أبعاد النهضة الحسينية

أبعاد النهضة الحسينية30%

أبعاد النهضة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 181

أبعاد النهضة الحسينية
  • البداية
  • السابق
  • 181 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61927 / تحميل: 7270
الحجم الحجم الحجم
أبعاد النهضة الحسينية

أبعاد النهضة الحسينية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هذا وإن كان في الجواب الأوّل للإمامعليه‌السلام دلالة على خلقه ، وأنّه ليس بقديم ، إذ أنّ كلام الله معناه غير الله ، وكُلّ ما كان غير الله فهو حادث مخلوق.

( محمّد ـ السعودية ـ ١٦ سنة ـ طالب ثانوية )

قولنا : صدق الله العلي العظيم :

س : عندي سؤال وهو : نحن الشيعة عندما ننهي الآية أو السورة من القرآن الكريم نقول : صدق الله العلي العظيم ، ولا نقول : صدق الله العظيم ، فما هو السر في ذكر العلي؟ ودمتم موفّقين.

ج : من الطبيعي عدم ورود مثل هذه الأُمور في الروايات ، لذا فمن الناحية الأوّلية يمكن الإتيان بأيّهما شاء ، لكن لمّا كان في هذه الجملة « العلي العظيم » من زيادة في تعظيم الله تعالى أوّلاً ، وثانياً لأنّها وردت في القرآن الكريم بموردين :

١ ـ قوله تعالى :( وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (١) .

٢ ـ قوله تعالى :( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (٢) .

ولم نجد في القرآن اقتران العظيم بلفظ الجلالة لوحده فقط ، لذا كان الأفضل هو الجملة الأُولى ، أي : « العلي العظيم » ، ولهذا تمسّك بها أتباع أهل البيتعليهم‌السلام .

( ـ المغرب ـ )

جواز قراءته بالقراءات المشهورة :

س : قرأت كلاماً للشيخ السبحاني مفاده : إنّ القراءة المعتمدة في القرآن الكريم هي القراءة المسندة إلى أمير المؤمنين علي أبي طالب عليه‌السلام دون باقي الروايات ، فهل هذا يعني أنّ القراءات الأُخرى لا تعتبرونها؟ وكيف يكون ذلك

__________________

١ ـ البقرة : ٢٥٥.

٢ ـ الشورى : ٤.

٢١

والقراءات الأُخرى مروية بالتواتر ، وتستند إلى أجلّة الصحابة ، كأُبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس.

ونحن في المغرب ، لا نعرف سوى رواية ورش عن نافع ، التي تنتهي إلى ابن عباس ، ثمّ إقرار الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر بن الخطّاب والصحابي لمّا أختلفا في قراءة آية وغير ذلك ، أليس هذا أصلاً لاختلاف القراءات؟ وفّقكم الله لإصابة الحقّ ولشفاء الصدر.

ج : إنّ فقهاء الشيعة يفتون بجواز قراءة القرآن بالقراءات المشهورة ، وكون القراءات السبع مجزية عندهم ، ولكن الاختلاف بين الشيعة وأهل السنّة في كون القرآن نزل على سبعة أحرف ، حيث تنفي الشيعة هذا ، وذلك بالاعتماد على ما روي عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

فعن الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال : « كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد »(١) .

( ـ المغرب ـ سنّي )

نزل على حرف واحد :

س : أودّ من فضيلة العلماء أن يرشدوني في مسألة ما تزال غامضة إلى الآن ، خاصّة أنّ كثيراً ممّن تطرّق إليها لا يوفّي حقّها ، ويترك أمام القارئ سلسلة من الاحتمالات والمفاهيم الناقصة ، التي لا تشفي غليل الباحث عن الحقّ ، ذلك أنّي قرأت كتاباً للشيخ مناع القطان بعنوان : مباحث في علوم القرآن ، تطرّق فيه إلى مسألتين مهمّتين : الحروف السبع التي أنزل عليها القرآن الكريم ، والقراءات التي يقرأ بها.

فذكر أنّ القول الراجح هو : أنّ معنى الحروف السبع المذكورة في الأحاديث هي عدد لهجات العرب ، وهذا تخفيفاً على الناس كما ذكر ، ثمّ لمّا وقع

__________________

١ ـ الكافي ٢ / ٦٣٠.

٢٢

الاختلاف والتنازع زمن عثمان بن عفّان ، تمّ جمع الناس على لغة قريش ، أمّا اختلاف القراءات يرجع إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك بأحد أمرين :

أمّا أن يكون الاختلاف في القراءة صادراً عن النبيّ الكريم ، كقراءة ملك ومالك ، وإقرار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله سلمان الفارسي ذلك : بأنّ منهم صدّيقين ورهباناً ، بدل قسّيسين ورهباناً الآية ، وغير ذلك ممّا هو كثير ، أو أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرّ من يقرأ على هذه القراءة.

إذاً ، فكُلّ قراءة توفّرت فيها الشروط ، ومنها التواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هي قراءة صحيحة ، كما أنّني كنت قرأت عن بعض علمائكم أنّكم لا تعتبرون إلاّ قراءة حفص عن عاصم ، فما مصير القراءات الأُخرى؟

ج : الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المجال تقول : أنّ القرآن نزل على حرف واحد ، لا على سبع حروف كما يدّعون ، فالقرآن واحد ، نزل من عند الواحد ، أنزله الواحد على الواحد ، فهذه هي عقيدة أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بالقرآن.

وأمّا سبب اختلاف في القراءة فله تأويلات ، وأسباب كثيرة ، وعلى كُلّ حال ، فالقرآن لم ينزل على أشكال وقراءات ، وإنّما الاختلاف حصل من البشر.

( عادل عبد الحسين العطّار ـ البحرين ـ )

جواز قراءته في أيّام الدورة الشهرية غيباً :

س : هل يجوز لمن هي في أيّام الدورة الشهرية قراءة القرآن غيباً؟ ولكم منّي جزيل الشكر والاحترام.

ج : جوّز فقهاؤنا قراءة القرآن الكريم على ظهر الغيب ـ لمن هي في أيّام الدورة الشهرية ـ وفي المصحف ، ولكن لا تمسّ المصحف ، ولا تقرأ آيات السجدة.

ونلفت انتباهك إلى أنّ الروايات عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام وردت في جواز قراءة القرآن لمن هي في أيّام الدورة الشهرية ، إلاّ أنّها تنصّ على كراهة قراءة أكثر من سبع آيات.

٢٣

( يوسف العاملي ـ المغرب ـ )

تفسير( لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) :

س : السلام على جميع العاملين في هذا المركز العظيم ، الذي نشر تعاليم آل محمّد وعلومهم ، جعلهم الله شفعاؤكم يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلاّ من أتى الله بقلب سليم ، وهكذا فإنّنا نبارك لكم حلول أيّام العيد الفطر السعيد ، جعله الله عليكم خيراً وغفراناً من كُلّ ذنب.

لقد أرسلتم لنا في شهر رمضان المبارك هذا العام كتاب جميل جدّاً : عقائد الإمامية لكاتبه العلاّمة الشيخ محمّد رضا المظفّر ، فالشكر لكم على ما تخصصوه من العناية والرعاية لأتباع هذا المذهب في كُلّ أنحاء العالم.

لكنّني عندما قرأت هذا الكتاب الرائع استوقفتني جملة في ، وهي كالتالي : يقول العلاّمة : كما لا يجوز لمن كان على غير طهارة أن يمسّ كلماته أو حروفه( لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (١) سواء كان محدثاً بالحدث الأكبر ، كالجنابة والحيض والنفاس وشبهها

وبدوري أتساءل : هل يصحّ أن نفسّر هذه الآية بدلالتها اللفظية الظاهرية؟ ونحن نعلم جميعاً أنّ جلّ علماء الشيعة استدلّوا بهذه الآية على عمق علوم أهل البيتعليهم‌السلام فقالوا : إنّ تلك المعاني العميقة في القرآن لا يمكن لأحد غيرهم فهمها أو إدراكها؟ فكيف يمكن التوفيق بين ما جاء في هذا الكتاب وما قلناه نحن؟ لا تنسونا من خالص الدعاء.

ج : لا مانع من دلالة الآية الشريفة على المعنيين المذكورين بنظرتين مختلفتين في الرتبة ، فعندما ننظر إليها من زاوية الأخذ بظاهر الألفاظ ، تعطينا حكماً فقهياً يمكننا الاستدلال عليه بهذه الآية ، وحينما نريد أن نتأمّل فيها ونستنتج مفادها ، فسوف ترشدنا إلى حكم عقائدي في غاية الأهمّية ، وهو : الإشارة إلى عظمة مرتبة أهل البيتعليهم‌السلام العلمية ، وقد جاء هذان التفسيران للآية في مصادر الفريقين ، فلاحظ.

__________________

١ ـ الواقعة : ٧٩.

٢٤

ثمّ إنّ العلاّمة المظفرقدس‌سره لا يريد أن ينفي التفسير الثاني ، بل كان في مقام الاستدلال بالآية على المعنى الأوّل.

( محمّد الحلّي ـ البحرين ـ )

فائدة الآية المنسوخة :

س : ما الفائدة من الآية المنسوخة؟

ج : يتّضح الجواب بعد بيان عدّة نقاط :

الأُولى : ما معنى النسخ؟

أ ـ النسخ في اللغة : هو الاستكتاب ، كالاستنساخ والانتساخ ، وبمعنى النقل والتحويل ، ومنه تناسخ المواريث والدهور ، وبمعنى الإزالة ، ومنه نسخت الشمس الظلّ ، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين ، فكانوا يطلقون على المخصّص والمقيّد لفظ الناسخ.

