موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 188673
تحميل: 8739


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188673 / تحميل: 8739
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وحينما يقضي على الدجّال تكون مهمّته الثانية تأييد المؤمنين في العالم والقضاء على الكافرين والمنحرفين. أمّا المؤمنين فيواجههم ويحدّثهم عن درجاتهم في الجنّة، وأمّا الكافرين فيقاتلهم على الإسلام ويدق الصليب بمعنى أنّه يقضي على المسيحية المعروفة المتخذة للصليب، ويقتل الخنزير، بمعنى أنّه يحرّم أكله، ويأمر بالقضاء على الموجود للتدجين منه ( ويضع الجِزية على مَن بقي على دين اليهودية والنصرانية ) كما فعل رسول الله (ص) معهم، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى فيصلّي عليه المسلمون.

وأمّا المهدي (ع) فهو الشخص الرئيسي من هؤلاء المؤمنين الذين يواجههم المسيح. وحين تحين الصلاة بعد وصولهم إليه أو وصوله إليهم، يدعوه الإمام المهدي (ع) احتراماً له، أن يكون هو الإمام في صلاة الجماعة، فيأبى ذلك قائلاً: لا، إنّ بعضكم على بعض أُمراء، تكرمة الله لهذه الأُمّة يعني: أنّ الأُمّة الإسلامية لابد - في الحكم الإلهي - أن يحكمها شخص منها، وحيث أنّ المسيح عيسى بن مريم ليس منها، باعتباره نبيّاً لدينٍ سابق، إذاً فلا ينبغي أن يحكم المسلمين أو أن يأمّهم في الصلاة. وبعد هذا الاعتذار، يتقدّم المهدي إماماً للصلاة ويصلّي المسيح خلفه مأموماً.

وسيحين خلال هذه المدّة، الوقت المناسب لمنازلة الكافرين والمنحرفين، متمثّلين بيأجوج ومأجوج، وبالرغم من أنّ هذه القيادة العالمية إنّما هي بيد الإمام المهدي (ع) غير أنّ قيادة الحرب ستكون بيد المسيح (ع)، ومن هنا نُسب القضاء على يأجوج ومأجوج إليه، كما نُسب قتل الدجّال إليه أيضاً، مع أنّ هناك من الأخبار ما يدل على أنّ المهدي (ع) هو الذي يقتل الدجّال(1) وكلا النسبتين صادقة، باعتبار وحدة العمل والهدف.

وهذا التسلسل الفكري، يمكننا دمجه بفهمنا العام السابق للحوادث، وربطه بالتخطيط العام اللاحق له، فينتج لدينا النتيجة التالية: أنّ الدجّال ليس شخصاً معيّناً - كما قلنا - وإنّما هو كناية عن الحضارة المادية في قمّتها وأوج عِزّها وإغرائها. ومن الواضح أنّ مثل هذه الحضارة لا يمكن القضاء عليها بقتل شخص معيّن، وإنّما تحتاج إلى عمل فكري وعسكري عالمي للقضاء عليها، وتحويل الوضع إلى الحكم العادل الصحيح.

وهذا العمل موكول أساساً إلى المهدي (ع) بصفته القائد الأعلى ليوم العدل

____________________

(1) انظر منتخب الأثر ص480 عن إكمال الدين وغيره.

٦٠١

الموعود. ومن هنا ذكرت الأخبار بأنّه يقتل الدجّال. هذا لا ينافي أنّ شخصاً من أصحابه وتحت إمرته يشارك في هذه المهمّة مشاركةً رئيسية، بحيث تصحّ نسبة القتل إليه أيضاً، كما تصحح كونه مسيحيّاً مصلحاً للعالم.

والمستفاد عموماً من الأخبار: أنّ نزول عيسى (ع)، يكون بعد ظهور المهدي ولكن قبل استتباب دولته، يعني خلال محاربته للكافرين والمنحرفين وممارسته للفتح العالمي. وهناك(1) من الأخبار ما يدل على أنّه يبايعه في المسجد الحرام مع أصحابه الخاصّة الأوائل، غير أنّه غير قابل للإثبات التاريخي.

وهذا هو المراد من كون المهدي في وسط الأُمّة، وعيسى في آخرها، لو صحّ الخبر؛ لأنّه ينزل بعد ظهور المهدي، ويبقى بعد وفاته، فأصبح كأنّه بعد المهدي في الزمان، فيصدق عليه مجازاً، أنّه في آخر الأُمّة.

والمسيح يواجه بعد نزوله يأجوج ومأجوج، قد خرجوا من الردم، وقد عرفنا أنّهما يمثّلان الحضارة المادية ذات الفرعين الأساسيين في البشرية، ويكون مسؤولاً - خلال الفتح العالمي - عن محاربتهما والقضاء عليهما، وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك مفصّلاً.

وهنا قد يبدو أنّ الخبر الدال على ذلك، دال أيضاً على تأخّر خروج يأجوج ومأجوج من الردم، على نزول عيسى، ثم على ظهور المهدي، وهذا مخالف لفهمنا السابق؛ لأنّ الحضارة المادية بكلا فرعيها إنّما تكون قبل الظهور.

إلاّ أنّ دلالة الخبر على ذلك غير صحيحة؛ لأنّه دال على أنّ عيسى بعد أن يجتمع بالمؤمنين الصالحين، يخبره الله تعالى بإخراج يأجوج ومأجوج ( فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إنّي قد أخرجت عباداً لي، لا يُدان أحد بقتالهم ). إنّ هذا التوقيت توقيت للإخبار لا للخروج من الردم، وليس في الخبر الذي يتلقّاه هذا النبي أنّهم قد خرجوا لفورهم.

وهذا الإخبار لا يتضمّن معناه المطابقي اللفظي بطبيعة الحال، وإنّما يتضمّن الأمر بالمبادرة إلى قتالهم بعد أن التأم جمع المؤمنين مكوّناً من: المهدي والمسيح (ع) وأصحابهما، وقد أزفت ساعة الصفر للفتح العالمي، واقتضى التخطيط الإلهي ذلك.

