موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء ٣

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 679

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 188688
تحميل: 8740


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188688 / تحميل: 8740
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ ما بعد الظهور) الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وجواب ذلك: أنَّه سيأتي في مستقبل البحث - أيضاً - أنَّ ما يُعلنه المهدي في دولته، مهما كان جديداً وعميقاً ومُفصَّلاً، إلاَّ أنَّه يتعدَّى مستوى التطبيقات والتنظيمات للمجتمع الذي يحكمه، بالشكل الذي لا يكون خارجاً بأيِّ حال على التشريعات والمفاهيم الرئيسية في الإسلام ولا مضادَّاً لها، ومن الواضح أنَّ شجب العنصرية بكل أشكالها من واضحات الإسلام ونصِّ الكتاب والسنَّة.

إذاً؛ فمن غير المـُحتمل أن يقوم الإمام المهدي (ع) بتغيير ذلك.

المستوى الثاني: إنَّ دعوة المهدي (ع) ودولته عالمية، كما هو ضروري الوضوح لكل مُعترف به من المسلمين، وسيأتي التعرُّض للنصوص الدالَّة على ذلك بصراحة.

والدعوة العالمية على طول الخطِّ مُنافية مع العنصرية؛ ولذا نرى سائر المبادئ في التاريخ، ممَّن طمعت بالاستيلاء العقائدي على العالم، تقفُ من العنصرية موقفاً، سلبيَّاً، وتعتبرها نظرة ضيِّقة لا ترقى إلى أُسلوبها الواسع وأُفقها الرَّحب.

وحيث كانت دعوة المهدي (ع) عالمية؛ إذاً، فهي تُنافي العنصرية كأيِّ دعوة عالمية أُخرى، بمعنى أنَّه بمجرد أن يتَّخذ بعض شعارات العنصرية، فإنَّ دائرة دعوته ستكون ضيِّقة، وسيتعذَّر عليه بأيِّ حال، أن تبقى دعوته عالمية، وهذا خلاف الضرورة والتواتر عن دعوة المهدي (ع)، وسيُخلُّ بتأسيس الدولة العالمية، وهو خلاف ما استهدفه هذا القائد العظيم في ظهوره، والغرض الأساسي الذي وجِد التخطيط الإلهي من أجله.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ ما دلَّ عليه الدليل القطعي، بالضرورة والتواتر هو استيلاء المهدي (ع) على العالم بأجمعه واتِّساع رقعته، وهذا لا يُنافي الاعتراف من قِبله ببعض أشكال العنصريَّة.

والجواب على ذلك: أنَّ استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم، إن كان غزواً عسكرياً مُجرَّداً، فهذا الذي قاله السائل صحيح؛ فإنَّ الغزو العسكري المـُجرَّد لأجل الحصول على السلطة، يُناسب مع الاعتقاد بالعنصرية، ومع رفضها فلا يكون مُجرَّد الاستيلاء على العالم دليلاً على شجب العنصرية.

إلاَّ أنَّ استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم ليس مُجرَّد غزو عسكري، بل هو دعوة عقائدية وأطروحة عادلة، يريد نشرها وتطبيقها على البشرية أجمعين، وتربية البشر على أساسها تربية صالحة؛ لتتحقَّق العبادة المحضة لله عزَّ وجلَّ على وجه الأرض، كما هو الغرض الأساسي من الخَلق ومن اليوم الموعود.

٨١

والدعوة إذا كانت عالمية هذا الشكل، فإنَّها تكون مُنافية للعنصرية بالمرَّة؛ وذلك بعد الالتفات إلى مجموع أمرين:

الأمر الأول: إنَّ التطبيق الحقيقي للعدل والتربية العادلة، لا يمكن إتمامه إلاَّ بجوٍّ من الانسجام والتقبُّل النفسي للفرد والجماعة؛ لكي تترسَّخ القواعد الأساسية والسلوك الصالح في عالم الحياة، وأمَّا مع جوِّ الانزجار والتأفُّف والتباعد، فلا يمكن أن تنال البشرية مثل تلك النتائج الصالحة، ومن ثُمَّ لا يمكن تطبيق العبادة الكاملة على تلك الجماعة؛ فيكون مُخلاَّ ًبالغرض الأساسي لخَلق البشرية.

الأمر الثاني: إنَّ الاعتراف بالعنصرية بأيِّ شَكل من أشكالها، يعني أنَّ العنصر الآخر، الذي لم يُعترَف به من البشر، وقام النظام على الالتزام بتسافله وخسَّته أمام العنصر المـُفضَّل، إنَّ هذا العنصر سوف يشعر بالغربة في ذلك النظام، وبالتعقيد النفسي والانزجار والتأفُّف تجاهه، بطبيعة الحال.

ونحن إذا لاحظنا العالم ككلّ، لم نجد أيَّ عنصر من العناصر التي يتبنَّاها العنصريُّون يُشكِّل أكثرية في العالم، وإنَّما يُشكِّل الأقلِّية على طول الخطِّ - وهذا يعني بكل وضوح - أنَّ الدولة العالمية لو تبنَّت أيَّ عنصر من العناصر، وفضَّلته على غيره، فإنَّها تتبنَّى مصالح الأقلِّية من شعبها، وتعتبر أكثريَّتهم من الجنس الأخسِّ الأدنى.

إذاً؛ فستحسُّ الأكثرية بالتعقُّد والانزجار تجاه تلك الدولة، بحكم كونهم محكومين بالخساسة والتسافُل في نظامها؛ وبالتالي ستتعذًَّر تربيتهم الصالحة المطلوبة، ويكون الغرض من أصل الخليقة مُتخلِّفاً وفاشلاً.