ب ـ النسخ في الاصطلاح : هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه ، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها ، من الأُمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنّه شارع ، وهذا الأخير كما في نسخ القرآن من حيث التلاوة فقط.

الثانية : هل وقع النسخ في الشريعة الإسلامية؟

لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ ، فإنّ كثيراً من أحكام الشرائع السابقة قد نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية ، وإنّ جملة من أحكام هذه الشريعة قد نسخت بأحكام أُخرى من هذه الشريعة نفسها ، فقد صرّح القرآن الكريم بنسخ حكم التوجّه في الصلاة إلى القبلة الأُولى ، وهذا ممّا لا ريب فيه.

الثالثة : أقسام النسخ في القرآن :

١ ـ نسخ التلاوة دون الحكم :

٢٥

وقد مثّلوا لذلك بآية الرجم فقالوا : إنّ هذه الآية كانت من القرآن ، ثمّ نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، والقول بنسخ التلاوة هو نفس القول بالتحريف ، ومستند هذا القول أخبار آحاد ، وأخبار الآحاد لا أثر لها.

٢ ـ نسخ التلاوة والحكم :

ومثّلوا لنسخ التلاوة والحكم معاً ، بما روي عن عائشة أنّها قالت : « كان فيما أُنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرّمن ، ثمّ نسخن بخمس معلومات ، فتوفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهن فيما يقرأ من القرآن »(١) .

والكلام في هذا القسم ، كالكلام على القسم الأوّل بعينه.

٣ ـ نسخ الحكم دون التلاوة :

وهذا القسم هو المشهور بين العلماء والمفسّرين ، وقد ألّف فيه جماعة من العلماء كتباً مستقلّة ، وذكروا فيها الناسخ والمنسوخ ، وخالفهم في ذلك بعض المحقّقين ، فأنكروا وجود المنسوخ في القرآن ، وقد اتفق الجميع على إمكان ذلك ، وعلى وجود آيات في القرآن ناسخة لأحكام ثابتة في الشرائع السابقة ، ولأحكام ثابتة في صدر الإسلام.

الرابعة : ما الفائدة من الآية المنسوخة؟

سئل الإمام عليعليه‌السلام عن الناسخ والمنسوخ؟ فقال : « إنّ الله تبارك وتعالى بعث رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرأفة والرحمة ، فكان من رأفته ورحمته أنّه لم ينقل قومه في أوّل نبوّته عن عادتهم ، حتّى استحكم الإسلام في قلوبهم ، وحلّت الشريعة في صدورهم ، فكان من شريعتهم في الجاهلية أنّ المرأة إذا زنت حبست في بيت ، وأقيم بأودها حتّى يأتيها الموت ، وإذا زنى الرجل نفوه من مجالسهم وشتموه ، وآذوه وعيّروه ولم يكونوا يعرفون غير هذا.

فقال الله تعالى في أوّل الإسلام :( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانَ

__________________

١ ـ صحيح مسلم ٤ / ١٦٧ ، الجامع الكبير ٢ / ٣٠٩.

٢٦

يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (١) .

فلمّا كثر المسلمون وقوي ، واستوحشوا أُمور الجاهلية ، أنزل الله تعالى :( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ) (٢) ، فنسخت هذه الآية آية الحبس والأذى »(٣) .

يظهر من هذه الرواية أنّ هناك مصلحة إلهية اقتضت تغيير الحكم تدريجياً.

ومنها : بيان عظمة وقدرة الباري تعالى على تغيير الحكم ، مع وجود مصلحة مؤقّتة في كلا الحكمين ، ولكن في الحكم الأوّل كانت مصلحة مؤقّتة ، وفي الحكم الثاني كانت المصلحة دائمية ، وكلا المصلحتين كانتا بنفع المؤمنين.

ومنها : إظهار بلاغتها وإعجازها ، وغير ذلك.

( عبد الله ـ السعودية ـ )

تفصيل حول خلقه :

س : أُريد تفصيلاً عن مسألة خلق القرآن من عرض للروايات والأقوال ، مع جمع وتحليل ، وشكراً لكم.

ج : إنّ مسألة كون القرآن قديماً أو مخلوقاً ، والاختلاف في معنى المخلوق ، ونفي الإمامعليه‌السلام كونه مخلوقاً ، وإنّما كلام الله ، ويريد بذلك نفي ما ربما يتصوّر من كونه مخلوقاً أن يطرأ عليه الكذب ، أو احتمال أن يكون منحولاً ، وإلاّ فلا مجال للاختلاف من كون كلام الله حادثاً ، ومع هذا فهو غير مخلوق ، بمعنى غير مكذوب.

__________________

١ ـ النساء : ١٥ ـ ١٦.

٢ ـ النور : ٢.

٣ ـ بحار الأنوار ٩٠ / ٦.

٢٧

روي عن عبد الرحيم أنّه قال : كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام : جعلت فداك أُختلف الناس في القرآن ، فزعم قوم أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق ، وقال آخرون : كلام الله مخلوق؟

فكتبعليه‌السلام : « فإنّ القرآن كلام الله محدث غير مخلوق ، وغير أزلي مع الله تعالى ذكره ، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ، كان الله عزّ وجلّ ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول ، كان عزّ وجلّ ولا متكلّم ولا مريد ، ولا متحرّك ولا فاعل ، جلّ وعزّ ربّنا.

فجميع هذه الصفات محدثة غير حدوث الفعل منه ، عزّ وجلّ ربّنا ، والقرآن كلام الله غير مخلوق ، فيه خبر من كان قبلكم ، وخبر ما يكون بعدكم ، أُنزل من عند الله على محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(١) .

قال الشيخ الصدوققدس‌سره : « كان المراد من هذا الحديث ما كان فيه من ذكر القرآن ، ومعنى ما فيه أنّه غير مخلوق أي غير مكذوب ، ولا يعني به أنّه غير محدث ، لأنّه قال : محدث غير مخلوق ، وغير أزلي مع الله تعالى ذكره »(٢) .

وقال أيضاً : « قد جاء في الكتاب أنّ القرآن كلام الله ، ووحي الله ، وقول الله ، وكتاب الله ، ولم يجيء فيه أنّه مخلوق ، وإنّما امتنعنا من إطلاق المخلوق عليه لأنّ المخلوق في اللغة قد يكون مكذوباً ، ويقال : كلام مخلوق أي مكذوب ، قال الله تبارك وتعالى :( إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) (٣) أي كذباً ، وقال تعالى حكاية عن منكري التوحيد :( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ) (٤) أي افتعال وكذب.

فمن زعم أنّ القرآن مخلوق بمعنى أنّه مكذوب فقد كذب ، ومن قال : أنّه غير مخلوق بمعنى أنّه غير مكذوب فقد صدق ، وقال الحقّ والصواب ، ومن

__________________

١ ـ التوحيد : ٢٢٧.

٢ ـ المصدر السابق : ٢٢٩.

٣ ـ العنكبوت : ٧.

٤ ـ ص : ٧.

٢٨

زعم أنّه غير مخلوق بمعنى أنّه غير محدث ، وغير منزل وغير محفوظ ، فقد أخطأ وقال غير الحقّ والصواب.

وقد أجمع أهل الإسلام على أنّ القرآن كلام الله عزّ وجلّ على الحقيقة دون المجاز ، وأنّ من قال غير ذلك فقد قال منكراً وزوراً ، ووجدنا القرآن مفصّلاً وموصلاً ، وبعضه غير بعض ، وبعضه قبل بعض ، كالناسخ الذي يتأخّر عن المنسوخ ، فلو لم يكن ما هذه صفته حادثاً بطلت الدلالة على حدوث المحدثات ، وتعذّر إثبات محدثها ، بتناهيها وتفرّقها واجتماعها.

وشيء آخر : وهو أنّ العقول قد شهدت ، والأُمّة قد أجمعت : أنّ الله عزّ وجلّ صادق في أخباره ، وقد علم أنّ الكذب هو أن يخبر بكون ما لم يكن ، وقد أخبر الله عزّ وجلّ عن فرعون وقوله :( أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ) (١) ، وعن نوح أنّه :( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ) (٢) .

فإن كان هذا القول وهذا الخبر قديماً ، فهو قبل فرعون وقبل قوله ما أخبر عنه ، وهذا هو الكذب ، وإن لم يوجد إلاّ بعد أن قال فرعون ذلك ، فهو حادث ، لأنّه كان بعد أن لم يكن.

وأمر آخر وهو : أنّ الله عزّ وجلّ قال :( وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) (٣) ، وقوله :( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (٤) ، وما له مثل ، أو جاز أن يعدم بعد وجوده ، فحادث لا محالة »(٥) .

وقال الشيخ الطوسي : « كلام الله تعالى فعله ، وهو محدث ، وامتنع أصحابنا من تسميته بأنّه مخلوق ، لما فيه من الإيهام بكونه منحولاً ، وقال

__________________

١ ـ النازعات : ٢٤.

٢ ـ هود : ٤٢.

٣ ـ الإسراء : ٨٦.

٤ ـ البقرة : ١٠٦.

٥ ـ التوحيد : ٢٢٥.

٢٩

أكثر المعتزلة : أنّه مخلوق ، وفيهم من منع من تسميته بذلك ، وهو قول أبي عبد الله البصري وغيره.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد : أنّه مخلوق ، قال محمّد : وبه قال أهل المدينة ، قال الساجي : ما قال به أحد من أهل المدينة ، قال أبو يوسف : أوّل من قال بأنّ القرآن مخلوق أبو حنيفة ، قال سعيد بن سالم : لقيت إسماعيل بن حماد ابن أبي حنيفة في دار المأمون ، فقال : إنّ القرآن مخلوق ، هذا ديني ودين أبي وجدّي.