ثم يكشف المهدي عن مواريث الأنبياء بشكلها الواقعي، كما خلفها الأنبياء

____________________

(1) انظر إلزام الناصب ص307.

٦٠٢

أنفسهم في الأرض، كلٌّ في منطقته، وهي: تابوت آدم (ع) أي الصندوق الذي كان يحفظ فيه كتاباته الدينية وتشريعاته، وعصر موسى (ع) والتوراة، والزبور، والإنجيل، وسائر كتب الله، فيبدأ هو والمسيح (ع) بمناقشة أهل الأديان السماوية بهذه الكتب والمواريث.

فيدخلون في الإسلام، وأمّا المتبقّي منهم، فيقول الخبر إنّهم يدخلون في ذمّة الإسلام ويدفعون الجِزْية، كما كان الحال في زمن رسول الله (ص)، ريثما يتمّ بالتدريج دخولهم في الإسلام.

وعندئذٍ ( تذهب الشحناء والتباغض والتحاسد ) ويعمّ الغنى أُمّة محمد (ص) وهم كل البشر ( وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ) عند استتباب الدولة العالمية.

فهذا هو المضمون العام لهذه الأخبار، وأمّا التفاصيل فسنعرفها في الجهات الآتية.

الجهة الرابعة: في الحديث عن بعض خصائص المسيح عيسى بن مريم (ع).

ونتكلّم عن ذلك في عدّة نواحي:

الناحية الأُولى: حين عبّرت الأخبار السابقة بنزول عيسى (ع)، فإنّما تريد نزوله من السماء بعد أن رفعه الله تعالى إليه؛ حين أراد اليهود قتله، فشُبّه لهم وقتلوا غيره مكانه... وهذا انطلاق من الفهم التقليدي للمسلمين عن ذلك، وقد ورد في أخبار الفريقين ما يؤيّده ويدل عليه.

ونحن لا نريد الدخول في إثبات ذلك الآن، وحسبنا أنّ القرآن الكريم بعد ضمّ بعض آياته إلى بعض غير صريح في ذلك... وإنّما غاية ما ينفعنا في المقام هو: أن نلتفت إلى أنّ مجيء المسيح مع المهدي لا يعني صحّة هذا الفهم بالتعيين، بل يمكن رجوعه بقدرة الله تعالى مهما كانت خاتمة حياته السابقة، وكما هو واضح.

الناحية الثانية: في الحكمة من بقاء المسيح (ع) خلال هذه المدّة الطويلة طبقاً للفهم التقليدي المشار إليه:

إنّ الحكمة من ذلك، حسب ما تدركه عقولنا الآن، تتمثّل في عدّة أُمور:

الأمر الأوّل: اختصاص هذا النبي (ع) بمميّزات شخصية أساسية من دون سائر الأنبياء: كولادته الإعجازية بدون الأب، وإحيائه للموتى، ورفعه إلى السماء. كما اختص موسى بالكلام مع الله عزّ وجلّ، ومحادثته مدّة عشرة أيام كاملة. واختص محمد، نبي الإسلام (ص) بالقرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة. ولابد لكل نبي رئيسي من خصائص تميّزه على أيّ حال.

٦٠٣

الأمر الثاني: البرهان على صحّة الغيبة بالنسبة إلى المهدي (ع)، حيث يكون المسيح أكبر عمراً منه مهما طالت الغيبة بعدّة مئات من السنين، هي الفرق بين عصر ولادة المسيح وعصر ولادة المهدي (ع) وهي حوالي التسعمئة عام.

وحيث اعترف الفكر التقليدي الإسلامي ببقاء المسيح حيّاً لم يمت، إذاً، ففي الإمكان تماماً بقاء مَن هو أصغر منه عمراً، وإن لم يكن هو أولى بالبقاء منه.

وهذه تماماً هي الحكمة من بقاء الخضر (ع) حيّاً، كما اعترف به الفكر التقليدي الإسلامي أيضاً، ووردت به الأخبار من الفريقين. وورد في الأخبار الإشارة إلى هذه الحكمة بالذات لبقائه(1) . فإنّ عمره يزيد على عمر المسيح والمهدي معاً باعتبار أسبق ولادة منهما. فإذا كان بالإمكان بقاء الإنسان خلال هذا الدهر الطويل، فبالأولى أن يبقى شخص آخر بمقدار أقل منه. ولئن كان المسيح يعيش في السماء، فإنّ الخضر يعيش على الأرض تماماً كالمهدي (ع) وهو يزيد على عمره بأكثر من ألفي عام.

الأمر الثالث: تكامل المسيح (ع) خلال هذا العصر الطويل، من التكامل الذي سمّيناه بتكامل ما بعد العصمة. وقد برهنّا التاريخ السابق(2) على ثبوته للمهدي (ع) من خلال عمره الطويل على الأرض، ومعاشرته للأجيال الطويلة للبشرية.

فكذلك يمكن القول بالنسبة للمسيح في عمره الطويل في السماء، في الملكوت الأعلى، وما يشاهده من عظمة الله وحكمته وعدله في ذلك العالم، الأمر الذي يوجب له أكبر الكمال.

وسوف يستفيد المسيح من هذا التكامل العالي، في تدبير المجتمع العالمي العادل، تماماً كما يستفيد المهدي (ع) من تكامله العالي أيضاً. فانظر إلى هذه القيادة العالمية الرشيدة المكوَّنة من هذين التكاملَين العاليين.

____________________

(1) أخرج الصدوق في إكمال الدين ( نسخة مخطوطة ) بسنده عن سدير الصيرفي، عن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديثٍ طويل يقول فيه: وأمّا العبد الصالح أعني الخضر، فإنّ الله تبارك وتعالى ما طوّل عمره لنبوّةٍ قدّرها له، ولا لكتابٍ ينزل عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة مَن كان قبله من الأنبياء، ولا لإمامةٍ يلزم عباده الإقتداء بها، ولا لطاعةٍ يفرضها له، بلى إنّ الله تبارك وتعالى لما كان في سابق علمه أن يقدّر من عمر القائم في أيام غيبته ما قدّر، وعلم من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طول عمر العبد الصالح من غير سببٍ أوجب ذلك إلاّ لعلّة الاستدلال به على عمر القائم؛ ليقطع بذلك حجّة المعاندين، ولئلاّ يكون على الناس حجّة... الحديث.

