أبعاد النهضة الحسينية

أبعاد النهضة الحسينية30%

أبعاد النهضة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 181

أبعاد النهضة الحسينية
  • البداية
  • السابق
  • 181 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61933 / تحميل: 7270
الحجم الحجم الحجم
أبعاد النهضة الحسينية

أبعاد النهضة الحسينية

مؤلف:
العربية

١

٢

٣

٤

كلمة المركز

لا ينفصل الحديث عن نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام عن المنعطفات الخطيرة التي شهدها تاريخ الإسلام السياسي بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ ليس من المعقول أن تحتضر المبادئ والقيم الإسلامية في زمان الإمام الحسينعليه‌السلام دون أن تكون هناك علاقة وثيقة بين حجم تلك المؤامرة على الإسلام وبين تلك المنعطفات السياسية التي ألمّت به من قبل، ولو كانت الفترة ما بين الرسول وسبطهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكرّسة لتعميق الخطّ المحمّدي في نفوس الأمّة لما حصل هذا الإنقلاب دون أن تنبس الأمّة ببنت شفة، على أنّ هناك نقاط التقاء كثيرة بين أسباب نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام والمنعطفات السياسية التي شهدها تاريخ الإسلام السياسي في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد رحيله أيضا.

فالسقيفة - مثلاً - لم تبعد أصحاب القرار الأموي الحاسم في التعايش نفاقا مع الإسلام بعد فتح مكّة عن السلطة، بل عملت على الضدّ من ذلك إذ أتاحت لهم الفرصة السانحة إلى ما يبتغون يوم تجاوزت النصّ، ولم تضع في حساباتها أيّا من العلم، أو الاستقامة، أو العدل، أو السابقة، أو القرابة، أو الشورى كشروط للخلافة، واكتفت بشرط واحد فقط وجعلته فوق كلّ اعتبار وهو أن لا تجتمع النبوّة والخلافة في بيت واحد! وبهذا مهّدت الطريق لكلّ من دبّ وهب للوصول إلى الخلافة، واستامها كلّ مفلس بما ذلك الطلقاء.

والعجيب في الأمر أنّ السقيفة لم تقف عند هذا الحدّ بل استمالت الطلقاء منذ اليوم الأوّل لانعقادها، فرشت أبا سفيان وقلّدت أولاده مناصبَ خطيرةً في دولة الإسلام، ولم تكتف بهذا حتى قلّدت الأمر - بحيلة مكشوفة - إلى الأموي عثمان!! وهكذا كانت تلك الفترة مليئة بالأحداث التي كانت تجري على نسق واحد وترتيب واحد إلى أن انتهت بنتائجها الحتمية بوصول الوغد معاوية بن أبي سفيان إلى الخلافة!!

وبدلاً من أن ينصهر معاوية وأسرته في الدين الجديد الذي حكم الأمّة باسمه، وينسى ما كان يقوله لأبيه:

يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا

بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا

خالي وعمي وعمّ الأمّ ثالثهم

وحنضل الخير قد أهدى لنا الأرقا

لا تركننّ إلى أمر يكلّفنا

والراقصات في مكّة الخرقا

فالموت أهون من قول العداة: لقد

حاد ابن حرب عن العزّى إذا فَرَقا

فبدلاً من أن ينسى ذلك ظلّ وصف الطلقاء يلاحق مخيلته، وقرار الاستسلام ماثلاً أمام عينيه، متجسّدا في سلوكه وتصرّفاته، وضلّ يواري ما تحمله الشجرة الملعونة في جوانحها من أحقاد على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله باعتباره المسؤول الأوّل عن هزائم أبي سفيان كلّها، وعلى عليعليه‌السلام باعتباره فتى الإسلام الأوّل الذي أذاق تلك الأسرة المنافقة ما تقدّم في

٥

شعر معاوية نفسه، ومن هنا جاء أمره بشتم الوصيعليه‌السلام على منابر المسلمين، وانتهى الأمر بأخذه البيعة إلى مثل يزيد الفاسق الفاجر الملعون.

وهكذا كانت السقيفة البوّابة الطبيعية التي نفذ منها يزيد إلى الملك العضوض. وما كان الإمام الحسينعليه‌السلام ليقف مكتوف الأيدي أمام هذا التحدّي الخطير الذي أطاح بكلّ ما تبقى من قيم الإسلام ومثله، وما كانعليه‌السلام ليستسلم أمام محاولة معاوية بجعل المنهج الأموي بديلاً عن الإسلام، ومن هنا ولدت نهضة الحسينعليه‌السلام لتدين لها كلّ المواقع المشرقة في تاريخ الإسلام لأنّها هي التي صنعت بالدماء الزاكيات تاريخا جديدا له.

لقد تجسّد الإسلام كلّه في نهضة الحسين، واجتمع الحقّ كلّه في ثورته على الطغاة المردة، حتى صارت تلك الثورة الحمراء القانية رمزا لكلّ حركة حرّة ترفض الضيم والخضوع للظلم والاستعباد والاضطهاد، وصارت شعارا لكلّ الثورات الإسلامية التي لا ترى حرمة وقدسية لكلّ حاكم مستبد مزيّف ما لم يلتزم الإسلام عقيدة ونظاما، وكانت فتحا جديدا بكلّ مقاييس الرسالة، ولهذا قال مفجّرها العظيم: ومن تخلّف عني لم يبلغ الفتح.

وهكذا استطاعت تلك الملحمة الحسينية أن تحقّق أهدافها الرسالية وبأكثر من اتّجاه وصعيد، حيث أيقضت روح المقاومة لدى المسلمين فكانت الثورات والانتفاضات الشعبية التي قادها العلويون تترى للإطاحة بعرش الطاغوت.

كما بعثت نهضة سيد الشهداءعليه‌السلام من جديد قيم الرسالة ومفاهيم الإسلام التي طُمِست وطواها النسيان، وماكان الإسلام ليصل موقعه الذي نرى لولا تلك النهضة، حيث أعادت للدين الحنيف قوّته بعد احتضاره، واستطاعت بكلّ فخر أن تعرّي الواقع التاريخي المزيّف المتخم بالمؤامرات ضدّ آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله والخطط المتراكمة في إقصائهم ما سالموا، وتصفيتهم ما قاوموا باعتبارهم قطب الدين الأوحد وقادته وحماته، وأيقضت الأمّة من سباتها ونبّهتها على أنّه لا حرمة في القاموس الأموي لأي دم في الإسلام ولو كان الدم دم الحسينعليه‌السلام ، على أنّ الشجرة الملعونة قد حاولت - قبل ذلك - سفك دم الوصي عليعليه‌السلام ، وسعت - من قبل - إلى إراقة دم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والكتاب الماثل بين يديك عزيزي القارئ قد جاء مبيّنا لبعض أبعاد النهضة الحسينية وأسبابها ونتائجها بعبارة مشرقة، ومنهج علمي، متضمّنا الكثير من المواقف النادرة والحقائق التاريخية سواء تلك التي سبقت النهضة أو تزامنت معها.

آملين أن يزيد في وعي الأمّة بتاريخها، وما يتطلّبه حاضرها من السير في ركب الحسين وآل الحسينعليهم‌السلام لبناء مستقبلها بناء إسلاميا بعيدا عن الذلّ والهوان وقدسية الحاكم المستبد.

واللّه الهادي إلى سواء السبيل

مركز الرسالة

٦

المقدَّمة

إن ثورة الحسينعليه‌السلام ليست مجرّد حادثة تاريخية وقعت في تاريخ المسلمين ثم انتهت، وحينئذ فلا نحتاج إلاّ أن نقيّم نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام للإطاحة بعرش الطاغوت من ناحية مسؤوليته ونقف عند ذلك، وإنّما نعتقد أن ثورة الحسينعليه‌السلام وحركته قضية تتجدد على مرّ العصور والأيام، ولا زالت هذه القضية - إلى يومنا هذا - تمدنا بالعطاء والقوة والعزيمة والقدرة. وشأن قضية الحسينعليه‌السلام شأن القرآن الكريم الذي لا يختص مضمونه بعصر نزوله، وإنما يتجدد في كل عصر ويعالج قضايا كل عصر، فهو حي متجدد كالشمس والقمر، كما ورد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام . والحسينعليه‌السلام هو قرآن ناطق لذا فإنّ قضيته وحركته لابدّ من أن نفهمها في كل عصر.

