موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 188611
تحميل: 8737


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188611 / تحميل: 8737
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ورجلان من حلب، صبيح ومحمد، ورجل من حمص، جعفر، ورجلان من دمشق، داود وعبد الرحمان. ورجلان من الرملية ( لعلَّها: الرميلة )، طليق وموسى، وثلاثة رجال من بيت المقدس، بشر وداود وعمران، وخمسة رجال من غسقان ( لعلَّها: عسفان )، محمد ويوسف وعمر وفهد وهارون، ورجل من غزَّة، عمير، ورجلان من عكَّة (عكَّا) مروان وسعد، ورجل من عرفة، فرخ، ورجل من الطبرية، فليح، ورجل من البلسان، عبد الوارث، وأربعة من القسطاط ( لعلَّها الفسطاط ) من مدينة فرعون لعنه الله، أحمد وعبد الله ويونس وظاهر، ورجل من بالس، قيصر، وأربعة رجال من الإسكندرية، حسن ومحسن وشبيل وشيبان، وخمسة رجال من جبل اللكام، عبد الله وعبيد الله وقادم وبحر وطالوت، وثلاثة رجال من السادة، صلب وسعدان وصبيب، ورجلان من الإفرنج، علي وأحمد، ورجلان من اليمامة، ظافر وجميل، وأربعة عشر رجلاً من المعادة، سويد وأحمد ومحمد وحسن ويعقوب وحسين وعبد الله وعبد القديم ونعيم وعلي وحيَّان وظاهر وتغلب وكثير، ورجل من المرطة، معشر، وعشرة رجال من عبادان، حمزة وشيبان وقاسم وجعفر وعمر وعامر وعبد المـُهيمن وعبد الوارث ومحمد وأحمد، وأربعة عشر من اليمن، جبير وحويش ومالك وكعب وأحمد وشيبان وعامر وعمار وفهد وعاصم وحجرش وكلثوم وجابر ومحمد، ورجلان من بدو مصر، عجلان ودواج، وثلاثة رجال من بدو عقيل، منبه وضابط وعريان، ورجل من بدو أغير، عمر، ورجل من بدو شيبان، نهرش، ورجل من تميم، ريَّان، ورجل من بدو قين، جابر، ورجل من بدو كلاب، مطر، وثلاثة رجال من موالي أهل البيت، عبد الله ومخنف وبراك، وأربعة رجال من موالي الأنبياء، صباح وصياح وميمون وهود، ورجلان مملوكان، عبد الله وناصح، ورجلان من الحِلَّة، محمد وعلي، وثلاثة رجال من كربلاء، حسين وحسين وحسن، ورجلان من النجف، جعفر ومحمد، وستَّة رجال من الأبدال، كلهم أسماؤهم عبد الله... ) الحديث.

وينبغي أن نتحدَّث عن هذه الروايات ضمن عدَّة نواحي:

الناحية الأُولى: تحتوي هاتان الروايتان الأخيرتان على عدَّة من نقاط الضعف:

النقطة الأُولى: إنَّهما معا ضعيفتان سنداً، والثانية تزيد على ذلك بأنَّها مرفوعة،

٢٨١

والمرفوع ما يكون محذوف بعض رواته مرسولاً، فلا يكون قابلاً للإثبات.

النقطة الثانية: إنَّ لخُطبة البيان نسختين غير مُتشابهتين، يكفينا أنَّه ليس في النسخة الثانية تعرُّض لأنصار الإمام المهدي (ع)، وإنَّما تُعدِّد أسماء الحُكَّام الذين يوزعهم على العالم، ونحن لا نعلم أنَّ أيَّ النصَّين أو النسختين هي الصادرة عن أمير المؤمنين (ع)، فيكون كلاهما ساقطاً عن قابلية الإثبات.

النقطة الثالثة: إنَّ عدداً من المـُدن والأماكن المذكور فيها غير معروف، وينبغي أن نلتفت أنَّ للخطأ المطبعي والكتابي دَخْلاً كبيراً في تغيير أسماء البلدان، مضافاً إلى صعوبة الضبط خلال كتابة الخُطبة، في مثل القوائم المـُفصَّلة، مع تشابه الأسماء وتفرُّق البلدان.

هذا، ولعلَّ بعضها قُرى منعزلة غير معروفة، وبعضها معروف ولكنَّه بائد الآن تماماً.

ولعلَّ بعضها مُدن ستوجد في المـُستقبل، لا نعلم الآن منها شيئاً!!

النقطة الرابعة: إنَّ هاتين الروايتين بالرغم من التقائهما في عدد من المضامين، إلاَّ أنَّها تحتوي على عدد من نقاط التعارض، كما لا يخفى على القارئ عند المقارنة.

النقطة الخامسة: توجد بعض الروايات الأُخرى الناقلة لأسماء أنصار الإمام المهدي (ع)، وهي تختلف أيضاً مع كلتا الروايتين، في أسماء المدن وأسماء الأشخاص معاً، وإن اتَّفقت معهما على بعض الأمور الرئيسية، كعدد الطالقانيين في هؤلاء الخاصة.

ومهما يكن شأن تلك الروايات التي لا نُحبُّ الإطالة بذكرها، فإنَّها تُعارض كلتا هاتين الروايتين في عدد من مضامينهما... فتكون قابلية هاتين الروايتين وتلك المـُشار إليها، للإثبات التاريخي أقرب للوهن والسقوط.

ولكنَّنا إذا أردنا أن نُكوِّن عن جنسيَّات أصحاب الإمام المهدي فَهْمَاً مُعيَّناً لا بدَّ أن نغضَّ النظر عن هذه النقاط... وإلاَّ كان الطريق إلى فَهْم ذلك مُنسداً تقريباً، وإن كان الجهل بذلك لا يحتوي على إسفاف تاريخي أو عقائدي.

الناحية الثانية: لا يخفى وجود نقطتين للقوَّة في هذه الروايات، ونظرنا إلى هذا الاستدلال بها، لو ضممنا إلى الروايتين الأخيرتين مع مُعطيات الروايات، ونظرنا إلى هذا المجموع كلِّه.

النقطة الأُولى: اشتراك مضمون كل من الروايتين الأخيرتين مع مُعطيات الروايات الأُخرى... إذا لوحظت الروايتان كل على حدة.

النقطة الثانية: إنَّ هناك عدد من المـُعطيات مشترك بين هاتين الروايتين، ومشترك في

٢٨٢

نفس الوقت مع مضمون بعض الروايات السابقة، وإذا أصبح المضمون مُتسالماً عليه بهذا الشكل، فمن الممكن القول: بأنَّه ثابت تاريخياً ومُتجاوز نقاط الضعف السابقة، باعتبار تسالم عدد من الروايات على صحَّته، وسنرى لكل من هاتين النقطتين فيما يلي:

الناحية الثالثة: أنَّنا بملاحظة مجموع الروايات الناقلة لجنسيَّات أصحاب الإمام المهدي (ع) يمكن أن نصل إلى النتائج التالية:

النتيجة الأُولى: إنَّ مضمون (حديث الطالقان) مروي عن النبي (ص) من كلا الفريقين، وإن اختلف بعض ألفاظه.