وباستحالة تخلُّف هذا الغرض، نعرف لزوم كون الدولة العالمية المهدوية سلبيَّة تجاه العناصر البشرية، وحيادية تجاه التفاضل بينها، ومُلْغِيَة لها كأساس للتفاضل تماماً... توصُّلاً إلى التربية العادلة للبشرية أجمعين

وقد يخطر في الذهن: إنَّ الفكر الحديث قد طوَّر مفهوم العنصرية، فقد أصبحت لا تعني تفضيل عنصر على عنصر، وإنَّما كل ما تعنيه هو الاهتمام بمصالح مجموعة مُعيَّنة مشتركة في اللغة أو الوطن، وغير ذلك، انطلاقاً من اشتراكها بالمصالح والتاريخ والآمال، وهذا لا يتضمَّن تفضيلاً لأحد.

وجواب ذلك: إنَّه بغضِّ النظر عن أنَّ هذا التطوير لا يخرج بالفكرة عن التحديد والأنانية، ومن ثُمَّ عن العناصر نفسها... بغضِّ النظر عن ذلك، فإنَّها أوضح بُعْدَاً

٨٢

عن الفكرة العالمية المهدوية من العنصرية نفسها؛ لأنَّ المفروض فيها الاهتمام بمجموعة مُعيَّنة لا بمجموع البشر... ومن الواضح إلى حدِّ الضرورة أنَّ الدولة العالميَّة تهتمُّ بمصالح وتربية وآمال مجموع البشر، لا بمجموعة مُعيَّنة مهما كانت صفتها.

وقد يخطر في الذهن: أنَّ هذا الاتِّجاه لا يصحُّ في الدولة العالمية، ولكنَّها قد تُعطي للشعوب أو العناصر المـُختلفة الاهتمام بصفاتها تلك، من دون أن يكون للحُكم المركزي نفسه تركيز على جهة دون جهة.

وجواب ذلك: إنَّ هذا غير مُحتمل أيضاً؛ لمـُخالفة هذا الاتِّجاه مع العدل الكامل من عدَّة جهات، أوضحها ما يحدث بين العناصر المـُختلفة من التشاحن والتعاقد، نتيجةً لحُرِّيَّة التفاخر والتركيز العنصري... الأمر الذي يُنافي - كل المـُنافات - مع العدل الكامل.

نعم، قد تبقى اتِّجاهات فرديَّة مُتفرِّقة، ناشئة من ( لا شعور ما قبل الظهور ) تتضمَّن الإحساس بأهمِّيَّة العنصر أو الطبقة... ولكنَّها تذوب تدريجياً تحت التربية المركَّزة والمـُستمرَّة، التي تقوم بها الدولة العالمية طبقاً للأطروحة العادلة الكاملة.

المـُستوى الثالث: الاستدلال بما وردنا من الأخبار الدالَّة على نفي العنصرية، وعلى وجود الفكرة المـُنفتحة والمـُتعادلة من هذه الناحية في دولة المهدي (ع).

وهي على أنحاء:

النحو الأول: ما دلَّ على أنَّ حُكم المهدي (ع) يكون قاسياً وشديداً على العرب... باعتبار فشل أكثرهم في التمحيص الإلهي حال الغيبة، وتقصيرهم تجاه الشريعة الإسلامية، فلو كان الإمام المهدي (ع) عنصرياً لكان يميل إلى أبناء لُغته، على كل حال.

والأخبار بذلك مُتظافرة لدى الفريقين:

فمنها: ما أخرجه البخاري(1) عن زينب بنت جحش، أنَّها قالت: استيقظ النبي (ص) من النوم مُحمرَّاً وجهه يقول: ( لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب...! ) الحديث.

وتأسُّف النبي (ص) وتحذيره منصبٌّ على انحراف العرب وخروجهم على شريعته،

____________________

(1) انظر صحيح البخاري ج9 ص60.

٨٣

بقرينة الحديث الذي يليه، والذي يقول فيه:

( فإنّي لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر )(1) .

ورواه الترمذي(2) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجة في سُننه(3) .

وأخرج ابن ماجة(4) ، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (ص): ( تكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار، اللسان فيها أشدُّ من وقع السيف ).

وفيه دلالة واضحة على فشل العرب في التمحيص، في عصر الفتن والانحراف خلال الغيبة الكبرى، وهو ما حدث فعلاً، وحيث نعلم موقف الإمام المهدي (ع) من كل فاشل في التمحيص - كما سيأتي مُفصَّلاً - نعرف موقفه من هؤلاء العرب الفاشلين.

ومنها: ما أخرجه النعماني في الغيبة(5) : عن أبي بصير، قال: قال أبو جعفر (ع): ( يقوم القائم بأمر جديد، وكتاب جديد، وقضاء جديد، على العرب شديد، ليس شأنه إلاَّ السيف... ولا تأخذه في الله لومة لائم ).

وفي حديث آخر(6) ، عن أبي عبد الله (ع)، أنَّه قال: ( إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلاَّ السيف... ) الحديث.

إلى غير ذلك من الأحاديث، الدالَّة على أنَّ الميزان الصحيح في نظر القائد المهدي (ع) هو الإيمان والنجاح في التمحيص، وليس هو اللغة ولا القبلية، فهو لا يميل إلى أهل لغته ( العرب ) ولا إلى قبيلته ( قريش ) بل يأخذهم أخذاً شديداً نحو طاعة الله تعالى، ويُعاقبهم على ما سلف منهم من الذنوب.

____________________

(1) المصدر والصفحة.

(2) انظر الجامع الصحيح للترمذي ج3 ص325.

(3) انظر ج2 ص1305منه.

(4) المصدر ص1312.

(5) ص122.

(6) المصدر والصفحة.

٨٤

وفي هذه أحاديث عديدة، اقتصرنا منها على مقدار النموذج.

النحو الثاني: ما دلَّ من الأخبار على أنَّ أصحابه المـُمحَّصين الخاصِّين، الذين يجتمعون إليه، ويُحاربون بين يديه ليسوا من عنصر واحد، بل هم من مُختلَف بُلدان العالم.

فمن ذلك:

ما أخرجه الشيخ في الغيبة(1) ، عن أبي بصير، عن عبد الله يقول فيه (ع) عن أصحاب القائم (ع ): ( فيتوافون من الآفاق ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، عدَّة أهل بدر ).

أقول: وفيه دلالة على ورودهم إليه من مُختلف البلدان في العالم.