ونهضة الحسينعليه‌السلام سجلت فخرا للمسلمين، وقد عنى بها العلماء والكُتاب من مختلف الطوائف، واحتلت مكان الصدارة في الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ، وستبقى بمُثلها وقيمها ومواقفها مدرسة للاجيال تضيء لها الطريق، وتوفر لها العطاء، وهي ندية تتفجر بينابيع الخير والاصلاح حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها.

علما بان هذه النهضة قد تغلغلت في أعماق الوجدان الشعبي للأمة بوجه عام وللمسلمين الشيعة بوجه خاص، بحيث غدت جزءا من الجو الثقافي العام للإنسان الشيعي، وأسهمت، ولاتزال تُسهم حتى الآن، بدور

٧

هام في تكوين شخصيته الثقافية، وأخلاقياته الإجتماعية والسياسية. ويلاحظ أن نهضة الحسين من بين جميع الثورات في تاريخ الإسلام الحافل بالثورات، هي النهضة الوحيدة التي لا تزال ذكراها حيَّة غضَّة في حاضر المسلمين كما كانت كذلك في ماضيهم، وهي الوحيدة من بين الثورات، الثورة التي دخلت في أعماق الوجدان الشعبي وكانت واعزا وحافزا لما تلاها من ثورات، يقول الكاتب والأديب:

« لم تنقضِ ستّ سنوات على مصرع الحسين حتى حاق الجزاء بكل رجل أصابه في كربلاء، فلم يكد يسلم منهم أحد من القتل والتنكيل مع سوء السمعة ووسواس الضمير. ولم تعمر دولة بني أمية بعدها عمر رجل واحد مديد الأجل، فلم يتم لها بعد مصرع الحسين نيف وستون سنة! وكان مصرع الحسين هو الداء القاتل الذي سكن في جثمانها حتى قضى عليها، وأصبحت ثارات الحسين نداء كل دولة تفتح لها طريقاً إلى الأسماع والقلوب »(١) .

جدير بالذكر يركز البعض من الكُتاب والباحثين على بُعد واحد من أبعاد نهضة الحسينعليه‌السلام ، فيتناولونه بالبحث والتحقيق وكأنه البعد الفريد في النهضة المباركة، وفات هؤلاء خطأ النظرة الاحادية الجانب، التي تسهب في جانب أو بُعد واحد على حساب باقي الأبعاد العديدة.

ونحن في هذا الكتيب قد تناولنا بصورة مختصرة ولكن مركزة عدة أبعاد أساسية من نهضة الحسينعليه‌السلام ، وسلطنا الأضواء المعرفية على أبعاد لم

__________________

(١) المجموعة الكاملة لأعمال العقاد - الحسينعليه‌السلام أبو الشهداء ٢: ٢٣٠.

٨

تتناولها الأبحاث والدراسات الحسينية بصورة واسعة كالبعد العسكري والاعلامي.

ومن اللّه تعالى نستمد العون والتوفيق.

٩

أولاً: البعد الغيبي

الإمام الحسينعليه‌السلام إنسانٌ سماوي، متصل بالغيب اتصالاً وثيقا، فقد رسم له الغيب دورا رساليا، وحدد له خطوات المسير فنفذها - بدقة - على الرغم من طابعها المأساوي. يقول الشهرستاني: « تلوح من السيرة الحسينية المثلى انه مسبوق العلم بأنباء من جده وأبيه وأمه وأخيه وحاشيته وذويه بأنه مقتول بسيف البغي - خضع أو لم يخضع، وبايع أو لم يبايع - فهلا يرسم العقل الناضج لمثل هذا الفتى المستميت خطة غير الخطة التي مشى عليها حسين الفضيلة، قوامها الشرع وزمامها النبل »(١) .

ومن أجل ذلك فقد رفض كل الدعوات والنصائح التي تدعوه إلى عدم الخروج من مكة، وتحذره من مغبة التوجه إلى العراق. وهذا الفهم لايتنافى - بطبيعة الحال - مع الحسابات الواقعية التي كانت تحتم على الإمامعليه‌السلام بأن يأخذ زمام المبادرة، بعد أن استأثر الأمويون بالسلطة، وطمسوا معالم الدين، واتخذوا مال اللّه دولاً وعباده خِولاً. اجل لقد تحرك الإمامعليه‌السلام على ضوء المعطيات العملية، ومنها: وصول يزيد الفاسق إلى سدة الحكم، واكراهه الحسينعليه‌السلام على لزوم البيعة له، ولكن كان هذا

__________________

(١) نهضة الحسين / الشهرستاني: ١٨.

١٠

التحرك - مع ذلك - بمشيئة وارادة إلهية.

وكشف عن هذه الرغبة الإلهية في عدة مواقف، منها: « جاء عبداللّه ابن عباس رضى الله عنه وعبداللّه بن الزبير فأشارا إليه بالإمساك. فقال لهما إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمرني بأمر وأنا ماضٍ فيه. قال: فخرج ابن عباس وهو يقول: واحسيناه »(١) .

فهنا تتطابق الحقائق الواقعية مع الأوامر النبوية الصادرة عن عالم الغيب، فالحسينعليه‌السلام يدرك بصورة لايشوبها الشك أنه بين خيارين أحلاهما مرّ: إما البيعة قسرا، أو القتل حتما. وليس أمامه إلا المسير حسب أوامر الغيب، المتمثلة بأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله له بالتحرك. وإذا كان الحسينعليه‌السلام هنا يفسر المسير بالأهل والنساء والأطفال إلى كونهم ودائع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله عنده وخوفه عليهم من أزلام يزيد، لا سيما وهو يعلم بأنهم لا يتورّعون عن فعل شيء، فليس من المستبعد أن يستخدمهم هؤلاء كرهائن لثني الحسينعليه‌السلام عن المسير إلى العراق. وهناك دلالة عميقة استنبطتها العقول الكبيرة لتثبت من خلالها أن الحسينعليه‌السلام ضحى بعياله من أجل الدين، يقول « جارلس ديكنز »، الكاتب الانكليزي المعروف: « إن كان الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية، فانني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟ إذن العقل يحكم انه ضحى فقط لأجل الإسلام »(٢) .

__________________

(١) اللهوف: ٢١ - ٢٢.

(٢) موسوعة عاشوراء / جواد محدثي: ٢٩٠.

١١

ولكن الحسينعليه‌السلام في موقف آخر يعزو أخذ العيال معه وفق نظرة غيبية بحتة، وفقا للمشيئة الإلهية، وذلك لما «أراد العراق قالت له أمّ سلمة: لا تخرج إلى العراق، فقد سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: يقتل ابني الحسين بأرض العراق وعندي تربة دفعها إليّ في قارورة. فقال: « واللّه إنّي مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضا، وإن أحببت أن أُريك مضجعي ومصرع أصحابي. ثمّ مسح على وجهها، ففسح اللّه في بصرها حتى أراها ذلك كلّه، وأخذ تربة فأعطاها من تلك التربة أيضا في قارورة أخرى، وقالعليه‌السلام : فإذا فاضتا دما، فاعلمي أنّي قد قتلت. فقالت أمّ سلمة: فلمّا كان يوم عاشوراء نظرت إلى القارورتين بعد الظهر فإذا هما قد فاضتا دما، فصاحت »(١) .

وبطبيعة الحال لا تكون الإرادة والمشيئة الإلهية بدون حِكم بالغة، بعضها يتصل بالحسينعليه‌السلام من أجل تكريمه، ورفعه إلى الدّرجات السامية التي لا تنال إلاّ بالشهادة الدامية، والبعض الآخر منها لكشف معدن أعدائه، ولكي يدرك القاصي والداني بأن هؤلاء من أهل الأهواء والمصالح، وبعيدون - كل البعد - عن جوهر الدّين.

