موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 188587
تحميل: 8737


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188587 / تحميل: 8737
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ونشر العدل والسعادة في ربوعهم، وإيصال الحق إلى أذهانهم.

واجتماع هاتين العاطفتين، أعني الشعور بالأُبوّة مع قصد القتل، لا تتوفّر لدى أيِّ أحد في التجربة الفعلية للفتح الإسلامي، إلاّ إذا كان معصوماً.

ومن هنا؛ رأينا الفتح الإسلامي بعد انحسار القيادة المعصومة عنه، قد تحوّل إلى مقاصد أُخرى لا تمتُّ إلى الشعور بالعطف الأبوي على الشعب المغلوب، بأيِّ صلة... وإنَّما أصبح الفتح تجاريَّاً محضاً، كما سمعنا طرفاً منه في (تأريخ الغيبة الصغرى)(1) .

فإذا كان هذا الشعور مُتعذِّراً لغير المعصوم في الفتح الإسلامي العالمي ذو النطاق المحدود، فكيف بالفتح الإسلامي العالمي، بما تزهق فيه من نفوس، وما تحصل فيه من أموال، وما يتّسع فيه من سلطان.

الفائدة الثالثة: عدم الانحراف بالقيادة عن مفهومها الإسلامي الصحيح، الذي يشجب استغلالها في سبيل ترسيخ الكرسي والتمسُّك بدفّة الحُكم والجَشَع الشخصي... هذه الآثار السيِّئة والعواطف المـُنحرفة التي لا يكاد تنفكُّ عن كل مَن يحكم رقعة من الأرض، أو دولة مُعيَّنة، فكيف إذا أصبح الحُكم عالمياً وأصبحت السيطرة والنفوذ في القمَّة من السعة والشمول.

إنّ الفرد مهما كان صالحاً ونقيَّاً قبل هذه القيادة، سيكون مثل هذه القيادة محكَّاً لانحرافه وطمعه، لمدى ضغط الدافع الشخصي والمصلحي على الفرد الحاكم، ما لم يكن معصوماً بالفعل عن ارتكاب كلِّ قبيح ومعصية في التشريع الإسلامي.

الفائدة الرابعة: الدقَّة الكاملة في التطبيق العالمي للأُطروحة العادلة الكاملة، ومن ثُمَّ الأخذ بزمام المجتمع للعبادة المحضة لله عزَّ وجلَّ، التي هي الهدف الأساسي من إيجاد الخليفة.

وهذه الدقَّة يمكن أن تتوفَّر للمعصوم بكل سهولة، بناءً على الفهم الإمامي للعصمة، وهو أنّ المعصوم مُمتنع عليه الخطأ والنسيان، مضافاً إلى عصمته من الذنوب، وأنّ الإمام ( متى أراد أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك ) كما نطقت به الأخبار(2) ، فإنَّ المشاكل العالمية مهما كثرت وتعقَّدت، يمكن للإمام المـُتَّصف بهذه الصفات، أن يُهيِّئ لحلِّها أقرب الأسباب.

____________________

(1) انظر ص96 وما بعدها.

(2) انظر: الكافي (الأصول) لثقة الإسلام الكليني (مخطوط) في باب بعنوان: أنَّ الأئمَّة إذا شاءوا أن يعلموا علموا.

٤١

ولعلَّ هذا هو السرُّ الأساسي في جعل هذه الصفات للمعصوم، واتِّصافه بها، مع أنًّه لا تترتَّب عليها مصالح الدعوة الإلهية بالمعنى الشخصي.

وذلك؛ أنَّه قد يُستشكل في الدليل العقلي التقليدي على العصمة، بأنَّ: غاية ما دلَّ عليه ذلك الدليل هو وجوب عصمته عن الذنوب، وعن الكذب في التبليغ والدعوة؛ لكي يكون كلامه مؤثِّراً في الآخرين ومُقنعاً لهم، بخلاف ما لو عرفوه مُحتمَل الكذب في حياته السابقة، فإنّ هذا التأثير لا يحصل لا محالة، أمّا عصمته عن الخطأ والنسيان فهو ممَّا لا يشمله ذلك الدليل؛ لإمكان تدراك ما فات بعد الالتفات.

والجواب عن ذلك - على ضوء النتائج السابقة: إنّ العصمة عن الخطأ والنسيان ممّا يتوقّف عليه التطبيق العالمي للعدل الكامل(1) ، وخاصة في مُهمَّته الأُولى، وتحويل العالم الفاسد إلى عالم صالح عادل، والمفروض في كل معصوم أن يكون على مستوى القيادة الثابتة له نظرياً، أعني أن يكون له من القابليّات ما يمنعه من التقصير في تنفيذها، باعتبار أنَّ إيكال الدعوة إلى شخص قاصر عن تطبيقها مُستحيل على الله عزَّ وجلّ، بل لا بدّ أن تنسجم دائماً مُدّعيات الدعوة الإلهيّة من الناحية النظرية، مع إمكان التطبيق على طول الخطِّ.

هذا حال المعصوم، أم الغير المعصوم، فيتعذَّر عليه تماماً قيادة العالم بالعدل، وخاصة في تحويل لأول مرَّة من الظلم إلى العدل، الأمر المملوء بالمشاكل والعَقبات.

ولعلَّ أطرف ما يُبرِّر ذلك، ما روي عن ذي القرنين، حين أوكل إليه الله تعالى قيادة العالم، ولم يكن حاكماً من الناحية العملية إلاَّ على بعض العالم... وقد أوحى الله تعالى: ( يا ذا القرنين، أنت حُجَّتي على جميع الخلائق ما بين الخافقين، من مطلع الشمس إلى مغربها، وهذا تأويل رؤياك.

____________________

(1) ولا يُنافي هذا ما قلناه في التاريخ السابق عن القاعدة القائلة: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك. فإنّنا حدّدناها هناك (ص517) ببعض القيود، ولكنّها في ضمن تلك الحدود تكون كافية للقيادة العالمية، ولا يقتضي الدليل الذي ذكرناه هنا ما هو أوسع من ذلك.

