موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 188597
تحميل: 8737


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188597 / تحميل: 8737
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الباب الثالث

التطبيق الإسلامي المهدوي

أو

الدولة المهدوية العالمية

ويتضمَّن هذا الباب عدَّة فصول:

٤٤١

٤٤٢

الفصل الأول

مجيء المهدي (ع) بأمر جديد وكتاب جديد

وهو ما نطقت به روايات عديدة، وممَّا يُمثِّل الجزء الأساسي من الأيديولوجية العامة لدولة المهدي عليه السلام؛ ومن هنا ينبغي أن يقع الحديث عن ذلك ضمن عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الدالة على ذلك:

وهي ممَّا اختصَّت به المصادر الإمامية فيما نعلم.

أخرج النعماني(1) ، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، أنَّه قال: ( لا بدَّ لنا... - إلى أن قال: - لكأنِّي أنظر إليه بين الركن والمقام، يُبايع الناس على كتاب جديد على العرب شديد... ) الحديث.

وأخرج أيضاً(2) ، بسنده إلى أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام، يقول: ( لو قد خرج قائم آل محمد (ع)... - إلى أن قال: - يقوم بأمر جديد وسنَّة جديدة، وقضاء جديد على العرب شديد ).

وأخرج أيضاً(3) ، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (ع)، قال: ( يقوم القائم في وتر من السنين... - إلى أن قال: - فوالله، لكأنِّي أنظر

____________________

(1) الغيبة ص 102.

(2) المصدر ص122 وما بعدها.

(3) المصدر ص139.

٤٤٣

إليه بين الركن والمقام، يُبايع الناس بأمر جديد (شديد)، وكتاب جديد، وسلطان جديد من السماء ).

وأخرج المجلسي في البحار(1) عن النعماني، بسنده عن كامل، عن أبي جعفر (ع) أنَّه قال: ( إنَّ قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد، كما دعا إليه رسول الله، وإنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء! ).

وأخرج(2) أيضاً عنه، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال: ( الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء! ).

فقلت: اشرح لي هذا الأمر أصلحك الله.

فقال: ( يستأنف الداعي منَّا دعاءً جديداً، كما دعا رسول الله (ص) )، إلى غير ذلك من الأخبار.

وهذه الأخبار بحسب أعدادها كافية للإثبات التاريخي، وهي تُعطي عدَّة عناوين: الأمر الجديد، والسنَّة الجديدة، والقضاء والسلطان الجديد، والدعاء الجديد.

وليس فيها أنَّه يدعو إلى دين جديد، كما هو المشهور على بعض الألسنة.

الجهة الثانية: في مُحاولة إيجاد فَهْم عامٍّ لهذه الأخبار، بشكل يكون مرتبطاً بالتخطيط العام.

إنَّنا إذا لاحظنا الأحكام الإسلامية في عصر الغيبة، وهو عصر يبعد عن مصدر التشريع الإسلامي، وأخذنا بنظر الاعتبار من حيث وجودها النظري والتطبيقي، نجد فيها أربعة موارد من النقص والقصور.

المورد الأول: الأحكام الإسلامية التي لم تُعلَن للناس أصلاً، بل بقيت معرفتها خاصة بالله ورسوله والقادة الإسلاميين.

فإنَّ الأحكام التي أوصلها الله تعالى إلى البشر بواسطة الرسول (ص)، وعرفها قادة الإسلام...

منها: ما أُعلِن بين الناس لكي يكون مدار عملهم وفقههم لفترة مُعيَّنة.

ومنها: أحكام بقيت مستورة عن الناس، ومؤجَّل إعلانها إلى زمن ظهور المهدي وتطبيق العدل الكامل.

____________________

(1) ج13 ص194.

(2) المصدر والصفحة.

٤٤٤

وأوضح دليل على هذا الانقسام: أنَّنا نجد بالوجدان أنَّ عدداً مُهمَّاً من الأحكام، لم يكن في الإمكان أن يصدر في صدر الإسلام وزمن القادة الإسلاميين الأوائل؛ لعدم معرفة المجتمع بموضوعها بالمرَّة، وعدم مُناسبتها مع المستوى الفكري والثقافي له.... كحكم ركوب الطائرة، واستعمال القنابل، وحكم زرع القلب وغير ذلك.

ومعه؛ فالضرورة مُقتضية لتأجيل بيان هذه الأحكام، وإعلانها إلى ما بعد معرفة المجتمع بموضوعاتها، وهذا لا يكون مع البعُد عن مصدر التشريع بطبيعة الحال، وإنَّما تُعلَن عند اتصال البشرية مرَّة ثانية بهذا المصدر مُتمثِّلاً بالإمام المهدي (ع).

المورد الثاني: الأحكام التالفة على مرِّ الزمن، والسنَّة المـُندرسة خلال الأجيال، ممَّا يتضمَّن أحكام الإسلام ومفاهيمه أو يدلُّ عليها.

فإنَّ ما تلف من الكُتب التي تحمل الثقافات الإسلامية على اختلافها، بما فيها أعداد كبيرة من السنَّة الشريفة والفقه الإسلامي، نتيجةً للحروب الكبرى في تاريخ الواقعة ضدَّ المنطقة الإسلامية، كالحروب الصليبية، وغزوات التتار، والمغول وغير ذلك... عدد ضخم من الكُتب يعد بمئات آلالاف، ممَّا أوجب انقطاع الأمَّة الإسلامية عن عدد مُهمِّ من تاريخها وتراثها الإسلامي، واحتجاب عدد من الأحكام الإسلامية عنها.

المورد الثالث: إنَّ الفقهاء حين وجدوا أنفسهم محجوبين عن الأحكام الإسلامية الواقعية، في كثير من الأمور المستجدَّة، والوقائع الطارئة على مرِّ الزمن... اضطرُّوا إلى التمسُّك بقواعد إسلامية عامة مُعيَّنة، تشمل بعمومها مثل هذه الوقائع... وهي قواعد إسلامية صحيحة، تُنقذ الفرد عند جهله بالحكم وتُعيِّن له الوظيفة الشرعية، إلاَّ أنَّ نتيجتها في كل واقعة ليست هي الحُكم الإسلامي الواقعي أو الأصلي في تلك الواقعة، وإنًَّما هو ما يُسمَّى بالحُكم الظاهري، وهو يعني ما قلناه من تحديد الوظيفة الشرعية للمكلف عند جهله بالحكم الواقعي الأصلي.

