بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٩

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

مؤلف: الشيخ محمد تقي التّستري
تصنيف:

الصفحات: 607
المشاهدات: 53920
تحميل: 4251


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53920 / تحميل: 4251
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 9

مؤلف:
العربية

الناس( ١ ) . قال: قد عفوت. قال: و اللّه يحب المحسنين( ٢ ) . قال: أنت حرّ لوجه اللّه، و قد نحلتك ضيعتي الفلانية( ٣) .

قلت: و روى المفيد في (إرشاده): أنّ رجلا من أهل بيت علي بن الحسينعليه‌السلام وقف عليه فأسمعه و شتمه فلم يكلمه، فلمّا انصرف قال لجلسائه: لقد سمعتم ما قال هذا الرجل و أنا أحبّ أن تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا منّي ردّي عليه. فقالوا له: نفعل، و لقد كنّا نحبّ أن تقول له و نقول، فأخذ نعليه و مشى و هو يقول: و الكاظيمن الغيظ و العافين عن الناس و اللّه يحب المحسنين( ٤ ) ، فعلموا انه لا يقول له شيئا، فلمّا أتى بابه قال: قولوا: له هذا علي بن الحسين، فخرج متوثّبا للشرّ و هو لا يشكّ أنّه إنّما جاء مكافئا له على بعض ما كان له، فقالعليه‌السلام له: يا أخي كنت قد وقفت عليّ آنفا و قلت و قلت، فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر اللّه منه، و إن كنت قلت ما ليس فيّ فغفر اللّه لك. فقبّل الرجل بين عينيه و قال: بل قلت فيك ما ليس فيك و أنا أحقّ به. قال الراوي: و الرجل هو الحسن بن الحسن( ٥) .

«و تجاوز عند المقدرة، و احلم عند الغضب» هكذا في (المصرية) و الصواب:

(و احلم عند الغضب و تجاوز عند المقدرة) كما في (ابن أبي الحديد)( ٦ ) و (ابن ميثم)( ٧ ) و (الخطية).

في (تاريخ اليعقوبي): قال رجل لأمير المؤمنينعليه‌السلام : أوصني. فقال له:

____________________

(١) آل عمران: ١٣٤.

(٢) آل عمران: ١٣٤.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٨: ٤٦.

(٤) آل عمران: ١٣٤.

(٥) الإرشاد: ٢٥٧.

(٦) شرح ابن أبي الحديد ١٨: ٤٦.

(٧) شرح ابن ميثم ٥: ٢٢٠.

٤١

أوصيك بتقوى اللّه و اجتناب الغضب و ترك الأماني، و أن تحافظ على ساعتين من نهار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس و من العصر إلى غروبها، و لا تفرح بما علمت و لكن بما عملت فيهما( ١) .

«و اصفح مع الدولة» أي: الغلبة، قال تعالى: و تلك الأيام نداولها بين الناس( ٢ ) أي: مرّة لهؤلاء و مرّة لهؤلاء، و قال الشاعر:

استدل الايام و الدهر دول

«تكن لك العاقبة» في (ذيل الطبري): قال سالم مولى أبي جعفر: كان هشام بن اسماعيل يؤذي عليّ بن الحسينعليه‌السلام و أهل بيته يخطب على المنبر و ينال من عليّ، فلمّا ولي الوليد بن عبد الملك عزله، و أمر به أن يوقف للناس كان هشام يقول لا و اللّه ما كان أحد من الناس أهمّ إليّ من عليّ بن الحسين، كنت أقول رجل صالح يسمع قوله فوقف للناس، فجمع علي بن الحسين ولده و حامته، و نهاهم عن التعرّض له، و غداعليه‌السلام مارّا لحاجة، فما عرض له، فناداه هشام اللّه أعلم حيث يجعل رسالته( ٣) .

و قال ابن أبي الحديد: قوله: «إصفح مع الدولة» هذه كانت شيمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و شيمة عليّ، أمّا النبي فظفر بمشركي قريش و عفا عنهم، و أمّا عليّ فظفر بأصحاب الجمل و قد شقّوا عصا الاسلام عليه، و طعنوا فيه و في خلافته، فعفا عنهم مع علمه بأنّهم يفسدون عليه أمره فيما بعد، و يصيرون إلى معاوية إمّا بأنفسهم أو بآرائهم و مكتوباتهم، و هذا أعظم من الصفح عن أهل مكة لأنّ أهل مكّة لم يبق لهم لمّا فتحت فئة يتحيّزون

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٠٩.

(٢) آل عمران: ١٤٠.

(٣) ذيل المذيل: ١٢٠. و الآية ١٢٤ من سورة الأنعام.

٤٢

إليها، و يفسدون الدين عندها( ١) .

«و استصلح كلّ نعمة أنعمها اللّه عليك» لأنّه تعالى يسلب نعمته إذا أفسدها العبد ان اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيروا ما بأنفسهم( ٢) .

«و لا تضيّعنّ نعمة من نعم اللّه عندك» فمن ضيّع نعمته تعالى فسلبت عنه ثم دعا لعودها كان من طوائف لا يستجيب دعاءهم.

و يمكن أن يراد بتضييع النعمة أن لا يتمتع هو منها و لا يمتّع الناس منها، كمن عنده فاكهة فلا يأكلها و لا يعطيها غيره حتّى تفسد فيكون من المفسدين.

