موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 188600
تحميل: 8737


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188600 / تحميل: 8737
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ألا وإنَّ أكثر أتباعه يومئذ أولاد الزِّنا، وأهل الطيالسة الخضر... ) إلخ الحديث، وغير ذلك من الأخبار.

قد أعطينا في التاريخ السابق أُطروحتان لفَهْم الدجَّال ( إحداهما: تقليديَّة تقول: إنَّ الدجَّال شخص مُعيَّن طويل العمر، سيظهر في آخر الزمان من أجل ضلال الناس وفتنتهم عن دينهم. ويدلُّ عليه قليل من الأخبار(1) .

والأُخرى: إنَّ الدجَّال عبارة عن مستوى حضاري أيديولوجي مُعيَّن، مُعادٍ للإسلام والإخلاص الإيماني ككل، وقد سبق هناك أن ناقشنا الأُطروحة الأُولى ورفضناها بالبرهان، ولا بدَّ من طرح ما دلَّ عليها من الأخبار، ودعمنا الأُطروحة الثانية وهي، التي ستكون منطلق كلامنا الآن.

ونحن نعلم، فيما يخصُّ الحضارة المادِّية المـُعاصرة، كيف استطاعت غزو المجتمع المـُسلم فكريَّاً وعسكريَّاً ونادت بأعلى صوتها فأسمعت ما بين الخافقين، عن طريق وسائل الإعلام الحديثة، فجمعت إليها أولياءها، وهم كل مَن يؤمِن بعظمتها وصدقها وأغراه العيش بين أكنافها.

ونرى كيف أنَّها أمدَّت هؤلاء بالخير الوفير والقوَّة والسيطرة (فتروح سارحتهم) أي أغنامهم، وهو كناية أو رمز عن كل مصدر للمال والقوَّة (أطول ما كانت ذراً وأسبغه وأمدَّه خواصر) يكنى بذلك عمَّا ينال المـُنحرفون من خير الحضارة المادِّية وما تستطيع هذه الحضارة أن تضمنه لهم من مُستقبل عريض.

على حين نرى الخاصَّة المـُخلصين، الذين شجبوا هذه الحضارة، وأنكروا عليها مادِّيَّتها ولا أخلاقيَّتها وظلمها، يعيشون في الضيق والضرر ( يُصبحون مُمحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ) كما يقول الخبر.

(يجيء الدجَّال ) مُمثِّل هذه الحضارة (حتى ينزل في ناحية المدينة) أي مدينة، ليس له فيها إلاَّ مركز واحد غير مُلفت للنظر، قد يكون هو سفارة، وقد يكون مركز تبشير، وقد يكون مدرسة أو مُستشفى، ولكن بمضيِّ الأيَّام والليالي (ترجف المدينة ثلاث رجفات ) خلالها، وهو كناية أو رمز عن المصاعب والمِحن التي تمرُّ بها المجتمعات، وهي محن التمحيص دائماً ( فيخرج إليه كل كافر ومُنافق) فاشل في التمحيص.

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص578 وما بعدها وص617.

١٤١

وقد ذكرنا في التاريخ السابق(1) معنى ادِّعاء الدجَّال للربوبية، وإنَّ له نهرين... طبقاً لهذه الأُطروحة... فلا نُعيد.

(أكثر أتباعه أهل الطيالسة الخضر ) وهم – حسب ما يبدو – أهل الأموال والسُّمعة والسيطرة الاجتماعية في المجتمع المسلم المـُنحرف، و(أولاد الزنا) يمكن أن يُراد بذلك أحد معنيين:

المعنى الأول: أُولئك الذين انقطعوا عن آبائهم عقائديَّاً ومفاهيميَّاً... وأصبحوا أولاداً للناس الآخرين، الذين آمنوا بربوبيتهم وولايتهم ومبادئهم.

المعنى الثاني: إنَّ الإيمان بالاتجاه المادِّي الحديث، يُنتج إنكار عقد الزواج وتكوين الأُسرة بدونه، كما عليه عدد من الناس في البلاد الإسلامية الآن، فيُنتجون ذُرِّيَّة تكون لقمةً سائغةً في شدق السبع المادِّي الهائل.

وليس هذا موقف الحضارة المادِّية المـُعاصرة فقط، بل موقف كل حضارة مادِّية على مدى التاريخ، وخاصة فيما إذا استمرَّت في المـُستقبل عدداً مهمَّاً من الأجيال، ومفهوم (الدجَّال) شامل لمجموع الحضارة المادِّية على مدى التاريخ، لا خصوص حضارتنا المـُعاصرة المـُحترمة!!

وإذا كان للدجِّال أن يُعاصر ظهور المهدي ونزول المسيح، أو أن يوجَد قبل ذلك بقليل، ليكون من علاماته القريبة... فمعنى ذلك استمرار الحضارة المادِّية إلى ذلك الزمان، مهما كان بعيداً، لكي يستمرَّ التمحيص ويتعمَّق بالتدريح، حتى يُنتج نتيجته المطلوبة المـُنتظَرة.

والدجَّال يقتله المسيح والمهدي (ع)، كما سنسمع؛ لأنَّ نظامهما تماماً سيقضي على الحضارة المادِّية، وما ملأت به الأرض من الظلم والجور والانحراف، ويتبدَّل إلى القسط والعدل والإنصاف والرفاه.

الناحية الثانية: علاقة الدجَّال بالمسيح (ع) عند نزوله.

أخرج مسلم(2) من حديث عن النواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله (ص) الدجَّال... إلى أن يقول: ( فبينما هو كذلك، إذ بعث الله المسيح

____________________

(1) انظر ص642 و ص745.

(2) صحيح مسلم ص197- 198 ج8.

١٤٢

ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفَّيه على أجنحة مَلكين، فيطلبه حتى يُدركه بباب لُدّ، فيقتله، ثمَّ يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويُحدِّثهم بدرجاتهم في الجنَّة... ) الحديث.

وفي حديث آخر لمسلم(1) قال: قال رسول الله (ص): ( يخرج الدجَّال في أُمَّتي فيمكث أربعين... فيبعث الله عيسى بن مريم، كأنَّه عروة بن مسعود، فيطلبه فيُهلكه، ثمّ يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة... ) الحديث.

وهناك في المصادر العامَّة الأُخرى أخبار بهذا لمضمون، ولكنّنا نقتصر على ما أخرجه مسلم.

والمصادر العامة اقتصرت على ذكر العلاقة بين الدجّال - بأيِّ معنى فهمناه - وبين المسيح (ع) على حادثة قتله، كما اقتصرت في قاتل الدجّال على المسيح (ع)، ولم تتعرّض للمهدي (ع) على ما سنسمع ذلك ونُناقشه.

وسنتعرّض إلى حادثة نزول المسيح في القسم الثاني من هذا التاريخ، وسنوافق عليها إجمالاً، فإذا تمّ ذلك، وهو لا يتمُّ إلاَّ بعد طغيان الدجّال واستفحال أمره - بأيِّ معنى فهمناه - كان من أهمِّ الأعمال التي يستهدفها هو القضاء على الدجّال والإجهاز على نظامه ومفاهيمه.