وهذا النوع من الأحكام الظاهرية، أصبح بعد الانقطاع عن عصر التشريع وإلى الآن مُستوعباً لأكثر مسائل الفقه أم كلها تقريباً، ما عدا الأحكام الواضحة الثبوت في الإسلام.

والفتاوى التي يُعطيها الفقهاء في مؤلَّفاتهم، وإن لم تكشف عن هذا المعنى بصراحة، وإنَّما نراهم يُعطون الفتوى عادة بشكل قطعي، مُشابه لإعطائهم الفتوى بالحكم الواقعي الأصلي، إلاَّ أنَّ مرادهم بقطعية الحُكم: قطعية الحُكم الظاهري. أي: أنَّ هذه الفتوى هي غاية تكليف المـُكلَّفين في عصر الاحتجاب عن عصر التشريع، وهي الفتوى التي

٤٤٥

تتضمَّن إطاعة الله تعالى، وتفريغ ذمَّة المـُكلَّف باليقين، وهذا أمر صحيح إلاَّ أنَّه لا يعني بحال أن تكون تلك الفتوى هي الحُكم الإسلامي الواقعي.

وهذا واضح لكل فقيه إسلامي، على مختلف المذاهب الإسلامية، ولا مجال في هذا التاريخ إلى الإفاضة في ذلك أكثر من هذا المقدار.

المورد الرابع: الأحكام غير المـُطبَّقة في المجتمع المسلم، بالرغم من وضوحها وثبوتها إسلامياً، سواء في ذلك الأحكام الشخصية العائدة إلى الأفراد أم العامة العائدة إلى تكوين المجتمع والدولة الإسلامية؛ حيث قلنا: إنَّ الفشل في التمحيص الإلهي يوجب خروج أكثر الأفراد عن أحكام الإسلام الواضحة وضروريات الدين.

الجهة الثالثة: أنَّه بالرغم من وجود هذه الجهات من النقص والقصور في الأحكام الإسلامية، خلال عصر الانفصال عن عصر التشريع.

فإنَّنا قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1) - وأشرنا في أول هذا التاريخ -: إنَّ مرور زمن الغيبة الطويل، يكون مُساعداً على رفع المستوى الفكري للأُمَّة الإسلامية من نواحي عديدة، ممَّا يجعلها على مستوى فَهْم الأحكام الجديدة والعمق الجديد لعصر ما بعد الظهور، وهذا مستوى ضروري للأُمَّة، بل للبشرية كلها، لكي تكون قابلة للتربية إلى المستوى اللائق بها المـُستهدف للإمام المهدي عليه السلام.

وقد ذكرنا أنَّ المستوى الفكري للأُمَّة خلال عصر الغيبة يتعمَّق من عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: تعمَّق المفاهيم والتصوُّرات الإسلامية عن الكون والحياة، في ذهن المسلمين عامة، والمـُفكِّرين الإسلاميين خاصة.

الجهة الثانية: تعمَّق الفهم القانوني والفقهي عند المسلمين، باعتبار ما تستجد من وقائع من ناحية، ومن طرق الاستدلال من ناحية أخرى.

والفقه، وإن كان قائماً في الأعمِّ الأغلب على مستوى الحُكم الظاهري كما قلنا، ولا يعني عمقه انكشاف الواقع للفقيه... إلاَّ أنَّ طريقة استنساخ الحُكم وفهمه، تكون أعمق وأشمل لا محالة.

الجهة الثالثة: الاطِّلاع على آراء وفلسفات الآخرين، من مختلف التيَّارات

____________________

(1) انظر ص287 وص 391 منه.

٤٤٦

الفكرية، مع التعمُّق التدريجي في نقدها ومناقشتها.

الجهة الرابعة: التعوُّد بعمق على حمل الهموم العامة، والاطِّلاع على أخبار الناس، والتجاوب مع أحداث العالم، هذا التعوُّد الذي لو أصبح موجَّهاً توجيهاً إسلامياً لكان اهتماماً بأمور المسلمين، وحملاً لهموم الأُمَّة الإسلامية، وبالتالي البشرية... كما هو اللازم على كل مسلم.

الجهة الخامسة: تعمُّق الفكر الكوني من الناحية العلمية، كالطبِّ، والفيزياء، والكيمياء، والفلك، وغير ذلك.

وكل هذه الجهات يكون طولُ المدَّة وكثرةُ البحث والتدقيق فيها موجباً لتطوُّرها وتكاملها، حتى ما إذا وصلت الأُمَّة إلى مستوى مُعيَّن فيها، كانت الأُمَّة يومئذ قابلة لفَهْم العمق الحقيقي للمستوى الفكري، الذي يقوم عليه نظام الإمام المهدي (ع) بعد الظهور.

الجهة الرابعة - من هذا الفصل -: إنَّ المجتمع المسلم بشكل عام، حين يصل إلى المستوى اللائق المطلوب في تخطيط العام، يكون في إمكان الإمام المهدي (ع) - بكل سهولة - إكمال تلك النواقص التي أشرنا إليها، وسيكون له تجاه كل نقص موقفٌ مُعيَّن، في حدود فَهْمنا في الوقت الحاضر:

الموقف الأول: موقفه من الأحكام غير المـُبلَّغة، وهو واضح كل الوضوح؛ فإنَّ الأُمَّة بعد بلوغها المستوى لفَهْم الأحكام الدقيقة المـُفصَّلة... بعد أن كان الإمام المهدي (ع) هو الوريث الوحيد من البشر أجمعين لتلك الأحكام غير المـُعلنة، يرويها - بحسب الفَهْم الإمامي - عن آبائه، عن رسول الله (ص)، عن الله جلَّ جلاله... إذن يكون الوقت قد أزف لإعلان تلك الأحكام، لتُشارك في البناء العالمي العادل الكامل ضمن التخطيط العام الجديد لما بعد الظهور. هذا بحسب الفهم الإمامي للفكرة المهدوية.