وما أخرجه النعماني في غيبته(2) ، بإسناده عن علي (ع) يقول فيه: ( ثمَّ يجتمعون قزعاً كقزع الخريف من القبائل، ما بين الواحد والاثنين، والثلاثة والأربعة، والخمسة والستَّة، والثمانية والتسعة والعشرة ).

أقول: وهو نصٌّ في عدم التمييز بين القبائل والأنساب في أصحابه، وإنَّما الميزان هو عُمق الإخلاص وقوَّة الإيمان والإرادة.

وأخرج(3) في خبر آخر، عن الإمام الباقر (ع) وقال: ( أصحاب القائم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، من أولاد العجم بعضهم ).

أقول: والمراد بالعجم غير العرب لا خصوص الفرس، كما هو معروف في اللغة.

فليس الميزان هو اللغة أو الدم أو العنصر، وإلاَّ لم يقبل المهدي (ع) القائم في أصحابه إلاَّ العرب، بل الميزان أمور أُخرى أوسع وأعمق.

النحو الثالث: ما دلَّ من الأخبار على مُشاركة غير العرب في حُكم العالم، وهداية الناس تحت ظلِّ دولة المهدي (ع).

____________________

(1) ص284 وما بعدها.

(2) غيبة النعماني ص168.

(3) المصدر ص170.

٨٥

فمن ذلك: ما رواه النعماني في غيبته، بسنده عن الأصبغ بن نباته قال: سمعت علياً (ع) يقول: ( كأنِّي بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة، يُعلِّمون الناس القرآن، كما أُنزل ).

أقول: وهذا إمَّا يحدث في دولة المهدي (ع)؛ لأنَّهم إنَّما يعلمون القرآن على أساس مُعانيه الواقعية، مأخوذة من الإمام المهدي (ع ) نفسه، وإمَّا قبل ذلك، فهو مُتعذِّر بطبيعة الحال.

المستوى الرابع: في الاستدلال على موقف المهدي (ع) من العنصرية.

إنَّنا نضمُّ فكرتين اثنتين واضحتين، تُنتِجان نتيجةً واضحةً.

الفكرة الأُولى: إنَّ الإمام المهدي (ع) يسير بسيرة النبي (ص)، ويُطبِّق منهجه على المـُجتمع والحياة، وهو ما سبق أن أقمنا عليه الدليل.

الفكرة الثانية: إنَّ سيرة النبي (ص) في أصحابه ومجتمعه، كانت بالضرورة على نفي العنصرية وشجبها بكل أشكالها، وإعلان عقيدة الإسلام ونظامه عاماً عالمياً لكل الناس، وقد جمع في أصحابه بين عبيد المـُجتمع وأحراره، وبين عربه وعجمه، وبين مختلف القبائل، وراسل ملوك العالم في عصره يدعوهم إلى الإسلام، وكلُّهم لم يكونوا عرباً، وإنَّ أشهر أصحابه من غير العرب سلمان الفارسي، وبلال، وصهيب الحبشيان... وهناك الكثير وغيرهم.

وأودُّ بهذه المناسبة أن أروي ما أخرجه الترمذي(1) ، عن أبي هريرة، قال: كنَّا عند رسول الله (ص) حين أُنزلت سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ... ) (2) ، قال له رجل: يا رسول الله، مَن هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟

فلم يُكلِّمه.

قال: وسلمان الفارسي فينا.

قال: فوضع رسول الله (ص) يده على سلمان، فقال: ( والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثُّريَّا لتناوله رجل من هؤلاء ).

قال الترمذي: هذا حديث حَسَن، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي (ص).

____________________

(1) انظر الجامع الصحيح: ج5 ص383.

(2) الجمعة: 62/ 3.

٨٦

أقول: وهو يدلُّ - بوضوح - على مشاركة غير العرب بالإيمان العميق، عقيدة وتطبيقاً... إذا كان المراد جعل سلمان الفارسي (رض) مُمثِّلاً لهم، مع احتمال أن يكون المراد جعله مُمثِّلاً لمستوى معُيَّن في الإخلاص و التفكير، ويكون قوله (ص): ( رجال من هؤلاء... ). يعني مَن كان مُتَّصفاً بذلك المستوى.

وعلى أيِّ حال، فإنَّ المـُلاحّظ أنَّ هذا الخبر غير دالٍّ بالمرَّة على أنَّ سلمان الفارسي من الآخرين الذين لم يلحقوا بهم، المذكورين في الآية الكريمة، بل هو دالٌّ على العكس، كما هو واضح لمَن يُفكِّر، وأمَّا السؤال عن معنى الآية، فقد أعرض النبي (ص) عن جوابه.

وعلى أيِّ حال، فما دامت دولة النبي (ص) خالية من العنصرية، إذاً فستكون دولة المهدي (ع) كذلك؛ لأنَّه يستنُّ بسنَّته، ويسير بسيرته.

الجهة الرابعة: نظام الدولة المهدوية، هل هو مُشابه لبعض الأنظمة السابقة عليه، كالرأسمالية أو الاشتراكية أو غيرهما، أولا؟

والذي ينبغي الجزم به أساساً هو النفي المطلق، وأنَّ شيئاً من الأنظمة السابقة على الظهور، لا تصدق على نظام المهدي ولا تشمله.

والدليل الحسِّي التطبيقي، سوف لن يظهر، إلاَّ بعد الظهور، حين يتمُّ تطبيق نظام الإمام المهدي (ع) ودولته العالمية، ويكون في الإمكان مُقارنته بالأنظمة السابقة عليه مُقارنةً حسِّيَّة، وهذا لا يتمُّ في العصر الحاضر بطبيعة الحال.