ومنطق الأشياء أن يسبق مقتل الدجّال حرب سجال بينه وبين المسيح، يُكتب فيها النصر للمسيح فيقتله، وأمّا فوزه عن طريق المـُعجزة، كما يظهر من البرزنجي في ( الإشاعة )(2) ، فهو مُخالف لما قلناه: من أنَّ أُسلوب الدعوة الإلهية غير قائم على المعجزات، ما لم ينحصر بها الأمر، وإلاَّ كان نبي الإسلام (ص) في نصره على قريش أولى بالمعجزات، ولاستطاع السيطرة على كل العالم بين عشيِّةٍ وضحاها؛ ومن هنا لا نقول بوجود المعجزات في طريق نصر المهدي (ع) إلاَّ بمقدار الضرورة التي لا بديل عنها.

وقد سمعنا في هذه الأخبار عدَّة خصائص، من حيث إنَّ قتل الدجَّال سيكون في

____________________

(1) صحيح مسلم ج8 ص201.

(2) انظر ص135.

١٤٣

دمشق، وهو أمر يصعب إثباته تاريخياً، ولكنّه لو تمّ فهو يدلُّ على أنّ هذه البلدة ستُصبح مسرحاً مُهمَّاً ومركزاً رئيسيّاً للدجّال - بأيّ معنى فهمناه - ولا يخفى أنّه طبقاً للأُطروحة التي فهمناها للدجّال لا يكون لقتل الدجّال هناك أكثر من هذا المعنى، أعني تحويل دمشق من الانحراف إلى الإيمان.

وهذا ممَّا يُفسِّر لنا ما سيأتي من وجود عدد من المـُخلصين المـُمحّصين الراسخين في الإيمان في دمشق، على ما دلّت عليه الأخبار - وسيأتي في محلِّه من هذا الكتاب - فإنَّ انحراف المجتمع كلّما تزايد والظلم كلّما تضاعف، أوجب ذلك عمق التمحيص ودقّته؛ الأمر الذي يوجب زيادة عدد المؤمنين وزيادة إخلاص الموجود منهم... حتى وصِفوا في هذه الأخبار بالأولياء والأبدال، وهؤلاء وأمثالهم هم الذين يأتي إليهم عيسى بن مريم ( فيمسح عن وجوههم ويُحدِّثهم بدرجاتهم في الجنَّة)، كما سمعنا في الحديث.

غير أنَّ ظاهر الحديث أنَّه يأتي إليهم بعد أن يتمَّ قتل الدجَّال على يديه، لا أنّه يرتكز عليهم في قتاله، والصحيح أنَّ الحديث دالٌّ على أنَّه (ع) يأتي إليهم ويُبشِّرهم بالجنَّة بعد قتل الدجَّال، ولكنَّه لا يدلُّ على عدم مشاركة هؤلاء في قتله أو قتاله، بل لعلَّ الدرجات التي استحقُّوها في الجنَّة ناشئة إلى حدٍّ كبير من هذه الأعمال الكبرى.

الناحية الثالثة: في علاقة الدجَّال بالمهدي (ع).

وهذا ما وجدناه في المصادر الخاصة، دون العامة.

أخرج الشيخ الصدوق(1) ، بإسناده عن النزال بن سبرة، قال خطبنا علي بن أبي طالب (ع)، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، وصلَّى على محمد وآله، ثمَّ قال: ( سلوني قبل أن تفقدوني - ثلاثاً - ).

فقام إليه صعصعة بن صوحان.

فقال: يا أمير المؤمنين، متى يخرج الدجَّال؟

فقال له: ( اقعد، فقد سمع الله كلامك وعلم ما أردت... - إلى أن يقول بعد حديث طويل: - يقتله الله عزَّ وجلَّ بالشام على عقبة تُعرف بعقبة أَفيق، لثلاث ساعات مضت من يوم الجمعة على يد من(2) يُصلِّي عيسى بن مريم خلفه... ) الحديث.

____________________

(1) انظر كمال الدين (المخطوط) باب حديث الدجّال وما يتَّصل به من أمر القائم صلوات الله وسلامه عليه

(2) في المخطوط: على من يد من... وهو تحريف.

١٤٤

أقول: والذي يُصلِّي عيسى بن مريم خلفه هو المهدي (ع)، كما وردت بذلك الآثار المـُستفيضة، ومنها ما في الصحيحين(1) : ( كيف بكم إذا نزل عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم ).

وأخرج الصدوق(2) أيضاً، بإسناده عن المفضَّل بن عمر، قال: قال الصادق جعفر بن محمد (ع): ( إنَّ الله تبارك وتعالى خلق أربعة عشر نوراً قبل خَلِق الخلق بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا ).

فقيل له: يا بن رسول الله، ومَن الأربعة عشر؟

فقال: ( محمد وعلي وفاطمة و الحسن والحسين، والأئمَّة من وُلْد الحسين، آخرهم القائم الذي يقوم بعد غيبته فيقتل الدجَّال(3) ، ويُطهِّر الأرض من كلِّ جور وظلم ).

وفي مُنتخب الأثر(4) ، في حديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) يقول فيه: ( ومنَّا رسول الله، ووصيُّه، وسيِّد الشهداء، وجعفر الطيار في الجنَّة، وسبطا هذه الأُمَّة، والمهدي الذي يقتل الدجَّال ).

ومن الغريب أنَّ الصحاح تذكر أحاديث في علاقة الدجَّال بالمسيح، وأحاديث في علاقة المسيح بالمهدي (ع)، ولا تورِد أيَّ خبر في علاقة المهدي بالدجَّال! مع أنَّه تفهم من تَيْنَك العلاقتين مُعاصرته له، ومن المعلوم كون المهدي (ع) هو رائد الحق في العالم، فكيف لا يكون له اليد الطَّولى في قتله وقتاله؟!

لو نظرنا من زاوية أُخرى، رأينا أنَّ تأخُّر نزول المسيح (ع) عن ظهور المهدي (ع) بفترة من الزمن - على ما سنسمعه عن المصادر العامة - يُنتج لنا: أنَّ السبب الرئيسي الوحيد في زوال الدجَّال هو عمل القائد المهدي (ع) ضدَّه، وتخطيطه للقضاء عليه، ومن المقطوع بزيفه وبطلانه باليقين أن يظهر الإمام المهدي (ع) فلا يُحارب الدجَّال – بأيِّ معنى فهمناه -، ويُرجئ قتاله إلى حين نزول المسيح من السماء، فإنَّ ذلك خالف تكليفه الإسلامي ووظيفته الإلهية، في قمع الكفر والانحراف ونشر الهداية في العالم.

