

٤٨٢

الأذان من اللّه تعالى عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( ١) .

و أمّا ما نقله عن (الطبري) فمع أنّ رواية المخالف لنفسه غير مقبولة، لا يفهم منه سوى أنّهعليه‌السلام صدق من قول ابنة أبي خيثمة جملة (ذهب بخيرها و نجا من شرّها)، حتى إنّهعليه‌السلام قال: ما قالته و لكن قوّلته. يعني ما قالته من نفسها، و لكن حملت على قوله، و ليس تحته شي‏ء، لأن معناه أنّ في الخلافة و السلطنة خيرا و شرّا، و لكنّ عمر ذهب بخيرها و نجا من شرّها بحبسه مثل طلحة و الزبير عن الخروج عن المدينة، حتّى إلى الجهاد لئلاّ يخرجا عليه، و أحدث شورى موجبة لنقض الامور عليهعليه‌السلام و ليس قولهعليه‌السلام : (ذهب بخيرها و نجا من شرّها) إلاّ نظير قولهعليه‌السلام فيه و في صاحبه في الشقشقية:

لشد ما تشطر أضرعيها.

و أمّا باقي العنوان فإمّا افتراء تعمّدا و الافتراء عليهعليه‌السلام كالنبيّعليه‌السلام كثير فالخصم يضع لنفسه على حسب هواه و إمّا توهما من قولهعليه‌السلام : لقد صدقت ابنة أبي خيثمة، أنّه راجع إلى جميع ما قالته، مع أنّهعليه‌السلام قيّده في قولها: ذهب بخيرها و نجا من شرّها. مع أنّ ما في (الطبري) تحريف، فعن ابن عساكر قالعليه‌السلام : (أصدقت) لا (لقد صدقت)( ٢) .

و ممّا ذكرنا يظهر لك ما في قول ابن أبي الحديد، على أنّ الطبري صرّح أو كاد أن يصرّح بأنّ المراد بهذا الكلام عمر، فإنّ الطبري إنّما روى وصف بنت أبي خيثمة بما روى، و أنّ المغيرة كان يعلم أنّ عليّاعليه‌السلام يكتم ما في قلبه على عمر كصاحبه، فأراد المغيرة أن يستخرج ما في قلبه ذاك الوقت فأجابهعليه‌السلام

____________________

(١) انظر الكافي ٣: ٣٠٢، ح ١، ٢، من لا يحضره الفقيه ١: ١٨٣ ح ٨٦٥، تهذيب الأحكام ٢: ٢٧٧ ح ١٠٩٩.

(٢) نص ما أورده ابن عساكر: للّه نادبة عمر عاتكة و هي تقول وا عمراه، مات و اللّه قليل العيب أمات العوج و أبرأ العمد، وا عمراه ذهب و اللّه بحظها و نجا من شرّها وا عمراه ذهب و اللّه بالسّنة و أبقى الفتنة، راجع صورة المخطوطة ١٣: ١٨٩ (تاريخ ابن عساكر. دار البشائر).

٤٨٣

بحكمته بذم و شكوى في صورة الثناء.

و بالجملة جميع ما رووه من هذا الخبر، أو ما كان من قبيله خلاف الدراية، و الأخبار المتواترة و السير المحفوفة بالقرائن و الشواهد، و كيف يصح العنوان و قد كتب معاوية إليهعليه‌السلام : ثم كرهت خلافة عمر و حسدته، و استطلت مدّته و سررت بقتله، و أظهرت الشماتة بمصابه، حتى إنّك حاولت قتل ولده...

و كيف و قد روى المسعودي و نصر بن مزاحم و غيرهما حتى الطبري و ان كفّ عن نقل تفصيله لعدم احتمال العامّة له عنده: أنّ محمّد بن أبي بكر لمّا كتب إلى معاوية كتابا و فيه بعد ذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فكان أوّل من أجاب و أناب و صدّق و وافق و أسلم و سلّم، أخوه و ابن عمّه علي بن أبي طالب، فصدّقه بالغيب المكتوم، و آثره على كلّ حميم، فوقاه كلّ هول، و واساه بنفسه في كلّ خوف، فحارب حربه و سالم سلمه، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل و مقامات الروع، حتى برز سابقا لا نظير له في جهاده، و لا مقارب له في فعله، و قد رأيتك تساميه، و أنت أنت و هو هو، المبرز السابق في كلّ خير، أوّل الناس إسلاما، و أصدق الناس نيّة، و أطيب الناس ذرّيّة، و أفضل النّاس زوجة، و خير النّاس ابن عمّ، و أنت اللعين بن اللعين، ثم لم تزل أنت و أبوك تبغيان الغوائل لدين اللّه، و تجهدان على إطفاء نور اللّه، و تجمعان على ذلك الجموع، و تبذلان فيه المال، و تحالفان فيه القبائل، على ذلك مات أبوك، و على ذلك خلفته، و الشاهد عليك بذلك من يأوي و يلجأ إليك من بقيّة الأحزاب و رؤوس النفاق و الشقاق للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الشاهد لعليّعليه‌السلام مع فضله المبين و سبقه القديم، أنصاره الذين ذكروا بفضلهم في القرآن، فأثنى اللّه عليهم من المهاجرين و الأنصار، فهم معه عصائب و كتائب، حوله يجاهدون بأسيافهم، و يهريقون دماءهم دونه، يرون الفضل في اتّباعه و الشقاء في خلافه، فكيف

٤٨٤

يا لك الويل تعدل نفسك بعليّ؟ و هو وارث رسول اللّه و وصيه، و أبو ولده، و أولى الناس له اتّباعا، و آخرهم به عهدا، يخبره بسرّه، و يشركه في أمره، و أنت عدوّه و ابن عدوّه، فتمتع ما استطعت بباطلك، و ليمدد لك ابن العاص في غوايتك.

