موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 188630
تحميل: 8738


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188630 / تحميل: 8738
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أخرجه البخاري: ( وحتى يعرضه عليه، فيقول الذي يُعرض عليه: لا أرَب لي به )، إلى غير ذلك من الأخبار، وقد سمعناها.

الناحية الثالثة: إنَّ بعض الأخبار السابقة يذكر كثرة المال، ولا يُشير إلى المهدي (ع) بالتعيين، فكيف نستطيع أن نفهم المقصود به ذلك؟

ولهذا السؤال أُسلوبان في الجواب، أحدهما عام لكل الأخبار الواردة حول المهدي (ع) مع أنَّها لم تذكر اسمه، وقد طبَّقنا جانباً من هذا الأُسلوب في التاريخ السابق(1) ، وقلنا: إنَّ كل التنبُّؤات بحوادث المـُستقبل مربوطة بظهور المهدي (ع)، وتصلح أن تكون ( علامات ) له، ما لم يثبت بدليلٍ خاصٍّ تأخُّرها عن الظهور، وكونها من أشراط الساعة بشكل مباشر، وستأتي تفاصيل البرهان على ذلك في الكتاب الخاص بالسنّة والمهدي من هذه الموسوعة بتوفيقه تعالى.

وهناك من القرائن ما هو خاص بمورد كلامنا، تدلُّنا على أنَّ كثرة المال لا تكون إلاَّ في دولة المهدي العالمية العادلة، نذكر منها قرينتين:

القرينة الأُولى: أنَّه بعد أن ثبت بالضرورة والوجدان، عدم توفُّر المال بكثرة على الشكل الموصوف في الروايات، في أيِّ عصر من عصور البشرية إلى العصر الحاضر، إذاً؛ فهو سيتوفَّر في المستقبل، ولا يخلو عصر توفُّره من أحد احتمالات ثلاث:

الأول: توفُّر المال قبل الظهور، أي في الفترة المـُتخلِّلة بين العصر الحاضر والظهور.

الثاني: توفُّر المال في دولة المهدي (ع) نفسها.

الثالث: توفُّر المال بعد دولة المهدي (ع)، أي في الفترة المـُتخلِّلة بين نهاية الدولة، ونهاية البشرية.

وأمَّا الاحتمال الأول، فهو غير وارد على الإطلاق؛ لما عرفناه مُفصَّلاً من بقاء الظلم والفساد إلى لحظة الظهور، ومن غير المـُحتمَل لعصر الفتن والانحراف أن يؤثِّر تأثيراً إيجابياً في كثرة المال بهذا الشكل، وهذه الأنظمة العالمية المـُعاصرة أمامنا لم تُنتج هذه الكثرة وغير قابلة لأن تُنتِجها في المستقبل، وكذلك كل نظام لا يتكفَّل النظام العادل، بل يُمثِّل خطَّ الانحراف العام.

____________________

(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص 523 وما بعدها.

٥٦١

وأمَّا الاحتمال الثاني، فهو المطلوب؛ لأنَّه على تقدير صحَّته، يتعيَّن أن تكون كثرة المال في دولة المهدي نفسها.

وأمَّا الاحتمال الثالث، فهو - في واقعه - لا يتضمَّن مفهوماً مُغايراً للاحتمال الثاني:

فإنَّنا سنُبرهن في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة - مُفصَّلاً - على أنَّ دولة المهدي ونظامه سيبقى مُستمرَّاً إلى نهاية البشرية، فكثرة المال لو لم يتحقَّق في حياة المهدي (ع) بل تحقَّق بعده، طبقاً لهذا الامتحان، فهو قد تحقَّق في نظام المهدي ودولته العادلة نفسه، مهما أبطأ في الوجود، ولكن إذا صحَّ أن يوجد المال بكثرة نتيجةً للنظام العادل، فأحر به أن يوجَد في حياة الإمام المهدي نفسه، بصفته القائد الأعظم والأجدر من قادة هذه الدولة على الإطلاق، والمؤسِّس للنظام التكاملي والتربوي البعيد المدى فيها.

ومعه؛ يتعيَّن الاحتمال الثاني، وهو أن تكون كثرة المال التي أعربت عنها أيُّ رواية من هذه الروايات وغيرها، لا تكون بدايتها إلاَّ في عصر وجود المهدي بشخصه في دولته العالمية، وإن استمرَّت هذه الكثرة بعده قروناً من الزمن.

القرينة الثانية: أن تجعل الروايات التي تربط كثرة المال بظهور المهدي (ع) قرينةً على أنَّ المراد من الروايات الساكتة على ذلك هو ذلك أيضاً، وهذا فَهْم عرفيٌّ ولغويٌّ صحيح، ناشئ من حمل المطلق على المقيد، أو فَهْم المطلق على ضوء المقيَّد.

والروايات التي تربط كثرة المال وحصول الرفاه الاجتماعي بظهور المهدي على قسمين:

أحدهما: روايات المصادر الخاصة كلها، ممَّا سمعناه وممَّا لم نسمعه.

ثانيهما: الأغلب من روايات المصادر العامة، فإنَّنا روينا في هذا الفصل منها اثني عشر نصَّاً:

منها: خمسة نصوص تُسمِّي المهدي على التعيين، وثلاثة منها تصف المهدي بصفة لا تنطبق إلاَّ عليه، كقوله: ( فيبعث الله عزَّ وجلَّ رجلاً من عترتي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً )، وقوله: ( يكون في آخر الزمان خليفة يُقسِّم المال ولا يعدُّه )، ونحوها من الروايات التي لا يُراد منها إلاَّ المهدي (ع) بإجماع المسلمين.

ومنها: أربعة نصوص مُهملة من هذه الجهة، هي روايتان عن البخاري، وواحدة عن مسلم، وواحدة عن الترمذي، وهي التي تقول - طبقاً للقاعدة اللغوية العامة -: إنَّ تلك الروايات الأكثر عدداً والأوضح صراحة تكون قرينةً على أنَّ المراد منها هو عصر الظهور للمهدي نفسه ليس غير.

٥٦٢

وبوجود هاتين القرينتين يحصل المقصود:

هذا، ولكثرة المال سبب إيديولوجي نظري، هو ما يُسمَّى بالمذهب الاقتصادي في اللغة الحديثة، هذا ما نُحاول الدخول فيه الآن، فقد اقتصرنا هنا على الآثار والنتائج الاقتصادية الموسِّعة، الناتجة عن المذهب الاقتصادي المهدوي العادل، وأمَّا أنَّ هذا المذهب ما هو وكيف هو، فهذا ما سنفهم المقدار الممكن منه في الكتاب التالي من هذه الموسوعة مُفصَّلاً، إن شاء الله تعالى.