كما أنَّ المقطوع ببطلانه: أن يُفترض أنَّ المهدي (ع) يُحارب الدجَّال فيندحر

____________________

(1) انظر صحيح البخاري ج4ص205، وصحيح مسلم ج1 ص94

(2) انظر إكمال الدين المخطوط.

(3) كذا نقله في مُنتخب الأثر (ص480) ولكنَّه في المخطوط: الرجَّال بالراء.

(4) انظر ص172 وما بعدها.

١٤٥

أمامه، وينتصر الدجَّال ويُحاصر المهدي (ع) ورجاله، كما يظهر من البرزنجي في الإشاعة(1) ، وكيف يمكن أن يتحقَّق ذلك، وقد ثبت بضرورة الدين وتواتر الأخبار، وعن طريق البرهان على التخطيط العام الذي عرفناه، كون الإمام المهدي (ع) منصوراً مؤيَّداً حتى يفتح العالم بأجمعه، ويجمع البشر على الحق والعدل؟!

إذاً؛ فاليد الطَّولى في الإجهاز على الدجَّال ونظامه، للمهدي (ع) نفسه.

نعم، يمكن أن نفترض مشاركة المسيح (ع) من قَتل الدجَّال ضمن إحدى أُطروحتين:

الأُطروحة الأُولى: إنَّ المسيح (ع) يقتل الدجَّال بالمـُباشرة، والمهدي (ع) يقتل الدجَّال بالتسبُّب، أعني بصفته قائداً أعلى لا تصدر التعليمات الأساسية إلاَّ منه؛ فيكون إسناد القتل إلى المهدي (ع) من قبيل قولنا: فتح الأمير المدينة، يعني بأمر منه، والفاتح المـُباشر هو الجيش بطبيعة الحال.

وهذه الأُطروحة، كما تُناسب الفهم الكلاسيكي للدجَّال، وهو كونه شخصاً بعينه، كذلك تُناسب مع الفهم الرمزي الذي دعمناه، ويكون الإجهاز على الدجّال من قِبَل المسيح (ع) بصفته أحد القادة الرئيسين في دولة المهدي العالمية.

الأُطروحة الثانية: إنَّ المسيح (ع) إذا كان يتأخَّر نزوله عن ظهور المهدي (ع)، فقد نتصوَّر أنَّ المهدي (ع) عند ظهوره يُقاتل الدجّال، بأيِّ فَهْمٍ فهمناه، وبعد نزول المسيح يوكِل هذه المـُهمَّة إلى المسيح (ع).

ولا تُنافي بين هاتين الأُطروحتين، كما هو واضح لمَن يُفكِّر، وبها نجمع بين الأخبار الدالَّة على أنَّ المسيح يقتل الدجَّال والأخبار الدالَّة على أنَّ المهدي يقتله؛ فإن كلا هذين القسمين من الأخبار صادقاً، ولا تنافي بينهما.

يأجوج ومأجوج:

وهذا ما ورد عنه في القرآن الكريم، في أكثر من موضع... وتطاحنت التفاسير فيه، حتى لم تكَدْ ترسو على أمر مُشترك، وذُكِر لهم بعضها صفات غريبة، وليس المـُهمُّ الآن الدخول في تفاصيل ذلك، وإنَّما المقصود، هو معرفة مدى ارتباطه بالظهور، ومدى ما يمكن أن يكون مدى تأثيره لو كان له ارتباط.

____________________

(1) انظر ص135.

١٤٦

وقد ذكر في التاريخ السابق(1) شيئاً من الأخبار عن يأجوج ومأجوج، وتكلَّمنا عمَّا إذا كان القرآن بضمه إلى الإخبار دالاَّ ًعلى تقدُّم خروج يأجوج ومأجوج على الظهور، ولم نستطع أن نتميَّز ظهور القرآن في ذلك، بل بات الأمر مُحتملاً غير قابل للإثبات التاريخي، وإن كان مُحتملاً جدَّاً.

وقد روينا هناك(2) ما أخرجه مسلم عن هؤلاء، نُكرِّر منه هذه الفقرة:

( ثمَّ يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس.

فيقولون: لقد قتلنا أهل الأرض، هلمَّ فلنقتُل مَن في السماء، فيرمون بنشَّابهم إلى السماء، فيردُّ الله عليهم نشَّابهم مخضوبة بالدم ) .

وأخرج ابن ماجة(3) عن أبي سعيد الخدري، أنَّ رسول الله (ص)، قال:

( تفتح يأجوج ومأجوج، فيخرجون. كما قال الله تعالى:( ... وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) ، فيعمُّون الأرض وينحاز منهم المسلمون، حتى تصير بقيَّة المسلمين في مدائنهم وحصونهم، ويضمُّون إليهم مواشيهم، حتى إنَّهم ليمرُّون بالنهر فيشربونه، حتى ما يذرون فيه شيئاً، فيمرُّ آخرهم على أثرهم، فيقول قائلهم: لقد كان بهذا المكان مرَّة ماء.

فبينما هم كذلك، إذ بعث الله دوابّ كنَغف الجُراد، فتأخذ بأعناقهم، فيموتون موت الجُراد، يركب بعضهم بعضاً.

فيصبح المسلمون لا يسمع لهم حسَّاً، فيقولون: مَن رجل يشري نفسه، وينظر ما فعلوا؟

فينزل منهم رجل قد وطَّن نفسه على أن يقتلوه، فيجدهم موتى، فيناديهم: ألا أبشروا، فقد هلك عدوُّكم. فيخرج الناس ويُخلُّون سبيل مواشيهم، فما يكون لهم رعي إلاَّ لحومهم، فتشكر

____________________

(1) انظر ص633 وما بعدها.

(2) المصدر والصفحة.

(3) انظر السُّنن ج2 ص1363

١٤٧

عليها، كأحسن ما شكرت من نبات أصابته قطُّ ).

وأخرج الصحيحان(1) وغيرهما، بالإسناد عن زينب بنت جحش قالت: إنَّ النبي (ص) استيقظ من نومه وهو يقول: ( لا إله إلاَّ ألله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ).

وعقد سفيان بيده عشرة.

قلت: يا رسول الله، أفَنَهْلَك وفينا الصالحون؟

قال: ( نعم، إذا كثر الخُبْث ).

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، جوَّد سفيان هذا الحديث.

وأخرج أبو داوود(2) ، بإسناده عن حذيفة الغفاري في حديث قال فيه: فقال رسول الله (ص): ( لن تكون أو لن تقوم الساعة حتى يكون قبلها عشر آيات:... - وعد منها - خروج يأجوج ومأجوج ).

وينبغي أن نتكلَّم حول هذه الأخبار في عدَّة نواحي:

الناحية الأُولى: أنَّه لا يمكن الأخذ بالدلالة (الصريحة) لهذه الأخبار، الأمر الذي يُعيِّن علينا الالتزام بالفهم (الرمزي) لها؛ وذلك لوجود عدَّة موانع عن الأخذ بصراحتها، نذكر منها ما يلي:

المانع الأول: وجود التهافت بين بعض مدلولاتها؛ الأمر الذي يُسقطها عن قابليَّة الإثبات التاريخي.