ولكنَّنا نستطيع - طبقاً للأدلة التالية - الجزم بأنَّ نظام المهدي (ع) مُباين ومُغاير تماماً مع أيِّ نظام سابق عليه، وذلك باعتبار الأدلة التالية:

الدليل الأول: أنَّنا عرفنا أنَّ الإمام المهدي (ع ) سوف يُطبِّق الإسلام، بصفته الأطروحة العادلة الكاملة... وقد تمَّ البرهان في بحوث الفكر الإسلامي على مغايرة نظام الإسلام لسائر الأنظمة الأُخرى، وأنَّه أطروحة مُستقلَّة لحلِّ مشاكل البشرية لا تمتُّ إلى الحلول الأُخرى بصِلَةٍ.

ولا مجال لسرد تلك الأدلة في هذا التاريخ - بطبيعة الحال - إلاَّ أنَّها تُنتِج بعد التسليم بصحتها مُغايرة نظام الإمام المهدي (ع) للأنظمة السابقة عليه... لأنَّ نظامه هو الإسلام المـُغاير لتلك الأنظمة.

٨٧

الدليل الثاني: إنَّنا ننطلق من فكرة الحديث النبوي المتواتر، القائل:( إنَّ المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلِئت ظلماً وجوراً... ) ، ننطلق منه إلى النتيجة المطلوبة، فإنَّنا قلنا - في تاريخ الغيبة الكبرى(1) -: إنَّ البشرية عامة والأمَّة الإسلامية خاصة، لا بدَّ أن تمرَّ بظروف صعبة وقاسية من الظلم والجور والانحراف... لكي تتمخَّض في نهاية المطاف عن عدد من المـُخلصين المـُمحَّصين، يكفي للقيام بمسؤولية الدولة المهدوية، ونتيجة لتلك الظروف ( تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً )، وبجهود هؤلاء المـُخلصين تحت قيادة الإمام المهدي (ع) ( تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً ).

وإذا تساءلنا عن أسباب هذه الظروف، تكشفت لنا خلال التاريخ المـُعاصر والسابق، عن سلسلة مُتَّصلة ومُتواصلة من الأسباب الكبيرة... التي من أهمِّها أساليب الحُكم الفردي الدكتاتوري، التي مورست خلال التاريخ، وجود الكيان الرأسمالي الأوروبي - الأمريكي وما تبعه من الاستعمار بشكليه القديم والحديث - وما لاقى منه العالم بشكل عام، والأمَّة الإسلامية بشكل خاص من بلايا وأضرار، وكذلك مُحاولة فرض الحلول المـُدعاة لمشاكل العالم على الشعوب عن طريق الغزو الفكري للعالم(2) ، كما قامت به الشيوعية، وهي تُعلن إيمانها بحق تقرير المصير للشعوب، فيبدو موقفها مُتهافتاً غريباً.

ولئن كان الرأي العام العالمي، قد أُحيط علماً - بحسب التجربة التاريخية القاسية التي عاشوها - بالأضرار الناتجة عن الحُكم الفردي والاستعمار الرأسمالي، فإنَّ الأعوام الآتية كفيلة بكشف ما في النظام الشيوعي من هنات ونقاط ضعف، ومُنطلقاً من ذلك نستطيع أن نُعمِّم، ونقول: إنَّ أيَّ نظام وضعي بشري المولد، موجود قبل الظهور، يُمثِّل في واقعه أهمَّ أسباب الظلم والانحراف في العالم، إن كان بدوره ناتجاً عن ظلم وانحراف سابقين... ومعه فستكون المـُهمَّة الرئيسية للإمام المهدي (ع) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، أن يقوم بتغيير هذه الأنظمة والقضاء على جذورها وتفاصيلها.

الدليل الثالث: إنَّ سائر الأنظمة والقوانين الوضعية، قائمة على المادية وإسقاط العنصر الإلهي عن نظر الاعتبار، إمَّا بالصراحة، كالشيوعية والوجودية، أو بالخفاء كالرأسمالية، والفاشية، والنازية، والقوانين الرومانية، والجرمانية، ومُتفرَّعاتها الحديثة؛ فأنَّها

____________________

(1) انظر ص246 وما بعدها.

(2) بل قامت الشيوعية بالغزو العسكري المـُباشر، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا عام 1969 وفي إنغولا هذا العام أعني 1976.

٨٨

قائمة على أساس دنيوي مادِّي صرف، لا أثر للروح أو لله تعالى فيه.

وقد علمنا أنَّ نظام المهدي (ع) سيقوم على ربط الإنسان بربِّه، وتربيته لجسمه وروحه، والربط بين هذه العناصر ربطاً عادلاً وعميقاً، وستكون كل القوانين المـُطبَّقة قوانين إلهيَّة إسلامية، حتى إنَّ المهدي (ع) نفسه إنَّما يكون واجب الإطاعة باعتباره أحد أئمة المسلمين المخوَّلين من قِبل الله تعالى للحُكم والتقنين والتطبيق.

إذاً؛ فسوف لن يكون في دولة المهدي مجال للمادِّية بشكليها الصريح والخفي، وسوف يتمُّ القضاء عليها قضاء تامَّاً.

الدليل الرابع: الانطلاق من زاوية أُخرى من القواعد التي فهمناها عن فكرة المهدي... وقد أشرنا إليها في التاريخ السابق(1) .

وهي: أنَّ التخطيط الإلهي قائم على اكتساح التمحيص الدقيق للأفراد والمبادئ، وبذلك ينكشف بشكل حسِّي مُبرهَن ومُدعم بالتجارب الكثيرة والمريرة، عن فشل كل دعوة تدِّعي لنفسها حلَّ مشاكل العالم وتذليل مصاعبه، حتى ما إذا انكشفت وبانَ زيفُها ونقاط الضعف فيها وأيَّست البشرية من أن تضع حلَّها لنفسها... انبثق الأمل في أنفسها من جديد إلى حلٍّ جديد ونظام جديد يُنقذها من وهْدَتِها، ويُخرجها من ورطتها، وهذا الأمل إحساس نفسي مُجمل، لا زال في طريق التربية في نفوس البشر، كما هو المحسوس الآن بالوجدان، ولا زالت الحوادث وما ينكشف من مساوئ الأنظمة والفلسفات الوضعية تؤيِّده وتدعمه.