«و لير عليك أثر ما أنعم اللّه به عليك» فإنّ كتمانها كفران يوجب السلب، و لا يرتضي هذه الخلّة المخلوق فكيف الخالق.

قال أبو هلال العسكري في (ديوان معانيه): قال ابن قتيبة: أراد جعفر حاجة كان طريقه إليها على باب الأصمعي، فدفع إلى خادم له ألف دينار و قال:

إنّي سأنزل في رجعتي إلى الأصمعي ثم يحدثني و يضحكني فإذا ضحكت فضع الكيس بين يديه فلمّا رجع دخل عليه فرأى حبّا مكسور الرأس و جرّة مكسورة العنق و قصعة مشعّبة و جفنة أعشار، و رآه على مصلّى بال و عليه بركان أجرد، فغمز غلامه ألاّ يضع الكيس بين يديه، فلم يدع الأصمعي شيئا ممّا يضحك الثكلان و الغضبان إلاّ أورده عليه فما تبسّم، ثم خرج فقال لرجل يسايره: من استرعى الذئب ظلم، و من زرع سبخة حصد الفقر، إنّي و اللّه لو علمت أن هذا يكتم المعروف بالفعل ما حفلت له بنشره له باللسان، و أين يقع مديح اللسان من آثار الإنسان، إنّ اللسان قد يكذب و الحال لا يكذب،

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٨: ٤٧.

(٢) الرعد: ١١.

٤٣

و للّه در نصيب حيث يقول:

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله

و لو سكتوا أثنت عليك الحقائب

ثم قال: أما علمت ان طاق أبرويز أمدح لأبرويز من شعر زهير لآل سنان( ١) .

«و اعلم أنّ أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة من نفسه و أهله و ماله» قال تعالى:

و قدّموا لأنفسكم و اتّقوا اللّه و اعلموا أنّكم ملاقوه و بشّر المؤمنين( ٢) ، و لتنظر نفس ما قدّمت لغد( ٣ ) ، إنّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقّا في التوراة و الإنجيل و القرآن و من أوفى بعهده من اللّه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به و ذلك هو الفوز العظيم( ٤) .

و في (مقاتل أبي الفرج): قال العباس بن علي يوم الطف لأخيه من أبيه و امه عبد اللّه بن علي: تقدّم بين يديّ حتّى أراك قتيلا و أحتسبك( ٥) .

و في (الطبري): قال عابس بن شبيب الشاكري لشوذب مولى شاكر يوم الطف: ما في نفسك أن تصنع؟ قال: اقاتل معك دون ابن بنت رسول اللّه حتّى اقتل. قال: ذلك الظن بك، فتقدّم بين يدي أبي عبد اللّهعليه‌السلام حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه و حتّى أحتسبك أنا، فإنّه لو كان معي السّاعة أحد أنا أولى به منّي بك لسرّني أن يتقدّم بين يديّ حتّى أحتسبه، فإنّ هذا يوم ينبغي أن نطلب الأجر فيه بكلّ ما قدرنا عليه، فإنّه لا عمل

____________________

(١) ديوان المعاني لأبي هلال العسكري

(٢) البقرة: ٢٢٣.

(٣) الحشر: ١٨.

(٤) التوبة: ١١١.

(٥) مقاتل الطالبيين: ٥٤.

٤٤

بعد اليوم و إنّما هو الحساب( ١) .

«فإنّك» هكذا في (المصرية) و الصواب: (و إنّك) كما في (ابن أبي الحديد)( ٢ ) و (ابن ميثم)( ٣ ) و (الخطية).

«ما تقدّم من خير يبقى لك ذخره» و ما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند اللّه هو خيرا و أعظم أجرا( ٤) .

«و ما تؤخّره يكن لغيرك خيره» و لذا قيل: إنّ الناس مال غيرهم أحبّ إليهم من مالهم لأنّه ليس مالهم إلاّ ما قدّموه و أنفقوه في سبيله تعالى، و أمّا ما ادّخروه فهو مال ورثتهم.

«و احذر صحابة من يفيل» أي: يضعف.

«رأيه» قال جرير:

رأيتك يا أخيطل إذ جرينا

و جرّبت الفراسة كنت فالا

«و ينكر عمله فإنّ الصاحب معتبر بصاحبه» قال الصادقعليه‌السلام : لا تصحبوا أهل البدع و لا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم.

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المرء على دين خليله و قرينه، و قال ابن أبي الحديد( ٥) :

قال طرفة:

عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه

فكلّ قرين بالمقارن يقتدى

«و اسكن الأمصار العظام فإنّها جمّاع» بالضم و التشديد، أي: الاخلاط و الإشابه، قال أبو قبيس بن الأسلت:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٤٤٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٨: ٤١.

(٣) شرح ابن ميثم ٥: ٢٢٠.

(٤) المزّمّل: ٢٠.

(٥) شرح ابن أبي الحديد ١٨: ٤٨.

٤٥

ثمّ تجلّت و لنا غاية

من بين جمع غير جمّاع

و جماع الثريا كواكبها المجتمعة، قال ذو الرمّة:

و نهب كجمّاع الثريا حويته

بأجرد محتوت الصفاقين خيفق

«المسلمين» و لأنّ فيها كلّ ما يحتاج إليه.

