أبعاد النهضة الحسينية

أبعاد النهضة الحسينية0%

أبعاد النهضة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 181

أبعاد النهضة الحسينية

مؤلف: عباس الذهبي
تصنيف:

الصفحات: 181
المشاهدات: 52485
تحميل: 4911

توضيحات:

أبعاد النهضة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 181 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52485 / تحميل: 4911
الحجم الحجم الحجم

الماء وبينه »(١) . فالحسينعليه‌السلام قد ورث الشهامة عن عليعليه‌السلام ، ويزيد ورث الخسة عن معاوية.

٤ - العزة ورفض الذّل:

وهي من أهم الدروس الأخلاقية التي ميّزت نهضة كربلاء، ومن أوّليات ثقافة عاشوراء. قال الحسينعليه‌السلام : «موت في عز خيرٌ من حياة في ذل »(٢) . وقالعليه‌السلام لما عرضوا عليه الاستسلام والبيعة: «لا واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد »(٣) . وفي كربلاء حينما خيّروه بين البيعة أو القتال، قال: «ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنين وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام »(٤) . وعند اندلاع معركة الطفّ كان يكرّ على صفوف العدو مرتجلاً(٥) :

القتل أولى من ركوب العار

والعار أولى من دخول النار

لقد كانت نهضة كربلاء درسا عمليا من دروس العزة والكرامة ورفض الذل، واستلهم الثوار منها روح المقاومة والتحرّر.

__________________

(١) الأمالي: ٢٢٠، المجلس الثلاثون.

(٢) مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب ٤: ٢٢٤.

(٣) الإرشاد ٢: ٩٨.

(٤) اللهوف: ٥٩.

(٥) اللهوف: ٧٠.

٦١

٥ - الصبر:

ويعني الثبات والصمود والمقاومة، ومجابهة العوامل التي تعيق الإنسان عن بذل مساعيه في سبيل هدفه، إضافة الى تحمّل المصاعب والشدائد في سبيل أداء الواجب وإحراز النصر.

وقد رسمت واقعة كربلاء أجمل صور الصمود والثبات في سبيل العقيدة وتحمّل الصعاب، حتى أضحت سببا لمجد وخلود تلك الملحمة، وكما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «الصبر يهوّن الفجيعة »(١) ، فقد هانت بعين الحسينعليه‌السلام هذه المصيبة الجسيمة بفعل الصبر والصمود الذي تجسد في يوم عاشوراء، لقد أنزل اللّه تعالى عليه الصبر بقدر التحديات والمصائب التي ألّمت به، وصدق الإمام الصادقعليه‌السلام «إن اللّه ينزل الصبر على قدر المصيبة »(٢) .

وفي ملحمة كربلاء كان الصبر مشهودا في القول والعمل لدى سيد الشهداءعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه الصابرين الأوفياء، فلما أراد الخروج من مكة إلى العراق ألقى خطبة قال فيها: «رضى اللّه رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين »(٣) .

__________________

(١) عيون الحكم والمواعظ / علي بن محمد الليثي الواسطي: ٣٣، دار الحديث ط١ - ١٣٧٦ ش.

(٢) مستطرفات السرائر / ابن ادريس الحلي: ٥٥٠، مؤسسة النشر الإسلامي، ط ٢ - ١٤١١ه، من لايحضره الفقيه / الشيخ الصدوق ٤: ٤١٦، جامعة المدرسين، قم ط٢ - ١٤٠٤ ه.

(٣) مثير الأحزان: ٢٩، واللهوف: ٣٨.

٦٢

وخاطب أصحابه في أحد المنازل على طريق العراق ليلفت أنظارهم الى خطورة الموقف وصعوبة ما هم مقبلين عليه فقال: «أيها الناس، من كان منكم يصبر على حدّ السّيف وطعن الأسنّة فليقم معنا، وإلاّ فلينصرف عنّا »(١) ، ولكن أصحابه لم يبدر منهم إلاّ ما أحبّ هو من الصبر عند لقاء الأقران، وتحمّلوا شدّة العطش، وضراوة هجوم العدو، نتيجة الصبر والثبات على الشهادة على الرغم من قلّة الناصر، بل كانوا في غاية الفرح والسرور، حتى ان بعضهم كان يمازح في تلك الساعة، كما سيأتي. وكان الحسينعليه‌السلام يكرر على أسماعهم ويذكرهم بأهمية الصبر، قائلاً: «صبرا يا بني عمومتي، صبرا يا أهل بيتي، فواللّه لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا »(٢) .

