تسلية المجالس وزينة المجالس الجزء ١

تسلية المجالس وزينة المجالس0%

تسلية المجالس وزينة المجالس مؤلف:
المحقق: فارس حسون كريم
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 592

تسلية المجالس وزينة المجالس

مؤلف: السيد الأديب محمد بن أبي طالب الحسيني الموسوي الحائري الكركي
المحقق: فارس حسون كريم
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 301562
تحميل: 6170


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 301562 / تحميل: 6170
الحجم الحجم الحجم
تسلية المجالس وزينة المجالس

تسلية المجالس وزينة المجالس الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية


وخرجوا مع موسى وهم ستّمائة وألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلاً،( وَرَفَعَ أَبَوَيهِ عَلَى العَرشِ ) على سرير ملكه إعظاماً لهما.

ثمّ دخل منزله واكتحل وادّهن، ولبس ثياب العزّ والملك، فلمّا رأوه سجدوا له جميعاً إعظاماً له، وشكراً لله، ولم يكن يوسف في تلك المدّة يدّهن، ولا يكتحل، ولا يتطيّب، حتى جمع الله بينه وبين أبيه وإخوته.

فلمّا رأوه( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) وكانت تحيّة الناس - في ذلك الزمان - بعضهم لبعضٍ يومئذ السجود، والانحناء، والتكفير، ولم يكونوا نهوا عن السجود لغير الله في شريعتهم، وأعطى الله تعالى هذه الاُمّة السلام، وهو تحيّة أهل الجنّة.

( وَقَالَ ) يوسف:( يَا أَبَتِ هذَا تَأوِيلُ رُؤيَايَ مِنْ قَبلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ) (١) في اليقظة.

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: كان بين الرؤية وتأويلها أربعون سنة.

وولد ليوسف من امرأة العزيز زليخا: أفراثيم(٢) ، وميشا، ورحمة امرأة أيّوب، وكان بين يوسف وموسىعليهما‌السلام أربعمائة سنة.

وفي كتاب النبوّة بالاسناد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قال يعقوب ليوسف: حدّثني كيف صنع بك إخوتك؟

قال: يا أبه دعني.

قال: أقسمت عليك إلا ما أخبرتني.

____________

١ - سورة يوسف: ١٠٠.

٢ - في المجمع: أفرايم.


١٢١


فقال: أخذوني وأقعدوني على رأس الجبّ، ثمّ قالوا: انزع قميصك، فقلت لهم: إنّي أسألكم بوجه يعقوب إلا تنزعوا قميصي عنّي، ولا تبدوا عورتي، فرفع فلان السكّين عليّ، فصاح يعقوب وخرّ مغشيّاً عليه، ثم أفاق، فقال: يا بنيّ، كيف صنعوا بك؟

فقال يوسف: إنّي أسألك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلا أعفيتني، قال: فتركه.

وروي أنّ يوسف قال ليعقوبعليهما‌السلام : يا أبة، لا تسألني عن صنع إخوتي، واسأل عن صنع الله بي.

قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنّ يعقوب عاش مائة وسبعاً(١) وأربعين سنة، ودخل على يوسف في مصر وهو ابن مائة سنة وثلاثين سنة، وكان عند يوسف في مصر سبع عشرة سنة، ثمّ توفّي صلوات الله عليه فنقل إلى الشام في تابوت من ساج، ووافق ذلك اليوم يوم مات عيصو، وكان يعقوب وعيصو ولدا في بطن واحد ودفنا في قبر واحد.

وكان يوسفعليه‌السلام قد مضى مع تابوت أبيه إلى بيت المقدس، ولمّا دفنه رجع إلى مصر، وكان دفنه في بيت المقدس عن وصيّة منه إليه أن يدفن عند قبور آبائهعليهم‌السلام ، وعاشعليه‌السلام بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة، ثمّ مات، وكان أوّل رسول في بني إسرائيل، وأوصى أن يدفن عند قبور آبائهعليهم‌السلام .(٢)

وعن أبي خالد، عن ابي عبد اللهعليه‌السلام قال: دخل يوسف السجن

__________________

١ - كذافي المجمع - وهو الصحيح -، وفي الأصل: سنة.

٢ - مجمع اليان: ٣ / ٢٦٤ - ٢٦٦.


١٢٢


وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ومكث فيه ثمانية عشرة سنة، وبقي بعد خروجه ثمانين سنة، فذلك مائة سنة وعشر سنين.