النتيجة الثانية: إنَّ مقدار الكنز الذي بشَّر به النبي (ص) وامتدحه، في الطالقان، مُكوَّن من أربعة وعشرين رجلاً، فإنَّ ذلك ممَّا تسالمت عليه جميع الروايات الناقلة لأسماء هؤلاء الأصحاب، بالرغم من اختلافاتها الأُخرى.

النتيجة الثالثة: إنَّ مصر والشام والعراق من جملة البلاد التي تحتوي على عدد من هؤلاء الخاصة، فقد ذكرت ذلك على وجه الإجمال الروايات من الفريقين، كما ذكرت الروايات المـُكرِّسة لأسمائهم عدداً من مدن هذه البلاد وأنَّ في كل منها جماعة منهم.

النتيجة الرابعة: نصَّت الروايات التي سمعناها على أنَّ هؤلاء يجتمعون من مُختلف بقاع العالم... وهذا هو نفس المـُعطى الذي توحيه الروايات المـُكرِّسة لأسمائهم.

النتيجة الخامسة: إنَّ الأعمَّ الأغلب من هؤلاء الخاصة، هم من المشرق الأوسط الذي كان هو الموقع الرئيسي لخطِّ الأنبياء والمـُرسلين، والمنطلق الأهمَّ للتخطيط الإلهي، فمصر سوف تُرسِل من عدد من مُدُنها (نجباء)... والعراق سوف تُعطي عدداً آخر (أخياراً) وخاصة من البصرة والكوفة والنجف... والشام تبعث أبدالاً وخاصة من دمشق نفسها، وإن كان عنوان الشام في الأخبار شاملاً لكلٍّ من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، والحجاز سوف تُشارك في هذا المَجْد العظيم بأفراد من مدينتيها المـُقدَّستين: مكَّة المـُكرَّمة، والمدينة المـُنوَّرة، وغيرهما.

و(المشرق) سوف يُشارك أيضاً في هذه المـُهمَّة الجليلة، كما نصَّت على ذلك الروايات الموجَّزة والروايات المـُطوَّلة معاً، فإنَّه عنوان ينطبق على ما كان في شرق المنطقة المـُشار إليها، أعني في شرق العراق على وجه التحديد، وهو يشمل إيران على الخصوص، والمنطقة الشاملة لأفغانستان وباكستان والجمهوريات المسلمة في الاتِّحاد السوفيتي على العموم، وقد عدَّدت الروايات المـُطولَّة عدداً من مدن هذه المنطقة، وإن كان أغلبها من

٢٨٣

إيران خاصة.

النتيجة السادسة: إنَّ سائر مناطق العالم سوف تُشارك في هذه المـُهمَّة، ولكن على نطاق أضيق.

وإنَّ أوسع المناطق مُشارَكة بعد المناطق السابقة هو الشمال الأفريقي المـُسلم، وتليه إفريقيا السوداء، وهنالك أفراد من اليمن وشرق الجزيرة العربية، ومن أوروبا وقبرص، ومن الشرق الأقصى، وهذا ما تدلُّ عليه الروايات المطوَّلة من الخصوص، وما دلَّ من الروايات على أنَّ أصحاب المهدي (ع) يجتمعون في كل مناطق العالم.

الناحية الرابعة: إذا اعتبرنا اتِّفاق الروايتين الأخيرتين، قابلاً للإثبات التاريخي.

أمكننا أن نُلاحِظ ما يلي:

أولاً: اتَّفقت الروايتان على نسبة قليلة من المـُدن، فبينما ذكرت الرواية الأُولى مئة وستَّاً وعشرين مدينة، والثانية: مئة وستَّ مدن مع أنساب وعناوين أُخرى... نراهما يتَّفقان في تسمية خمس وثلاثين مدينة فقط. وهي نسبة تقلُّ عن الثُّلث في كلتا الرواتين.

ثانياً: لأجل الحقيقة، وتسهيلاً على القارئ نذكر المـُدن المـُتَّفق عليها البصرة، عسكر مكرم، عمان، سيراف، شيراز، أصفهان، الكرخ، قم، الطالقان، قزوين، أرمينية، الزوراء، عبادان، الموصل، نصبين، نابلس، حلب، حمص، دمشق، بيت المقدس، غزة، الفسطاط الإسكندرية، الإفرنج، عدن، المدينة، مكَّة، الطائف، مرو، هجر عرفات (عرفة)، رملة (رملية) عكَّا، أنطاكية، اليمامة.

ثالثاً: اختلفت الروايتان في العدد الذي يخرج من هذه المـُدن.... فيما عدا إحدى عشر مدينة، هي كما يلي: البصرة اثنان، الطالقان أربع وعشرون، بالس واحد، عرفات واحد، الفسطاط أربعة، المدينة المنوَّرة عشرة، مكَّة المـُكرَّمة أربعة، هَجر واحد، عكر اثنين. أنطاكية واحد.

رابعاً: أهملت الرواية الثانية عدداً من المـُدن المـُهمَّة التي ذكرتها الرواية الأُولى، والتي يبعد أن لا يوجد أحد من الخاصة، نذكر على سبيل المثال: بروجرد، ونهاوند، وهمدان، وخرسان، وأردبيل، وصيدا، وصور، والإحساء والقطيف، ودمياط، والقيروان.

وأهملت الرواية الأُولى عدداً من المـُدن المـُهمَّة أيضاً، ممَّا ذكرته الرواية الثانية: كعمان، وقاشان، وسمرقند، وبغداد، وكربلاء، والنجف، والكوفة، وعكَّا، والبحرين، واليمن.

٢٨٤

ويُعتبر هذا من نقاط الضعف في هاتين الروايتين.

الناحية الخامسة: هناك بعض الاستفهامات حول هذه الروايات، نذكر أهمَّها، خشية التطويل:

الاستفهام الأول: دلَّت بعض الروايات السابقة على أنَّ هؤلاء الخاصة هم ( أولاد العَجم )... فهل يمكن الأخذ بذلك؟

وجوابه: أنَّنا بعد أن نُلفت الانتباه إلى أنَّ المراد من العَجم غير العرب عموماً لا خصوص الفرس، نجد نسبة عالية من المـُدن المذكورة في كل من الروايتين المـُطوَّلتين هي مُدن غير عربية، وأنَّ الأهمَّ منهم - وهم الطالقانيُّون - من العَجم، غير أنَّ هذه النسبة لن تزيد على النصف كثيراً، بل لعلَّها أقلُّ، كما يتَّضح عند الإحصاء والمـُقارنة.

ومعه؛ لا يمكن الالتزام بظاهر تلك الرواية بأنَّ كلَّهم أو أغلبهم من العَجم، فإنَّ فيهم من العرب نسبة عالية بكل تأكيد على أنَّ اللغة غير مُهمَّة بإزاء الدفاع عن الحق وتوطيد الهدف العادل.

الاستفهام الثاني: دلَّ الخبر الذي أخرجه أبو داود وغيره، على أنَّ أهل مكَّة الذين يُخرِجون المهدي (ع) ويُبايعونه، وظاهره أنَّ جميعهم من أهل مكَّة، فهل يمكن الالتزام بذلك؟

وجوابه: إنَّه كان المراد من أهل مكَّة: مَن يكون فيها يومئذ، فهذا صحيح؛ لأنَّ جميع الخاصة سوف يكونون فيها، فيكونون من أهلها بهذا المعنى، مهما كانت بلدانهم السابقة.