وعلّم درس الصبر للنساء لعلمه باتصافهن بالرّقة وسرعة الجزع عند المصيبة، فقد جمع أخته زينبعليها‌السلام ونساءه ودعاهن الى الصبر والتحمل قائلاً: «يا أختاه تعزّي بعزاء اللّه، فإنّ سكّان السماوات يفنون، وأهل الأرض كلّهم يموتون، وجميع البرية يهلكون، ثمّ قال: يا أختاه يا أمّ كلثوم، وأنت يا زينب وأنت يا فاطمة وأنت يا رباب، انظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليَّ جيبا، ولا تخمشن عليَّ وجها، ولا تقلن هجرا »(٣) .

وكانت كل لحظة من وقائع الحادثة تعبيرا عن المقاومة والثبات،

__________________

(١) ينابيع المودّة، القندوزي ٣: ١٦٣ / الباب الحادي والستون.

(٢) اللهوف: ٦٨.

(٣) اللهوف: ٥٠.

٦٣

وحتّى الكلمات الأخيرة التي تلفّظ بها سيد الشهداء حين سقط على الأرض إنّما تعكس هذه الروح من الصبر والصمود، إذ قال مخاطبا ربّه: « صبرا على قضائك، ولا معبود سواك، يا غياث المستغيثين »(١) .

٦ - الوفاء:

الوفاء معناه التمسك بالعهد والثبات على الميثاق والعمل بالواجب الانساني والاسلامي في ازاء شخص آخر جدير بذلك. وهذه الخصلة من أولويات معجم عاشوراء، ولها في قاموس الشهداء مكانة رفيعة، وهي من أشرف الخصال ودليل على المروءة. قال عليعليه‌السلام : «أشرف الخلائق الوفاء »(٢) .

وكانت عاشوراء ساحة وفاء من جهة، وغدر من جهة اُخرى، وضرب العباس بن عليعليه‌السلام مثلاً في الوفاء، فقد رفض كتاب الأمان الذي عرضه شمر بن ذي الجوشن عليه. ولم يترك أخاه الحسين وحيدا، وقدم أخوته الثلاثة فداءً له.

وعلى الضدّ من موقف أهل الكوفة الذين كتبوا الى الحسينعليه‌السلام يدعونه، ولما جاءهم غدروا به، وهبّوا لقتاله، وقف آخرون على العهد وضحّوا بأنفسهم فداءً للحسينعليه‌السلام ، وهم الذين أشارت اليهم الزيارة: «السلام على الأرواح التي حلّت بفِنائك »(٣) .

__________________

(١) ينابيع المودّة / القندوزي ٢: / ١٧٤ الباب الحادي والستون.

(٢) غرر الحكم: ٢٨٥٩، عيون الحكم والمواعظ / الليثي الواسطي: ١١٧.

(٣) كامل الزيارات / ابن قولويه: ٣٧٦، مؤسّسة النشر الإسلامي ط١ - ١٤١٧ ه.

٦٤

وأشار الحسينعليه‌السلام في خطبه وكلماته على طول الطريق الى غدر وخذلان وغرور ونكث أهل الكوفة، ونقضهم العهد، وخلعهم البيعة، وعاب فيهم هذه الصفات. أما الحسينعليه‌السلام فقد وفى بعهده مع ربّه، وكثيرا ما تطالعنا الزيارات بعبارات، من قبيل: «أشهد أنك بلغت ونصحت ووفيت وأوفيت »(١) . وجاء في زيارة العباسعليه‌السلام : «وأُشهد اللّه أنّك مضيت على ما مضى عليه البدريون والمجاهدون في سبيل اللّه فجزاك اللّه أفضل الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر الجزاء، وأوفى جزاء ممن وفى ببيعته، واستجاب له دعوته، وأطاع ولاة أمره »(٢) .

صفوة القول وصفت ثورة الحسينعليه‌السلام بأنها قامت على أساس الأخلاق والمروءة. وكانت جهادا للقضاء على الرذيلة ونشر الفضيلة. وكانت تنتهج الأسلوب الشريف عند مواجهة الخصم، وتحلّى أفرادها بالغيرة والشجاعة والتضحية، والصبر عند الشدائد، والثبات على طريق الحق.

__________________

(١) الكافي / الكليني ٤: ٥٧٦، دار الكتب الإسلامية ط٣ - ١٣٦٧ ه.

(٢) كامل الزيارات / ابن قولويه: ٤٤١.

٦٥

رابعا: البعد السياسي

هناك من يدرس القضية الحسينية مجرّدة عن إطارها التاريخي، فيصدر أحكاما مسبقة عنها، والبعض من هؤلاء يتصوّر أن الحسينعليه‌السلام قام بخروجه على يزيد بمغامرة غير محسوبة النتائج، وأن نهضته عبارة عن عمل انتحاري، ومن هؤلاء محمد الغزالي الذي ندد بنهضة الحسينعليه‌السلام ووصفها بأنها « مجازفة لا أثر فيها لحسن السياسة، وقد كان المتعين على الحسين - حسب ما يراه الغزالي - أن يبايع ليزيد، ويخضع لقيادة هذا الخليع الماجن الذي لا يملك أية كفاءة لقيادة الأمة »(١) .

