أبعاد النهضة الحسينية

أبعاد النهضة الحسينية20%

أبعاد النهضة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 181

أبعاد النهضة الحسينية
  • البداية
  • السابق
  • 181 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61920 / تحميل: 7269
الحجم الحجم الحجم
أبعاد النهضة الحسينية

أبعاد النهضة الحسينية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يستطلع بنفسه وأحيانا يؤلف دورية استطلاع قليلة العدد، تكون في طليعة قواته، ليحصل من خلالها على المعلومات عن مدى اقتراب دوريات العدو التي تحاول صده عن الوصول إلى هدفه، ويحاول التعرف على الطُرق ومصادر المياه، ومن مصاديق ذلك أن الإمام الحسينعليه‌السلام عندما وصل منطقة الثعلبية ونزل بها، نظر إلى سواد مرتفع، فقال لأصحابه: «ما هذا السواد »؟ فقالوا: لا علم لنا بذلك. فقال: « انظروا ثانية ». فقالوا: خيلٌ مقبلة. فقال: «اعدلوا بنا عن الطريق ». لأنه لا يريد المواجهة العسكرية قبل الوصول إلى الكوفة. قال وهو واقف للاستطلاع: «فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا »(١) .

وإذا هم ألف فارس يقدمهم الحر بن يزيد الرياحي. وهذه الحادثة مفادها: أن الحسينعليه‌السلام عندما بلغ منطقة ذي حسم كبّر رجلٌ من أصحابه تكبيرة الإعجاب، وكان ضمن قوات الاستطلاع التي وضعها الإمام في طليعة الرَّكب، فقد تصور هذا الرجل أنه رأى نخيل الكوفة، فلذلك أخذ يُكبّر بأعلى صوته، مبشرا بالوصول إليها، ولكن الجماعة المكلفة بالاستطلاع لم تقتنع بذلك، وبعد التدقيق في صحة الخبر تبين لهم أنها رؤوس رماح، تحكي عن قدوم قوة عسكرية، فتحيز الحسينعليه‌السلام برحله إلى هضاب ذي حسم، واتخذ وضعا دفاعيا مرتجلاً، وأصدر تعليماته العسكرية فقد « خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّبوا بعض بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها من بعض، وأن يكونوا هم بين

__________________

(١) اُنظر: الإرشاد ٢: ٧٧.

١٤١

البيوت إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم »(١) .

ومهما يكن من أمر فإن الحسينعليه‌السلام كان يستطلع أكثر الأوقات بنفسه أو بواسطة مفرزة استطلاع من أجل الحصول على المعلومات المتيسرة - ولو على وجه السُّرعة - عن العدو وعدد قواته وتجهيزاته وتحركاته.

٣ - تمحيص القوات وتطهيرها

سعى الإمامعليه‌السلام إلى تطهير قواته من عناصر الفتنة والخذلان وأصحاب الأهواء والمصالح، إدراكا منه بأن قوة الجيش لاتُقاس بعدد جنوده بل بمدى تحلّيهم بعناصر الضَّبط الذي هو أساس الجندية، ومدى درجة إيمانهم بحقانية الحرب التي سوف يخوضونها.

ومعنى الضبط: هو إطاعة الأوامر وتنفيذها بحرص وأمانة وإخلاص وعن طيب خاطر، وهذه الأمور يفتقد إليها بعض من التحق بجيش الإمام طلبا للمنصب أو المَغْنم، فهؤلاء - أقصد أهل الأهواء والمطامع - بدأوا بالتفرُّق سرا وعلانيةً، ليلاً ونهارا بمجرّد سماعم بشهادة مسلم بن عقيل (سلام اللّه عليه)، الذي تناهى إلى أسماعهم في منطقة زبالة.

والحسين القائدعليه‌السلام لم يخفِ هذا الأمر الجلل عن جنده، فقد عقد مؤتمرا عاما لأهل بيته وأصحابه، وقام خطيبا فأطلعهم على ذلك الخبر المؤسف حول شهادة سفيره وعميد بيته مسلم بن عقيل (سلام اللّه عليه)، ولم يبدِ من مظاهر الحزن سوى الإكثار من الاسترجاع، وأخفى كل مشاعر حزنه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦: ٢٢٦، حوادث سنة إحدى وستين.

١٤٢

في سويداء قلبه، لأن العيون لدى الشدائد شاخصة إلى قائدها، فإن بدا عليه لائحة حزن عمّ الغم وضعفت المعنويات وخارت العزائم، مع ذلك فإن ثلّة من الملتحقين به بدأوا بالتخلي عنه إيثارا للراحة وطلبا للعافية.

يذكر الشيخ المفيدقدس‌سره أنه لما تناهي لهم في منطقة زبالة خبر مقتل مسلم ( سلام اللّه عليه ) أخرج الإمام الحسينعليه‌السلام للناس كتابا فقرأه عليهم، وجاء فيه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد فإنّه أتانا خبر فظيع؛ قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبداللّه بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام »(١) .

بعدها دعا الحسينعليه‌السلام أصحابه للتفرُّق، وبيّن لهم أن طرق النجاة مفتوحة أمامهم، وليست هذه المرّة الأولى التي يطلب فيها الحسينعليه‌السلام من أصحابه بالتفرُّق عنه، فقد جدَّد ذلك الطلب قبل معركة عاشوراء، عندما جمع قواته وقال لهم: «ان القوم يطلبونني ولا يريدون بدلاً عني » وطلب منهم أن يتخذوا من اللَّيل جملاً ليستر انسحابهم ويحفظ ماء وجوههم، قال لهم: «فجزاكم اللّه جميعا عني خيرا، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنّهم لا يريدون غيري »(٢) . فتفرَّق

__________________

(١) الإرشاد ٢: ٧٥.

(٢) اللهوف: ٥٥.

١٤٣

أصحاب الأهواء والمصالح، وبقي معه خلّص أصحابه الَّذين بايعوه على الموت وأظهروا من السَّمع والطاعة لقيادته ما يصلح أن يكون نموذجا يُحتذى به كانوا يتسابقون إلى الموت، ويقونه من السِّهام والرِّماح بأبدانهم، ويذودون عن قائدهم كما تذود اللّبوة عن أشبالها.

٤ - الحوار وعدم البدء بالقتال

سار الحسينعليه‌السلام مع أهل بيته وخُلّص أصحابه سيرا حثيثا نحو العراق، ولم يفتّ من عضده مقتل سفيره مسلم بن عقيل (سلام اللّه عليه)، وخذلان أهل الكوفة له، فقرر المضي إلى آخر الشوط، فلما وصل على بعد مرحلتين من الكوفة، ظهرت - كما أسلفنا - طلائع دورية الحر بن يزيد الرياحي القتالية المؤلفة من ألف فارس، فقال الحسينعليه‌السلام للحر مستفهما: « ألنا أم علينا؟ ». طرح الإمامعليه‌السلام هذا السؤال لأن بعض القوات كانت تلتحق في صفوف جيشه أثناء تقدمه، فقال الحر الرياحي: بل عليك يا أبا عبد اللّه!(١) .

وبعد مناقشات ومشادات كلامية بين الجانبين، حاول الإمامعليه‌السلام إقناع الحر بالسماح له بالمسير نحو الكوفة، وعرض عليه الكتب المرسلة إليه من زعمائها وأهل الرأي فيها، لكن الحر أصرّ على رفض هذا الأمر، وتمخّض النقاش عن حلّ وسط يُرضي الطرفين؛ وهو أن يسلك الإمامعليه‌السلام طريقا لا يدخله إلى الكوفة ولا يُرجعه إلى المدينة، وكانت قوات الحر الرياحي

__________________

(١) اللهوف: ٤٧.

١٤٤

تواكب سير قافلة الحسين (سلام اللّه عليه) حتى لا تحيد عن الخطة المرسومة لتحركها.

قال الشيخ المفيدقدس‌سره : « تردّد الكلام بينهما حتى قال له الحسينعليه‌السلام :فإذا كنتم على خلاف ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم، فإنّني أرجع إلى الموضع الذي أتيت منه ، فمنعه الحرّ وأصحابه من ذلك. وقال: بل خذ يا ابن رسول اللّه طريقا لا يدخلك الكوفة ولا يوصلك إلى المدينة، لأعتذر أنا إلى ابن زياد بأنّك خالفتني في الطريق، فتياسر الحسينعليه‌السلام حتى وصل إلى عذيب الهجانات قال: فورد كتاب عبيداللّه بن زياد إلى الحرّ يلومه في أمر الحسينعليه‌السلام ، ويأمره بالتضييق عليه، فعرض له الحرّ وأصحابه ومنعوه من السير، فقال له الحسينعليه‌السلام : ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق. فقال له الحرّ: بلى، ولكن كتاب الأمير عبيداللّه قد وصل يأمرني فيه بالتضييق، وقد جعل عليَّ عينا يطالبني بذلك »(١) .