وإن كان المـُراد سكَّانها الاعتياديُّون، كما هو مفهوم عادة من اللفظ، أعني (أهل مكَّة)... فهو غير صحيح، فإنَّ آحاداً منهم من أهلها، غير الكثرة الكاثرة منهم ليسوا منهم على أيِّ حال، يدلُّ على ذلك ما في الخبر نفسه من أنَّ منهم ( أبدال الشام وعصائب أهل العراق )، وأنَّ منهم ( ناس من المشرق )، وأنَّ منهم ( الرجل والرجلان والثلاثة من كل قبيلة... )، وليست القبائل كلُّها في مكَّة.

مضافاً إلى الرواتين المـُطوَّلين، اللتين دلَّتا على أنَّ جميعهم ما عدا أربعة فقط من غير أهل مكَّة إذا أضفت إلى ذلك الخبر الذي سمعناه عن أبي عبد الله الصادق (ع):

٢٨٥

( سيبعث الله ثلاثمئة وثلاثة عشر إلى مسجد مكَّة، يعلم أهل مكَّة أنَّهم لم يولَدوا من آبائهم ولا أجدادهم ).

وظاهره أنَّهم جميعاً ليسوا من أهل مكَّة، غير أنَّ التنزُّل عن هذا الظاهر في أربعة فقط، غير عسير.

مضافاً إلى ما سنسمعه - غير بعيد - من أنَّ وجود هؤلاء في مكَّة سيُشكِّل ( مشكلة قانونية ) بصفتهم غُرباء لم يدخلوا بترخيص من الجهات الحاكمة، كما دلَّت عليه الأخبار، فلو كانوا من أهل مكَّة، لم يكن لهذه المشكلة أيُّ موضوع.

الاستفهام الثالث: هل أنَّ وجود بعض هؤلاء الخاصة في مدينة ما، يُعتبر شرفاً وفضيلة لتلك المدينة، أم لا؟

وجوابه: أنَّه لا شكَّ أنَّ هذه جهة مُعيَّنة مُهمَّة جدَّاً بالنسبة إلى أيِّ مدينة، غير أنَّه لا ينبغي المـُبالغة في ذلك... لأنَّ السبب الرئيسي لتكامل الفرد في المدن الاعتيادية، ما لم تحتوِ المدينة على زخم علمي وعقائدي خاص موجب للتكامل، كالذي يوجد في القاهرة، والنجف، وقم، وجامعة القرويِّين، وأمثالها في العالم الإسلامي، وإلاَّ فسيكون المـُسبِّب الرئيسي للتكامل هو زيادة الظلم والانحراف الساري المفعول ضدَّ المؤمنين في كل الأجيال، وكلَّما تطرَّف أهل المدينة إلى جانب الباطل تطرَّف هؤلاء إلى جانب الحق، كما برهنَّا عليه في التاريخ السابق؛ ومن هنا يكون سبب التكامل العالي، حتى يكون الفرد بدلاً من الأبدال، وهو تطرُّف الأفراد الآخرين إلى جهة الباطل واضطهادهم الأفراد المؤمنين إلى أقصى حدٍّ.

وهذا هو الذي يجعل إنتاج المدينة الاعتيادية لبعض الأفراد المـُتكاملين الخاصِّين، لا يُمثِّل شرفاً ولا فضيلةً بالنسبة إلى الأفراد الآخرين في الأعمِّ الأغلب.

الجهة السادسة - من هذا الفصل -: في المشكلة القانونية التي يُحدثها بقاء هؤلاء الثلاثمئة والثلاثة عشر في مكَّة المـُكرَّمة، ما بين ورودهم إلى حين تحقُّق الظهور.

ونتحدَّث عن ذلك، ضمن عدَّة نقاط:

النقطة الأُولى: في مُحاولة فَهْم هذه المـُشكلة أساساً:

إنَّ المنطلق الأساسي الذي يُثير المشكلة هو وجود هؤلاء الغرباء فترةً من الزمن،

____________________

(1) ص244 وما بعدها.

٢٨٦

تقلُّ أو تكثر بدون سبب ظاهر.

إنَّها مُشكلة مفهومة في جوِّ المجتمع القديم، حين كان الغريب منظوراً إليه بعين الاستغراب، ومُراقباً من قِبَل أيِّ فرد في كل تحرُّكاته، تصعب مُجاملته ومُكالمته، وتُعتبر الصداقة معه خطوة خطرة، بل إنَّ مُجرَّد بيع الطعام إليه لا يكون إلاَّ بالحذر، فكيف إذا كان الغرباء كثيرين في وقت لم تَعْتَدْ المدينة على استقبال الزوَّار، وكان من الواضح عدم وجود هدف مُعيَّن لاجتماعهم. ولم يتذكَّر فرد من أهل البلدة أنَّه رأى أيَّ واحد منهم طيلة حياته؟!

إنَّ أهل مكَّة سيعيشون مثل هذه المشكلة إذا كانوا يُمثِّلون المجتمع القديم، وهي مشكلة مفهومة أيضاً، بحسب قوانين الدول الحديثة، على كلا الفهمين (الطبيعي) والإعجازي في ورودهم إلى مكَّة.

أمَّا طبقاً للفهم الطبيعي الذي أعطيناه، وهو أنَّه سوف يقع النداء في شهر رمضان، وسيظهر الإمام المهدي(ع) - كما دلَّت الروايات - في اليوم العاشر من مُحرَّم الحرام، فتكون المدَّة المـُتخلِّلة - وهي حوالي أربعة أشهُر - فترة كافية للسفر الاعتياي إلى مكَّة لمـُقابلة الإمام (ع)، من قِبَل أيِّ شخص مُشتاق إلى ذلك، وسيمرُّ موسم الحجِّ خلال هذه الفترة، وسيكون الذهاب من هذه الجهة مشروعاً تماماً للناس، كما سيفوز الفرد المـُخلص بأداء فريضة الحجِّ أولاً، وبمقابلة الإمام المهدي (ع) ثانياً.

إنَّ هذه الأُطروحة هي مركز المـُشكلة بالنسبة إلى أهالي مكَّة، فإنَّ ما بين انتهاء فترة الحجِّ واليوم العاشر من مُحرَّم أكثر من خمسة وعشرين يوماً، والمفروض أنَّ الحُجَّاج سيعودون أدراجهم بعد انتهاء موسم الحجِّ مُباشرة، كما هو الحال في كل عام، فما الذي حصل في أن تتخلَّف جماعة كبيرة بعد الحجِّ زمناً طويلاً نسبيَّاً؟! وما هي مقاصدهم من هذا التخلُّف؟!

إنَّ هؤلاء ( الخاصة ) لا يمكنهم أن يُصرِّحوا بهدفهم الحقيقي لأحد، بل لعلَّ أيَّ واحد لا يستطيع أن يُصرِّح للآخر منهم بذلك، لعدم سابق معرفة بينهم أصلاً فضلاً عن التصريح به للشعب المكِّي أو للحُكَّام.

إنَّ غاية ما يستطيع الفرد منهم أن يعمله، هو أن يأخذ إذناً بالإقامة لمدَّة شهر، عسى أن يحصل الظهور خلاله، فإن لم يحصل أخذوا إذناً بالبقاء شهراً آخر، ولكنَّ الظهور سوف لن يتأخَّر عنهم أكثر من شهر.