٤٢

فقال ذو القرنين:( يا إلهي، إنّك ندبتني لأمر عظيم، لا يقدر قدره غيرك، فأخبرني عن هذه الأمَّة، بأيَّة قوّة أُكابرهم؟ وبأيِّ عدد أغلبهم؟ وبأيِّ حيلة أكيدهم؟ وبأيّ صبر أُقاسيهم؟ وبأيِّ لسان أُكلِّمهم؟ وكيف لي بأن أعرف لغاتهم؟ وبأيّ سمع أعي قولهم؟ وبأيّ بصر أنقدهم؟ وبأيّ حُجّة أُخاصمهم؟ وبأيّ قلب أعقل عنهم؟ وبأيّ حكمة أُدبِّر أمرهم؟ وبأيّ علم أُتْقِنُ أمرهم؟ وبأيّ حِلم أُصابرهم؟ وبأيّ معرفة أُفضِّل بينهم؟ وبأيّ عقل أُحصيهم؟ وبأيِّ جُند أُقاتلهم؟ فإنّه ليس عندي ممّا ذكرت - يا ربِّ شيء -! فقوِّني عليهم، فإنَّك الربُّ الرحيم، الذي لا تُكلِّف نفساً إلاَّ وسعها، ولا تُحمِّلها إلاَّ طاقتها ) (1) .

فهذه الرواية تُبرز بوضوح صعوبة مُمارسة الحُكم العالمي، ولئن ذلَّلت المدينة الحديثة بعض هذه المصاعب إلى حدٍّ ما، فإنَّها أضافت إليها مصاعب وتعقيدات جديدة، تزيد في الطين بَلَّة، ولولا أنّ الله عزَّ وجلَّ وعده بعد ذلك - لو صحَّت الرواية - بالتوفيق والتسديد، لكان من الحقِّ تعذُّر - بل استحالة - القيادة الشخصية غير المعصومة للعالم، بل لبعض العالم، فإنَّ ذا القرنين لم يكن حاكماً للعالم، بل لبعض العالم، فإنَّ ذا القرنين لم يكن حاكماً للعالم كلِّه.

نعم، ترتفع هذه الاستحالة ويقلُّ التعذُّر، مع وجود القيادة الجماعية، إلاَّ أنَّنا سبق أن ناقشناها بالتفصيل في التاريخ السابق(2) ، وسيأتي تطبيق ذلك في مُستقبل هذا التاريخ، وسيتَّضح أنَّه لا يمكن للمهدي أن يأخذ بالقيادة الجماعية إلاَّ بعد أن تمرَّ البشرية بتربية طويلة، طبقاً للمناهج التي يضعها بنفسه.

وعلى أي حال، فقد كان المقصود البَرْهنة على أهمِّيَّة الخصِّيصة الأُولى للمهدي (ع)، وهي صفة العصمة، وأنَّه لا يمكن لأيِّ شخص غير معصوم الاضطلاع بمُهمَّة القيادة العالمية.

وأمَّا الخصّيصة الثانية للإمام المهدي (ع) في الفهم الإمامي، وهي كونه القائد الشرعي والوحيد للعالم عامة، ولقواعده الشعبية خاصة، حتى في حال غيبته... فتترتَّب عليها عدَّة فوائد بالنسبة إلى مَن يؤمِن بقيادته، فإنَّ أثرها الكبير في تعميق التمحيص

____________________

(1) انظر إكمال الدين للشيخ الصدوق ( نسخة مخطوطة).

(2) انظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص 477 وما بعدها.

٤٣

الإلهي وتوسيعه.

فإنَّ الفرد المؤمن بقيادته حال غيبته، حين يكون على محكِّ التمحيص الإلهي، الساري المفعول لأجل صقل إيمانه، وتعميق إخلاصه، وتكميل نفسه... إذا أخذ الفرد مفهوم القيادة المهدوي في ذهنه، فإنَّه سوف ينعكس على سلوكه بكل وضوح، وسيتَّجه إلى العمل والتضحية أكثر من الفرد الخالي من هذه الفكرة بطبيعة الحال، وذلك؛ لاقتران مفهوم القيادة المهدوية في ذهنه بعدَّة حقائق:

الحقيقة الأُولى: كونه جنديّاً مأموراً موجَّهاً بالفعل للعمل في سبيل الله وإطاعة أحكامه، وأنَّ أوامر قائده المهدي (ع) موجودة ومُتوفِّرة لدية مُتمثِّلة بالأحكام الإسلامية، فإنَّ المهدي هو المـُمثِّل الحقيقي للإسلام، فأوامر الإسلام أوامره، ورغبات النبي (ص) في أُمَّته رغباته.

الحقيقة الثانية: كونه مسوؤلاً ومحاسَباً أمام هذا القائد، ولو بشكل غير مُباشر، كيف، وأنَّ صوت القائد موجود في ضميره الإسلامي، يحمله على الخير ويردعه عن الشرِّ، وهذا الفرد يعلم أنَّ قائده حيٌّ مُطَّلع على ما يصدر منه من أعمال ويُقيِّم ما يقوم به من حسنات أو سيِّئات؟! فأحرى به أن يُدخل السرور عليه بحسناته، وأن لا يخجل أمامه بسيِّئاته وانحرافه.

الحقيقة الثالثة: الشعور بمظلومية هذا القائد حال غيبته، وبمظلومية البشر البائسة التي أوجبت لها غيبة إمامها، ومرورها بعصور الظلم والانحراف، كثيراً من القَمع والاضطهاد.

الحقيقة الرابعة: الشعور باتنظار هذا القائد، واحتمال ظهوره وقيامه بدولة الحق في أيِّ لحظة من الزمن، وهذا يستدعي، بطبيعة الحال، أن يُراعي الفرد تعميق إخلاصه، وإيمانه، وتضحياته في سيبل دينه... ليكون له الزلفة لدى إمامه وقائده عند ظهور وأهليَّة شرف المـُشاركة بين يديه في إصلاح العالم وقيادته.

إلى غير ذلك من الحقائق التي تكون كل واحدة منها - فضلاً عن مجموعها - من أكبر المـُحفِّزات للفرد المؤمن على مزيد العمل، والتضحية في الخطِّ الإسلامي الصحيح، وهذا نفسه يوجب النجاح في التمحيص الإلهي بشكل أعمق وأسرع بطبيعة الحال، ولا يمكن أن يترتَّب شيء من هذه الفوائد مع عدم الإيمان بقيادة الإمام المهدي (ع) وغيبته.

وهناك فوائد أُخرى تترتَّب على ذلك، تكون مشتركة مع الخصائص الآتية بحسب التطبيق والوجود؛ ومن هنا كان الأفضل ذكرها مع تلك الخصائص.

٤٤

الخصّيصة الثالثة: وهي عبارة عن مُعاصرة الإمام المهدي (ع) لأجيال طويلة من البشرية... ولها عدَّة فوائد، نقتصر منها على فائدتين تعود إحداهما على الإمام نفسه، وتعود الأُخرى على البشرية:

أمَّا الفائدة التي تعود إلى الإمام، فهي ما عرضناه في التاريخ السابق(1) وأقمنا عليه القرائن من أنّ مُعاصرة الإمام للأجيال توجب اطِّلاعه المـُباشر على قوانين تطوُّر التاريخ وتسلسل حوادثه، الأمر الذي يؤثِّر تأثيراً كبيراً في عُمق قيادته بعد ظهوره.