فإنَّ الخبر الذي أخرجه مسلم، ورويناه في التاريخ السابق، يدلُّ على وجود نبي الله عيسى بن مريم (ع) بين المسلمين، عند انتشار يأجوج ومأجوج، وقد أعرضتْ عنه سائر الأخبار الأُخرى، فتكون دالَّة على عدم وجوده؛ لأنَّ وجوده ليس بالواقعة البسيطة التي يمكن إهمالها.

كما أنَّ ذاك الخبر دالٌّ على أنَّ زوال يأجوج ومأجوج كان بدعاء المسيح وأصحابه، وإنَّ إزالة جُثثهم كان بدعائه أيضاً، والأخبار الأخرى خالية عن ذلك، ويدلُّ خبر ابن ماجة على أنَّهم يهلكون بإرادة مُباشرة من الله عزَّ وجلَّ.

كما أنَّ خبر مسلم يتضمَّن لوجود المَطر الذي يغسل الأرض من نَتْنِهم بعد زوال

____________________

(1) انظر صحيح البخاري ج8ص 76 وصحيح مسلم ج8 ص 265 واللفظ لمسلم.

(2) انظر السنن ج2ص429.

١٤٨

جثثهم … وهذا ما سكتت عنه الأخبار الأُخرى، واعتبرته كأنَّه لا حاجة إليه.

كما أنَّ خبر مسلم دالٌّ على أنَّ الطير تنقل الجثث إلى حيث يشاء الله، ولكنَّ خبر ابن ماجة دالٌّ على أنَّ الأغنام تأكل لحومها، فتشكر عليها، أي تسمن أحسن من أكلها للنبات.

المانع الثاني: قيام عدد من الحوادث في نقل هذه الأخبار على المعجزات، بشكل يتنافى مع (قانون المعجزات) الذي تمَّ البرهان عليه في محلِّه.

منها: موت يأجوج ومأجوج، فجأة بطريق إعجازي، وهذا غير ممكن في قانون المعجزات، فإنَّ أُسلوب الدعوة الإلهية - كما قلنا - قائم على مقابلة السلاح بالسلاح، وتحصيل النصر بالكفاح، لا عن طريق المعجزات.

وبتعبير آخر: إنَّ كل ما يمكن حصوله بالطريق الطبيعي - مهما يكن صعباً وبعيداً - لا تقوم المعجزة بتحصيله، ومن الواضح أنَّ تربية وتأديب يأجوج ومأجوج، أو استئصالهم إذا لم يتأدَّبوا، أمر ممكن بالطريق الطبيعي.

ومنها: أنَّ افتراض أكل الماشية للحم، وهو أمر غريب ولا مُبرِّر له في قانون المعجزات، ويزيد غرابة استفادتهم الصحية من أكل اللحم أكثر من أكل النبات.

ومنها: ما ذكر من تصرُّفات يأجوج ومأجوج أنفسهم، كشربهم بُحْيرة طبرية حتى تجفُّ، كما في خبر مسلم، أو شربهم النهر حتى يجفُّ، كما في خبر أبن ماجة، فإنَّ هذا ممَّا لم يتَّضح فهمه، مهما تزايد عددهم وطال بقاؤهم، ومهما طالت أجسامهم، كما تقول الأساطير.

ومنها: إرسالهم السهام إلى السماء لأجل غزوها... وليس في هذا غرابة، إذا كانوا أغبياء إلى هذه الدرجة … وإنَّما الغرابة في أن تعود السهام مكسوَّة بالدم؛ من أجل إيهامهم بأنَّهم قد قتلوا الناس الموجودين في السماء... فإنَّه من الأساطير التي لا يمكن أن يكون لها أيُّ مُبرِّر، فضلاً عن موافقته لقانون المعجزات.

هذا، ولكنَّ أغلب هذه الأشياء ستُصبح حقائق، عند دمجها في تكوين مُتكامل من الفهم الرمزي، على ما سنذكر بعد قليل، ومعه تُصبح هذه الاعتراضات، واردة على الفهم التقليدي لمثل هذه الأخبار، لا للمقاصد الحقيقية منها.

الناحية الثانية: في عرض أُطروحة مُتكاملة لفهم يأجوج ومأجوج، منطلقة من الفهم الرمزي للأخبار.

١٤٩

مرّت البشرية - بحسب ما هو المقدر لها في التخطيط الإلهي العام - بشكلين مُنفصلين من الأيديولوجية:

الشكل الأول: الاتِّجاه الذي ينفي ارتباط العالم بخالقه بالكلِّية، ونستطيع أن نُسمِّيه بالمادِّية المحضة أو الإلحاد التام.

الشكل الثاني: الاتِّجاه الذي يربط العالم بوجود لخالقه، بشكل أو آخر.

ولكلٍّ من هذين الاتِّجاهين فروعه وانقساماته، التي تختلف باختلاف المستوى العقلي والحضاري للمجتمع البشري.

ويمكن القول: بأنَّ تاريخ البشرية على طوله عاش في الأعمِّ الأغلب الاتِّجاه الثاني، بمُختلف مستوياته، نتيجةً لجهود الأنبياء وتربية الصالحين، ومهما فسد المـُنحرفون والمصلحون، فإنَّهم لم يخرجوا عن الاعتراف الغامض بالخالق الحكيم، ويكفينا مثالاً على ذلك قوله تعالى على لسان مُشركي قريش:( ... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... ) (1) ، فهم بالرغم من تطرُّفهم بالكفر، مؤمنون بالخالق، ومن ثَمَّ مندرجون في الاتِّجاه الثاني، وعلى هذا الغرار.

يُقابل ذلك، الاتِّجاه الأول الرافض لوجود الخالق تماماً... والمـُعطي زمام قيادة الإنسان بيد نفسه، بالرغم من قصوره وتقصيره.

ولم يوجد - على مرِّ التاريخ - لهذا الاتجاه وجود مُهمٌّ، فيما عدا الأفكار الشخصية المـُتفرِّقة في التاريخ … ما عدا مرَّتين - فيما نعرف -:

المرَّة الأُولى: اتِّجاه المادِّية البدائية، المـُتمثِّلة بشكل رئيسي في قبائل يأجوج ومأجوج.

والمرَّة الثانية: اتِّجاه المادِّية الحديثة المـُعاصرة، بمختلف أشكالها وألوانها.

وقد كان المَدُّ المادِّي الأول خطراً - وبالغ الضرر - على ذوي الاتجاه الثاني عموماً، وبخاصة تلك الشعوب الصالحة المـُتَّبعة لدعوات الأنبياء، ولعل القسط الأهمَّ من الضرر لم يكن هو الإفساد العقيدي، وإن كان هذا موجوداً من أولئك المـُلحدين البدائيين … وإنَّما الأهمُّ من أشكال الضرر هو الضرر الاجتماعي والاقتصادي، وأشكال القتل والنهب الذي كانت توقِعه القبائل البدائية المـُلحِدة على المجتمع المؤمن.