فهذه هي الصورة للفهم الطبيعي الذي أعطيناه، وسنعرف فيما بعد مدى

٢٨٧

صحَّة هذه الصورة وعدمها.

وأمَّا طبقاً للفهم الإعجازي لاجتماعهم، وذلك في الليلة السابقة على الظهور، كما سنسمع... فالمشكلة أوضح؛ إذ يُصبح أهل مكَّة، فيجدون هؤلاء بالمئات من الناس يتجوَّلون في الأسواق بدون هدف معروف، لا يعرفون واحداً منهم، ولم يسبق لأيٍّ منهم أن حمل في جيبه جواز سفر أو إذناً بالإقامة.

ولعلَّ الروايات أقدرُ منِّي في بيان شَكل المـُشكلة، غير أنَّها منطلقة من زاوية إعجازية - أولاً- وفي مجتمع لا تحكمه دولة نظاميَّة حديثة ثانياً.

النقطة الثانية: في سرد الروايات الواردة بهذا الصدد:

وهي عدَّة روايات، أكثرها يورِد المـُشكلة باختصار، ولعلَّ أهمَّ الروايات وأوضحها ما أخرجه ابن طاووس في الملاحم والفتن(1) ، نقلاً عن كتاب يعقوب بن نعيم قرقارة الكاتب لأبي يوسف.

قال ابن طاووس: قال النجاشي - الذي زكَّاه محمد بن النجار -: إنَّ يعقوب بن نعيم المذكور روى عن الرضا (ع)، وكان جليلاً في أصحابنا ثقة.

ورأينا أنَّ ما ننقله في نسخة عتيقة لعلَّها كُتبت في حياته، وعليه خطُّ السعيد فضل الله الرواندي ( قدَّس الله روحه )، فقال - ما هذا لفظه -: حدَّثني أحمد بن محمد الأسدي، عن سعيد بن جناح، عن مسعدة: أنَّ أبا بصير قال لجعفر بن محمد (ع): هل كان أمير المؤمنين (ع) يعلم مواضع أصحاب القائم (ع) كما كان يعلم عدَّتهم.

فقال جعفر بن محمد (ع): ( إي والله، يعرفهم بأسمائهم رجلاً فرجلاً، ومواضع منازلهم ).

أقول: وتحتوي هذه الرواية على تعداد الأماكن، وإن من كل مكان رجل أو رجلان أو أكثر، من دون تسمية ثمَّ يقول: ( فهؤلاء ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، يجمعهم الله عزَّ وجلَّ بمكَّة في ليلة واحدة، وهي ليلة الجمعة، فيُصبحون بمكَّة في بيت الله الحرام، لا يتخلَّف منهم رجل واحد، فينتشرون بمكَّة في أزقَّتها، ويطلبون منازل يسكنونها، فيُنكرهم أهل مكَّة، وذلك ( لأنهم ) لم يعلموا بقافلة قد دخلت

____________________

(1) ص169وما بعدها.

٢٨٨

من بلدة من البلدان لحجٍّ ولا لعُمرة، ولا تجارة، فيقول مَن يقول من أهل مكَّة - بعضهم لبعض -: ما ترون، قوماً من الغرباء في يومنا هذا، لم يكونوا قبل هذا، ليس هم من أهل بلدة واحدة، ولا هم قبيلة واحدة، ولا معهم أهل ولا دوابّ.

فبينما هم كذلك، إذ أقبل رجل من بني مخزوم، فيتخطَّى رقاب الناس ويقول: رأيت في ليلتي هذه رؤيا عجيبة، وأنا لها خائف، وقلبي منها وَجِلٌ!

فيقولون: سِرْ بنا إلى فلان الثقفي، فاقْصُص عليه رؤياك.

فيأتون الثقفي، فيقول المخزومي: رأيت سحابة انقضَّت من عنان السماء، فلم تزل حتى انقضَّت على الكعبة ما شاء الله، وإذا فيها جُراد ذو أجنحة خضر، ثمَّ تطايرت يميناً وشمالاً، لا تمرُّ ببلد إلاَّ أحرقته، ولا بحصن إلاَّ حطَّمته.

فيقول الثقفي: لقد طرقكم هذه الليلة، جند من جنود الله عزَّ وجلَّ، لا قوَّة لكم به!

فيقولون: أما والله، لقد رأينا عَجباً! ويُحدِّثونه بأمر القوم!

ثمَّ ينهضون من عنده فيهتمُّون بالوثوب بالقوم، وقد ملأ الله قلوبهم رُعباً وخوفاً، فيقول بعضهم لبعض - وهم يأتمرون بذلك -: يا قوم، لا تعجلوا على القوم ولم يأتوكم بمُنكر ولا شهروا السلاح، ولا أظهروا الخلاف، ولعله أن يكون في القوم رجل من قبيلتكم، فإن بدا لكم من القوم أمر تُنكرونه، فأخرجوهم.

أمَّا القوم فمتنسِّكون، سيماهم حسنة، وهم في حرم الله عزَّ وجلَّ، الذي لا يفزع مَن دخله حتى يُحدثوا فيه حادثة، ولم يُحدِث القوم ما يجب (به) مُحاربتهم.

فيقول المخزومي - وهو عميد القوم -: أنا لا آمن أن يكون من ورائهم مادة! وإن أتت إليهم انكشف أمرهم وعظم شأنهم، فأحصوهم وهم في قلَّة العدد وعِزَّة بالبلد، قبل أن تأتيهم المادَّة، فإنَّ هؤلاء لم يأتوكم إلاَّ وسيكون لهم شأن، وما أحسب تأويل صاحبكم إلاَّ حقَّاً.

فيقول بعض لبعض: إن كان مَن يأتيكم مثلهم فإنَّه لا خوف عليكم منهم؛ لأنَّه لا سلاح معهم، ولا حُصن يلجأون إليه، وإن أتاكم جيش نهضتم بهؤلاء فيكونون كشربة ضمآن.

٢٨٩

فلا يزالون في هذا الكلام ونحوه، حتى يحجز الليل بين الناس، فيُضرب على آذانهم بالنوم، فلا يجتمعون بعد انصرافهم (إلى) أن يقوم القائم، فيلقى أصحاب القائم (ع) بعضهم بعضاً كبني أب وأُمٍّ، افترقوا غدوة واجتمعوا عشيَّة... ) الحديث.

النقطة الثالثة: في تلخيص المـُهمِّ من مضامين هذه الرواية، مع نقده:

أولاً: تدلُّ - بوضوح - على اجتماع هؤلاء الخاصة هؤلاء بطريق المعجزة، لا يبقون إلاَّ نهاراً واحداً، يظهر الإمام المهدي في مسائه.

وهذه المعجزة مُنافية لقانون المعجزات، بعد أن عرفنا إمكان انتقالهم بطريق السفر الاعتيادي، وكلَّما أمكن إنتاج الهدف بالأسلوب الطبيعي لم تقم المـُعجزة لإنجازه.

ثانياً: تعكس هذه الرواية مدى القلق الذي يُسيطر على أهل مكَّة وحُكَّامها من هؤلاء الغُرباء... حتى إنَّهم يُفكِّرون في مُقاتلتهم، لولا أنَّ الله تعالى يصرفهم عن ذلك؛ باعتبار الحرمة الإسلامية في القتل في مكَّة المـُكرَّمة ما لم يبدأ الآخرون بالقتال، فيحفظ الله تعالى نفوسهم بذلك إلى حين الظهور.