وأحمد الشبلي، هو الآخر وقع أسر ضيق النَّظرة، فقال: « نجيء إلى الحسين لنقر - مع الأسف - أن تصرفاته كانت في بعض نواحي هذه المشكلة غير مقبولة؛ هو أولاً لم يقبل نصح الناصحين وخاصة عبد اللّه بن عباس، واستبد رأيه، وثانيا نسي أو تجاهل خلق أهل الكوفة وما فعلوه مع أبيه وأخيه، وهو ثالثا يخرج بنسائه وأطفاله كأنه ذاهب إلى نزهة خلوية أو زيارة قريب ويعرف في الطريق غدر أهل الكوفة، ومع هذا

__________________

(١) انظر: حياة الامام الحسينعليه‌السلام / باقر شريف القرشي ٣: ٣٩، انتشارات مدرسة الإيرواني، عن من معالم الحق / الغزالي: ١٣١. ط ٤ - ١٤١٣هـ.

٦٦

يواصل السير اليهم وينقاد لرأي بني عقيل، ويذهب بجماعة من الأطفال والنساء وقليل من الرجال ليأخذ بثأر مسلم، ياللّه قد تكون ولاية العهد ليزيد عملاً خاطئا، ولكن هل هذا هو الطريق لمحاربة الخطأ والعودة إلى الصواب »(١) .

وفات هؤلاء الذين لم يخرجوا بوعيهم من قفص النص، أن هذه النهضة يقودها إمام معصوم، وهي مدروسة ومخطط لها وليس على نحو عَرَضي. صحيح أن الواقع الذي واجهه الحسينعليه‌السلام صعب ومعقد، ولكن الصحيح أيضا أن قوى التغيير لا تعترف بالأمر الواقع. والحسينعليه‌السلام كان مصمما على التغيير مهما واجه من مخاطر، قال منذ البداية للناس وبدون أي لبس: «أيها الناس، إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلاًّ لحرم اللّه ناكثا لعهد اللّه مخالفا لسنة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقا على اللّه أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرَّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، أحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غيّر .. »(٢) .

انطلاقا من هذه المعطيات علينا أن ندرك بأن ثورة الحسينعليه‌السلام كانت أعظم وأقوى في دوافعها وأسبابها من أن يؤثّر في اندفاعها غدر الناس، أو أن يقف في طريقها خيانة الأعوان وانقلاب الأنصار. لقد صمّم الحسينعليه‌السلام

__________________

(١) حياة الامام الحسينعليه‌السلام / باقر شريف القرشي ٣: ٤٠.

(٢) تاريخ الطبري ٦: ٢١٥، حوادث سنة إحدى وستّين.

٦٧

من البداية على أن يمضي في نهضته وإن بقي وحده؛ لأنه إن كان يوجد في عهد معاوية مايتطلّب السكوت عليه أو المهادنة معه، فان عهد يزيد لم يكن يوجد فيه شيء من هذا مطلقا. فقد بلغ السيل الزبا، ولم يبق أمام الحسينعليه‌السلام مع يزيد إلاّ طريق الصراع المسلّح حتى النصر أو الاستشهاد.

ويكشف لنا عن هذا التصميم قولهعليه‌السلام لما تقدّم عمر بن سعد فرمى نحو عسكر الحسينعليه‌السلام بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير أني أوّل من رمى، وأقبلت السهام من القوم كأنّها المطر، فقالعليه‌السلام : لأصحابه «قوموا رحمكم اللّه إلى الموت الذي لابدّ منه، فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم أما واللّه لا أُجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضّب بدمي »(١) .

ويدلنا على حتمية الصراع والكفاح ضد حكم يزيد في أي حال كان عليه، قولهعليه‌السلام أيضا في مجلس والي المدينة الذي طلب منه المسالمة مع يزيد وإعطائه البيعة والاعتراف له بالخلافة فقالعليه‌السلام : «يزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله »(٢) .

وهناك من وقع في أسر ضيق النَّظرة أيضا، وتصور بأن حركة الحسينعليه‌السلام كانت حركة قبليّة عشائرية تُعبّر عن الصراع المحتدم بين قبيلتين قرشيتين، كانتا تتصارعان على السلطة والهيمنة قبل الإسلام،

__________________

(١) اللهوف: ٦٠ - ٦١.