قالوأ: ولمّا جمع الله سبحانه شمله، وأقرّ عينه، وأتمّ له رؤياه، ووسّع عليه في ملك الدنيا علم أنّ ذلك لا يبقى ولا يدوم، فطلب من الله سبحانه نعيماً لا يفنى، وتاقت نفسه إلى الجنّة، فتمنّى الموت ودعا به، ولم يتمنّ ذلك نبيّ قبله ولا بعده، فقال:( رَبِّ قَد ءَاتَيتَنِي مِنَ المُلكِ وَعَلَّمتَنِي مِن تَأوِيلِ الأَحادِيثِ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالأَرضِ أنتَ وَلِيّي فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسلِماً وَأَلحِقنِي بِالصَّالحِينَ ) (١) فتوفّاه الله تعالى بمصر وهو نبيّ، ودفن في النيل في صندوق من رخام، وذلك أنّه لمّا مات تشاحّ الناس عليه، كلّ يحبّ أن يدفن في محلّته، لما كانوا يرجون من بركاته، فرأوا أن يدفنوه في النيل فيمرّ الماء عليه، ثمّ يصل(٢) إلى جميع مصر، فيكون كلّهم شركاء في بركته شرعاً، فكان قبره في النيل إلى أن حمله موسىعليه‌السلام لمّا خرج من مصر، ودفنه عند آبائه الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.(٣)

وإنّما أوردت هذه القصّة بتمامها ليكون ذلك تسلية للمؤمن التقيّ، وردّ على الجاحد الشقيّ، فإنّ الله سبحانه يبتلي عباده الصالحين بأعدائه الطالحين، ليكون الجزاء على قدر البلاء، والثواب على قدر المشقّة، لأنّه سبحانه هو المدبّر الحكيم العليم بمصالح عباده في معاشهم ومعادهم، فتارة يكون البلاء في النفس والولد - كما مرّ في قصّة يعقوب ويوسف -، وتارة يكون في ضنك العيش والفقر كما ذكر سيّدنا أمير المؤمنين عليه

__________________

١ - سورة يوسف: ١٠١.

٢ - كذا في المجمع، وفي الأصل: رحل.

٣ - مجمع اليان: ٣ / ٢٦٦، عرائس المجالس: ١٤٢.


١٢٣


السلام عن موسىعليه‌السلام في قوله:( رَبِّ إنِّي لِمَا أنزَلتَ إلَيَّ مِن خَيرٍ فَقِيرٌ ) (١) قال: والله ما سأله إلا خبزاً يأكله، لأنّه(٢) كان يأكل بقلةَ الأرض، ولقد كانت خضرة البقلِ نُرى من شفيف صِفاق بطنه(٣) ، لهزاله، وتشذّب لحمه(٤) .(٥)

و لقد دخل هو وأخوه هارونعليهما‌السلام على فرعون، وعليهما مدارعُ الصوف، وبأيديهما العصيّ، فشرطا له - إن أسلم - بقاء ملكه، ودوامَ عزّه.

فقال: ألا تعجبون من هذين يشترطان لي دوامَ العزّ، وبقاء الملك، وهما على ما ترونَ من حال الفقر والذلّ، فهلّا اُلقيَ عليهما أساورة من ذهب؟ إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولُبسه! ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث [ بعثهم ](٦) أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العِقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طير السماء ووحوش الأرضين لفعل، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء.(٧) كما ذكرنا أوّلاً.(٨)

كما حكي عن بعضهم أنّه كان إذا أقبلت عليه الدينا يقول: هذا ذنب

____________

١ - سورة القصص: ٢٤.

٢ - كذا في النهج والمجمع، وفي الأصل: ولقد.

٣ - كذا في النهج والمجمع، وفي الأصل: من صفاق سفاف بطنه.

وشفيف: رقيق، يستشفّ ما وراءه.

والصفاق: الجلد الباطن الّذي فوقه الجلد الظاهر من البطن.

٤ - أي تفرّقه.

٥ - نهج البلاغة: ٢٢٦ خطبة رقم ١٦٠، مجمع البيان: ٤ / ٢٤٨.

٦ - من النهج.

٧ - نهج البلاغة: ٢٩١ خطبة رقم ١٩٢ « الخطبة القاصعة ».

٨ - في ص ٤٠، وذكرنا تخريجات اُخرى.