أجابه معاوية: ذكرت حقّ ابن أبي طالب و قديم سوابقه، و قرابته من نبيّ اللّه، و نصرته له، و مواساته إيّاه في كلّ خوف و هول، و احتجاجك عليّ فقد كنّا و أبوك معنا في حياة نبيّنا، نرى حقّ ابن أبي طالب لازما لنا، و فضله مبرزا علينا، فلمّا اختار اللّه لنبيّه ما عنده، و أتمّ له ما وعده، و أظهر دعوته، و أفلج حجته، قبضه اللّه إليه، فكان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزه و خالفه على ذلك، اتّفقا و اتسقا، ثم دعواه إلى أنفسهم، فأبطأ عنهما و تلكأ عليهما، فهمّا به الهموم و أرادا به العظيم، فبايع و سلم لهما، لا يشركانه في أمرهما و لا يطلعانه على سرّهما، حتى قبضا و انقضى أمرهما إلى أن قال: فخذ حذرك يا بن أبي بكر فسترى و بال أمرك، و قس شبرك بفترك، تقصر من أن تساوي أو توازي من تزن الجبال حلمه، لاتلين على قصر قناته و لا يدرك ذو مدى أناته، أبوك مهّد مهاده و بنى ملكه و شاده، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوّله، و إن يكن جورا، فأبوك اسّه و نحن شركاؤه، و بهديه أخذنا، و بفعله اقتدينا، فعب أباك ما بدا لك أو دع( ١) .

و كيف يثني عليهما؟ و قد قال ابن قتيبة و غيره: إنّ عليّاعليه‌السلام أتي به إلى به إلى أبي بكر و هو يقول: أنا عبد اللّه و أخو رسوله. فقيل له: بايع. فقال: أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، لا ابايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار،

____________________

(١) وقعة صفّين: ١١٨، تاريخ الطبري ٤: ٥٥٧، سنة ٣٦، مروج الذهب ٣: ٢٠ ٢٢، شرح ابن أبي الحديد ٣: ١٨٨ ١٩٠.

٤٨٥

و احتججتم عليه بالقرابة من النبيّ، و تأخذونه منّا أهل البيت غصبا، ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر لمّا كان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منكم؟ فأعطوكم المقادة و سلّموا إليكم الامارة، فإذن أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، نحن أولى برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّا و ميّتا، إن كنتم تؤمنون، و إلاّ فبوؤا بالظلم و أنتم تعلمون. فقال له عمر: إنّك لست متروكا حتى تبايع. فقال له عليّعليه‌السلام : احلب حلبا لك شطره و شد له اليوم يردده عليك غدا إلى أن قال:

قال عليّعليه‌السلام : اللّه اللّه يا معشر المهاجرين لا تخرجوا سلطان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العرب من داره و قعر بيته، إلى دوركم و قعور بيوتكم، و تدفعون أهله عن مقامه في الناس و حقّه، فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ النّاس به، لأنّا أهل البيت، و نحن أحقّ بهذا الأمر. ما كان فينا القارى‏ء لكتاب اللّه، الفقيه في دين اللّه، العالم بسنن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، المتطلّع لأمر الرعيّة، الدافع عنهم الامور السيّئة، القاسم بينهم بالسويّة، و اللّه إنّه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه، فتزدادوا من الحقّ بعدا.

فقال بشير بن سعد الأنصاري: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا عليّ قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلفت عليك.

فقال عليّعليه‌السلام : أفكنت أدع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته لم أدفنه، و أخرج انازع الناس بسلطانه( ١ ) ؟

و في (خلفاء ابن قتيبة) أيضا: و خرج عليّ كرم اللّه وجهه يحمل فاطمة بنت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دابّة ليلا في مجالس الأنصار، تسألهم النصرة فيقولون: يا بنت رسول اللّه قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، و لو أنّ زوجك و ابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به. فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسنعليه‌السلام إلاّ ما كان

____________________

(١) الإمامة و السياسة ١: ١١ ١٢.

٤٨٦

ينبغي له، و لقد صنعوا ما اللّه حسيبهم و طالبهم( ١) .