«و احذر منازل الغفلة و الجفاء و قلّة الأعوان على طاعة اللّه» و لذا يكون التعرّب بعد الهجرة كبيرة، و كانت الهجرة قبل الفتح فريضة.

«و اقصر» أي: أحصر.

«رأيك على ما يعنيك» أي: يهمّك و إلاّ فمن تابع الفضول فاتته الاصول.

«و إيّاك و مقاعد الأسواق فإنّها محاضر» أي: أمكنة حضور.

«الشيطان و معاريض» أي: مواضع عروض.

«الفتن» عن أبي جعفرعليه‌السلام : جاء أعرابي من بني عامر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله عن خير بقاع الأرض و شرّ بقاع الأرض. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ خير بقاع الأرض المساجد و أحبّ أهلها إلى اللّه أوّلهم دخولا و آخرهم خروجا، و إنّ شرّ بقاع الأرض الأسواق و هي ميدان ابليس يغدو برايته و يضع كرسيه و يبثّ ذرّيّته فبين مطفّف في قفيز أو طائش في ميزان، أو سارق في ذرع أو كاذب في سلعة، فلا يزال مع أوّل من يدخل و آخر من يخرج.

«و أكثر أن تنظر إلى من فضّلت عليه فإنّ ذلك من أبواب الشّكر» يمكن أن يراد بإكثار النظر إلى المفضّل عليه التفكّر في نعمة اللّه عليك بتفضيلك فتشكره تعالى على ذلك، و يمكن أن يراد به إكثار مساعدته ليكون شكرا لنعمته تعالى عليه.

و في (وزراء الجهشياري): قال ابن المعتمر: كنت أسير مع يحيى

٤٦

البرمكي و هو بين ابنيه الفضل و جعفر، فإذا ابن طرخان واقف على الطريق، فناداني فاستشرفت له فقال:

صحبت البرامك عشرا ولاء

و بيتي كراء و خبزي شراء

فسمعه يحيى فالتفت إلى ابنيه فقال: أفّ لهذا العقل فلان ممّن يحاسب، فلمّا كان من الغد جاء ابن طرخان فقلت له: ويحك ما هذا الذي عرضت له نفسك بالأمس. فقال: اسكت ما هو إلاّ أن انصرفت إلى منزلي حتّى جاءني من قبل الفضل بدرة و من قبل جعفر بدرة، و وهب لي كلّ واحد منهما دارا و أجرى لي من مطبخه ما يكفيني.

و كان يحيى يقول: ما وقع غبار مركبي على لحية رجل قط إلاّ أوجبت له على نفسي حفظه و ألزمتها حقّه.

«و لا تسافر في يوم جمعة حتّى تشهد الصلاة» إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه( ١ ) و قبل النداء إذا سافر فوّت على نفسه فضلا كثيرا.

«إلاّ فاصلا في سبيل اللّه» في الجهاد الواجب.

«أو في أمر تعذر به» من السفر الاضطراري.

«و اطع اللّه في جميع» هكذا في (المصرية) و الصواب: (في جمل) كما في (ابن أبي الحديد)( ٢ ) و (ابن ميثم)( ٣ ) و (الخطية).

«أمورك فإنّ طاعة اللّه فاضلة على ما سواها» و من يطع اللّه و رسوله فقد فاز فوزا عظيما( ٤ ) ، و من يطع اللّه و رسوله فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم

____________________

(١) الجمعة: ١٠.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٨: ٤٢.

(٣) شرح ابن ميثم ٥: ٢٢٠.

(٤) الاحزاب: ٧١.

٤٧

من النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا( ١) ، و من يطع اللّه و رسوله و يخش اللّه و يتّقه فأولئك هم الفائزون( ٢ ) ، و من يطع اللّه و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك هو الفوز العظيم( ٣) .

«و خادع نفسك في العبادة» روى (إرشاد المفيد) عن سعد بن كلثوم قال:

كنت عند جعفر بن محمّدعليه‌السلام فذكر عليّا فقال: و اللّه ما أكل من الدنيا حراما قطّ حتّى مضى لسبيله، و ما عرض له أمران قطّ هما للّه رضى إلاّ أخذ بأشدّهما عليه في دينه، و ما نزلت بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نازلة قطّ إلاّ دعاه ثقة به، و ما أطاق عمل النبي من هذه الأمة غيره، و إن كان ليعمل عمل رجل كأنّ وجهه بين الجنّة و النّار يرجو ثواب هذه و يخاف من عقاب هذه، و لقد أعتق من ماله مئة ألف مملوك في طلب وجه اللّه و النجاة من النار ممّا كدّ بيده و رشح منه جبينه، و إن كان ليقوت أهله بالزيت و الخلّ و العجوة، و ما كان لباسه إلاّ الكرابيس، إذا فضل شي‏ء عن يده من كمه دعا بالجلم فقصّه.

و ما من أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه و فقهه من علي بن الحسينعليه‌السلام ، و لقد دخل أبو جعفر ابنه عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر و رمضت عيناه من البكاء، و دبرت جبهته و انخرم أنفه من السجود، و و رمت ساقاه و قدماه من القيام في الصلاة، فلم يملك نفسه من البكاء حين رآه بتلك الحال فبكى رحمة له و إذا هو يفكر، فالتفت إليه بعد هنيهة و قال له: يا بنيّ اعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي

____________________

(١) النساء: ٦٩.