١٢٤


عجّلت عقوبته، وإذا افتقر أو أصابته خصاصة قال: مرحباً بشعار الصالحين(١) .(٢)

فكذلك الأنبياء والأولياء يسرّهم ما ينزل بهم من البلاء، ويفرحون بما امتحنوا به من الابتلاء، راحة أرواحهم فيما فيه رضى خالقهم، ولذّة أنفسهم فيما يمتحنهم الله به في أموالهم وأجسادهم، وما يختاره من فيض ثمرات قلوبهم وأحفادهم، فلا يغرّنّكم الشيطان بغروره، ولا يفتننّكم مروره فيلقي في روعكم، ويوسوس في صدوركم.

إنّ ما أصاب من كان قبلكم من الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، في الدار الفانية والحياة البالية، من جهد البلاء وشدّة اللأواء، والامتحان بجهاد الأعداء، هواناً بهم على خالقهم، وهظماً لهم لدى بارئهم، بل أنزل بهم البأساء والضرّاء، ووجّه إليهم محن دار الفناء، من سقم الأجساد، وتحمّل الأذى من أهل الجحود والعناد، فتحمّلوا المشاقّ في ذاته من أداء الفرائض والنوافل، وصبروا على جهاد أعدائه من أهل الزيغ والباطل، يسوقون العباد بسوط وعظهم إلى غفران ربّهم، ويجذبون النفوس بصوت لفظهم إلى منازل قربهم، لا توحشهم مخالفة من خالفهم، ولا يرهبهم عناد من عاندهم، بل يصدعون بالحقّ، ويقرعون بالصدق، ويوضحون الحجّة، ويهدون إلى المحجّة، لا يزيدهم قلّة الأنصار الا تصميماً في عزائمهم، ولا يكسبهم تظافر الأشرار إلا شدّة لشكائمهم، ليس في قلوبهم جليل إلا جلاله، ولا في أعينهم جميل إلّا

__________________

١ - أي علامتهم. « مجمع البحرين: ٣ / ٣٤٩ - شعر - ».

٢ - تفسر القمّي: ١ / ٢٠٠، عنه البحار: ١٣ / ٣٤٠ ح ١٦، وج ٦٧ / ١٩٩.

ورواه في الكافي: ٢ / ٢٦٣ ح ١٢، عنه البحار: ٧٢ / ١٥ ح ١٤.

وأورده في إرشاد القلوب: ١٥٦.


١٢٥


جماله، لما شربوا من شراب جنّته في حضيرة قدسه، أتحفهم بمقام قربه واُنسه، يختارون قطع أوصالهم على قطع اتّصالهم، وذهاب أنفسهم على بعد مؤنسهم.

أما ترى كيف أثنى الله على نبيّه أيّوب بقول:( إنَّا وَجَدنَاهُ صَابِراً نِعْمَ العَبدُ إنَّهُ أوّابٌ ) (١) ؟ انظر كيف شرّفه الله بإضافته إلى نفسه، وأثنى عليه بالصبر الجميل في محكم التنزيل، وكانعليه‌السلام في زمن يعقوب بن إسحاقعليه‌السلام ، وتزوّج ليا(٢) بنت يعقوب ؛ وقيل: رحمة بنت يوسف(٣) ، وولد له سبعة بنين وثلاث بنات.

و كان له من المال والمواشي مالا يحصى كثرة. قيل: كان له أربعمائة عبد ما بين زرّاع وحمّال وراع وغير ذلك، وكان في أخفض عيش وأنعم بال مدّة أربعين سنة، ولمّا زاد الله ابتلاءه وامتحانه لا ليعلم صبره وشدّة عزيمته، بل زيادة في درجته، ورفعة لمنزلته، أتاه جبرئيلعليه‌السلام فقال: يا أيّوب، أربعون سنة لك في خفض العيش والنعمة، فاستعدّ للبلاء، وارض بالقضاء، فإنّك ستتبدّل بالنعمة محنة، وبالغنى فقراً، وبالصحّة سقماً.

فأجابه أيّوب: ليس عليّ بأس من ذلك إذا رضى الله به.

عذّب بما شئت غير البعد عنك تجد

أوفى محبّ بما يرضيك مبتهجاً

فمضى على ذلك مدّة فصلّى صلاة الصبح، وأسند ظهر إلى المحراب وإذا بالضجّة قد علت، وإذا بقائل يقول: يا أيّوب، إنّ مواشيك كانت في الواد الفلاني فأتاه السيل واحتملها جميعاً، وألقاها في البحر، فبينما هو كذلك إذ أتته رعاة

____________

١ - سورة ص: ٤٤.