و فيه: تفقّد أبو بكر قوما تخلّفوا عن بيعته عند عليّعليه‌السلام ، فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم و هم في دار عليّعليه‌السلام فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب و قال:

و الذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها. فقيل له: إنّ فيها فاطمة. فقال: و إن إلى أن قال: ثم قام فمشى معه جماعة حتى أتوا بيت فاطمة، فدقّوا الباب فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبه يا رسول اللّه، ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب، و ابن أبي قحافة؟ فلمّا سمع القوم صوتها و بكاءها انصرفوا باكين، و كادت قلوبهم تتصدّع و أكبادهم تتفطر، و بقي عمر و معه قوم، فأخرجوا عليّا فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع. فقال: إن أنا لم أفعل؟ قالوا: إذن و اللّه الذي لا إله إلاّ هو، نضرب عنقك. قال: إذن تقتلون عبد اللّه و أخا رسوله. فقال عمر: أمّا عبد اللّه فنعم، و أمّا أخا رسوله فلا. و أبو بكر ساكت لا يتكلّم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا اكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه. فلحق عليّعليه‌السلام بقبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يصيح و يبكي و ينادي:

يا بن أمّ إنّ القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني( ٢ ) إلى أن قال بعد ذكر ورودهما على فاطمةعليها‌السلام و تحويلها وجهها إلى الحايط، و عدم ردّها عليهما جواب سلامهما، ثم تقريرهما بقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها: (رضا فاطمة رضاه و سخطها سخطه) فقالت لهما فاطمة: فإنّي اشهد اللّه و ملائكته، أنّكما أسخطتماني و ما أرضيتماني، و لئن لقيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأشكونكما إليه إلى أن قال: فقالت فاطمة لأبي بكر لمّا خرج من عندها: و اللّه لأدعون اللّه عليك في كلّ صلاة اصليها إلى أن قال: فقال المغيرة لأبي بكر و عمر: الرأي أن تلقوا

____________________

(١) الإمامة و السياسة ١: ١٢.

(٢) طه: ٩٤.

٤٨٧

العباس، فتجعلوا له في هذا الأمر نصيبا يكون له و لعقبه، و تكون لكما الحجّة على عليّ و بني هاشم إذا كان العباس معكم( ١) .

و فيه: (في عنوان مرض أبي بكر و استخلافه)، قال أبو بكر: و اللّه ما آسي إلاّ على ثلاث فعلتهن ليتني كنت تركتهن إلى أن قال: وليتني تركت بيت عليّ و إن كان اغلق على الحرب إلى أن قال: قال أبو بكر لعمر: خذ هذا الكتاب و اخرج به إلى النّاس، و اخبرهم أنّه عهدي، و سلهم عن طاعتهم. فخرج بالكتاب و أعلمهم فقالوا: سمعا و طاعة. فقال له رجل: ما في الكتاب؟ قال: لا أدري، و لكنّي أوّل من سمع و أطاع. قال: لكنّي و اللّه أدري ما فيه، أمّرته عام أوّل و أمّرك العام( ٢) .

و فيه: (في عنوان تولية عمر الشورى) قال عمر: سأستخلف النفر الذين توفي النبيّ و هو عنهم راض. فأرسل إليهم فجمعهم إلى أن قال: ثمّ قال: إن استقام أمر خمسة منكم و خالف واحد فاضربوا عنقه، و إن استقام أربعة و اختلف اثنان فاضربوا أعناقهما، و إن استقام ثلاثة و اختلف ثلاثة فاحتكموا إلى ابني عبد اللّه فلأيّ الثلاثة قضى فالخليفة منهم، فإن أبى الثلاثة الاخر من ذلك فاضربوا أعناقهم. فقالوا: قل فينا مقالا نستدل فيها برأيك، و نقتدى به.

فقال: و اللّه ما يمنعني أن أستخلفك يا سعد إلاّ شدّتك و غلظتك، مع انّك رجل حرب، و ما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلاّ انّك فرعون هذه الامّة، و ما يمنعني منك يا زبير إلاّ انّك مؤمن الرضا كافر الغضب، و ما يمنعني من طلحة و كان غائبا إلاّ نخوته و كبره و لو وليها وضع خاتمه في اصبع امرأته، و ما يمنعني منك يا عثمان إلاّ عصبيتك و حبّك قومك، و ما يمنعني منك يا عليّ إلاّ حرصك

____________________

(١) الإمامة و السياسة ١: ١٢ ١٥، و النقل بتلخيص.

(٢) المصدر نفسه ١: ١٨ ٢٠، و النقل بتلخيص.

٤٨٨

عليها، و انك أحرى القوم، ان ولّيتها تقيم على الحق المبين و الصراط المستقيم إلى أن قال: ثم التفت إلى عليّعليه‌السلام فقال: لعل هؤلاء القوم يعرفون لك حقّك و قرابتك و شرفك من النبيّ، و ما آتاك اللّه من العلم و الفقه و الدين فيستخلفونك، فإن وليت هذا الأمر فاتق اللّه يا عليّ فيه، و لا تحمل أحدا من بني هاشم على رقاب الناس ثم اتلفت إلى عثمان فقال: يا عثمان لعل هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من النبيّ و سنّك و شرفك و سابقتك فيستخلفونك، فإن وليت هذا الأمر فلا تحمل أحدا من بني اميّة على رقاب الناس إلى أن قال:

فأخذ عبد الرحمن بيد عثمان فقال له: عليك عهد اللّه و ميثاقه لئن بايعتك لتقيمنّ كتاب اللّه و سنّة رسوله و سنّة صاحبيك. و شرط عمر أن لا تحمل أحدا من بني اميّة على رقاب النّاس، فقال عمثان: نعم ثم أخذ بيد عليّعليه‌السلام فقال له: ابايعك على شرط ألاّ تحمل أحدا من بني هاشم على رقاب النّاس. فقال عليّعليه‌السلام عند ذلك: ما لك و لهذا، إذا جعلتها في عنقي إن عليّ الاجتهاد لامّة محمّد حيث علمت القوّة و الأمانة استعنت بها في بني هاشم كان أو غيرهم قال عبد الرحمن: لا و اللّه حتّى تعطيني هذا الشرط، قال عليّعليه‌السلام : «و اللّه لا أعطيكه أبدا»، فتركه فقاموا من عنده فخرج عبد الرحمن إلى المسجد فجمع الناس، ثم قال:

انّي نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل يا عليّ سبيلا على نفسك، فانّه السيف لا غير ثم أخذ بيد عثمان فبايعه( ١) .