(٢) النور: ٥٢.

(٣) النساء: ١٣.

٤٨

بن ابي طالب، فأعطاه فقرأ فيها شيئا يسيرا ثم تركها من يده تضجّرا و قال:

من يقوى على عبادة عليعليه‌السلام ( ١) .

و روى (أمالي الشيخ): أن فاطمة بنت عليعليه‌السلام لما نظرت إلى ما يفعل ابن أخيها علي بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة أتت جابر الأنصاري فقالت له: يا صاحب النبي إنّ لنا عليكم حقوقا. و منها إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهادا أن تذكّروه اللّه و تدعوه إلى البقى على نفسه و هذا علي بن الحسين بقية أخي الحسين قد انخرم أنفه و ثفنت جبهته و ركبتاه و راحتاه إدآبا منه لنفسه في العبادة. فأتى جابر إليهعليه‌السلام و قال له: أما علمت يا ابن رسول اللّه أنّ اللّه تعالى إنّما خلق الجنة لكم و لمن أحبّكم و خلق النّار لمن أبغضكم و عاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟ فقالعليه‌السلام : أما علمت يا صاحب النبي أنّ جدّي رسول اللّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر فلم يدع الاجتهاد له و تعبّد بأبي هو و امي حتّى انتفخ السّاق و ورم القدم؟ و قيل له:

أ تفعل هذا و قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟ قال: أ فلا أكون عبدا شكورا؟ فلمّا رأى جابر أنّه ليس يغني فيه قوله قال له: يا ابن رسول اللّه البقيا على نفسك فإنّك من اسرة بهم يستدفع البلاء و يستكشف اللّأواء و بهم يستمطر السماء. فقالعليه‌السلام له: يا جابر لا أزال على منهاج أبوي صلوات اللّه عليهما مؤتسيا بهما حتّى ألقاهما. فأقبل جابر على من حضر فقال لهم: و اللّه ما أرى في أولاد الأنبياء بمثل علي بن الحسين إلاّ يوسف بن يعقوب، و اللّه لذرّيّة علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب إذ منهم لمن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا»( ٢) .

____________________

(١) الإرشاد للمفيد: ٢٥٥ ٢٥٦.

(٢) أمالي الطوسي ٢: ٢٤٩، المجلس ١٣.

٤٩

«و ارفق بها و لا تقهرها، و خذ عفوها و نشاطها» في (الكافي) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، و لا تكرّهوا عبادة اللّه إلى عباد اللّه فتكونوا كالراكب المنبّت الذي لا سفرا قطع و لا ظهرا أبقى( ١) .

«إلاّ ما كان مكتوبا عليك من الفريضة فإنّه لا بدّ من قضائها» أي: أدائها كقوله تعالى: فإذا قضيت الصلاة( ٢) .

«و تعاهدها عند محلّها» أي: عند وقتها سواء كان لك نشاط أم لا بخلاف النافلة.

و في (الكافي) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ للقلوب إقبالا و إدبارا، فإذا أقبلت فتنفّلوا و إذا أدبرت فعليكم بالفريضة.

و روي أنّ أبا الحسن موسىعليه‌السلام كان إذا أهمّ ترك النافلة( ٣) .

«و إيّاك أن ينزل بك الموت و أنت آبق من ربك في طلب الدّنيا» قيل لأبي ذر:

كيف ترى قدومنا على اللّه؟ قال: أمّا المحسن فكالغائب يقدم على أهله و أما المسي‏ء فكالآبق يقدم على مولاه. قيل له: فكيف حالنا عند اللّه؟ قال: إعرضوا أعمالكم على كتاب اللّه إنّه تعالى يقول: إنّ الأبرار لفي نعيم و إنّ الفجّار لفي جحيم( ٤ ) . قيل له: فأين رحمة اللّه؟ قال: إنّ رحمة اللّه قريب من المحسنين( ٥) .

«و إيّاك و مصاحبة الفسّاق فإنّ الشرّ بالشّر ملحق» روى (الكافي): أنّ الهاديعليه‌السلام قال للجعفري: مالي رأيتك عند عبد الرحمن بن أبي يعقوب؟ فقال

____________________

(١) الكافي ٢: ٨٦ ح ١.

(٢) الجمعة: ١٠.

(٣) الكافي ٣: ٤٥٤، ح ١٥ و ١٦.

(٤) الانفطار: ١٣ ١٤.

(٥) الاعراف: ٥٦.

٥٠

له: إنّه خالي. فقالعليه‌السلام : إنّه يقول في اللّه تعالى قولا عظيما يصف اللّه تعالى و لا يوصف فإمّا جلست معه و تركتنا و إمّا جلست معنا و تركته. فقال الجعفري:

هو يقول ما شاء، أيّ شي‏ء عليّ منه إذا لم أقل بقوله؟ فقال: أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا؟ أما علمت الذي كان من أصحاب موسىعليه‌السلام و كان أبوه من أصحاب فرعون، فلمّا لحق خيل فرعون موسى تخلّف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى، فمضى أبوه و هو يراغمه حتّى بلغا طرفا من البحر فغرقا جميعا و أتى موسى الخبر فقال: هو في رحمة اللّه و لكنّ النّقمة إذا نزلت لم يكن لها عمّن قارب المذنب دفاع.