وأمَّا بحسب الفَهْم الآخر لها لدى المسلمين الآخرين، وهو أنَّ المهدي شخص يولَد في زمانه، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً... فمثل هذا الشخص يكون حاله حال سائر الناس في اختفاء الأحكام غير المـُبلَّغة عنه، وليست له أيَّة وسيلة للعلم بها بشكل طبيعي، لا بنحو الرواية ولا بغيرها.

كل ما نستطيع أن نتصوَّره له، هو أنَّه يُمثِّل القمَّة العُلْيَا في الفَهم الإسلامي المعاصر له، ذلك الفَهْم الذي علمنا أنَّه يحتوي - على عمقه وسعته - كل تلك النقائص التي سمعناها، فكيف يستطيع أن يملأ هذه الفجوات؟!..

٤٤٧

وأمَّا القول: بأنَّ علم المهدي بهذه الأحكام يكون بطريق إعجازي، كالإلهام ونحوه، كما ذكر ابن عربي في الفتوحات(1) ، فهو غير صحيح لأمرين:

الأمر الأول: إنَّ هذا يتضمَّن معنى النبوَّة، فإنَّنا نعني بالنبوَّة نقل لأحكام من الله تعالى بلا واسطة بشر، وهذا المعنى يكون ثابتاً للمهدي، مع العلم أنَّه لم يدَّعِ أحد أنَّه نبيٌّ، ولا يجوز ذلك في شرع الإسلام.

الأمر الثاني: إنَّ هذه المعجزة مُنافية مع قانون المعجزات؛ لعدم انحصار إقامة العدل بها، لوضوح إمكان إبدالها بالفهم الإمامي للمهدي، ليكون نقل الأحكام عن طريق الرواية بشكل (طبيعي).

وأمَّا ما أثبتناه في التاريخ السابق(2) ، من وجود الإلهام، فهو - لا محالة - خاص بالأساليب القيادية التي تمتُّ إلى الوقائع الخاصة ونحوها بصِلَةٍ، لا إلى الأحكام الأصلية في الدين.

فإذا كان من المـُقدَّر أن يكون الحُكم المـُعيَّن الجديد، المـُعلَن في دولة العدل العالمية المهدوية حُكماً أصلياً وثابتاً، شأنه شأن وجوب الصلاة أو حرمة السرقة، فمثل هذا الحُكم لا يمكن أن يتلقَّاه المهدي (ع) مُباشرة من الله عزَّ وجلَّ بالإلهام، وإلاَّ ثبتت له مرتبة النبوَّة والرسالة، المنفيَّة عنه بالضرورة، وإنَّما يكون ذلك بالرواية فقط، ويكون الإلهام مُساعداً له فيما دون ذلك من الأشياء من خصائص القيادة العالمية.

الموقف الثاني: موقف المهدي (ع) من الأحكام التالفة.

وهو أيضاً واضح جدَّاً، فإنَّ المفروض أنَّ هذه الأحكام كانت مُعلَنة في صدر الإسلام، فهي لا تحتاج في فهمها إلى العمق الجديد في التفكير، وإنَّما كان فقط تحتاج المحافظة عليها وعدم إتلافها، إلى مستوى مُعيَّن من القدرة الدفاعية والشعور المسؤولية لدى المسلمين، الأمر الذي كان مفقوداً خلال أجيال المسلمين التي فقدت هذه الأحكام.

والمهدي (ع) - بالفهم الإسلامي - يكون عارفاً بهذه الأحكام عن طريقين:

الطريق الأول: الرواية عن آبائه، عن رسول الله (ص)، عن الله عزَّ وجلَّ.

الطريق الثاني: مُعاصرة هذه الأحكام قبل تلفها، حين كانت مُعلنة ومعروفة. وقد

____________________

(1) انظر الفتوحات المكِّيَّة.ج3 ص327 وما بعدها.

(2) تاريخ الغيبة الكبرى ص505.

٤٤٨

جاءت أجيال جديدة بعد تلف تلك الأحكام، غير مسبوقة بمضمونها ولا عارفة بحقيقتها... ولكنَّ المهدي (ع) وحده هو الذي كان مُعاصراً لتلك الأحكام، وبقي حيَّاً إلى حين ظهوره، فهو معهود بمضمون تلك الأحكام بالمباشرة، فيمكنه إعلانها من جديد بعد الظهور.

الموقف الثالث: موقفه من الأحكام الظاهرية.

وهو موقف واضح أيضاً، بعد الذي عرفناه من أنَّ الأحكام الظاهرية، تعني تعيين تكليف الإنسان من الناحية الإسلامية، ووظيفته في الحياة عند الجهل بالحكم الواقعي، ذلك الجهل الناشئ من البُعد عن عنصر التشريع.

وأمَّا إذا كان الفرد مُطَّلعاً على الحُكم الإسلامي الواقعي، فيحرم عليه العمل بالحُكم الظاهري، والمهدي يُعلن الأحكام الواقعية الإسلامية بأنفسها( يُظهِر من الدين ما هو الدين عليه في نفسه، ما لو كان رسول الله (ص) لحكم به ) ، على ما قال ابن عربي في الفتوحات.

وأمَّا عند الإمامية، فالمهدي (ع) هو إمامهم الثاني عشر، والأئمة المعصومون الاثنا عشر عليهم السلام ككل، بمَن فيهم المهدي نفسه، هم مصادر التشريع، يُمثِّل قولهم وفعلهم القسم الأكبر من السنَّة في الإسلام، فيكون الحكم الذي يُعلنه المهدي (ع) حكماً واقعياً بطبيعة الحال.

نعم، يبقى العمل بالأحكام الظاهرية موجوداً في الموارد الجزئية، التي قد يشكُّ فيها المـُكلَّف أو يجهلها من وقائع حياته، ومعه؛ فالحكم الظاهري سوف يرتفع في التشريع الأصلي، ويبقى في بعض التطبيقات الجزئية.