فترى ان عمر أخذ البيعة من أمير المؤمنينعليه‌السلام لأبي بكر بالسيف، و ان عمر دبّر أيضا لعثمان أن يؤخذ له من أمير المؤمنينعليه‌السلام البيعه بالسيف، فكيف يعقل ان يمدحهعليه‌السلام ؟ و لو فرض ألا يكونعليه‌السلام منصوبا من قبل اللّه و قبل رسوله، و كيف يعقل ذلك، و قد عرفعليه‌السلام ان عمر تعمّد صرف الأمر

____________________

(١) الإمامة و السياسة ١: ٢٤ ٢٧، و النقل بتلخيص.

٤٨٩

عنه؟ ففي (العقد الفريد) في الشورى، قال عليّعليه‌السلام للعبّاس: عدلت عنّا، قال:

و ما أعلمك؟ قال قرن عمر بي عثمان، ثم قال: إن رضي رجلان رجلا و رجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان، فلو كان الآخران معي ما نفعاني بعد كون عبد الرحمن مع عثمان( ١) .

ثم إذا كان في كلّ من السّتة عيب مانع من تعيينه، فكيف جعل الأمر بينهم، ثم إذا كانوا أهلا للخلافه و مات النبيّ راضيا عنهم، كما زعم، و ان ناقض بعد و قال لطلحة مات النبيّ غاضبا عليك للكلمة التي قلتها في نكاح نسائه بعده، كيف يأمر بقتلهم؟

ثمّ إن كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم راضيا بالفرض، فما كان عن عمر نفسه راضيا حين موته بالحتم، حيث منعه من وصيّته و نسبه إلى الهجر، حتى غضب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمره مع من معه بالخروج عنه.

ثم من كذبه و نفاقه يقول لأمير المؤمنينعليه‌السلام انّك أحرصهم عليها، مع انّه كان يعلمه بخلافه، و مع كونها حقّه تركها لمّا طلب منه العمل بسنّة الشيخين، و شرط عمر كما تركها يوم السقيفة لئلاّ يضمحل الإسلام.

ثم إذا كان اعترف بانّه أولاهم أن يقيم الناس على الحقّ المبين و الصراط المستقيم، لم لم يعيّنه؟ و قد قال تعالى:... أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ ان يتّبع أمن لا يهدّي إلاّ ان يُهدى فما لكم كيف تحكمون( ٢ ) ، و قد قال له ابنه عبد اللّه: إذا كان عليّ هكذا فلم لا تعينه؟ فقال له: انّه لا يقدر أن يراه قائما بالأمر لا في حياته و لا بعد وفاته.

ثم قوله لعثمان: يعرفون لك صهرك و سنّك و شرفك و سابقتك، فأبو

____________________

(١) العقد الفريد ٥: ٢٩.

(٢) يونس: ٣٥.

٤٩٠

سفيان أيضا كان صهرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كان أسنّ من عثمان و أشرف، فانّه كان شيخ بني اميّة على الإطلاق، و امّا سابقته فلم نعرف له منها غير فراره الطويل العريض يوم احد، و في باقي المواطن، و دفاعه عن أعداء اللّه و أعداء رسوله، كالمغيرة بن أبي العاص و ابن أبي سرح. نعم نعرف لعثمان لاحقته أيّام خلافته.

ثمّ انّ قوله لأمير المؤمنينعليه‌السلام : لعلّهم يعرفون لك حقّك و قرابتك و شرافتك من الرسول، كيف كانوا يعرفون له حقّه؟ و هو أوّل من أضعف مقامه و هيّأ تزلزل أمره و به اقتدوا، كما اعترف به معاوية.

ثم انّ قوله لهعليه‌السلام : (و ما آتاك اللّه من العلم و الفقه و الدين)، كيف سوى مع ذلك بينه و بين عثمان؟ و قد قال تعالى:... هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون...( ١ ) و قال جل ثناؤه: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا...( ٢) .

و كيف يقول لعثمان: (فلا تحمل أحدا من بني اميّة على رقاب النّاس)؟ مع انّه كان يعلم ان ترك عثمان ذلك من المحالات العاديّة، فهل قوله ذلك إلاّ نفاق منه و علم ذلك عثمان، فقبل و ما عمل.

و كيف يقول لأمير المؤمنينعليه‌السلام : لا تحمل أحدا من بني هاشم على رقاب النّاس؟ كما يقول لعثمان لا تحمل أحدا من بني أميّة على رقاب النّاس، و بنو هاشم أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دينهم دينه، و بنو اميّة أعداء اللّه و أعداء رسوله.