ولعلّنا لا نغالي إذا قلنا بأن الحسينعليه‌السلام - بعد أن استلم الأمر الإلهي - أصبح شعلةً من حركة لا تخمد، ولم يلتفت إلى النصائح والدعوات التي انهالت عليه من القريب والبعيد، محاولةً ثنيه عن عزمه، وكانت بالحسابات الدنيوية قد تتّصف بشيء من الواقعية، فهو يتحرّك مع قلّة

__________________

(١) الخرائج والجرائح / الراوندي ١: ٢٥٤ / الباب الرابع.

١٢

العدد والعدّة، ويأخذ - مع ذلك - معه أطفاله وعياله، ويتّجه إلى بلد كالعراق متعدّد الأعراق والفِرق، ويتكوّن من فسيفساء عجيبة من الاتجاهات المتناقضة والمتنافرة، وأهله - أهل الكوفة - كانوا آنذاك خليطاً عجيباً متناثراً من البشر، يُوصمون - من قبل الغير - بالغدر، وقد غدروا بأبيه وأخيه من قبل، وإن كانوا - على وجه العموم - من أعوان أهل البيت ومواليهم. زد على ذلك فان العراق بلد تتشكّل جغرافيته من سهول ممتدة، وليس فيه جبال وعرة، ونتيجة لذلك، فلا يمتاز بالأمن والمنعة للحسينعليه‌السلام ، فهو لا يصلح لحرب العصابات كبلاد اليمن. كل هذه الأسباب قد تضفي بعض المصداقية على تلك الدعوات المخلصة التي حثّت الإمام الحسينعليه‌السلام على استكشاف خياراته على ضوء معطيات الواقع. ولكن الإمامعليه‌السلام خرج بوعيه من قفص الواقع وحساباته المادية البحتة، التي يدركها جيدا، ولكنه استشف آفاق أوسع من كل ذلك، هي آفاق الغيب والشهادة التي تسمو على الحسابات المادية الآنية.

ومن مصاديق ذلك: « أنّ محمّد بن الحنفية لما بلغه أن أخاه عازم على الخروج من مكّة إلى العراق صار إلى أخيه الحسينعليه‌السلام في الليلة التي أراد الحسينعليه‌السلام الخروج في صبيحتها عن مكّة. فقال له: يا أخي، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خِفتُ أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تُقيم، فانّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه. فقال الحسين: يا أخي، قد خِفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يُستباح به حرمةُ هذا البيت. فقال له ابنُ الحنفية: فان خِفتَ ذلك فصِرْ الى اليمن أو بعض نواحي البرّ، فإنك أمنع الناس به، ولايقدر عليك

١٣

أحد. فقال: أنظر فيما قلت.

فلما كان السحر ارتحل الحسينعليه‌السلام فبلغ ذلك ابنَ الحنفية فأتاه، فأخذ بزمام ناقته، وقد ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال: بلى. قال ابنُ الحنفية: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ قال: أتاني رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدما فارقتُك، فقال: يا حسين أخرج، فان اللّه قد شاء أن يراك قتيلاً. فقال ابنُ الحنفية: إنا للّه وإنا اليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك، وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ فقال الحسينعليه‌السلام : إن اللّه قد شاء أن يراهنّ سبايا. فسلّم عليه ومضى »(١) .

إذن فالمشيئة الإلهية تسمو فوق الحسابات السياسية والقناعات الذاتية، ولم يكن الحسينعليه‌السلام خائفا على نفسه - مع تيقّنه بأن هؤلاء لا يتركوه وشأنه - بل كان خائفا على رسالته ودينه. فقد تعهّد له « عبداللّه بن جعفر » بأخذ الأمان له ولأمواله ولأهله، مع ذلك أصغى الحسينعليه‌السلام لنداء الغيب، ولم يركن للأسباب. يقول الرّواة: « حاول عبداللّه بن جعفر إرجاع الحسينعليه‌السلام إلى مكّة، فقد كتب مع ولديه عون ومحمّد كتابا يقول فيه: أمّا بعدُ: فإنِّي أسألك باللّه لمّا انصرفت حين تنظرُ في كتابي، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أن يكون فيه هلاكُك واستئصال أهلِ بيتك، إن هلكت اليوم طفئَ نورُ الأرض، فإنّك عَلَمُ المهتدينَ ورجاءُ المؤمنينَ، فلا تستعجلْ بالمسير فإنّي في أثر كتابي، والسلامُ. وصار عبداللّه بن جعفر إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين أمانا ويُمنِّيَه ليرجع عن وجهه،

__________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف: ٣٩ - ٤٠ - ط١، أنوار الهدى، قم.

١٤

فكتب إليه عمرو بن سعيد كتابا يُمنّيه فيه الصلة ويؤمنه على نفسه، وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد، فلحقه يحيى وعبداللّه بن جعفر بعد نفوذ ابنيه، ودفعا إليه الكتاب، وجهدا به في الرجوع، فقال:إني رأيت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام، وأمرني بما أنا ماضٍ له، فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثت أحدا بها، ولا أنا محدِّث أحدا حتى ألقى ربي جلّ وعزّ . فلما أيس منه عبداللّه بن جعفر أمرَ ابنيه عونا ومحمّدا بلزومه والمسير معه والجهاد دونه، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّه(١) .

وكان الإمام يصغي بإذن متعاطفة مع الذين نصحوه وأشاروا عليه بعدم الخروج أو بتغيير وجهة المسير، كان يريد أن يسمع إلى ما يريد الآخرون قوله، ومن هذه الأقوال انطلقت آراء اتصفت بالحكمة وبعد النظر، منها رأي ذلك الشيخ الذي أشار عليه بالانصراف عن المسير إلى الكوفة، وحذّره من النتيجة المأساوية المتوقّعة، وتساءل - محقا - لماذا لم يقم أهل الكوفة بالمقدمات المطلوبة، كالتمرّد على أتباع يزيد، وتمهيد الأرضية المناسبة للثورة؟! وبذلك يكفوه مؤنة القتال، يروى أنه « لما سارعليه‌السلام من زبالة(٢) حتى مرّ ببطن العقبة، فنزل فيها، فلقيه شيخ من بني عِكرمة يقال له عمرو بن لوذان، فسأله: أين تُريد؟ قال الحسينعليه‌السلام :

__________________

(١) الإرشاد / الشيخ المفيد ٢: ٦٨ - ٦٩، تحقيق: مؤسّسة آل البيتعليهم‌السلام لتحقيق التراث، الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأولى - رجب ١٤١٣ ه.

(٢) زبالة: اسم لأحد المنازل على الطريق بين مكّة والمدينة، نزل فيه الحسينعليه‌السلام .

١٥

الكوفة . فقال له الشيخ: أنشدك اللّه لما انصرفت، فواللّه ما تقدم إلاّ على الأسنة وحدّ السيوف، وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّؤوا لك الأشياء، فقدمت عليهم كان ذلك رأيا، فأما على هذه الحال التي تذكر، فاني لا أرى لك أن تفعل. فقال له:يا عبد اللّه، ليس يخفى عليّ الرأي، ولكن اللّه لا يُغلب على أمره، ثم قال: واللّه لا يَدَعُونني حتى يستخرجوا هذه العَلقةَ من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط اللّه عليهم من يُذلّهم حتى يكونوا أذلّ فِرَق الأمم »(١) .

كان الحسينعليه‌السلام ينظر للغيب من وراء ستر رقيق، ويعلم أن القدر قد رسم له دورا لابد له من القيام به، ومواجهة الحقيقة المرّة وهي الموت المحقق. يروي الدَّينوري أنّه « لما سار الحسينعليه‌السلام من بطن الرمّة(٢) ، لقيه عبداللّه بن مطيع، وهو منصرف من العراق، فسلم على الحسين، وقال له: بأبي أنت وأمي يا بن رسول اللّه، ما أخرجك من حرم اللّه وحرم جدّك؟ فقال: إنّ أهل الكوفة كتبوا إليَّ يسألوني أن أقدم عليهم لما رجوا من إحياء معالم الحقّ، وإماتة البدع. قال له ابن مطيع: أنشدك اللّه أن لا تأتي الكوفة، فواللّه لئن أتيتها لتقتلن. فقال الحسينعليه‌السلام : لن يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا. ثمّ ودّعه ومضى »(٣) .