الموقف الرابع: موقفه من النقص الرابع، وهو عدم وصول بعض الأحكام الإسلامية إلى مستوى التطبيق في عصر ما قبل الظهور.

يقوم المهدي (ع) بنفسه بتطبيق الأحكام العامة، فيؤسِّس الدولة العالمية العادلة الكاملة، ويقوم برئاستها وإدارة شؤونا وتطبيق الأُطروحة العادلة الكاملة، بمستواها العميق الجديد، فيها.

وأمَّا الأحكام الخاصة التي تمتُّ إلى الأفراد بصِلَةٍ، فيُقتَل كلُّ عُصاتها، ولا يبقى إلاَّ ذاك الإنسان الذي يكون على استعداد لإطاعة الحُكم العادل، وتقديمه على كل مصالحه الشخصية الضيِّقة.

٤٤٩

فهذه أربعة مواقف للإمام المهدي، يتمُّ فيها تغطية كل النواقص التي كان يُعانيها الإسلام والمسلمون خلال العصر السابق على الظهور.

الجهة الخامسة: أنَّه بعد أن اتَّضح كل ما قلناه، نعرف - بكل جلاء - ما هو المراد ممَّا ورد من أنَّ الإمام المهدي يأتي بأمر جديد وسلطان جديد.

ويحسن بنا أن نتكلَّم عن كل فقرة من هذه الفقرات، في نقطة:

النقطة الأُولى: يُراد بالسلطان الجديد، الأسلوب الجديد في إدارة الدولة وشؤون المجتمع... ذلك الأسلوب الذي كان مشروعاً في الإسلام، ولكنَّ البشرية لم تجد تطبيقه الصحيح، لا في الخلافة الأُمويَّة، ولا العباسية، ولا ما بعدهما من دول ومجتمعات؛ لأنَّها تختلف عن الأسلوب الإسلامي الصحيح اختلافاً جوهرياً في وسائلها و غاياتها.

فالمهدي (ع) يقوم بتطبيق هذا الأسلوب تطبيقاً كاملاً، مع التطويرات الجديدة التي يرى إجراءها عليه خلال سلطانه الجديد.

النقطة الثانية: يُراد بالأمر الجديد، أحد معاني مُحتملة:

الأول: الأمر بمعنى الطلب، الذي يُجمَع على (أوامر)، أي التشريع والحُكم؛ فيكون المراد الإشارة إلى ما سيُعلنه الإمام المهدي من أحكام جديدة في دولته، لم تكن معروفة قبل ظهوره.

الثاني: الأمر بمعنى العقيدة أو الاتجاه الفكري، وقد ورد بهذا المعنى في عدد من الروايات؛ ويكون المراد الإشارة إلى المستوى الفكري والعقائدي العميق الجديد، الذي يُعلنه المهدي (ع) في دولته.

الثالث: الأمر بمعنى الإمارة أو الإمامة أو الخلافة، ما شئت فعبِّر... وقد ورد بهذا المعنى في عدد من الروايات أيضاً؛ ويكون المراد منه ما يُشبه فكرة السلطان الجديد، غير أنَّ السلطان بحسب معناه العرفي شامل للقوانين العامة، على حين أنَّ الإمارة وصف لشخص الأمير، ومن المعلوم أنَّ إمارة المهدي شكل جديد من الإمارة غير ما سبق، حتى في حياة النبي (ص) لوجود عدَّة فروق بين دولة النبي (ص) ودولة المهدي (ع).

فإنَّ النبي (ص) سار مع المـُنحرفين والمـُنافقين بالمـُلاينة، والمهدي (ع) يسير معهم

٤٥٠

بالقتل، والنبي (ص) أجّل إعلان بعض الأحكام الواقعية، والإمام المهدي (ع) سيعرض الأحكام كلَّها، والنبي (ص) مارس الحُكم على رقعة محدودة من الأرض، في حين أنَّ الإمام المهدي يحكم كل المعمورة، إلى غير ذلك من الفروق التي حملنا عنها فكرة كافية.

ويكفينا في التجديد بالإمارة، أن تكون دولة المهدي (ع) عالمية، في حين لم تكن الدولة لأيِّ إنسان آخر في التاريخ عالمية.

النقطة الثالثة: يُراد بالدعاء الجديد أحد أمرين:

الأول: الدعاء إلى شيء جديد، وهو المفاهيم والأحكام التي يدعو إليها المهدي (ع) بعد ظهوره.

الثاني: أن يكون الدعاء بنفسه جديداً، كما هو ظاهر في التعبير فعلاً... وكما هو مقتضى التشبيه بدعاء رسول الله (ص)، كما سمعنا من بعض الروايات، فإنَّه دعاء جديد لم يُعهد مثله قبله، والمراد بالدعاء الإرشاد والدعوة إلى الحق والعدل، وهو مُشابه للنبي (ص) من حيث إخلاصه في أسلوبه، وحُرِّيته في بيانه، وعدالته في مضمونه، ورجوعهما معاً إلى مركز فكري واحد.

النقطة الرابعة: ما يُحتمل أن يُراد من (الكتاب الجديد) - بحسب التصوُّر الأوَّلي - عدَّة أمور:

الأمر الأول: أن يُراد به قرآن جديد يأتي على المهدي (ع)، في مقابل القرآن الكريم، معجزة الإسلام الخالدة.

وهذا باطل بالقطع واليقين؛ للضرورة القاضية بأنَّ الدين الذي يلتزمه الإمام المهدي (ع) هو دين الإسلام، وأنَّه يسير على كتاب الله وسنَّة رسوله، ولم يشكُّ أحد من المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وقد تواترت بذلك الروايات، واقتضاه التخطيط الإلهي العام، كما سبق أن ذكرنا وبرهنَّا.

وإذا أتى بقرآن جديد، فمعناه نسخه للقرآن الكريم، وخروجه على الإسلام، وهذا بخلاف هذه الأدلة القطعية الضرورية.

وعلى أيِّ حال، فمن القطعي أنَّه لا يأتي مُستقلاَّ ًولا بآية جديدة واحدة، فضلاً عن كتاب كامل.