و كيف يسوّي بينهعليه‌السلام و بين عثمان؟ و يقول لكلّ منهما: (اتّق اللّه) و أمير المؤمنينعليه‌السلام يطلب منه أخوه صاعا من بر بيت المال زائدا على حقّه اضطرارا، لجوع أطفاله، فيحمي له حديدة و يدنيها من جسمه ليعتبر بها،

____________________

(١) الزمر: ٩.

(٢) السجدة: ١٨.

٤٩١

و عثمان يعطي خمس جميع افريقية لمروان الذي كان أخبث من يزيد بن معاوية، و لمّا سمع أمير المؤمنينعليه‌السلام بأن رجلا من فتية البصرة دعا عامله عثمان بن حنيف إلى ضيافة فأجابه، كتب إليه ينكر عليه ذلك، بأن ذاك الإطعام لم يكن للّه، لأنّه دعا الغني و جفا العائل، فلا ينبغي لعامله إجابته، و عثمان رأى أنّ أخاه لامّه الوليد بن عقبة، صلّى الصبح أربعا بالنّاس في سكره، و غنّى في صلاته، و تكلّم في سجوده فقال: أ أزيدكم على الأربع و لم ينكر عليه ذلك. فهل منشأ تلك المنكرات إلاّ عمر؟ فكيف يعقل ثناؤهعليه‌السلام عليه؟ إن هو إلاّ افتراء محض.

و رووا عنهعليه‌السلام أخبارا اخر في ثنائه عليه إفتراء و بهتانا، مثل ما رواه ابن قتيبة، عن ابن عباس قال: وضع عمر على سريره فتكنّفه النّاس يدعون و يصلّون، قبل أن يرفع فلم ير عني إلاّ رجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت فإذا عليّ يترحّم على عمر، و قال: و اللّه ما خلفت أحدا أحبّ أن ألقى اللّه بمثل عمله منك يا عمر، و ايم اللّه ان كنت لأرجو أن يجعلك اللّه مع صاحبيك، و ذاك انّي سمعت النبيّ يقول: ذهبت أنا و أبو بكر و عمر، و كنت أنا و أبو بكر و عمر، و إنّي كنت لأظن أن يجعلك اللّه معهما( ١) .

و عن عليّ قال: كنت جالسا عند النبيّ فأقبل أبو بكر و عمر فقال: هذان سيّدا كهول أهل الجنّة من الأوّلين و الآخرين، إلاّ النبيّين و المرسلين، و لا تخبرهما يا عليّ( ٢) .

فانّ الخبر الأوّل وضعوا صدره، في مقابل خبر رواه (فضائل أحمد بن حنبل) عن أبي ذر قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لينتهينّ بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلا

____________________

(١) الإمامة و السياسة ١: ١ ٢.

(٢) المصدر نفسه ١: ١.

٤٩٢

كنفسي، يمضي فيهم أمري، يقتل المقاتلة، و يسبي الذريّة، فما راعني إلاّ بردّ كف عمر من خلفي فقال: من تراه يعني؟ فقلت: ما يعنيك و إنّما يعني عليّاعليه‌السلام ( ١) .

و أخذ ذيله من قوله: (و اللّه ما خلّفت أحدا أحبّ أن ألقى اللّه بمثل عمله منك يا عمر) من قولهعليه‌السلام لمّا سجّى عمر: «ما أحد أحبّ أن ألقى اللّه بصحيفته من هذا المسجّى» يعني ليخاصم معه عند ربّه. فغيّره بما فعل.

و لا ننكر أن يقولعليه‌السلام لعمر: و ايم اللّه إن كنت لأرجو أن يجعلك اللّه مع صاحبيك، أي: أبي بكر و أبي عبيدة، فإن الثلاثة كانوا أصل السقيفة و زيد ذاك الكلام الركيك: (و ذاك انّي كنت سمعت النبيّ يقول: ذهبت أنا و أبو بكر و عمر و كنت أنا و أبو بكر و عمر...) تلبيسا.

و الخبر الثاني وضعوه في مقابل ما تواتر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحسنينعليهما‌السلام انّهما سيّدا شباب أهل الجنّة. و من المضحك انّهم غيّروا ما ورد أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لمّا توفي ارتجت الكوفة كالمدينة يوم قبض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و جاء رجل باكيّا و هو مسرع مسترجع و قال: «رحمك اللّه يا أبا الحسن، كنت أوّل القوم إسلاما...» بألفاظه في أبي بكر، فقالوا كما في (العقد):

لمّا قبض أبو بكر و سجّي بثوب ارتجت المدينة كيوم قبض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و جاء عليّ باكيا مسرعا مسترجعا حتّى وقف بالباب، و هو يقول: رحمك اللّه يا أبا بكر كنت أوّل القوم إسلاما...( ٢) .

و من فقراته: (كنت كالجبل لا تحرّكه العواصف)( ٣) .

____________________

(١) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ٢: ٥٧١ رقم ٩٦٦، مؤسسة الرسالة، بيروت، ١٩٨٣، و أورده الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ١١٠.

(٢) العقد الفريد ٥: ١٨ ١٩.

(٣) المصدر نفسه.

٤٩٣

و لا أدري أين كان هذا الوقار منه، هل في يوم خيبر أو في باقي مشاهده.