وروي عن جماعة من الصحابة الامتناع من تسميته بأنّه مخلوق ، وروي ذلك عن عليعليه‌السلام أنّه قال يوم الحكمين : «والله ما حكمت مخلوقاً ، ولكنّي حكمت كتاب الله » ، وروي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وبه قال جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام ـ فإنّه سئل عن القرآن ـ فقال : «لا خالق ولا مخلوق ، ولكنّه كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله » ، وبه قال أهل الحجاز.

وقال سفيان بن عيينة : سمعت عمرو بن دينار وشيوخ مكّة منذ سبعين سنة يقولون : إنّ القرآن غير مخلوق ، وقال إسماعيل بن أبي أويس : قال مالك : القرآن غير مخلوق ، وبه قال أهل المدينة ، وهو قول الأوزاعي وأهل الشام ، وقول الليث بن سعد ، وأهل مصر ، وعبيد الله بن الحسن العنبري البصري ، وبه قال من أهل الكوفة ابن أبي ليلى وابن شبرمة ، وهو مذهب الشافعي ، إلاّ أنّه لم يرو عن واحد من هؤلاء أنّه قال : القرآن قديم ، أو كلام الله قديم ، وأوّل من قال بذلك الأشعري ومن تبعه على مذهبه ، ومن الفقهاء من ذهب مذهبه.

دليلنا على ما قلناه : ما ذكرناه في الكتاب في الأُصول ليس هذا موضعها ، فمنها قوله :( مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ ) (١) فسمّاه

__________________

١ ـ الأنبياء : ٢.

٣٠

محدثاً ، وقال :( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) (١) ، وقال :( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (٢) فسمّاه عربياً ، والعربية محدثة ، وقال :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) (٣) ، وقال :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) (٤) فوصفه بالتنزيل.

وهذه كُلّها صفات المحدث ، وذلك ينافي وصفه بالقدم ، ومن وصفه بالقدم فقد أثبت مع الله تعالى قديماً آخر ، وذلك خلاف ما أجمع عليه الأُمّة في عصر الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم إلى أيّام الأشعري ، وليس هذا موضع تقصّي هذه المسألة ، فإنّ الغرض هاهنا الكلام في الفروع.

وروي عن نافع قال : قلت لابن عمر : سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن شيئاً؟ قال : نعم ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « القرآن كلام الله غير مخلوق ، ونور من نور الله » ، ولقد أقرّ أصحاب التوراة : أنّه كلام الله ، وأقرّ أصحاب الإنجيل : أنّه كلام الله.

وروى أبو الدرداء أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «القرآن كلام الله غير مخلوق ».

وقد مدح الصادقعليه‌السلام بما حكيناه عنه بالنظم ، فقال بعض الشعراء لاشتهاره عنه :

قد سأل عن ذا الناس من قبلكم

ابن النبيّ المرسل الصادق

فقال قولاً بيّناً واضحاً

ليس بقول المعجب المايق

كلام ربّي لا تمارونه

ليس بمخلوق ولا خالق

جعفر ذا الخيرات فافخر به

ابن الوصي المرتضى السابق(٥)

وفي الختام ننقل لكم عدّة روايات حول الموضوع ، وذلك لأهمّيته القصوى :

__________________

١ ـ الزخرف : ٣.

٢ ـ الشعراء : ١٩٤.

٣ ـ الحجر : ٩.

٤ ـ النحل : ٤٤.

٥ ـ الخلاف ٦ / ١١٨.

٣١

١ ـ عن ابن خالد قال : قلت للرضاعليه‌السلام : يا بن رسول الله أخبرني عن القرآن أخالق أو مخلوق؟ فقال : «ليس بخالق ولا مخلوق ، ولكنّه كلام الله عزّ وجلّ »(١) .

٢ ـ عن الريّان بن الصلت قال : قلت للرضاعليه‌السلام : ما تقول في القرآن؟ فقال : «كلام الله لا تتجاوزوه ، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا »(٢) .

٣ ـ عن علي بن سالم ، عن أبيه قال : سألت الصادقعليه‌السلام فقلت له : يا بن رسول الله ، ما تقول في القرآن؟ فقال : «هو كلام الله ، وقول الله ، وكتاب الله ، ووحي الله وتنزيله ، وهو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد »(٣) .

٤ ـ عن اليقطيني قال : كتب علي الرضاعليه‌السلام إلى بعض شيعته ببغداد : « بسم الله الرحمن الرحيم ، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة ، فإن يفعل فأعظم بها نعمة ، وإلاّ يفعل فهي الهلكة ، نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة ، اشترك فيها السائل والمجيب ، فتعاطى السائل ما ليس له ، وتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ الله ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، لا تجعل له اسماً من عندك ، فتكون من الضالّين ، جعلنا الله وإيّاك من الذين يخشون ربّهم بالغيب ، وهم من الساعة مشفقون »(٤) .

٥ ـ عن الجعفري قال : قلت لأبي الحسن موسىعليه‌السلام : يا بن رسول الله ما تقول في القرآن؟ فقد أُختلف فيه من قبلنا ، فقال قوم : إنّه مخلوق ، وقال قوم : إنّه غير مخلوق ، فقالعليه‌السلام : «أمّا إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكنّي أقول : إنّه كلام الله عزّ وجلّ »(٥) .

__________________

١ ـ التوحيد : ٢٢٣.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ نفس المصدر السابق.

٤ ـ نفس المصدر السابق.

٥ ـ نفس المصدر السابق.

٣٢

٦ ـ عن فضيل بن يسار قال : سألت الرضاعليه‌السلام عن القرآن ، فقال لي : «هو كلام الله »(١) .

٧ ـ عن زرارة قال : سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن القرآن ، فقال لي : «لا خالق ولا مخلوق ، ولكنّه كلام الخالق »(٢) .

٨ ـ عن زرارة قال : سألته عن القرآن أخالق هو؟ قال : « لا » ، قلت : أمخلوق؟ قال : «لا ، ولكنّه كلام الخالق »(٣) .

٩ ـ عن ياسر الخادم عن الرضاعليه‌السلام أنّه سئل عن القرآن فقال : « لعن الله المرجئة ، ولعن الله أبا حنيفة ، إنّه كلام الله غير مخلوق ، حيث ما تكلّمت به ، وحيث ما قرأت ونطقت ، فهو كلام وخبر وقصص »(٤) .

١٠ ـ هشام المشرقي أنّه دخل على أبي الحسن الخراسانيعليه‌السلام ، فقال : إنّ أهل البصرة سألوا عن الكلام فقالوا : إنّ يونس يقول : إنّ الكلام ليس بمخلوق ، فقلت لهم : صدق يونس إنّ الكلام ليس بمخلوق ، أما بلغكم قول أبي جعفرعليه‌السلام حين سئل عن القرآن : أخالق هو أو مخلوق؟ فقال لهم : « ليس بخالق ولا مخلوق ، إنّما هو كلام الخالق » ، فقوّيت أمر يونس(٥) .

( أبو مهدي ـ ـ )

كيفية تصحيح الآراء المختلفة في تفسيره :

س : نسمع كثيراً عن اختلاف أصحاب المذاهب الأربعة في تفسير القرآن ، مثل محتوى التابوت الذي فيه آثار آل موسى وهارون ، والمفسّر يستشهد بهذه الآراء المختلفة على أنّها صحيحة.

__________________

١ ـ تفسير العيّاشي ١ / ٦.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ نفس المصدر السابق.

٤ ـ نفس المصدر السابق.

٥ ـ اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٨٤.

٣٣

أرجو إعطاء بعض التفصيل ، ولكم جزيل الشكر.

ج : إنّ أصحاب المذاهب الأربعة يجتهدون بآرائهم ، واختلافهم يكون اختلاف بين مجتهدين ـ وهذا بخلاف أقوال الأئمّةعليهم‌السلام ، فإنّهم معصومون يستقون العلم من أصل أصيل ـ وعليه فإذا وجد اختلاف في رواياتهم في تفسير القرآن ، فهنا تجري عدّة مراحل :

١ ـ ملاحظة الأسانيد أوّلاً ، ليعمل بالصحيح المروي عنهم.

٢ ـ بعد التسليم بصحّة الأسانيد ، فإنّ الاختلاف في تفسير القرآن محمول على تعدّد معاني هذه الآيات ، وأنّ للقرآن عدّة بطون ، ولكُلّ بطن بطون

وأمّا التابوت الذي فيه آثار موسى ، فبعد التسليم بصحّة أسانيد كُلّ ما ورد من روايات في محتوى التابوت ، فلعلّ أنّ كُلّ رواية ناظرة إلى قسم من محتويات التابوت ، والجمع فيما بينها يعطينا نظرة عن محتويات التابوت.

( عبد الله ـ الكويت ـ ٢٨ سنة ـ خرّيج ثانوية )

مراحل نزوله :

س : تحية طيّبة وبعد : كيف نزل القرآن الكريم؟ وما هي المراحل التي استغرقها نزوله؟ وهل نزل جملة واحدة على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ أم نزل على فترات متباعدة؟

وهل نحن الشيعة نعتقد كما يعتقد أهل السنّة ، بأنّ القرآن الكريم نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بفترات متباعدة ، ولم ينزل جملة واحدة؟

أتمنّى أنّي أجد منكم الإجابة الوافية مع الأدلّة القاطعة ، ومن كتب الطرفين ، إنّ كنا نختلف معهم بالرأي ، وأكون لكم من الشاكرين.