و روى عن محمّد بن مسلم قال: مرّ بي أبو جعفرعليه‌السلام و أنا جالس عند قاض بالمدينة، فدخلت عليه من الغد فقال لي: ما مجلس رأيتك فيه أمس؟ قلت له: جعلت فداك إنّ هذا القاضي لي مكرم فربّما جلست إليه. فقال لي: و ما يؤمنك أن تنزل اللعنة عليه فتعمّ من في المجلس( ١) .

«و وقر اللّه» فإنّه لازم الإيمان به و لازم المعرفة بعظمته و قدرته، قال نوح لقومه: ما لكم لا ترجون للّه وقارا. و قد خلقكم أطوارا( ٢) .

«و أحبب أحباءه» في (الكافي) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأصحابه: أيّ عرى الإيمان أوثق؟ فقال بعضهم: الصلاة، و قال بعضهم: الزكاة، و قال بعضهم:

الصيام، و قال بعضهم: الحج و العمرة، و قال بعضهم: الجهاد، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله ‏و سلّم: لكلّ ما قلتم فضل، و لكنّ أوثق عرى الإيمان باللّه الحبّ في اللّه، و البغض في اللّه و توالي أوليائه و التبرّي من أعدائه.

و عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ودّ المؤمن للمؤمن من أعظم شعب الإيمان، ألا و من

____________________

(١) الكافي ٢: ٣٧٤ ح ٢.

(٢) نوح: ١٣ ١٤.

٥١

أحبّ في اللّه و أبغض في اللّه و أعطى في اللّه و منع في اللّه فهو من أصفياء اللّه.

و عن السجادعليه‌السلام قال: إذا جمع اللّه الأوّلين و الآخرين قام مناد يسمع الناس فيقول: أين المتحابّون في اللّه؟ فيقوم عنق من الناس فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب، فتتلقّاهم الملائكة فتقول لهم: فأيّ ضرب أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابون في اللّه، فيقولون: أيّ شي‏ء كانت أعمالكم؟

قالوا كنّا نحبّ في اللّه و نبغض في اللّه، فيقولون لهم: نعم أجر العاملين( ١) .

«و احذر الغضب فإنّه جند عظيم من جنود إبليس» روى (الكافي): أنّ رجلا بدويّا أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إنّي أسكن البادية فعلّمني جوامع الكلم. فقال: آمرك ألاّ تغضب، فأعاد عليه المسألة ثلاث مرّات حتّى رجع الرجل إلى نفسه فقال: لا أسأل عن شي‏ء بعد هذا، ما أمرني النبيّ إلاّ بالخير.

و كان أبي يقول: أيّ شي‏ء أشدّ من الغضب؟ إنّ الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرّم اللّه و يقذف المحصنة.

و عن أبي جعفرعليه‌السلام : إنّ الرجل ليغضب فما يرضى أبدا حتّى يدخل النار، فأيّما رجل غضب على قوم و هو قائم فليجلس من فوره ذلك فإنّه سيذهب عنه رجز الشيطان، و أيّما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه و ليمسّه فإنّ الرّحم إذا مسّت سكنت( ٢) .

٨ - الخطبة (٢٢) و من خطبة له ع أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ كَقَطَرَاتِ اَلْمَطَرِ إِلَى كُلِّ

____________________

(١) الكافي ٢: ١٢٥ ١٢٦ ح ٣ و ٦ و ٨ بتصرف في بعض الألفاظ.

(٢) الكافي ٢: ٣٠٢ ٣٠٣ ح ٢ و ٤.

٥٢

نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ يَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً فَإِنَّ اَلْمَرْءَ اَلْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ وَ تُغْرَى بِهَا لِئَامُ اَلنَّاسِ كَانَ كَالْفَالِجِ اَلْيَاسِرِ اَلَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ اَلْمَغْنَمَ وَ يُرْفَعُ بِهَا عَنْهُ اَلْمَغْرَمُ وَ كَذَلِكَ اَلْمَرْءُ اَلْمُسْلِمُ اَلْبَرِي‏ءُ مِنَ اَلْخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اَللَّهِ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ إِمَّا دَاعِيَ اَللَّهِ فَمَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لَهُ وَ إِمَّا رِزْقَ اَللَّهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَ مَالٍ وَ مَعَهُ دِينُهُ وَ حَسَبُهُ إِنَّ اَلْمَالَ وَ اَلْبَنِينَ حَرْثُ اَلدُّنْيَا وَ اَلْعَمَلَ اَلصَّالِحَ حَرْثُ اَلْآخِرَةِ وَ قَدْ يَجْمَعُهُمَا اَللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ فَاحْذَرُوا مِنَ اَللَّهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَ اِخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ وَ اِعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَ لاَ سُمْعَةٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اَللَّهِ يَكِلْهُ اَللَّهُ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ نَسْأَلُ اَللَّهَ مَنَازِلَ اَلشُّهَدَاءِ وَ مُعَايَشَةَ اَلسُّعَدَاءِ وَ مُرَافَقَةَ اَلْأَنْبِيَاءِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي اَلرَّجُلُ وَ إِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عَشِيرَتِهِ وَ دِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَلْسِنَتِهِمْ وَ هُمْ أَعْظَمُ اَلنَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ وَ أَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ وَ أَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِنْ نَزَلَتْ بِهِ وَ لِسَانُ اَلصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اَللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي اَلنَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ اَلْمَالِ يُوَرِّثُهُ غَيْرَهُ و منها أَلاَ لاَ يَعْدِلَنَّ عَنِ اَلْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا اَلْخَصَاصَةَ أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لاَ يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَ لاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ وَ مَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ وَ يُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ وَ مَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ اَلْمَوَدَّةَ قال الشريف: أقول: الغفيرة هنا الزّيادة و الكثرة من قولهم للجمع الكثير «الجمّ الغفير و الجمّاء الغفير»، و يروى «عفوة من أهل أو