وهكذا انقلب الموقف رأسا على عقب بصدور أمرٍ عسكري صارمٍ من عبيد اللّه بن زياد يطلب فيه من الحر الرياحي أن يُضيق الحصار على قوات الإمام ويوقف مسيرتها، وعيّن ابن زياد ضابط استخبارات عسكرية كلّفه بمراقبة مدى التزام الحر الرياحي بهذا الأمر الصادر إليه، وكان النَّص الحرفي للأمر هو: « أما بعد، فجعجع بالحسين، حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، فقد أمرت رسولي أن يلزمك، ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك

__________________

(١) اللهوف: ٤٧ - ٤٨.

١٤٥

أمري والسلام »(١) .

قاوم الحسينعليه‌السلام هذا الأمر الصارم بكل قوة وعزم، لكنه أبقى باب الحوار مع الحر مفتوحا، فكلما أراد الإمام المسير كانوا يمنعونه تارة ويسايرونه أُخرى حتى بلغ كربلاء في اليوم الثاني من المحرم.

ولم يكتف ابن زياد بالقوة الضاربة المؤلفة من ألف فارس التي أرسلها في طليعة قواته مع الحر الرياحي، حتى أرسل قوةً أُخرى إضافية لتشديد الحصار المضروب على قوات الإمامعليه‌السلام ، وقد بلغت هذه القوة خمسة آلاف مقاتل بقيادة عمر بن سعد، وكانت مكتملة التسليح والتجهيز، وتملك مواد الإعاشة ووسائل التمويل من غذاء وماء.

وعندما أخذ الحل السِّلمي يتضاءل رويدا رويدا وباتت احتمالاته شبه معدومة، اقترح بعض قادة جيش الحسين الميدانيين المبادرة بالقتال، وفي هذا الصدد قال زهير بن القين: « إنِّي واللّه ما أراه يكون بعد الذي ترون إلا أشد مما ترون، يا ابن رسول اللّه إن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم، فلعمري ليأتينا بعدهم ما لا قِبَل لنا به، فقال الحسينعليه‌السلام :ما كنت لأبدأهم بالقتال »(٢) .

وتجدر الإشارة إلى أن ابن القين لم يصل إلى قناعته بالحرب إلاّ بعد أن بالغ في النُّصح بحيث وصل الأمر إلى أن يُرمى بسهم من قبل شمر بن ذي الجوشن الذي عنّفه على المبالغة في نصحه، وقال له: « اسكت أبرمتنا

__________________

(١) الإرشاد ٢: ٨٣.

(٢) الإرشاد ٢: ٨٤، تاريخ الطبري ٦: ٢١٨، حوادث سنة إحدى وستين.

١٤٦

بكثرة كلامك »(١) . علما بأنّ ابن القين - حسب رواية الطبري: « قد خرج على فرس له ذنوب، شاكٍ في السلاح، فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب اللّه نذار! إنّ حقّا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملّة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا أمّة وأنتم أمّة قال: فسبُّوه، وأثنوا على عُبيداللّه بن زياد، ودعوا له، وقالوا: واللّه لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيداللّه سِلما. فقال لهم: عباد اللّه، إنّ ولد فاطمة رضوان اللّه عليها أحقّ بالودّ والنصر من ابن سُمَيّة، فإن لم تنصروهم فأعيذكم باللّه أنْ تقتلوهم، فخلّوا بين الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية، فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. قال: فرماه شِمر بن ذي الجوشن بسهم »(٢) .

وهكذا نلاحظ بأن الإمامعليه‌السلام قد بالغ مع أصحابه في الدعوة إلى السِّلم مع الحرص الشديد على مَدّ جسور الفهم والتفاهم مع أعدائه، وعليه كان يحجم عن إصدار أوامر القتال على الرغم من تدفّق القوات المعادية من حوله كالسيول حرصا منه على حقن دماء المسلمين وحلّ النِّزاع بالطرق السِّلمية، لاسيما وانه اتبع وسائل سلمية عديدة منها: تذكيرهم بالكتب المرسلة إليه والعهود التي قطعت له بالولاء والنصرة، كما أنه عرّفهم بنفسه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦: ٢٢٩، حوادث سنة إحدى وستين.

(٢) تاريخ الطبري ٦: ٢٢٩، حوادث سنة إحدى وستين.

١٤٧

وحسبه ونسبه وقربه من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، زد على ذلك أنه عقد مباحثات مطولة مع أركان وقادة الجيش المعادي له.

يروي الطبري أنّ أحد الحضور في كربلاء قد أقرّ باتّباع الحسينعليه‌السلام للمنطق في حواره معهم لتبيان الحقائق، قال: « فواللّه ما سمعت متكلّما قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه »(١) .

وذكر الطبري كذلك أنّ الحسينعليه‌السلام خاطبهم قائلاً: «أمّا بعد فانسبوني فانظروا من أنا؟ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابن وصيّه، وابن عمّه، وأوّل المؤمنين باللّه والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمي؟ أولم يبلغُكم قول مستفيض فيكم: إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة! فإنْ صدّقتموني بما أقول - وهوالحقّ - فواللّه ما تعمّدت كذبا مذ علمت أنّ اللّه يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي! فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد اللّه على حرف إن كان يدري ما يقول! فقال له حبيب بن مظاهر: واللّه إني لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفا، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع اللّه على قلبك »(٢) .

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦: ٢٢٨، حوادث سنة إحدى وستين.

(٢) تاريخ الطبري ٦: ٢٢٨، حوادث سنة إحدى وستين.

١٤٨

يذكر أبو مخنف في مقتله: بان الحسينعليه‌السلام كان يجلس مع ابن سعد ليلاً ويتحدثان طويلاً حتى يمضي من اللّيل شطره، قال: « فتكلما فأطالا حتى ذهب من اللّيل هزيع، ثم انصرف كل واحد منهما إلى عسكره بأصحابه »(١) .

وكانت أساليب الحسينعليه‌السلام السِّلمية تقابلها نزعة حربية طاغية ورغبة ملحّة بتعجيل القتال من قبل بعض قادة الجيش المعادي كشمر بن ذي الجوشن الذي كان يصرّ على القتال ووضع الحدّ للحوار الدائر بين الجيشين، وقد استغرب الحر الرياحي من اندفاع شمر للقتال، وتعجله بالشر، فالتفت الحر الرياحي لابن سعد، وقال: أمقاتل أنت هذا الرجل؟! فقال ابن سعد: إي واللّه قتالاً أيسره أن تقطع الأيدي وتطيح الرؤوس. عندئذ انعقدت الدهشة لسان الحر وأصابه مثل الإفكل - أي الرِّعدة - فقال له المهاجر بن أوس: واللّه إنّ أمرك لمريب، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال: واللّه إنّي أُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار، فواللّه لا أختار على الجنّة شيئا ولو قطّعت وأُحرقت. ثم التحق بصفوف الحسينعليه‌السلام (٢) .

تجدر الإشارة إلى أن موقف ابن سعد القائد الميداني كان مترددا في البداية بالقتال، وكان بين الاقدام والاحجام، ويلتمس العذر في بداية الأمر، ولكن المغريات التي قُدمت اليه كالحصول على ولاية الرّي قد قلبت

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦: ٢٢١، حوادث سنة إحدى وستين.

(٢) اللهوف: ٦١ - ٦٢.

١٤٩

قناعته رأسا على عقب، فرجَّح خِيارَ الحربِ على السِّلم، واطلق إشارة بدأ القتال بسهم من قوسه معلنا الحرب على أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله !

٥ - الأعمال التمهيدية

أدرك الحسينعليه‌السلام أن القتال أصبح خيارا لا مفرّ منه، بعد أن تلاشت آماله في السَّلام المشرِّف، وواجه الحقيقة المرّة من حيث كونه محاصر من جميع الجهات، ومصدود عن الماء ووسائل التموين والإعاشة، مع كل ذلك لم يقف مكتوف اليدين، بل أعدّ قواته للدفاع المستميت، وقام بجملة من الأعمال التمهيدية، كان من أبرزها ما يلي:

١- انتخب موضعا بنى فيه مقر قيادته، حيث أمر بفسطاط فنصب عند الصباح من يوم المواجهة.

٢- رتّب موضعه الدفاعي بالعمق، فبعد أن وجد معسكره في بقعة جرداء لا تتوفر فيها مزايا الدفاع، سبرَ غور الوهاد والأنجاد، وأشرف على سلسلة هضاب وروابي تليق حسب مزاياها الطبيعية بأن تتخذ للحرم والخيم، وكانت الرَّوابي والتلال متدانية على شاكلة الهلال، وهو المسمى ( الحير ) أو ( الحائر ) ثم أن الإمام الحسينعليه‌السلام رأى بجنب هذه وجنوبها رابية مستطيلة أصلح من اختها للتحصن، لأن المحتمي بفنائها يكتنفه من الشمال والغرب ربوات تقي من عاديات العدو برماة قليلين من صحب الإمام الحسينعليه‌السلام ، اذا اختبأوا في الرَّوابي، وتبقى من جهتي الشرق والجنوب جوانب واسعة تحميها أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام ورجاله، ومنها يخرجون إلى لقاء العدو أو تلقّي الرُّكبان، فنقل إلى هذا الموضع حرمه

١٥٠

ومعسكره ويُعرف الآن ( المخيم ).