وأمّا الفائدة التي تعود إلى البشر، فهي باعتبار ما ورد في أخبار المصادر الخاصة، من الحاجة إلى وجود الإمام حاجةً كونيَّةً قهريَّةً مُضافاً إلى الحاجة القيادية.

منها: ما أخرجه ثقة الإسلام الكُليني في الكافي(2) ، بإسناده عن أبي حمزة، قال: قلت لأبي عبد الله - الصادق - (ع): تبقى الأرض بغير إمام؟

قال: ( لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت ).

وما أخرجه بسنده عن أبي هراسة، عن أبي جعفر - الباقر - (ع)، قال: ( لو أنَّ الإمام رُفِع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله ).

وهي تدلُّ بظاهرها - بغض النظر عن إمكان حملها على الرمزية - بأنَّ بقاء الإمام ضروري لحفظ بقاء الأرض ومَن عليها، حتى يكون لها وجود ونظام كَوْنِي كامل، يمكن تنفيذ الوعد الإلهي وإنتاج التخطيط العام من خلاله، وهذا إنَّما يتمُّ مع وجود الإمام مُعاصراً لكل الأعوام والأجيال البشرية... وخاصة بعد الاعتقاد الإمامي المؤيَّد بأخبار العامة(3) : بأنَّ الأئمة اثنا عشر. للحصول على هذه الفائدة.

وقد يكون هذا هو المراد من قول الإمام المهدي (ع)، فيما روي عنه: ( وإنِّي لأمان لأهل الأرض، كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء )(4) .

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص 514 وما بعدها.

(2) انظر باب: إنَّ الأرض لا تخلو من حُجّة، أصول الكافي، (نسخة مخطوطة).

وكذلك ما بعده. وانظر أيضاً: الغيبة للشيخ الطوسي ص 92 ط النجف.

(3) أخرجها البخاري: انظر ج9 ص101 ومسلم انظر ج 6 ج 3-4 وغيرهما من الصحاح وكُتب الحديث.

(4) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 54 عن الاحتجاج للطبرسي.

٤٥

الخصيصة الرابعة: كون الإمام المهدي (ع) على مستوى الاطِّلاع على الأحداث، يوماً فيوماً، وعاماً فعاماً، عارفاً بأسبابها ونتائجها.

وتحتوي على عدد من الفوائد مُضافاً إلى الفائدة الأُولى من الخصيصة الثالثة، أهمُّها: الحفاظ على المجتمع المسلم، ودفع البلاء الواقع عليه من أعدائه عليه.

فإنَّ الإمام المهدي (ع) حين يعلم يجريان الأحداث وأسبابها ومسبَّباتها، وما قد تؤول إليه من مُضاعفات، وحين يكون مُكلَّفاً إسلامياً برفع الأضرار والدواهي عن المجتمع المسلم، في بعض الحدود التي ذكرناها في التاريخ السابق(1) ... وقد وعد هو (ع) بذلك فيما وري عنه(2) ... حين يكون كذلك، فإنَّه لا محالة يقوم بوظيفته المـُقدَّسة خير قيام، وقد عرضنا(3) الأُسلوب الذي يُمكنه (ع) به أن يقوم بالأعمال النافعة خلال غيبته.

هذا مضافاً إلى تقييمه للناس والمجتمعات، طبقاً للميزان العميق الذي يحمله ويعرفه، الأمر الذي يوفِّر عدَّة نتائج:

منها: اطِّلاعه على درجة إيمان المؤمنين وإخلاص المـُخلصين، واتِّجاهاتهم السلوكية والعقائدية في الحياة.

ومنها: اطِّلاعه على سلوك المـُنحرفين والكافرين، ومُحتملات نتائجه على الإسلام والمسلمين، لأجل التوصُّل من ذلك إلى مُحاولة الحدِّ من تأثيره.

ومنها: معرفته بتحقيق شرط اليوم الموعود، الذي هو يوم ظهوره، وهو وجود العدد الكافي من الناصرين والمؤازرين له على فتح العالم، ومباشرة حكمه بالعدل طبقاً لأحد المـُحتملات في أسلوب تعرُّفه على يوم ظهوره، ممَّا سوف يأتي عرضه واختيار الصحيح منه.

الخصيصة الخامسة: وهي اتِّصال الإمام المهدي (ع) بالناس، ومُحادثته لهم وتفاعله معهم... ولها - على الأقلِّ - فائدتان، إحداهما خاصة بالإمام المهدي (ع)، والأُخرى عامة للمجتمع المسلم كله.

أمَّا الفائدة الخاصة به (ع)، فهو اختلاطه بالناس وارتفاع الوحشة عنه، تلك

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص 53 وما بعدها.

(2) المصدر ص 167 و ص175.

(3) المصدر ص 176.

٤٦

الوحشة المـُشار إليها في بعض الأخبار(1) ، والثابتة له على تقدير بُعْدِه عن الناس وسُكناه في الصحارى والقفار، كما ورد في رواية ناقشناها في التاريخ السابق(2) .

هذا، مضافاً إلى قضاء حوائجه الشخصية الضرورية لكل إنسان، بشكل أسهل من أيِّ أُسلوب آخر يتَّخذه في الحياة.

وأمَّا الفائدة التي تعمُّ المجتمع كله، باتِّصال المهدي (ع) بأفراده، فهي أنَّه (ع)، حين يتَّصل بالناس، يقوم بوظيفة الإسلامية تجاههم، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقريبهم من الطاعة وإبعادهم عن المعصية، وحثِّهم على الأعمال العامة النافعة، وبذور الصلاح في الأفراد والمجتمع... في الحدود وبالشكل الذي سبق أن حوَّلناه على التاريخ السابق، ومن ثُمَّ السير قدماً بتحقيق الشرط الثالث من شرائط الظهور، باعتبار أنَّ الناس كلَّما ازداد إيمانهم وإخلاصهم، كلَّما كان احتمال تحقُّق العدد الكافي لغزو العالم أقرب وأوضح.

وهذا، وينبغي أن نعرف، في نهاية الحديث عن خصائص الإمام المهدي (ع) في غيبته، أنَّها خصائص مُتساندة ومُتعاضدة، باعتبار أنَّ المـُتَّصف بها شخص واحد، فمن المنطقي أن تكون الفوائد المـُشار إليها منطلقة من مجموع الخصائص، وإن كانت بواحدة ألصق ونحوها أقرب.