وروى في مورد آخر: « إنّ عبداللّه بن مطيع استقبل الحسينعليه‌السلام ، وهو

__________________

(١) الإرشاد / الشيخ المفيد ٢: ٧٦، تحقيق: مؤسسة أهل البيت لتحقيق التراث.

(٢) مكان قريب من البصرة.

(٣) الأخبار الطوال: ١٨٥، دار الفكر الحديث.

١٦

منصرف من مكّة يريد المدينة، فقال له: أين تريد؟. قال الحسين: أمّا الآن فمكة، قال: خار اللّه لك، غير أنّي أحبّ أن أشير عليك برأي. قال الحسينعليه‌السلام : وما هو؟. قال: إذا أتيت مكة فأردت الخروج منها إلى بلد من البلدان، فإيّاك والكوفة، فإنّها بلدة مشؤومة، بها قتل أبوك، وبها خذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت أن تأتي على نفسه، بل الزم الحرم، فإنّ أهل الحجاز لا يعدلون بك أحدا، ثمّ ادع إليك شيعتك من كلّ أرض، فسيأتونك جميعا. قال له الحسين:يقضي اللّه ما أحب »(١) . وبذلك يظهر أنّهعليه‌السلام استسلم - بالكامل - للمشيئة الإلهيّة.

وهذا الموقف لا يفسر بمعزل عن الظروف الواقعية الصعبة المحيطه به، التي تعصف مثل ريح السّموم، وموقفه هذا ليس قفزا على الواقع والوقائع بل ينسجم معها تمام الإنسجام، فبنو أمية لايتركوه حيا حتى يوقع لهم على صك العبودية والاستسلام، من هنا أدرك أنه لابد من تقديم نفسه كبش فداء خدمة للدّين والقيم، لذلك اتخذ موقفا نهائيا بالمواجهة مع علمه المسبق بالنتيجة، ومن الشواهد على ذلك أنه قبل أن يخرج قام خطيبا في الناس - بعد أن صلّى بين الرّكن والمقام ركعتين - فقال: «الحمدُ للّه، وما شاءَ اللّه، ولا قوّةَ إلاّ باللّه، وصلّى اللّه على رسوله. خُطّ الموتُ على وُلد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه. كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأنّ مني أكراشا جوفا، وأجربة سغبا

__________________

(١) المصدر السابق: ١٧٤.

١٧

لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضى اللّه رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويُوفّينا أجور الصّابرين، لن تشذّ عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لُحمتُه، وهي مجموعة له في حَظيرة القُدس، تقرّ بهم عينُه، ويُنجز بهم وعده. من كان باذلاً فينا مهجته، وموطّنا على لقاء اللّه نفسه، فليرحل معنا، فإنّني راحلٌ مصبحا إن شاء اللّه تعالى »(١) .

وتابعت السماء اتصالها برجل الفداء، وكانت الإشارات التي ترد عليه واضحة بلجاء بيضاء كوضح النهار، لا تحمل في طياتها سوى النذر بأنه على موعد مع القدر، قال أبو مخنف: حدَّثني عبدالرحمن بن جُندُب، عن عقبة بن سمعان قال: «لمّا كان في آخر الليل أمر الحُسينعليه‌السلام بالاستسقاء من الماء، ثمّ أمرنا بالرحيل، ففعلنا. قال: فلمّا ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسينعليه‌السلام برأسه خفقة، ثمّ انتبه وهو يقول: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، والحمد للّه ربّ العالمين. قال: ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثا، قال: فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له فقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، والحمد للّه ربّ العالمين. يا أبت، جعلت فداك! ممّا حمدت اللّه واسترجعت؟ قال:يا بني، إنّي خفقت برأسي خفقة، فعنّ لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نُعيت إلينا ، قال له: يا أبت، لا أراك اللّه سوءا، ألسنا على الحقّ؟ قال:بلى والذي إليه مرجع العباد . قال: يا أبت، إذا لا نُبالي، نموت محقّين. فقال له:جزاك اللّه من

__________________

(١) اللهوف: ٣٨.

١٨

ولد خير ما جزى ولدا عن والده (١) .

والأغرب من كل ذلك أنه كان يعلم مكان مصرعه ومصرع أصحابه، في كربلاء، وأنه سيكون محلاً لقبره وقبور أهل بيته وأصحابه، مع أن النتائج كانت في رحم الغيب!! كل ذلك بفضل أخبار الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله له، ومن الشواهد التاريخية على ذلك أنه « لما سارعليه‌السلام والحُرّ يسايره ويُمانعه، حتى إذا وصلوا كربلاء، قال:ما اسم هذه الأرض ؟ فقيل: كربلاء، فقالعليه‌السلام :اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء. ثمّ قال: هذا موضع كرب وبلاء، إنزلوا، هاهنا محطّ رحالنا، ومسفك دمائنا، وهنا محلّ قبورنا، بهذا حدثني جدي رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله »(٢) . وفي رواية أخرى اكتفى بالقول: «هذا موضع الكرب والبلاء، هذا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، ومقتل رجالنا، ومسفك دمائنا »(٣)

لقد أخذت إشارات الغيب تتوارد على الإمامعليه‌السلام في حلّه وترحاله، وفي يقظته ومنامه، فكثيرا ما كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يترائى لسبطه، فمرّة يصدر له الأوامر بالنهوض، وأخرى يحمل له بشائر الشهادة وقرب اللِّحاق به، وقد كشف الإمامعليه‌السلام عن بعض تلك الاتصالات التي تحدث خلف ستار الغيب، وقد أشرنا إلى البعض منها فيما سبق ومنها: « لما زحف ابنُ سعد على مُخيَّم الحسين عصر اليوم التاسع من المحرم. نادى: ياخيل اللّه اركبي

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦: ٢١٧، حوادث سنة إحدى وستين، دار الفكر، الطبعة الأولى ١٤١٨ ه / ١٩٩٨ م.

(٢) اللهوف: ٤٩.

(٣) مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٤: ٩٧، دار الأضواء، بيروت.

١٩

وأبشري. وكان الحسين محتبيا بسيفه، وقد خفق برأسه، فسمعت أختهُ الصيحة، فدنتْ من أخيها، فقالت: يا أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسينعليه‌السلام رأسه، فقال:إنّي رأيتُ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الساعةَ في المنام، فقال لي: إنّك تروح إلينا. فلطمت أخته وجهها، ونادت: بالويل!! فقال عليه‌السلام : ليس لك الويل يا أخية. اسكتي رحمك اللّه »(١) .

علما بأن الحسينعليه‌السلام جاء - قبل خروجه إلى مكّة - إلى قبر جدّه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فصلّى عند القبر ركعات، ثم قال: «اللّهم إنّ هذا قبر نبيّك محمّد، وأنا ابنُ بنت نبيّك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت. اللّهم، إنّي أُحبّ المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومن فيه إلاّ اخترت لي ما هو لك رضا ولرسولك رضا ». وجعل يبكي حتى إذا كان قريب الصباح وضع رأسه على القبر، فأغفى، فاذا هو برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه، فضمّ الحسينعليه‌السلام إلى صدره، وقبّل مابين عينيه وقال: «حبيبي يا حسين، كأني أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك مذبوحا بأرض كربٍ وبلاء من عصابةٍ من أُمتي، وأنت مع ذلك عطشانُ لا تُسقى، وظمآنُ لا تُروى، وهم مع ذلك يرجُونَ شفاعتي يوم القيامة، وما لهم عند اللّه من خَلاق. حبيبي يا حسين، إنَّ أباك وأمك وأخاك قدموا عليّ، وهم مشتاقون إليك، وإنّ لك في الجِنان لدرجاتٍ لن تنالها إلاّ بالشهادة ».

فانتبه الحسينعليه‌السلام من نومه فزعا مرعوبا، وقصّ رؤياه على أهل بيته

__________________

(١) الارشاد ٢: ٨٩ - ٩٠.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة. يقول لمن أراد كونه كن فيكون. لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً.