ومن هنا؛ خطَّط الله تعالى للقضاء الحاسم على هذا المَدِّ الواسع، بإيجاد قائد كبير

____________________

(1) الزمر: 29/3

١٥٠

ذو حركة عالمية وقدرة واسعة، ومُمثِّل لأفضل أشكال الاتِّجاه المؤمن، هو الإسكندر ذو القَرنين.

وقد شكا المجتمع المـُتضرِّر لهذا القائد من حملات أولئك البدائيِّين:( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا... ) (1) ، أي أُجرة، لكي تكفينا شرَّهم وتكسر شوكتهم.

وقد استطاع هذا القائد الكبير أن يُعلن دعوة الله في الأرض، ويحصر نشاط ذلك المَدِّ المادِّي في أضيق نطاق، وأن يُعيد المجتمع البشري إلى سابق عهده، من كون الاتِّجاه المـُسيطر هو الشكل الثاني للأيديولوجية، ويبقى الاتِّجاه الأول اتِّجاهاً شخصيَّاً مُتفرِّقاً.

وقد اتِّخذت تدابير ذي القرنين في هذا الصدد، شكلين أساسيّين:

الشكل الأوَّل: بناء السدِّ الموصوف في القرآن الكريم، المتكوِّن من الحديد والصفر، وهو يحتوي على الحماية (العسكرية) من هجمات القبائل البدائية المـُلحِدة.

الشكل الثاني: بناء السدِّ المعنوي في المجتمع المؤمن، وزرع المفاهيم وقوّة الإرادة الكافية ضدّ الانحراف والفساد.

ولعلّ في الإمكان مع بعض التوسُّع في فَهْمِ القرآن الكريم، أن نحمل السدّ الموصوف فيه على السدِّ المعنوي، الذي يفصل بين الحقِّ والباطل، وأنّ الحديد والصفر عبارة عن مكوِّناته المفاهيميَّة، إلاَّ أنَّنا نعرض ذلك كأُطروحة مُحتملة، على غير اليقين … وإن كان ذلك مُمكناً في لغة العرب، ولكنَّنا سنسير بهذا الاتِّجاه ريثما تتمُّ هذه الأطروحة.

( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ... ) ، ممَّا لديكم من المال والحطام، بعد أن مكَّنه الله تعالى من المـُلك والهداية معاً.

وكان السدُّ الذي بناه ذو القرنين، ضخماً ومُهمَّاً إلى حدٍّ يكفي لكبح جِماح البدائيِّين المـُلحدين وردِّ عاديتهم،( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ) ، فإنَّ الاتِّجاهات المـُلحِدة تكون دائبة في نشر عقيدتها، واختراق السدِّ الإيماني، وقهر قوَّة الإرادة والإخلاص عند المؤمنين، وإلاَّ أنَّ سدَّ ذي القرنين كان منيعاً لا يمكن لهذه الاتِّجاهات أن تؤثِّر فيه.

ولكنَّه على أيِّ حال، لم يستطع القضاء عليه نهائياً، بل بقي بوجوده الضعيف مؤثِّراً في المجتمع الإنساني بمقدار ما يستطيع( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ... ) ، ولم يكن

____________________

(1) الكهف: 18 / 49

١٥١

مُقدَّراً في التخطيط الإلهي استئصاله عن الوجود؛ لإمكان مشاركته في التمحيص العام الذي حملنا عنه فكرة كافية، ولذا كان لا بدَّ من الاقتصار على كبح جماحه، وكسر شوكته فقط، ببناء السدِّ ضدَّه، على وجه الأرض، أو في نفوس المؤمنين.

ومن هنا بقي هذا الاتجاه في التاريخ، لكي يتمحَّض بعد حوالي ثلاثة آلاف عام من السيطرة الجديدة للمادِّيَّة على البشر للمرَّة الثانية، ولكنَّها في هذه المرَّة لست بدائيَّة، ولكنَّها مادِّية (تقدُّمية) ومُعقَّدة ومُفلسفة وذات شعارات برَّاقة، وذات قوَّة ومنعة بحيث يصعب مجرَّد التفكير في منازلتها، فضلاً عن القضاء عليها، وهو معنى قوله في أحد الأخبار السابقة:لا يدان لأحد في قتالهم.

لقد خرقت السدَّ القديم، ولم يعد كافياً للسيطرة عليهم وكبح جماحهم، إن ذلك السد كان مناسباً مع مستوى عصره العقلي والثقافي والعسكري، ولم يعد الآن كافياً( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) (1) ، أي من كل جهة ينتشرون، كذلك انتشرت المادّية الحديثة.

وتُسيطر الحضارة المادّية على خيرات البلاد الإسلامية، في ضمن سيطرتها على العالم كله، وتستولي مصادرها الطبيعية، فتشرب البحيرات والأنهار – كما أشارت الأخبار – بمعنى أنَّها تستغلُّها تماماً لصالحها، وتمنع أهلها من الاستفادة منها، فيحصل الفقر والقحط في البلاد المحكومة المستعمرة: (... حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مئة دينار لأحدكم اليوم ).

وتأتي الأجيال المتأخِّرة من أتباع الحضارة المادّية، فيقولون: (... لقد كان بهذا المكان ماء )، فإنَّهم عرفوا من التاريخ أنَّ هذه المنطقة كانت تغلُّ لأهلها وتُفيدهم، وأمَّا الآن – بعد سيطرة الحضارة الكافرة – فقد أصبحت الغلاَّت لها، وأصبح وجود الماء كالعدم بالنسبة إلى أهل البلاد.

وأمَّا المسلمون المـُخلصون، فينحازون عنهم ويبتعدون عن مُمالأتهم والسير في طريقهم، خوفاً على إيمانهم من الانهيار، وعلى سلوكهم من التفسُّخ والانحلال.

وحين تتمُّ للحضارة المادّية المـُلحدة، بسط السيطرة على الأرض، تتَّجه أطماعها إلى السماء، ومن هنا نجدهم يقولون: ( هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، ولنُنازلنَّ أهل

____________________

(1)الأنبياء: 21/ 96

١٥٢

السماء ). وهذا بمعناه – الرمزي – ممَّا حدث فعلاً؛ فإنَّ الحضارات المادَّية بعد أن أحكمت قبضتها على الأرض، طمعت بغزو السماء، بدئة بالأقرب من الكواكب، ومن هنا انبثقت فكرة غزو الفضاء الخارجي والسير بين الكواكب.

( فيرمون نشَّابهم إلى السماء، فيردُّ الله عليهم نشَّابهم مخضوبة بالدم )، وهذا – بمعناه الرمزي – مما حدث فعلاً، مُتمثِّلاً بإطلاق الأقمار الصناعية، والمركبات الفضائية والصواريخ الكونية، فأعجب لمثل هذه التنبُّؤ الصادق الذي لم يكن للنبي (ص) أن يُصرِّح به في عصره إلاَّ بمثل هذا الرمز، طبقاً لقانون( كَلِّم الناس على قدر عقولهم ) .