وهذا القلق لدى أهل مكَّة، واضح وضروري، مع صحَّة الانتقال الإعجازي لهؤلاء الخاصة، وأمَّا مع وصولهم بالسفر الاعتيادي لأجل الحجِّ - كما قلنا - فالظاهر أنَّه ليس هناك أيَّة مُشكلة ولن يكونوا مُلفِتين للنظر على كلِّ حال.

فإنَّ مكَّة المـُكرَّمة في الأزمنة السابقة كانت لا تستقبل الزوَّار الحجَّاج، إلاَّ في موسم الحج، فمن الطبيعي أن يكون بقاء الزوَّار في غير هذا الموسم أو بعد انقضائه، غريباً مُلفِتاً للنظر، إلاَّ أنَّ الحال قد اختلف جدَّاً في السنوات المـُتأخِّرة، فقد أصبحت مكَّة تستقبل أعداداً كبيرة من الزوَّار على طول مدار العام، وتشتغل فنادقها بالقاطنين طوال السنة، لا تخرج جماعة إلاَّ لتدخل أُخرى، ويكون التخلُّف عن الحجِّ لأجل عدَّة أهداف، كالتجارة، والنزهة، وتطويل الزيارة، ومراجعة الكُتَّاب والمـُفكرِّين والعلماء، وغير ذلك.... أمراً طبيعياً لا غبار عليه.

ومعه؛ يكون أهل مكَّة قد اعتادوا مواجهة الغرباء باستمرار، واعتادت السلطات على إعطاء الإذن بالإقامة فترات مختلفة من الزمن طول العام.

إذن؛ فبقاء هؤلاء الخاصة لن يكون مُلفِتاً للنظر، ولن يوجب أيَّ مُشكلة ولا دليل كامل على أنَّ الباقين بعد

٢٩٠

الحجِّ هم هؤلاء فقط، بل لعلًَّ أُناساً آخرين يستمرُّون بنفس القصد أو لأغراض أُخرى.

ثالثاً: تدلُّ الرواية على أنَّ السلطات المكِّية بدائية الشكل، والمجتمع المكِّي مُتديِّن إلى حدٍّ ما، بحيث يتورَّع عن قتل هؤلاء في الحرم المكِّي، وكلا الفكرتين قابلة للمـُناقشة.

أمَّا بدائيَّة الدولة، فقد ارتفعت في العصر الحديث، وتبدَّلت إلى الدولة النظامية الحديثة، ومن الواضح أنَّ معجزةً مثل هذه لو حدثت في دولة حديثة لما تلكَّأت الدولة في إلقاء القبض على هؤلاء واستنطاقهم فرداً، ولا أقلّ من تشديد قوى الأمن الداخلي وجعلهم تحت الرقابة المـُستمرَّة؛ استعداداً لكل طارئ، فالغضُّ عنهم، ووقوع الجدل بشأنهم لا يكاد يكون مُحتملاً في أنظمة الدولة الحديثة.

نعم، سوف يكون لهذا أثر مع صحَّة الأُطروحة الطبيعية التي عرضناها لاجتماعهم - كما هو واضح - وإنَّما يترتَّب ذلك طبقاً للفهم الإعجازي لاجتماعهم، وقد يُعتبر ذلك أحد نقاط الضعف في هذا الفهم.

وأمَّا تديُّن المجتمع المكِّي... فهناك قرينة رئيسة على نفيه، وهو قتل النفس الزكية بين الركن والمقام قبل الظهور بخمسة عشر يوماً، وسيُصادف ذلك زمن وجود هؤلاء في مكَّة طبقاً للأُطروحة الطبيعية، ومَن يكون على مستوى القتل في داخل المسجد الحرام، سوف لن يتورَّع عمَّا هو دونه، وهو القتل في خارج المسجد.

غير أنَّ ذلك ممَّا سوف يكون مُستغنى عنه طبقاً للأُطروحة الطبيعية، للاختلاف الجذري بين مُهمَّة النفس الزكية الذي يواجه الشعب المكِّي بما لا يرتضيه، وبين مُهمَّة هؤلاء الذين لن يُحرِّكوا ساكناً، ولن يُلفتوا نظراً قبل الظهور.

الجهة السابعة: في خصائص أُخرى نصَّت عليها الروايات، لأصحاب الإمام المهدي (ع):

الخصيصة الأُولى: تسميتهم بجيش الغضب.

وهو ما دلَّت عليه روايات أخرجها النعماني في الغيبة(1) ، والصدوق في إكمال الدين(2) ، وقد نقلنا بعضها فيما سبق.

____________________

(1) ص167وما بعدها.

(2) انظر النسخة المخطوطة

٢٩١

والسرُّ في هذه التسمية هي أنَّها بقيادة إمامهم المهدي (ع)، يُمثِّلون غضب الله تعالى على المـُجتمع الفاسد المـُتفسِّخ عقيدة ونظاماً وأخلاقاً، والحُكم عليه بالفناء والزوال، مع بديله إلى مجتمع عادل تسوده السعادة والرفاه.

الخصيصة الثانية: أنَّهم شباب لا كهول فيهم إلاَّ أقل القليل، كالكحل في العين، أو كالملح في الطعام، كما دلَّت عليه إحدى الروايات، وهذا التشبيه دالٌّ على أنَّ هؤلاء الكهول القلائل هم من أفضل الجماعة إيماناً وإخلاصاً وثقافة، وإنَّ وجودهم فيهم ضروري... شأن الملح في الطعام، فإنَّه على الرغم من قلته إلى سائر الأجزاء، إلاَّ أنَّه أهمَّها وأكثرها ضرورة.

وهذا أمر موافق مع خصائص النفس الإنسانية، فالشابُّ بطبيعته أقوى من الكهل اندفاعاً وقوَّة وإرادة، والكهل أفضل من الشابِّ رُشداً وتجربة وثقافة، والجيش المـُتكامل يحتاج إلى كلا النوعين بطبيعة الحال، ولكنَّه إلى الاندفاع وقوَّة الإرادة أحوج، وأمَّا الرأي - إن احتيج إليه - فيكفي فيه العدد القليل، ومن الواضح كون الرأي الأهمِّ موكول إلى الإمام المهدي (ع) نفسه، إلاَّ في ما يستشير أصحابه من الأمور، كما كان النبي (ص) يفعل أحياناً، وخاصة بعد أن وعدهم أن يكون حيث يريدون.

وقد يخطر في الذهن: إنَّ المفروض في أصحاب الإمام المهدي (ع) - كما قلنا - أن يكونوا من المـُخلصين المـُمحَّصين المـُتكاملين في الإيمان والإرادة إلى درجة عالية جدَّاً، وهذا ما يحتاج الفرد في الوصول إليه إلى سنين وسنين، وإلى ظروف كثيرة وتجارب مُثيرة، وهذا لا يتمُّ في الشباب على أيِّ حال، فكيف ينسجم ذلك مع ما دلَّ على كونهم - في الأغلب - من الشباب.