وبهذا يتمُّ الكلام عن المدلول الثاني للغيبة الكبرى.

وأمَّا المدلول الثالث للغيبة الكبرى، وهو استتار الإمام القائد، وخفاء شخصه وعمله ومكانه على الناس، أعني بصفته الحقيقية.

... ففائدته الكبرى بالنسبة إلى اليوم الموعود، هو حفظه (ع) من شرِّ الأعداء للقيام؛ ليبقى مذخوراً بالمهامِّ الكبرى في ذلك اليوم المجيد.

وهذا ما أُشير إليه في الأخبار:

____________________

(1) عن الإمام الباقر (ع) أنَّه قال: ( لابدَّ لصاحب هذا الأمر من عُزلة، ولابدَّ في عُزلته من قوَّة، وما بثلاثين من وحشة... ) الحديث. انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص 47 عن غيبة الشيخ الطوسي.

(2) وهو ما ورد عن المهدي (ع) نفسه يقول - عن أبيه (ع) -: ( وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلاَّ وَعِرها، ومن البلاد إلاَّ عفرها... ) الحديث. المصدر ص 72.

٤٧

أخرج الشيخ الطوسي في الغيبة(1) ، بإسناده عن زرارة، قال: ( إنَّ للقائم غيبة قبل ظهوره ).

قلت: ولِمَ؟

قال: ( يخاف القتل ).

وفي حديث آخر(2) ، عن زرارة بن أعين أيضاً، قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( إنّ للغلام غيبة قبل أن يقوم ).

قلت: ولِمَ؟

قال: ( يخاف ). وأومأ بيده إلى بطنه.

وأخرج الشيخ الصدوق في إكمال الدين(3) ، بإسناده عن سعيد بن جبير قال: سمعت سيد العابدين علي بن الحسين يقول: ( في القائم منَّا سُنن من سُنَّة الأنبياء (ع)... - إلى أن قال: - وأمَّا موسى فالخوف والغَيْبَة... ) الحديث.

وفي حديث آخر(4) ، عن محمد بن مسلم الثقفي الطحَّان، قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر، وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلوات الله عليه وعلى آله فقال لي، مُبتدئاً: ( يا محمد بن مسلم، إنَّ في القائم من آل محمد (ص) شَبهاً من خمسة من الرُّسل... - إلى أن يقول: - وأمَّا شَبهُه من موسى، فدوام خوفه، وطول غَيْبَته، وخفاء ولادته... ) الحديث.

ولعلَّ هذه الفائدة، هي المصلحة الوحيدة التي بيَّنتها الأخبار للغيبة الكبرى؛ باعتبارها المصلحة الوحيدة المناسبة مع المستوى الفكري والثقافي، الذي كان موجوداً في عصر صدور هذه الأخبار.

وثبوت هذه الفائدة واضح، بعد التسليم بأمرين:

الأمر الأول: الفَهْم الإمامي القائل: بأنَّ المهدي هو الإمام الثاني عشر من الأئمة المعصومين (ع). الذي هو الفهم الذي ننطلق منه في إثبات أكثر مداليل الغيبة الكبرى، كما عرفنا.

الأمر الثاني: إنَّ الإمام المهدي (ع) لو كان ظاهراً معروفاً بحقيقته، قبل اليوم

____________________

(1) ص201.

(2) نفس المصدر ص202.

(3) نسخة مخطوطة غير مُرقَّمة الصفحات.

(4) نفس المصدر.

٤٨

الموعود، لقتله الظالمون لا محالة... بعد التسالم الواضح على أنَّ هدفه الأساسي هو تطهير الأرض من الظلم، وتبديل أوضاع الظالمين. إذاً؛ فكل مَن لا يرضى بهذا التبديل، انطلاقاً من انحرافه ومصالحة الشخصية، سيكون ضدَّه.

وسيكون القضاء على المهدي (ع) مُتيسِّراً بأسهل طريق؛ لأنه ليس له مَن ينصره أو يُدافع عنه، أو ويوجَد مَن لا يكفي لذلك؛ لما عرفناه مُفصَّلاً من أنَّ نصره مُتوقِّف على تمخُّض التخطيط العام، عن وجود العدد الكافي لغزو العالم بالعدل، وإنَّ هذا لا يتمُّ إلاّ قُبيل ظهوره، وإمّا خلال المدّة المـُتخلِّلة قبله، فإنَّ التخطيط لم ينتهِ بعد ولم يُنتج هذا العدد الكافي. إذاً فقيامه بالثورة العالمية مُتعذِّر تماماً، ودفاعه عن نفسه بدون ذلك مُتعذر أيضاً؛ لاقتران وجوده في أذهان الناس بالثورة العالمية... إذاً فتعيَّن أن يكون غائباً غير معروف، وأن لا تنكشف حقيقته إلاَّ يوم ظهوره في اليوم الموعود؛ وذلك من أجل أن يبقى مذخوراً لتلك المـُهمَّة الأُخرى، ومن الواضح أنَّ مقتله يُفقد اليوم الموعود قائده، الذي لا يوجد غيره - بحسب الفهم الإمامي - ومن ثُمَّ يخلُّ بالدولة العالمية، وبالهدف العام من خلق البشرية.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ المهدي (ع) يمكن أن يكون معروفاً، إلاَّ أنَّ الله تعالى يحفظه عن طريق المعجزة؛ لأجل تنفيذ اليوم الموعود والهدف العام... بعد أن عرفنا من قانون المعجزات، أنَّ كل ما يتوقَّف عليه الغرض الإلهي يمكن إقامة المعجزة فيه.

وجواب ذلك: إنَّنا عرفنا إلى جنب ذلك من قانون المعجزات، أنَّه متى أمكن السير نحو الهدف بدون مُعجزة، كان الطريق الطبيعي غير الاعجازي، مُتعيِّناً، ولا تحدث فيه معجزة.

فبالنسبة إلى المهدي (ع)، حين كان هو الإمام الثاني عشر من المعصومين (ع)، ولا إمام بعده، كان حفظه لليوم الموعود وإطالة عمره مُتعيِّناً بالمعجزات، ولا بديل لذلك؛ ومن أجل هذا حدثت المعجزة وطال عمره. وأمَّا حفظه لذلك اليوم، بمعنى دفع القتل عنه، فهذا لا يتعيَّن عن طريق المعجزة، بل يمكن أن يكون عن طريق الغيبة أيضاً، وهي طريق طبيعي واضح، كما سبق أن برهنَّا في التاريخ السابق(1) لا يتضمَّن في أساسه إلاَّ غفلة كل أفراد البشر عن حقيقته، وعدم العلم بكونه هو المهدي، ومن ثُمَّ لا يوجد عند أحد القصد إلى قتله، بصفته مهديَّاً. وقلنا: إنَّه إذا أمكن الطريق الطبيعي، ولا تقوم المعجزة بتنفيذه.