فصارت منطقة الحائر منطقة حرام (بالاصطلاح العسكري المعاصر) فاصلة بينه وبين معسكر الأعداء، وأمر أصحابه أن يقربوا البيوت بعضها من بعض، حتى تتمكن قواته من خوض المعركة بقوة أقل، وتوقع بالعدو خسائر أكثر، قال أبو مخنف: « فقال الحسينعليه‌السلام :أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم في وجه واحد ، فقلنا له: بلى هذا ذو حسم ( اسم جبل ) إلى جنبك تميل إليه عن يسارك، فان سبقت القوم إليه فهو كما تريد، قال: فأخذ إليه ذات اليسار، قال: وملنا معه، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبيناها وعدلنا، فلما رأونا وقد عدنا عن الطريق عدلوا إلينا، كأن أسنتهم اليعاسيب، وكأن راياتهم أجنحة الطير. قال: فاستبقنا إلى ذي حُسُم فسبقناهم إليه، فنزل الحسينعليه‌السلام ، فأمر بأبنية فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي »(١) .

وهذا النص يثبت لنا بأن الحسينعليه‌السلام كان يفكر تفكيرا عسكريا راقيا، وكان لا يستبدّ برأيه بل يستشير أصحابه، ويسأل دائما عن المكان المناسب لكي يُتّخذ كموضع دفاعي، والنصّ صريح - أيضا - بأن كل طرف كان يتسابق مع الطرف الآخر، ويسعى للحصول على المكان المناسب لخوض الحرب.

٣ - قام بمحاولات جريئة للوصول إلى شاطى ء الفرات المحروس بقوات محصنة تحصينا جيدا، وموزعة كمائنها على المشرعة بصورة شبكة

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦: ٢١٣، حوادث سنة إحدى وستين.

١٥١

يصعب اختراقها، ولكن رواة المعركة - كأبي مخنف - قد اعترفوا بأن العباس ( سلام اللّه عليه ) تمكن من اختراق صفوف القوات المكلفة بحراسة المشرعة، وجلب الماء(١) ، ولكن في محاولته الثانية لجلب الماء تمكنت الكمائن المنصوبة في طريقه من منعه من إيصال ماء القربة إلى العيال والأطفال، بواسطة قناصيها المنتشرين بين النَّخيل، فقد أمطروه بسيل من السِّهام، نفذ أحدها إلى القربة وأراق ما فيها من الماء، ثم أن أحد أفراد هذه الكمائن تمكن من إصابة العباس ( سلام اللّه عليه ) بعمود من حديد على هامته.

ضمن هذا السياق يُروى أن الحسينعليه‌السلام قام - أيضا - باختراق تحصينات وحشود العدو المنتشرة على المشرعة، ودخل الفرات، وأراد أن يشرب الماء لولا الخدعة التي منعته من ذلك، وهي: مناداة القوم عليه بأن الأعداء قد هجموا على حرمه وخيمه، فكيف يهنأ ابن الزهراء بشرب الماء وقد هتكت حُرمة حَرمه!.

٤ - حفر خندقا حول المخيم، وملأه حطبا، وأضرم فيه نارا، لأجل أن تكون جبهة الحرب ضيقة ومن جهة واحدة، ويبدو أن شمر بن ذي الجوشن كان يخطط لتطويق قوات الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان يحاول الالتفاف على هذه القوات من الخلف، ولكن خبرة الإمامعليه‌السلام بشؤون الحرب وتحسّبه لكل الاحتمالات الطارئة قد أحبطت هذه المحاولة.

ومما يعزز ذلك، ما نقله أبو مخنف عن الضحاك المشرقي، قال: « لما

__________________

(١) انظر: تاريخ الطبري ٦: ٢٢٠، حوادث سنة إحدى وستين.

١٥٢

اقبلوا نحونا فنظروا إلى النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل الينا منهم رجل يركض على فرس، فلم يكلّمنا حتى مرّ على أبياتنا، فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلاّ حطبا تلتهب النار فيه، فقفل راجعا. فنادى بأعلى صوته: ياحسين استعجلت النار في الدنيا قبل القيامة، فقال الحسين:من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن ، فقالوا: نعم أصلحك اللّه هو هو، فقال:يابن راعية المعزى أنت أولى بها صِليّا »(١) .

وفي موقف آخر يكشف أبو مخنف تفاصيل أكثر عن خطة الدفاع التي وضعتها القيادة الحسينيّة عند نشوب المعارك الحربية، فيقول: « وكان الحسينعليه‌السلام أتى بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية، فحفروه في ساعة من اللّيل فجعلوه كالخندق، ثم ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب وقالوا: إذا عَدَوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتى من ورائنا، وقاتلنا القوم من وجه واحد، ففعلوا وكان لهم نافعا »(٢) .

وأيضا ما رواه أبو مخنف من أن ( جبيرة الكلبي ) وقيل ( ابن حوزة ) قال للحسينعليه‌السلام بعد أن وقف بإزاء الخندق: « اتعجلت بالنار في الدنيا قبل الآخرة؟! فدعا عليه الحسينعليه‌السلام قائلاً: ابشر بالنار - أو - اللهمّ حُزه إلى النار »(٣) .

وكشف لنا الدَّينوري - بإيجاز - عن الملامح العامّة للأسلوب الميداني

__________________

(١) مقتل الحسين / أبو مخنف: ١١٦، الإرشاد ٢: ٩٦.

(٢) مقتل الحسين / أبو مخنف: ١١٣، تاريخ الطبري ٦: ٢٢٧، حوادث سنة إحدى وستين.

(٣) مقتل الحسين / أبو مخنف: ١٢٥، الإرشاد ٢: ١٠٢.

١٥٣

الذي اتّبعه الحسينعليه‌السلام ، قال: « وأمر الحسين أصحابه أن يضموا مضاربهم بعضهم من بعض، ويكونوا أمام البيوت، وأن يحفروا من وراء البيوت أخدودا، وأن يضرموا فيه حطبا وقصبا كثيرا، لئلا يؤتوا من أدبار البيوت، فيدخلوها »(١) .

٥ - عقد الحسينعليه‌السلام مؤتمرا حربيا لقادته وقواته واختار اللّيل وقتا لانعقاده، حتى لا تنكشف استعداداته من قبل مراصد العدو، فقد أطلعهم على الموقف العصيب الذي يواجهونه، وبين لهم بأن الحرب وشيكة الوقوع، وسمح لمن أراد الانسحاب منهم بالذهاب وأحلّه من بيعته، وأمر الباقين بالصبر والجهاد حتى يقضي اللّه أمرا كان مفعولاً.

٦ - جمع الحسينعليه‌السلام قواته وقسمها حسب التقسيم التقليدي السائد إلى ميمنة وميسرة وقلب، فجعل زهير بن القين ومعه عشرون فارسا على الميمنة، يقول أبو مخنف: « وعبّأ الحسين أصحابه وصلى بهم صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت من ظهورهم »(٢) ، وأدخل الأطفال والحرم إلى الخيمة. وتمكن من ترتيب قواته بحيث تبقى تحت تصرفه قوة عسكرية احتياطية يعالج بها المواقف الطارئة.

٧ - أجّج معنويات جنوده إلى درجة أصبحوا يستأنسون بالموت

__________________

(١) الأخبار الطوال: ١٩١.

(٢) مقتل الحسين / أبو مخنف: ١١٣، انظر: الإرشاد ٢: ٩٥.

١٥٤

والشهادة استئناس الرضيع بمحالب اُمّه، ويستبشرون بالجنة ويعدون الساعات إليها، حتى أن البعض منهم كبُرير كان يضحك ويمازح أصحابه وكأن شيئا لم يكن!.

كانت الميزة الأساسية لقوات الإمام الحسينعليه‌السلام تتمثل بالقوة المعنوية العالية، فقد أثبتت كل الحروب في جميع أدوار التاريخ أنّ التسليح والتنظيم الجيّدين والعدّة العددية غير كافية لنيل النصر والصمود في وجه العدو ما لم يتحلَّ المقاتلون بالمعنويّات العالية.

ولعل من أبرز العوامل التي عملت على شحذ معنويات القوات الحسينيّة، هو إحساسهم بعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها، وكذلك حقانية ومظلومية الإمام الحسينعليه‌السلام ، كما لعبت العبادة وخاصة الصلاة دورا في شحن العزائم وشحذ الهمم يقول الرواة: « بات الحسينعليه‌السلام وأصحابه تلك الليلة - ليلة عاشوراء - ولهم دويّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً »(١) .