وهو أمل مُجمل، لا يُشير - على التعيين - إلى الإسلام، أو إلى نظام المهدي (ع)، ولكنَّ الله تعالى يكون قد أعدَّ لخلقه الإنقاذ الحقيقي والعدل الكامل، على يد القائد المهدي (ع) ومُخلصيه، فإذا رأت البشرية نظامه وعدله، فإنَّها ستؤمِن بكل وضوح بأفضليَّته على كلِّ التجارب والمـُدَّعيات السابقة التي مرَّت بها، وأنَّه الحلُّ الأساسي الذي يُنقذها من ورطتها، وبالتالي هو الصورة الحقيقية لذلك الأمل المـُجمل، وقد أُشير إلى هذا التخطيط في المصادر الخاصة، في بعض الأخبار، كالخبر الذي رواه الشيخ المفيد في الإرشاد(2) ، والطبرسي في أعلام الورى(3) ، والذي يقول فيه:

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص249 وما بعدها.

(2) انظر ص 344.

(3) انظر ص 432.

٨٩

( إنَّ دولتنا آخر الدول، ولم يبقَ أهل بيت لهم دولة إلاَّ ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء، وهو قوله تعالى:( ... وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ).

وليس المراد بحكم (... أهل بيت لهم دولة... ) حُكم ( الأُسَر ) أو القبائل، بل المراد بهم الجماعة الذين يتَّخذون أيدولوجية مُعيَّنة في دولتهم، بقرينة قوله في الحديث: (... إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء... )، فإنَّ مَن يقول ذلك إنَّما هم مثل تلك الجماعة، لا الحاكم القبلي، وهو يخلو حكمه من أيِّ هدف اجتماعي أو عادل، بحيث لا يكون قابلاً للمـُقارنة أساساً، وإنَّما عَبَّر الحديث الشريف بهذا التعبير بقانون:( كَلِّمْ الناس على قدر عقولهم ) .

وفي رواية أُخرى(1) ، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع)، وأنَّه قال: ( ما يكون هذا الأمر - يعني دولة المهدي (ع) - حتى لا يبقى صنف من الناس إلاَّ وقد ولَّوا من الناس - يعني باشروا الحُكم فيهم - حتى لا يقول قائل: إنَّا لو ولِّينا لعدلنا. ثمَّ يقوم القائم بالحق والعدل ).

أقول: لأنَّهم لو قالوا ذلك بعد ظهور القائم المهدي (ع) فإنَّ جوابهم يكون واضحاً، وهو: أنَّكم حكمتم وفُضِّلتم في حلِّ مشاكل العالم، بل كان حُكمكم وظلمكم من جملة مشاكله وويلاته.

إذاً؛ فالتخطيط قائم على كشف الحلول المـُدَّعاة للعالم أمام الرأي العام العالمي، قبل تولِّي دولة العدل للحُكم ومُمارستها إيَّاه في الخارج... وإعطاء روح اليأس من تلك الحلول عالمياً، بشكل لا يؤمل معه وجود حلٍّ بشري جديد... كما هو المفهوم من الحصر الموجود في هذه الأخبار (... حتى لا يبقى صنف من الناس إلاَّ قد ولوا من الناس... )، المـُستفاد من الاستثناء بعد النفي.

وهذا معناه - بكل بساطة وصراحة - تنافي نظام دولة المهدي (ع) مع النُّظُم السابقة، وقيامها على إنقاضها وبعد انكشاف زيفها وبطلانها، وهل من المـُحتمل أن يتَّبع القائد المهدي - في دولة العدل المطلق - إحدى النُّظم التي بانَ زيفها وفشلها.

إذاً؛ فقد تبرهن عدم أخذ الإمام المهدي (ع) في دولته بشيء من النُّظم السابقة على ظهوره، واستغنائه بالعدل الإلهي المـُعدُّ لتطبيقه في دولته.

____________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى 389 نقلاً عن غيبة النعماني.

٩٠

وسوف يشعر الرأي العام العالمي - بكل وضوح - بهذا الاستغناء، فإنَّ مَن يتَّخذ أحد هذه المبادئ الحاضرة مذهباً له وطريقة في الحياة، يستهدف - لا محالة - إمَّا الهدف الشخصي في الحصول على المال والشهرة و السعادة، أو الهدف العام في الدفاع عن الفقراء والمـُضطهَدين باعتقاده، وكلا هذين الهدفين يتحقَّق بأجلى مظاهره في دولة المهدي (ع)، على ما سمعناه مجملاً من كَثرة المال لدى كل الأفراد في عصره، وما سنسمعه من سائر التفاصيل في مُستقبل البحث.

إذاً؛ يكون بإمكان الهادفين في العالم أن يُحقِّقوا النتائج الجيِّدة، التي يعتقدونها لأهدافهم بنظام المهدي (ع)، ويتخلَّصوا - في نفس الوقت - من نقاط الضعف التي كانت فيها.

وبالنتيجة؛ فالعنوان العام لأيدولوجية دولة المهدي (ع) وهو الإسلام، بصفته النظام العادل الكامل، كما جاء به النبي الأعظم (ص)، ولا يمتُّ إلى النُّظم السابقة عليه بصِلَة.

٩١

٩٢

الفصل الخامس

التخطيط الإلهي لما بعد الظهور

كما يوجد لعصر ما قبل الظهور تخطيطه العام - وهو الذي شرحناه مُفصَّلاً في التاريخ السابق - يوجد لعصر ما بعد الظهور تخطيطه أيضاً.

وهذا القسم هو محلُّ الحديث الآن، فأنَّ التخطيط الإلهي العام لتكامل البشرية، لا يكون مُنقطعاً بحصول نتيجة التخطيط السابق، بل يكون مواكباً مع البشرية إلى نهايتها، بمقدار استحقاقها في وضعها العادل الجديد... وسيهدف عندئذ نتيجةً أبعد تمتُّ إلى عميق العدل والتربية البشرية بصِلَة.