ج : لاشكّ أنّ القرآن نزل تدريجاً ، وأنّ آياته تتابعت طبق المناسبات والظروف ، التي كانت تمر بها الرسالة الإلهية في مسيرتها ، تحت قيادة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد لمّحت إلى هذا النزول التدريجي للقرآن الآية

٣٤

الكريمة :( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) (١) ، وقوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) (٢) .

ومع ذلك فإنّ هناك نصوصاً قرآنية تشير إلى دفعية النزول القرآني على ما يفهم من ظاهرها ، وذلك كما في الآيات المباركة التالية : قال تعالى :( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (٣) ، وقال تعالى :( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (٤) ، وقال تعالى :( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (٥) .

وقد أختلف الباحثون في وجه الجمع بين الأمرين ، وقد ذكروا في ذلك آراء ونظريات ، نذكر فيما يلي أهمّها :

النظرية الأُولى : وهي التي تعتبر للقرآن نزولين.

النزول الأوّل إلى البيت المعمور ، أو بيت العزّة ـ حسب بعض التعابير ـ وهذا هو النزول الدفعي الذي أشارت إليه بعض الآيات السابقة ، والنزول الثاني على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتدريج ، وطيلة المدّة التي كان يمارس فيها مهمّته القيادية في المجتمع الإسلامي.

وقد خالف المحقّقون من علماء القرآن هذا الرأي ، ورفضوا النصوص التي وردت فيها ، ورموها بالضعف والوهن ، وأقاموا شواهد على بطلانه.

وأهمّ ما يرد على هذه النظرية يتلخّص في شيئين :

__________________

١ ـ الإسراء : ١٠٦.

٢ ـ الفرقان : ٣٢.

٣ ـ البقرة : ١٨٥.

٤ ـ الدخان : ٣.

٥ ـ القدر : ١.

٣٥

١ ـ ورود الآيات القرآنية في بعض المناسبات الخاصّة ، بحيث لا يعقل التكلّم بتلك الآية قبل تلك المناسبة المعيّنة.

٢ ـ عدم تعقّل فائدة النزول الأوّل للقرآن من حيث هداية البشر ، فلا وجه لهذه العناية به في القرآن والاهتمام به.

النظرية الثانية : إنّ المراد من إنزاله في شهر رمضان ، وفي ليلة ابتداء القدر منه ، ابتداء إنزاله في ذلك الوقت ، ثمّ استمر نزوله بعد ذلك على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتدريج ، ووفقاً للمناسبات والمقتضيات.

ويبدو أنّ هذا الرأي هو الذي استقطب أنظار الأغلبية من محققّي علوم القرآن والتفسير ، نظراً إلى كونه أقرب الآراء إلى طبيعة الأُمور ، وأوفقها مع القرائن ، وظواهر النصوص القرآنية ، فإنّ القرآن يطلق على القرآن كُلّه ، كما يطلق على جزء منه ، ولذلك كان للقليل من القرآن نفس الحرمة والشرف الثابتين للكثير منه.

وتأييداً لهذه الفكرة ، فإنّنا نحاول الاستفادة من التعابير الجارية بين عامّة الناس حين يقولون مثلاً : سافرنا إلى الحجّ في التاريخ الفلاني ، وهم لا يريدون بذلك إلاّ مبدأ السفر ، أو : نزل المطر في الساعة الفلانية ، ويقصد به ابتداء نزوله ، فإنّه قد يستمر إلى ساعات ، ومع ذلك يصحّ ذلك التعبير.

ولابدّ أن نضيف على هذا الرأي إضافة توضيحية وهي : أنّ المقصود من كون ابتداء النزول القرآني في ليلة القدر من شهر رمضان ليس ابتداء الوحي على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه كان لسبع وعشرين خلون من رجب ـ على الرأي المشهور ـ وكانت الآيات التي شعّت من نافذة الوحي على قلب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأوّل مرّة هي :( اقْرَأْ بِاسْمِ ) (١) .

ثمّ انقطع الوحي عنه لمدّة طويلة ، ثمّ ابتدأ الوحي من جديد في ليلة القدر من شهر رمضان ، وهذا الذي تشير إليه الآية المباركة ، واستمرّ الوحي عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

١ ـ العلق : ١.

٣٦

حتّى وفاته ، وبما أنّ هذا كان بداية استمرار النزول القرآني ، فقد صحّ اعتباره بداية لنزول القرآن.

النظرية الثالثة : وهي النظرية التي اختصّ بها العلاّمة الطباطبائي ، وهي تمثّل لوناً جديداً من ألوان الفكر التفسيري ، انطبعت بها مدرسة السيّد الطباطبائي في التفسير ، وهذه النظرية تعتمد على مقدّمات ثلاث ، تتلخّص فيما يلي :

١ ـ هناك فرق بين « الإنزال » و « التنزيل » ، والإنزال إنّما يستعمل فيما إذا كان المنزل أمراً وحدانياً نزل بدفعة واحدة ، والتنزيل إنّما يستعمل فيما إذا كان المنزل أمراً تدريجياً ، وقد ورد كلا التعبيرين حول نزول القرآن :( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) ،( وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) (١) .

والتعبير بـ « الإنزال » إنّما هو في الآيات التي يشار فيها إلى نزول القرآن في ليلة القدر ، أو شهر رمضان ، بخلاف الآيات الأُخرى التي يعبر فيها بـ « التنزيل ».

٢ ـ هناك آيات يستشعر منها أنّ القرآن كان على هيئة وحدانية ، لا أجزاء فيها ولا أبعاض ، ثمّ طرأ عليه التفصيل والتجزئة ، فجعل فصلاً فصلاً ، وقطعة قطعة ، قال تعالى :( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (٢) .

فهذه الآية ظاهرة في أنّ القرآن حقيقة محكمة ، ثمّ طرأ عليها التفصيل والتفريق بمشيئة الله تعالى ، والأحكام الذي يقابل التفصيل هو وحدانية الشيء وعدم تركّبه وتجزّئه.

٣ ـ هناك آيات قرآنية تشير إلى وجود حقيقة معنوية للقرآن غير هذه الحقيقة الخارجية اللقيطة ، وقد عبّر عنها في القرآن بـ « التأويل » في غير واحدة من الآيات ، قال تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ

__________________

١ ـ الإسراء : ١٠٦.

٢ ـ هود : ١.

٣٧

كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) (١) ، وقال تعالى :( وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ) (٢) .

فالتأويل على ضوء الاستعمال القرآني هو الوجود الحقيقي والمعنوي للقرآن ، وسوف يواجه المنكرون للتنزيل الإلهي تأويله وحقيقته المعنوية يوم القيامة.

واستنتاجاً من هذه المقدّمات الثلاث ، فللقرآن إذاً حقيقة معنوية وحدانية ليست من عالمنا هذا العالم المتغيّر المتبدّل ، وإنّما هي من عالم أسمى من هذا العالم ، لا ينفذ إليه التغيّر ، ولا يطرأ عليه التبديل.

وتلك الحقيقة هو الوجود القرآني المحكم ، الذي طرأ عليه التفصيل بإرادة من الله جلّت قدرته ، كما أنّه هو التأويل القرآني الذي تلمح إليه آيات الكتاب العزيز.

وإذا آمنا بهذه الحقيقة ، فلا مشكلة إطلاقاً في الآيات التي تتضمّن نزول القرآن نزولاً دفعياً في ليلة القدر ، وفي شهر رمضان ، فإنّ المقصود بذلك الإنزال هو هبوط الحقيقة المعنوية للوجود القرآني على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانكشاف ذلك الوجود التأويلي الحقيقي للقرآن أمام البصيرة الشفّافة النبوية ، فإنّ هذا الوجود المعنوي هو الذي يناسبه الإنزال الدفعي ، كما أنّ الوجود اللفظي التفصيلي للقرآن هو الذي يناسبه التنزيل التدريجي.

وليس المقصود ممّا ورد من روايات عن أهل البيتعليهم‌السلام حول النزول الأوّل للقرآن في البيت المعمور إلاّ نزوله على قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه هو البيت المعمور الذي تطوف حوله الملائكة ، وقد رمز إليها الحديث بهذا التعبير الكنائي.

وهذه النظرية مع ما تتّصف به من جمال معنوي ، لا نجد داعياً يدعونا إلى تكلّفها ، كما لا نرى داعياً يدعونا إلى محاولة نقضه وتكلّف ردّه ، فليست النظرية هذه تتضمّن أمراً محالاً ، كما لا لزوم في الأخذ بها بعد أن وجدنا لحلّ المشكلة ما هو أيسر هضماً وأقرب إلى الذهن.

__________________

١ ـ يونس : ٣٨ ـ ٣٩.

٢ ـ الأعراف : ٥٢ ـ ٥٣.

٣٨

( إبراهيم ـ المغرب ـ )

معجزته غير البلاغية :

س : هل تضمّن القرآن جوانب أُخرى غير معجزة البلاغة والفصاحة ، تصلح مؤيّداً لنبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وأنّه المبعوث بحقّ من الله تعالى؟

ج : لقد تضمّن القرآن الكريم جملة مؤيّدات في هذا المجال ، نكتفي بذكر مؤيّدين فيها :

الأوّل : الإخبار عن الغيب.

إنّ في القرآن إشارات إلى وقوع بعض الحوادث ، والتي لم تكن قد وقعت بعد ، منها حادثة انتصار الروم على الفرس من بعد انكسارهم ، قال تعالى :( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ) (١) .