الجهة السابعة: في التأييد الإلهي لدولة المهدي (ع).

وينبغي أولاً أن نُقيم القرائن على صحَّة هذا التأييد عموماً، بالشكل الذي سنوضِّحه، ثمَّ نتحدَّث ثانياً عن مظاهر هذا التأييد في الدولة العالمية، ومن هنا نتكلَّم في ناحيتين:

الناحية الأُولى: في وجود التأييد الإلهي لجانب الحق والعدل عموماً، أينما وجِد، في مختلف الأزمنة والأمكنة.

ويمكن أن نلحظ ذلك في الأدلَّة الإسلامية، على مختلف المستويات:

المستوى الأول: وهو الذي يُعرب عنه مثل قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (1) ، فإنَّه مادام الفرد والمجتمع مُعطياً نفسه لنصرة الله، ماشياً قدماً في سبيل الله، فالله تعالى يفيض عليه النصر وقوَّة الإرادة، ويُعطيه من النتائج ما لم يكن مُتوقّعاً.

ومثل قوله تعالى:( ... وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) (2) .

وإنَّ من أوضح مصاديق هؤلاء المؤمنين الموصوفين في الآية هم المهدي وأصحابه، وإن لم تكن الآية تُشير إليهم بالذات.

____________________

(1) 47 / 7.

(2) 22 / 40 - 41.

٥٦٣

ومثل قوله تعالى:( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) (1) .

إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على أنَّ هناك مرتبة من الإخلاص والإيمان، إذا وصلها الفرد في عمله في سبيل الله - أيَّاً كان شكل العمل وأسلوبه - أصبح مُستحقَّاً للتأييد الإلهي والعناية والرحمة من قِبل ربِّ العالمين.

وأثر التأييد الإلهي، هو زيادة النتائج على المـُقدِّمات، بمعنى أنَّ هذا العامل المـُعيَّن لو لم يكن مؤيَّداً لأنتج نتائج مُعيَّنة محدودة، بحسب قوانين المجتمع العامة، كأيِّ عمل آخر.

لكن حين يُصبح العمل مقروناً بالتأييد، فإنَّ نتائجه تكون أوسع ممَّا يتوقَّع عادة من مثل هذا العمل.

ومن أمثلته المحسوسة في العصر الحاضر، انتشار الدين الإسلامي في العالم، فإنَّه بالرغم من قلَّة دعاته المـُبشِّرين إليه، وقلَّة المـُدافعين عنه وضعفهم، نجده محفوظاً مُتنامياً، بارزاً بالعزَّة والفخر أمام الرأي العام العالمي، يعتنقه في كل عام مئات الأفراد الجُدد في إفريقيا خاصة، وفي العالم عامة.

المستوى الثاني: وهو المفهوم من مثل قوله تعالى:( بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ) (2) .

فمهما تزايد عنصر الصبر وعنصر التقوى في الأفراد العاملين، كان استحقاق عملهم للتأييد الإلهي أكثر فأكثر، وليست هذه الآية وأمثالها خاصة بالنبي (ص) وأصحابه، وإن نزلت لأول مرَّة فيهم؛ وبرهان عدم الاختصاص ينطلق من عدَّة وجوه، نذكر منها اثنين مُستفادَين من الآية نفسها:

الوجه الأول: إنَّ الآية أناطت الإمداد والتأييد بالصبر والتقوى، ولم تُنطه بكون

____________________

(1) 47/ 17.

(2) 3/ 125 - 126.

٥٦٤

القائد نبيَّاً أو مُرسلاً من الله عزَّ وجلَّ، الأمر الذي يُعطينا أنَّ الصبر والتقوى يستتبعان التأييد أينما وجِد.

الوجه الثاني: إنَّ الهدف من تأييد الجيش النبوي مذكور في الآية، وهو قوله تعالى:( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ) ، فمهما وجِد هذا الهدف بإخلاص وجِد التأييد، وكيف إذا عرفنا أنَّ الهدف المهدوي ليس محدوداً، بل واسعاً بسعة الأرض كلها؟! فإنَّ التأييد يكون من هذه الناحية أوْلى بطبيعة الحال.

المستوى الثالث: تعاضد التكوين والتشريع في إنتاج العدل لنتائجه النهائية.

فإنَّ المـُستفاد من عدد النصوص من الكتاب الكريم والسنَّة الشريفة، أنَّ تطبيق العدل الإلهي أينما وجِد، والمجتمع المؤمن أينما تحقَّق، فإنَّ الطبيعة تكون مُساعدة له بمشيئة خالقها الحكيم، لإنتاج النتائج الحسنة والوصول إلى الرفاه الاجتماعي، وهذا أمر صحيح برهانياً، وسيأتي ما يُلقي عليه الضوء الكافي في الكتاب الآتي، من هذه الموسوعة.

كقوله تعالى - نقلاً عن النبي (ع) -:( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ... ) (1)

وقوله - نقلاً عن نوح النبي (ع) -:( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ) (2) ، فإنَّ إرسال السماء مدراراً، وشقَّ الأنهار، وزيادة البنين ونحوها، أمورٌ تكوينية ليس للإنسان فيها يد، وخاصة في عصر نوح (ع)، ومع ذلك فقد قُرِنت مع الاستغفار والتوبة، ومع إصلاح النفس والإخلاص بشكل عام، وهذا صادق بالنسبة إلى المجتمع المحدود، فكيف إذا أصبح المجتمع كله صالحاً مؤمناً؟!

فهذه مستويات ثلاثة من التأييد الإلهي، لا حاجة الآن إلى الزيادة عليها.

الناحية الثانية: في تطبيق ذلك على الدولة المهدوية، وما عرفناه من أشكال التأييد

____________________

(1) 11/ 52.

(2) 71/ 10 - 12.

٥٦٥

التي تُعتبر كنتائج لإحدى هذه المستويات.

ومن الواضح أنَّ الصفات المـُعتبرة لاستحقاق التأييد في المستويات الثلاثة، كلُّها موجودة في أصحاب الإمام المهدي (ع) خاصة، وفي الدولة العالمية العادلة ككل، فمن الطبيعي أن يكونوا مشمولين لكل هذه الأشكال الثلاثة.

وأمَّا من حيث النتائج التي تعرضها علينا الأخبار السابقة، فتتجلَّى في صور مختلفة:

الصورة الأُولى: سهولة استخراج المعادن بشكل خارج عن الحسبان، سواء فهمناها من زاوية إعجازية أم من زاوية طبيعية، وقد تحدَّثنا عن ذلك.

الصورة الثانية: اتِّساع الزراعة والأراضي المزروعة بشكل عظيم، لم يسبق له مثيل.