فهذا التخطيط، وهو الامتداد الطبيعي السابق والموافق - أيضاً - للموازين الثابتة في الفلسفة الإسلامية القائلة: بأنَّ الله تعالى يُفيض نعمة الكمال على كلِّ موجود بقدر استحقاقه، فإذا كانت درجته من الكمال دانية كان استحقاقه مُنحصِراً في الرتبة الكمالية التي فوقها مباشرة، وإذا كانت درجة الموجود عالية في الكمال، كان استحقاقه لدرجة أعلى من الكمال مُتحقِّقاً، والله تعالى كريم مطلق، فيُفيض عليه الكمال الجديد، فإنَّه سيستحقُّ رُتبة أُخرى، وهكذا يسير في طريق الكمال اللا نهائي.

وإذا طبّقنا ذلك على محلِّ الكلام، نقول: إنَّ البشرية بعد اجتماع شرائط الظهور - طِبقاً للتخطيط السابق - تكون مُستحقَّةً لدرجة جديدة من الكمال، وهو تطبيق العدل الكامل فيها، بواسطة ظهور المهدي (ع).

وبتطبيق العدل تكون البشرية قد بلغت درجة أعلى من الكمال، تستحقُّ بعدها درجة أعلى، وهو عمق هذا العدل وترسُّخه، إلى أن تصل إلى استحقاق صفة ( العصمة ) حيث يوجد المجتمع المعصوم، كما سوف نُشير في مستقبل البحث.

٩٣

وبهذا يتبرهن فلسفيَّاً ما بعد الظهور...

إلاَّ أنَّ إنتاج هذا التخطيط لنتائجه النهائية، منوط ببقاء البشرية مدَّة كافية من الدهر؛ لكي تتربَّى على عُمق العدل ورسوخه، ولكي نصل في نهاية المطاف إلى الكمال الإنساني الأعلى.

وأمَّا إذا انتهت حياة البشرية جميعها، وقامت القيامة خلال زمن قصير ينسدُّ باب الترقِّي والتكامل بطبيعة الحال.

ومن هنا ينفتح احتمالان:

الاحتمال الأول: قصر عمر البشرية بعد الظهور، وتَحقُّق اليوم الموعود.

الاحتمال الثاني: بقاء البشرية لفترة طويلة من الدهر بعد ذلك.

ولكل من الاحتمالين مرجِّحاته - على ما سنذكر - على حين لم يكن للاحتمال الأول وجود في التخطيط السابق، باعتبار ضرورة إنتاجه لليوم الموعود، وذلك لأكثر من دليل:

الدليل الأول: كونه وعداً إلهيَّاً، والله لا يُخلف الميعاد؛ وذلك في قوله عز وجل:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم... ) (1)

الدليل الثاني: كونه غرضاً أصلياً في خَلق البشرية، ومن المـُستحيل أن يزول الشيء من الكون قبل أن يستوفي غرضه، وقد سبق في التاريخ السابق(2) أن برهنَّا على كونه غرضاً، وسيأتي في الكتاب الآتي تركيزه بشكل أوسع وأعمق.

وهذا هو الذي أشارت إليه الأخبار من الفريقين.

فمنها: ما أخرجه النعماني في الغيبة(3) ، بسنده إلى أبي هاشم الجعفري، قال: كنَّا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (ع)، فجرى ذِكْرُ السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره المحتوم. فقلت لأبي جعفر (ع): هل يبدو لله في المحتوم؟

قال: ( نعم ).

قلنا له: فنخاف أن يبدو في القائم.

فقال: ( إن القائم من الميعاد، والله لا يُخالف الميعاد ).

____________________

(1) النور: 24/55.

(2) تأريخ الغيبة الكبرى ص225.

(3) ص142.

٩٤

ومنها: ما أخرجه أبو داود(1) ، عن زر، عن عبد الله، عن النبي (ص) قال: ( لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً منِّي - أو من أهل بيتي - يواطئ اسمه اسمي... ) الحديث.

وأخرج أيضاً(2) ، عن علي (ع)، عن النبي (ص): ( قال: لو لم يبقَ من الدهر إلاَّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي... ) الحديث.

وهذه التأكيدات في الأخبار كثيرة ومُتضافرة، وكلّها دالّة على ضرورة تمخُّض التخطيط الإلهي السابق عن وجود اليوم الموعود، وعدم فناء البشرية قبله.

وأمَّا بالنسبة إلى التخطيط الموجود بعد الظهور، حيث يكون الوعد قد تحقَّق، والغرض الأساسي من خلق البشرية قد أُنجِز، فقد يبدو أنَّه لا حاجة لبقاء البشرية بعد ذلك، ولا دليل عليه.

وستأتي مُناقشة ذلك مُفصَّلة في القسم الثالث من هذا التاريخ، غير أنَّ الصحيح هو طول عمر البشرية؛ لأجل دليلين رئيسين:

الدليل الأول: أنَّنا فهمنا في التاريخ السابق(3) من قوله تعالى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ... ) (4) ، فهمنا: أنَّ الغرض الأساسي من خَلق البشرية هو إيجاد العبادة الكاملة في ربوعها، وفهمنا هناك(5) من العبادة الكاملة وجود المجتمع الصالح، والدولة العالمية الصالحة.

فلو أنَّنا اقتصرنا على هذا المقدار من الفَهْم، لكان الغرض من خَلق البشرية مُتحقِّقاً بمُجرَّد تأسيس المهدي (ع) لدولته العالمية العادلة، ومعه؛ فقد يخطر في الذهن: أنَّ المقصود هو إيجاد هذا النوع العالي من العبادة، ولو في فترة قصيرة من الزمن، فلا بقى أيُّ دليل على استمرار البشرية بعد ذلك ردحاً طويلاً من الزمن، إن لم يكن ذلك مُستحيلاً؛ لأنَّ بقاء الشيء بعد استيفاء لأغراضه مُحال في الحكمة المـُطلقة.

____________________

(1) ج2 ص42.

(2) المصدر والصفحة.

(3) تاريخ الغيبة الكبرى ص235.

(4) الذاريات: 51/56.

(5) ص224.