(2) تاريخ الغيبة الكبرى: ص 504 وما بعدها إلى عدّة صفحات.

٦٠٤

الناحية الثالثة: في الحكمة من مشاركة المسيح في الدولة العالمية العادلة.

يؤثّر وجود المسيح (ع) في الدولة العالمية، وبالتالي في التخطيط اللاحق للظهور، في حدود ما نفهم الآن، في عدّة أُمور:

الأمر الأوّل: إيمان اليهود والنصارى به، وهم يمثّلون ردحاً كبيراً من البشرية، وذلك حين يثبت لهم بالحجّة الواضحة أنّه هو المسيح يسوع الناصري نفسه، وأنّ الإنجيل والتوراة إنّما هي هكذا وليست على شكلها الذي كان معهوداً، وأنّ ملكوت الله الذي بشّر به هو في حياته الأُولى على الأرض قد تحقّق فعلاً، متمثّلاً بدولة العدل العالمية.

ولن يبقى منهم شخص من ذلك الجيل المعاصر للظهور إلاّ ويؤمن به، كما هو المستفاد من قوله تعالى:

( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) (1) .

فإنّ الاستثناء بعد النفي يفيد العموم.

الأمر الثاني: أنّه نتيجة للأمر الأوّل سوف يتيسّر الفتح العالمي بدون قتال، بل نتيجة للإيمان بالحق والإذعان له، وقد سبق أن تكلّمنا عن ذلك مفصّلاً، وعرفنا أنّ الجانب الفكري في الفتح العالمي سيكون أوسع بكثير من الجانب العسكري.

الأمر الثالث: تكفّل المسيح عيسى بن مريم (ع) للقيادة في جانب أو عدّة جوانب من الدولة العالمية، وتحمّله مسؤوليّتها، كما لو أصبح في مركز مشابه لرئيس الوزراء في الدولة الحديثة، أو تكفّل الحكم في رقعة كبيرة من الأرض، أو الدولة العالمية.

الناحية الرابعة: إنّ المسيح ابن مريم (ع) وإن كان نبيّاً مرسَلاً، وليس الإمام المهدي (ع) كذلك، غير أنّ القيادة العليا تبقى موكولةً إلى المهدي (ع)؛ وذلك لعدّة وجوه نذكر بعضها:

الوجه الأوّل: إنّ الإمام المهدي (ع) هو الوريث الشرعي للأُطروحة العادلة الكاملة عن نبي الإسلام (ص)، يروي عنه وعن قادة الإسلام الأوائل تفاصيلها وحل معضلاتها، وفهم ظواهرها وخفاياها؛ وبالتالي فقد مرّ الإمام المهدي (ع) بجوٍّ كافٍ للتعرّف على هذه الأُمور على يد آبائه (ع)، وهو ممّا لم يحدث أن وُفّق له المسيح عيسى بن مريم (ع).

____________________

(1) 4 / 159.

٦٠٥

الوجه الثاني: القاعدة العامّة التي نصّت عليها الأخبار التي سمعناها، وهي يقولها المسيح نفسه حين يعتذر عن تقدّمه إمامة الجماعة بالمسلمين: إنّ بعضكم على بعض أُمراء، تكرمة الله هذه الأُمّة.

فإنّه بصفته نبيّاً لملّةٍ أُخرى غير دين الإسلام، يكون من الوهن في الحكمة الإلهية أن يكون حاكماً للمجتمع المسلم بما فيه من أولياء وصالحين، وكأنّه يظهر عندئذٍ عجز الأُمّة الإسلامية عن إيجاد قائد كبير منها. بل إنّ الحكمة والتفضّل الإلهيين اقتضى أن يكون الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية مسلماً بالأصل، لا يمت إلى أيّ دينٍ آخر بصلة، مضافاً إلى صفاته الأُخرى.

الناحية الخامسة: دلّت الروايات على أنّ بقاء المسيح في الأرض بعد نزوله أربعين سنة، ولعلّ المراد به مجرّد فكرة الكثرة، بشكل يناسب أن تكون أكثر أو أقل بمقدارٍ ما. وحيث يكون من الراجح، كما سوف نشير أنّ الإمام المهدي (ع) لن يبقى في الحياة بعد ظهوره، إلاّ حوالي العشر سنوات، إذاً فسوف يبقى المسيح بعد المهدي (ع) حوالي ثلاثين عاماً، وهي فترة ليست بالقصيرة بالنسبة إلى النظام المهدوي الجديد. ويؤيّد ذلك قوله في رواية أُخرى، وعيسى في آخرها. فإنّه لا يكون في آخرها إلاّ إذا كان متأخّراً في البقاء في الحياة بعد الإمام المهدي (ع).

ومهما يكن من شكل الرئاسة العليا لدولة العدل العالمية بعد الإمام المهدي (ع) - وهذا ما سنذكره في الباب الآتي - فإنّ المسيح (ع) لن يتولّ الرئاسة على أيّ حال، بل سيكون له قسط من العمل والتوجيه، أو يستمر بنفس صفته التي كان عليها بين يدي شخص الإمام المهدي (ع).

نعرف ذلك من القاعدة التي سمعناها: إنّ بعضكم على بعض أُمراء. ومن الواضح أنّ الأولياء الموجودين بعد المهدي (ع) كلهم مسلمون بالأصل غير المسيح؛ لأنّه نبي لدين سابق، فيكون هؤلاء الأولياء أولى منه بتولّي الرئاسة.

وإذ تنتهي حياته ويحين أجله، تسكت الروايات عن كيفية موته وسببه. والمفروض أنّه يموت كما يموت غيره من البشر، فهو الآن يصعد بروحه وحدها إلى السماء، بعد أن كان قد صُعد فيما سبق بروحه وجسمه معاً.