(٢) اللهوف: ١٧.

٦٨

واستمرّ هذا الصراع بينهما إلى ما بعد الإسلام، ذلك هو الصراع بين بني هاشم وبني أميّة. هذا التفسير تبنّاه أعداء الحسينعليه‌السلام ، ولعلهم انطلقوا في هذا التفسير من العداء التاريخي المستحكم بين القبيلتين، ذلك العداء الذي عبّرت عنه جويرية بنت أبي جهل التي كشفت عن الوضع النفسي لبطون قريش، فعندما صعد بلال على ظهر الكعبة وأذَّن وسمعت الأذان، قالت بعفوية: قد لعمري رفع لك ذكرك، أما الصلاة فسنصلّي، لكن واللّه لا نحب من قتل « الأحبة أبدا »(١) .

لقد عاش البطن الأموي رهينا لسلسلة من العقد؛ لماذا يكون النبي من بني هاشم؟ كيف يثأرون من الهاشميين وبالذات آل محمد وأهل بيته لقتلاهم في بدر؟ وقد نبّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الأمة إلى حقيقة المشاعر الأموية، فقال: «إن أهل بيتي سيلقون من بعد أمتي قتلاً وتشريدا، وإن أشد قومنا لنا بُغضا بنو أمية، وبنو المغيرة، وبنو مخزوم »(٢) .

ويبدو أن أصحاب هذا التفسير انطلقوا كذلك من دوافع يزيد بن معاوية التي عبّر عنها أكثر من مرّة، حيث قال(٣) عندما سمع عويل سبايا الحسينعليه‌السلام :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخَزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لاتُشَل

__________________

(١) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١٧: ٢٨٣، دار إحياء الكتب العربية.

(٢) كنز العمال ١١: ١٦٩ / ٣١٠٧٤، مؤسّسة الرسالة، بيروت.

(٣) اللهوف: ١٠٥.

٦٩

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

كان حاقدا على النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أهل بيته خاصة وعلى الهاشميين عامة بعد أن أدرك طبيعة الصراع الدامي الذي جرى بين رسول اللّه وآله والهاشميين من جهة، وبين أبيه وجده وآل أبي سفيان والبيت الأموي من جهة أخرى، وبعد أن أدرك أن علياعليه‌السلام وحمزة والهاشميين قتلوا أعمامه وأجداده وأقاربه، يقول العلاّمة المجلسي: « ووجدت بخطّ بعض الأفاضل نقلاً من خطّ الشهيدقدس‌سره ، قال: لما جيء برؤوس الشهداء والسبايا من آل محمدعليهم‌السلام أنشد يزيد لعنه اللّه:

لما بدت تلك الرؤوس وأشرقت

تلك الشموس على ربى جيرون

صاح الغراب فقلت قل أو لا تَقُلْ

فقد قضيت من النبي ديوني »(١)

وتبنّى هذا التفسير مجموعة من المستشرقين حاولوا أن يفسروا القضية على أساس الصراع بين قبيلتين، بل وحاولوا أن يفسروا الصراع الذي احتدم بين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أبي سفيان على أنه امتداد لذلك الصراع القبلي والعشائري.

وأقل ما يمكن أن يقال عن تلك التفسيرات بأنها نتائج هزيلة وغير ناضجة، فمن يدرس ظاهرة أصحاب الحسينعليه‌السلام - على سبيل المثال - يلاحظ أن قضية الحسينعليه‌السلام لا يمكن أن تكون صراعا بين عشيرتين أو

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٥: ١٩٩.

٧٠

قبيلتين، لأن أصحاب الحسين سواءً كانوا من حيث الانتماء القبلي أو من حيث الانتماء القومي والشعوبي، أو من حيث الانتماء لمستوى الثقافة أو مستوى الوضع الاجتماعي، بل وحتى من حيث الانتماء المذهبي، يمثلون نماذج وعينات متعددة ومختلفة. حيث نلاحظ أنّ هناك اختلافا عظيما بين هؤلاء، ولا يمكن أن تجمع كل هؤلاء أو توحّدهم قضية الصراع القبلي. فإن قضية الصراع القبلي لا يمكن أن توحّد بين جون العبد الأسود مولى أبي ذر، وبين حبيب بن مظاهر الأسدي سيّد العشيرة العربي، كما أنّه لا يمكن أن توحّد بين أولئك الذين كانوا بالأمس أعداءً للحسين، كالحر بن يزيد الرياحي وزهير بن القين وغيرهما ممّن انضمّ إلى الحسينعليه‌السلام أثناء المعركة عندما سمعوا حديثه أو استغاثته، وبين من كان مواليا للحسين منذ اليوم الأول.