٢ - في قصص الأنبياء للراوندي: ١٤١ ح ١٥١: إليا.

٣ - وقيل: رحمة بنت أفراثيم بن يوسفعليه‌السلام . انظر تفسير البرهان: ٤ / ٥٣ وما بعدها ح ١١، ففيه قصّة أيّوبعليه‌السلام مفصّلة نقلاً عن تحفة الاخوان.


١٢٦


الإبل، فسألهم: ما الخبر؟

فقال قائلهم: هبّت علينا سموم عاصف لو هبّت على جبل لأذابته بحرّها، فأتت على أرواح الإبل جميعها، ولم تترك منها كبيراً ولا صغيراً إلا أهلكته.

فبينا هو يتعجّب من ذلك ويحمد الله ويشكره إذ أتت الأكَرَةُ قائلين: قد نزلت بنا صاعقة فلم تترك من الزرع والأشجار والثمار شيئاً إلا أحرقته، فلم يزده ذلك ولم يغيّره ولم يفتر لسانه عن ذكر الله وعن التسبيح والتقديس.

فبينما هو كذلك يحمد الله ويشكره إذ أتاه آت قد أتى باكياً حزيناً يلطم وجهه ويحثو التراب على رأسه، فسأله أيّوب: ما الخبر؟

فقال: إنّ ابنك الأكبر أضاف باقي إخوته فوضع لهم الطعام وبعضهم قد ابتدأ بالأكل، وبعضهم لم يبتدئ إذ خرّ السقف عليهم فماتوا جميعهم، فاستعبر أيّوب، ثم استشعر لباس الصبر، والتوكّل على الله، وتفويض الأمر إليه، وأخذ في السجود قائلاً: يا ربّ إذا كنت لي لا أُبالي، ثمّ بعد ذلك حلّ به من الأسقام والأمراض في بدنه ما لا يوصف كثرة، ولم يشتك إلى مخلوق، ولم يفوّض أمره إلى غير ربّه سبحانه، وأمّا قوله:( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أرحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (١) فإنّما كان لما روي أنّ الشيطان أتاه في صورة طبيب فقال: إن أردت أن أشفيك من علّتك فاسجد لي، فإنّي اُزيل عنك ما يؤلمك، وأشفيك من علّتك، فصاح أيّوب عند ذلك، واستغاث بالله قائلاً:( أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ، فولّى عنه إبليس، وقد يأس منه فأتى زوجته رحمة بنت يوسف ووسوس إليها.

روي أنّه أتاه في صورة طبيب، فدعته إلى مداواة أيّوبعليه‌السلام ،

__________________

١ - سورة الأنبياء: ٨٣.


١٢٧


فقال: اُداويه على أنّه إذا برئ قال: أنت شفيتني، لا اُريد جزاء سوى ذلك.

قال: فأشارت إلى أيّوب بذلك، فصاح واضطرب واستجار بالله وحلف ليضربنّها مائة ضربة.

وقيل: أوحى الله إلى أيّوب: يا أيّوب، إنّ سبعين نبيّاً من أنبيائي سألوني هذا البلاء فلا تجزع، فلمّا أتاه الله بالعافية في بدنه اشتاق إلى ما كان عليه من البلاء، فلذلك قال سبحانه:( إنَّا وَجَدنَاهُ صَابِراً نِعمَ العَبدُ إنَّهُ أوَّابٌ ) (١) .

ولمّا انقضت المحنة وقرب الفرج أتاه جبرئيل بأمر الله بعد أن دامت به الأسقام والأمراض سبع سنين، وقال: يا أيّوب،( اركُضْ بِرِجلِكَ ) أي ادفع الأرض برجلك( هذا مُغتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) (٢) ، فركض برجله فنبعث عينان، فاغتسل من أحدهما فبرئ، وشرب من الاُخرى.

وروي عن الصادقعليه‌السلام أنّ الله تعالى أحيا له أهله الذين ماتوا بأعيانهم قبل البليّة، وأحيا أهله الذين ماتوا وهو في البليّة.