( لا تدخر الأرض من بذرها شيئاً إلاَّ أخرجته، ولا السماء من قطرها شيئاً إلاَّ صبَّته ).

الصورة الثالثة: ارتفاع الدخل الفردي بشكل لا مثيل له، إلى حدٍّ ينغلق الطمع بالمال الزائد تمام، كما صرَّحت به الروايات.

الصورة الرابعة: أنَّه (ع): ( تُطوى له الأرض ) , وهو تعبير عن سرعة الوصول إلى المكان البعيد، إمَّا بشكل إعجازي أو بشكل طبيعي، كما سنتحدَّث عنه غير بعيد.

الصورة الخامسة: شمول الأُخوّة لكل الناس وعموم الصفاء بينهم جميعاً، الأمر الذي لم يحدث في أيِّ نظام آخر، كما نصَّت عليه أخبار الفريقين.

الصورة السادسة: إنَّ الأمن والصفاء لا يشمل البشر فقط، بل يشمل الحيوانات أيضاً، البهائم والسباع ( واصطلحت السباع والبهائم ) فيما بينها، وهي لا تُضرُّ الإنسان أيضاً ( لا يُهيجها سبع ولا تخافه ).

وهذا الصلح منصوص عليه في كتب العهدين أيضاً، ومقرون هناك بوجود المجتمع الصالح العادل، كما سوف يأتي في جزء آتٍ من هذه الموسوعة، قد أعطى هناك معنى يشمل الأفاعي وسائر الحشرات أيضاً.

وهذا الصلح أحد المظاهر الواضحة للتأييد الإلهي للمجتمع المهدوي، حتى إنَّ الوحوش تُصبح مُلهَمة بقدرة الله عزَّ وجلَّ، على أن تتجنَّب كلَّما يضرب البشر من قتلهم أو قتل مواشيهم، أو إفساد مزروعاتهم وغير ذلك، بل لعلَّها تُشاركهم فيما يشعرون من سعادة ورفاه وأُخوَّة ( يرضى عنه ساكن السماء )، وهو الطير.

وهذا المطلب لا يمكن إثباته من ناحية العلم التجريبي الحديث، ولا يكون قابلاً

٥٦٦

للتصديق من قِبل أيِّ فرد ممَّن وثق بهذا العلم واطمئنَّ إليه، ولكن حسبُنا تجربة المستقبل، وحدوث يوم الظهور نفسه، فبيننا وبين المـُفكِّرين المـُحدِّثين وجود المجتمع العالمي العادل:

( ... فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) (1) .

فإنَّ تجربة وجود هذا الصلح لا يمكن تحقُّقها بدون تحقُّق ذلك المجتمع، فإنَّه الشرط الأساسي له، ولا يُعقل أن يتحقَّق الشيء قبل توفُّر سببه، فإن حدث ذلك المجتمع، ولم يحدث الصلح بين السباع والبهائم كان كلام المـُنكرين صادقاً، ولكنَّهم لا يمكنهم إثبات ذلك في العصر الحاضر، بأيِّ حال من الأحوال.

فهذا هو مُهمُّ الكلام في هذا الفصل.

بقي علينا الدخول في الخاتمتين اللتين تتعرَّضان إلى أنواع أخرى من المـُنجزات، لا تمتُّ إلى الجانب المالي والاقتصادي بصِلَةٍ.

الخاتمة الأُولى : في المـُنجَزات القضائية والعبادية والفقهية ونحوها في دولة المهدي (ع):

ونتكلَّم عن ذلك في عدَّة جهات:

الجهة الأُولى: في سرد الأخبار الدالة على هذه المـُنجزات:

أخرج في البحار(2) ، عن أبي عبيدة، عن أبي عبد الله (ع)، قال: ( إذا قام قائم آل محمد حكم بحُكم داود وسليمان، لا يسأل الناس بيِّنة )، وأخرجه، في الوسائل(3) بلفظ مُقارب.

وأخرج النعماني(4) ، عن أبان بن تغلب قال: كنت مع جعفر بن محمد (ع) في مسجد مكَّة وهو آخذ بيدي، فقال: ( يا أبان، سيأتي الله بثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً في مسجدكم هذا... - إلى أن قال: - ثمَّ يأمر مُنادٍ فيُنادي: هذا المهدي يقضي بقضاء داود

____________________

(1) 7/71، وانظر: 10 - 20.

(2) ج13 ص 183.

(3) ج3 ص435.

(4) ص 169.

٥٦٧

وسليمان، لا يسأل عن ذلك بيِّنةً )، وأخرجه الصدوق في إكمال الدين أيضاً(1) .

وأخرج النعماني(2) ، عن أبان أيضاً، عن أبي عبد الله (ع) في حديث، أنَّه قال: ( ويبعث الله الريح من كل وادٍ تقول: هذا المهدي يحكم بحكم داود، ولا يريد البيِّنة ).

وهناك أخبار أخرى حول هذا القضاء، رويناها في الفصل الخاص بالتمحيص، فراجع.

وأخرج في البحار(3) عن الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (ع)، قال: ( أول ما يُظهر القائم من العدل أن يُنادي مُناديه أن يُسلِّم صاحب النافلة لصاحب الفريضة الحجر الأسود والطواف ).

وروى أيضاً عن الكافي، بإسناده عن عمرو بن جميع، قالت: سألت أبا جعفر (ع) عن الصلاة في المساجد المـُصوَّرة، فقال: ( أكره ذلك، ولكن لا يضرُّكم اليوم، ولو قام العدل لرأيتم كيف يصنع في ذلك ).

وقال في البحار: روى في كتاب مزار لبعض أصحابنا، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: قال لي: ( يا أبا محمد، كأنِّي أرى نزول القائم في مسجد السهلة، بأهله وعياله ).

قلت: يكون منزله، جُعلت فداك؟

قال: ( نعم... ).

قلت: جُعلت فداك، لا يزال القائم فيه أبداً؟

قال: ( نعم ).

قلت: فمَن بعده؟

قال: ( هكذا من بعده إلى انقضاء الخلق ).

قلت: فما يكون من أهل الذمَّة عنده؟

قال: ( يُسالمهم، كما سالمهم رسول الله (ص)، ويؤدُّون الجزية عن يد وهم صاغرون... ) الحديث.

____________________

(1) نسخة مخطوطة.

(2) نفس الصفحة السابقة.

(3) ص196ج13، وكذلك الخبرين بعده.

٥٦٨

وروي أيضاً(1) ، عن السيد علي بن عبد الحميد، بإسناده إلى أحمد بن محمد الأيادي، يرفعه إلى إسحاق بن عمار، قال: سألته عن إنظار الله تعالى إبليس وقتاً معلوماً ذكره في كتابه، فقال:( ... فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) (2) .