الأمر الثاني: أن يُراد من ذلك، أنَّ المهدي يُعيد القرآن إلى شكله الذي كان

٤٥١

عليه في زمن رسول الله (ص)، وهو شكل غير معهود للمجتمع المسلم قبل الظهور؛ ومن هنا كان موصوفاً بكونه كتاباً جديداً.

وتكون أشكال التغيير المـُحتملة في القرآن الكريم عديدة، فإن صحَّت أو صحَّ بعضها، كان هذا الأمر الثاني صحيحاً، وإن بطلت كلها كان هذا الأمر باطلاً.

الشكل الأول: أن يُبرِز القرآن الكريم مع زيادات في الآيات، لم تكن معروفة قبل الظهور، وهذا الشكل من الافتراض مبني على تصحيح ما ورد في بعض الروايات أنَّ القرآن، كان يحتوي على بعض الآيات في زمن رسول الله (ص)، وقد حُذِفت بعد وفاته، فإنَّه لو صحَّ ذلك، كان صدق هذا الافتراض ضرورياً؛ لأن أوْلى مَن يُعيد الآيات إلى وضعها الطبيعي، وإعلانها ثانية بين الناس، هو الإمام المهدي نفسه.

غير أنَّ الأخبار الدالَّة على وجود الحذف في القرآن الكريم، غير قابلة للإثبات، كما ثبت في محلِّه؛ ومعه يكون هذا الشكل من الافتراض غير ذي موضوع.

الشكل الثاني: أن يُبرِز القرآن الكريم مع تقديم وتأخير في آياته، مُماثل لأسلوب النزول، فإنَّه من المؤكَّد أنَّ القرآن الكريم بالشكل الذي نقرؤه ليس على ترتيب النزول.

غير أنَّنا سنقول في الشكل الثالث: إنَّ التغيير عن ترتيب النزول كان بأمر من رسول الله (ص) نفسه، فيكون تغييره عن ذلك الترتيب مشروعاً، لا حاجة إلى تغيير، بل إنَّ فيه خروجاً عن أمر النبي (ص) نفسه، فلا يقوم به المهدي (ع).

الشكل الثالث: أن يُبرِز القرآن الكريم مع تغيير آياته وسوره، بشكل يُصبح مُماثلاً لما كان عليه الترتيب في زمن رسول الله (ص)، بإشرافٍ وأمرٍ منه (ص)، فقد أصبح القرآن الكريم مُتغيِّراً عن ترتيب النزول، ولكنَّ ذلك بأمر الرسول (ص)، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى.

وهذا الشكل يتوقَّف على أن يثبت أنَّ ترتيب القرآن الكريم قد تغيَّر بعد رسول الله (ص)، لكي يُعيده المهدي(ع) إلى شكله الأول، وهذا لم يثبت بدليل كافٍ، بل من المؤكَّد أنَّ القرآن الكريم بشكله الموجود، هو الشكل الذي كان مُرتَّباً بأمر رسول الله (ص).

إذاً؛ فلم يثبت أيُّ شكل من هذه الأشكال الثلاثة؛ ومعه فالأمر الثاني ككل لا

٤٥٢

يكون صحيحاً.

غير أنَّ هناك خبراً يدلُّ على صحَّة هذا الأمر الثاني، وهو ما رواه المفيد في الإرشاد(1) مُرسَلاً، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، أنَّه قال: ( إذا قام قائم آل محمد (ص) ضرب فساطيط، ويُعلِّم الناس القرآن على ما أنزل الله عزَّ وجلَّ، فأصعب ما يكون على مَن حفظه اليوم، لأنَّه يُخالف فيه التأليف ).

والظاهر الأوَّلي لتعبيره هو الشكل الأول، يعني إعادة القرآن الكريم إلى ترتيب النزول ( على ما أنزل الله عزَّ وجلَّ ).

غير أنَّ الأدلة على بطلان ذلك الشكل والأشكال الأُخرى أقوى من أن نعود إليها بمثل هذا الخبر المـُرسَل، على أنَّه يمكن فَهْمه على شكل آخر، سنُشير إليه غير بعيد.

الأمر الثالث: أن يُراد بالكتاب الجديد، أنَّ المهدي (ع) يُبرِز للملأ تفسيراً جديداً للقرآن الكريم عميقاً موسَّعاً، أو أنَّه عليه السلام يُعطي قواعد عامة جديدة، تؤسِّس أسلوباً جديداً من التفسير والفَهْم للقرآن الكريم.

وهذا أمر صحيح لا محيص عنه، فإنَّه يُمثِّل حقلاً مُهمَّاً من العمق والشمول، الذي يتَّصف به الوعي البشري في عهد الدولة العالمية العادلة، ويكون جانب الجِدَّة فيه هو أنَّ الفَهم الجديد أعمق من كل الأفهام السابقة، والناسخ بحقائقه كل الاختلاف والتضارب الموجود في فَهم القرآن الكريم وتفسيره.

ولعلَّ هذا هو المراد من الخبر السابق، من حيث إنَّه يُراد من (... القرآن على ما أنزل الله عزَّ وجلَّ )، المقاصد والمعاني الواقعية للقرآن الكريم، تلك المقاصد التي لم تكن واضحة بالشكل الكافي في العصر السابق على الظهور، ويراد من مُخالفيه التأليف، مُخالفة الفَهْم التقليدي الاعتيادي الذي كان واضحاً في الأذهان في العصر السابق.

الأمر الرابع: أن يُراد بالكتاب الجديد التشريع الجديد، وإنَّما عبَّر عنه بالكتاب، باعتبار أنَّه مُشابه للكتاب - أعني القرآن الكريم - في احتوائه على التشريع، أو باعتبار أنَّ الكتاب الكريم يحتوي على الأُسس الأصلية، ويكون التشريع الجديد مُستمدَّاً منه.

وهذا الأمر مُحتمل، في ما يقصد بالكتاب الجديد، غير أنَّه لا يُعادل وضوح الأمر الثالث الذي عرفناه.

____________________

(1) ص 344.