ويبدو أن المعنويات العالية التي كان يتحلى بها أفراد الجيش الحسيني، جعلت بعض أفراد جيش يزيد يتيقن صدق وحقانية جبهة الحسين، فالتحقوا بجبهته، كما نقل الرواة أيضا بأن الحسينعليه‌السلام طلب من أخيه العباس أن يحاول تأجيل القتال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، قال له: «فان استطعت أن تؤخرهم إلى الغُدوَةِ، وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلي لربنا

__________________

(١) اللهوف: ٥٧.

١٥٥

الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد أحبُّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، والدُّعاء والاستغفار »(١) .

يبدو أن الحسينعليه‌السلام يريد بذلك إضافة إلى الجانب العبادي أن يُؤجج العامل المعنوي في نفوس مقاتليه القليلي العدد والعُدة، ليصمدوا في المعركة غير المتكافئة التي يخوضونها. يقول (توماس كارليل)، الفيلسوف والمؤرخ الانكليزي: « أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء؛ هو أن الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ باللّه، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أن التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين الحقّ والباطل، والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه »(٢) .

٦ - سير القتال

يمكن تقسيم واقعة الطف - حسب التعبير العسكري المعاصر - إلى صفحتين قتاليتين هما:

أولاً: القتال الجماعي

ابتدأت المعركة عندما تقدم عمر بن سعد نحو معسكر الحسينعليه‌السلام وأطلق سهما باتجاهه وقال: « اشهدوا لي أنّي أول رام، فقال الحسينعليه‌السلام : قوموا إلى الموت الذي لا بد منه، فنهضوا جميعا، والتقى العسكران الرَّجالة

__________________

(١) الإرشاد ٢: ٩٠ - ٩١.

(٢) موسوعة عاشوراء: ٢٩١.

١٥٦

مع الفُرسان، واشتد الصراع »(١) .

ثم أقبلت السهام ترشق أصحاب الحسينعليه‌السلام كأنها المطر، عندها قال الإمام القائد لأصحابه: «إن هذه السهام رسل القوم إليكم، فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة »(٢) .

بعدها أصدر شمر بن ذي الجوشن، وهو من أبرز قادة أركان الجيش الأموي، أوامره بالهجوم الجماعي عندما قال: احملوا عليهم حملة رجل واحد وافنوهم عن آخرهم.

وصف أبو مخنف ضراوة المعركة، فقال: « وقاتلوهم حتى انتصف النهار أشد القتال، وأخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم الا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض، قال: فلما رأى ذلك عمر بن سعد أرسل رجالاً يقوضونها - أي يهدمون البيوت - عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم، قال: فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخللون البيوت فيشدون على الرجل وهو يقوّض وينتهب فيقتلونه من قريب ويعقرونه، فأمر بها عمر بن سعد عند ذلك فقال: أحرقوها بالنار ولا تدخلوا بيتا ولاتقوضوه، فجاءوا بالنار فأخذوا يحرقون. فقال الحسينعليه‌السلام : دعوهم فليحرقوها، فانهم لو قد حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا - أي يصلوا - إليكم منها، وأخذوا لا يقاتلونهم إلا من وجه واحد »(٣) .

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤: ١٠٠.

(٢) اللهوف: ٦٠.

(٣) تاريخ الطبري ٦: ٢٣٧، حوادث سنة إحدى وستين.

١٥٧

لاحظ كيف أن الحسين القائد كان يخطط بمنتهى الحكمة، ويضع بنظر الاعتبار معالجة خطط وأفكار شمر ( لعنه اللّه )، وكيف أنه أراد أن يكون اتجاه المعركة من وجه واحد، مراعيا قلة عدد قواته، وحماية نسائه وأطفاله من أن يُعتدى عليهن، أو يقعن رهينةً بيد عدوه.

ومع النقص الشديد في عددهم قاتل جند الحسين ببسالة منقطة النظير، وبالنتيجة سقطوا في ساحة الوغى بين شهيد وجريح، وذلك لشدة قصف السهام، وكون ميدان القتال بالنسبة لأصحاب الحسينعليه‌السلام المحاصرين ضيقا لا يتسع للانتشار والتبعثر الذي يقلل - عادة - من الخسائر في الأرواح.

ثانيا: المبارزة الفردية

«من جملة تقاليد الحرب التي كانت معروفة عند العرب، هي أن يبرز الى ساحة القتال خصمان من الفريقين، ويعرّفا نفسيهما ويرتجزان ثم يتبارزان. وفي بعض المواقف كان النزال الفردي يحسم مصير القتال، وبعد أن يتبارز عدّة أشخاص في النزال الفردي، يبدأ الهجوم الشامل »(١) . والمبارزة تعني بروز الاشخاص للقتال الفردي. وفي يوم عاشوراء استمر النزال الفردي حتى الظهر، وحين كان جيش الكوفة يستشعر الضعف كان يهجم على أحد أصحاب الحسين بشكل جماعي حتّى يقتلوه. وقد استشهد بعض أنصار الحسين في النزال الفردي، وبعضهم استشهدوا في الهجوم

__________________

(١) الفن العسكري الاسلامي / ياسين سويد: ٢٢.

١٥٨

الشامل الذي شنّه جيش الكوفة على مخيم الحسين في بداية المعركة.

ابتدأت المبارزة الفردية بتوجه الحر الرياحي بعد التحاقه بصفوف قوات الإمام الحسينعليه‌السلام يطلب الإذن له بالبراز، قال للحسينعليه‌السلام : « جعلت فداك، أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع، وجعجع بك، وما ظننت أنّ القوم يبلغون منك ما أرى، وأنا تائب إلى اللّه تعالى فهل ترى لي من توبة؟ فقال الحسينعليه‌السلام : نعم يتوب اللّه عليك. فنزل وقال: أنا لك فارسا خير منّي لك راجلاً وإلى النزول يصير آخر أمري. ثمّ قال: فإذا كنت أوّل من خرج عليك، فأذن لي أنّ أكون أوّل قتيل بين يديك، لعلّي أكون ممّن يصافح جدّك محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله غدا يوم القيامة »(١) . فبرز إلى الميدان، وهو القائد الحربي المجرّب، فأخذ يفتك بقوات العدو، ويتوغل بين صفوفها في العمق، مما أوقع في صفوفها خسائر فادحة بين قتيل وجريح ثم استشهد رضى الله عنه.

بعدها برز برير بن خضير منفردا إلى الميدان شاهرا سلاحه، فخرج في مقابله يزيد بن المفضل فاتفقا على المباهلة إلى اللّه تعالى في أن يقتل المحق منهما المبطل، وتلاقيا فقتله برير الذي استمر يجدل أفراد العدو إلى أن قُتل.

ثم خرج وهب بن جناح الكلبي مبارزا، وكانت معه امرأته ووالدته، وبعد أن أجهده التعب، واشتد به العطش رجع إليهما وقال: « يا أماه أرضيت أم لا؟ فقالت الأم: ما رضيت حتى تُقتل بين يدي الحسينعليه‌السلام »(٢) ،

__________________

(١) اللهوف: ٦٢ - ٦٣.

(٢) اللهوف: ٦٣.

١٥٩

وقصته الكاملة مدونة في كتب المقاتل، ونحن قد اقتصرنا على موضع الحاجة وخاصة فيما يتعلق بالجانب العسكري.

استمرت المبارزة الفردية، وخرج عندئذ مسلم بن عوسجة، فسقط على الأرض مضرجا بدمه وبه رمق، فمشى إليه الحسين القائدعليه‌السلام ومعه حبيب بن مظاهر، فأوصى مسلم بن عوسجة حبيبا بأن يقاتل دون الحسينعليه‌السلام حتى الموت.

ثم خرج عمر بن قرظة الأنصاري، وكان قد جعل من جسده درعا يتقي به السِّهام والرِّماح التي تنهال على الحسينعليه‌السلام كالمطر، فلا يأتي إلى الحسينعليه‌السلام سهم الا اتقاه بيده، ولا سيف الا تلقاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين القائد سوء حتى أُثخن بالجراح، عندئذ التفت إلى قائده الحسينعليه‌السلام وقال له: يابن رسول اللّه، أوفيت؟ فقال الحسين القائد: «نعم أنت أمامي في الجنة »(١) .

ولم يقتصر القتال على الأحرار من الرجال، بل شارك فيه العبيد، حيث برز جون مولى أبي ذر إلى الميدان، فقال له الحسينعليه‌السلام : «أنت في إذن مني، فإنما تبعتنا طلبا للعافية، فلا تبتل بطريقنا »(٢) . فرفض القعود بإصرار، وله كلمات معبّرة يذكرها أرباب المقاتل، تدل على الوفاء والإباء.

بعدها برز من تبقى من الأنصار واحدا بعد الآخر حتى ذاقوا الحِمام، وبقي مع الإمام الحسينعليه‌السلام أهل بيته، وهم بدورهم وردوا الميدان ابتداءً من

__________________

(١) اللهوف: ٦٤.