إنّ قانون:( كلّ نفسٍ ذائقة الموت ) يعيّن عليه الموت مهما طال عمره؛ فإنّه قانون عام

٦٠٦

لا يُستثنى منه نبي ولا ولي. وحيث لم يكن ارتفاعه الأوّل موتاً حقيقياً أو كاملاً، كان اللازم بمقتضى هذا القانون: أن يموت الموت الحقيقي الموعود، ولو بعد مئات أو آلاف من عمره الطويل.

فهذا هو الحديث عن بعض النواحي المهمّة من خصائص المسيح (ع).

الجهة الخامسة: في بعض خصائص أهل الكتاب وعقيدتهم يومئذ.

ونتكلّم عن ذلك في عدّة نواحي:

الناحية الأُولى: دلّت بعض الروايات، بما فيها بعض ما سبق: على أنّ المهدي (ع) يستخرج التوراة والإنجيل، وكل الكتب والصحف المـُنزَلة على الأنبياء من غار في أنطاكية، فيحتج بها على اليهود والنصارى، فيدخلون في الإسلام.

إلاّ أن هذا التعيين للمكان لا يخلو من بعض نقاط الضغف:

النقطة الأُولى: عدم كفاية هذه الروايات لإثبات هذا الأمر تاريخياً؛ فإنّها روايات قليلة نسبيّاً وضعيفة السند.

النقطة الثانية: إنّنا أشرنا خلال فهمنا لهذه الأخبار: أنّ المهدي (ع) يستخرج كل كتاب من المكان المذخور فيه... وذلك بعد ضمّ أمرين إعجازيين:

الأمر الأوّل: انحفاظ هذه الكتب من التلف خلال آلاف الأعوام.

الأمر الثاني: إطلاع الإمام المهدي على مكانها، وهي موزّعة في بقاع العالم.

وإنّما حدثت هذه المعجزة باعتبار هداية الناس بهذه الكتب بعد الظهور، فأصبحت مطابقة لقانون المعجزات، على أنّه يمكن حمل الأمرين على الشكل الطبيعي أيضاً.

وأمّا اجتماع هذه الكتب كلها من غار أنطاكية، فهو ممّا لا مبرّر له لا إعجازي ولا طبيعي، كما هو واضح، فيكون باطلاً.

الناحية الثانية: كيف يثبت للناس أنّ هذه هي الكتب الحقيقية؟ وكيف يثبت أنّ هذا هو عيسى بن مريم (ع) نفسه، وأن هذه هي الكتب الواقعية؟ مع أنّ الناس غير مشاهدين وغير معاصرين له ولا لها، وخاصّة أنّ هناك في اليد نُسَخ من التوراة والإنجيل ستكون مختلفة عن تلك النسخ الأصلية.

وجواب ذلك: أنّ هذا الإثبات يتم بعد إقامة الحجّة الكاملة من قِبَل المهدي (ع) على مهدويّته وصدقه، بحيث يكون كل ما يخبر به مسلّم الصحّة عند الناس؛ فيعرّفهم على

٦٠٧

المسيح وعلى التوراة والإنجيل، مضافاً إلى ما قد يضيفه المسيح نفسه من حجج وبيّنات، فيثبت بها نفسه وصدقه، إلى جنب عدالة القضية ككل.

وبهذا نعرف أنّ قضية نزول المسيح أو استخراج الكتب لا يكون بمجرّد حجّة كافية؛ لوضوح أنّ نزول عيسى من السماء لن يشاهده إلاّ القليل، وربّما لا يشاهده أحد.

فيحتاج هو على الأرض إلى إثبات لشخصيّته، وكذلك الكتب فإنّ مجرّد وجودها هناك لا يعني صدقها ومطابقتها للواقع، ما لم يقترن كل ذلك بالحجّة الكافية لإثباته.

نعم، بعد أن يثبت كل ذلك بالحجّة، وقد سبق أيضاً للناس التبشير بحصول ذلك في عصر المهدي (ع) في الأخبار التي سمعناها، يكون ذلك بطبيعة الحال، دعماً لصدقه وعدالة قضيّته.

الناحية الثالثة: أنّه دلّت بعض الأخبار على أنّ الإمام المهدي (ع) أنّه قال:

( لو ثُنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم )(1) .

كما يؤيّد أيضاً بقوله تعالى:

( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ

____________________

(1) انظر إرشاد الديلمي ج 2 ص6 ط بيروت.

٦٠٨

فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (1) .

( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) .

وقال تعالى:

( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ... ) الآية(2) .

حيث دلّت هذه النصوص على أنّه عند الحكم العادل، ينبغي أن تنزل كل الكتب السماوية إلى حيّز التطبيق، وكل منها على مَن يؤمن بها. وقد وصف من يعصي حكم التوراة بالكافرين تارةً وبالظالمين أُخرى، ووصف مَن يعصي حكم الإنجيل بالفاسقين. كل ما في الأمر أنّ الزمام الأعلى للحكم الإسلامي الذي أنزله الله تعالى في القرآن، مهيمناً على الملل السابقة.

وإنّما تمنّى أمير المؤمنين (ع) إنجاز ذلك، وإنّما يقوم المهدي (ع) به، تطبيقاً لهذا التأكيد القرآني الذي سمعناه.

ويمكن فهم هذا التأكيد على أساس عدّة أُطروحات محتملة:

الأُطروحة الأُولى: أن يُراد من تطبيق هذه الكتب: تطبيق ما أمرت به من الدخول في الإسلام، وبشّرت به من وجود نبي الإسلام. وسيكون هذا واضحاً في النسخ التي سوف يجيء بها المهدي (ع) من هذه الكتب.