٥٣

مال» والعفوة الخيار من الشي‏ء، يقال: أكلت عفوة الطعام أي خياره، و ما أحسن المعنى الذي أرادهعليه‌السلام بقوله «و من يقبض يده عن عشيرته» إلى تمام الكلام فإنّ الممسك خيره عن عشيرته إنّما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج إلى نصرتهم و اضطرّ إلى مرافدتهم قعدوا عن نصره و تثاقلوا عن صروته، فمنع ترافد الأيدي الكثرة و تناهض الأقدام الجمّة.

و قال في فصل غريب حديثهعليه‌السلام بعد (٢٦٠) في الثامن: «و من حديثه كالياسر الفالج ينتظر أوّل فورزة من قداحه» الياسرون هم الّذين يتضاربون بالقداح على الجزور، والفالج القاهر و الغالب، يقال: فلج عليهم و فلجهم، قال الرّاجز:

لمّا رأيت فالجا قد فلجا

أقول: الثاني كما ترى جزء الأول فهو من المواضع التي قال: «و ربّما بعد العهد» بما اختير أوّلا فأعيد بعضه سهوا و نسيانا، و روى الأول نصر بن مزاحم في (صفينه) و الدينوري في (طواله) و ابن قتيبة في (خلفائه) و اليعقوبي في (تاريخه) و محمّد بن يعقوب في (كافيه) بزيادة و نقصان و اختلاف، و كذا ابن عساكر في ترجمتهعليه‌السلام بطريقين عن يحيى بن معمر، و في طريق الثاني سفيان بن عيينة و قال قال من يحسن أن يتكلم بهذا الكلام إلاّ عليّ( ١ ) ؟

و روى الأول عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: خطبة عليّ بن أبي طالب في الجمعة بالكوفة و المدينة، أن الحمد للّه أحمده و أستعينه و أستهديه، و أعوذ باللّه من الضّلالة، من يهد اللّه فلا مضلّ له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد ألا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، انتخبه لأمره و اختصّه

____________________

(١) ابن عساكر ٣: ٢٦٩ ٢٧١ ح ١٢٩١ ١٢٩٢.

٥٤

بالنبوّة أكرم خلقه عليه و أحبهم إليه، فبلّغ رسالة ربّه و نصح لأمته و أدّى الذي عليه و أوصيكم بتقوى اللّه، فإنّ تقوى اللّه خير ما تواصى به عباد اللّه و أقربه لرضوان اللّه و خيره في عواقب الامور عند اللّه، و بتقوى اللّه أمرتم و للاحسان و الطاعة خلقتم، فاحذروا من اللّه ما حذّركم من نفسه، فإنّه حذّر بأسا شديدا، و اخشوا اللّه خشية ليست بتعذير، و اعملوا بغير رياء و لا سمعة، فإنّه من عمل لغير اللّه وكله اللّه إلى ما عمل له، و من عمل اللّه مخلصا تولّى اللّه أجره، و أشفقوا من عذاب اللّه فإنّه لم يخلقكم عبثا و لم يترك شيئا من أمركم سدى، قد سمّى آثاركم و علم أعمالكم و كتب آجالكم، فلا تغتروا بالدّنيا فإنّها غرّارة بأهلها مغرور من اغترّ بها و إلى فناء ما هي، إنّ الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، أسأل اللّه منازل الشهداء و مرافقة الأنبياء و معيشة السعداء فانما نحن له و به( ١) .

و مثله الثاني إلاّ أنّه قال: و إنّ أول جمعة صلّى بالكوفة خطب فقال...( ٢) .

و قال الثالث: ذكروا أن عليّاعليه‌السلام قام خطيبا فقال: أيّها النّاس ألا إنّ هذا القدر ينزل من السماء كقطر المطر على كلّ نفس بما كتب من زيادة أو نقصان في أهل أو مال، فمن أصابه نقصان في أهل أو مال فلا يغشّ نفسه، ألا و إنّما المال حرث الدنيا و العمل الصالح حرث الآخرة و قد يجمعهما اللّه لأقوام. و قد دخل في هذا العسكر طمع من معاوية فضعوا عنكم همّ الدنيا بفراقها و شدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها، فإنّ نازعتكم أنفسكم إلى غير ذلك فردّوها إلى الصبر و وطّنوها على العزاء، فو اللّه إنّ أرجى ما أرجوه الرزّق من اللّه من حيث

____________________

(١) وقعة صفين لنصر بن مزاحم: ١٠.

(٢) الأخبار الطوال: ١٥٢ ١٥٣.