و بالجملة لا نعلم من الرجل إلاّ انّه لم يكن يشهد الحرب، أو يشهد فيفرّ حتّى قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا فرّ هو و صاحبه يوم خيبر: «لاعطين الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله كرارا غير فرار»، بمعنى أنّ الرجلين بالعكس لا يحبّان اللّه و رسوله و لا يحبّانهما فرارين غير كرارين.

و من فقراته: (لم يكن لأحد عندك مطمع و لا هوى)( ١) .

فنسألهم لم يكن لأحد عنده مطمع، حتى لخالد بن الوليد الذي قتل مالك بن نويرة مسلما وزنا بإمرأته، حتى أنكر عمر عليه عدم إنكاره على خالد.

و القول بكون الثلاثة غاصبين عند أمير المؤمنينعليه‌السلام و أهل بيته و شيعته من البديهيات، و الأخبار فيه من المتواترات، فكيف يصح ما قالوا؟.

و قد نقل ابن أبي الحديد عند شرح قولهعليه‌السلام : (و قد قال لي قائل: انّك يا بن أبي طالب على هذا الأمر لحريص):

عن يحيى بن سعيد الحنبلي المعروف بابن عالية، و أحد الشهود المعدلين ببغداد قال: كنت حاضرا عند الفخر إسماعيل بن علي الحنبلي الفقيه مقدم الحنابلة ببغداد في الفقه و الخلاف، إذ دخل شخص من الحنابلة قد كان له دين على بعض أهل الكوفة، فانحدر إليه يطالبه به و اتّفق أن حضرت زيارة الغدير فجعل الفخر يسائله: ما فعلت؟ ما رايت؟ هل وصل مالك إليك؟ و هل بقي منه بقيّة؟ و هو يجاوبه حتّى قال الرجل: يا سيدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير، و ما يجري عند قبر علي بن أبي طالب من الفضايح و الأقوال الشنيعة و سبّ الصحابة جهارا بأصوات مرتفعة من غير مراقب و لا خيفة فقال الفخر:

أي ذنب لهم، و اللّه ما جرّأهم على ذلك و لا فتح لهم هذا الباب إلاّ صاحب ذاك

____________________

(١) العقد الفريد ٥: ١٩.

٤٩٤

القبر. فقال الرجل: و من صاحبه؟ قال: عليّ بن أبي طالب. قال: يا سيدي هو الذي سنّ لهم ذلك و علّمهم إيّاه؟ قال: نعم و اللّه. قال: يا سيدي فإن كان محقّا فما لنا نتولّى فلانا و فلانا، و ان كان مبطلا فما لنا نتولاّه؟ فقام الفخر و قال:

لعنني اللّه إن كنت أعرف جواب هذه المسألة( ١) .

و روى الخطيب عن سويد بن غفلة، قال: مررت بنفر من الشيعة يتناولون أبا بكر و عمر بغير ما هما له أهل، فدخلت على عليّعليه‌السلام و قلت له ذلك، و قلت له:

و لو لا أنّهم يرون أنّك تضمر لهما على مثل ما أعلنوا ما اجترؤا على ذلك. فقال:

أعوذ باللّه أن أضمر لهما إلاّ الحسن الجميل.

و صدق سويد في قوله: لو لا أنّهم يرون أنّهعليه‌السلام يضمر لهما على مثل ما أعلنوا ما اجترؤوا. و صدقعليه‌السلام في عدم إضماره غير الحسن الجميل، فانهعليه‌السلام كان لا يضمر غير الحقّ لأحد، و الحقّ حسن جميل، و لم يفصحعليه‌السلام لأن عامّة النّاس كانوا غير عارفين بهعليه‌السلام ، و انما كان العارف منهم معدودين.

وضعوا ما مر من العنوان و غيره في قبال ما جرى من الحقّ على لسانهم، فروى أحمد بن أبي طاهر صاحب (تاريخ بغداد) عن ابن عباس، قال: دخلت على عمر في أوّل خلافته، و قد ألقي له صاع من تمر على خصفة، فدعاني إلى الأكل، فأكلت تمرة واحدة، و أقبل يأكل حتى أتى عليه، ثم شرب من جر كان عنده، و استلقى على مرفقة له، ثم قال: من أين جئت؟ قلت: من المسجد. قال:

كيف خلفت ابن عمّك؟ فظننته يعني عبد اللّه بن جعفر فقلت: خلفته يلعب مع أترابه. قال: لم أعن ذلك، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت. قلت: خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان، و هو يقرأ القرآن. قال: يا عبد اللّه عليك دماء البدن ان كتمتنيها هل بقي في نفسه شي‏ء من أمر الخلافة؟ قلت: نعم. قال:

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٩: ٣٠٧ ٣٠٨.

٤٩٥

أ يزعم أنّ النبيّ نصّ عليه؟ قلت: نعم و أزيدك: سألت أبي عمّا يدّعيه، فقال:

صدق. فقال: لقد كان من النبيّ في أمره ذرو من القول لا يثبت حجّة، و لا يقطع عذرا، و لقد كان يربع في أمره وقتا ما، و لقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعت من ذلك إشفاقا و حيطة على الإسلام، لا و رب هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبدا، و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم النبيّ أنّي علمت ما في نفسه، فأمسك و أبى اللّه إلاّ إمضاء ما حتم( ١) .