وهذا هو الفهم التقليدي لهذه الآيات القرآنية، وهو فهم محترم لولا أنّه يخالف ظاهر بعض الآيات، فإنّ قوله تعالى:( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إلى أن يقول:وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ظاهر بأنّ المطلوب هو تطبيق هذه الأحكام نفسها التي عدّدتها الآية الكريمة. وقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ... لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) ظاهر بأنّ الرفاه الاجتماعي ناتج عن إقامة الأحكام التفصيلية للكتب نفسها، وقَصْرها على مجرّد تبشيرها بالإسلام، خلاف

____________________

(1) 5 / 44 - 48.

(2) 5 / 66.

٦٠٩

الظاهر لا يُصار إليه إلاّ بدليل.

الأُطروحة الثانية: أن يراد من تطبيق هذه الكتب، تطبيق أحكامها جملةً وتفصيلاً، وخاصةً تلك الكتب التي يخرجها المهدي (ع) ويثبت أنّها هي التوراة والإنجيل الواقعية.

إلاّ أنّ هذه الأُطروحة غير محتملة؛ لأنّ في هذه الكتب ناسخ ومنسوخ، وكلها منسوخة بشريعة الإسلام؛ فالتوراة ناسخة للشرائع السابقة عليها، والإنجيل ناسخ لأحكام التوراة، والقرآن ناسخ لأحكام الإنجيل. ومعنى كونه منسوخاً أنّه يجب العمل عليه في حكم الله عزّ وجلّ، بل يجب العمل فقط على الشريعة الأخيرة الناسخة لكل الشرائع السابقة، والتي ليس بعدها ناسخ لها، وهي الإسلام؛ ومعه، لا معنى للعمل بالأحكام التفصيلية للشرائع السابقة.

وهذا النسخ لا يختلف فيه الحال بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، فليس من الصحيح أنّ أحكام التوراة - مثلاً - منسوخة بالنسبة إلى المسلمين، ولكنّها سارية المفعول على اليهود؛ لأنّ الشرائع المتأخّرة عن التوراة إن لم تكن صحيحة، كانت تلك الأحكام منسحبة عن كل البشر، ولا معنى للتفريق.

على أنّ بعض هذه الكتب لا يحتوي على أحكام بالمرّة، أو يحتوي على شيءٍ قليل لا يكفي لتطبيق العدل: كالزبور والإنجيل نفسه.

الأُطروحة الثالثة: تطبيق هذه الكتب من زاوية عدد من الأحكام المهمّة التي أعربت عنها، وليس المراد تطبيقها جملةً وتفصيلاً.

فإنّ هناك من الأحكام ما كان ناشئاً من فهم معيّن للعدل والقانون بشكلٍ عام، حتى أصبح عدد من واضحاتها ضروري التطبيق في المجتمعات البشرية كلها على خط وجودها الطويل، منذ أن استطاعت تطبيق الشرائع.

وحيث يكون فهم العدل والقانون في الشرائع السماوية عموماً واحداً، أعني الشرائع بشكلها الواقعي، فإنّها صادرة من مصدر واحد حكيم لا نهائي في علمه وقدرته؛ كانت الأحكام الأساسية مشتركة ما بين الشرائع، لا تختلف إلاّ في حدود اختلاف الحاجات التربوية التي تمرّ بها المجتمعات.

وإذ يكون هذا الفهم العام موجوداً أيضاً في دولة العدل العالمية، لكن بشكل معمّق

٦١٠

وموسّع، يكون من المنطقي جدّاً: أن يكون تطبيق الأحكام الأساسية المشتركة الناشئة من ذلك الفهم مطلوباً أيضا ًفي هذه الدولة، مضافاً إلى الأحكام الأُخرى المطبّقة فيها.

وهذا التطبيق يكون عامّاً على كل البشر وغير خاص بأهل الملل السابقة، بل تدخل هذه الأحكام في ضمن قوانين الدولة العالمية، ويكون هو المراد من تطبيق هذه الكتب والحكم بمؤديات أحكامها، فإنّ تطبيق أحكامها الأساسية والفهم العام الذي تقوم عليه، يعتبر تطبيقاً لها، مضافاً إلى تطبيق تبشيراتها بالإسلام، واليوم الموعود، يوم العدل العالمي.

وهذه الأُطروحة صحيحة، بمعنى أنّها منسجمة مع سائر النصوص، ولا دليل على بطلانها، في تعيّن القول بصحّتها، مع بطلان الأُطروحتين السابقتين.

ولا ينافي صحّة هذه الأُطروحة، أن نلتزم بصحّة الأُطروحة الآتية لو رأينا الدليل عليها تامّاً، فإنّهما أطروحتان غير متنافيتين.

الأُطروحة الرابعة: أن يكون المراد من تطبيق التوراة والإنجيل، تطبيقهما على أهل الملل المؤمنين بهما دون غيرهم.

لكن لا بمعنى التفريق بينهم وبين غيرهم بشكلٍ كامل، الأمر الذي نفيناه فيما سبق، بحيث يكون الشامل لهؤلاء خصوص أحكام هذه الكتب دون سائر قوانين وأنظمة الدولة العالمية، بل إنّ هذه القوانين شاملة للجميع، ويختص هؤلاء بأحكام كتبهم، ريثما يدخلون في الإسلام تدريجيّاً.

وفي كل مادة قانونية اختلف فيه قانون الدولة عن حكم الكتب، كان الحاكم العادل مخيّراً بين تطبيق قانونه أو قانونهم عليهم، كما أفتى به الفقهاء المسلمون أيضاً، واستفادوا ذلك من قوله تعالى:

( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (1) .

يعني أحكم بينهم بحكم الإسلام، أو أعرض عنهم ودعهم ليطبّقوا أحكامهم الخاصّة.

وهذا هو الأنسب مع نصوص الأخبار التي سمعنا بهذا الصدد، حيث قالت: إنّ أحكام التوراة تُطبّق على أهل التوراة، وأحكام الإنجيل تُطبّق على أهل الإنجيل.

____________________

(1) 5 / 42.

٦١١

وعلى أيّ حال، فقد تكون كلا الأُطروحتين الثالثة والرابعة صادقتين، ومعه لا تكون الأُطروحة الثالثة منافية مع هذا الظهور الذي أشرنا إليه في الأخبار، كما هو غير خفي.