ومعنى كونها تعود مُخضَّبة بالدم، هو أنَّها مُحاولات ناجحة، تُنتج الأثر المطلوب المـُتوقَّع... فكما أنَّ المتوقَّع من القتل بالحربة أو السهم أن تتخضَّب بالدم، كذلك من المـُتوقَّع للمركبات أن تُنتج الخُبرات العلمية المطلوبة، وأن تجلب التراب من القمر مَثلاً.

ولعلَّ في التعبير بأنّ السهام ( ترجع عليها الدم الذي أجفظ ) أي فاض وغزر... فيه إشارة واضحة على ذلك... بعد العلم أنَّ السهم الاعتيادي لا يفيض منه الدم، وإنَّما يُراد بذلك التأكيد على مدى نجاح الرحلات الفضائية، وسعة ما تُنتجه من نتائج، ومن حيث العمق والانتشار في العالم.

وحين يتمُّ لهم ذلك، ينالهم الغرور بعلومهم ومدنيَّتهم، فقولون: ( قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ). وكل حضارة ينالها الغرور، وتفشل في التمحيص الإلهي العام للبشرية، لا بدّ أن يُحكم عليها بالزوال، ويكون غرورها نذير فنائها واندثارها... طبقاً للقانون الذي يُعرب عنه قوله تعالى:( ... حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1) .

وكما كان للإسكندر ذي القرنين الدور الأهمَّ في منازلة المادِّية الأُولى... سيكون للقائد المهدي (ع) الدور الأهمَّ في منازلة المادّية الحديثة؛ ولذا قورِن الإمام المهدي (ع) بذي القرنين بعدد من الروايات، كما سنسمع بعد ذلك.

وسيكون للمسيح (ع) مشاركة فعَّالة في هذا الصدد، تحت قيادة القائد المهدي

____________________

(1) يونس 10/24

١٥٣

(ع)... إلى حدٍّ يمكن أن نُعبِّر عنه بأنَّه السبب المـُباشر لذلك، مع شيء من التجوُّز والتعميم؛ ومن هنا تسبّب موت يأجوج ومأجوج إلى عمله وجهوده، كما سمعنا من بعض الأخبار.

وأمّا أُسلوب موت هؤلاء، فيُمكن أن نطرح له أُطروحتان:

الأُطروحة الأُولى: موتهم عن طريق تفشِّي الأمراض والأوبئة فيهم... كما هو الموافق مع ظاهر الأخبار، على المستوى (الصريح) دون الرمزي، ففي خبر مسلم: ( فيُرسل الله عليهم النَّغف في رقابهم ).

وفي خبر ابن ماجة: ( فبينما هم كذلك، إذ بعث الله دواب كنَغف الجُراد، فتأخذ بأعناقهم فيموتون كموت الجُراد، يركب بعضهم بعضاً )، والنَّغف دود صغار يكون في الإبل، وكل ما هو حقير عند العرب فهو نغفة )(1) ؛ ومن هنا يكون الأرجح كونه تعبيراً عن مكنونات الأمراض (الميكروبات)، ومن هنا يكون الخبر نبوءة عن هلاك المادِّيين الجُدد عن طريق الأوبئة الفتاكة، أو الحرب الجرثومية ونحوها.

الأُطروحة الثانية: أن نفهم من الموت موت الكفرة الانحراف، لا موت الأبدان.

وهي المـُهمَّة الكبرى التي يقوم بها المهدي والمسيح (ع) في العالم، ولئن كان الكفر قاتلاً للإيمان، وهو أشدُّ من موت الأبدان( ... وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ... ) (2) ، فإنَّ الإيمان قاتل للكفر، وهو أفضل شكلَي الحياة.

وهذا هو الذي يُفسِّر لنا ما يظهر من الأخبار السابقة، من أنَّ موتهم جميعاً يكون سريعاً وفي زمان مُتقارب جدَّاً، فإنَّه – طبقاً للأطروحة الثانية – نتيجة للجهود الكبيرة المركَّزة في السيطرة على العالم بالعدل وتربية البشرية باتِّجاه الكمال، وهو – أيضاً – دليل على النجاح الفوري لتلك الجهود في اليوم الموعود.

وستكون مُخلَّفات الحضارة المادِّية كبيرة جدَّاً من الناحية الصناعية والعلمية، وسيكون لذلك الأثر الكبير في دعم الدولة العاليمة العادلة، وترسيخ جذور التربية في المجتمع البشري، ( فما يكون لهم(3) رعي إلاَّ لحومهم، فتشكر عليها كأحسن

____________________

(1) راجع أقرب الموارد، مادّة نغف.

(2) البقرة: 2/217 وانظر أيضاً: 2/191.

(3) الضمير في العبارة راجع إلى المواشي، والملحوظ أنّه ضمير لمَن يعقل، ولو أراد الماشي على التعيين لقال: لها؛ ومن هنا يمكن أن نفهم التعميم

١٥٤

ما شكرت على نبات قط ).

فلحومهم – طبقاً لهذه الأُطروحة – مُخلَّفاتهم(1) ، ومن المعلوم أنَّ المستوى التكتيكي الرفيع إذا اقترن بمستوى اجتماعي عادل، وأنتج أضعافاً مُضاعفة من النتائج، ممَّا إذا لم يقترن بالمستوى الاجتماعي العادل.

ولم تَنجُ البشرية، ما بين المادّيتين: البدائية والتقدمية!! من جذور وبذور وإرهاصات للتجدُّد والاشتعال، ومن هنا تأسّف نبي الإسلام (ص) أسفاً شديداً؛ لأنّه قد ( فتح اليوم من رَدم يأجوج ومأجوج مثل هذه - وعقد عشراً - )، من حيث إنّ هذا الردم الإيماني قد بدأ بالتصدُّع مُقدّمة لوجود المادّية التقدمية...!!

غير أنّ موقف المهدي والمسيح (ع)، سيختلف عن موقف ذي القرنين، فلئن اكتفى ذو القرنين ببناء السدِّ، مع الحفاظ على وجودهم إجمالاً - طبقاً للتخطيط العام - فإنّ المهدي (ع) سيتّخذ موقف الاستئصال التام لكل العقائد المـُنحرفة والكفر والضلال، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، ( فيموتون موت الجُراد، يركب بعضهم بعضاً ).

الناحية الثالثة: في الفرق بين يأجوج ومأجوج، والدجّال.

فإنّه قد يرد إلى الذهن: أنّنا بعد أن فسّرنا الدجّال بالحضارة المادّية، كيف صحّ لنا أن نُفسِّر يأجوج ومأجوج بنفس التفسير، وهل يمكن أن نعترف أنّهما تعبيران عن حقيقة واحدة، مع العلم أنّ تعدُّد الأسماء والعناويين دليل على تعدُّد الحقائق.