و روى أبو بكر الأنباري في (أماليه): أنّ عليّاعليه‌السلام جلس إلى عمر في المسجد، و عنده ناس فلمّا قام عرض واحد بذكره و نسبه إلى العجب و التيه، فقال عمر: حق لمثله أن يتيه، و اللّه لو لا سيفه لمّا قام عمود الإسلام، و هو بعد أقضى الامّة و ذو سابقتها و ذو شرفها. فقال له ذلك القائل: فما منعكم عنه؟

قال: كرهناه على حداثة السنّ و حبّه بني عبد المطلب( ٢ ) ، إلى غير ذلك ممّا لو أردنا استقصاءها لطال الكلام.

ثمّ ما وضعوا له على لسان غيرهعليه‌السلام أكثر و اكثر، و قد نقل ابن أبي الحديد الأشهر منها، من كتاب مسلم و البخاري عن عايشة قالت: إنّ النبيّ قال: كان في الامم محدّثون فإن تكن في امّتي فعمر( ٣) .

و عن سعد بن أبي وقاص قال: استاذن عمر على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عنده نساء من قريش، يكلّمنّه عالية أصواتهن، فلمّا دخل ابتدرن الحجاب، فدخل و النبيّ يضحك، فقال: عجبت من هؤلاء اللائي كنّ عندي، فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب، فقال عمر: أنت أحقّ أن يهبنك ثم قال لهنّ: أي عدوات أنفسهن

____________________

(١) نقله عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٢: ٢٠ ٢١.

(٢) نقله عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٢: ٨٢.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٢: ١٧٧.

٤٩٦

أ تهبنني و لا تهبن النبيّ؟ قلن: نعم أنت أغلظ و أفظّ فقال النبيّ: و الذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجّا إلاّ سلك فجّا غير فجّك( ١) .

و من غير الكتابين خبرا (أنّ السكينة لتنطق على لسان عمر) و خبرا (أنّ اللّه ضرب بالحقّ على لسان عمر و قلبه) و خبرا (أنّ بين عيني عمر ملكا يسدّده و يوفّقه) و خبرا (لو لم ابعث فيكم لبعث عمر) و خبرا (لو كان بعدي نبيّ لكان عمر) و خبرا (لو نزل إلى الأرض عذاب لمّا نجا إلاّ عمر) و خبرا (ما أبطأ عنّي جبرئيل إلاّ ظننت أنّه بعث إلى عمر) و خبرا (سراج أهل الجنّة عمر) و خبرا (إنّ شاعرا أنشد النبيّ شعرا، فدخل عمر فأشار النبيّ إلى الشاعر أن اسكت، فلمّا خرج عمر قال له: عد فعاد، فدخل عمر فأشار النبيّ إليه بالسكوت مرّة ثانية، فلمّا خرج عمر سأل الشاعر النبيّ عن الرجل، فقال: هذا عمر بن الخطاب، و هو رجل لا يحب الباطل) و خبرا (أنّ النبيّ قال: وزنت بأمتي فرجحت، و وزن أبو بكر بها فرجح، و وزن عمر بها فرجح ثم رجح)( ٢) .

قال ابن أبي الحديد بعد نقلها: رووا في فضل عمر حديثا كثيرا غير هذا، لكنّا ذكرنا الأشهر، و طعن أعداؤه في هذه الأحاديث فقالوا: لو كان محدّثا لمّا اختار معاوية الفاسق لولاية الشام، و لكان اللّه تعالى قد ألهمه و حدّثه بما يواقع معاوية من القبايح و المنكرات و البغي، و التغلب على الخلافة و الاستيثار بمال الفي‏ء و غير ذلك( ٣) .

قلت: و ان كان الخبر. (كان عمر محدثا) بلفظ اسم الفاعل من الافعال فصحيح، فقد أحدث تحريم المتعتين، و العول، و التعصيب، و التراويح، و غير

____________________

(١) المصدر نفسه ١٢: ١٧٧ ١٧٨.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٢: ١٧٨.

(٣) المصدر نفسه ١٢: ١٧٩.

٤٩٧

ذلك ممّا أبدعه في الدين.

قال ابن أبي الحديد: قالوا: و كيف لا يزال الشيطان يسلك فجّا غير فجّه و قد فرّ مرارا من الزحف في احد و حنين و خيبر، و الفرار من الزحف من عمل الشيطان؟( ١ ) قلت: يمكن تصحيح الخبر بأن إن لقيه سالكا فجّا يطمئن بأنّه يعمل عمله فيسلك فجا آخر لأنّه كفاه ذلك الفج.

قال ابن أبي الحديد قالوا: و كيف يدّعى له أنّ السكينة تنطق على لسانه، أ ترى كانت السكينة تلاج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبية حتى أغضبه( ٢) .

قلت: و بسكينته التي تنطق على لسانه منع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الوصيّة، و قال: إنّ الرجل ليهجر.