٤٥٣

النقطة الخامسة: يُراد بالسنَّة الجديدة أمر واحد صحيح لا مناص عنه، وهو كلام الإمام المهدي (ع) وفعله وتقريره، بعد أن ثبت في محلِّه أنَّ السنَّة هي كلام المعصوم وفعله وتقريره، والإمام المهدي (ع) معصوم على ما يرى ابن عربي في الفتوحات(1) وغيره.

وهو ممَّا أجمعت عليه الإمامية، وقام عليها مذهبها ومعه، فيكون كلام الإمام المهدي (ع) وفعله وتقريره سنَّة، تكون (حجَّة) بين المـُكلَّفين وبين الله عزَّ وجلَّ، وواجبه الاتِّباع والإطاعة عليهم، لأجل تربيتهم وتطبيقهم للعدل الكامل في العلاقة مع الله والدولة والمجتمع، وإنَّما وُصِفت هذه السنَّة بالجديدة؛ باعتبار أنَّ مضمونها سيختلف عن السنَّة المنقولة في المصادر السابقة في الإسلام، باعتبارها ستحمل الأحكام الجديدة، والمفاهيم الجديدة، ومستوى الوعي العميق الجديد، الذي سيُعلنه الإمام المهدي (ع) ويُربِّي البشرية كلها عليه.

وسوف تكون سنَّته هي السنَّة الريئسية، التي تكون مدار استنتاج الأحكام وغيرها بعد المهدي (ع)... بل هي المنطلق الأساسي الذي تقوم عليه التربية المـُستمرَّة بعده (ع)، مضافاً إلى الفَهْم الجديد للقرآن والسنَّة الأُولى الواردة عن قادة الإسلام الأوائل، في الحدود المـُمضاة صحتها من قِبَل المهدي عليه السلام.

النقطة السادسة: يُراد بالقضاء الجديد أحد الأمور:

الأمر الأول: التخطيط الجديد للبشرية الذي يُسار عليه في عصر الظهور، والذي سمَّيناه بتخطيط ما بعد الظهور، وإنَّما عبَّر عنه بالقضاء، باعتبار أنَّ التخطيط الإلهي شكل من أشكال القضاء الإلهي، يكون الوجه في نسبته إلى المهدي (ع) باعتبار كونه موقوتاً بما بعد ظهوره، وباعتبار كونه مُشاركاً فيها مشاركة فعَّالة واسعة، كما سبق أن عرفنا.

الأمر الثاني: أن يُراد بالقضاء الجديد، التشريع الجديد الذي يُعلنه الإمام المهدي (ع) بعد ظهوره، فإنَّ التشريع من معاني القضاء لغةً، يُقال: قضى بكذا، إذا أمر به وشرَّعه.

الأمر الثالث: أن يُراد به كثرة القتل التي عرفنا أنَّ المهدي (ع) يقوم بها تجاه

____________________

(1) ج3ص328 وما بعدها.

٤٥٤

المـُنحرفين، فالقضاء هنا بمعنى حُكمه بوجوب قتلهم، أو بمعنى القضاء عليهم واستئصالهم؛ ومن هنا سمعنا الروايات: أنَّه (... قضاء جديد على العرب شديد ).

الأمر الرابع: أن يُراد بالقضاء الجديد ما أُشير إليه في بعض الروايات، من أنَّ المهدي (ع) سيتَّخذ أُسلوباً جديداً في القضاء وفصل الخصومات بين الناس، وأنَّه يحكم بحكم داود لا يسأل البيِّنة، وسيأتي التعرُّض إلى ذلك مع نقده في فصل آخر من هذا الباب.

وكل هذه الأمور الأربعة مُحتملة في معنى القضاء، غير أنَّ الأمر الثالث مُدعَم بقرينة تدلُّ عليه هي كونه( على العرب شديد ) ، بخلاف الأمور الأخرى.

الجهة السادسة: أنَّنا لم نجد في الأخبار أنَّ المهدي (ع) يأتي بدين جديد، كما هو المشهور على الألسن، وربَّما كان هذا تحويراً شعبياً لأحد هذه العناوين الستَّة التي سمعناها من الروايات، والتي يصعب استيعابها على الفرد الاعتيادي.

ولو كان ذلك وارداً في الروايات، لما كان المراد منه أنَّه يأتي بشريعة جديدة تُقابل الإسلام وغيره من الأديان؛ وذلك للقطع بكون المهدي (ع) ليس بنبي، وأنَّه لا نبي بعد نبي الإسلام، وأنَّ المهدي إنَّما يُطبِّق قانون الإسلام وشريعته، كما سبق أن عرفنا ودلَّت عليه الروايات المتواترة، فلو كان المراد منه ذلك لوجب طرح الرواية بإزاء الأدلة القطعية النافية لمضمونها.

لكنَّ الأنسب أن يُراد بالدين الجديد - لو كان مروياً - التشريع الجديد الذي يأتي به المهدي (ع)، باعتبار أنَّه يدان لله تعالى بإطاعته وتطبيقه.

الجهة السابعة: سمعنا من عدَّة من هذه الروايات، أنَّ المهدي (ع) يستأنف أمراً جديداً ودعاءً جديداً، كما أستأنفه رسول الله (ص)، أنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء.

أمَّا أنَّ النبي (ص) استأنف أمراً جديدا ودعاءً جديداً، فهو واضح، بعد الذي كان عليه المجتمع قبل الإسلام وفي السِّنِي الأُولى من النبوَّة، من الظلم والضياع، وقد أخرجته النبوَّة الجديدة من الظلمات إلى النور، ودلَّته على العدل الكامل.

وقد بدأ الإسلام غريباً، فقد كان المؤمنون في السِّنِي الأُولى للنبوَّة غرباء في مجتمع يعجُّ بالظلم والضياع، وبقيت هذه الغربة حتى اتَّسعت دعوة الإسلام وارتفعت غربته.

سيعود الإسلام غريباً حتى يعود المجتمع - نتيجةً للتمحيص العام - إلى الظلم والضياع

٤٥٥

مرَّة ثانية،( فطوبى للغرباء ) المؤمنين الذين يُمثِّلون الحق والعدل على مدى التاريخ.