(٢) اللهوف: ٦٤.

١٦٠

ولده علي الأكبر إلى أخيه وقائد أركان حربه أبي الفضل العباس (سلام اللّه عليه)، وانتهاءً بابن أخيه عبد اللّه بن الحسن بعد أن سبقه إلى الشهادة أخيه القاسم بن الحسنعليهما‌السلام ، وفي نهاية المطاف لم يسلم من القتل حتى الطفل الرَّضيع عبد اللّه بن الحسين الذي أصبح هدفا لسهام حرملة بن كاهل الأسدي، وكان من أبرز القناصين وأكثرهم دقة في إصابة الهدف، فسدد رميته إلى نحر الرَّضيع فذبحه من الوريد إلى الوريد وهو على صدر والده!!

لقد سطّر أولاد الحسن والحسينعليهما‌السلام ملاحم بطولية رائعة، وعلى سبيل الاستشهاد لا الحصر أراد عبد اللّه بن الحسن أن يدافع عن عمه الحسينعليه‌السلام وهو جريح، واتقى ضربةً وجهت للإمام المطروح بيده فقطعتها إلى الجلد، ثم رماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمه!

بعدها استمر القتال الفردي بعد تصفية القاعدة إلى القيادة، فبادر الحسين القائد إلى البراز، فلم يزل يُقاتل كل من بَرزَ إليه حتى قَتلَ - كما يصف الرّواة - مقتلةً عظيمةً، فقد وصف أحد الرجال الذين شهدوا معركة الطفّ - وهو حُميد بن مسلم - حال الحسينعليه‌السلام وهو يخوض غمار الحرب، فقال: « واللّه ما رأيت مكثورا قط، قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منهعليه‌السلام ، إن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب »(١) ، وكانوا ينهزمون بين يديه. واستمر الحال على ذلك المنوال حتى أُثخن

__________________

(١) الإرشاد ٢: ١١١.

١٦١

بالجراح.

عن جعفر بن محمد بن عليعليهم‌السلام ، قال: « وجد بالحسينعليه‌السلام حين قُتل ثلاث وثلاثين طعنة وأربع وثلاثون ضربة، قال: وجعل سِنان بن أنس لا يدنو أحد من الحسين إلاّ شدّ عليه مخافة أن يغلب على رأسه »(١) .

وكانعليه‌السلام يقوم بدور حربي مزدوج؛ فمرّة يشنُ هجوما مقابلاً، ومرّة أخرى عند اشتداد العطش وتزايد الطعان يتمسك بموقف الدفاع. كان يحمل عليهم ويحملون عليه، وهو مع ذلك يطلب شربة من ماءٍ فلا يجد حتى كثرت جراحه، فبينما هو واقف إذ اتاه حجر فوقع على جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدَّم عن جبهته، فأتاه - حسب وصف الراوي المذكور - سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبه، ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كأنه ميزاب، فضعف عن القتال(٢) .

ولما أحس القوم بضعفه حملوا على مقر قيادته، فطعن شمر فسطاط الحسينعليه‌السلام بالرمح وقال: « عليّ بالنار اُحرقه على من فيه. فقال الحسينعليه‌السلام : يابن ذي الجوشن أنت الداعي بالنار لتحرق على أهلي؟ أحرقك اللّه بالنار »(٣) .

أما الطعنة القاضية التي وجهت للحسينعليه‌السلام ، فكانت من قبل صالح بن وهب حيث سددها إلى خاصرته، فسقط عندئذ عن فرسه إلى الأرض

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦: ٢٤٦، حوادث سنة إحدى وستين.

(٢) اللهوف: ٧١.

(٣) اللهوف: ٧٢ - ٧٣.

١٦٢

على خده الأيمن، بعدها أصدر شمر أمرا يطلب فيه الإجهاز الجماعي على الإمامعليه‌السلام قائلاً لأصحابه: ما تنتظرون بالرجل؟! فحملوا عليه من كل جانب، وأفرغ كل منهم حقده إما بطعنة رمح أو رمية سهم أو ضربة سيف أو رشقة حجر.

بعد ذلك احتزوا رأسه الشريف، وتسارعوا إلى سلب ملابسه، ثم تسابقوا على نهب ما في رحله، قال الراوي: « ثمّ أقبلوا على سلب الحسين؛ فأخذ قميصه إسحاق بن حوية الحضرمي فلبسه فصار أبرص وامتعط شعره »(١) .

قال: « وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول وقرّة عين البتول حتى جعلوا ينتزعون ملحفة المرأة عن ظهرها »(٢) .

وهذه هي مصاديق الحرب غير العادلة التي لاتتطابق مع الأعراف والقواعد الإنسانية التي توجب احترام الأموات وعدم التمثيل بهم، كما توجب احترام حياة وأملاك الأبرياء وحسن معاملة الأسرى وعدم التعرض بسوء لغير المقاتلين وخاصة النساء والأطفال والمرضى.

نقض اُصول الحرب

لقد خرق جيش الكوفة في واقعة كربلاء جميع اُصول الحرب في تعامله مع أصحاب وعيال الحسين، إليك في مايلي أمثلة على ذلك:

١ - الهجوم الجماعي على رجل واحد: وهذا خرق لمبادى ء القتال

__________________

(١) اللهوف: ٧٦.

(٢) اللهوف: ٧٧.

١٦٣

الفردي الذي يقضي بأن يبرز رجل واحد مقابل رجل واحد ويتبارزان في الميدان، ففي كربلاء حصل هجوم جماعي على رجل واحد وهو الحسينعليه‌السلام .

يقول الشيخ المفيدقدس‌سره : « وحملت الجماعة على الحسينعليه‌السلام فغلبوه على عسكره، واشتدَّ به العطش، فركب المسنّاة يريد الفرات فاعترضته خيل ابن سعد.

وقال: لمّا رجع الحسينعليه‌السلام من المسنّاة إلى فسطاطه تقدّم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فأحاط به »(١) .

وفي رواية ابن طاوس: « وصاح شمر بأصحابه ما تنظرون بالرجل قال: وحملوا عليه من كلّ جانب؛ فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى، وضرب الحسينعليه‌السلام زرعة فصرعه، وضربه آخر على عاتقه المقدّس بالسيف ضربه كباعليه‌السلام بها لوجهه، وكان قد أعيا وجعل ينوء ويكبّ، فطعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته، ثمّ انتزع الرمح فطعنه في بواني صدره فقال عمر بن سعد لرجل عن يمينه: إنزل ويحك إلى الحسين فأرحه، قال: فبدر إليه خولي بن يزيد الأصبحي ليحتزّ رأسه فأرعد، فنزل إليه سنان بن أنس النخعي فضرب بالسيف في حلقه الشريف ثمّ احتز رأسه المقدّس »(٢) .

٢ - التعرّض بالسلاح للنساء والأطفال: فمن المتعارف عليه أن

__________________

(١) الإرشاد ٢: ١٠٩ - ١١٠.

(٢) اللهوف: ٧٣ - ٧٤.

١٦٤

للنساء والأطفال حصانة في الحروب، ولكن في كربلاء، اُحرقت الخيام بأمر شمر بن ذي الجوشن على النساء والأطفال الذين بقوا بلا ملاذ آمن، فقد هجموا على من في الخيام وشرّدوهم في البراري ولمّا يزل الإمامعليه‌السلام حيّا يقاتل.

ولما رأى الحسينعليه‌السلام هجوم الجيش على خيام عياله صاح: «انا الذي اُقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا عتاتكم من التعرّض لحرمي ما دمت حيا »(١) .

لم تجد هذه المناشدة أذنا صاغية، من أُناس وضعوا القيم تحت أقدامهم، وانساقوا وراء نزعتهم الجاهلية المتلهّفة للسَّلب والنهب. فلم يغضّوا الطرف عن مناشدة الحسينعليه‌السلام فحسب، بل تجاهلوا أوامر قيادتهم التي دعتهم - في الظاهر - إلى وقف الانتهاكات الشائنة لكرامة وممتلكات نساء بيت النبوّة.

نقل الشيخ المفيدقدس‌سره : « وجاء عمر بن سعد فصاح النساءُ وبَكيْن، فقال لأصحابه: لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النسوة، ولا تعرِّضوا لهذا الغلام المريض(٢) ، وسألته النسوة ليسترجع ما أُخذ منهنّ ليتستّرن به فقال: من أخذ من متاعهنّ شيئا فليردّه عليهنّ، فواللّه ما ردّ أحد منهم شيئا »(٣) .

ضمن هذا السياق ضربوا بعرض الحائط الدعوات الدينية والإنسانية

__________________

(١) اللهوف: ٧١.

(٢) يراد به الإمام علي بن الحسينعليهما‌السلام .

(٣) الإرشاد ٢: ١١٣.