حيث انتصرت الإمبراطورية الفارسية على الإمبراطورية الرومانية عام ٦١٤ م ـ أي بعد أربع سنوات من ظهور الإسلام ـ وانتصرت الإمبراطورية الرومانية على الإمبراطورية الفارسية عام ٦٢٢ م ، الموافق للسنة الثانية للهجرة.

فتحقّق تنبّؤ القرآن الكريم ، وأثبت ما وعد الله تعالى من نصرة الروم على الفرس.

الثاني : الإخبار عن بعض الظواهر والقوانين الكونية.

لابدّ من التأكّد أوّلاً على أنّ القرآن ليس إلاّ كتاب هداية ، والهدف منه صنع الإنسان وسوقه إلى طريق الكمال والرقي ، ولا دخل له في ملاحظة ومتابعة الشؤون والمفردات المتعلّقة بالعلوم الأُخرى.

ومع هذا ، فقد أشار القرآن إلى بعض الظواهر والسنن الطبيعية ، ليجعلها دليلاً على وجود الله تعالى وعظمته ، وحقانية دعوة الأنبياء إلى ربّهم ، ومن تلك الظواهر العلمية التي أشار إليها القرآن الكريم :

__________________

١ ـ الروم : ١ ـ ٣.

٣٩

١ ـ قانون الجاذبية : الذي اكتشفه نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي ، والذي أكّد عليه نيوتن في هذا القانون هو : أنّ الجاذبية قانون عام ، وحاكم على أرجاء الوجود المادّي كافّة ، بينما هذه الفكرة مسلّمة في منطق القرآن ، وقبل نيوتن بألف عام.

قال تعالى :( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (١) .

٢ ـ قانون الزوجية العام : الذي اكتشفه العالم السويدي شارك لينيه ، عام ١٧٣١ م ، والذي أكّد من خلاله على أنّ الأنوثة والذكورة حقيقة ثابتة في النبات ، وأنّ الأشجار لا يتمّ الحصول على ثمرها إلاّ من خلال تلقيح بذور النبات الذكري للنبات الأنثوي.

بينما القرآن الكريم أثبت وجود هذه الحقيقة لكُلّ الموجودات بقوله تعالى :( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (٢) ، وأنّ تلقيح النباتات يتمّ عن طريق الرياح لقوله تعالى :( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) (٣) .

٣ ـ قد بيّن القرآن الكريم مسألة حركة الأرض ، والأجرام السماوية بقوله :( لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٤) ، في الوقت الذي تضارب فيه آراء علماء الهيئة في اليونان.

( رضا شريعتي ـ إيران ـ ٤٠ سنة ـ دكتور )

أُمّ الكتاب :

س : ما أُمّ الكتاب؟ هل هي بنفسها الإمام المبين؟ والكتاب المكنون؟ واللوح المحفوظ؟ والكتاب المبين؟ ومحكمات القرآن؟ وأمير المؤمنين؟ والأئمّة عليهم‌السلام ؟

__________________

١ ـ الرعد : ٣.

٢ ـ الذاريات : ٤٩.

٣ ـ الحجر : ٢٢.

٤ ـ يس : ٤٠.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

العام الإسلامي عليهم بعد مقتل الحسينعليه‌السلام ، ولم يستمر يزيد بعد ذلك إلا ثلاث سنين، بفعل الانتفاضات والثورات التي عصفت بحكم بني اُمية فقوضت كيانهم، وأصبحوا أثرا بعد عين.

ذلك الأمر بطبيعة الحال لم يتم صدفة أو ينطلق من فراغ، بل حدث كل ذلك بفعل الإعلام الحسيني الهادف، وكذلك مواقف العقيلة زينب (سلام اللّه عليها) وابن أخيها الإمام السجادعليه‌السلام وباقي السبايا، الذين شهدوا معركة كربلاء الدامية بكل فصولها وتفاصيلها، فكشفوا للرأي العام جرائم الحرب اليزيدية، ولم يتركوا مناسبة إلاّ واغتنموها في سبيل الكشف عن جرائم بني أمية ودحض أباطيلهم وكشف زيف إعلامهم، الأمر الذي أحدث هزةً عنيفة في نفوس الناس، فانقلب موقفهم المهادن مع بني اُمية رأسا على عقب، والأسئلة التي نطرحها هنا: ماهي الأساليب الإعلامية التي اتبعها الإمام الحسينعليه‌السلام من أجل إعلان دعوته، وتبيان أحقية موقفه ومواجهة إعلام أعدائه؟ وبالمقابل ماهي الأساليب الإعلامية اليزيدية التي طوّقت بستارٍ من التضليل عقول عدد غير قليل من الناس ودفعتهم إلى محاربة الإمام الحسينعليه‌السلام والفتك به بتلك القسوة والوحشية المنقطعة النظير؟!

فالبحث - إذن - يتناول الأساليب الإعلامية للجبهتين:

الإعلام الحسيني في مقابل الإعلام اليزيدي:

لقد أمعنا النظر في عدة مصادر، واستقرأنا الأساليب الإعلامية التي اتبعها الإمام الحسينعليه‌السلام ، فوجدنا انها تتمثل بصورة أساسية بالأساليب التالية:

١٠١

أ - الاتصال الشخصي والجمعي:

يقول علماء الإعلام بانهما من أقوى الوسائل الإعلامية قديما وحديثا، فمن خلالهما تتم مناظرة أو محادثة شخص أو مجموعة أشخاص عن طريق الاتصال المباشر، فيحصل تماس بين المُلقي والمتلقي منه فيكون التأثير فعالاً، وسوف أورد شواهدَ على نوعي الاتصال بعد تبيان الفارق بينهما:

١ - الاتصال الشخصي:

ويتم عن طريق اتصال الإمام الحسينعليه‌السلام بنفسه أو أحد من أهل بيته أو أصحابه بشخص آخر، فيشرح له دواعي نهضته وبطلان ادعاءات أعدائه. ومن أمثلة ذلك: اتصال الإمام الحسينعليه‌السلام بزهير بن القين، الذي كان يتحاشى - كما تذكر المصادر - اللِّقاء به، فكان يساير الحسينعليه‌السلام لما أقبل من مكة، ولكن اذا أراد الإمامعليه‌السلام النزول في مكان اعتزله ناحية، فلما كان في بعض الايام نزل الإمامعليه‌السلام في مكان لم يجد زهير بدا من أن ينزله. فبينما كان زهير يتغدّى مع جماعة من بني فزارة وبجيلة، إذ أقبل رسول الحسينعليه‌السلام حتى سلم ثم قال: يا زهير بن القين، إن الحسينعليه‌السلام بعثني إليك لتأتيه، فتردّد زهير، فقالت له زوجته: سبحان اللّه! أيبعث إليك ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم لا تأتيه، فلو أتيته فسمعت من كلامه. فمضى إليه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه! فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه

١٠٢

فحول إلى الحسينعليه‌السلام وغدا من خلّص أصحابه(١) وفوق ذلك تحول إلى وسيلة إعلامية ناطقة.

ومن الشواهد الأخرى على الاتّصالات الفردية التي قام بها الحسينعليه‌السلام فقد اتّصل بعبيداللّه بن الحرّ الجعفي « وكان من أشراف أهل الكوفة، وفرسانهم. فأرسل الحسين إليه بعض مواليه يأمره بالمسير إليه، فأتاه الرسول فقال: هذا الحسين بن علي يسألك أن تصير إليه. فقال عبيداللّه: واللّه ما خرجت من الكوفة إلاّ لكثرة من رأيته خرج لمحاربته وخذلان شيعته، فعلمت أنّه مقتول ولا أقدر على نصره، فلست أحبّ أن يراني ولا أراه. فانتعل الحسين حتى مشى، ودخل عليه قبّته، ودعاه إلى نصرته.

فقال عبيداللّه: واللّه إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك، ولم أخلف لك بالكوفة ناصرا، فأنشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعد بالموت، ولكن فرسي هذه الملحقة واللّه ما طلبت عليها شيئا قطّ إلاّ لحقته، ولا طلبني وأنا عليها أحد قط إلاّ سبقته، فخذها فهي لك، قال الحسين: أما إذا رغبت بنفسك عنّا فلا حاجة لنا إلى فرسك »(٢) .

__________________

(١) روضة الواعظين / الفتال النيسابوري: ١٧٨، منشورات الشريف الرضي، قم، تحقيق: السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، مقتل الحسين / أبو مخنف: ٧٤.

(٢) الأخبار الطوال / الدينوري: ١٨٨.

١٠٣

٢ - الاتصال الجمعي:

وذلك من خلال مخاطبة الإمام الحسينعليه‌السلام أو أحد أصحابه للجيش اليزيدي في عدة مواقف، الأمر الذي دفع بقادة هذا الجيش أن يصدروا أوامر من أجل إحداث الضجيج والصياح والجلبة والحركة ليحجبوا كلامه عن أسماع المحاربين، وهذا أسلوب يشبه نوعا ما التشويش الإذاعي الذي تتبعه بعض الحكومات في أوقات الحروب والأزمات في وقتنا الحاضر، وكانت السلطات اليزيدية تظهر توجسا واضحا من النداءات والخطب والاتصالات التي يلقيها أو يقوم بها الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه، والتي أحدثت تأثيرا واضحا على عقول ومواقف بعض أفراد الجيش اليزيدي، فالتحقوا بجبهة الحسينعليه‌السلام ، ومنهم كبار الضباط أمثال: الحر بن يزيد الرياحي. وكشاهد على ذلك النوع من الاتصال ما روي انه « لما ضيقوا على الحسينعليه‌السلام حتى نال منه العطش ومن أصحابه، قامعليه‌السلام واتكأ على قائم سيفه ونادى بأعلى صوته، فقال: انشدكم اللّه هل تعرفون أن جدّي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قالوا: اللّهم نعم. قال: انشدكم اللّه هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب؟ قالوا: اللّهم نعم. قال: انشدكم اللّه هل تعلمون أن أمي فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قالوا: اللّهم نعم إلى أن قال: فبم تستحلون دمي وأبي صلوات اللّه عليه الذائد عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر عن الماء ..؟ قالوا: قد علمنا ذلك كله! ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشا!! »(١) .