هذا وسيأتي في الكتاب القادم، ما يلقي ضوءاً إضافيّاً على فهم النصوص.

الناحية الرابعة: في وضع الجِزْية على أهل الكتاب.

صرّحت عدد من الأخبار السابقة، بأنّ السياسة العامّة للدولة العادلة مع أهل الكتاب، ما داموا لم يسلموا، هي إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم، كما كان عليه الحكم الإسلامي قبل الظهور، وكما طبّقه رسول الله (ص)، وبقي عليه الحكم المسلم ردحاً طويلاً من الزمن.

كل ما في الأمر أنّ بعض الأخبار نسبت هذه السياسة إلى المسيح عيسى بن مريم (ع)، وبعضها نسبته إلى المهدي (ع)؛ وقد عرفنا أنّ هذا اختلاف شكلي يعود إلى عمل واحد وأهداف مشتركة، يقوم بها هذان القائدان على السواء.

وهذا هو الظاهر من قوله: يضع الجِزْية. يعني يشرّعها ويطبّقها، بعد أن كانت مرتفعة بعد انحسار الحكم الإسلامي قبل الظهور، وهذا هو المشهور في الأخبار كما سمعنا، والموافق للقاعدة الإسلامية المعروفة الواضحة قبل الظهور.

غير أنّنا سمعنا في خبر منها: تخيير المهدي (ع) لليهود والنصارى بين الإسلام والقتل، كما يفعل بسائر المشركين والملحدين في العالم. وهو الرأي الذي مال إليه المجلسي في البحار(1) حيث نسمعه يقول:

وقوله: ( ويضع الجِزْية معناه: أنّه يضعها من أهل الكتاب ويحملهم على الإسلام ).

وهذا أمر محتمل في التصوّر على أيّ حال، حيث يكون ذلك من التشريعات المهدوية الجديدة التي تختلف عن الأحكام السابقة. غير أنّه ممّا لا يمكن الالتزام به بعد ظهور الأخبار بتشريع الجِزْية، وهي الأكثر عدداً بشكلٍ زائد.

وعلى أيّ حال، فالقضيّة منحصرة بمن يبقى على دين اليهودية والنصرانية، وهم عدد قليل يومئذٍ على كل حال، بعدما عرفنا من الفُرَص المتزايدة، والتركيز الكبير على نشر الدين الإسلامي في البشر أجمعين.

____________________

(1) ج13 ص198.

٦١٢

الباب السادس

في انتهاء حياة الإمام المهدي (ع)

وهو باب متكوّن من فصلٍ واحدٍ،

نتكلّم خلاله في عدّة جهات:

٦١٣

٦١٤

الجهة الأُولى: إنّ النتائج التي عرفناها فيما يخص المقام، تتلخّص في عدّة أُمور:

الأمر الأوّل: إنّ مدّة بقاء المهدي (ع) بعد ظهوره، ستكون محدودة، قد لا تزيد على العشر سنوات، كما سبق أن رجّحناه.

الأمر الثاني: إنّ المهدي (ع) سيمارس الحكم من حين سيطرته على العالم إلى وفاته، ومن ثم يكون تحديد عمره حين الظهور، تحديد لمدّة حكمه.

الأمر الثالث: إنّ المهمّة التي يتكفّلها المهدي (ع) في دولته، بعد التجاوز عن الأُمور الإدارية، هي وضع الأُسس العامّة لتربية البشرية، من خلال الأُطروحة العادلة الكاملة باتجاه المجتمع المعصوم.

الأمر الرابع: إنّ نظام المهدي (ع) سيبقى بعد وفاته، وستستمر دولته إلى نهاية البشرية أو قريباً من النهاية، وسنوضّح هذه الجهة في القسم الآتي من الكتاب.

ومن هنا لن تكون الآن هذه الأُمور مورداً للبحث، وإنّما نتكلّم عن أُسلوب وكيفيّة موت الإمام المهدي (ع) إذا شاء الله عزّ وجلّ أن يلحقه بالرفيق الأعلى.

الجهة الثانية: في الأخبار التي تنفع بهذا الصدد:

أخرج أبو داود(1) بسنده عن أُمّ سلمة في حديث يقول فيه (ص)عن المهدي (ع):

فيلبث سبع سنين، ثم يتوفّى ويصلّي عليه المسلمون.

____________________

(1) سنن أبي داود ج2 ص 423.

٦١٥

وأخرج ابن طاووس في الملاحم والفتن(1) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص):

( أُبشّركم بالمهدي... إلى أن قال: فيكون ذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين. ثم لا خير في العيش بعده، أو قال: لا خير في الحياة بعده ).

وأخرج الأربلي(2) عن أربعين الأصفهاني بسنده عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (ص):

( لو لم يبق من الدنيا إلاّ ليلة؛ لطوّل الله تلك الليلة حتى يملك رجل من أهل بيتي... إلى أن قال: فيملك سبعاً أو تسعاً، لا خير في عيش الحياة بعد المهدي.

وقال في البحار(3) : على ما ورد عنهم (صلوات الله عليهم) فيما تقدّم من: أنّ الحسين بن علي (ع) هو الذي يغسّل المهدي (ع) ويحكم في الدنيا ما شاء الله.

وقال في إلزام الناصب(4) ملخّص الاعتقاد في الغيبة والظهور، ورجعة الأئمّة لبعض العلماء، ويقول فيما يقول:

فإذا تمّت السبعون سنة أتى الحجّة الموت فتقتله امرأة من بني تميم اسمها سعيدة. ولها لحية كلحية الرجل بجاون صخر من فوق سطح، وهو متجاوز في الطريق. فإذا مات تولّى تجهيزه الحسين (ع)... الخ.

الجهة الثالثة: إنّ التبادر الأوّلي في الذهن الاعتيادي، هو أن يموت المهدي (ع) حتف أنفه كما يموت سائر الناس، غير أنّه في الإمكان الالتفات إلى عدّة وجوه مقرِّبة لإثبات قتله:

الوجه الأوّل: الخبر المـُرسَل عن الإمام الصادق (ع):

____________________

(1) ص 135.