١٦٥

التي تقرّ بحقّ المريض بالرعاية بدليل: أنّ عبيداللّه بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسينعليه‌السلام أمر بعليِّ بن الحسين - وكان مريضا - فغُلَّ بغُلٍّ إلى عنقه(١) . وقبل ذلك هدّده بضرب عنقه لولا تدخّل عمّته زينب سلام اللّه عليها عندما قالت لابن زياد: يا بن زياد، إنّك لم تبق منّا أحدا، فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه(٢) فتركه ثمّ سيّره إلى الشام مع سبايا أهل البيتعليهم‌السلام .

٣ - سبي المرأة المسلمة: المرأة المسلمة لا يجوز سبيها. وعليعليه‌السلام لم يسبِ أحدا في جميع حروبه، وكان يوصي أصحابه وأفراد جيشه أن لا يتعرضوا للنساء، لكن جيش يزيد سبى المتبقين من عيالات أهل بيت النبوة وأصحابهم الميامين، من أمثال: زينب وام كلثوم وسكينة وساقوهم سبايا الى الكوفة والشام. هذه الفعلة الشائنة حزّت في نفس زينبعليها‌السلام الأبية، فوجّهت إلى يزيد سؤالاً استنكاريا، قالت له فيه: « أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا قد هتكت ستورهنّ وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد »(٣) .

وفي دار الخلافة طلب أحد أهل الشام من يزيد أن يهبه فاطمة بنت الحسين كجارية، إلاّ أنّ زينب تصدت له بشدّة(٤) .

__________________

(١) الإرشاد ٢: ١١٩.

(٢) انظر: اللهوف: ٩٥.

(٣) اللهوف: ١٠٦.

(٤) انظر: الإرشاد ٢: ١٢١.

١٦٦

ويقتضي التنويه على أن ما تطرقنا إليه من دروس عسكرية هو غيض من فيض، فالدروس العسكرية والمواقف الحربية التي تمخضت عن معركة الطف القصيرة كثيرة وغنية بالعبر والتجارب. وهذه المعركة الغنية بالدروس نستفيد منها في صراعنا ضد القوى الغاشمة والمتجبرة، حيث نخرج بنتيجة حاسمة هي: أن الدم سوف ينتصر على السيف، وأن أبواق القوة لا تستطيع كتم صوت الحق، وأن المعركة لا تقاس من الناحية العسكرية بعدد الخسائر بالأرواح، بل تقاس بالحصول على هدف القتال المستقبلي والمعنوي المتمثل بفضح سياسة وأساليب القوى المتجبرة والتصدي لها.

خصائص جند الحسينعليه‌السلام

ليست كربلاء مأساة فاجعة، ومناسبة للعويل والبكاء وحسب، بل هي في جوهرها مهرجان للحق، وعيد للتضحية حيث تتجسد - مفهوميا وميدانيا - عظمة الثبات، وروعة البطولة، وعزّة الإيمان، وجلال التضحية.

إن جذوة الحق والصمود التي أضاءها الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه بدمائهم الزكية، لم يخب نورها باستشهاده، بل ازدادت ألقا واندفاعا على نحو يبهر الألباب، لذلك أخذت قوى الإيمان في كل مكان وزمان تتزود من الوقود - المعرفي والسلوكي - لمحطة كربلاء من خلال دراسة متأنية لأحداثها ومواقف الناس وأدوارهم فيها.

ونحن في هذه الفقرة نبحث عن الخصائص الأساسية، التي جعلت من جيش الحسينعليه‌السلام الذين يقارب عددهم الخمسون إذا ما استثنينا

١٦٧

الحسينعليه‌السلام وأهل بيته، يقفون مع قائدهم بكل شجاعة وصمود، ويواجهون جيشا يمتاز بالتفوق العددي الساحق، فلم يتعجلوا النصر، وما أبعده عن قوم يقاتلون في مثل ظروفهم، وبمثل عددهم، إنما كانوا يتعجلون الجنّة، إذ لم يكن لديهم ريب في أنها المنتهى والمصير. أليست هذه الظاهرة النادرة تستحق البحث والنظر من قبل علماء الاجتماع أو من قبل علماء النفس؟

نفر قليل قد رفضوا الباطل، واختاروا الحق، ثم مزقوا جدار الصمت، وجهروا بالمقاومة، وصمدوا صمودا اسطوريا، فالذين اتبعوا الإمام الحسينعليه‌السلام من غير بني هاشم هم نخبة الأمة الإسلامية، ولقد وصفهم أحد قادة الجيش الأموي بقوله للجيش: « أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوما مستميتين »(١) ، وقال عنهم الإمام عليعليه‌السلام : «ليس مثلهم إلا شهداء بدر »(٢) .

فالذين اتبعوا الإمام الحسينعليه‌السلام ونالوا شرف الشهادة بين يديه، نماذج بشرية عجيبة حقا، حللت واقعها تحليلاً دقيقا، وأصغت لنبيها وهو يأمرها بنصر الحسينعليه‌السلام ، فاختارت ما اختارت بقلوب راضية مطمئنة.

لقد طلب الحسينعليه‌السلام إرجاء القتال ليجعل أهله وأصحابه في حلٍّ من كل التزاماتهم تجاهه، ومن أجل ذلك جمعهم تحت جنح الظلام، وقال لهم بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه: «أما بعد، فاني لا أعلم أصحابا أوفى من

__________________

(١) الارشاد ٢: ١٠٣.

(٢) راجع: اُسدالغابة / ابن الأثير ١: ١٢٣ و٣٤٩، الإصابة / ابن حجر ١: ٦٨.

١٦٨

أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم اللّه عني خيرا، ألا وإنِّي لأظنّ أنّه آخر يومٍ لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعا في حلٍّ ليس عليكم منّي ذِمامٌ، هذا الليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جملاً »(١) .

ترى هل يتقبل الجيش المتكون من الأهل والأنصار رأيه هذا؟ كلا، ولماذا؟ لأن العظمة، ولأن البطولة كانتا في ذلك اليوم على موعدٍ مع هؤلاء الأبرار جميعا فتيانا وكهولاً، لتحققا بهم أروع مشاهدهما، وأسمى أمجادهما. من أجل ذلك، لم يكد البطل يفرغ من كلماته، حتى تحولوا جميعا إلى اُسود تزأر بكلمات الرّفض وتشرق بدموع العطف والمودة، هبوا جميعا يُعطون البيعة على موت محقق، فقالوا له: « لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللّه ذلك أبدا »(٢) .

كل ذلك جعلنا نتساءل عن الخصائص الرئيسية التي امتاز بها أصحاب الحسينعليه‌السلام ، والتي كانت السبب وراء وقوفهم مع قائدهم في ذلك الموقف العصيب، في وقت لم يكن لهم في إحراز النصر على عدوهم أدنى أمل، وليس أمامهم سوى القتل، فمن خلال دراستنا لسلوكهم ومواقفهم في كربلاء نجد هذه الخصائص تتمثل بما يلي:

١ - عدالة القضية

لم يكتف معاوية باغتصاب الخلافة، ولم يرغب - وهو على وشك لقاء

__________________

(١) الإرشاد ٢: ٩١.

(٢) الإرشاد ٢: ٩١.

١٦٩

ربّه - في التكفير عن خطئه، تاركا أمر المسلمين للمسلمين، بل إنه أمعن في تحويل الإسلام إلى ملك عضوض، فأخذ البيعة ليزيد كولي عهد له انتزعها بالذهب وبالسيف، ثم هاهو يزيد يتربع على عرش أبيه بعد وفاته، فيهمل أمر المسلمين، ويعكف على اللّهو بفهوده وقروده حتى يُلقب بـ ( يزيد القرود )! ثم يسلط قواده ورجاله على العباد ويستبيح البلاد، ويرسل إلى الأصحاب والأشراف من أجل مبايعته!

رفض الإمام الحسينعليه‌السلام طلب البيعة الذي تقدم به ( الوليد بن عتبة ) أمير المدينة، وخرج من المدينة هو وبعض أقطاب المعارضة كعبد اللّه بن الزبير وتوجه إلى مكة، وهناك في الحرم الآمن أحس بعدم الأمن، وخشي على الكعبة المشرفة من أن تُنتهك حرمتها بقتله واغتياله، لذلك خرج يريد العراق بناءً على الكتب المرسلة إليه من أهله، التي تدعوه إلى القدوم، وتعده بالسمع والطاعة.

أدرك أصحاب الحسينعليه‌السلام عدالة قضيته، وأنه حين خرج إلى الكوفة لم يكن طالبا لدنيا ولا جاه، وإنما كان مستجيبا لسلطان الإيمان الذي لا يعطى ولا يُغلب. لقد رأى القائد ( الحسينعليه‌السلام ) وصحبه ( الجند ) أن الإسلام بكل قيمه الغالية وأمجاده العالية، يتعرض لمحنة قاسية يفرضها عليه بيت أبي سفيان، ورأى الحسينعليه‌السلام ويشاركه في هذه الرؤية جنده أن خطيئة الصمت والسكوت تجتاح السواد الأعظم من الناس رغبةً ورهبةً أحيانا. وقد وعى الأصحاب جيدا المستجدات، لما امتازوا به من وضوح في الرؤية، فصمموا على اختيار الخيار الأصعب، المتمثل بالانضمام إلى جبهة الحسينعليه‌السلام الذي أعلن هدفه - منذ البداية - وبدون لبس أمام الناس.