وستبقى هذه الغربة إلى حين شروق شمس الهداية والعدل، عند الظهور، وسيُقيمه الغرباء بأنفسهم ويدعمونه بسواعدهم.

وسيستأنف المهدي (ع) عندئذ أمراً جديداً ودعاءً جديداً، كان قد تخلَّى عنه المجتمع منذ عهد بعيد، نتيجةً لانحرافه وفسقه، غير أنَّ هذه الجدَّة ليست مئة بالمئة، بل هي مُبتنية على ما قبلها، ومنطلقة منه كما لم تكن دعوة النبي (ص) جديدة ومئة بالمئة، بل كانت في أصولها وأُسسها العامة، مشتركة مع دعوات الأنبياء السابقين، غير أنَّ دعوة المهدي (ع) أكثر التصاقاً بتعاليم الإسلام من ارتباط دعوة النبي (ص) بتعاليم الأنبياء السابقين.

٤٥٦

الفصل الثاني

موقف الإمام المهدي (ع)

من القضايا السياسية والاجتماعية السابقة على الظهور

تمهيد:

يكاد يكون الحديث تحت هذا العنوان مُستأنفاً، بعد كل الذي عرفناه من الموقف المهدوي الحدِّي الصارم، تجاه الأنظمة والقوانين السابقة على الظهور، وأنَّه يُلغيها إلغاء تامَّاً، ويُبدِّلها إلى ما يراه هو مُطابقاً للعدل الكامل، ورأينا موقفه الحدِّي الصارم إزاء المـُنحرفين، وأنَّه سيستأصلهم مُقدِّمة لتأسيس مجتمع العدل الجديد في العالم.

وليس مرادنا الآن تكرار ذلك، وإنَّما المراد المرور على شيء من التفاصيل، بمقدار الإمكان، عسى يمكننا استشفاف بعض الاتجاهات التي سيتَّخذها المهدي في دولته، بدلاً عمَّا يُلغيه من الاتجاهات، وما يشطبه من القوانين والمفاهيم.

وبالطبع، سنكون في حاجة إلى الاطِّلاع التفصيلي إلى حدٍّ معقول، على ما نعنيه من ( القضايا السياسية والاجتماعية ) السابقة على الظهور، لكي نُحدِّد موقف المهدي (ع) منها، والصعوبة الأساسية التي تحول دون هذا الاطِّلاع التفصيلي هي الجهل بموعد الظهور... الأمر الذي يقتضي الجهل بالأنظمة والقضايا التي تكون سابقة على الظهور مباشرة، كما هو معلوم.

ولا يمكن تذليل هذه المشكلة إلاَّ بإعطاء افتراض مُعيَّن، قد لا يكون صحيحاً في نفسه، ولكنَّ البحث على أساسه سيُلقي الكثير من الضوء على مواقف الإمام المهدي تجاه الأنظمة السابقة على الظهور، فيما لو تمَّ في عصر مُتأخِّر، وهذا الافتراض هو أن نزعم: أنَّ المهدي (ع) سيظهر في هذا القرن أو ما يُقاربه، بحيث لا يكون قد طرأ على القوانين والمفاهيم العامة المـُعاصرة في عالم اليوم تغيير مُهمٌّ.

٤٥٧

وهذا أمر محتمل، طبقاً لقاعدة الانتظار الفوري، التي تقتضي توقُّع ظهور المهدي (ع) في أيَّة لحظة، كما برهنَّا في التاريخ السابق(1) ، غير أنَّ هذا الافتراض يفتقر إلى الإثبات التاريخي، وهو ممَّا لا سبيل إليه، بعد نفي التوقيت الذي عرفناه.

وبهذا الافتراض، ستكون الأنظمة السابقة على الظهور هي الأنظمة المـُعاصرة اليوم.

بهذا نُذلِّل قسماً مُهمَّاً من المشكلة، ولعلَّ الحديث حولها يُعطينا الأُسس العامة التي يمكننا من خلالها أن نتعرَّف - ولو إجمالاً - عن موقف الإمام (ع) من أيِّ نظام سابق على ظهوره.

ولا ينبغي أن نغفل في هذا الصدد، عن أنَّ غاية القصد هو الاطِّلاع على آراء المهدي (ع) واتجاهاته، بمقدار ما يهدينا إليه منهجنا في البحث المـُتكوِّن بشكل رئيسي، من القواعد العامة الصحيحة والأخبار الخاصة بالمهدي (ع)، أمَّا الاطِّلاع على العمق الحقيقي للوعي والمستوى الفكري في مجتمع ما بعد الظهور، فقد برهنَّا في مُقدِّمة هذا التاريخ على استحالة اطِّلاع الباحث السابق على الظهور عليه، إلاَّ إذا كان مُعاصراً له، مهما أوتي من عبقرية ودقَّة تفكير.

وينبغي لنا هنا أن نفتح الحديث في عدَّة جهات؛ لكي نتعرَّف على بعض ملامح مواقف الإمام المهدي (ع) تجاه الأمور الدولية أولاً، والإدارية ثانياً، والاقتصادية ثالثاً، والاجتماعية رابعاً.

الجهة الأُولى: في إلقاء الضوء على موقف الإمام المهدي (ع) من القضايا الدولية الراهنة بشكل عام.

تتضمَّن القضايا الدولية أموراً كثيرة، تُعتبر قانونية ومُلزِمة بالنسبة إلى المجتمع الدولي؛ توخِّياً لمصالح مُعيَّنة تعود إلى الدول أنفسها.

فهناك الاتفاقيات والمعاهدات والأحلاف ونحوها، ممَّا تعقده الدول فيما بينها بشكل ثنائي أو أكثر، لتنظيم العلاقات فيما بينها، اقتصادياً أو ثقافياً، أو عسكرياً أو غير ذلك.

وهناك التمثيل الدبلوماسي بين الدول، بشكله المعروف الذي يتضمَّن إلزام السفير بالتقريب بين الدولتين، وإيجاد العلاقات الحسنة فيما بينهما جهد الإمكان، وإذا لم يكن هناك سفير، كان مكانه قائم بالأعمال، أو تتكفَّل دولة صديقة مصالح دولة ثانية بالنسبة

____________________

(1) انظر ص 362 وص 362 وص 427

٤٥٨

إلى الرعايا الموجودين في دولة ثالثة، إذا فقد التمثيل الدبلوماسي بينهما.