(2) ج3ص264.

(3) ج13 ص229.

(4) ص190.

٦١٦

( ما منّا إلاّ مقتول أو شهيد ) (1) .

والمراد به أنّ الأئمّة المعصومين (ع) لابد أن يخرجوا من الدنيا بحادث تخريبي خارجي، ولن يموت واحد منهم حتف أنفه، بمَن فيهم الإمام المهدي نفسه، بحسب الفهم الإمامي.

إلاّ أنّ هذا الخبر قاصر عن الإثبات التاريخي، باعتباره خبراً مرسلاً لم تذكر له المصادر سنداً.

الوجه الثاني: ما أشرنا إليه في تاريخ الغيبة الصغرى(2) من الفكرة التقليدية القائلة بأنّ النبي (ص) والأئمّة (ع) قد خلقت بنيتهم الجسدية قويّة كاملة، لا تكون قابلة للموت والتلف إلاّ بعارضٍ خارجي، فلو لم يحدث شيء على المعصوم، لكان قابلاً للبقاء إلى الأبد. ولكن طبقاً للقانون العام للموت الذي أعربت عنه الآية:

( كلُّ نفسٍ ذائقة الموت ) (3) .

لابد أن يطرأ عارض خارجي كالقتل ونحوه على كل معصوم؛ لكي يكون هو السبب في انتهاء حياته. وهذه الفكرة تشمل الإمام المهدي (ع) بطبيعة الحال.

وقد ذكرنا في تاريخ الغيبة الصغرى(4) ما يصلح أن يكون مثبّتاً لهذه الفكرة، وعرفنا هناك أنّها غير صالحة للإثبات؛ فلا يكون هذا الوجه صحيحاً.

الوجه الثالث: النص الأخير الذي نقلناه مع الروايات عن إلزام الناصب، فإنّه يصرّح بأنّ المهدي يموت مقتولاً، ويذكر طريقة موته، وسنعرض مضمونها ونناقشه في الجهات الآتية. والمهم الآن: أنّها هل تصلح دليلاً على إثبات هذه الفكرة بمجرّدها، وهي: أنّ المهدي (ع) يموت مقتولاً؟

والصحيح أنّ هذا النص غير قابل للإثبات أساساً؛ لأنّه ليس رواية عن أحد المعصومين بل عن بعض العلماء، وهذا العالِم لم نعرف اسمه. ولو كان هذا النص إشارة إلى مضامين الروايات - كما هو المضمون - فإنّه يصبح رواية مرسَلة ليس لها أي سند، ولا يعرف الإمام المروي عنه. على أنّ تلك الروايات المشار إليها لا تكون - عادةً - ضعيفة السند وغريبة

____________________

(1) انظر أعلام الورى ص349، وتاريخ الغيبة الصغرى ص230.

(2) ص230.

(3) آل عمران: 185.

(4) ص232.

٦١٧

المضامين، بشكل تسقط معه عن الإثبات التاريخي.

هذا، وستأتي بقيّة مناقشات هذا النص عند التعرّض لتفاصيله.

الوجه الرابع: استبعاد أنّ المهدي (ع) يموت حتف أنفه، وذكر قرائن معيّنة توجب الظن أو الاطمئنان بكونه غير قابل لمثل هذا الموت خلال سبع أو عشر سنين، بل حتى خلال سبعين عاماً.

فمن ذلك قوّته البدنية الموصوفة في الأخبار، التي سمعناها فيما سبق، والتي في بعضها أنّه لو مدّ يده إلى شجرة عظيمة لقلعها، ولو صاح بالجبال لتدكدكت، وقد وُصف بدنه بالضخامة وعظامه بالخشونة ووجهه بالحمرة، ممّا يدل على قوّة بنيته إلى حدٍّ بعيد.

ومن ذلك غيبته المترامية في الطول، بحسب الفهم الإمامي فإنّ مَن عاش هذه القرون، قابل لأن يعيش ردحاً طويلاً من الزمن.

مضافاً إلى ما سبق أن قلناه من أنّ فترات عمر الإنسان، كالشباب والكهولة، تنقسم من عمره بنسب معيّنة، فإن كان العمر طبيعياً كالمعهود، كانت كل فترة خمسة عشر عاماً أو عشرين مثلاً، وإن كان أطول كانت الفترات مقسّمة بنفس النسبة لكن بسنوات أكثر، على مقدار العمر المفترَض، فقد تكون فترة الشباب خمسمئة عام وهكذا.

فإذا علمنا أنّ الإمام المهدي يظهر بعد أكثر من ألف عام وهو في آخر الشباب، في عمر الأربعين، كما سمعنا من الأخبار، إذاً فقد بقيت فترات أُخرى من عمره لم يمر بها بعد وهي في الكهولة والشيخوخة، ويحتاج من خلال عمره الطويل أن يمر بنفس المقدار السابق من السنين تقريباً؛ لكي يستوفي هاتين الفترتين.

ومن ذلك، ما عرفناه مفصّلاً من الخبرة العميقة التي تكون لدى الإمام المهدي، بما فيها من خبرات طبيّة تعود إلى أُسلوب العناية بالجسم وإبقائه صحيحاً معافى إلى أكبر حدّ ممكن.

إلى قرائن أُخرى تدعم الظن، بأنّ الإمام المهدي لن يموت بهذه السرعة بدون حادث تخريبي خارجي.

وهذه القرائن قائمة، ولا نافي لها، إلاّ أنّها تعدو الظن، ولا تصل إلى درجة الإثبات التاريخي بطبيعة الحال.

وإذا لم يتم شيء من هذه الوجوه، كان احتمال موته حتف الأنف قابلاً للإثبات التاريخي؛ لأنّه القاعدة العامّة في البشر، حيث لا يوجد حادث خارجي.