٩٥

لكنَّنا نريد في هذا الدليل أن نخطو خطوةً جديدةً في فهم هذه الآية، وهي: إنَّ المعنى الذي ذكرناه للعبادة، وإن كان مُهمَّاً ورئيسياً جدَّاً... إلاَّ أنَّه ليس نهائياً بحال، بل هناك مراتب أعلى من العبادة، تكون تلك المرتبة الأُولى مقدِّمة لها، وإعداداً لإيجادها، وكلُّها مُمكنة الحصول من البشريَّة، واتِّصفاها بها في المدى الطويل، كما سيتَّضح عند استعراضها.

وبطبيعة الحال، كما تصوَّرنا مرتبة من العبادة مُمكنة للبشرية، كانت مُندرجة في مدلول الآية الكريمة، لعدم وضع الآية أيَّ تحديد على مفهوم العبادة، فيكون إيرادها مُطلقة، دليلاً على إيراد العبادة المطلقة.

إذاً؛ فالغرض الأساسي من خلق البشرية أبعد بكثير من مُجرَّد وجود الدولة العالمية، وإنَّما وجِدت هذه الدولة العظيمة، وخُطِّطَ لها في تاريخ البشرية الطويل، من أجل هدف أعلى وأمامها، ويكفينا الآن أن نُعبِّر عنه بـ(العبادة المطلقة ) لخالق الكون، حتى يأتي في مُستقبل البحث ما يُلقي الأضواء الكافية على هذا المفهوم.

إذاً؛ فوجود الدولة العالمية، لا يعني نَجاز الغرض الأقصى من خلق البشرية، وتحقُّقه في عالم الوجود، بل هو لم يوجد بتأسيس هذه الدولة، ولا زال أمام البشرية الكثير لكي تصل إليه.

إذاً؛ فلا معنى لقُصر عُمر البشرية بعد تأسيس هذه الدولة، بل لا بدَّ أن تبقى حتى تستوفي غرضها الأعمق؛ إذ يستحيل تخلُّف الأغراض في الحكمة الإلهية الأزلية.

الدليل الثاني: أنَّه يُستبعد أن يكون زمان النتيجة أقصر بكثير من زمان المـُقدِّمات.

فإنَّنا عرفنا كم من الزمان يستغرق إعداد البشرية لليوم الموعود... وهو كل عمرها منذ أول وجودها إلى حين نَجاز ذلك اليوم العظيم، وهو ما لا يقلُّ عن عِدَّة الآف من السنين، إن لم يكن أكثر من ذلك، كما عليه أنصار الفكر الحديث، وقد استوعبت هذه المدَّة ملايين الحوادث من تضحيات البشرية وآلامها ومظالمها، ومن جهود الأنبياء والأولياء والمصلحين والشهداء، ومن ظروف التمحيص الإلهي، وما أدَّته البشرية من خيرات، وما ارتكبته من جرائم، فإنَّ كل ذلك، كان مُقدِّمة لليوم الموعود، وإعداداً لحصول شرائطه المطلوبة التي لا يمكن تحقُّقه بدونه، كما عرفنا من التخطيط الإلهي السابق على الظهور.

وقد عرضنا ذلك في التاريخ السابق مُفصَّلاً.

____________________

(1) انظر الفصل الخاص بالتخطيط الإلهي ص233.

٩٦

فهل من المعقول أن تستمرَّ المقدَّمات آلافاً من السنين، ثمَّ لا تكون النتيجة غير تسع سنوات أو أقلَّ، كما تدَّعي الفكرة التقليدية، إنَّ هذا في غاية البُعد بحكم العقل؛ فإنَّه يعني بكل وضوح استخدام الأجيال البشرية المـُتطاولة في سبيل إسعاد جيل أو نصف جيل!! إنَّ هذا قبيح عقلاً ومُستحيل في الحكمة المطلقة الأزلية.

وتبقى هذه الاستحالة سارية المفعول، ما لم تصل النتائج - أعني أجيال ما بعد الظهور - إلى حدٍّ من الكثرة، بحيث تكون التضحية بالأجيال السابقة في سبيلها، من قبيل التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة، أو بالمصلحة القليلة في سبيل المصلحة الكبيرة، فليكن القارئ مُتذكِّراً لذلك، حتى يأتي موضع الحاجة منه وإيضاحه.

وإذا تمَّ البرهان على طول عمر البشرية بعد الظهور، وعدم وصولها إلى هدفها الأسمى بمُجرَّد حصوله.

إذاً؛ فمن اللازم التخطيط لهذا الهدف خلال هذا العمر، إذ لا يوجد شيء مُهمل في هذا الكون، ولا بدَّ من إعداد البشرية بالشكل الذي يُمكنها الوصول إلى ذلك الهدف، كما كانت قد أُعدَّت للتشرُّف بلقاء اليوم الموعود.

ومعه؛ يكون قد تبرهن هذا التخطيط وثبت ثبوتاً كاملاً، ولا بدَّ لنا فيما يلي أن نُعطي المؤدَّى العام لهذا التخطيط، فنتعرَّف على صياغته وخطواته، كما تعرَّفنا على صياغة وخطوات التخطيط السابق عليه.

ما بين التخطيطن:

إذا كان المقصود من التخطيط الإلهي السابق، هو التوصُّل إلى ظهور المهدي (ع) وحسب.

إذاً، يكون هذا التخطيط مُنتهياً في لحظة الظهور.

إلاَّ أنَّ التخطيط الجديد سوف لن يبدأ بلحظة الظهور بطبيعة الحال؛ لأنَّ تخطيط للعالم الذي تمَّ فيه تطبيق العدل للسير باتِّجاه (العبادة المطلقة)، وهذا التطبيق لا يتمُّ في اللحظة الأُولى... بل يحتاج إلى جهود عميقة وواسعة من قِبَل القائد المهدي (ع) وأصحابه المـُخلصين، في غزو العالم عسكرياً وثقافياً، والسيطرة عليه تماماً، فإذا تمَّت وأثمرت هذه الجهود، يكون التخطيط قد بدأ.