ويتَّبع هذا النظام الدبلوماسي، نظام الاستقبال والتوزيع والزيارة، بين الدبلوماسيين والملوك والرؤساء من مختلَف الدول.

وإذا حصل هناك بين دولتين أو أكثر ما لا يمكن حلُّه بشكل مُنفرد، فهناك مُنظَّمات دولية كفيلة بالحلِّ، فإن كانت المشكلة قضائية بطيعتها، كانت محكمة العدل الدولية كفيلة بتذليلها، وإن كانت المشكلة سياسية كانت هيئة الأُمم المـُتَّحدة كفيلة بالسيطرة عليها.

كما أنَّ هيئة الأُمم المـُتَّحدة كفيلة بحلِّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصحِّية، التي قد تحدث في الدول عن طرق لجانها الفرعية، كاليونسكو ومنظمة الصحَّة العالمية وغيرها.

ولا ينبغي أن نُغفِل - في هذا الصدد - القانون الدولي، الذي يُحدِّد العلاقات بين الدول، باعتبار سلامة الحدود والرعايا والاحترام المـُتبادل، وتحديد الجريمة، ومكان العقاب ومقداره... فيما إذا ارتكب شخص من دولة جريمة في دولة أخرى، مضافاً إلى الصيانة الدبلوماسية للمـُمثِّلين الدبلوماسيين، واحترام حقِّ اللجوء السياسي، وتحديد مقادير المياه الإقليمية التابعة للدولة، إلى غير ذلك من القضايا التي تفتَّق عنها الذهن البشري الحديث.

ولكن، هل أفادت كل هذه التنظيمات في حلِّ مشاكل البشرية؟ كلا، فإنَّ كل هذه التنظيمات لم تقم على أخلاقية مُعيَّنة، وإنَّما قامت على أساس المصلحة الخاصة محضاً.

فكان من الطبيعي، أن نجد أيَّ دولة حين لا يكون في مصلحتها اختيار أيِّ تنظيم من هذه التنظيمات والسير عليه، كان ذلك سهلاً بالنسبة إليها، بل واضحاً في موقفها، وليس هناك أيُّ ضمان حقيقي يلزم الدولة بتطبيق التشريعات الدولية.

ومن هنا؛ وجِدت الحروب باستمرار، ووجِد الاستعمار بشكليه القديم والحديث، وحصل الغزو الفكري والعقائدي للشعوب الضعيفة العزلاء؛ ولذلك أيضاً وجِدت الأحلاف الاعتدائية ووجِد التهاتر بين الدول والمقاطعة والعداوات.

ومن هنا؛ لم يكن لهيئة الأُمَم المـُتَّحدة أيُّ ضمان في تطبيق قراراتها، ولم يكن لها لها أية فائدة حقيقية في منازعات الدول وإلغاء الحروب.

٤٥٩

كما لم يكن لمحكمة العدل الدولية ضمان في تطبيق أحكامها أيضاً... إلاَّ في ما تراضت عليه الدولتان المترافعتان.

فهذا مرور خاطف بنقاط القوَّة ونقاط الضعف في الوضع الدولي الحديث، فما هو موقف الإمام المهدي (ع) ودولته من كل ذلك؟!

ولا ينبغي أن نتحدَّث في هذا الصدد عن انعكاس هذا الوضع الدولي على دولته... بمعنى أن نبحث عن رأي دولته في هذا الوضع فيما لو كانت عضواً مشاركاً فيه، فنتساءل عن مدى ما تقبله منه وما ترفضه، وهل ستكون - مثلاً - عضواً في هيئة الأُمم المـُتَّحدة أو لا؟ وهل ستتبادل السفراء مع الدول الأخرى؟

كل ذلك ينبغي أن لا نتساءل عنه بحال؛ وذلك أنَّه سوف لن يمضي وقت طويل بعد الظهور حتى تقوم الثورة المهدوية بتغيير النظام الدولي تغييراً أساسياً، تبحث معه كل نقاط ضعفه وتُلغي كل جذوره.

وذلك انطلاقاً من أساسين: نظري، وعملي.

أمَّا الأساس النظري، فباعتبار قيام هذا النظام الدولي على الانحراف والفساد أخلاقياً وعقائدياً، أما انحرافه الأخلاقي، فأهمُّ نقطة هو ما أشرنا إليه، من قيامه على أساس المصلحة الخاصة والأنانية المحضة، تلك التي لا يكون لها وجود في دولة المهدي، بل سيتبدَّل الحال إلى ملاحظة المصالح العامة الواقعية، وتطبيق العدل الكامل والعبادة المحضة لله عزَّ وجلَّ؛ الأمر الذي يُنتج تغييراً أساسياً في سير التاريخ البشري، وأمَّا انحرافه العقائدي، أعني النظام الدولي المعاصر، فأهمُّ نقطة فيه، هي قيامه على المادِّية في فَهْم الكون والعلمانية في فَهْم المجتمع... وإعطاء زمام قيادة الإنسان بيد الإنسان نفسه، وهذا ما سيشطب عليه المهدي (ع) بالقلم العريض، ويُقيم العدل الكامل في البشرية على ركائز مؤمنة بالعطاء الإلهي والقدرة والحكمة الإلهيين اللا نهائيّين، كيف وهو النتيجة الطبيعية للتخطيط الإلهي العام المـُستهدف للعبادة الخالصة والعدل الكامل؟!

وأمَّا الأساس العملي، فهو أنَّه (ع) لا يعترف بتجزئة البشرية إلى حدود ودول... بل دولته عالمية واحدة، برئاسة واحدة، وقيادة واحدة، يتوصَّل المهدي إلى انجازها عن طريق الفتح العالمي، ومعه؛ تكون كل الأنظمة والقوانين الدولية غير ذات موضوع؛ لأنَّها إنَّما تُنظِّم العلاقات بين الدول المـُتعدِّدة، ولا توجد يومئذ دول مُتعدِّدة.

٤٦٠