ويمكن أن يُجاب ذلك بعدّة أجوبة، يصلح كلٌّ منها تفسيراً كاملاً للموقف:

الجواب الأول: إنَّ مفهوم (الدجَّال) ناظر إلى الحضارة المادّية ككُل، ومُستوعب لها على نحو المجموع، وأمّا مفهوم ( يأجوج ومأجوج) فيُقسِّم تلك الحضارة إلى قسمين مُتميِّزين؛ فإنّه بالرغم من أنّ للحضارة المادِّية ككُل مُميِّزاتها وخصائصها التي تفصلها عن الاتجاه الآخر بميزاته وخصائصه، ولها فروقها عن الحضارة الإسلامية والمفاهيم الدينية الإلهية.

وهذه الحضارة المادّية المنظور إليها بهذا الشكل، هي التي تُمثِّل مفهوم الدجّال.

____________________

(1) وأوضح في الاستفادة من المـُخلفّات ما أخرجه ابن ماجة (ج2ص1359 ): قال رسول الله (ص): ( سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشّابهم وأترستهم سبع سنين ).

أقول: ذلك النشّاب الذي سمعنا أنَّهم يُرسلونها إلى السماء.

١٥٥

بالرغم من ذلك، فإنّ للحضارة المادّية انقساماتها الداخلية التي تجعلها في معرض الصراع الداخلي، الذي يكون في الأعمّ الأغلب عنيفاً وعميقاً، وهذا الانقسام هو المـُعبّر عنه بمفهوم (يأجوج) مرّة ومفهوم (مأجوج) أُخرى.

وهذا الانقسام ليس حديثاً، بل هو قديم قِدَم المادّية نفسها، فالمادّية البدائية كانت مُنقسمة، وكان انقسامها مشوباً بالشعور القبلي، والمادّية (التقدمية) مُنقسمة، ولكنّ انقسامها أيديولوجي ومصلحي معاً.

الجواب الثاني: إنّ مفهوم الدجّال يُمثِّل المادّية الحديثة... ولذا لم يُنقل عنه قبل الإسلام أيُّ وجود، وإنّما بدأت إرهاصاته - حسب إفادات الأخبار التي عرفناها في التاريخ السابق(1) - بعد بدء الإسلام، وكان وجوده الكامل مُتأخِّراً عنه بألف عام.

وأمّا مفهوم (يأجوج ومأجوج)، فهو يُمثِّل الخطَّ المادِّي بتاريخه الطويل؛ ولذا كان له وجود بدائي ووجود حديث، ولم يخلُ التاريخ المـُتوسِّط بينهما من التأثيرات والإرهاصات.

وهذا يعني أنّ الوجود الحديث ليأجوج ومأجوج، هو الدجَّال نفسه، وليس شيئاً آخر.

الجواب الثالث: إنَّ مفهوم يأجوج ومأجوج، يعني الحضارتين المادِّيتين بوجودهما الأصيل، وأمَّا عنوان الدجَّال فلا يعني ذلك بالضبط، وإنَّما النظر فيه إلى نقطة تأثُّر المسلمين بتلك الحضارة المادَّية، فالدجّال يُعبِّر عن عُملاء تلك الحضارة في البلاد الإسلامية، وهم مُتَّصفون بنفس أوصافهم ومُتّخذون نفس منهجهم في الحياة... وكثيراً ما مارسوا الحُكم وزرعوا الشبهات، وحاولوا فكَّ المسلمين عن دينهم، وإبعادهم عن طريق ربِّهم.

ويؤيِّد ذلك اتِّخاذ مفهوم الدجّال، الدالُّ على أنّه مُسلِم بالأصل، ولكنّه أصبح كافراً ومُنحرفاً، يدعو الناس إلى الكفر والانحراف، وقد ينطلق في إثبات أفكاره في الأذهان عن طريق الخداع والتمويه، باستعمال المفاهيم الإسلامية بشكل مُشوّه ومُستغلٍّ للمنافع الشخصية والنتائج الباطلة، كما يدلُّ عليه الحديث الذي أخرجه أبو داود(2) ، قال: قال رسول الله (ص): ( مَن سمع الدجَّال فلينأ عنه! فوالله، إنَّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنَّه مؤمن، فيتبعه ممَّا يبعث به من الشبهات ).

____________________

(1) انظر ص644.

(2) انظر السُّنن ج2ص431

١٥٦

وهناك أجوبة أُخرى مُحتملة للجواب على السؤال الذي ذكرناه في هذه الناحية، لا حاجة إلى سردها.

وللقارئ أن يختار أيَّاً من هذه الوجوه الثلاثة شاء... فإنَّ أيَّاً منها كافٍ في تصحيح تفسيرنا للدجَّال وليأجوج ومأجوج معاً.

الناحية الرابعة: طبقاً للأُطروحة التي فهمناها عن يأجوج ومأجوج، فإنَّ انتشارهما من ردمهما سيكون قبل عصر الظهور، وسيظهر المهدي (ع) وينزل المسيح عيسى بن مريم، وهم حلبة العالم، فيتمُّ القضاء عليهم تماماً، غير أنَّ بعض الأخبار دالٌّ على تأخُّر انتشارهما عن عصر الظهور.

منها: ما أخرجه الحاكم في المـُستدرَك(1) ، في حديث يتحدَّث فيه عن نزول المسيح، وسيطرة المسلمين وقتلهم لليهود، ويقول:( يظهر المسلمون فيكسرون الصليب ويقتلون الخنزير ويضعون الجزية، فبينما هم كذلك، أخرج الله أهل يأجوج ومأجوج... ) الحديث.

فإذا عرفنا أنَّ نزول المسيح وكسر الصليب وقتل الخنزير تعبير آخر عن قيام الدولة العالمية المهدوية العادلة... كان الحديث دالاَّ ًعلى خروج يأجوج ومأجوج بعد تأسيس هذه الدولة.

ومنها ما أخرجه مسلم(2) ، ورويناه في التاريخ السابق(3) ، في حديث يذكر فيه حادثة نزول المسيح، ثمَّ يقول: (... فبينما هو كذلك، إذ أوحى الله إلى عيسى أنِّي قد أخرجت عباداً لي لا يُدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج،( ... وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) ... ) الحديث.

فإذا استطعنا أن نُبرهن – كما سيأتي – على تأخُّر نزول المسيح (ع) عن ظهور المهدي (ع)، وكان انتشار يأجوج ومأجوج بعد نزول المسيح – كما قال الخبر – إذاً؛ فسيكون انتشارهم بعد ظهور المهدي (ع).

____________________

(1) انظر المـُستدرك على الصحيحين ج4ص491.

(2) انظر صحيح مسلم ج8 ص197وما بعدها.

(3) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص633.

١٥٧

إلاَّ أنَّه يمكن المـُناقشة في هذه الأخبار من وجهين:

الوجه الأول: وجود الدلالات المـُعارضة في الأخبار لهذه الدلالة... تدلُّ على تقدُّم ظهور يأجوج ومأجوج على الظهور.