____________________

(1) انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص 38.

٤٩

وبمعرفتنا مداليل الغيبة الكبرى ونتائجها الكبرى، بالنسبة إلى الأُمَّة الإسلامية خاصة والبشرية عامة، وبالنسبة إلى الإمام المهدي (ع) خاصة، وتنفيذ اليوم الموعود عامة... يتبرهن لدينا - بوضوح - أهمِّيَّة الغيبة الكبرى، وكونها رئيسياً في التخطيط الإلهي العام لا يمكن الاستغناء عنه.

وأمَّا مع الأخذ بالفهم غير الإمامي للمهدي، وكونه شخصاً يولَد في زمانه، وسيُوفَّق للثورة العادلة في حينه، إنَّ مثل هذا القائد لن يستطيع بأيِّ حال قيادة العالم قيادة عادلة عادةً، ولو فرضنا - جدلاً - أنَّه استطاع ذلك لفترة، فهو لا يستطيع ضمان بقاء التطبيق الإسلامي على الدوام، كما هو المفروض في دولة المهدي، وسيأتي الاستدلال عليه.

وينطلق الحُكم بعدم استطاعة مثل هذا الإنسان القيام بهذه المهمَّة، من حقيقة عدم لياقته لذلك، وقصوره عنه قصوراً تامَّاً، بعد كونه فاقداً لكل النتائج التي عرفناها للغيبة الكبرى، وبخاصّة صفة العصمة التي يكون فاقداً لها ولكلِّ خصائصها المـُهمَّة.

وأمَّا المدلول الأول الذي يشمل الفهم غير الإمامي للمهدي، فنتائجه تظهر في الأمَّة أو البشرية، وليس لها نتائج خاصة بالمهدي كما مرَّ.

٥٠

الفصل الثالث

توقيت الظهور

من ناحية شرائطه وعلاماته

إنَّ أهمَّ الفروق بين شرائط الظهور وعلاماته، هو أنَّ الشرائط عدَّة خصائص لها التأثير الواقعي في إيجاد يوم الظهور والنصر فيه، وانجاز الدولة العالمية، ولولاها لا يمكن أن يتحقَّق، سواء وجدت أم لم توجد، وإنَّما هي أمور جُعلت من قِبَل الله سبحانه، وبلغت إلى البشر من قِبل الصادقين قادة الإسلام الأوائل، بصفتها دوالاَّ ًوكواشف عن قُرب الظهور، إذا كانت من العلامات القريبة، أو عن أصل حصوله، لو كانت من العلامات البعيدة؛ وذلك ليكون الأفراد المـُنتظِرون لذلك اليوم المـُختارون للعمل فيه نتيجة لنجاحهم التامِّ في التمحيص، بحالة التهيُّؤ النفسي الكامل لاستقباله عند حدوث العلامات القريبة.

وهذا هو الذي قلناه في التاريخ السابق(1) ، وعرفنا فيه(2) عدَّة فروق بين الشرائط والعلامات بالنسبة إلى ما بعد الظهور.

عرفنا في الفصل الأول، أنَّ المـُهمَّ المـُتبقِّي ممَّا لم يحدث إلى الآن من شرائط الظهور، ولم يتمخَّض التخطيط الإلهي عن إيجاده، أمران:

الأمر الأول: تربية الأمَّة ككل من الناحية الفكريَّة؛ حتى يكون لها القابلية لاستيعاب وفَهْمِ وتطبيق القوانين الجديدة التي تُعلَن بعد الظهور.

الأمر الثاني: تربية العدد الكافي للنَّصْر في يوم الظهور، من الأفراد المـُخلصين

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص 530

(2) المصدر ص 410 وما بعدها.

٥١

الكاملين المـُمحَّصين، الذين يكونون على مستوى التضحية والفداء لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة.

وهذان الأمران يحدثان تدريجاً نتيجة للتربية الطويلة البطيئة للأمَّة، تحت الظروف والخصائص التي سبق أن عرفناها، وسوف لن يتمخَّض التخطيط الإلهي لإيجادهما إلاَّ قُبْيل الظهور.

وبتعبير آخر: إنَّهما عندما يتحقَّقان يكون اليوم الموعود نافذاً بجميع شرائطة، ومعه لا يمكن أن يكون مُتخلِّفاً أو مُتأخِّراً عن ذلك.

وأمَّا الاطَّلاع على أنَّهما تحقَّقا فعلاً أو لم يتحقَّقا، فهو ممَّا لا يمكن أن يعرفه الناس إلاَّ عند الظهور؛ لأنَّه يكون دالاَّ ًعلى تحقُّقهما قبله لا محالة، ولا يحصل هذا الاطِّلاع عند البشر إلاَّ للإمام المهدي نفسه، على ما سنذكره في فصل قادم.

وهذان الشرطان يكونان مُقترنين في تطوُّرهما التدريجي، والوصول إلى الغاية المطلوبة، وبخاصة وهما لا يتضمَّنان في مفهومهما مقداراً مُحدَّداً غير قابل للزيادة؛ إذ في الإمكان تطوُّر الأمَّة من الناحية الفكرية والإخلاص على الدوام، غير أنَّ لهذين الأمرين ( حدٌّ أدنى ) يصلح أن يقوم عليه اليوم الموعود، ومع تحقُّق هذا الحدِّ الأدنى لكلا الشرطين معاً يكون اليوم الموعود واقعاً ونافذاً لا محالة، ويكون التطوُّر الزائد في جوانب الأمَّة الإسلامية موكولا ً إلى ما بعد الظهور.

وهذان الشرطان مُتشابهان في التطوير إلى حدٍّ كبير، تبعاً لازدياد الظلم والانحراف، المـُنتج لهما معاً، ولكن لو فُرِض أنَّ أحدهما كان أسرع من الآخر، فترة من الوقت، بحيث وصل إلى الحدِّ الأدنى المطلوب قبل الآخر كما يُتصوَّر - عادة - في الجانب الفكري، فإنَّه أسرع تطوُّراً من جانب الإخلاص وقوَّة الإرادة، كما برهنَّا عليه في التاريخ السابق(1) ... هو حصول الحدِّ الأدنى من العدد الكافي من الجيش الفاتح للعالم، مع تعمُّق القابلية الفكرية للأمَّة أكثر دقَّةً ورسوخاً، وكذلك لو فُرِض تطوُّر الإخلاص أكثر من القابلية الفكرية، فإنَّه ممَّا لا ضير فيه، إن لم يكن أكثر نفعاً بالنسبة إلى يوم الظهور.