__________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف / السيد ابن طاوُس: ٥٢ - ٥٣.

١٠٤

وقد استمر الحسينعليه‌السلام في اتصالاته وإلقاء خطبه المتتابعة على الجمع المعادي، وكان يطمح بأن تتحرك ضمائرهم ويزيل الصدأ عن قلوبهم، فرمى بآخر سهم من سهام الدعوة قبل أن يرمي بسهم واحد من سهام القتال.

وفي هذا الصدد كانت للبطل المجيد زهير بن القين كلمات في أهل الكوفة أمضى من السيوف والرّماح حيث تصيب، فركب فرسه وتعرض لهم قائلاً: « يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب اللّه نذار، ان حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا أمة وأنتم أمة، إن اللّه قد ابتلانا وإيّاكم بذرية نبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيداللّه بن زياد، فانكم لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كلّه، ليسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهانى ء بن عروة وأشباهه »(١) .

ب - الرّسل والمراسلات:

وهما وسيلتان إعلاميتان تمكّن الإمام الحسينعليه‌السلام من خلالهما من إيصال صوته وتبيان موقفه إلى عدد من زعماء الأقاليم ووجوه القوم، فقد

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦: ٢٢٩، حوادث سنة إحدى وستين، البداية والنهاية / ابن كثير ٨: ١٩٤.

١٠٥

كتب إلى جماعة من أشراف البصرة كتابا مع مولى له اسمه سليمان ويكنى أبا رزين، يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته منهم: يزيد بن مسعود النهشلي، والمنذر ابن الجارود العبدي، جاء في بعض فقراته: «أنا أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن السنّة قد أميتت، وإنّ البدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد »(١) .

تقول المصادر التاريخية بأن أنصار الحسينعليه‌السلام في البصرة، قد استجابوا لدعوته هذه حتى أن أبا خالد يزيد بن مسعود النهشلي قد كتب إلى الإمام الحسينعليه‌السلام كتابا جاء فيه: « فأقدم سعدت بأسعد طائر، فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشد تتابعا في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خامسها وكضّها، وقد ذللت لك بني سعد وغسلت درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهل برقها فلمع » فلما قرأ الحسينعليه‌السلام الكتاب قال: «مالك آمنك اللّه يوم الخوف وأعزك وأرواك يوم العطش الأكبر »(٢) . فلما تجهز المشار إليه للخروج إلى الحسينعليه‌السلام بلغه قتله قبل أن يسير!.

كما أجاب الإمامعليه‌السلام على الكتب المتواترة التي تدفقت إليه كالسيول من أهل الكوفة، يقول أرباب المقاتل بأنه قد ورد على الحسينعليه‌السلام منها في وقت واحد ستمائة كتاب! ثم تواترت الكتب حتى اجتمع عنده منها في نوب

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦: ١٨٦، حوادث سنة ستين.

(٢) اللهوف: ٢٨.

١٠٦

متفرقة اثني عشر ألف كتاب(١) .

وبعض تلك الكتب ورد عليه من أقطاب الكوفة. فعلى سبيل المثال: قدم عليه هاني بن هاني السبيعي، وسعيد بن عبداللّه الحنفي، بكتاب هو آخر ما ورد على الحسينعليه‌السلام من أهل الكوفة وفيه: « بسم اللّه الرحمن الرحيم، للحسين بن علي أمير المؤمنين أما بعد: فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعَجَلْ العَجَلْ يابن رسول اللّه، فقد اخضرّت الجنات، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فاقدم علينا إذا شئت، وإنّما تُقدم على جند مجندة لك. والسلام عليك ورحمة اللّه وعلى أبيك من قبلك.

فقال الحسينعليه‌السلام لهاني بن هاني السبيعي، وسعيد بن عبداللّه الحنفي:خبِّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كتب به إليَّ معكما ؟ فقالا: يا بن رسول اللّه شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن عمير بن عطارد »(٢) . وهؤلاء من كبار رجالات الكوفة وأهل الحلّ والعقد فيها.

وقد كان مسلم بن عقيل حيث تحول إلى دار هانئ بن عروة قد بايعه ثمانية عشر ألفا، وقد كتب إلى الإمام الحسينعليه‌السلام : « أما بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجِّل الإقبال

__________________

(١) اللهوف: ٢٤.

(٢) اللهوف: ٢٤ - ٢٥.

١٠٧

حين يأتيك كتابي »(١) .

ولمّا تنصّلوا من بيعتهم خاطبهم الحسينعليه‌السلام قائلا: «أيّها الناس إنها معذرة إلى اللّه عزّ وجل وإليكم، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقَدِمَت عليّ رسلكم: أن اقدم علينا »(٢) .

وهنا يقتضي التنوية على أن هناك من يرى بأن هذه الكتب والرسائل هي عبارة عن مكيدة يزيدية للإيقاع بالحسينعليه‌السلام في كمين بالعراق.

وفي هذا الخصوص يقول المحامي أحمد حسين يعقوب: « فليس معقولاً أن يبايع أربعون ألفا اليوم ويتنكروا غدا لبيعتهم فلا يثبت أحد منهم على الإطلاق!! والمعقول الوحيد أن البيعة قد كانت بالإتفاق مع دولة الخلافة، مقابل جُعل للمبايعين، وإن تنصّل المبايعين من بيعتهم قد تمَّ أيضا بالإتفاق مع دولة الخلافة!! وهو مايعرف بلغة المخابرات المعاصرة بالاختراق!! حيث ينظمّ إلى التنظيم المراد اختراقه مجموعة من العيون تتظاهر بعضويتها لهذا التنظيم، وتنقل ماتسمعه، أو تتدخل بمشاريعه!.

لقد اكتشف أهل الكوفة مكيدة الكتب والرسائل التي أُرسلت إلى الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأنها من تدبير الدولة لغايات استدراج الإمام إلى المكان الذي تريده!! ثم إنه لن يجرؤ أحد منهم على الإعلان عن عدم موالاته لدولة الخلافة، لأن هذا الإعلان يؤدي إلى قطع العطاء، ويؤدي إلى الموت أيضا! ولن يجرؤ أحد منهم على الإعلان عن ولائه لعلي بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦: ١٩٧، حوادث سنة ستين.

(٢) تاريخ الطبري ٦: ٢١٤، حوادث سنة ستين.

١٠٨

أبي طالبعليه‌السلام أو لأحد من أهل بيته، لأن عقوبة هذا الإعلان هي الموت وهدم الدار، وهذه العقوبة كانت سارية قبل قدوم مسلم وبعد موته، مما يؤكد أن فكرة البيعة أيضا كانت من تدابير دولة الخلافة »(١) .

وأيا كان الأمر مكيدةً أم حقيقة، فقد أرسل الحسينعليه‌السلام مسلم بن عقيلعليه‌السلام ابن عمه وثقته من أهل بيته، وسلّمه رسالة موجهة إلى أهل الكوفة، يعدهم فيها بالقبول، فسار مسلم بن عقيل بكتاب الحسينعليه‌السلام حتى وصل الكوفة، فلما وقفوا على كتابه كثر استبشارهم بقدومه، ثم أنزلوه في دار المختار الثقفي، وصارت الناس تختلف إليه، فقرأ على جمع كبير منهم كتاب الحسينعليه‌السلام وهم يبكون حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا كما يقول ابن طاوُس(٢) . ولكن ابن زياد أخذ يزحزحهم عن مواقفهم بالتهديد والاغراء، أو ما يطلق عليه حاليا سياسة العصا والجزرة، فنقضوا البيعة وتفرقوا عن ابن عقيل الذي اُعتقل وقُتل بعد ذلك بصورة مروّعة!.

ج - استثمار موسم الحج:

بما أن موسم الحج يشكل ملتقىً إسلاميا كبيرا على مر العصور، يجتمع فيه المسلمون الوافدون من كلّ فج عميق، فقد استفاد منه دعاة الاصلاح والتغيير في بث الأفكار وكسب وتعبئة الأنصار. والإمام الحسينعليه‌السلام بدوره قد أدرك مالهذا المكان المقدس من أهمية استثنائية بوجود بيت اللّه الذي يشكل أمانا للخائفين، ويمنح حرية التحرك والتبليغ، وخاصة أثناء موسم

__________________

(١) انظر: كربلاء الثورة والمأساة / المحامي أحمد حسين يعقوب: ٩١.

(٢) انظر: اللهوف / السيد ابن طاوُس: ٢٥.

١٠٩

الحج الذي هو بمثابة مؤتمر إسلامي جماهيري سنوي، يؤدي فيه المسلمون فريضة الحج، ويتداولون فيه شؤون وشجون العالم الإسلامي.