والجواب على ذلك يكون على مستويين:

المستوى الأول: أنَّنا قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1) : إنَّ تمحيص الفرد وتربيته لا يعود فقط إلى الظروف التي يعيشها الفرد خلال حياته... بل يعود جزء كبير منها إلى تربية الأُمَّة كلها مُتمثِّلة بالأجيال المـُتصاعدة، فكل جيل من الصالحين يوصل نتيجة التمحيص إلى درجة مُعيَّنة، ويورثها إلى الجيل الذي يليه ليمشي بها خطوة أخرى، وبقانون (تلازم الأجيال) يبقى التمحيص ساري المفعول على مجموع الأمَّة.

____________________

(1) انظر ص364 وغيرها.

٢٩٢

ومعه؛ فمن الممكن القول: إنَّ التمحيص في الجيل الأسبق على الظهور قد بلغ من العمق والشمول بحيث لم يبقَ منه إلى إنتاجه الكامل، إلاَّ خطوات قليلة تتحقَّق خلال السنوات الأُولى من الجيل الذي يليه، وهو الجيل السابق على الظهور مباشرة، أعني الجيل الذي يحصل فيه الظهور، ومعه فسيتحقَّق الظهور حال شباب الأعمِّ الأغلب من هؤلاء الصالحين.

المستوى الثاني: إنَّ الأسباب التي يخرج بها الفرد مُمحَّصاً كاملاً تُمثِّل في حقيقتها - كما برهنَّا عليه في االتاريخ السابق(1) - المواقف وردود الفعل التي يتَّخذها الفرد تجاه الظروف الخارجية الظالمة والعادلة على حدٍّ سواء، فكلَّما كانت المواقف أصحَّ وكانت ردود الفعل أفضل، كان الفرد أكثر نجاحاً وتمحيصاً، وهذه الظروف قد تكون بطيئة الإنتاج، بمعنى أنَّ كل حادثة تمرُّ بالفرد لا تقتضي منه إلاَّ درجة بسيطة من الإخلاص وقوَّة الإرادة، فيكون تكامله مُحتاجاً إلى تجارب كثيرة وطويلة، فيُصبح بطيئاً مُحتاجاً إلى عشرات السنين، وقد لا يُنتج المستوى المطلوب طول عمر الفرد أصلاً، وإنَّما يصل الفرد إلى مرتبة ناقصة من الكمال فحسب.

وقد تكون الظروف التي تمرُّ بالفرد تقتضي منه قوَّة ضخمة في الإرادة، ودرجة عظيمة في الإخلاص، وتكون موافقة، وردود فعله صالحة وصحيحة... فتكون تربيته سريعة، ووصوله إلى الدرجة المطلوبة - لو وفِّق إلى النجاح في كل الخطوات - غير مُحتاج إلى زمان طويل.

ومعه يمكن أن نحصل على أشخاص مُمحَّصين كاملين، وهم في سنِّ الشباب.

على أنَّنا لو جمعنا بين هذين المستويين... والحياة تتضمَّن - في الأعمِّ الأغلب - الجمع بينهما بشكل وآخر، فالفرد - حتماً – يكتسب من الجيل السابق ما يمكنه اكتسابه من الثقافة والإخلاص، ويُضيف عليه من عنده فيما يتَّخذه من مواقف وردود فعل صالحة تجاه الحوادث، فإن كانت هذه الحوادث ضخمة ومُهمَّة، ووفِّق إلى النجاح فيها، كان من المـُخلصين المـُمحَّصين لا محالة.

الخصيصة الثالثة: إنَّ هؤلاء الخاصة الثلاثمئة والثلاثة عشر رجلاً يتميَّزون عن غيرهم لعدَّة أسباب:

____________________

(1)المصدر ص307 وما بعدها والتي تليها.

٢٩٣

أولاً: اتِّصافهم بالإخلاص من الدرجة الأُولى، في نتيجة التمحيص السابق على الظهور... دون غيرهم.

ثانياً: مُبايعتهم للمهدي (ع) لأول مرَّة بعد جبرائيل (ع) واستماعهم لخُطبته.

ثالثاً: أنَّهم قادة جيشه خلال القتال... لا أنَّهم يُمثِّلون كل الجيش كما سبق أن قلنا... فهم العدد الكافي من القوَّاد لغزو العالم، لا من الجنود العاديين.

ومن هنا؛ لن يكتفي الإمام المهدي (ع ) بهؤلاء الخاصة، بل إنَّه ( ما يخرج إلاَّ في أُوْلي قوَّة، وما يكون من أُوْلي قوَّة أقلَّ من عشرة )، كما سمعنا في الروايات، ( ويُقيم بمكة حتى يتمَّ أصحابه عشرة آلاف نفس، ثمَّ يسير منها إلى المدينة )، كما سمعنا في رواية أُخرى، ( فإذا اجتمع له العقد، عشرة آلاف رجل، فلا يبقى في الأرض معبود دون الله )، كما في رواية ثالثة.

والروايات تَسْكُت عن تحديد فترة بقائه في مكَّة ريثما يجتمع له هذا العدد، وإن كان المَظْنُون من مجموع القرائن أنَّه لن يزيد عن أسبوع.

الجهة الثامنة: هناك سؤال قد يخطر على البال، من خلال التأكيد في الروايات على أعداد هؤلاء الخاصة، والتعرُّف على شخصيَّاتهم وأماكنهم، وهو أنَّه إذا صحَّ ذلك فسوف لن ستطيع أيُّ إنسان آخر أن يُصبح مُتَّصفاً بالإخلاص من الدرجة الأُولى، وسوف تذهب جهوده في ذلك سُدى، بعد أن كان المـُتَّصفون به مُعيَّنين ومعروفين سلفاً.

فكيف نوفِّق بين ذلك وبين قانون التمحيص العام الساري المفعول قبل الظهور، الذي لا يقتضي نجاح أفراد لأعيانهم، بل يوكِل ذلك إلى هِمَّة الفرد وإيمانه ومقدار تضحياته في سبيل الحق، وهذا معنى عام قد تزيد نتيجته وقد تنقص.. فكيف نوفِّق بين هذين المعنيين؟!

ويمكن أن نعرض هذا السؤال على مُستويات ثلاثة:

المستوى الأول: أن ننظر إلى التنافي المـُحتمل بين المفهوم العام لقانون التمحيص وما ورد من التحدِّي بثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً؛ باعتبار أنَّ هذا التحديد واضح وثابت في الروايات، وأمَّا التحديدات الأُخرى، فلا يخلو ثبوتها من ضعف، كما سمعنا.

٢٩٤

ويمكن الجواب على هذا التنافي بوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أنَّ النجاح في التمحيص من الدرجة الأُولى غير خاص بهذا العدد لو نظرنا إلى مجموع أجيال الأمَّة الإسلامية، فإنَّ عدداً من الناس قد يصلون إلى هذا المستوى الرفيع، ولكنَّ حياتهم تنتهي ولا يحصل الظهور؛ لأنَّ مجموع مَن حصل على هذه الدرجة العُلْيا من الجيل ليس كافياً لغزو العالم بالعدل.

ومعه؛ فلو نظرنا إلى أجيال الأُمَّة لوجدنا عدداً ضخماً من الناس المـُتَّصفين بهذه الصفة، كل ما في الأمر أنَّ كل جيل بعينه لا يحتوي على العدد الكافي منهم... وأول جيل يحتوي على ذلك هو الجيل الذي يحصل فيه الظهور.