قالوا: ولمّا ردّ الله عليه ولده وأهله وماله، وعافاه في بدنه أطعم أهل قريته سبعة أيّام، وأمرهم أن يحمدوا الله ويشكروه، ثمّ امره جبرئيل أن يأخذ ضغثاً وهو ملء الكفّ من الشماريخ وما أشبه ذلك، فيضربها ضربة واحدة براءة ليمينه لأنّه كان قد حلف ليضربنّها ماءة ضربة.(٣)

فانظر إلى شدّة إخلاصه، وعظيم اختصاصه، وحسن مراقبته لمعبوده، ومقابلته البلاء بالشكر في ركوعه وسجوده.

__________________

١ - سورة ص: ٤٤.

٢ - سورة ص: ٤٢.

٣ - مجمع البيان: ٤ / ٥٩ و ٤٧٨. عنه البحار: ١٢ / ٣٤٠.


١٢٨


وكذلك كان روح الله وكلمته المسيح بن مريم، كانعليه‌السلام كما وصفه أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين بقوله: كان يَلبَسُ الخشِن، ويأكل الجشب(١) ، وكان إدامه الجوع(٢) ، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، تولم يكن له ولد يحزنه، ولا زوجة تفتنه، دابّته(٣) رجلاه، وخادمه يداه.(٤)

و عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: والله ما تبع عيسى شيئاً من المساوئ قطّ، ولا انتهر يتيماً(٥) قطّ، ولا قهقه ضاحكاً قط، ولا ذبّ ذباباً عن وجهه، ولا أخذ على أنفه من شيء نتن قطّ(٦) ، ولا عبث قطّ.(٧)

وروي أنّهعليه‌السلام مرّ برهطٍ، فقال بعضهم لبعض: قد جاءكم الساحر ابن الساحرة، والفاعل ابن الفاعلة، فقذفوه باُمّه، فسمع ذلك عيسىعليه‌السلام ، فقال: اللهم أنت ربّي خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي، اللهم العن من سبّني، وسبّ اُمّي، فاستجاب الله له دعوته، فمسخهم خنازير.

____________

١ - كذا في النج، وفي الأصل: الحشيش - وهو تصحيف -.

طَعامٌ جَشِبٌ ومجشوبٌ: أي غليظ خَشِنٌ. وقيل: هو الذي لا اُدم له « لسان العرب: ١ / ٢٦٥ - جشب - ».

٢ - قال المجلسيرحمه‌الله : لعلّ المعنى أنّ الانسان إنّما يحتاج إلى الإدام لأنّه يعسر على النفس أكل الخبز خالياً عنه، فأمّا مع الجوع الشديد فيلتذّ بالخبز ولا يطلب غيره، فهو بمنزلة الإدام، أو أنّه كان يأكل الخبز دون الشبع، فكان الجوع مخلوطاً به كالإدام.

٣ - في النهج: وظلاله في الشتاء مشارق الارض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبتُ الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتِنُهُ، ولا ولد يحزنُهُ، ولا مال يلفِتُه، ولا طمَعٌ يذلّه، دابّته

٤ - نهج البلاغة: ٢٢٧ خطبة رقم ١٦٠، عنه البحارر: ١٤ / ٢٣٨ ح ١٦.

٥ - كذا في المجمع وفي الأصل: شيء.

٦ - كذا في المجمع، وفي الأصل: ولا أخذ على نفسه من بين شيء قطّ.

٧ - مجمع البيان: ٢ / ٢٦٦، عنه البحار: ١٤ / ٢٦٣. وانظر: عرائس المجالس: ٣٩٨.


١٢٩


ولمّا مسخهم الله سبحانه بدعائه بلغ ذلك يهوذا وهو رأس اليهود، فخاف أن يدعو عليه، فجمع اليهود، فاتّفقوا على قتله، فبعث الله سبحانه جبرئيل يمنعه منهم، ويعينه عليهم، وذلك معنى قوله:( وَأَيَّدنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ ) (١) فاجتمع اليهود حول عيسى، فجعلوا يسألونه فيقول لهم: يا معشر يهود، إنّ الله تعالى يبغضكم، فثاروا(٢) إليه ليقتلوه، فأدخله جبرئيل خوخة البيت الداخل، لها روزنة في سقفها، فرفعه جبرئيل إلى السماء، فبعث رأس اليهود رجلاً من أصحابه اسمه ططيانوس(٣) ، ليدخل عليه الخوخة فيقتله، فدخل فلم يره، فأبطأ عليهم، فظنّوا أنّه يقاتله في الخوخة، فألقى الله عليه شبه عيسى، فلمّا خرج على أصحابه قتلوه وصلبوه ؛ وقيل: ألقى الله عليه شبه وجه عيسى، ولم يلق عليه شبه جسده، فقال بعض القوم: إنّ الوجه وجه عيسى، والجسد جسد ططيانوس، فقال بعضهم: إن كان هذا ططيانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين ططيانوس؟ فاشتبه الأمر عليهم.(٤)

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ عيسى لم يمت، وانّه راجع إليكم قبل يوم القيامة.