لا يقال كان بعد أن لم يكن، فتجري عليه الصفات المحدثات، ولا يكون بينها وبينه فصل، ولا له عليها فضل، فيستوي الصانع والمصنوع، ويتكافأ المبتدئ والبديع.

خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه، وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصنها من الأود والإعوجاج، ومنعها من التهافت والإنفراج. أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وخد أوديتها، فلم يهن ما بناه، ولا ضعف ما قواه.

هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزته، لا يعجزه شيء منها طلبه، ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها فيسبقه، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه.

خضعت الأشياء له، وذلت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضره، ولا كفؤ له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه.

هو المفني لها بعد وجودها، حتى يصير موجودها كمفقودها، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها.

أوّل الدين معرفته.... وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه

- نهج البلاغة ج ١ ص ١٤

ومن خطبة لهعليه‌السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم:

الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون. الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس

١٤١

لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور مَيَدَان أرضه..

أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال فيم فقد ضمنه، ومن قال علام فقد أخلى منه.

كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحد إذ لا سكن يستأنس به، ولا يستوحش لفقده.

أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا رَوِيَّةً أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها، أحال الأشياء لأوقاتها، ولاءم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالماً بها قبل ابتدائها، محيطاً بحدودها وانتهائها، عارفاً بقرائنها وأحنائها.

ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء، وشق الأرجاء، وسكائك الهواء، فأجرى فيها ماء متلاطماً تياره، متراكماً زخاره، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها برده، وسلطها على شده، وقرنها إلى حده، الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق.

ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم مهبهاً، وأدام مربها، وأعصف مجراها، وأبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء، ترد أوله إلى آخره، وساجيه إلى مائره، حتى عب عُبَابُه، ورمى بالزبد ركامه، فرفعه في هواء منفتق، وجو منفهق، فسوى منه سبع

١٤٢

سموات، جعل سفلاهن موجاً مكفوفاً، وعلياهن سقفاً محفوظاً، وسمكاً مرفوعاً، بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينظمها.

ثم زينها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب، وأجرى فيها سراجاً مستطيراً، وقمراً منيراً، في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر، ثم فتق ما بين السموات العلا، فملأهن أطواراً من ملائكته، منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العين، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان. ومنهم أمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره. ومنهم الحفظة لعباده، والسدنة لأبواب جنانه. ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة، لا يتوهمون ربهم بالتصوير، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر.

ثم جمع سبحانه من حَزْن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها، تربة سنَّها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول، وأعضاء وفصول، أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت، لوقت معدود، وأمد معلوم، ثم نفخ فيها من روحه، فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها، وفكر يتصرف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل، والأذواق والمشام، والألوان والأجناس. معجوناً بطينة الألوان المختلفة، والأشباه المؤتلفة، والأضداد المتعادية، والأخلاط المتباينة، من الحر والبرد، والبلة والجمود، واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم، وعهد وصيته إليهم، في الإذعان بالسجود له، والخشوع لتكرمته....

١٤٣

كان المسلمون يعرفون قيمة الجواهر فيكتبونها

- التوحيد للشيخ الصدوق ص ٣١

حدثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه محمد بن خالد البرقي، عن أحمد بن النضر وغيره، عن عمرو بن ثابت، عن رجل سماه، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث الأعور قال: خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام يوماً خطبة بعد العصر، فعجب الناس من حسن صفته وما ذكر من تعظيم الله جل جلاله، قال أبو إسحاق فقلت للحارث: أو ما حفظتها قال: قد كتبتها، فأملاها علينا من كتابه:

الحمد لله الذي لا يموت، ولا تنقضي عجائبه، لأنه كل يوم في شأن، من إحداث بديع لم يكن. الذي لم يولد فيكون في العز مشاركاً، ولم يلد فيكون موروثاً هالكاً، ولم تقع عليه الأوهام فتقدره شبحاً ماثلاً، ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حائلاً، الذي ليست له في أوليته نهاية، ولا في آخريته حد ولا غاية، الذي لم يسبقه وقت، ولم يتقدمه زمان، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان، ولم يوصف بأين ولا بمكان، الذي بطن من خفيات الأمور، وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير. الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا بنقص، بل وصفته بأفعاله، ودلت عليه بآياته، ولا تستطيع عقول المتفكرين جحده، لأن من كانت السماوات والأرض فطرته وما فيهن وما بينهن هو الصانع لهن، فلا مدفع لقدرته.

الذي بان من الخلق فلا شيء كمثله. الذي خلق الخلق لعبادته وأقدرهم على طاعته بما جعل فيهم، وقطع عذرهم بالحجج، فعن بينة هلك من هلك وعن بينة نجا من نجا. ولله الفضل مبدئاً ومعيدا....

الحمد لله اللابس الكبرياء بلا تجسد، والمرتدي بالجلال بلا تمثل، والمستوي على العرش بلا زوال، والمتعالي عن الخلق بلا تباعد منهم، القريب منهم بلا ملامسة منه لهم، ليس له حد ينتهي إلى حده، ولا له مثل فيعرف بمثله، ذل من

١٤٤

تجبر غيره، وصغر من تكبر دونه، وتواضعت الأشياء لعظمته، وانقادت لسلطانه وعزته، وكلت عن إدراكه طروف العيون، وقصرت دون بلوغ صفته أوهام الخلائق، الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء، ولا يعدله شيء، الظاهر على كل شيء بالقهر له، والمشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها، ولا تلمسه لامسة ولا تحسه حاسة، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم. أتقن ما أراد خلقه من الأشياء كلها بلا مثال سبق إليه، ولا لغوب دخل عليه، في خلق ما خلق .... إلى آخر الخطبة.

أمير المؤمنين يردّ على تجسيم اليهود

- قال الصدوق في كتابه التوحيد ص ٧٧

حدثنا أبوسعيد محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المذكر المعروف بأبي سعيد المعلم بنيسابور، قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، قال حدثنا علي ابن سلمة الليفي، قال حدثنا إسماعيل بن يحيى بن عبد الله، عن عبد الله بن طلحة بن هجيم، قال حدثنا أبو سنان الشيباني سعيد بن سنان، عن الضحاك، عن النزال بن سبرة قال: جاء يهودي إلى علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين متى كان ربنا؟ قال فقال له عليعليه‌السلام : إنما يقال: متى كان لشيء لم يكن فكان، وربنا تبارك وتعالى هو كائن بلا كينونة كائن، كان بلا كيف يكون، كائن لم يزل بلا لم يزل، وبلا كيف يكون، كان لم يزل ليس له قبل، هو قبل القبل بلا قبل وبلا غاية ولا منتهى، غاية ولا غاية إليها، غاية انقطعت الغايات عنه، فهو غايه كل غاية.

أخبرني أبوالعباس الفضل بن الفضل بن العباس الكندي فيما أجازه لي بهمدان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة قال: حدثنا محمد بن سهل يعني العطار البغدادي لفظاً من كتابه سنة خمس وثلاثمائة قال: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي قال: حدثني عمارة بن زيد، قال: حدثني عبد الله بن العلاء قال: حدثني صالح بن سبيع، عن عمرو بن محمد بن صعصعة بن صوحان قال: حدثني أبي، عن أبي المعتمر مسلم بن أوس قال: حضرت مجلس عليعليه‌السلام في جامع الكوفة فقام إليه رجل مصفر

١٤٥

اللون كأنه من متهودة اليمن فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك وانعته لنا كأنا نراه وننظر إليه، فسبح عليعليه‌السلام ربه وعظمه عز وجل وقال:

الحمد لله الذي هو أول بلا بدء مما، ولا باطن فيما، ولا يزال مهما، ولا ممازج مع ما، ولا خيال وهما، ليس بشبح فيرى، ولا بجسم فيتجزى، ولا بذي غاية فيتناهى، ولا بمحدث فيبصر، ولا بمستتر فيكشف، ولا بذي حجب فيحوى.