قال: ( الوقت المعلوم يوم قيام القائم، فإذا بعثه الله كان في مسجد الكوفة، وجاء إبليس حتى يجثو على ركبتيه، فيقول يا ويلاه من هذا اليوم!

فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه، فذلك يوم الوقت المعلوم مُنتهى أجله ).

وقد سبق أن روينا هذا الخبر، وأجَّلنا الحديث فيه إلى هذا الفصل؛ ومن أجل هذا كرَّرناه.

وروي في البحار أيضاً(3) ، عن بعض مؤلَّفات أصحابنا، بإسناده عن المفضَّل بن عمر، قال سألت سيدي الصادق (ع): هل للمأمور المنتظر المهدي (ع) من وقت معلوم يعلمه الناس؟ - وهو حديث طويل يقول فيه -:... قال المفضل: قلت: يا سيدي، فأين يكون دار المهدي ويجتمع المؤمنون؟

قال: ( دار مُلكه الكوفة، ومجلس حكمه جامعها، وبيت ماله ومقسم غنائم المسلمين مسجد السهلة، وموضع خلواته، الذكوات البيض بين الغريَّين ).

قال المفضل: يا مولاي، كل المؤمنين يكونون في الكوفة، قال: ( إي والله، لا يبقى مؤمن إلاَّ كان بها أو حواليها، وليبلغنَّ مجالة فرس منها ألفي درهم... وليصيرن الكوفة أربعة وخمسين ميلاً، وليجاورنَّ قصورها كربلا، وليُصيِّرن الله كربلاء معقلاً ومقاماً، تختلف فيه الملائكة والمؤمنون، وليكوننَّ لها شأن من الشأن... ) الحديث.

وروى الحُرُّ في الوسائل(4) ، بإسناده عن الحسين الشيباني، عن أبي عبد الله (ع) قال:

قلت له: رجل من مواليك يستحلُّ مال بني أُميَّة ودمائهم، وأنَّه وقع عنده وديعة.

فقال: ( أدُّوا الأمانة إلى أهلها وإن كان مجوساً؛ فإنَّ ذلك لا يكون حتى قام

____________________

(1) ص197، ج 13.

(2) 38 / 80 - 81.

(3) ج13 ص200.

(4) ص681.

٥٦٩

قائمنا فيحلُّ ويُحرِّم ).

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(1) ، بسنده عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (ع): ( دمَّان في الإسلام حلال من الله عزَّ وجلَّ، لا يقضي فيهما أحد بحُكم الله عزَّ وجلَّ، حتى يبعث الله القائم من أهل البيت، فيحكم بحُكم الله عزَّ وجلَّ فيهما، لا يريد فيه بيِّنة: الزاني المـُحصن يرجمه، ومانع الزكاة يضرب رقبته (عنقه) ).

إلى غير ذلك من الأخبار التي لا حاجة إلى الإطالة بذكرها.

أقول: إنَّ أكثر الأخبار، بصفتها أخباراً مُفردة، غير قابلة للإثبات التاريخي، وخاصة ما نقلناه عن البحار؛ فإنَّ فيه ما هو مجهول ومُرسَل ومرفوع. فالعمدة في تصحيحها مُطابقتها للقواعد والقرائن، ولكنَّنا سنتحدَّث الآن عنها كما لو كانت كافية للإثبات، لعدم قيام القرائن على بطلانها على أيِّ حال.

الجهة الثانية: في الحديث عن قضاء المهدي (ع)، وقد تحدَّثنا عن ذلك مُفصَّلاً، وإنَّما بقيت هناك نقطتان لم يكن المجال لإيضاحهما مُتوفِّراً، فنتحدَّث عنهما الآن.

النقطة الأُولى: في معنى قضاء سليمان (ع)، فإنَّنا لم نذكره من بين أساليب الأنبياء للقضاء فيما سبق، وقد ورد في هذه الروايات ذكره.

هو ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى:( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا... ) (2) .

وهذه الآية لم تذكر الحُكم الذي حكم فيه سليمان (ع) طبقاً لتفهيم الله عزَّ وجلَّ، ولكن ذكرته السنَّة الشريفة في عدَّة أخبار.

منها: ما روي(3) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له:

____________________

(1) انظر المصدر المحطوط.

(2) 21/77 - 78.

(3) تفسير البرهان ج 2 ص 693.

٥٧٠

( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ... ) ، قلت: حين حكما في الحرث كانت قضية واحدة؟

فقال: ( إنَّه كان أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى النبيين قبل داود - إلى أن بعث الله داود -: أيُّ غنم نفشت في الزرع، فلصاحب الحرث رقاب الغنم، فلا يكون النفش إلاَّ بالليل، فإنَّ على صاحب الزرع أن يحفظه بالنهار، وعلى صاحب الغنم في الليل، فحكم داود (ع) بما حكمت به الأنبياء (ع) من قبله.

وأوحى الله عزَّ وجلَّ إلى سليمان (ع): أيُّ غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلاَّ ما خرج من بطونها، وكذلك جرت السنَّة بعد سليمان، وهو قول الله عزَّ وجلَّ:( ... وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا... ) ، فحكم كل واحد منهما بحُكم الله عز وجلَّ ).

والمـُستفاد من هذا الخبر وغيره، أنَّ اعتداء الغنم على الحقل، إن كان بالنهار فلا ضمان على صاحب الغنم؛ لأنَّ صاحب الحقل هو الذي يجب عليه حفظ حقله في النهار، فإذا اعتدت غنم غيره عليه كان هو مُقصِّراً، ولا يضمن له صاحب الغنم شيئاً، وأمَّا اعتداء الغنم في الليل فهو مضمون على صاحب الغنم؛ لأنَّه يجب عليه حفظ غنمه من الاعتداء على الآخرين أثناء الليل، فإذا لم يمنعها كان مُقصِّراً وعليه الضمان، وكان الاعتداء في القضية التي عُرضت على داود وسليمان(ع)، اعتداءً ليليَّاً، فكان صاحب الغنم ضامناً لما أتلفه غنمه، ولكن ماذا يجب أن يدفع صاحب الغنم إلى صاحب الحقل؟ إنَّ في ذلك ثلاث احتمالات:

الاحتمال الأول: أنَّه تُقدَّر قيمة التالف من الزرع، ويأخذ صاحبه من النقود بقدر هذه القيمة.

وهذا صحيح، إلاَّ أنَّ النقود لم تكن موجودة في ذلك العهد، بل كانت المـُبادلة كلها بين الناس باعتبار العروض نفسه، فكان هذا الاحتمال ممَّا لا يمكن العمل به يومئذ.