وقد صحّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم(٥) وإمامكم منكم. رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.(٦)

__________________

١ - سورة البقرة: ٨٧ و ٢٥٣.

٢ - في المجمع: فساروا.

٣ - في المجمع: طيطانوس، وفي العرائس: فلطيانوس، وكذا في المواضع الآتية.

٤ - مجمع اليان: ٢ / ١٣٥ - ١٣٦، عرائس المجالس: ٤٠٠.

٥ - كذا في غالبية المصادر، وفي الأصل: عليكم.

٦ - صحيح البخاري: ٤ / ٢٠٥، صحيح مسلم: ١ / ١٣٦ ب ٧١ ح ٢٤٤ و ٢٤٥.

وانظر أيضاً: المصنف لعبد الرزّاق: ١١ / ٤٠٠ ح ٢٠٨٤١، جواهر البحار في فضائل النبي


١٣٠


وقوله سبحانه:( وَرَافِعُكَ إِليَّ ) (١) ؛ قيل: أي بعد نزولك من السماء في آخر الزمان.(٢)

وروي أنّ عيسى لمّا أخرجه قومه واُمّه من بين ظهرانيهم عاد إليهم مع الحواريّين، وصاح فيهم بالدعوة، فهمّوا بقتله، فرفعه جبرئيل إلى السماء - كما مرّ -.

وروي أنّ الحواريّين اتّبعوا عيسى، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله، جعنا، فيضرب بيده إلى الأرض، سهلاً كان أو جبلاً، فيخرج لكلّ إنسان رغيفين يأكلهما، وإذا عطشوا قالوا: يا روح الله، عطشنا، فيضرب بيده إلى الأرض، سهلاً

__________________

المختار للنبهاني: ١ / ٣١١، منتخب الصحيحين للنبهاني: ٢٨٩، مسند أحمد بن حنبل: ٢ / ٢٧٢ و ٣٣٦، مسند أبو عوانة: ١ / ١٠٦، ابن حبّان: ٨ / ٢٨٣ - ٢٨٤ ح ٦٧٦٤، الأسماء والصفات للبيهقي: ٥٣٥، مصابيح البغوي: ٣ / ٥١٦ ح ٤٢٦١، شرح السنّة للبغوي: ١٥ / ٨٢، الفردوس: ٣ / ٣٤٢ ح ٤٩١٦، جامع الاًُصول: ١١ / ٤٧ ح ٧٨٠٨، مطالب السؤول: ٢ / ٨٠، بيان الشافعي: ٤٩٥ - ٤٩٦ ب ٧، عقد الدرر: ٢٢٩ ب ١٠، الفصول المهمّة: ٢٩٤ ف ١٢ وص ٢٩٥ وص ٢٩٩، جمع الجوامع: ١ / ٦٣٢، برهان المتقي: ١٥٩ ب ٩ ح ٤، كنز العمّال: ١٤ / ٣٣٢ ح ٣٨٨٤٠ وص ٣٣٤ ح ٣٨٨٤٥، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ٤ / ١٠١، وج ١٦ / ١٠٦، فرائد فوائد الفكر: ٢٢ ب ٦، نور الأبصار: ١٨٨، ينابيع المودّة: ١٨٦ ب ٥٦، فض القدير: ٥ / ٥٨ ح ٦٤٤٠، العطر الوردي: ٧١، تصريح الكشميري: ٩٧ ح ٢، عقيدة أهل اسنّة: ٨ ح ١ و ٢، العمدة لابن بطريق: ٤٣١ ح ٩٠٣ وص ٤٣٢ ح ٩٠٥، كشف الغمّة: ٣ / ٢٢٨ و ٢٦٩ و ٢٧٩، إثبات الهداة: ٣ / ٥٩٩ ح ٦٣ وص ٦٠٦ ح ١٠٦، غاية المرام للبحراني: ٦٩٨ ح ٦٥ وص ٦٩٧ ح ٤٠ - ٤٢ وص ٧٠٢ ح ١٢٨، حلية الأبرار: ٢ / ٦٩٢ و ٦٩٣ و ٦٩٨ و ٧١٠، البحار: ٥١ / ٨٨ ب ١.