إذن؛ فالفرصة مفتوحة، طبقاً للقانون العام، للوصول إلى تلك المرتبة، وإنَّما يقصر الناس عن ذلك انطلاقاً من اختيارهم وإرادتهم، وأول جيل سوف يتوفَّر العدد الكافي فيه لغزو العالم بالعدل، سوف يتمُّ فيه الظهور.

الجواب الثاني: إنَّ المسألة مسألة وقت ليس إلاَّ، غير أنَّه وقت مُتعيِّن غير قابل للزيادة والنقصان، فإنَّ الظهور كما لا يمكن أن يحدث قبل توفُّر العدد الكافي لا يمكن أن يتأخَّر عن زمان توفُّره.

أمَّا قبل توفُّر العدد كله، فالفرصة موجودة بوضوح؛ لأجل توفير العدد بالتدريج من مجموع الناس، حسب ما لديهم من الهمَّة والتضحية... طبقاً للقانون، وأمَّا بعد توفُّر العدد، فالقانون ولو كان باقياً، غير أنَّ الظهور سوف لن يتأخَّر عندئذ بطبيعة الحال، وبه سوف يستوفي القانون السابق غرضه، وتتحوَّل تربية البشرية إلى التخطيط العام الجديد.

فعدم إمكان الزيادة على العدد، لا لأجل التصوُّر في الفرص القانونية للتمحيص، بل لأجل تحقُّق الظهور عند توفُّر العدد الكافي؛ الأمر الذي يُغيِّر قانون التمحيص إلى شكل جديد.

الجواب الثالث: أنَّنا لو تنزَّهنا - جدلاً - عن ذلك كله، وفرضنا كون هذا الرقم مرصوداً لأشخاص مُعيَّنين، أمكننا الجواب على ذلك من نواحي أُخرى اجتماعية وفلسفية، بالشكل الذي نُحاول عرضه في الجواب على المستوى الثالث.

المستوى الثاني: أنَّه بعد البرهنة على التنافي بين رقم الثلاثمئة والثلاثة عشر، وبين قانون التمحيص العام، وأنَّ هذا الرقم يبقى فارغاً قابلاً للملء بأيِّ إنسان، ننظر في المستوى الثاني إلى التنافي المحتمل بين قانون التمحيص وبين تسمية البلدان، والأعداد

٢٩٥

المذكورة لكلٍّ منها؛ إذ قد يخطر في البال، عدم وجود الفرصة للزيادة على ذلك.

ويمكن تقديم ثلاثة أجوبة موازية للروح العامة للأجوبة الثلاثة الواردة في المستوى الأول.

الجواب الأول: أنَّنا لو نظرنا إلى الأجيال المـُتطاولة للبصرة - مثلاً - لم نجد أربعة من الناجحين الكاملين فقط، بل أكثر من ذلك بكثير، وكل ما في الأمر أنَّ هذا الرقم هو الذي سيخرج من البصرة في الجيل المـُعاصر للظهور.

بل إنَّ الحال أوسع من ذلك، فقد يوجد في البصرة أكثر من هذا العدد في جيل ما، وإنَّما لم يحصل الظهور باعتبار عدم توفُّر العدد المطلوب في العالم، على وجه العموم، لتقلُّص عدد من المـُدن عن المشاركة في تصدير حصَّتها من هؤلاء، بينما يُعاصر جيل الظهور تقلُّصاً في رقم (البصرة) وتوسُّعاً في بعض المـُدن الأُخرى، طبقاً للحالة النفسية والعقلية والاجتماعية التي تعيشها كل مدينة.

الجواب الثاني: إنَّ المسألة مسألة وقت لا غير، تماماً كالمستوى الأول، لكن بعد ملاحظة ( البصرة ) وكل مدينة عينها، كجزء من كلِّ مُشارِك في التخطيط العام لإيجاد العدد الكافي، فبمجرَّد أن يتمَّ العدد الكافي يحدث الظهور، ولكن من حُسن حظِّ بعض المناطق أنَّها تُشارك بعدد أكثر، لحسن تصرُّف الأخيار من أهلها، وأدائهم التضحية في سبيل الحق والهُدى، على حين تُشارك المدن الأُخرى بعدد أقل، لسوء تصرُّف أهلها، وتفضيلهم اللذاذة العاجلة على التضحية العادلة.

ولا ينبغي أن ننسى ما عرفناه في التاريخ السابق، من صعوبة الوصول إلى هذه الدرجة العُلْيا والإخلاص، واحتياجها إلى قوَّة في الإرادة، وسعة في الثقافة لا تتوفَّر إلاَّ في القليل من الناس.

الجواب الثالث: أنَّنا لو تنزَّلنا - جدلاً - عن الوجهين السابقين، وفرضنا أنَّ رقم الأربعة من البصرة، مرصود لأشخاص مُعيَّنين، وكذلك غيرها من المدن، أمكننا الجواب على ذلك من زوايا أُخرى، على ما سنذكره في الجواب الثاني والثالث على المستوى الثالث.

المستوى الثالث: أنَّه بعد البرهنة على عدم التنافي بين مجرَّد الترقيم، سواء منه العام أم الخاص بكل مدينة، وبين التمحيص العام... يبقى التنافي بين هذا القانون العام، وبين التسمية الواردة في الروايات، فإنَّها - على أيِّ حال - إشارة إلى أشخاص مُعيَّنين، لا يمكن إبدالهم بغيرهم، وليس كالترقيم يمكن ملؤه بأيِّ إنسان.

٢٩٦

ويمكن أن يُجاب على ذلك بثلاثة أجوبة:

الجواب الأول: أنَّنا بينما نرى أنَّ الترقيم ثابت في الروايات؛ فإنَّ العدد ثلاثمائة وثلاثة عشر مُستفيض النقل، وعليه عدد مُهمٌّ من الروايات، كما أنَّ التحديد لكلِّ مدينة أكثر نقلاً من التسمية، من حيث إنَّ بعض الروايات تتضمَّن الرقم والتسمية، وبعضها تتضمَّن الرقم فقط، كالرواية الأُولى التي نقلناها عن ابن طاووس.

فبينما نرى الترقيم ثابتاً في الجملة، نجد أنَّ التسمية غير ثابتة، لما سمعناه من أنَّ الروايات الناقلة للأسماء ضعيفة السند وقليلة العدد مُتعارضة في ذكر الأسماء، فتسقط عن قابلية الإثبات التاريخي، ومع انتفاء الدليل على التسمية يكون الإشكال في مستواه الثالث مُنتفياً موضوعاً.

هذا، وسيكون الجوابان الآتيان شاملين للمستويات الثلاثة كلها، وإنَّما أجَّلناها إلى المستوى الثالث؛ لمناسبتها معه دون ما سبق من الأجوبة على المستويين الأوَّلين، وستكون زاوية النظر في إحدهما اجتماعية وفي الآخر فلسفية.

الجواب الثاني: أن نُعيد النظر في الخصائص المـُعطاة لهؤلاء الثلاثمئة والثلاثة عشر، فبينما عرفناها خصائص (داخلية) تمتُّ إلى تكوينهم الشخصي الإيماني بصِلَةٍ وثيقة، يمكن أن نعتبرها الآن خصائص عرضية أو خارجية، تمتُّ إلى وضعهم الاجتماعي بصِلَةٍ، بالشكل الذي سنذكره بعد لحظة.