ثم ما هو الشيء الذي جعل زهير بن القين يتحوّل عن عثمانيته، وعن اعتقاده بخط العثمانية، الخط الذي أسّسه معاوية لتبرير موقفه المعارض لعليعليه‌السلام ؟ وكان زهير بن القين إلى حين لقاء الحسينعليه‌السلام يتبنّى هذا الخط العثماني. وكذلك موقف الحرّ بن يزيد الرياحي الذي كان إلى آخر لحظات المواجهة قائدا عسكريا كبيرا يقود جيش عمر بن سعد، ثم تحوّل إلى جانب الحسينعليه‌السلام ليستشهد معه، لأنّه كان يخيّر نفسه بين الجنة والنار، فاختار الجنّة في اللحظة الأخيرة.

وهناك تفسير آخر يسقط أصحابه تحت حوافر الفكر السياسي بمعناه البرغماتي (المصلحي) السائد، انطلاقا من مقولة: ان السياسة هي فن الممكن. فيذهب هؤلاء إلى أن هدف الحسينعليه‌السلام كان هو الوصول إلى

٧١

السلطة وإقامة الحكم الإلهي، إلاّ أن هذا الإنسان الذي سعى إلى هذا الهدف لم تؤاته الظروف ولم يتمكّن من تحقيق هذا الهدف، وكان فشله في تحقيق هذا الهدف بسبب خذلان أهل الكوفة له، ونتيجة لخذلان شيعته له وتردّدهم في اتخاذ الموقف المناسب معه.

ولكن يرد على هذا الرأي أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن هدفه الوصول إلى السلطة كغاية ليستخدمها من أجل الوصول إلى الرئاسة وتحصيل المكانة المرموقة له ولأسرته. صحيح أنّ الوصول إلى السلطة واستخدامها وسيلة لتطبيق مبادى ء الإسلام الحقَّة أمر محمود ويقرّه الشرع، بل ويحثّ عليه، ولكن الصحيح أيضا أنّ الحسينعليه‌السلام كان عالما ومدركا بأنّه لا يتمكّن من الوصول إلى دفّة الحكم بسبب وعيه لطبيعة الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية المحيطة به والضاغطة عليه التي تحول دون ذلك. فهو مع اتّصاله بالغيب - كما أسلفنا - إنسان واقعي يدرك بأنّ الشروط الواقعية أو العملية لم تتهيّأ بعد، وقد صرّح أكثر من مرّة لكلِّ من نصحه أو استشاره بأنّه مقتول لا محالة. ومع هذه القناعة الراسخة في نفسه لا يمكن القول بأنّ هدفه السياسي كان يتثمّل بالسعي لاستلام السلطة. لأنّ معنى ذلك أنّهعليه‌السلام كان يسعى نحو هدف غير واقعي مع تقديره للوضع السياسي ويكون تحرّكه في مثل هذه الحالة أقرب إلى عملٍ انتحاري.

ومما يعزز هذا الرأي ما ذهب إليه الشيخ محمد مهدي شمس الدّين من أن الحسينعليه‌السلام « كان يعلم بأن ثورته انتحارية لا تقوده إلى نصر سياسي آني، وإنما تنبِّه الأمة إلى الخطر، وتضعها في مواجهته، وتفجِّر فيها طاقة الثورة وروح الرَّفض، وتحمل الحكم على أن يحافظ على الحد الأدنى من

٧٢

رعاية مبادى ء الإسلام في سياساته »(١) .

إذن فأصحاب هذا التفسير لم تتسع آفاق تفكيرهم، فتصوّروا القضية وكأنها نزاع وصراع على السلطة، ولكن لا من أجل الهيمنة والسيطرة فحسب، وإنما من أجل إحقاق الحق وإقامة العدل الإلهي، ولكن الحسين لم تؤاته الظروف رغم أن أهل الكوفة أرسلوا له آلاف الكتب ووعدوه بالنصرة والوقوف إلى جانبه، ولكنهم خذلوه في اللحظة الأخيرة.

وفات هؤلاء ضرورة وضع كل فكرة وكل نظرية في إطارها التاريخي الذي صدرت فيه؛ أي في الظرف الزمني. وهؤلاء لم يضعوا فكرتهم هذه لتنسجم مع الجو العام الذي كان يعيشه الحسينعليه‌السلام ، وعليه لا يمكن أن نفترض أن الحسينعليه‌السلام غير مدرك للحقيقة التي أدركها هؤلاء المستشارون، وهؤلاء المخلصون في نصحهم كابن عباس وأم سلمة وعبداللّه بن جعفر وغيرهم الذين أشاروا عليه بعدم الخروج، وأكدوا له النتائج التي وقعت، وذكروا له أنه لا يمكن في مثل هذه الظروف السياسية أن يحقق الانتصار ويصل إلى الحكم.