الاحتمال الثاني: أنَّه تُقدَّر قيمة التالف في الحقل، ويأخذ صاحبه بقدر قيمته من العروض، ممَّا يملكه صاحب الغنم.

وأقرب شيء يأخذه صاحب الحقل هو ما أنتجته الغنم المـُعتدية نفسها من حليب وولد وغيره، وهذا هو الذي حكم به النبي سليمان، طبقاً لتفهيم الله عزَّ وجلَّ... كما يقول الخبر.

الاحتمال الثالث: إنَّ صاحب الغنم يدفع إلى صاحب الحقل الغنمَ المـُعتدِّية

٥٧١

نفسها، أمَّا - كلها - كما هو ظاهر الخبر - وأمَّا بعضها بمقدار قيمة التالف، وهذا هو الذي حكم به داود (ع)، طبقاً لأحكام الأنبياء السابقين، كما يقول الخبر.

وكان الحكم العادل، المـُطابق مع المستوى التربوي للبشرية يومئذ، هو ما قاله النبي سليمان (ع).

الجهة الثانية: في المـُبرِّرات الكافية لاتِّخاذ المهدي (ع) أساليب قضاء سليمان وداود (ع).

والمـُستفاد من مجموع الأخبار، أنَّ اتخاذ المهدي (ع) لقضاء سليمان أمر مؤقَّت، شأنه في ذلك شأن قضاء آدم ونوح وإبراهيم، التي سمعنا أنَّ المهدي (ع) يسير على طبق كل واحد منها مرَّة أو أكثر؛ من أجل تمحيص الأُمَّة، ولكنَّ اتخاذ المهدي لقضاء داود أمر مُستمرٌّ ومُعتاد بالنسبة إليه، فهل هذا صحيح؟ وكيف يكون ذلك؟ هذا ما سنعرفه بعد قليل.

وليس المراد بقضاء داود (ع) حكمه في قضية الحقل التي حكم بها ولَده سليمان (ع)، بل أُسلوبه العام في أنَّه يقضي بدون أن يطلب من المـُدَّعي بيِّنةً على مُدَّعاه.

وينبغي أن يقع الحديث في نقطتين:

النقطة الأُولى: في المـُبرِّرات الكافية لاتِّخاذ المهدي (ع) قضاء سليمان (ع).

يمكن أن نذكر لذلك مُبرِّرين:

المـُبرِّر الأول: إنَّ قضاء سليمان (ع) مطابق للقواعد الإسلامية نفسها، فإنَّه بعد أن يثبت اعتداء الغنم على حقل الغير، يكون صاحب الغنم ضامناً لصاحب الحقل قيمة ما اتلفته الغنم من الزرع، وهذا صحيح واضح في القواعد الإسلامية، وهو ممَّا أخذه سليمان وداود (ع) مُسلَّماً أيضاً، وإنَّما اختلفت الأحكام فيما يُمثِّل هذا الضمان الذي يدفعه صاحب الغنم كما قلنا في الاحتمالات الثلاث السابقة.

فبينما يبدو للفرد المعاصر لعصر النقود والعُملات الورقية، أنَّ الضمان يجب أن يكون مُتمثِّلاً بها، لم يكن هذا واضحاً ولا مفهوماً للمجتمع المعاصر لسليمان وداود (ع)؛ لانعدام العُملة عندهم.

ومن الصحيح إسلامياً، أنَّ الضمان في العصر الحاضر إنَّما يكون بالنقود والعُملة بوجه عام، ولكنَّ الصحيح إلى جانب ذلك أنَّه يمكن دفع العين أو العروض بدلها

٥٧٢

أحياناً، كما لو اتَّفق الدائن والمدين على ذلك، وكما لو أمر بذلك الحاكم الإسلامي الأعلى نفسه.

إذاً؛ فالفرق بين حكم سليمان وحكم الإسلام فيما يُمثِّل الضمان، فإذا حكم المهدي (ع) بحكم سليمان (ع)، فقد أمر ضمناً - بصفته حاكماً إسلامياً أعلى - بتحويل الضمان من النقد إلى العروض، فيكون هذا جائزاً ومُلزماً للمدين.

وأمَّا التفريق بين الاعتداء في الليل والاعتداء في النهار، فلا يكون في هذه المسألة منشأ للفرق بين حُكم سليمان وحُكم الإسلام فيها؛ لأنَّه كان اعتداء ليلياً مضموناً في حُكمه، وهو مضمون في الإسلام أيضاً.

نعم، لو كان الاعتداء في النهار، لكان منشأ للفرق الحقيقي، إلاَّ أنَّ المهدي (ع) سيحكم بالضمان كما حكم سليمان بالضمان.

المـُبرِّر الثاني: إنَّنا لو تنزَّلنا - جدلاً - عن المـُبرِّر الأول، وفرضنا أنَّ حكم سليمان (ع) غير صحيح إسلامياً، فعندئذ يكفي في صحَّته بالنسبة إلى الإمام المهدي (ع) ما كفى بالنسبة إلى اتِّخاذه أساليب قضاء الأنبياء الآخرين، كآدم ونوح، وقد أعطينا لذلك المـُبرِّرات الكافية في الفصل السابق فراجع.

هذا، والمهدي (ع) أولى بالناس من أنفسهم وأموالهم، وله أن يعمل ما هو الأصلح على كل حال، شأنه في ذلك شأن نبي الإسلام (ص) نفسه، كما هو ثابت بضرورة الدين.

النقطة الثانية: في المـُبرِّرات الكافية لاتِّخاذ المهدي (ع) قضاء داود (ع).

يمكن أن نُقدِّم لذلك ثلاثة مُبرِّرات بحسب فَهْمنا المعاصر:

المـُبرِّر الأول: التمحيص والامتحان، الذي هو المـُبرِّر العام لاتِّخاذ المهدي أيَّاً من أساليب قضاء الأنبياء السابقين، على ما عرفنا... إلى جانب مصالح أخرى عامة عرفناها.

وهذا المـُبرِّر يكتسب إثباته التاريخي، بشكل رئيسي، ومن الظنِّ بأنَّ الإمام المهدي (ع) حين يحكم في قضية بحكم النبي داود (ع) سوف لن يُصرِّح بأنَّ هذا من ذاك، ولن يُوضِّح أنَّه حكم بعلمه مطابقاً للواقع، وإن خالف القواعد القضائية العامة؛ ومن هنا يكون مُثاراً للاحتجاج، وهو محكُّ التمحيص.