كان ولا أماكن تحمله أكنافها، ولا حملة ترفعه بقوتها، ولا كان بعد أن لم يكن، بل حارت الأوهام أن تكيف المكيف للأشياء ومن لم يزل بلا مكان، ولا يزول باختلاف الأزمان، ولا ينقلب شاناً بعد شان.

البعيد من حدس القلوب، المتعالي عن الأشياء والضروب، والوتر علام الغيوب، فمعاني الخلق عنه منفية، وسرائرهم عليه غير خفية، المعروف بغير كيفية، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأفكار، ولا تقدره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، فكل ما قدره عقل أو عرف له مثل فهو محدود، وكيف يوصف بالأشباح، وينعت بالألسن الفصاح، من لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو عنها بائن، ولم يخل منها فيقال أين، ولم يقرب منها بالإلتزاق، ولم يبعد عنها بالإفتراق، بل هو في الأشياء بلا كيفية، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وأبعد من الشبه من كل بعيد.

لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، ولا من أوائل كانت قبله بدية،بل خلق ما خلق، وأتقن خلقه، وصور ما صور، فأحسن صورته، فسبحان من توحد في علوه، فليس لشيء منه امتناع، ولا له بطاعة أحد من خلقه انتفاع، إجابته للداعين سريعة، والملائكة له في السماوات والأرض مطيعة، كلم موسى تكليماً بلا جوارح وأدوات، ولا شفة ولا لهوات، سبحانه وتعالى عن الصفات، فمن زعم أن إله الخلق محدود، فقد جهل الخالق المعبود .... والخطبة طويلة أخذنا منها موضع الحاجة.. انتهى.

وقد تقدم في الفصل الأول رده على كعب الأحبار فى مجلس الخليفة عمر.

١٤٦

ويوجّه المسلمين إلى التفكّر في عظمة المخلوقات فيصف الطاووس

- نهج البلاغة ج ٢ ص ٧٠

١٦٥ ومن خطبة لهعليه‌السلام يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس:

ابتدعهم خلقاً عجيباً من حيوان وموات، وساكن وذي حركات، فأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته، ما انقادت له العقول معترفة به ومسلمة له، ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته.

وما ذرأ من مختلف صور الأطيار، التي أسكنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها، من ذات أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة، مصرفة في زمان التسخير، ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح، والفضاء المنفرج.

كَوَّنها بعد أن لم تكن، في عجائب صور ظاهرة، وركبها في حقاق مفاصل محتجبة، ومنع بعضها بعبالة خلقة، أن يسمو في السماء خفوفاً، وجعله يدف دفيفاً، ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته، ودقيق صنعته، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه، ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به، ومن أعجبها خلقاً الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه.

إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه، وسما به مطلاً على رأسه، كأنه قلع داري عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ، يختال بألوانه، ويميس بزيفانه، يفضي كإفضاء الديكة، وَيُؤرُّ بملاقحة أرَّ الفحول المغتلمة للضراب الضراب.

أحيلك من ذلك على معاينة، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده، ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفتي جفونه، وأن أنثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من لقاح فحل، سوى الدمع المنبجس، لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب.

تخال قصبه مداري من فضة، وما أنبت عليها من عجيب داراته، وشموسه

١٤٧

خالص العقيان، وفلذ الزبرجد، فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت: جني جني من زهرة كل ربيع، وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشى الحلل، أو مونق عصب اليمن، وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل.

يمشي مشي المرح المختال، ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله، وأصابيغ وشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه، زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية، وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية.

وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق، ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال، وكأنه متلفع بمعجر أسحم، إلا أنه يخيل لكثرة مائه وشدة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به، ومع فتق سمعه خط كمستدق القلم في لون الأقحوان، أبيض يقق، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق، وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط، وعلاه بكثرة صقاله وبريقه، وبصيص ديباجه ورونقه، فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربها أمطار ربيع، ولا شموس قيظ، وقد يتحسر من ريشه، ويعرى من لباسه، فيسقط تترى، وينبت تباعاً، فينحت من قصبه انحتات أوراق الأغصان، ثم يتلاحق نامياً حتى يعود كهيئته قبل سقوطه، لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه.

وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية، وتارة خضرة زبرجدية، وأحياناً صفرة عسجدية.

فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين! وأقل أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه، والألسنة أن تصفه، فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون، فأدركته محدوداً مكوناً، ومؤلفاً ملوناً، وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها عن تأدية نعته.

وسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة، إلى ما فوقهما من خلق الحيتان والأفيلة،

١٤٨

ووأى على نفسه أن لا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح، إلا وجعل الحمام موعده، والفناء غايته...

ويصف النملة والجرادة

- نهج البلاغة ج ٢ ص ١١٥

١٨٥ ومن خطبة لهعليه‌السلام :.... ولو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة، والبصائر مدخولة.

ألا تنظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر، وسوى له العظم والبشر. أنظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها، وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدها في مستقرها، تجمع في حرها لبردها، وفي وردها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديان، ولو في الصفا اليابس، والحجر الجامس.

ولو فكرت في مجاري أكلها، في علوها وسفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعبا. فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها، لم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه في خلقها قادر.

ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شيء، وغامض اختلاف كل حي، وما الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوي والضعيف، في خلقه إلا سواء، وكذلك السماء والهواء، والرياح والماء. فانظر إلى الشمس والقمر، والنبات والشجر، والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال، وتفرق هذه اللغات، والألسن المختلفات.

١٤٩

فالويل لمن جحد المقدر وأنكر المدبر. زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع، ولا لاختلاف صورهم صانع، ولم يلجؤوا إلى حجة فيما ادعوا، ولا تحقيق لما أوعوا. وهل يكون بناء من غير بان، أو جناية من غير جان.

وإن شئت قلت في الجرادة، إذ خلق لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض، ومنجلين بهما تقبض، يرهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها ولو أجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها، وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون إصبعاً مستدقة.

فتبارك الله الذي يسجد له من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً، ويعفرِّ له خداً ووجهاً، ويلقى إليه بالطاعة سلماً وضعفاً، ويعطى له القياد رهبة وخوفاً، فالطير مسخرة لأمره، أحصى عدد الريش منها والنفس، وأرسى قوائمها على الندى واليبس، وقدر أقواتها، وأحصى أجناسها، فهذا غراب، وهذا عقاب، وهذا حمام، وهذا نعام. دعا كل طائر باسمه، وكفل له برزقه، وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها، وعدد قسمها، فبلَّ الأرض بعد جفوفها، وأخرج نبتها بعد جدوبها.

عليعليه‌السلام مؤسّس علم التوحيد

- أمالي المرتضى ج ١ ص ١٠٣

إعلم أن أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وخطبه، وأنها تتضمن من ذلك ما لا مزيد عليه ولا غاية وراءه، ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه، علم أن جميع ما أسهب المتكلمون من بعد في تصنيفه وجمعه، إنما هو تفصيل لتلك الجمل، وشرح لتلك الأصول.

وروي عن الأئمة من أبناءهعليهم‌السلام من ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة، ومن أحب الوقوف عليه وطلبه من مظانه أصاب منه الكثير الغزير، الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة،

١٥٠

ونتاج للعقول العقيمة، ونحن نقدم على ما نريد ذكره شيئاً مما روي عنهم في هذا الباب. فمن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وهو يصف الله تعالى:

بمضادته بين الأشياء علم أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأمور علم أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والخشونة بالليل، واليبوسة بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلف بين متباعداتها، مفرق بين متدانياتها.

وروي عنهعليه‌السلام أنه سئل: بم عرفت ربك؟ فقال: بما عرفني به. قيل: وكيف عرفك؟ قال: لا تشبهه صورة، ولا يحس بالحواس، ولا يقاس بقياس الناس.

وقيل لهعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق؟ قال: كما يرزقهم. فقيل كيف يحاسبهم ولا يرونه؟ فقال: كما يرزقهم ولا يرونه.

وسأله رجل فقال: أين كان ربك قبل أن يخلق السماء والأرض؟ فقال: أين سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان.