ولم يكن الحسينعليه‌السلام يستهدف الوصول إلى الحكم، كان يعرف أنّه لايصل إلى الحكم، إلاّ أنّه كان يريد أن يحرّك الناس ويهزّ ضمائرهم ويوقظ وجدانهم فيتحركوا. كان عليه أن يقدم دمه الغالي رخيصا في سبيل هذا الهدف، وكان عليه أن يُقتل ويُذبح عطشانا وبهذه الطريقة المأساوية التي

__________________

(١) ثورة الحسينعليه‌السلام في الوجدان الشعبي / محمد مهدي شمس الدّين: ٣٩، الدار الإسلامية، بيروت، ط ١ - ١٤٠٠ه.

٧٣

شملت الشيوخ والغلمان والنساء والأطفال، حتى تتحرك هذه الضمائر والقلوب وتهتزّ المشاعر والعواطف.

إذن لم « تكن دوافعه عشائرية أو عاطفية نابعة من بغضاء الهاشميين للأمويين، ولا مصلحية ( براغماتية ) نابعة من الصراع على الحكم بما هو تسلُّط دنيوي. فإن التاريخ الثابت لأئمة أهل البيتعليهم‌السلام ينفي عنهم هذا الزعم، ويثبت أن حياتهم كانت سلسلة من التضحيات في سبيل الصالح العام، وأنهم إنما غُلبوا أمام خصومهم الأمويين في معارك السياسة لأنهم كانوا يتبعون في تعاملهم مع الأمة ومع خصومهم ومع أنصارهم مبادى ء ومقاييس أخلاقية ومبدئية تنبع من شعورهم بمسؤوليتهم الإسلامية في الدرجة الأولى.

ويكفي هنا أن نذكر إضافة إلى التاريخ الثابت أن الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام الذي شهد بنفسه فاجعة كربلاء، وعاشها ساعة بعد ساعة بكل آلامها وأحزانها، كان يدعو لأهل الثغور، وما ذلك الدعاء من الإمام زين العابدين إلاّ وعيا منه لدور جيوش الثغور في حفظ المجتمع الإسلامي من أعدائه، وإن كان هذا الجيش يحمي أيضا نظام الأمويين »(١) .

إذن فهي - أي الثورة - لم تكن حركة قبلية أو إقليمية أو مذهبية، ومن هنا فلا يجوز اعتبارها تراثا مذهبيا للشيعة، لأن صبغتها المذهبية جاءت نتيجة لعوامل تاريخية ليس هنا مجال بحثها.

هي ثورة دفعت إلى القيام بها مبادى ء الإسلام وأحكامه لغاية تنبيه

__________________

(١) انظر: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي: ٣٩.

٧٤

الأمة على واقعها السيء، وحملها على تحسينه عن طريق إثبات شخصيتها الإسلامية في وجه الحاكم المنحرف، وذلك بتصحيح نهج الحاكم.

وفي مقابل أولئك الذين وقعوا أسر ضيق النظرة والتحيُّز غير المشروع، أو الذين لم يسلكوا سبيل الانصاف فنظروا بمنظار الحقد الأسود، أو الذين نظروا بمنظار سياسي نفعي ( براغماتي )، نجد هناك نظرة منصفة تنظر للقضية من زاوية أخرى، فقد أدرك البعض الآخر بثاقب بصرهم أن القضية أبعد من ذلك بكثير، نظروا إليها على أنها كانت من أجل تثبيت الموقف الشرعي والحكم الإسلامي تجاه ظاهرة الطغيان اليزيدي، والحكم الكسروي الجديد الذي كان يجسده هذا الحاكم المستهتر بالقيم والشعائر الإسلامية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى المحافظة على وجود الرسالة الإسلامية واستمرارها من خلال تثبيت هذا الموقف وما يمكن أن يحدث عنه من تفاعلات في الأمة. ومن ناحية ثالثة إيقاظ ضمير الأمة وهزّ مشاعرها وأحاسيسها وتحريك وجدانها، من أجل العمل على مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة - ظاهرة سيطرة الحكام المنحرفين - في حياتها.

فالدوافع الحقيقية لثورة الحسينعليه‌السلام - إذن - كانت تتمثّل بهدف ثلاثي الأبعاد؛ يركّز البعد الأوّل منه على تحديد الموقف الشرعي من أُناس تسلّقوا إلى قمّة الهرم السلطوي الإسلامي بدون أهلية أو كفاءة ولم يتّصفوا بالشرعية، وبعُد آخر مستقبلي يتمثّل بحركة الإسلام المستقبلية التي يراد لها أن ترتكز على قواعد الحقّ والعدم، أمّا البُعد الثالث فيتعّلق بالأمّة ومسارها الحقيقي وأوضاعها المختلفة التي تدهورت بفعل سيطرة وسطوة

٧٥

حكام الجور والطغيان.