غير أنَّ هذا صحيح في العدد القليل من القضايا التي يتَّخذ فيها المهدي (ع) هذا الأسلوب القضائي؛ إذ تكون صفته صفة اتخاذه لأساليب القضاء الأخرى، مرَّة مرَّة، وهي التمحيص، غير أنَّ المـُستفاد من الروايات استمرار ديدن المهدي (ع) على ذلك في

٥٧٣

كثير من القضايا. ومعه؛ يكون اتخاذ هذا الأسلوب لأول مرَّة مَحكَّاً للتمحيص، وحين يتكرَّر الأمر ويتَّضح السرُّ فيه، سيتّخذ الموقف مُبرِّراً آخر أعمق من هذا المبرر.

المـُبرِّر الثاني: تعويد المجتمع على الوصول إلى الواقع في المرافعات القضائية، فحين يعلم الإمام المهدي (ع) أنَّ القواعد القضائية ستوصِل القضية إلى الواقع لا يكون لديه مانع من استعمالها، وحين يعلم مُخالفتها للواقع فإنَّه سيُهملها ويتَّجه في حُكمه نحو الواقع مباشرة، وقد قلنا في الفصل السابق: إنَّ الحاكم العادل مُخيَّر بين الأُسلوبين باستمرار.

ومن هنا؛ كان هذا الأسلوب مُعتاداً له، لا بمعنى أنَّه يتَّخذه في كل القضايا على الإطلاق، بل بمعنى أنَّه يُكثر من اتخاذه، وذلك في موارد مخالفة القواعد العامة للواقع؛ ومن هنا يمكن القول: بأنَّ المهدي (ع) يجمع ما بين قضاء داود (ع) وقضاء محمد (ص)، وحيث نعرف أنَّ قضاء محمد (ص) - أعني بالقضاء بالبيِّنة واليمين - غالبي المـُطابقة للواقع، وقليل المخالفة له، نعرف أنَّ المهدي (ع) سيتَّخذ قضاء محمد (ص) في الأغلب، وقضاء داود في الأقل، ولكنَّه (ع) سيصل إلى الواقع على كل تقدير.

ولا حاجة إلى التوسُّع في هذا المـُبرِّر أكثر من ذلك.

المـُبرِّر الثالث: تعويد المجتمع على الوصول إلى الواقع، في كل مصالح العامة، وليس في القضاء فقط؛ فانَّ القضاء بالرغم من أهمِّيَّته ليس هو أهمَّ مرافق الدولة وأعمق مستوياتها، فإذا كان الجانب الأضعف مُحتاجاً إلى الوصول إلى الواقع، فكيف بالجانب أو الجوانب المـُهمَّة والعُلْيا في الدولة والمجتمع؟!

والمنطلق الأساسي لهذا المـُبرِّر، وهو أنَّ الحكم العادل المطلق، الذي يحصل فيه الانسجام المطلق بين البشر أجمعين، لا يمكن أن يتحقَّق إلاَّ بعد التشخيص الحقيقي لكل الوقائع والحوادث، والرؤية الواضحة لكل الظواهر والتحرُّكات، وأيِّ ضعف في التشخيص أو جهل في الرؤية، يؤدِّي إلى تضعضع العدالة في الحكم الوارد في الواقعة، وإذا كثر هذا الضعف كثر هذا التضعضع، ومن ثمَّ قد يودِّي بعدالة النظام كله.

ولا نريد بالتشخيص الحقيقي والرؤية الواضحة، إلاَّ ملاحظة كل واقعة وحادثة على واقعها من دون لبس وغموض. إذاً، فتطبيق العدل الكامل المطلق، مُتوقِّف على الوصول إلى الواقع دائماً - أعني في المصالح العامة – وقد يصل بعد التربية البشرية المـُستمرَّة حتى إلى الوقائع الشخصية الخاصة.

وهذا هو أحد الفروق بين داود (ع) والمهدي (ع)، حيث وقع هذا القضاء من داود

٥٧٤

(ع) مرجوحاً - كما عرفنا - مُستحقَّاً للاستغفار والإنابة، بينما سوف يكون راجحاً من المهدي (ع) ومُطابقاً للمصالح العامة في دولته؛ لأنَّ المجتمع في عصر داود لم يكن في مستوى الوصول إلى الواقع، بل كانت القواعد القضائية العامة تربوية بالنسبة إليه إلى الحدِّ الكافي... على حين سيُصبح المجتمع في عصر الإمام المهدي (ع) مُحتاجاً إلى الوصول إلى الواقع في كل المصالح العامة.

ولا حاجة إلى التوسُّع في هذا المبرِّر الثالث أكثر من هذا أيضاً.

الجهة الثالثة: في مقتل إبليس.

وهو ما دلَّ عليه بعض الروايات، منها ما نقلناه فيما سبق.

ولفَهم مقتل إبليس أُطروحتان، كلٌّ منهما يُحتمل أن يكون مقصود الرواية:

الأُطروحة الأُولى: الأُطروحة الصريحة (غير الرمزية) لهذا الحادث الطريف.

وتبدأ هذه الأُطروحة من زاوية ظهور القرآن الكريم بأنَّ إبليس مخلوق مُعيَّن، ذو شخصيَّة مُحدَّدة، وهو الذي أصبح - منذ عصيانه الأمر الإلهي بالسجود لآدم (ع) - مصدر الشرِّ والخطايا لآدم وذُرِّيته، وقد دعا إبليس ربَّه في ذلك الحين أن يرزقه العمر الطويل ليقوم بمُهمَّته خير قيام... وقد أجابه إلى ذلك؛ ومن هنا كان أيُّ كفر أو انحراف أو عصيان في البشرية منسوباً إلى إبليس أو الشيطان.

غير أنَّ إبليس دعا ربَّه أن يهبه العمر إلى نهاية البشرية( ... إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ، فاستجاب له قسماً من هذا الدعاء ورفض الآخر، بأن أعطاه قسماً من العمر المطلوب...

( قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) (1) .

وهو يوم الظهور وتأسيس الدولة العالمية، حيث يقوم الإمام المهدي بقتله، وتبقى البشرية بدون شيطان، فتكون تربيتها أسهل وتكاملها أسرع، وربَّما تكون هذه السرعة أضعاف ما هي عليه في حياة إبليس.

فبينما كان إبليس، أعني طاعته والانحراف باتجاهه، محكَّاً للتمحيص منذ أول البشرية إلى عهد الظهور؛ لما عرفناه من وجود اختلافات أساسية في الأسلوب والنتائج، بين

____________________

(1) 38/ 80 - 81.

٥٧٥

التخطيط السابق والتخطيط اللاحق على الظهور.

وهذه الأُطروحة وكذلك الثانية، تصدق بغضِّ النظر عن بعض المناقشات الجانبية في مضمون الخبر، الذي سمعناه بهذا الخصوص، والذي يطول بنا المقام في سردها.