٥٥

لا يحتسب، و قد فارقكم مصقلة بن هبيرة فآثر الدنيا على الآخرة، و فارقكم بسر ابن أرطأة فأصبح ثقيل الظهر من الدماء مفتضح البطن من المال، و فارقكم زيد ابن عديّ بن حاتم فأصبح ليسأل الرجعة، و أيم اللّه لودّت رجال مع معاوية أنّهم معي فباعوا الدنيا بالآخرة، و لودّت رجال معي أنّهم مع معاوية فباعوا الآخرة بالدنيا( ١) .

و ما فيه من فراق بسر عنه كمصقلة و زيد غريب فلم يذكر أحد أنه كان معهعليه‌السلام أولا.

و قال أيضا بعد ذكر بيعتهعليه‌السلام و ذكروا أن البيعة لهعليه‌السلام لما تمّت بالمدينة خرج إلى المسجد فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و وعد الناس خيرا ثم قال: لا يستغني الرجل و ان كان ذا مال و ولد عن عشيرته و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم، هم أعظم الناس حيطة من ورائه و ألمّهم لشعثه و أعطفهم عليه إن أصابته مصيبة أو نزل به بعض مكاره الامور، و من يقبض يده عن عشيرته فإنّه يقبض عنهم يدا واحدة و تقبض عنه أيد كثيرة، و من بسط يده بالمعروف ابتغاء وجه اللّه تعالى يخلف اللّه ما أنفق في دنياه و يضاعف له في آخرته.

و اعلموا أنّ لسان صدق يجعله اللّه للمرء في الناس خير له من المال، فلا يزدادنّ أحدكم كبرياء و لا عظمة في نفسه، و لا يغفل أحدكم عن القرابة أن يصلها بالذي لا يزيده إن أمسكه و لا ينقصه إن أهلكه.

و اعلموا أنّ الدنيا قد أدبرت و الآخرة قد أقبلت. ألا و إنّ المضمار اليوم و السبق غدا، ألا و إنّ السبق الجنّة و الغاية النّار، ألا إنّ الأمل يسهي القلب و يكذب الوعد و يأتي بغفلة و يورث حسرة فهو غرور و صاحبه في عناء،

____________________

(١) الامامة و السياسة ١: ١١٤.

٥٦

فافزعوا إلى قوام دينكم و إتمام صلاتكم و أداء زكاتكم و النّصيحة لإمامكم، و تعلّموا كتاب اللّه و أصدقوا الحديث عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أوفوا بالعهد إذا عاهدتم و أدّوا الأمانات إذا ائتمنتم و ارغبوا ثواب اللّه و ارهبوا عذابه و اعملوا بالخير تجزوا بالخير يوم يفوز بالخير من قدّم الخير( ١) .

و قال الرابع: خطبعليه‌السلام فتلا قوله عزّ و جلّ: إنّا نحن نحي الموتى و نكتب ما قدّموا و آثارهم و كلّ شي‏ء أحصيناه في إمام مبين( ٢ ) ثم قال: إنّ هذا الأمر ينزل من السماء كقطر المطر إلى كلّ نفس بما كتب اللّه لها من نقصان في نفس أو أهل أو مال، فمن أصابه نقص في أهله و ماله و رأى عند أخيه عفوه فلا يكوننّ ذلك عليه فتنة، فإنّ المرء المسلم ما لم يأت دناءة يخشع لها و ذلة إذا ذكرت و تغرى به لئام النّاس كالياسر الفالج الذي ينتظر أول فوزه من قداحه يوجب له المغنم و يدفع عنه المغرم، كذلك المرء البري‏ء من الخيانة و الكذب يترقب كلّ يوم و ليلة إحدى الحسنيين إمّا داعي اللّه فما عند اللّه خير له و اما فتحا من اللّه فإذا هو ذو أهل و مال و معه حسبه و دينه، المال و البنون حرث الدنيا و العمل الصالح حرث الآخرة و قد يجمعهما اللّه لأقوام( ٣) .

و روى الخامس مسندا عن الحسن قال: خطبعليه‌السلام فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: أما بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حيث ما عملوا من المعاصي و لم ينههم الربّانيّون و الأحبار عن ذلك، و إنّهم لمّا تمادوا في المعاصي و لم ينههم الربّانيّون و الأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات، فأمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر. و اعلموا أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لن يقرّبا

____________________

(١) الإمامة و السياسة ١: ٥٠ ٥١.

(٢) يس: ١٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٠٧.

٥٧

أجلا و لن يقطعا رزقا، إن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كلّ نفس بما قدّر اللّه لها من زيادة أو نقصان، فإن أصاب أحدكم مصيبة في أهل أو مال أو نفس و رأى عند أخيه غفيرة في أهل أو مال أو نفس فلا يكوننّ له فتنة، فإنّ المرء المسلم لبرى‏ء من الخيانة ما لم يغش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت و يغرى بها لئام الناس، كان كالفالج الياسر الذي ينتظر أوّل فوزة من قداحه حتّى توجب له المغنم و يدفع عنه بها المغرم، و كذلك المرء المسلم البري‏ء من الخيانة ينتظر من اللّه إحدى الحسنيين إمّا داعي اللّه فما عند اللّه خير له، و إمّا رزق اللّه فإذا هو ذو أهل و مال و معه دينه و حسبه، إنّ المال و البنين حرث الدنيا و العمل الصالح حرث الآخرة و قد يجمعهما اللّه لأقوام، فاحذروا من اللّه ما حذركم من نفسه و اخشوه خشية ليست بتعذير و اعملوا في غير رياء و لا سمعة، فإنّه من يعمل لغير اللّه يكله اللّه إلى من عمل له، نسأل اللّه منازل الشهداء و معايشة السعداء و مرافقة الأنبياء.

و عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: قال أمير المؤمنين: لن يرغب المرء عن عشيرته و إن كان ذا مال و ولد عن مودّتهم و كرامتهم و دفاعهم بأيديهم و ألسنتهم، هم أشدّ الناس حيطة من ورائه و أعطفهم عليه و ألمّهم لشعثه ان أصابته مصيبة أو نزل به بعض مكاره الأمور، و من يقبض يده عن عشيرته فإنّما يقبض عنهم يدا واحدة و يقبض عنه منهم أيد كثيرة، و من يلن حاشيته يعرف صديقه منه المودّة و من بسط يده بالمعروف إذا وجده يخلف اللّه له ما أنفق في دنياه و يضاعف له في آخرته، و لسان الصدق للمرء يجعله اللّه في الناس خير من المال يأكله و يورّثه، و لا يزدادنّ أحدكم كبرا و عظما في نفسه و نأيا عن عشيرته إن كان موسرا في المال، و لا يزدادن أحدكم في أخيه زهدا و لا منه بعدا إذا لم ير منه مروّة و كان معوزا في المال، لا يغفل أحدكم عن

٥٨

القرابة بها الخصاصة أن يسدّها بما لا ينفعه إن أمسكه و لا يضرّه إن استهلكه( ١) .

و ظهر لك ممّا نقلنا من المدارك و الأسانيد مع اختلافهما أنّ ما عنونه المصنف جمع بين روايتين كما أنّه جمع بين موضوعين، فمن أوّله إلى قوله:

«و مرافقة الأنبياء» رواية و كانت الخطبة بعد صفّين، و من قوله بعده: «أيها الناس إنّه لا يستغني الرجل...» خطبة اخرى خطبعليه‌السلام بها أوّل بيعة الناس له، و لا وجه لجمع المصنّف بينهما سوى ربط يسير بين قوله في الأولى: «فإذا رأى أحدكم لأخيه غفيرة...» و قوله في الثانية: «لا يستغني الرجل و إن كان ذا مال عن عشيرة...»، لكنّه كما ترى فالأول دستور للمسلم في سيرته مع المسلمين، و الثاني حثّ على صلة الارحام.

و ممّا ذكرنا يظهر لك ما في تكلف الخوئي للربط بينهما لعدم تفطّنه لكونهما كلامين كغيره ممّن سبقه من الشّراح، فقال عند قولهعليه‌السلام «أيّها الناس» لمّا أشار إلى تأديب الفقراء بالنهي عن التعرض للأغنياء بما يوجب لهم ملكات السوء من الحسد و نحوه، أردف ذلك بتأديب الأغنياء و استدراجهم في حقّ الفقراء ذوي الأرحام...( ٢) .

«أما بعد فإنّ الأمر ينزل من السماء كقطرات...» هكذا في (المصرية) و الصواب: «كقطر» كما في (ابن أبي الحديد)( ٣ ) و (ابن ميثم)( ٤ ) و (الخطية) بل و في مداركه.

«المطر إلى كلّ نفس بما قسم لها من زيادة و» هكذا في (المصرية)

____________________

(١) الكافي ٢: ١٥٤.

(٢) شرح الخوئي ١: ٢٨٨ و ٣٩٦.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١: ٣١٢.

(٤) شرح ابن ميثم ٢: ٣.

٥٩

و الصواب: (أو) كما في (ابن أبي الحديد)( ١ ) و (ابن ميثم)( ٢ ) و (الخطية) بل و في مداركه.

«نقصان» قال تعالى: و جعلنا لكم فيها معايش و من لستم له برازقين.

و إن من شي‏ء إلاّ عندنا خزائنه و ما ننزّله إلاّ بقدر معلوم( ٣ ) ، يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكرانا و إناثا و يجعل من يشاء عقيما( ٤ ) ، قل اللّهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممّن تشاء و تعزّ من تشاء و تذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شي‏ء قدير. تولج اللّيل في النّهار و تولج النّهار في اللّيل و تخرج الحيّ من الميّت و تخرج الميّت من الحيّ و ترزق من تشاء بغير حساب( ٥ ) ، اللّه يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر( ٦) .

«فإذا رأى أحدكم لأخيه غفيرة» أي: كثرة و زيادة.

«في أهل أو مال أو نفس فلا تكوننّ» تلك الغفيرة أو رؤيتها له.

«فتنة» بأن يحسده عليها فيهلكه الحسد لأن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب، كما كانت تلك الغفيرة لمن هي عنده فتنة هل يشكرها أم لا، قال تعالى لنبيه: و لا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه و رزق ربك خير و أبقى( ٧) .

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١: ٣١٢.

(٢) شرح ابن ميثم ٢: ٣.

(٣) الحجر: ٢٠ ٢٢.

(٤) الشورى: ٤٩ ٥٠.

(٥) آل عمران: ٢٦ ٢٧.

(٦) الرعد: ٢٦.

(٧) طه: ١٣١.

٦٠