فليس هؤلاء فقط هم المـُتَّصفين بالدرجة الأُولى من الإخلاص، بل هناك أُناس غير مُسمَّين مُتَّصفين بها أيضاً، وإنَّما يختصُّ هؤلاء بصفات أُخرى (اجتماعية)، يمكن فهمها على شكلين طبقاً للأُطروحة المـُختارة لكيفيَّة اجتماعهم.

فإن اخترنا لهم الاجتماع الإعجازي في مكَّة، كانت خصِّيصتهم الرئيسية أنَّهم - دون غيرهم - يُنقلون بالمعجزة من أجل نُصرة المهدي (ع)، وليس اختصاصهم بذلك من أجل مستواهم الإيماني، بل قد تكون لمصالح أُخرى في علم الله عزَّ وجلَّ، كاتِّصافهم بقوَّة جسمية مُعيَّنة، أو بثقافات وتدريبات قيادية مُعيَّنة يفقدها الآخرون... ممَّا لا يمتُّ إلى قانون التمحيص بربط مباشر؛ ومعه لا تكون هذه الخصائص ولا خصِّيصة الانتقال الإعجازي مُضرَّة بشمول هذا القانون.

وإن اخترنا لهم الاجتماع الطبيعي - كما رجَّحناه - أمكننا أن نضع التسلسل

٢٩٧

الفكري للحوادث كما يلي:

أنَّ الوصول إلى الدرجة الأُولى من الإخلاص أوسع من هذا الرقم، وأوسع من هذه الأسماء المذكورة في الروايات، وسوف يؤثِّر (النداء) باسم المهدي (ع) في إثارة الشوق في نفوس الجميع، وسيُسافرون جميعاً إلى مكَّة المـُكرَّمة، غير أنَّ لحظة الظهور حيث إنَّها غير مُحدَّدة في أذهانهم وإنَّما ينتظرونها بعد الحجِّ إجمالاً؛ فمن الصعب بطبيعة الحال أن يبقى الجميع في المسجد الحرام باستمرار طوال الأيام انتظاراً للظهور، وإنَّما هم يبقون في منازل مكَّة وفنادقها، ثمَّ يحصل الظهور في لحظة مُعيَّنة، وهي مساء اليوم العاشر، كما ورد في بعض الروايات، وسيُصادف أنَّ المسجد الحرام يحتوي على ثلاثمئة وثلاثة عشر من المـُنتظرين في مكَّة المـُكرَّمة... لمـُجرَّد رغبتهم في الطواف في تلك الساعة.

وهذه المـُصادفة سوف تقتضي أن يكون هؤلاء - دون غيرهم - هم أول مَن يواجه الإمام المهدي (ع)، ويسمع خُطبه ويتشرَّف بمُبايعته... ريثما يتسامع الناس بالظهور، ويهرع الآخرون للوصول بخدمة الإمام المهدي (ع).

ومن الواضح أنَّ هذه المـُصادفة غير مُضرَّة بشمول قانون التمحيص، ولا مُنافية معه.

الجواب الثالث: أنَّنا لو تنزَّلنا عن كل ذلك، وفرضنا أنَّ التسمية لأشخاص مُعيَّنين لا يمكن تبديلهم، وأنَّه أمر ثابت لا محيص عنه الآن، فكرة مُبسَّطة ومُختصرة، مُحيلين التفصيل إلى المصادر الفلسفية.

إنَّ هذه الروايات الناقلة للأسماء - على تقدير ثبوتها - تنقل لنا رأي قائليها وهم الأئمة المعصومون ( ع ) وآرائهم دائماً، مُستقاة من النبي الأعظم (ص)، وهو( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1) .

إذن؛ فالأمر يعود إلى تعلُّق العلم الإلهي بنجاح أشخاص مُعيَّنين، ووصولهم إلى الدرجة الأُولى من الإخلاص.

وعلم الله عزَّ وجلَّ عين إرادته - كما ثبت الفلسفة - فلو كانت إرادته تعالى قد تعلَّقت باتِّصاف هؤلاء بهذه الصفة على كل حال، أعني: ولو بسبب قهري غير إرادي، لكان الإشكال وارداً؛ إذ من الظلم أن تتعلَّق الإرادة الإلهية بإنجاح هؤلاء دون

____________________

(1) النجم: 53 /3-4.

٢٩٨

غيرهم، والظلم مُستحيل الثبوت لله عزَّ وجلَّ كما ثبت في الفلسفة أيضاً.

ولكنَّ إرادة الله تعالى على نجاح هؤلاء بملء إرادتهم واختيارهم، وهو - في واقعه - معنى النجاح في التمحيص؛ لما عرفناه من أنَّ عنصر الاختيار ضروري في قانون التمحيص، وأحد الأركان الرئيسية للنجاح فيه؛ إذ لو كان النجاح جبرياً قهرياً، لما كان نجاحه أصلاً، فإنَّ إعطاء معدن الذهب شكل الحُلي الجميل ليس فخراً للذهب، كما هو واضح.

ومعه؛ نعرف إنَّ علم الله الأزلي بنجاح هؤلاء باختيارهم، وبرسوب الراسبين باختيارهم أيضاً، وإرادته تعلَّقت بذلك أيضاً... فهما مُتساوقان مع القانون العام للتمحيص الذي سنَّه الله تعالى بعلمه وإرادته أيضاً، ووهب الاختيار للبشر بعلمه وإرادته أيضاً.

ومعه؛ يكون مدلول الروايات: إنَّ هؤلاء المسلمين أو المعدودين هم الذين سيُحسنون التصرُّف، وتكون مواقفهم الاختيارية صحيحة وعادلة، وإنَّ غيرهم سوف لن يبلغ مبلغهم باختياره أيضاً، ولو لم يُقصِّر المـُقصِّرون، وكان الناس على المسؤولية في عهد التمحيص، لكان الناجحون أكثر، ولوردت تسميتهم في الروايات أيضاً.

ولكن من المؤسِف أنَّ الناس قد أبدوا باختيارهم سلوك المـُقصِّرين وتصرُّف المذنبين، فتضاءل عدد الناجحين، فتضاءلت تسميتهم في الروايات أيضاً، وقد قال الله تعالى:( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (1) .

ومن الطبيعي أن يكون الناجحون باختيارهم، والواصلون إلى الدرجة الأُولى بتضحياتهم وجهادهم، يكونون أهلاً لكل المـُميِّزات التي يتفرَّدون بها عن البشر أجمعين؛ لأنَّهم أدّوا من التضحيات ما لم يؤدِّ غيرهم من الناس، فارتفعوا إلى مستوى لم يرتفع إليه غيرهم من البشر... ابتداءً باهتمام رسول الله (ص) والأئمة المعصومين (ع) بتعدادهم وتسميتهم، وانتهاءً بنُصرتهم للمهدي (ع) ومُمارسة القيادة والحُكم بين يديه.

هذا، ولا ينبغي أن ننسى أنَّ الدرجات الأُخرى من الإخلاص، ينالها الفرد بالاختيار أيضاً، ولكنَّها حيث تكون أسهل منالاً، فإنَّ القواعد الشعبية المـُتَّصفة بها أيضاً ستكون أوسع، وكلُّهم بالتدريج سينصرون المهدي (ع) ويعملون بين يديه.

____________________

(1) يس: 36 / 30.

٢٩٩

٣٠٠