غير أنَّ أهمَّ مناقشة تواجهها هذه الأُطروحة، بعد التسليم بأنَّ ذاك الخبر وحده غير كافٍ في الإثبات التاريخي... هي جهلنا بمقصود القرآن الكريم من ( الوقت المعلوم )، فإنَّ القرآن ظاهر فعلاً بأنَّ الوقت المعلوم أقصر مدَّة وأقرب زماناً من ( يوم يبعثون )، إلاَّ أنه لم يُحدِّد هذا الوقت المعلوم... فلعلَّ المراد به يوم موت إبليس نفسه، فكأنَّه قال: إنَّك من المـُنظرَين إلى حين موتك. ولعلَّ المراد به يوم ظهور المهدي، كما هو مُبيَّن في هذا الخبر، ولعلَّ المراد به يوم وجود المجتمع المعصوم، كما سنسمع في الأُطروحة التالية، كما لعلَّ المراد الإشارة إلى وجود حادث كوني مُعيَّن يودِّي بحياة الشيطان، أو يجعل حياة الشياطين مُتعذِّرة.

وحيث لا مُعيِّن لأحد هذه الاحتمالات من ظاهر القرآن الكريم، وهذا الخبر وحده غير كافٍ للإثبات؛ إذن فلا يمكن التأكُّد من صحَّة الأُطروحة الأُولى.

الأُطروحة الثانية: الأُطروحة الزمنية، وهي أن نفهم من مقتل إبليس مقتله في نفوس البشر، بحيث إنَّه مهما كان في ذاته – لا يبقى له أيُّ اثر أو وجود عملي على سلوك البشر إطلاقاً، وذلك حين تجتثُّ الدولة الإسلامية العالمية العادلة عناصر السوء والفساد من الأرض، وتُبدِّلها إلى جوِّ الخير والصلاح، في نفوس وعقول الأفراد أجمعين، فحينئذ لا يبقى لوجود إبليس أيَّة قيمة من الناحية العملية، وأمَّا بقاؤه حيَّاً في عالمه أو موته هناك، فهذا غير مُهمٍّ بالنسبة إلينا، وحيث كان وجود الخير والصلاح في البشرية كلها ناتجاً من جهود الإمام المهدي (ع) وتعاليمه وقوانينه، كان نسبة مقتل إبليس إليه أمراً صحيحاً، وإنَّما كان مقتله في مسجد الكوفة - على ما نطق به الخبر - لأنَّ هذا المسجد بصفته أحد المراكز المـُهمَّة في العاصمة العالمية الكوفة، سيكون هو منطلق تعاليم المهدي (ع) ونشر هدايته على العالم، ومن الواضح عندئذ كيف يتأسَّف الشيطان لذلك ويجزع - كما سمعنا من الخبر - ويكون مقتولاً في النفوس بسيف المهدي (ع) وسلاحه المعنوي.

إنَّ هذه الأُطروحة تنطلق من آيات القرآن الكريم أيضاً، فإنَّ مجموعة منها صريحة في

٥٧٦

أنَّ إبليس ليس مُتسلِّطاً على كل البشر، ولا نافذ الأمر فيهم جميعاً، بل هناك جماعة مؤمنة خارجة عن نطاقه، وإنَّ الإنسان إذا وصل في إيمانه درجة مُعيَّنة، فإنَّه يكون في منجاة كاملة من أضاليل إبليس وشبهاته.

قال الله تعالى:( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (1) .

وقال تعالى:( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (2) .

وهذا النص مُلحق بقوله:( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) (3) .

وقال عزَّ وجلَّ:( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (4) .

وقال عزَّ وجلَّ:( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) (5) .

إلى غير ذلك من الآيات، وهي واضحة في أنَّ مستوى مُعيَّن من الإيمان يكون دافعاً لسلطان إبليس وإغوائه، باعتراف إبليس نفسه، كما دلَّت عليه الآيتان الأوَّليان، ويقول الله عزَّ وجلّ في الآيتين الأخيرتين.

وهذا المستوى من الإيمان يوجِده المهدي (ع) في البشرية خلال حياته، ومن ثَمَّ

____________________

(1) 15 / 39 - 40.

(2) 38 / 82 - 83.

(3) 15 / 42.

(4) 15 / 42.

(5) 16/99 -100.

٥٧٧

يكون هو القاتل لإبليس مُباشرة بسيفه المعنوي، ولا أقلَّ من أنَّه يضع المنهج العام لتربية البشرية على الخطِّ الطويل، لكي تصل إلى عصر ( المجتمع المعصوم )، وعندئذ يكون مقتل إبليس في نفوس البشر أكيداً وواضحاً؛ لوجود التنافي الأساسي والأكيد بين العصمة والمعصية.

وسيكون هذا المجتمع آخر نهاية محتملة له، نعلم من خلاله بموت إبليس أو انفصاله عن البشرية نهائياً؛ لأنَّه إمَّا أن يموت يومئذ، أو يموت في حياة المهدي (ع)، فيكون عند حصول المجتمع معصوماً ميِّت، أو يموت – كما قلنا – بحادث كوني يجعل حياته مُتعذِّرة، وليس ذلك إلاَّ صفة العصمة، التي يتحلَّى بها المجتمع يومئذ، فإنَّها تقتله أو تجعله مُنفصلاً عن البشرية بشكل نهائي، طبقاً للأطروحة الثانية.

بقيت آية واحدة قد يخطر على البال منافاتها لما قلناه، وهي قوله تعالى:( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ) (1) .

فقد يبدو أنَّها دالة على بقاء الشيطان إلى يوم القيامة، كما أنَّها دالة على أنَّ اتِّباع الشيطان هم أغلب البشرية على طول الخطِّ، وإلى نهايتها، وهذا ينافي مع وجود المجتمع المعصوم الباقي إلى نهاية البشرية.

والصحيح أنَّها لا تدلُّ على كلا الأمرين، وإنَّما تدلُّ على أمور أخرى نذكر منها:

الأمر الأول: توقُّع الشيطان البقاء إلى يوم القيامة، وهو توقُّع لم يكن يلقَ قبولاً من قِبل الله عزَّ وجلَّ، كما عرفنا في قوله تعالى:( إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) .

الأمر الثاني: إنَّ الشيطان لو بقي إلى نهاية البشرية، فإنَّ أتباعه سيكونون هم الأغلب من البشر، وهذا صحيح، إلاَّ أنَّ بقاءه سوف لن يحدث، وهذه الآية غير دالة عليه؛ لأنَّه يقول:لئن أخرتني إلى يوم القيامة، لا أنَّك ستؤخرني فعلاً.