وعندما يتكامل هذان الشرطان، تكون كل الشرائط المطلوبة قد اجتمعت في زمن واحد، فالأطروحة العادلة

الكاملة موجودة بين البشر، مُتمثِّلة بتعاليم الإسلام كما برهنَّا

____________________

(1) انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص265.

٥٢

عليه في التاريخ السابق(1) ، والأمَّة قد تربَّت على فَهمها بدقَّة وإتقان، وأصبحت قابلة لتفهُّم القوانين الجديدة التي تكون على وَشَكِ الصدور في اليوم الوعود، والقائد موجود متمثل بالإمام المهدي (ع) على كلا الفَهْمين الإمامي وغيره، والعدد الكافي من الجيش العقائدي القيادي مُتوفِّر لفتح العالم، ونشر العدل والسلام بين ربوعه، مع وجود العامل المـُساعد المـُهمّ، وهو انكشاف نقاط الضعف لكلِّ التجارب البشريَّة والمبادئ والقوانين الوضعية السابقة على الظهور، واليأس من حلٍّ بشري جديد، كما سبق أن أوضحناه في التاريخ السابق(2) .

وإذا اجتمعت هذه الشرائط، كان تنفيذ الوعد الإلهي والغرض الأهمّ من الخَلق ضرورياً، لاستحالة تخلُّف الوعد والغرض في الحِكمة الإلهية الأزليَّة.

ومن هنا نعرف أنَّ وقت الظهور، منوط باجتماع هذه الشرائط.

ومن أجل ذلك ، قد يخطر في الذهن مُنافات ذلك مع ما ورد في أخبار المصادر الخاصة، من نفي التوقيت وتكذيب الوقَّاتين.

كرواية الفضيل، قال: سألت أبا جعفر (ع): هل لهذا الأمر وقت؟

فقال: ( كَذَبَ الوقَّاتون! كَذَبَ الوقَّاتان! كَذَبَ الوقَّاتون ).

وعن أبي عبد الله الصادق (ع): ( كَذَبَ الوقَّاتون! وهلك المـُستعجلون، ونجا المـُسلِّمون، وإلينا يصيرون ).

وعنه (ع): ( مَن وقَّت لك من الناس شيئاً، فلا تهابنَّ أن تُكذِّبه، فلسنا نوقِّت لأحد وقتاً )(3) .

وأخرج النعماني، عن أبي بكر الحضرمي، قال: سمعت أبا عبد الله ( ع) يقول: ( إنَّا لا نوقِّت هذا الأمر )(4) .

وهذه الأخبار بعدد قابل للإثبات التاريخي، وواضحة الدلالة على نفي التوقيت، فلو كان ما ذكرناه من اقتران اليوم الموعود بشرائطه توقيتاً له، إذاً يجب تكذيبه جملةً وتفصيلاً.

____________________

(1) المصدر ص 261.

(2) تأريخ الغيبة الكبرى ص249 وغيرها.

(3) الغيبة للشيخ الطوسي ص262... الأخبار الثلاثة كلُّها

(4) الغيبة للنعماني ص 155.

٥٣

إلاَّ أنَّه من حُسن الحظِّ! أنَّ التوقيت المنفي ليس هو ذلك، بل المراد به - بوضوح - تحديد الوقت بتاريخ مُعيَّن، كما لو قيل - مثلاً -: إنَّ الظهور أو اليوم الموعود، يكون في سنة ألفين ميلادية، أو في سنة ألفين هجرية.

والقرينة على ذلك، ما ورد من الأخبار التي تنفي توقيتاً مُعيَّناً، كالذي أخرجه النعماني(1) ، بإسناده عن عمار الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ( قد كان لهذا الأمر(2) وقت، كان في سنة أربعين ومئة، فحدَّثتم به وأذعتموه، فأخَّره عزَّ وجلَّ ).

وعن أبي الثمالي، قال سمعت أبا جعفر (ع) يقول: ( يا ثابت، إنَّ الله كان قد وقَّت هذا الأمر في سنة السبعين، فلمَّا حدَّثناكم بذلك أذعتم وكشفتم قناع الستر، فلم يجعل الله لهذا الأمر بعد ذلك عندنا وقتاً، يمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أُمُّ الكتاب ).

وفي هذه الأخبار بعض المفاهيم وبعض المـُناقشات، لا مجال للدخول فيها، ولكنَّها لا تضرُّ بما نريده الآن، من أنَّها دالَّة على أنَّ المراد من التوقيت تحديد الوقت بتاريخ مُعيَّن، فإنَّ الروايات الأخص تكون قرينة على الأعم.

وهذا النحو من التوقيت فيه عدد من نقاط الضَّعف:

النقطة الأُولى: إنَّه جُزاف بدون أيِّ دليل؛ كيف، وقد أجمع المسلمون على أنَّ وقت اليوم الموعود موكول إلى علم الله عزَّ وجلّ. مع الغموض التام بالنسبة إلى الناس...؟! بل ظاهر الرواية الأخيرة أنَّه خفي حتى على المعصومين أنفسهم، ومن هنا يكون ذكر أيِّ تاريخ مُعيَّن جزافاً محضاً وكذباً صريحاً.

النقطة الثانية: إنَّ تاريخ الظهور لو كان مُحدَّداً معروفاً، لكان من أشدِّ العوامل على فَشل الثورة العالمية، وفناء الدولة العادلة؛ فإنَّه يكفي أن يحتمل الأعداء ظهوره في ذلك

____________________

(1) المصدر ص 157 وكذلك الخبر الذي يليه.

(2) المراد من هذا الأمر ما يشمل ظهور المهدي (ع) وليس خاصاً بذلك، وفي بعض الروايات ما هو خاص به كذلك أخرجه النعماني، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له: جُعلت فداك، متى خروج القائم عليه السلام. فقال: ( يا أبا محمد، إنَّا أهل بيت لا نوقِّت، وقد قال محمد (ص): كَذَب الوقَّاتون... ) الحديث ( غيبة النعماني ص155 وما بعدها ).

٥٤

التاريخ، ولو اعتبار المسلمين ذلك، فيجتمعوا على قتله في أول أمره وقبل اتِّساع مُلكه واستتباب أمره.

ولذا اقتضى التخطيط الإلهي - من أجل إنجاح اليوم الموعود - أن يكون الظهور فجائيَّاً، مثاله مثال الساعة لا يُجلِّيها لوقتها، كما نطقت بذلك الأخبار وسنرى ما لعنصر المفاجأة من أثر فعال في نصره.