ولعلَّ أهمَّ ما يدلُّ على ذلك ما دلَّ من الأخبار على خوف المسلمين من فتح يأجوج ومأجوج، وهي عديدة وقد سمعنا بعضها، وهي دالَّة بوضوح على تحصُّن المسلمين منهم، وعجزهم عن قتالهم، وسحبهم لمواشيهم معهم، وهذا الخوف إنَّما يمكن تحقُّقه قبل تأسيس الدولة العالمية، بل قبل ظهور المهدي (ع) أساساً؛ إذ لا معنى للخوف بعد الظهور، حين يكون النصر مُحرزاً والأمن مُستتبَّاً... طبقاً لقوله تعالى:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً... ) (1) .

إذاً؛ فيتعيَّن أن يكون انتشار يأجوج ومأجوج الموجب للخوف والتحرُّز بين المسلمين، سابقاً على الظهور، حين لا يكون للمسلمين قوَّة مهيمنة عُلْيَا.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ هذه الأخبار دلَّت على وجود هذا الخوف بين المسلمين، بالرغم من وجود المسيح (ع) فيهم، وأنَّه (ع) مأمور بتحصينهم ضدَّ اعتداءات يأجوج ومأجوج، فإذا كان نزول المسيح (ع) بعد الظهور كما أسلفنا، إذاً؛ فسيكون فتح يأجوج ومأجوج بعده أيضاً.

والصحيح: أنَّ هذه الرواية إنَّما تدلُّ على تقدُّم نزول المسيح على الظهور، وأنَّه ينزل في زمان اضطراب المسلمين وضعفهم ووجود الفتن فيهم، وهذا ما سوف نُناقشه في القسم الثاني من هذا التاريخ... ويكفينا الآن أن نعلم بوجود عدد من الأخبار دالِّ على تأخُّر نزوله (ع) عن الظهور.

إذاً؛ فلا بدَّ من الالتزام بأنَّ انتشار يأجوج ومأجوج سابق على النزول والظهور

____________________

(1) النور: 24/ 55

١٥٨

معاً، ونرفع اليد عن دلالة هذا الخبر بهذا المقدار، وهو المطابق مع الأُطروحة التي عرفناها قبل قليل.

الوجه الثاني: وجود الدلالات المعارضة من ناحية أُخرى.

وذلك: أنَّنا سنسمع الروايات الواردة لسرد حوادث ما بعد الظهور، وسنجدها جميعاً خالية من التعرُّض ليأجوج ومأجوج، وإنَّما سنجد العالم هو العالم الذي نعرفه خالياً من الغرائب التي نُسبت إلى هاتين القبيلتين... يظهر المهدي (ع) وينزل المسيح (ع)، فيحكمان فيه بالعدل، ومعه تكون تلك الأخبار ككل دلالة على عدم انتشار يأجوج ومأجوج يومئذ.

وحيث علمنا من القرآن الكريم والسنَّة الشريفة، أنَّهم لا بدَّ أن ينتشروا في يوم ما، إذاً؛ فهذا واقع قبل الظهور لا محالة.

وهنا لا بدَّ لنا أن نتنازل عمَّا دلًَّت عليه بعض الأخبار السابقة، عن تأخُّر انتشار هاتين القبيلتين عن نزول المسيح تماماً، كما قلنا في الجواب السابق.

وينبغي أن نُلاحِظ - أيضاً - أنَّه طبقاً للأُطروحة التي فهمناها لا تكون هناك أيَّة معارضة بين أخبار يأجوج ومأجوج وبين الروايات التي تذكر حوادث ما بعد الظهور؛ لأنَّ هذه الأطروحة كما تقول بتقدُّم انتشار يأجوج ومأجوج المادّية على الظهور، تنفي عن هاتين القبيلتين كل الغرائب، وإنَّما هما يُمثِّلان العالم نفسه كما نعرفه، فيما عرفناه من دلالة الأخبار على سيطرة المهدي (ع) على العالم كما نعرفه، يكون مُنسجماً مع الأُطروحة كل الانسجام.

نعم، طبقاً للأُطروحة يكون عمل المهدي (ع) مُكرَّساً في أول ظهوره للسيطرة على يأجوج ومأجوج، أو المادِّية السابقة على ظهوره، وهذا المفهوم لم يرد في أخبار ما بعد الظهور، وهذا يعني تحوُّل المفهوم في هذه الأخبار، وترك التعرُّض إلى عنوان يأجوج ومأجوج... ولا يعني وجود الأشكال في هذه الأُطروحة.

السُّفياني:

وهو من الحركات الاجتماعية التي أكَّدت عليها المصادر الإمامية تأكيداً كبيراً،

١٥٩

وأهملتها مصادر العامة إلى حدٍّ كبير، على العكس من الدجَّال، كما أشرنا في التاريخ السابق(1) ، وقد سبق هناك أن ذكرنا العديد من تفاصيل أوصافه وأعماله، وأعطينا عنه فَهْماً خاصَّاً، وهو كونه يُمثِّل حركة الانحراف، أو حركةً مُنحرفةً واسعةَ النفوذ، في داخل المجتمع المسلم.

والمهمُّ في تاريخنا هذا، أن ننظر إلى أعمال السفياني، كشيءٍ سبق على الظهور بقليل، بحيث يتمُّ الظهور، ولا يزال السفياني يعمل عمله وينشر حُكمه ودعوته، كما عليه ظاهر الأخبار.

وينبغي أن نتكلَّم حول ذلك ضمن عدَّة نواحي.

الناحية الأُولى: في سرد الأخبار التي تُفيدنا في حدود الغرض الذي أشرنا إليه، بعد سردنا من أخبار السفياني في التاريخ السابق(2) الشيء الكثير، وعرفنا أنَّها متواترة لا مناص من الأخذ بها إجمالاً.

أخرج الصدوق(3) ، عن أبي منصور البجلي، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن اسم السُّفياني.

فقال: ( وما تصنع باسمه؟! إذا مَلَكَ كور الشام الخَمْس: دمشق، وحمص، وفلسطين، والأردن، وقنسرين، فتوقَّعوا الفَرَج ).

قلت: يملك تسعة أشهُر؟

قال: ( لا، ولكن يملك ثمانية أشهُر لا يزيد يوماً ).

وأخرج النعماني في الغيبة(4) ، عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) في حديث طويل يقول فيه:

( لا بدَّ لبني فلان من أن يملكوا، فإذا ملكوا ثمَّ اختفوا تفرَّق مُلكهم أو تشتَّت أمرهم، حتى يخرج عليهم الخراساني والسُّفياني، هذا من المشرق وهذا من المغرب، يستبقان إلى الكوفة كفَرَسي رهان، هذا من هنا وهذا

____________________

(1) انظر ص621 وما بعدها.

(2) انظر ص622 وما بعدها.

(3) انظر إكمال الدين ( المخطوط ).

(4) ص135.

١٦٠