قال ابن أبي الحديد: قالوا: و لو كان ينطق على لسانه ملك أو بين عينيه ملك يسدده و يوفقه، أو ضرب اللّه بالحقّ على لسانه و قلبه، لكان نظيرا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل أفضل منه، لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤدي عن ملك، و عمر كان ملك ينطق على لسانه، و زيد ملكا آخر بين عينيه يسدده و يوفقه، و قد كان حكم في أشياء فيخطى‏ء فيها حتى يفهمه إيّاها عليعليه‌السلام و معاذ بن جبل و غيرهما، حتى قال: (لو لا عليّ لهلك عمر) (و لو لا معاذ لهلك عمر). و كان يشكل عليه الحكم فيقول لابن عباس: غص يا غواص فيفرج عنه. فأين كان الملك السمدّد له، و أين الحق الذي ضرب به على لسان عمر؟ و معلوم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينتظر نزول الوحي، و عمر على مقتضى هذه الأخبار، لا حاجة به إلى نزول ملك عليه، لأن الملكين معه في كلّ وقت، و قد عززا بثالث و هي السكينة،

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٢: ١٧٩.

(٢) المصدر نفسه.

٤٩٨

فهو إذن أفضل من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قالوا: و الحديث الذي مضمونه: (لو لم ابعث فيكم لبعث عمر)، يستلزم أن يكون النبيّ عذابا على عمر لأنّه لو لم يبعث لبعث، فالتنزيل له عن هذه الرتبة التي ليس وراءها رتبة، ينبغي ألاّ يكون في الأرض أحد أبغض إليه منه.

و أمّا كونه سراج أهل الجنّة، فيقتضي أنّه لو لا عمر لكانت الجنّة مظلمة لا سراج فيها.

قالوا: و كيف يجوز أن يقال: (لو نزل العذاب لم ينج منه إلاّ عمر)؟ و اللّه تعالى يقول: و ما كان اللّه ليعذبهم و أنت فيهم( ١) .

قالوا: و كيف يجوز أن يقال إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسمع الباطل و يحبّه و يشهده، و عمر لا يسمع الباطل و لا يشهده و لا يحبه؟ أ ليس هذا تنزيها لعمر عمّا لم ينزه عنه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

قالوا: و من العجب أن يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرجح من الامة يسيرا و كذلك أبو بكر، و يكون عمر أرجح منهما كثيرا( ٢) .

ثم أجاب ابن أبي الحديد عن تلك الطعون بمغالطات و تأويلات، كما أنّه نقل مطاعنه التي ذكرها الإمامية، و نقل رد المرتضى على قاضي القضاة في دفاعه عنها، و أجاب عنها بمغالطات، و أغرب حيث قال: و اعلم أنّ من تصدّى للعيب وجده، و من قصر همّته على الطعن على النّاس انفتحت له أبواب كبيرة، و السعيد من أنصف و رفض الهوى و تزوّد التقوى( ٣) .

قلت: فإذا كان الأمر كما ذكر، فليكن الطعن على إلهية الأوثان و على نبوّة

____________________

(١) الأنفال: ٣٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٢: ١٧٩ ١٨٠.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٢: ١٨٠ ١٨٢.

٤٩٩

مسيلمة، خلاف التّقوى، إلاّ أنّ المكابر لا علاج له، و إلاّ فمن أراد إحراق أهل بيت نبيّه الذين شهد كتاب اللّه بعصمتهم و طهارتهم، و منع نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وصيّته و نسبه إلى الهجر، و أمر بقتل من كان بمنزلة نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنص القرآن، و تخلّف عن جيش لعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتخلّف عنه، و آذى من كان أذاه أذى اللّه و أذى رسوله و كلّ ذلك من المقطوع الذي يقرّ الخصم به كيف يعقل أن يكون محقّا؟ اللهمّ إلاّ أنّ يقولوا: أن دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان باطلا، و انما كان دين عمر حقّا، و هو لازم قولهم.

و لقد حاجّ المأمون فقهاءهم في أحاديثهم المفتعلة، و قد نقل ذلك محمّد بن بابويه في (عيونه)، و ابن عبد ربّه في (عقده) بزيادة و نقصان قال: و اللفظ للأوّل، أمر المأمون يحيى بن أكثم بجمع أربعين رجلا من أهل الكلام و الحديث من أهل السنة، فجمع فقال لهم المأمون: إنّما جمعتكم لأحتجّ بكم عند اللّه فاتّقوا اللّه و انظروا لأنفسكم و إمامكم، لا يمنعكم جلالتي و مكاني من قول الحقّ حيث كان، و ردّ الباطل على من أتى به، فناظروني بجميع عقولكم.

إنّي رجل أزعم أنّ عليّاعليه‌السلام خير البشر بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن كنت مصيبا فصوّبوني، و إن كنت مخطئا فردّوا عليّ، و إن شئتم سألتكم، و إن شئتم سألتموني. فقال له الذين يقولون بالحديث: بل نسألك، فقال قائل منهم: إنّا نزعم أن خير النّاس بعد النبيّ أبو بكر و عمر، من قبل أنّ الرواية المجمع عليها جاءت عن النبيّ أنّه قال: اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر و عمر، و علمنا أنّه لم يأمر إلاّ بالاقتداء بخير النّاس.

فقال المأمون: الروايات كثيرة، و لا بد أن يكون كلّها حقّا، أو كلّها باطلا، أو بعضها حقّا و بعضها باطلا. فلو كانت كلّها حقّا كانت كلّها باطلا، من قبل أنّ بعضها ينقض بعضا. و لو كان كلّها باطلا، كان في بطلانها بطلان الدين

٥٠٠