وفي هذا الصدد يقول الاستاذ خالد محمد خالد: « إن القضية التي خرج البطل حاملاً لواءها لم تكن قضية شخصية تتعلق بحق في الخلافة أو ترجع إلى عداوة شخصية يضمرها ليزيد، كما أنّها لم تكن قضية طموح يستحوذ على صاحبه، ويدفعه إلى المغامرة التي يستوي فيها احتمال الربح والخسران. كانت القضية أجلّ وأسمى وأعظم. كانت قضية الإسلام ومصيره والمسلمين ومصيرهم، واذا صمت المسلمون جميعهم تجاه هذا الباطل الذي أنكره البعض بلسانه، وأنكره الجميع بقلوبهم، فمعنى ذلك أن الإسلام قد كفّ عن إنجاب الرجال. معناه أن المسلمين قد فقدوا أهلية الانتماء لهذا الدين العظيم. ومعناه أيضا أن مصير الإسلام والمسلمين معا قد أمسى معلقا بالقوة الباطشة؛ فمن غلب ركب، ولم يعد للقرآن ولا للحقيقة سلطان ..تلك هي القضية في روع الحسين، وبهذا المنطق أصر على الخروج »(١) .

موقف الحسينعليه‌السلام من صلح الحسنعليه‌السلام

وهناك سؤال تردد ويتردد على الألسن على امتداد الزمن، وهو سبب سكوت الحسينعليه‌السلام عن معاوية بن أبي سفيان، مع كونه وابنه يزيد وجهين لعملة واحدة.

وكمحاولة للإجابة على ذلك لابدَّ من إلقاء نظرة تاريخية مجملة، لكي

__________________

(١) حياة الحسين / القرشي ٣: ٣٤، عن كتاب: أبناء الرسول في كربلاء / خالد محمد خالد: ١٢٣ - ١٢٤.

٧٦

تنضبط عدسة الرؤية لدينا على منظور سليم، وسوف نجد أنه « لما مضى الإمام الحسن بن عليعليه‌السلام شهيدا نتيجة غدر خصمه معاوية، قضى الإمام الحسينعليه‌السلام فترة طويلة في عهد معاوية لم يحرّك ساكنا ولم يدع إلى الثورة، التزاما منه بشروط صلح الحسنعليه‌السلام وتقيّده به حتى بعد وفاة أخيه وطيلة حياة معاوية بعد رحيل الحسنعليه‌السلام رغم إلحاح الشيعة عليه بالثورة على معاوية لأنه نقض من جانبه كل شروط الصلح ولم يف بشرط واحد منها.

لقد عانى المسلم الشيعي منذ عهد معاوية بن أبي سفيان ألوانا شتَّى من الاضطهاد والملاحقة والترويع؛ كان مطاردا من قبل السلطة، فقلما شعر بالأمن، وكانت هذه السلطة تحاربه في مصادر عيشه إذا لم تقض عليه ولم تصادر حرّيته، وكان في أحسن الحالات مواطنا من الدرجة الثانية، كل هذا بسبب بعض مواقفه العقيدية، وبسبب اتجاهه الفقهي، حيث إنه تبع أئمة أهل البيت، فكانوا مرجعه في فقه الشريعة الإسلامية »(١) .

مع كل ذلك كان الحسينعليه‌السلام يرفض طلبهم بشدة ويذكر: « أنّ بينه وبين معاوية عهدا وعقدا لا يجوزُ له نقضه حتى تمضي المدّةُ، فإن مات معاوية نظر في ذلك »(٢) . حرصا منه على وحدة المسلمين، مع أنه كان قادرا على أن يُثير جمهورا كبيرا من المسلمين ضد حكم معاوية البغيض، لا سيما وأنه تفنّن في التنكيل بشيعته.

على أن الحسينعليه‌السلام لم يكن ملجوم اللّسان، مختوم الشفتين، فالشواهد

__________________

(١) انظر: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي: ٤٤.

(٢) الإرشاد ٢: ٣٢.

٧٧

التاريخية تدلّ على أنه لم يكفّ عن نقد سياسات معاوية وتجاوزاته.