٦١٨

الجهة الرابعة: إنّ الخبر الأخير الدال على كيفية مقتله (ع)، يحتوي على عدّة نقاط ضعف، غير ما سبق:

النقطة الأُولى: إنّ الأمام المهدي يُقتل بحادث عمدي تخريبي، أو بمؤامرة مدبّرة ضدّه، وهذا بعيد جدّاً، بعد أن استطاع المهدي تربية البشرية بشكلٍ عام، وإحراز الرأي العام لعدالة نظامه وعظمة شخصه، وما له من المميّزات والقدرات، الأمر الذي يخلّف أفضل الأثر في نفوس الناس وأعظم الاحترام، ممّا يستبعد معه تفكير أيّ منهم في التآمر ضدّه.

وسيدرك الناس تدريجيّاً وبسرعة: المبرّرات الواقعية التي قام المهدي بموجبها بحملات القتل الكثير في أوّل ظهوره، وسيعرفون أنّهم قد استفادوا من ذلك فائدةً كبيرة، إذ مع وجود أولئك المنحرفين لا يمكن إقامة العدل، ولا شمول السعادة والرفاه، ومعه لن يكون لتلك الحوادث انعكاس سيّئ في النفوس ليوجب تآمر البعض للإجهاز عليه.

ومعه، يكون ما دلّ عليه الخبر من وجود التآمر بعيد جدّاً.

النقطة الثانية: يدل الخبر على أنّ المهدي (ع) يُقتل بجاون صخر يقع عليه، من أعلى وهو ماشٍ في الطريق، والجاون آلة قديمة لسحق الأشياء ودقّها: كالحبوب، وهو عبارة عن جسم مجوّف ثقيل الوزن له فتحة من أعلاه توضع فيه الحبوب، ويلحق به جسم اسطواني ضخم للدق فيه، وهو قد يُعمل من الصخر وقد يُعمل من الخشب.

واستعمال مثل هذه الآلة في العصر المهدوي القائم على العمق الحضاري والعمق المدني معاً، كما سبق أن برهنّا، أمر غير محتمل، كما أنّ وجوده على السطح في مثل هذه البيوت القديمة التي كان يوجد فيها، أمر غير محتمل لثقله وقوّة الضرب فيه، ممّا يوجب انهدام السطح، وإنّما كان يستعمل عادةً على الأرض.

وقد يخطر في الذهن: أنّه في الإمكان حمل ( الجاون ) على بعض الآلات المتطوّرة كما حملنا السيف على كل آلة للقتال.

وهذا أمر محتمل، إلاّ أنّ جوّ الخبر ينافيه، ويدل على نفيه كما هو واضح، بخلاف مثل قولنا: إنّ المهدي يظهر بالسيف، فإنّ معناه: أنّه يظهر حاملاً للسلاح، وليس في تلك الأخبار ما يدل على نفي هذا المعنى.

النقطة الثالثة: يدل الخبر على أنّ المرأة التي تقتله ذات لحية كلحية الرجل.

وهذا المعنى له عدّة محتملات كلها فاسدة، فيكون أصل المعنى فاسداً.

٦١٩

الاحتمال الأوّل: أن يكون لهذه المرأة شعر غير قليل في مكان اللحية حرصت على تنميته وإظهاره. وهذا ما قد يحدث لبعض النساء وإن كان نادراً. غير أنّ اللحية عندئذٍ لا تكون كلحية الرجل، بل لا تكون لحية إلاّ مجازاً؛ لأنّ المناطق الخالية من الشعر كثيرة جدّاً، فهي أشبه بلحية الرجل الأحص أو الأكوس، لا بلحية الرجل الطبيعي، مع أنّ ظاهر الخبر: أنّها كلحية الرجل الطبيعي.

الاحتمال الثاني: أن يكون لهذه المرأة لحية كلحية الرجل تماماً، وهذا مقطوع العدم؛ لأنّه لم يحدث في التاريخ لأيّ امرأة، ممّا يدل على أنّ الجنس الناعم مناف مع وجود مثل هذه اللحية خَلْقيّاً.

ويجيب الفكر التقليدي على ذلك:أنّه ما من عام إلاّ وقد خُصّ، وقدرة الله تعالى شاملة لمثل ذلك، ومن ثم توجد هذه المرأة بلحيتها لتكون هي القاتلة للإمام المهدي بعد ظهوره.

والجواب على ذلك: أنّه بعد التجاوز عمّا قلناه من عدم قابليّة الخبر للإثبات، بالرغم من أنّ الفكر التقليدي قائم على قبوله وقبول أمثاله تعبّداً.

إنّ هذه المرأة لو وُجدت في عصر الظهور، وعاشت بين الناس وأظهرت لحيتها، والتفت الناس إلى هذه الظاهرة النادرة، وكان مفكروهم وعلماؤهم قد قرأوا في الكتب أنّ مثل هذه المرأة تقتل المهدي.. إذاً فسوف تتعيّن هذه المرأة لقتل المهدي قبل أن تقوم به بسنين، وسوف يقع على ذلك كلام كثير ومناقشات، وسوف يسأل المهدي (ع) نفسه عنها، وسوف يكون للدولة تجاهها موقف معيّن لا نستطيع الآن أن نعرف كنهه، ليس هو غضّ النظر عنها وإهمالها بالمرّة على أيّ حال، فقد لا تكون النتيجة تماماً كما يتوقّع الفكر التقليدي أن يكون.

الاحتمال الثالث: أن تكون هذه المرأة طبيعية الخَلْق كباقي النساء، ولكنّها تضع لحية على نحو الاستعارة، على شكل باروكة تضعها على وجهها تشبّهاً بالرجل، وهذا الاحتمال له صورتان:

الصورة الأُولى: أن يفترض أنّه يوجد للنساء اتجاه عام لوضع اللحى المستعارة على الذقون، وتكون المرأة القاتلة واحدة من هؤلاء النساء.

إلاّ أنّ وجود مثل هذا الاتجاه في دولة العدل العالمية من غير المحتمل أن يوجد، بعد أن انتهت قصّة ( تشبّه النساء بالرجال ) بالظهور نفسه، وتمّ القضاء على جذورها

٦٢٠