من هذا المنطلق، توجه الحسينعليه‌السلام إلى مكة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين للهجرة، فأقام بها باقي شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة. وأخذ خلال هذه المدة يبث فيها دواعي نهضته ويبين حقانية موقفه، كما قام بفضح السلطة اليزيدية القائمة، وكشف للملأ بأنها سلطة استبدادية وغير شرعية تقوم على مرتكزات انتهازية ومصلحية وقمعية، وغدت أحاديثه على كل شفة ولسان، وتركت آثارها على الرأي العام الإسلامي آنذاك، فثارت ثائرة السلطة الحاكمة، وأرادت بشتى السُبل احتواء وتحجيم ومن ثم إسكات الصوت الحسيني الهادر.

وحينما أدرك الإمامعليه‌السلام ببصيرته وخبرته بأن السلطة تريد التخلص منه بمختلف الحيل ولو بالقتل في جوف الكعبة، فخاف على حرمة الكعبة وقدسيتها من أن يُراق دمه فيها، لذلك قرر الخروج من مكة قبل إكمال مناسك الحج، فكان لخروجه المفاجى ء صدا إعلاميا كبيرا في أوساط المسلمين، حتى أنهعليه‌السلام لمّا سار نحو العراق ونزل بالثعلبية أتاه رجل من الكوفة يكنى ابا هرة الازدي، فسلم عليه ثم قال: يا ابن رسول اللّه، ما الذي أخرجك عن حرم اللّه وحرم جدك رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!. فقال الحسينعليه‌السلام : «ويحك يا أبا هرة، إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عِرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وايم اللّه لتقتلني الفئة الباغية »(١) .

__________________

(١) اللهوف / السيد ابن طاوُس: ٤٣.

١١٠

د - الخطابة:

وهي وسيلة إعلامية قوية سواء قبل الإسلام أو بعده، حيث ينقل الخطيب آراءه ومواقفه للجماهير بصورة مباشرة، فيحدث فيهم التأثير المطلوب وخاصة إذا كان الخطيب مفوها يمتلك ناصية الفصاحة والبيان وقوة الحجة والقدرة على التأثير والإقناع، وتأجيج المشاعر وإثارة العواطف، وبالنتيجة سيتمكن من استمالتهم نحو قضيته.

والإمام الحسينعليه‌السلام كما يقول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد: « قد أوتي ملكة الخطابة من طلاقة لسان وحسن بيان وغنة صوت وجمال إيماء »(١) لذلك استفاد من قدراته الخطابية، فلم يترك فرصة إلاّ واغتنمها في سبيل إيصال صوته، وكان لخطبه الأثر البالغ في زعزعة بعض أفراد الجيش المعادي عن مواقفهم والتحاق قسم منهم بمعسكرهعليه‌السلام - كما نوهنا سالفا - وقد استعرضنا شواهد من خطبه في فقرة الاتصال الجمعي، وهنا نلفت النظر إلى أن خطب الحسينعليه‌السلام غير موجهة لأعدائه فحسب، بل إنّ كثيرا ما خاطب أهل بيته وأصحابه، فكانت خطبه بمثابة المصل الواقي الذي يمنحهم المناعة ضد جراثيم الدعاية اليزيدية التي تهدف إلى التشكيك بقضيتهم العادلة، وفك عُرى التلاحم والتناصر فيما بينهم وبين قائدهم

__________________

(١) المجموعة الكاملة لأعمال العقّاد - الحسين أبو الشهداء ٢: ١٩١، دار الكتاب اللبناني، ط١ - ١٩٧٤ م.

١١١

الإمام الحسينعليه‌السلام . فكان ( سلام اللّه عليه ) يتبع مع أهل بيته وأصحابه مبدأ المصارحة والمكاشفة، وهو أسلوب يقول عنه علماء الإعلام بأنه من أهم وسائل مكافحة الشائعات، التي تكثر - عادة - أوقات الحروب والأزمات.

كان الحسينعليه‌السلام يوجه خطبه أولاً إلى أصحابه بغية ترصين جبهته الداخلية وتخليصها من العناصر الدخيلة. ومن الشواهد الدالّة على ذلك أنه لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيبا فقال: «الحمد للّه ما شاء اللّه، ولا قوة إلاّ باللّه، وصلّى اللّه على رسوله، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة. وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا ملاقيه » ثم أضاف قائلاً: « من كان باذلاً فينا مهجته، وموطّنا على لقاء اللّه نفسه، فليرحل معنا فانني راحل مصبحا إن شاء اللّه تعالى »(١) .

هذه خطبته في مستهل حركته، أما عندما اشتدّ الخناق عليه بورود كتاب عبيد اللّه بن زياد إلى الحر الرياحي يأمره بالتضييق الشديد على الحسينعليه‌السلام ، حينئذ قام بأصحابه خطيبا، فحمد اللّه وأثنى عليه غاية الثناء، وذكر جده المصطفى فصلى عليه، ثم قال: «قد نزل ما ترون من الأمر، وإن الدنيا قد تنكّرت وتغيرت وأدبر معروفها، واستمرت حتى لم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الاناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، والباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في

__________________

(١) اللهوف: ٣٨.

١١٢

لقاء اللّه، فاني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما »(١) .

وكان لخطبته هذه وما سبقها تأثير فعال على عقول وقلوب الأصحاب، فعبّروا عن عميق تأثرهم بعبارات بليغة، استمع إلى رد فعل زهير بن القين على هذه الخطبة، قال للحسينعليه‌السلام : « قد سمعنا - هداك اللّه يا ابن رسول اللّه - مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الاقامة! »(٢) .

هـ - الشعر:

لم يترك الإمام الحسينعليه‌السلام وسيلة إعلامية في عصره إلاّ واستخدمها في سبيل الكشف عن زيف بني أمية وضلاهم، بعد أن جعلوا بدعايتهم المضلّلة على القلوب أكنة، وعلى الأسماع وقرا، وعلى الأبصار غشاوة.

فمن الضرورة بمكان أن يلجأ الحسينعليه‌السلام إلى الوسائل الإعلامية السائدة والمتاحة له كالخطابة والمراسلات واللقاءات الفردية والجماعية، وكذلك لجأ إلى الشعر كوسيلة مؤثرة في نفوس الناس، ومن الشواهد على ذلك أنه لما قُتل مسلم ابن عقيلعليه‌السلام ، استعبر الحسينعليه‌السلام باكيا، ثم قال: « رحم اللّه مسلما، فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه وجنته ورضوانه، أما إنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا » ثم أنشأ يقول(٣) :

فإن تكن الدنيا تعدّ نفيسة

فان ثواب اللّه أعلى وأنبلُ

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤: ٦٨.

(٢) اللهوف: ٤٥.

(٣) مثير الأحزان: ٣٢.

١١٣

وإن تكن الأبدان للموت أُنشئت

فقتل امرى ءٍ بالسيف في اللّه أفضلُ

وإن تكن الأرزاق قسما مقدّرا

فقلّة حرص المرء في السعي أجملُ

وإن تكن الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخلُ

ومنها لما نزل الحسينعليه‌السلام بأهل بيته وأصحابه ونزل الحرّ الرياحي قبل انضمامه لجبهة الحسين وأصحابه ناحية، وجلس الحسينعليه‌السلام يصلح سيفه ويقول(١) :

يا دهرُ أُفٍ لك من خليلِ

كم لك بالإشراق والأصيلِ

من طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ

والدهرُ لايقنعُ بالبديلِ

وكلُ حيّ سالك ٌ سبيلِ

ما أقرب الوعد من الرحيلِ

وإنما الأمرُ إلى الجليل

ولمّا سايره الحرّ وقال له: « يا حسين إنّي أذكِّرك اللّه في نفسك، فإنِّي أشهدُ لئن قاتلت لتُقتلنَّ، فقال له الحسينعليه‌السلام : أفبالموت تخوِّفُني؟ وهل يعدو بكم الخطبُ أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأَوس لابن عمّه، وهو يُريد نصر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخوّفه ابن عمّه وقال: أين تذهبُ؟ فإنّك مقتولٌ، فقال(٢) :

سأمضي فما بالموت عارٌ على الفتى

إذا ما نوى حقّا وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبورا وباعد مجرما

فإن عشْتُ لم أندم وإن مت لم أُلَمْ

كفى بك ذُلاًّ أن تعيشَ وترغما»

__________________

(١) اللهوف: ٤٩.

(٢) الإرشاد ٢: ٨١.

١١٤

كما استشهد بأبيات من الشعر عندما خاطب أهل الكوفة، بعد أن استكبروا وأصروا على محاربته، فبعد أن ألهبهم بسياط كلمات التأنيب والتقريع، ومنها قوله: «تبا لكم أيتها الجماعة وترحا، أحين استصرختمونا والهين، فاصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم، وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلبا لأعدائكم على أوليائكم! » وبعد أن أكمل خطبته المدوية، تمثل بأبيات فروة بن مسيك المرادي(١) :

فإن نُهزم فهزّامون قُدما

وإن نُغلب فغير مغلَّبينا

وما إن طبنا جُبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

إلى أن قال:

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

ولما برز إلى القتال قرع أسماعهم بسنان بيانه قبل أن يقرعهم بحدِّ سيفه. يروي ابن شهرآشوب(٢) أنّه « حمل على الميمنة وقال:

الموت خيل من ركوب العار

والعار أولى من دخول النار

ثمّ حمل على الميسرة وقال:

أنا الحسين بن علي

أحمي عيالات أبي

آليت أن لا أنثني

أمضي على دين النبي »

من جميع هذه الشواهد الشعرية يتبين لنا بأن الحسينعليه‌السلام قد استخدم

__________________

(١) اللهوف: ٥٩.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤: ١١٠.

١١٥

الشعر كوسيلة إعلامية عبّر من خلاله عن مكنون نفسه وشكواه من أهل زمانه، وكشف بواسطته عن عزمه على مواجهة الحقيقة المرّة، المتمثلة بشهادته المحققة، بعد أن أدرك بأنه يخوض معركة خاسرة من الناحية العسكرية الصرفة، ولكنها سوف تحقق نصرا مبدئيا مؤزرا بعد حين، وعندها سيُعاد للحق مكانته ويخسر الباطل جولته، وهو ماحصل بالفعل بعد شهادته.

وتجدر الإشارة إلى أن الرّوايات قد تواترت على أن الحسينعليه‌السلام كان ينشد الشعر ولكن لأغراض الحكمة، يقول الأديب الكبير عباس محمود العقاد: « ولخبرته بالكلام وشهرته بالفصاحة، كان الشعراء يرتادونه وبهم طمع في إصغائه أكبر من طمعهم في عطائه »(١) .

فيما تقدم استعرضنا الأساليب الإعلامية الرئيسية، التي اتبعها الإمام الحسينعليه‌السلام من أجل إظهار دعوته وسحب البساط الإعلامي المتهرى ء من تحت أرجل أعدائه الذين صوروا للرأي العام بأنه طالب ملك، وأنّ غايته من ثورته ليست دينية إسلامية عامَّة وإنما هي غاية شخصية، وعندما يئس من تحقيق هدفه أبدى استعداده للخضوع والتسليم.

وتعكس هذا المظهر رواية ورد فيها «أن الحسين قال لعمر بن سعد: إذهب بي إلى يزيد أضع يدي في يده ». والذي يدلّ على كذب هذا الخبر مارواه كثير من المؤرخين الأثبات عن عقبة بن سمعان، وكان مولىً للسيدة الرباب زوجة الإمام الحسين وهو من الرجال القليلين الذين سلموا من

__________________

(١) المجموعة الكاملة لأعمال العقاد - الحسينعليه‌السلام أبو الشهداء ٢: ١٩٤.

١١٦

المذبحة في كربلاء، فهو شاهد عيان، قال: « صحبت الحسين من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل، وسمعت جميع مخاطباته الناس إلى يوم مقتله، فواللّه ما أعطاهم ما يتذاكر به الناس من أنه يضع يده في يد يزيد، ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال:دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلامَ يصير إليه أمر الناس ، فلم يفعلوا »(١) .

إن هذه المحاولة فشلت في تحقيق نجاح يذكر بعد أن تصدى شهود العيان لدحضها وتكذيبها.

والمحاولة الثانية هي تصوير الحسين وأنصاره للرأي العام بأنهم خوارج، أو أنهم بغاة خرجوا على الشرع والشرعية المتمثلة بيزيد بن معاوية، وتمرَّدوا على إمامهم، وشقوا عصا الطاعة، وشتَّتوا الجماعة. ولقد حاول ابن زياد منذ وصل إلى الكوفة وباشر بقمع حركة مسلم بن عقيل، أن يترك في أذهان الناس انطباعا بأن الحركة هي من صنع الذين خرجوا على الشرعية. ولاشك في أن المساعي المبذولة لطبع ثورة الحسين بهذا الطابع قد غدت أكثر جدّيَّة وكثافة لأجل تطويق ردود الفعل السلبية لدى الجماهير. ولم تفلح هذه المحاولة في كسب تصديق الجماهير، وبدلاً من أن توضع ثورة الحسين خارج الشرعية، فقد وضع النظام الأموي برمته خارج الشرعية ورفضته أعداد متزايدة من الناس بعد أن وعت بفعل

__________________

(١) البداية والنهاية / ابن كثير ٨: ١٩٠، دار إحياء التراث العربي، ط ١ - ١٤٠٨ه.

١١٧

النهضة الحسينية مدى بعده عن الصدق في دعواه تمثيل الإسلام.

أساليب الإعلام اليزيدي

امتاز الإعلام اليزيدي بغوغائية الإدعاء والبرغماتية ( النفعية ) من خلال إتباعه للوسائل الإعلامية التالية:

١ - الترهيب والترغيب:

اعتمد الخطاب الإعلامي اليزيدي من حيث الأولوية على منطق القوة وأدوات القهر، فقد ضرب يزيد بعرض الحائط وصية أبيه الذي أوصاه بان لا يمس الحسينعليه‌السلام بسوء إذا أبى البيعة، فلما مات معاوية تواترت الأوامر من يزيد إلى ابن عمه الوليد - والي المدينة - بأخذ البيعة له من الناس عامة ومن الحسين بن عليعليهما‌السلام وابن الزبير بصورة خاصة.

وكان مروان بن الحكم من زعماء الأمويين في المدينة ورجل الظل في إمارة المدينة، متحمسا لتنفيذ تعليمات يزيد بحذافيرها وإجبار الحسينعليه‌السلام على البيعة ولو باستخدام القوة! فطلب من الوليد بأن يحبس الحسينعليه‌السلام حتى يبايع أو تُضرب عنقه. وهذا نص عبارته للوليد كمصداق جليّ لهذا النهج الإعلامي: « واللّه لئن فارقك الحسين الساعة ولم يُبايعْ لا قَدرت منه على مثلها أبدا حتى يكثرَ القتلى بينكم وبينه، احبس الرّجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب عند ذلك الحسينعليه‌السلام وقال:أنت - يا ابن الزّرقاء - تقتلني أو هو؟! كذبتَ وأثِمْت »(١) .

__________________

(١) الإرشاد، الشيخ المفيد ٢: ٣٣.

١١٨

وكان الوليد ومروان يبغيان إخضاع الحسينعليه‌السلام ليزيد، ولكن ذاك بالسياسة، وهذا بالتهديد.

ولم يتعرض الإمامعليه‌السلام وحده لحملة الترهيب اليزيدية، بل تعرض لها قبل ذلك - ولكن بصورة أخرى - رسوله وابن عمه مسلم بن عقيل رضى الله عنه ومن ناصره وبايعه في الكوفة، لمّا بلغ خبر مقتل هانئ بن عروة خرج مسلمعليه‌السلام بمن بايعه إلى مواجهة ابن زياد الذي تحصن بالقصر الأميري في الكوفة، وتمكن من إحكام الحصار عليه، ففكر ابن زياد في وسيلة يتمكن من خلالها من إلقاء الرعب في قلوب الكوفيين، فأمر بعض زعماء الكوفة، وكانوا يتملقون له ويكسبون رضاه من أجل الجاه والنفوذ، بالإشراف على الجماهير الغاضبة المحتشدة حول القصر، ومحاولة بث روح التخاذل بين صفوفها من خلال ترهيبهم بعسكر الشام القادم، فلم يزالوا يخاطبون الناس بأساليب الترغيب والترهيب حتى جاء الليل، فجعل أصحاب مسلمعليه‌السلام يتفرقون عنه، ويقول بعضهم لبعض ما نصنع بتعجيل الفتنة، أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتى يُصلح اللّه ذات بينهم!(١) ، فلم يبق مع مسلمعليه‌السلام سوى عشرة أنفس.

وهكذا كان أثر الدعاية وأساليب الحرب النفسية التي استخدمها اليزيديون من أجل تبريد الهمم واحباط العزائم وبث روح التخاذل.

٢ - التكذيب:

استخدمت هذه الوسيلة منذ أقدم العصور، فقد كانت الأقوام والأمم

__________________

(١) اللهوف: ٣٤.

١١٩

السالفة تتهم أنبياءها ومصلحيها بالكذب من أجل إلقاء ظلال من الشك على دعواتهم الخيّرة. وعلى هذا المنوال نسجت الدعاية اليزيدية عندما أوحت للسذّج من الناس بأن الحسينعليه‌السلام ( وحاشاه ثم حاشاه ) كذّاب ومفترٍ وغير مؤهل للخلافة! كما حاولت السلطة أن تسخّر بعض أنصار الحسينعليه‌السلام ، الذين وقعوا أسارى في قبضتها من أجل اقناع الناس بمصداقية إعلامها، ولكن محاولتها هذه قد باءت بالفشل، عندما تقطعت حبال كذبها بفعل وعي وصلابة أنصار الحسينعليه‌السلام وإيمانهم بقائدهم وقضيتهم.

ومن الشواهد على هذا المنحى أن ابن زياد لما ألقى القبض على سفير الحسينعليه‌السلام إلى أهل الكوفة، وهو قيس بن مسهر الصيداوي، أمره أن يشرف على الناس من شرفة قصره، ويلعن الحسينعليه‌السلام ويُعلن للملأ أنه - حاشاه - كذّاب وابن كذّاب! فصعد الصيداوي إلى حيث أراد ابن زياد، ثم ألقى على الجموع التي جمعوها وحشدوها نظرة وابتسامة ثم صاح: « أيّها الناس، إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق اللّه ابن فاطمة بنت رسول اللّه، وأنا رسوله إليكم فأجيبوه، ثمّ لعن عبيداللّه بن زياد وأباه، واستغفر لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام وصلى عليه، فأمر به عبيداللّه أن يرمى به من فوق القصر، فرموا به فتقطّع »(١) رحمة اللّه عليه.

ومن الشواهد الأخرى على هذا النهج المذموم أنّه « خرج يزيد بن معقل من معسكر عمر بن سعد، فقال: يا بُرير بن حُضير كيف ترى اللّه

__________________

(١) الإرشاد ٢: ٧١، ومناقب آل أبي طالب ٣: ٢٤٥ مع اختلاف يسير.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181