النقطة الثالثة: إنَّ الأُمَّة الإسلامية حين يكون التخطيط الإلهي قد أنتج نتيجته فيها، ولم يُصبح بعد على مستوى مسؤولية اليوم الموعود، فإنَّها تكون مُقصِّرةً بالنسبة إلى كل حدود ومقدِّماته... وتكون هذه الحدود والمقدِّمات فوق مستواها العقلي والثقافي والديني؛ ومن هنا لم يتورَّع الناس عن إفشاء التوقيت الذي كان فيما سبق، ولو أعطوا وقتاً جديداً لأفشوه أيضاً لا محالة... ومن هنا أُلْغي التوقيت، كما سمعنا من هذه الأخبار.

وهذا أيضاً أحد الأسباب في تحريم تسمية الإمام المهدي (ع) خلال غيبته الصغرى، كما سمعنا في تاريخها(1) ؛ فإنَّهم إن عرفوا الاسم أذاعوه، وإن علموا بالمكان دلُّوا عليه.

وهذا القصور العام في الأمَّة هو المـُشار إليه في بعض الأخبار، كقول الإمام موسى بن جعفر (ع): ( يا بُني عقولكم تضعف عن هذا، وأحلامكم تضيق عن حمله، ولكن إن تعيشوا تُدركوه )(2) .

فإنَّ المراد بالعقول ما نُسمِّيه بالمستوى الفكري والثقافي، والمراد بالأحلام ما نُسمِّيه بالإخلاص وقوَّة الإرادة، وكون الأُمَّة على مستوى المسؤولية... وكلاهما ضعيفان بمنطوق الرواية، كما دلَّ عليه البُرهان أيضاً.

وليس المراد من هذه الرواية وأمثالها ما يفهمه بعض الناس، من امتناع التعرُّف على مصلحة الغيبة، وخفاء مصلحة وجود الإمام خلالها... بعد كل الذي سبق أن عرضناه في كُتب هذه الموسوعة مُستفاداً من القرآن الكريم والسنَّة الشريفة نفسها.

النقطة الرابعة: إنَّ وقت الظهور وإن كان مُحدَّداً في علم الله الأزلي، لكنَّه بالنسبة إلى علله وشرائطه ينبغي أن لا يُفترض له وقت مُحدَّد.

____________________

(1) انظر تأريخ الغيبة الصغرى ص277 وما بعدها.

(2) رواه النعماني في غيبته ص78، ونقلناه في تأريخ الغيبة الكبرى ص11.

٥٥

فإنَّ تحديد التاريخ يمكن أن يكون على مُستويين:

المـُستوى الأول: علم الله الأزلي بالأشياء منذ القدم، المـُتعلِّق بكل المـُمكنات أو المخلوقات بأسبابها ومسببَّاتها.

المـُستوى الثاني: وجود المعلول بالنسبة إلى وجود علَّته، فإنَّ المعلول يحدث متى حدثت عِلَّته، بلا دخل للزمان في ذلك أصلا ً.

مثاله: إنَّنا لو نسبنا تاريخ إكمال بناء البيت بالنسبة إلى القوى المادَّية والبشرية العاملة فيه، كان تاريخه منوطاً بتحقيق هذه المـُكوِّنات، حتى ما إذا وضع البنَّاء آخر حجر في كيان الدار، تكون هذه الدار قد انتهت، بغَضِّ النظر عن طول زمن البناء وقصره... فإنَّه قابل للاختلاف حسب الظروف والطوارئ والقابليَّات والإمكانيَّات.

وحيث يُبرهَن فلسفيَّاً بأنَّ علم الله تعالى الأزلي المـُتعلِّق بالأشياء ليس علَّة لها، وإنَّما يتعلَّق بها ويكشف عنها على ما هي عليه في الواقع.

إذاً؛ ففي الإمكان قَصر النظر عن تعلُّق ذلك العلم به، ومعه يكون المستوى الثاني للتوقيت صحيحاً، ويكون وجود الشيء منوطاً بوجود عِلَّته واجتماع شرائطه ومُكوِّناته، من دون أن يكون الزمن ملحوظاً في تحديد حدوثه على الإطلاق... بل قد يكون قابلاً للزيادة والنقص، كما قلنا.

ومن هذا القبيل، يوم الظهور، فإنَّنا لو غضضنا النظر عن علم الله الأزلي لم يبقَ لدينا أيُّ وقت مُحدَّد له، وإنَّما هو منوط بحصول شرائطه وعِلله، فمثلاً نقول: متى اجتمع العدد الكافي للغزو العالمي بالعدل الكامل. من المـُخلصين المـُمحَّصين، كان يوم الظهور ناجزاً، سواء كان زمان وجودهم والفترة التي تُحقِّقهم طويلة جدَّاً أم قصيرة.

وهذا دليل آخر على أنَّ التوقيت بمعنى تحديد التاريخ المـُعيَّن جُزاف محض.

وهذا هو مُرادنا من التوقيت الذي برهنَّا عليه، وهو توقيت إجمالي يخلو من التحديد بالزمان تماماً، فلا يكون قولاً جزافاً ولا واجب التكذيب، كما لا يكون تحديده الإجمالي خطراً على الإمام المهدي، وموجباً لفشل مُهمَّته بعد الظهور. هذا تمام الحديث في توقيت الظهور باعتبار شرائطه.

وأمَّا توقيت الظهور باعتبار علاماته، فقد سبق أن عرفنا في التاريخ السابق جملة من العلامات، وفحصنا أدلَّتها ودقَّقنا في معانيها... ولنا موقف آخر معها في الباب الثاني الآتي من هذا التأريخ.

٥٦

والمـُهمُّ هنا هو أن نعرف أنَّ العلامات على قسمين:

القسم الأول: علامات واردة في الأخبار، لا على أن تقع قبل الظهور بزمن قليل، بل على أن تقع قبله، ولو بزمان بعيد وأمد طويل.

وقد عرفنا في التاريخ السابق، أنَّ أغلب هذه العلامات قد تحقَّقت وصدَّقت بها الأخبار، إلاَّ إنَّها في واقعها لا تحتوي على أيِّ توقيت بالنسبة إلى الظهور، وإنَّما لها فوائد أُخرى، أهمُّها: أنَّ الخبر الوارد إذا قرن الحادثة بالظهور وأنَّها واقعه قبله في الجملة.

ثمَّ رأينا الحادثة قد حدثت، فنعرف أنَّ الخبر صادق في إخباره عن الحادثة، ومن ثَمَّ فهو صادق بإخباره عن حصول الظهور ولو في مستقبل الدهر، وبهذا تكون هذه الحادثة علامة على الظهور.