الأمر الثالث: إنَّ الشيطان ما دام موجوداً، فإنَّ أغلب البشر من أتباعه، وهذا صحيح، وسيبقى موجوداً إلى( إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) ، وعندئذ تنتهي حياته، فيسود الصلاح والعدل الكامل ربوع البشرية.

وهذا يصلح بُرهاناً على نقطتين، نضمُّهما إلى استنتاجاتنا السابقة:

____________________

(1) 17 / 62.

٥٧٨

النقطة الأُولى: إنَّ الشيطان ما دام موجوداً في الواقع، فإنَّه مُتسلِّط على البشرية، ولا يعقل انفكاكه عن ذلك إلاَّ بموته، وهذا يُبرهن على عدم صحَّة الأُطروحة الرمزية، بل إنَّما يمكن الخلاص منه بقتله الحقيقي فقط.

النقطة الثانية: إنَّ تطبيق العدل الكامل متوقِّف على قتل الشيطان؛ لأنَّه يتوقَّف على شيوع الإيمان بين البشر، وهذا لا يكون في حياة إبليس، إذاً؛ فلا بدَّ من قتله من أجل ذلك، فيكون قتله خطوة أُولى لصلاح البشرية وتطبيق العدل الكامل فيها؛ ومن هنا يمكننا أن نفهم من الوقت المعلوم الذي هو نهاية عمر إبليس يوم قتل المهدي (ع) إيَّاه، فإنَّه لا بدَّ له أن يقتله من أجل فسح المجال لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة، وإنجاح تخطيط التكامل في عصر ما بعد الظهور.

ولا ينبغي أن نتحدَّث عن إبليس أكثر من ذلك.

الجهة الرابعة: الحجُّ في عصر المهدي (ع).

إنَّه بعد العلم أنَّه (ع) سوف يُعيده إلى أحكامه الواقعية، التي كان عليها في عصر نبي الإسلام (ص)، كما يفعل في كل مناحي الحياة، وقد يُضيف إليه أحكاماً أخرى، في جملة ما يُضيف من أحكام... بعد هذا لا يبقى ما يمكن ذكره غير نقطتين.

النقطة الأُولى: أنَّه (ع) - كما سمعنا في ما سبق - سيقوم بتقليص حجم المسجد الحرام، وإرجاعه إلى أُسسه التي كان عليها في صدر الإسلام، وهي الأُسس التي بناها إبراهيم النبي (ع)، وبذلك لا تبقى ربع المسافة التي عليها، المسجد في عصرنا الحاضر، وخاصة بعد التوسُّعات الضخمة التي أُدخلت عليه أخيراً.

النقطة الثانية: إنَّ ضيق المسجد لا يعني قلَّة الحُجَّاج، بل إنَّ الحُجَّاج سيتكاثرون بشكل هائل من كل العالم البشري، حين يعم الإيمان وجه الكرة الأرضية، وسيكون حجُّهم مُخلصاً، إطاعة للوجوب أو الاستحباب الشرعيين، لا للتجارة ولا للنزهة، كما كان عليه الناس قبل الظهور.

ومن هنا؛ توجد مشكلة مُهمَّة، هي ضيق المسجد بالطائفين ضيقاً شديداً، وسيواجه المهدي (ع) هذه المشكلة بعدَّة أحكام تقوم بتذليلها... أشارت الأخبار إلى اثنين منها:

الأول: جواز الطواف خلف مقام إبراهيم، الأمر الذي كان مُختلفاً فيه بين علماء المسلمين قبل الظهور، فإنَّنا سمعنا في خبر سابق أنَّه يُعيد مقام إبراهيم إلى موضعه الطبيعي مُلتصقاً بالبيت، أعني الكعبة المـُشرّفة، وقد دلّت القرائن على صحَّة هذا الخبر - على ما

٥٧٩

قلنا - ومعه يتعيَّن أن يكون الطواف خلف المقام، ولا تحديد له بعد ذلك إلاَّ جدار المسجد نفسه.

الثاني: منع الطواف المستحب مع وجود كثرة الطائفين طوافاً واجباً، وهذا ما دلَّ عليه الخبر الذي رويناه في الجهة الأُولى من هذه الخاتمة ( أن يُسلِّم صاحب النافلة )، يعني الطواف المـُستحبّ ( لصاحب الفريضة )، يعني الطواف الواجب ( الحجر الأسود )، يعني استلام الحجر، وهو عمل مُستحب ( والطواف ) فتُعطى القُدْمة لصاحب الفريضة، وبذلك يقلُّ عدد الطائفين بالبيت إلى حدٍّ كبير.

الجهة الخامسة: ذكرت الأخبار بعض الإنجازات الأخرى للمهدي في دولته، نذكر أهمَّها باختصار:

الأمر الأول: أنَّه يمنع المساجد المصوَّرة، أو بتعبير آخر: أنَّه يمنع تصوير المساجد وزخرفتها، كما يمنع - كما سمعنا أيضاً - ارتفاع بنيانها، ويهدم منها ما كان مرتفعاً، ويهدم كل مسجد أُسِّس على غير تقوى.

الأمر الثاني: أنَّه يرجم الزاني المـُحصن ويقتل مانع الزكاة، وهذه أحكام إسلامية نافذة المفعول منذ صدور الإسلام، إلاَّ أنَّها لن تكون مُطبَّقة قبل عصر الظهور، فهو أوَّل مَن يقوم بهما بعد عصر رسول الله (ص).

وهذه المعاصي قد تحدث في أول عصر الدولة العالمية، قبل رسوخ الإيمان في نفوس البشر أجمعين.

الأمر الثالث: أنَّه يجب في العصر الحاضر أداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر، من مختلف المذاهب والأديان، ويجب ألاَّ يحدو بالفرد إذا رأى من الآخر انحرافاً أو كفراً أن يأكل عليه أمانته.

وأمَّا إذا ظهر الإمام واستتبَّت دولته، فإنَّه قد يتصرَّف في هذا الحكم المطلق ( فيُحلُّ ويُحرِّم) كما نطق الخبر، فيمنع عن أداء الأمانة لغير المؤمن، فإنَّه بينما كان أداء الأمانة دالاَّ ًعلى عدالة الأمين واستقامته قبل الظهور، فإنَّ عدم أدائها بعد الظهور سيكون من أهمِّ الخطوات لمـُحاربة الكفر والانحراف واجتثاثه، وليس على الأمين من ضير بعد أن أمره التشريع المهدوي بحبس الأمانة.

الأمر الرابع: أنَّ الأخبار العديدة تصف اتِّساع الكوفة وعمرانها بشكل مُنقطع النظير، وسيُصبح المتر من أراضيها غالي الثمن ومهماً جدَّاً، ولا غرو بعد أن تُصبح هي

٥٨٠