١٧٠

وبعد أن تبين للأصحاب الخيط الأبيض من الأسود من التطورات السياسية، التي عصفت بالساحة الإسلامية آنذاك، باتوا على يقين بأن الحسينعليه‌السلام هو القائد الرّباني الجدير بالخلافة، وأن يزيد رجل شهواني مغامر يتستر خلف سواتر الدين من أجل تأمين البقاء في السلطة، لذلك اندفعوا إلى آخر الشوط مع قيادتهم الحقة، ولم يكتفوا بالشجب والاستنكار، في وقت كان السكوت فيه من ذهب، وقد سكت البعض

سكوت الأموات، في هذا الوقت العصيب سارع الأصحاب بالالتحاق بقائدهم الحسينعليه‌السلام بعد أن تيقنوا من عدالة قضيته، وقاتلوا بجنبه حتى آخر رمق، وأفضل شاهد على ذلك الطراز من الجُند ( زهير بن القين ) الذي التقى بالإمامعليه‌السلام في مكان يُدعى ( زرود ) حيث أبصر الإمام فسطاطا مضروبا، فسأل عنه فعلم أنه لـ ( زهير بن القين ) فأرسل في طلبه، فتثاقل أول الأمر، ثم ذهب إلى لقائه ضَجِرا وحين التقيا أسرَّ الحسينعليه‌السلام إليه حديثا، لم يكد الرجل يسمعه حتى تهلَّل وجهه، وامتلأ غبطة وبشرا، ثم سارع فنقل فسطاطه إلى جوار فسطاط الحسينعليه‌السلام ، وقال لمن كان معه من أهله: « من أحبَّ منكم أن يتبعني، وإلاَّ فإنه آخر العهد بيننا »(١) . ثم التفت إلى زوجته وقال لها: « أما أنت، فالحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك بسببي سوء »(٢) ، وانصرف أَقرباؤه عائدين إلى موطنهم، مصطحبين معهم

__________________

(١) انظر: روضة الواعظين: ١٧٨، وقريب منه في تاريخ الطبري ٦: ٢١٠، حوادث سنة إحدى وستين.

(٢) انظر: الإرشاد ٢: ٧٣.

١٧١

زوجته. ترى ماذا قال له الحسينعليه‌السلام حين ناجاه؟! هل وعده بمنصب أو مغنم؟ لو كان ذلك، ما سرَّح زوجته، ولا قال للذين كانوا معه موِّدعا إياهم: إنه آخر العهد بيننا ثم بأَيِّ مغنم يعدُه ( الحسين ) وقد جاءته الأنباء بمقتل رُسُله، وشراسة عدُوّه ..؟ أغلب الظن أنه حدَّثه عن قضيته العادلة، ثم ختم حديثه معه قائلاً: تلك هي القضية، ففيمَ إبطاؤُك عن الجنَّة؟.

وبالمقابل كان جند يزيد يتذرّعون بمختلف السبل والحيل في سبيل الفرار من جبهة القتال، وذلك لعدم إيمانهم بالقضية التي يدافعون عنها. يروى أنّ ابن زياد قد « وجّه الحصين بن نمير، وحجار بن أبجر، وشبث بن ربعي، وشمر بن ذي الجوشن، ليعاونوا عمر بن سعد على أمره. فأمّا شمر فنفذ لما وجّهه له، وأمّا شبث فاعتلّ بمرض. فقال له ابن زياد: أتتمارض؟ إن كنت في طاعتنا فاخرج إلى قتال عدوّنا. فلمّا سمع شبث ذلك خرج قالوا: وكان ابن زياد إذا وجّه الرجل إلى قتال الحسين في الجمع الكثير، يصلون إلى كربلاء ولم يبق منهم إلاّ القليل، كانوا يكرهون قتال الحسين، فيرتدعون ويتخلّفون »(١) .

ونتيجة لذلك استخدم ابن زياد أسلوب التهديد والوعيد لحمل الناس على الخروج لقتال الحسينعليه‌السلام .

يروى أنّ ابن زياد بعث سويد بن عبدالرحمن المنقري في خيل إلى الكوفة، وأمره أن يطوف بها، فمن وجده قد تخلّف أتاه به. فبينما هو يطوف في أحياء الكوفة إذ وجد رجلاً من أهل الشام قد كان قدم الكوفة في طلب

__________________

(١) الأخبار الطّوال: ١٩٠.

١٧٢

ميراث له، فأرسل به إلى ابن زياد، فأمر به، فضربت عنقه. فلمّا رأى الناس ذلك خرجوا(١) .

٢ - الإيمان بالقيادة

لابد لكل قضية عادلة من قيادة حقة، والايمان بالقضية العادلة يستدعي أيضا الايمان بالقيادة المخلصة القادرة على الوصول إلى الهدف بأفضل الطرق وأحسن الأساليب المشروعة، وتحريك ماهمد من الطاقات وجمعها وتوظيفها لصالح القضية المنشودة.

وقيادة الحسينعليه‌السلام الحقة، بما اكتسبته من قدسية وشرعية، وبما اتصفت به من عصمة وحكمة وبُعد نظر، وبما اتخذته من مواقف مبدئية حاسمة، ليس فيها مساومة ولا انصاف حلول، وقد استقطبت أنظار الناس فوجدوا فيها المنقذ والمخلِّص، ونتيجة لذلك التحقت بها ثلّة مؤمنة، ولم يكن ذلك أمرا سهلاً لجميع الناس؛ نظرا لدقّة الظروف وخطورة الاحتمالات، في وقت كمّم فيه يزيد من خلال ولاته القساة أفواه الناس، وزرعوا الخوف في النفوس، وفي وقت آثرت فيه الأغلبية الصمت والعافية، انضمت هذا الفئة القليلة العدد والصلبة الايمان بمعسكر الحسين، وآمنت بقيادته، وأخذت تدين له بالسمع والطاعة، ووطنت نفسها على التضحية والفداء.

والقائد بدوره نسج علاقة قوية مع أتباعه، وعبأهم روحيا وفكريا

__________________

(١) المصدر السابق: ١٩٠.

١٧٣

ليكونوا في مستوى الأحداث، واتبع معهم سياسة المكاشفة والمصارحة التي يُعبر عنها حاليا في العلوم السياسية بـ ( الغلاسنوست )، كان يطلعهم على الموقف أولاً بأول، ويرصد ويحلل كل شاردة وواردة فيما يتعلق بقضيتهم، ويبين لهم ماذا يحمل رحم الأيام القادمة من أحداث جسام حبلى بها، وأبقى أمامهم كل أبواب النجاة مفتوحة على مصراعيها، ولكن مع ذلك نجد أن الأصحاب يوصدون جميع تلك الأبواب، ويتمسكون بقيادة إمامهم الحسينعليه‌السلام ، ويوطنون أنفسهم على الموت دونه. واكتفي - في هذه الفقرة - بهذا الموقف، وذلك حينما طلب الحسين القائد من أصحابه التفرق عنه، لأن القوم لا يريدون غيره، قام سعيد بن عبد اللّه الحنفي، فقال: « لا واللّه يا ابن رسول اللّه، لا نخذلك أبدا حتى يعلم اللّه أنا قد حفظنا فيك وفيه رسول اللّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله . ثم قال: واللّه، لو علمت أني أُقتل فيك ثم أُحرق ثم أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقي حِمامي دونك »(١) .

وقال زهير بن القين: « واللّه يا ابن رسول اللّه لوددت أني قتلت ثم نشرت ألف مرّة، وان اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك »(٢) .

ونفس الموقف أفصح عنه مسلم بن عوسجة، قال: « أنخلِّي عنك ولمّا نُعذِرْ إلى اللّه سبحانه في أداء حَقِّك؟! أما واللّه حتى أطعن في صدروهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح

__________________

(١) روضة الواعظين: ١٨٤.

(٢) روضة الواعظين: ١٨٤.

١٧٤

أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، واللّه لا نُخليك حتى يعلم اللّه أنْ قد حفظنا غيبة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك، واللّه لو علمت أنِّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق ثم أحيا ثمّ أُذرَّى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدةٌ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا »(١) .

وظاهرة حبّ الأصحاب لقائدهم الحسينعليه‌السلام بهذا العمق لفتت نظر العديد من الكتاب والباحثين، المسلمين منهم وغير المسلمين، ومنهم جورج جرداق، العالم والأديب المسيحي، فقال: « حينما جنّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء، كانوا يقولون: كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون: لو أننا نقتل سبعين مرّة، فاننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرّة اُخرى أيضا »(٢) .