وقد بلغت أنباء تردد الشيعة على الحسينعليه‌السلام واستنهاضهم له وإلحاحهم عليه للقيام بالثورة على معاوية إلى دمشق، فأقلقت معاوية وأفزعته، وخشي من أن يستجيب الحسينعليه‌السلام لطلبهم ويلبي نداءهم، فكتب إليه كتابا يحذره غدر أهل العراق، ويذكره بالعهد والميثاق الذي سبق منه، وكتب فيه: «أمّا بعد، فقد انتهت إليَّ منك أمور، لم أكن أظنّك بها، رغبة عنها، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك اللّه بها، فلا تنازع إلى قطيعتك، واتّق اللّه، ولا تردنّ هذه الأمّة في فتنة، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمد، ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون »(١) .

وجاء في تاريخ دمشق أنّ الحسينعليه‌السلام كتب إليه: «أتاني كتابك، وأنا بغير الذي بلغك عنّي جدير، والحسنات لا يهدي لها إلاّ اللّه، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافا، وما أظنّ لي عنداللّه عذرا في ترك جهادك، ولا أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمّة »(٢) .

وفي رواية الطبرسي أنّه أجابه: «أما بعد: فقد بلغني كتابك وقلت فيما تقول انظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّق شقّ عصا هذه

__________________

(١) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١: ١٧٩، منشورات الشريف الرضي، قم، ١٣٨٨ ه.

(٢) تاريخ ابن عساكر ١٤: ٢٠٦، طبعة دار الفكر - ١٤١٥ هـ.

٧٨

الأمّة، وإن تردهم في فتنة، فلا أعرف فتنة أعظم من ولايتك عليها، ولا أعلم نظرا لنفسي وولدي وأمّة جدي أفضل من جهادك، فإن فعلته فهو قربة إلى اللّه عزّ وجل، وإن تركته فأستغفر اللّه لذنبي، وأسأله توفيقي لإرشاد أموري، وقلت فيما تقول إن أنكرك تنكرني وإن أكدك تكدني، وهل رأيك إلاّ كيد الصالحين، منذ خلقت؟! فكدني ما بدا لك إن شئت، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك، على أنّك تكيد فتوقظ عدوّك، وتوبق نفسك، كفعلك بهؤلاء الذين قتلتهم ومثّلت بهم بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا »(١) .

هذه بعض الفقرات من كتاب الحسينعليه‌السلام إلى معاوية، وهو بمثابة وثيقة تاريخية خالدة تكشف عن حقيقة معاوية وطبيعة حكمه الفاسد الجائر. كما تُثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - أن الحسينعليه‌السلام كسر قاعدة الصمت التي فرضها معاوية على المسلمين، بعد أن انتقلت الأمور إلى مستوى خطير لم يعد ممكنا السكوت عليه.

مؤتمر سياسي عام

ومن مصاديق عدم سكوت الإمام على انحرافات معاوية، أنهعليه‌السلام عقد في مكة مؤتمرا سياسيا عاما دعا فيه جمهورا غفيرا ممن شهد موسم الحج من المهاجرين والانصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين، فانبرىعليه‌السلام

__________________

(١) الاحتجاج ٢: ٢٠ - ٢١.

٧٩

خطيبا فيهم، وتحدث ببليغ بيانه بما ألمّ بعترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وشيعتهم من المحن والخطوب التي صبها عليهم معاوية، وما اتخذه من الاجراءات المشددة من إخفاء فضائلهم، وستر ما أُثر عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقهم، وألزم حضار مؤتمره بإذاعة ذلك على المسلمين.

وفيما يلي نص حديثه فيما رواه سليم بن قيس، قال: « ولما كان قبل موت معاوية بسنتين حج الحسين بن عليعليهما‌السلام ، وعبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن جعفر، فجمع الحسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم، ومن حج من الأنصار ممن يعرفهم الحسين وأهل بيته، ثم أرسل رسلاً، وقال لهم:لا تدعوا أحدا حج العام من أصحاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله المعروفين بالصلاح والنسك الا اجمعوهم لي ، فاجتمع إليه بمنى أكثر من ألف رجل وهم في سرادق، عامتهم من التابعين، فقام فيهم خطيبا فحمد اللّه واثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فان هذا الطاغية - يعني معاوية -قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتهم ورأيتم وشهدتم وبلغكم، وإني أُريد أن أسألكم عن أشياء فان صدقت فصدقوني، وإن كذبت فكذبوني، اسمعوا مقالتي، واكتموا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم، من أمنتموه ووثقتم به من الناس، فادعوهم الى ماتعلمون، فإني أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون »(١) .

وكان هذا المؤتمر أول مؤتمر اسلامي عرفه المسلمون في ذلك الوقت، وقد شجب فيه الإمام سياسة معاوية، ودعا المسلمين لاشاعة فضائل أهل

__________________

(١) الاحتجاج ٢: ١٨ - ١٩، دار النعمان.

٨٠