القسم الثاني: من العلامات ما صرَّحت الأخبار بقُرب حصوله من زمن الظهور.

وقد قلنا في التاريخ السابق(1) : إنَّ هذا النحو من العلامات وإن لم يكن له ارتباط سببي بيوم الظهور، إلاَّ أنَّه ممَّا جعله الله تعالى تنبيهاً لخاصة أوليائه المـُخلصين المـُمحَّصين علامةً على قُرب الظهور، ليكونوا على الاستعداد التام من الناحية النفسية والعقائدية لاستقبال إمامهم وقائدهم، وتلقِّي مهامَّهم ومسؤولياتهم عنه.

بل إنَّ التهيُّؤ النفسي غير خاص بالمـُمحَّصين، بل شامل لكل مسلم مسبوق بوجود هذه العلامات، وخاصة بعد تحقُّقها والتأكُّد من صدق الإخبار السابق عنها، غير أنَّ تهيُّؤ الأفراد لاستقبال الظهور يختلف باختلاف درجة ثقافتهم وإيمانهم ووعيهم، ويكون أحسن أشكال التهيُّؤ صادراً - بطبيعة الحال - من المـُخلصين المـُمحَّصين، وسيكون لهذه الفكرة نتائجها في مُستقبل هذا البحث.

وهذا القسم من العلامات يتضمَّن التوقيت بوضوح، ويُشير إلى قُرب حصول الظهور؛ ومن هنا أمكن التهيُّؤ لاستقباله.

إلاَّ إنَّه قد يخطر في الذهن سؤالان حول ذلك:

السؤال الأول: إنَّ هذه العلامات كما تُنبِّه المـُخلصين الذين يعدُّون أنفسهم للفداء بين يدي المهدي (ع)، كذلك تكون مُنبِّهة لأعداء المهدي (ع)، فيُعدُّون أنفسهم للقضاء عليه وطمس حركته، في أول حدوثها.

____________________

(1) انظر تأريخ الغيبة الصغرى ص530.

٥٧

وهذا سؤال أثرناه في التاريخ السابق، وأجبنا عنه مُفصَّلاً(1) ، ومُجمل الفكرة: أنَّ الأعداء سوف لن يلتفتوا إلى حصول هذه العلامات، ولو التفتوا فإنَّهم لن يعلموا أنَّها من قَبيل العلامات إلى ظهور المهدي (ع)، ولو علموا فإنَّهم لن يستطيعوا التألُّب عليه؛ لأنَّه يظهر في زمان غير مناسب لذلك، على ما سنرى في فصل قادم.

ولو فرضنا أنَّهم التفتوا وتألَّبوا، فلا يكون ذلك مُجدياً أيضاً؛ لما سنعرفه في مُستقبل البحث، من أنَّ المهدي (ع)، لن يُعلن عن أهدافه الكاملة لأول وهْلَة؛ ومن هنا فلن تلتفت الدول إلى خطره المباشر عليها، إلاَّ بعد أن تقوى شوكته ويتَّسع سلطانه.

إذاً؛ فلو كانوا تألَّبوا فإنَّهم سوف لن يستعملوه ضدَّه إلاَّ بعد فوات الأوان.

السؤال الثاني: إنَّ التوقيت بهذه العلامات، مُنافٍ للأخبار النافية للتوقيت، والآمرة بتكذيب الوقَّاتين.

والجواب على ذلك، يكون على مستويين:

المستوى الأول: أن ننظر إلى الزمان المـُتخلِّل بين وقوع هذه العلامات كزماننا هذا... ونقول: بأنَّ هذه العلامات لو وقعت لدلَّت على قُرب الظهور، وهذه قضية صادقة لا تشتمل على التوقيت المنهي عنه على الإطلاق، وإنَّما هي توقيت إجمالي، كالذي قلناه في شرائط الظهور تماماً: من أنَّها لو حصلت لظهر المهدي (ع)، فإنَّ عدم الاطِّلاع على زمان وقوع هذه العلامات، مُستلزم بطبيعة الحال لجهالة زمان الظهور وعدم تحديده، ذلك التحديد المـُنفي من الأخبار.

المستوى الثاني: أن ننظر إلى الزمان المـُتخلل بين وقوع هذه العلامات وبين الظهور، فإنَّ كل فرد يُشاهد إحدى العلامات القريبة، من حقِّه أن يقول: إنَّ المهدي (ع) سيظهر بعد قليل. ويمكن أن نفهم هذا القول على شكلين:

الشكل الأول: إنَّ هذا القول لا يحتوي على تحديد مُعيَّن للوقت، باعتبار أنَّه يبقى مُردَّداً بين اليوم والأيام، بل بين العام والأعوام، فإنَّ تخلُّل عشرة أعوام - ممَّا بين ظهور العلامة القريبة وظهور المهدي (ع) - غير ضائر بكونها قريبة، لضآلة هذه الأعوام العشرة، تجاه الزمان الطويل السابق عليها، ومعه فلا تكون تحديداً، ولا تندرج في الأخبار النافية للتحديد.

____________________

(1) المصدر السابق ص 532.

٥٨

الشكل الثاني: أن نتنازل عمَّا قلناه في الشكل الأول، ونقول: إنَّ هذا القول، أعني: أنَّ المهدي سيظهر بعد قليل... يتضمَّن التحديد والتوقيت.

إذاً، فلا بدَّ من الالتزام بأنَّ الأخبار الدالَّة على وقوع العلامات القريبة مُخصِّصة لأخبار التكذيب، وخارجة عن مدلولها، وتكون النتيجة: أنَّ كل تحديد لتاريخ يوم الظهور كذب وواجب الرفض، إلاَّ إذا كان مُستنداً إلى حدوث علامة من العلامات القريبة، فإنَّه يكون صادقاً وجائز التلقِّي بالقبول.

ولأجل ذلك - في الحقيقة - وضِعت هذه العلامات، وهو تأكُّد المـُخلصين المـُمحَّصين من قُرب الظهور، ومعه؛ فمن غير المـُحتمَل بقاء التحديد كاذباً ومُحرَّماً إلى ذلك الحين، كما أنَّه ليس جزافاً من القول بعد استناده إلى العلامة التي سمع بوقوعها في الأخبار، وقد رآها مُتحقِّقة في عالم الوجود.

مع العلم، أنَّ هذه العلامات لا تدلُّ على أكثر من اقتراب اليوم الموعود، وأمَّا تحديده باليوم والشهر ونحوه، فيبقى سِرَّاً في علم الله تعالى، حتى يتحقَّق الظهور.

٥٩

٦٠