ومن ثُمَّ نواجه في فَهْم الموقف ثلاث أُطروحات مُحتملة:

الأُطروحة الأُولى: أنَّ هناك ما بين التخطيطين، فترة من الزمن محدودة، ذات تخطيط خاص بها، يستهدف سيطرة القائد المهدي (ع) على العالم، واستتباب الدولة العالمية

٩٧

العادلة...

حتى ما إذا أثمرت جهوده، وتمَّ تطبيق العدل الكامل على العالم، كان أول يوم لذلك، وأول يوم لتطبيق العام الجديد.

الأُطروحة الثانية: إنَّ الأُطروحة الأُولى لا تخلو من تسامح في التصوُّر؛ فإنَّ ظهور الإمام المهدي (ع) لم يُخطَّط لإيجاده بمُجرَّده، بل خُطِّط له من أجل تأسيس الدولة العالمية العادلة، وقد كانت شرائط الظهور التي عرفناها، وبرهنَّا عليها في التاريخ السابق(1) .

شرائط لهذا الهدف... وإنَّما كانت شرائط للظهور نفسه، باعتبار كونه المـُقدّمة الرئيسية الأخيرة له أيضاً.

إذاً؛ فإنتاج التخطيط السابق كاملاً لا يكون إلاَّ بتأسيس الدولة العالمية، ومعه تكون جهود الإمام المهدي (ع) وأصحابه للسيطرة على العالم داخلة في التخطيط السابق نفسه، باعتبارها الحلقة الأخيرة لهذه النتيجة الكبيرة

فإذا تمَّ تطبيق العدل وتأسيس الدولة العادلة، يكون التخطيط السابق قد انتهى.

وبلحظة البدء بتطبيق العدل تكون بداية التخطيط الثاني، ولا يكون بين التخطيطين فاصل زماني ملموس.

الأُطروحة الثالثة: إنَّ فترة السيطرة على العالم بالعدل والجهود المبذولة في هذا السبيل، داخلة في التخطيط الجديد، لا في التخطيط السابق.

وذلك بأن نفترض أنَّ الهدف من التخطيط السابق هو الظهور نفسه، بصفته كاشفاً عن القائد العالمي المؤسِّس لدولة العدل الكبرى، بهذا ينتهي هذا التخطيط عند الظهور، ولا معنى لبقائه بعد تحقُّق نتيجته.

ويبدأ التخطيط الجديد من حين الظهور فصاعداً، وتكون فترة السيطرة على العالم بالعدل مُندرجة فيه، باعتبارها مُقدِّمة لهدفه، فإنَّه يستهدف إيجاد (العبادة المطلقة) في ربوع البشرية، وهذا الهدف يحتاج إلى مُقدِّمته الرئيسية، وهي إيجاد الدولة العالمية العادلة، وهذه الدولة تحتاج إلى السيطرة على العالم بطبيعة الحال في أول تأسيسها، ومن هنا تكون الجهود المبذولة في هذه السيطرة واقعة في هدف التخطيط الثاني، فتكون مندرجة فيه. وبالرغم من أنَّ ما عرضناه خلال الأطروحة الثانية كافٍ للقول: بأنَّها هي

____________________

(1) تأريخ الغيبة الكبرى ص476 وما بعدها.

٩٨

الصحيحة، وإلاَّ أنَّ نتيجة هذا البحث تبدو وكأنَّها مجرد اصطلاح؛ فإنَّه سواء كانت فترة السيطرة على العالم بالعدل مُندرجة في التخطيط السابق أم في التخطيط اللاحق، فإنَّها واقعة في خطِّ تكامل البشرية العام الذي لا بدَّ منه باستمرار، وإنَّما عقدنا هذا البحث لأجل إيضاح جوانب الفكرة لا أكثر.

٩٩

الأُسُس العامة

لتخطيط ما بعد الظهور

إذا أردنا التعرُّف على أُسس وتفاصيل التخطيط العام لما بعد الظهور، لا بدَّ لنا من التفاتة إلى ما سبق أن قلناه في التمهيد، من أنَّه يتعذَّر على الباحث الذي يعيش الفترة السابقة على الظهور أن يُدرك العُمق الحقيقي للاتِّجاهات القانونية والفكرية العميقة، التي تكون سائدة بعد الظهور، وعند تطبيق العدل الكامل على العالم.

ومن هنا؛ ينبغي أن تبقى التفاصيل والتفريعات مصونة في الغيب إلى حين تحقُّقها، وإنَّما غاية جُهد الباحث أن يُدرك الخطوط العريضة، والقضايا العامَّة المهمَّة التي يمكن الاطِّلاع عليها في حدود الثقافة الإسلامية الموجودة في العصر الحاضر.

وبذلك نعرف إحدى نقاط الاختلاف بين التخطيطين، فإنَّ التخطيط الإلهي السابق مُتَّخذ للسير بالبشرية الماضية والحاضرة إلى نتائجها المطلوبة...

وبتعبير أوضح: أنَّنا - بحسب وجودنا في هذا الزمن - نعيش التخطيط الساري المفعول فيه.

ومن هنا يكون اطِّلاعنا على تفاصيل هذا التخطيط مُمكناً ومتيسِّراً إلى حدٍّ كبير، عن طريق القواعد العامة المعروفة، وعن طريق ما هو مُشاهد بالوجدان ممَّا قد تحقَّق من حلقاته وتفاصيله، كما سبق أن عرضنا ذلك مُفصَّلاً في التاريخ السابق.

وأمَّا تخطيط ما بعد الظهور، فيحتوي على عدِّة نقاط ضعف في التعرُّف عليه:

أولاً: بُعْدنا الزماني عنه، بحيث لا يمكن مُشاهدته بالوجدان، ولا أن يصل منه شاهد عيان.

ثانياً: إنَّنا نقتصر - في الغالب - في التعرُّف عليه على القواعد العامة، وهي لا تُعطي إلاَّ العموميات، ولا يمكنها الوصول إلى التفاصيل.

ثالثاً: إنَّنا نجهل القوانين الجديدة والنُّظم التي ستكون مُعلنة في ذلك العصر، الأمر

١٠٠