ومن خلال هذه المواقف المشرفة، ضرب الأصحاب المثل الأعلى في الالتفاف حول القيادة التي آمنوا بها، وجادوا بأنفسهم، فباعوها صفقة رابحة من أجل قضيتهم العادلة.

٣ - التضحية الغالية

تعتبر التضحية من لوازم الإيمان سواءً بالقضية أو بالقيادة، فمن آمن بشيء ضحى من أجله، وخاصة عندما يتعلق الأمر بإنقاذ الإسلام من خطر السقوط في وهدة الظلم والضلال، وكان الأنصار تبعا لرؤية قائدهم

__________________

(١) انظر: الإرشاد ٢: ٩٢.

(٢) موسوعة عاشوراء: ٢٩٣.

١٧٥

الحسينعليه‌السلام قد استشعروا الخطر المحدق بالأمة من جراء سيطرة يزيد الفاسق، الذي حَرَف الأمة عن مسارها الصحيح وحرَّف مبادءها الحقة، وقوَّض دعائم مجدها، كانوا كقائدهم الحسين قد وطّنوا أنفسهم لتحمّل كل الضغوط، وكان بإمكانهم أن يستسلموا أو أن ينسحبوا تحت جنح الظلام، لكن إرادتهم كارادة قائدهم واحدة لا تتجزأ هي انقاذ الإسلام، يقول واشنطن ايروينغ، المؤرخ الامريكي الشهير: « كان بميسور الامام الحسين النجاة بنفسه عبر الاستسلام لارادة يزيد، إلاّ أنّ رسالة القائد الذي كان سببا لانبثاق الثورات في الاسلام لم تكن تسمح له الاعتراف بيزيد كخليفة، بل وطّن نفسه لتحمّل كل الضغوط والمآسي لاجل انقاذ الاسلام من مخالب بني اُميّة. وبقيت روح الحسين خالدة، بينما سقط جسمه على رمضاء الحجاز - والصحيح هو كربلاء - اللاهبة، أيها البطل، ويا اُسوة الشجاعة، ويا أيها الفارس يا حسين »(١) .

واذا كان أكثر مايمنع الناس عن التضحية، حب المال والملذات، وحب الحياة، فان الأصحاب قد قطعوا علائق الدنيا تلك، عندما رأوا في بداية مسيرهم نحو العراق ضباب الحرب، وعندما دخلوا - من بعد ذلك - في أتونها ولسعهم لهيبها، فلم يتهيبوا من رؤية الكتائب الجرارة التي تحيط بهم من كل حدب وصوب، بل صمموا على التضحية بالنفوس وهي أغلى مايمكن التضحية به. يقول الكاتب المصري خالد محمد خالد وحقا ما يقول: « إن اللَّوحة التي رسمتها تضحيات الحسين وأهله وصحبه، بوَّأت

__________________

(١) موسوعة عاشوراء: ٢٩١.

١٧٦

هذا الشرف وتلك الجدارة أعلى منازل الذُّرى، إنهم لم يقدموا على التضحية ذاتها وهكذا جعلوها وسيلة وغاية كما أكدوا معنى أنها مثوبة نفسها، وأنها قيمة بذاتها »(١) .

ومن أبرز الشواهد العامة على مدى تسابق جند الإمام على التضحية بالنفوس، تقدم شباب أهل البيت، ليأخذوا مكانهم في الصف الأول عند شروع الطرفين في صفحة القتال الجماعي، فدفعهم الأنصار عن محلهم، قائلين لهم بلسان الحال والمقال: معاذ اللّه أن تموتوا ونحن أحياء، نشهد مصارعكم، بل نحن أولاً ثم تجيئون على الأثر. وتقدم الأنصار واقتحموا الميدان في مشهد فريد، جسّد القدوة في القدرة الرائعة على التضحية الغالية.

٤ - الانضباط التام

وهو الالتزام الصارم بأوامر وتوجيهات القيادة، وينتج غالبا من قوة الشخصية، والإيمان بالقضية، يقول الجنرال كورتوا: « إن قوي الشخصية هو من حافظ على التفكير الواضح المنطقي رغم المتاعب، وبحث عن الحقيقة، وتمسك بها بكل اصرار مهما كلفه الأمر، وثبت في المأزق بكل صبر ولو انسحب الجميع من حوله »(٢) .

ونحن نجد أن هذه الصفات تنطبق بحذافيرها على جند الإمام، الذين

__________________

(١) انظر: ابناء الرسول في كربلاء / خالد محمد خالد، ١٢٩، دار الكتاب العربي، ط٤.

(٢) لمحات من فن القيادة / ج - كورتوا، تعريب المقدم هيثم الايوبي - المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط٢.

١٧٧

انقادوا - طواعيةً - لتوجيهات قائدهم الحسينعليه‌السلام وخضعوا له عن طيب قلب، نتيجة لطغيان حالة من الغليان والحماس والعشق للشهادة، فعلى سبيل المثال، نقرأ عن موقف عابس الشاكري، وكيف أنه نزل الى المعركة بعد أن تقاعس الأعداء عن منازلته وانهالوا عليه بالحجارة، فرمى بسيفه جانبا، ونزع درعه، ثم واجه جحافل الأعداء وهو أعزل إلا من سلاح الإيمان، ومع هذا الاندفاع الذي قلّ نظيره، فانه لم يخرج عما رسمته له قيادته من حدود، وإنما أراد التعبير عن استهانته بالموت في سبيل قضيته العادلة وحبه لقائده وهيامه للشهادة، كما أنه أراد بث الرّعب في صفوف أعدائه وإظهار استخفافه بجمعهم. ويبدو - أيضا - أنه أراد أن يقوم بمظاهرة احتجاج، يُظهر فيها للملأ بأن القوة الباغية لا تستطيع إخماد جذوة الحق المتّقدة في القلوب. وكأن لسان حاله يقول: ليأت الموت، وليأت القتل، ولتأت الشهادة! ..ليجيء ذلك كله، فذلك دورهم في الحياة. أن يُعلِّموا الناس في جيلهم، ولكل الاجيال، أنّ الوقوف إلى جانب الحق، والتضحية المستمرة في سبيله، هما أصدق مظهر لشرف الإنسان.

* * *

١٧٨

الفهرس

كلمة المركز ٥

المقدَّمة ٧

أولاً: البعد الغيبي. ١٠

التنبوء بمصير القَتَلة ٢٤

ثانيا: البعد العبادي. ٣٣

صلاة الحسين عليه‌السلام في كربلاء: ٣٣

صلاة تحت الحِراب.. ٣٧

الأول: أسلوب التشكيك.. ٤٠

الثاني: أسلوب التخويف.. ٤٢

الصلاة الخاصة ٤٤

العبادة الفاعلة ٤٦

قرآن ناطق. ٤٧

ثالثا: البعد الأخلاقي. ٥٢

١ - الإيثار: ٥٣

٢ - الشجاعة: ٥٦

٣ - الشهامة والمروءة: ٥٨

٤ - العزة ورفض الذّل: ٦١

٥ - الصبر: ٦٢

٦ - الوفاء: ٦٤

رابعا: البعد السياسي. ٦٦

موقف الحسين عليه‌السلام من صلح الحسن عليه‌السلام.... ٧٦

مؤتمر سياسي عام ٧٩

ضرورة النهضة ٨١

اشكاليات واهنة ٨٤

الفتح المبين. ٨٧

١٧٩

خامسا: البعد الإعلامي. ١٠٠

الإعلام الحسيني في مقابل الإعلام اليزيدي: ١٠١

أ - الاتصال الشخصي والجمعي: ١٠٢

١ - الاتصال الشخصي: ١٠٢

٢ - الاتصال الجمعي: ١٠٤

ب - الرّسل والمراسلات: ١٠٥

ج - استثمار موسم الحج: ١٠٩

د - الخطابة: ١١١

هـ - الشعر: ١١٣

أساليب الإعلام اليزيدي. ١١٨

١ - الترهيب والترغيب: ١١٨

٢ - التكذيب: ١١٩

٣ - اللّعن والسّباب وكيل الاتهامات: ١٢١

٤ - التظاهر بالحق وقلب الحقائق: ١٢٢

سادسا: البعد العسكري. ١٢٩

١ - الموقف العام ١٢٩

أولاً: الحماية الشخصية: ١٣٢

ثانيا: استطلاع التحركات المعادية: ١٣٣

ثالثا: إفشال محاولة الاغتيال: ١٣٣

٢ - المعلومات.. ١٣٧

الأسلوب الأول: استنطاق المسافرين والاستفسار منهم. ١٣٧

الأسلوب الثاني: المكاتبات.. ١٣٩

الأسلوب الثالث: الاستطلاع. ١٤٠

٣ - تمحيص القوات وتطهيرها ١٤٢

٤ - الحوار وعدم البدء بالقتال. ١٤٤

٥ - الأعمال التمهيدية ١٥٠

٦ - سير القتال. ١٥٦

١٨٠

181