الإمام زين العابدينعليه‌السلام ينظم زبور آل محمد

- قالعليه‌السلام في أدعيته المعروفة بالصحيفة السجادية، الدعاء الأول:

الحمد لله الأول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين، ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً، واخترعهم على مشيته اختراعاً، ثم سلك بهم طريق إرادته، وبعثهم في سبيل محبته، لا يملكون تأخيراً عما قدمهم إليه، ولا يستطيعون تقدماً إلى ما أخرهم عنه، وجعل لكل روح منهم قوتاً معلوماً مقسوماً من رزقه، لا ينقص من زاده ناقص، ولا يزيد من نقص منهم زائد، ثم ضرب له في الحياة أجلاً موقوتاً، ونصب له أمداً محدوداً، يتخطى إليه بأيام عمره، ويرهقه بأعوام دهره، حتى إذا بلغ أقصى أثره، واستوعب حساب عمره، قبضه إلى ما ندبه إليه من موفور ثوابه، أو محذور عقابه، ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، عدلاً منه تقدست أسماؤه، وتظاهرت آلاؤه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون....

١٥١

- الصحيفة السجادية الدعاء الثاني والثلاثون

وكان من دعائهعليه‌السلام بعد الفراغ من صلاة الليل: اللهم ياذا الملك المتأبد بالخلود والسلطان، الممتنع بغير جنود ولا أعوان، والعز الباقي على مر الدهور وخوالي الاعوام، ومواضي الأزمان والأيام، عز سلطانك عزاً لا حد له بأولية، ولا منتهى له بآخرية، واستعلى ملكك علواً سقطت الأشياء دون بلوغ أمده، ولا يبلغ أدنى ما استأثرت به من ذلك أقصى نعت الناعتين، ضلت فيك الصفات، وتفسخت دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام.

كذلك أنت الله الأول في أوليتك، وعلى ذلك أنت دائم لا تزول.

وأنا العبد الضعيف عملاً، الجسيم أملاً، خرجت من يدي أسباب الوصلات إلا ما وصلته رحمتك، وتقطعت عني عصم الآمال إلا ما أنا معتصم به من عفوك، قلَّ عندي ما أعتد به من طاعتك، وكثر علي ما أبوء به من معصيتك، ولن يضيق عليك عفو عن عبدك وإن أساء، فاعف عني.....

- الصحيفة السجادية ج ٢ ص ٢١

دعاؤهعليه‌السلام في التحميد لله عز وجل:الحمد لله الذي تجلى للقلوب بالعظمة، واحتجت عن الأبصار بالعزة، واقتدر على الأشياء بالقدرة، فلا الأبصار تثبت لرؤيته، ولا الأوهام تبلغ كنه عظمته، تجبر بالعظمة والكبرياء، وتعطف بالعز والبر والجلال، وتقدس بالحسن والجمال، وتجمل بالفخر والبهاء، وتهلل بالمجد والآلاء، واستخلص بالنور والضياء. خالق لا نظير له، وواحد لاند له، وماجد لا ضد له، وصمد لا كفو له، وإله لا ثاني معه، وفاطر لا شريك له، ورازق لا معين له، الأول بلا زوال، والدائم بلا فناء، والقائم بلا عناء، والباقي بلا نهاية، والمبدئ بلا أمد، والصانع بلا ظهير، والرب بلا شريك، والفاطر بلا كلفة، والفاعل بلا عجز.

ليس له حد في مكان، ولا غاية في زمان، لم يزل ولا يزول ولن يزال، كذلك أبداً هو الإله الحي القيوم، الدائم القديم، القادر الحكيم ....

١٥٢

الإمام محمد الباقرعليه‌السلام يجيب على سؤال متى وجد الله

- الكافي ج ٨ ص ١٢٠

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة ثابت بن دينار الثمالي وأبي منصور، عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفرعليه‌السلام في السنة التي كان حج فيها هشام بن عبد الملك، وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب، فنظر نافع إلى أبي جعفرعليه‌السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تداك عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة، هذا محمد بن علي!

فقال: أشهد لآتينه فلأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو ابن نبي أو وصي نبي، قال: فاذهب إليه وسله لعلك تخجله.

فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ثم أشرف على أبي جعفرعليه‌السلام فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي، قال فرفع أبو جعفرعليه‌السلام رأسه فقال: سل عما بدا لك.

فقال: أخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة.

قال: أخبرك بقولي أو بقولك؟

قال: أخبرني بالقولين جميعاً.

قال: أما في قولي فخمسمائة سنة، وأما في قولك فستمائة سنة.

قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل لنبيه: واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون. من الذي سأل محمد، وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة.

فقال: فتلا أبو جعفرعليه‌السلام هذه الآية: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا. فكان من الآيات التي

١٥٣

أراها الله تبارك وتعالى محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، ثم أمر جبرئيلعليه‌السلام فأذن شفعاً وأقام شفعاً وقال في أذانه حي على خير العمل، ثم تقدم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله، أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا.

فقال نافع: صدقت يا أبا جعفر، فأخبرني عن قول الله عز وجل: أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما.

قال: إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم إلى الأرض وكانت السماوات رتقاً لا تمطر شيئاً، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت شيئاً، فلما أن تاب الله عز وجل على آدمعليه‌السلام أمر السماء فتقطرت بالغمام ثم أمرها فأرخت عزاليها، ثم أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفهقت بالأنهار، فكان ذلك رتقها، وهذا فتقها.

قال نافع: صدقت يابن رسول الله، فأخبرني عن قول الله عز وجل: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، أي أرض تبدل يومئذ.

فقال أبو جعفرعليه‌السلام : أرض تبقى خبزة يأكلون منها حتى يفرغ الله عز وجل من الحساب.

فقال نافع: إنهم عن الأكل لمشغولون.

فقال أبو جعفر: أهم يومئذ أشغل أم إذ هم في النار؟

فقال نافع: بل إذ هم في النار.

قال: فوالله ما شغلهم إذ دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم، ودعوا بالشراب فسقوا الحميم.

قال: صدقت يابن رسول الله، ولقد بقيت مسألة واحدة.

قال: وما هي.

قال: أخبرني عن الله تبارك وتعالى متى كان؟

١٥٤

قال: ويلك متى لم يكن حتى أخبرك متى كان! سبحان من لم يزل ولا يزال، فرداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ثم قال: يا نافع أخبرني عما أسألك عنه.

قال: وما هو.

قال: ما تقول في أصحاب النهروان، فإن قلت إن أمير المؤمنين قتلهم بحق فقد ارتددت، وإن قلت إنه قتلهم باطلاً فقد كفرت.

قال: فولى من عنده وهو يقول: أنت والله أعلم الناس حقاً حقا، فأتى هشاماً فقال له: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك، هذا والله أعلم الناس حقاً حقا، وهو ابن رسول الله حقاً، ويحق لأصحابه أن يتخذوه نبياً!! انتهى.

والظاهر أن الإمام الباقرعليه‌السلام سأل نافعاً عن رأيه في الخوارج، لأن نافعاً كان ناصبياً مؤيداً لرأي الخوارج في تكفير عليعليه‌السلام .

ويركز في المسلمين قاعدة: لا تشبيه ولا تعطيل

- التوحيد للصدوق ص ١٠٤

أبي رحمه‌الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله الأشعري قال: حدثنا أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن عيسى عمن ذكره قال: سئل أبو جعفرعليه‌السلام أيجوز أن يقال: إن الله عز وجل شيء قال: نعم، يخرجه عن الحدين حد التعطيل وحد التشبيه.

الإمام الصادقعليه‌السلام : لا نفي ولا تشبيه ولا جبر ولا تفويض

- قال الصدوق في كتابه التوحيد ص ١٠٢

حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه‌الله قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار قال: حدثنا العباس بن معروف قال: حدثنا ابن أبي نجران عن حماد بن عثمان، عن عبدالرحيم القصير قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام بمسائل، فيها: أخبرني عن الله عز وجل هل يوصف بالصورة وبالتخطيط فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب إلي بالمذهب الصحيح من التوحيد،

١٥٥

فكتبعليه‌السلام بيد عبد الملك بن أعين:

سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك، فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعالى الله عما يصفه الواصفون المشبهون الله تبارك وتعالى بخلقه، المفترون على الله. واعلم رحمك الله أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله عز وجل، فانف عن الله البطلان والتشبيه، فلا نفي ولا تشبيه، هو الله الثابت الموجود، تعالى الله عما يصفه الواصفون، ولا تَعْدُ القرآن فتضل بعد البيان.

- توحيد الصدوق ص ١٠٣

حدثني محمد بن موسى بن المتوكل رحمه‌الله قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن يعقوب السراج قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إن بعض أصحابنا يزعم أن لله صورة مثل صورة الإنسان، وقال آخر إنه في صورة أمرد جعد قطط، فخر أبو عبد الله ساجداً، ثم رفع رأسه، فقال: سبحان الله الذي ليس كمثله شيء، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به علم، لم يلد لأن الولد يشبه أباه، ولم يولد فيشبه من كان قبله، ولم يكن له من خلقه كفواً أحد، تعالى عن صفة من سواه علواً كبيرا.

المؤمنون يرون الله بعقولهم وقلوبهم في الدنيا والآخرة

- بحار الأنوار ج ٤ ص ٣١

لي: الطالقاني، عن ابن عقدة، عن المنذر بن محمد، عن علي بن إسماعيل الميثمي، عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادقعليهما‌السلام عن الله تبارك وتعالى هل يرى في المعاد فقال: سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيرا. يا ابن الفضل، إن الأبصار لا تدرك إلا ماله لون وكيفية، والله خالق الألوان والكيفية.

١٥٦

- بحار الأنوار ج ٤ ص ٤٤

يد: الدقاق، عن الأسدي، عن النخعي، عن النوفلي، عن البطائني، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قلت له: أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة.

قال: نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة.

فقلت: متى؟

قال: حين قال لهم: ألست بربكم قالوا بلى. ثم سكت ساعة ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير فقلت له: جعلت فداك فأحدث بهذا عنك؟ فقال لا، فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله، ثم قدر أن ذلك تشبيه كَفَر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون.

ضه: سأل محمد الحلبي الصادقعليه‌السلام فقال: رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ربه قال: نعم رآه بقلبه، فأما ربنا جل جلاله فلاتدركه أبصار حدق الناظرين، ولا تحيط به أسماع السامعين.

- بحار الأنوار ج ٤ ص ٣٣

ج: عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله: لا تدركه الأبصار، قال: إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله: قد جاءكم بصائر من ربكم، ليس يعني بصر العيون. فمن أبصر فلنفسه، ليس يعني من أبصر بعينه، ومن عمي فعليها، ليس يعني عمى العيون، إنما عنى إحاطة الوهم، كما يقال فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب. الله أعظم من أن يرى بالعين.

الإمام الصادقعليه‌السلام يردّ على الحلول والثنائية بين الذات والصفات

- الكافي ج ١ ص ٨٢

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن زرارة بن أعين قال: سمعت أبا

١٥٧

عبد اللهعليه‌السلام يقول: إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه، وكل ما وقع عليه شيء ما خلا الله فهو مخلوق، والله خالق كل شيء، تبارك الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

- الكافي ج ١ ص ٨٣

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو الفقيمي، عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه قال للزنديق حين سأله: ما هو قال: هو شيء بخلاف الأشياء، أرجع بقولي إلى إثبات معنى وأنه شيء بحقيقة الشيئية، غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس، لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور، ولا تغيره الأزمان، فقال له السائل: فتقول إنه سميع بصير قال: هو سميع بصير: سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه، ليس قولي إنه سميع يسمع بنفسه وبصير يبصر بنفسه أنه شيء والنفس شيء آخر، ولكن أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولاً وإفهاماً لك إذ كنت سائلاً، فأقول: إنه سميع بكله لا أن الكل منه له بعض، ولكني أردت إفهامك والتعبير عن نفسي، وليس مرجعي في ذلك إلا إلى أنه السميع.

- الكافي ج ١ ص ٨٧

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد اللهعليه‌السلام عن أسماء الله واشتقاقها: الله مما هو مشتق؟ قال: فقال لي: يا هشام الله مشتق من أله، والإله يقتضي مألوهاً والإسم غير المسمى، فمن عبد الإسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومن عبد الإسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين، ومن عبد المعنى دون الإسم فذاك التوحيد، أفهمت يا هشام؟ قال فقلت: زدني قال: إن لله تسعة وتسعين إسماً فلو كان الإسم هو المسمى لكان كل إسم منها إلهاً، ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره، يا هشام الخبز إسم للمأكول والماء إسم للمشروب والثوب إسم للملبوس والنار إسم للمحرق، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا والمتخذين مع الله عز وجل غيره؟ قلت: نعم.

١٥٨

قال فقال: نفعك الله به وثبتك يا هشام، قال هشام فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا.

- علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال: كتبت إلى أبي جعفرعليه‌السلام أو قلت له: جعلني الله فداك نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد؟ قال: فقال: إن من عبد الإسم دون المسمى بالأسماء أشرك وكفر وجحد ولم يعبد شيئاً بل أعبد الله الواحد الأحد الصمد المسمى بهذه الأسماء دون الأسماء أن الأسماء صفات وصف بها نفسه.

- الكافي ج ١ ص ١٠٣

علي بن محمد، عن سهل بن زياد، وعن غيره، عن محمد بن سليمان، عن علي بن إبراهيم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قال: إن الله عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كنه عظمته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث، وكيف أصفه بالكيف وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفاً فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف، أم كيف أصفه بأين وهو الذي أين الأين حتى صار أيناً فعرفت الأين بما أين لنا من الأين، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثاً فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث، فالله تبارك وتعالى داخل في كل مكان وخارج من كل شيء، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار. لا إله إلا هو العلي العظيم، وهو اللطيف الخبير.

الإمام الكاظمعليه‌السلام يردّ على تجسيد النصارى

- وقال الصدوق في كتابه التوحيد ص ٣٠

حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمدانيرضي‌الله‌عنه قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر قال: سمعت أبا إبراهيم موسى بن جعفرعليهما‌السلام وهو يكلم راهباً من النصارى،

١٥٩

فقال له في بعض ما ناظره: إن الله تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يحد بيد أو رجل أو حركة أو سكون، أو يوصف بطول أو قصر، أو تبلغه الأوهام، أو تحيط به صفة العقول. أنزل مواعظه ووعده ووعيده، أمر بلا شفة ولا لسان، ولكن كما شاء أن يقول له كن، فكان خبراً كما أراد في اللوح.

ويبيّن أنّ الله تعالى غنيٌّ عن النزول والحركة

- قال الصدوق في كتابه التوحيد ص ١٨٣

حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه‌الله قال: حدثنا محمد بن عبد الله الكوفي قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي، عن علي بن العباس، عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر الجعفري، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفرعليهما‌السلام قال: ذكر عنده قوم يزعمون أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا، فقال: إن الله تبارك وتعالى لا ينزل، ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنما منظره في القرب والبعد سواء، لم يبعد منه قريب، ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج بل يحتاج إليه، وهو ذو الطَّول، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. أما قول الواصفين: إنه تبارك وتعالى ينزل، فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به، فظن بالله الظنون فهلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد، فتحدوه بنقص أو زيادة أو تحرك أو زوال أو نهوض أو قعود، فإن الله جل عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين.

الإمام الرضاعليه‌السلام يعلّم تلاميذه الدفاع عن التوحيد

- توحيد الصدوق ص ١٠٧

حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور رحمه‌الله قال: حدثنا محمد بن جعفر بن بطة قال: حدثني عدة من أصحابنا، عن محمد بن عيسى بن عبيد قال قال لي أبو الحسنعليه‌السلام : ما تقول إذا قيل لك أخبرني عن الله عز وجل شيء هو أم لا؟ قال فقلت له: قد أثبت

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181