١ - كذا الصحيح، وفي الأصل: إليَّ آمنوا.

والآية في سورة آل عمران: ٥٥.

٢ - مجع البيان: ١ / ٤٤٩.


١٣١


كان أو جبلاً، فتنبع عين ماء(١) فيشربون.

فقالوا: يا روح الله، من أفضل منّا إذا جعنا أطعمتنا، وإذا عطشنا سقيتنا(٢) ، وقد آمنّا بك واتّبعناك؟

قال: أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء.(٣)

والحوارى شدّة البياض، ومنه الحواري من الخبز لشدّة بياضه، فكأنّهم هم المبيّضون للثياب.(٤)

وقيل: إنّ الذي دلّهم على المسيح كان رجلاً من الحواريّين وكان منافقاً، وذلك أنّ عيسى جمعهم تلك الليلة، وأوصاهم، وقال: ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك، ويبيعني بدراهم يسيرة، وخرجوا وتفرّقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأتى أحد الحواريّين إليهم فقال(٥) : ما تجعلون لي إن دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً، فأخذها ودلّهم عليه، فألقى الله عليه شبه عيسىعليه‌السلام لما دخل البيت، ورفع عيسى فاُخذ وقال: أنا الذي دللتكم عليه! فلم يلتفتوا إلى قوله، وقتلوه وهم يظنّون أنّه عيسى.

فلمّا رفع عيسى وأتى عليه سبعة أيّام قال الله له: اهبط على مريم لتجمع لك الحواريّين، وتبثّهم في الأرض دعاة، فهبط عليها، واشتعل الجبل نوراً، فجمعت له الحواريّين، فبثّهم في الأرض دعاة، ثمّ رفعه الله

__________________

١ - في المجمع: فيخرج ماء.

٢ - في المجمع: إذا شئنا أطعمتنا، وإذا شئنا سقيتنا.

٣ - مجمع البيان: ١ / ٤٤٨.

٤ - مجمع البيان: ١ / ٤٤٧.

٥ - كذا في المجمع - وهو الصحيح -، وفي الأصل: وقالوا.


١٣٢


تعالى في تلك الليلة، وهذه الليلة هي الليلة التي تسمّيها النصارى ليلة الدخنة ويدخّنوا فيها.

فلمّا أصبح الحواريّون حدّث كلّ واحدٍ منهم بلغة من أرسله إليه(١) عيسىعليه‌السلام (٢) .

و كانت مريم بنت عمران اُمّ عيسى ليس أبوها عمران أبو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، بل هو عمران بن الهشم(٣) بن امون من ولد سليمان بن داودعليه‌السلام ، وكان بينه وبين عمران أبي موسى ألف وثمانمائة سنة.

وكانت امرأة عمران اسمها حنّة اُمّ مريم، وهي جدّة عيسى واُختها إيشاع واسم أبيها فاقوذ بن قبيل، وهي امرأة زكريّا، فيحيى ومريم ولدا خالة.(٤)

وكان يحيى بن زكريّا كما وصفه الله سبحانه وأثنى عليه في كتابه العزيز بقوله:( وَآتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيّاً وَحَنَاناً مِن لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكاَنَ تَقِيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَيهِ وَلَم يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلَامٌ عَلَيهِ يَومَ وُلِدَ وَيَومَ يَمُوتُ وَيَومَ يُبعثُ حَيّاً ) (٥) وكانت ولادته آية من آيات الله سبحانه، لأنّ زكريّا لمّا رأى من كرامات الله لمريم حين كفلها، وكان يرى عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في

____________

١ - في المجمع: إليهم.

٢ - مجمع البيان: ١ / ٤٤٨ - ٤٤٩.

٣ - كذا في المجمع، وفي الأصل: اشهم.

٤ - انظر: الكامل في التاريخ: ١ / ٢٩٨ - وفيه: عمران بن ماثان - عرائس المجالس: ١٦٦ و ٣٧١، ومجمع البيان: ١ / ٤٣٣ - ٤٣٤، وج ٣ / ٥٠٣.

٥ - سورة مريم: ١٢ - ١٥.


١٣٣


الصيف، خلاف ما جردت به العادة، فسألها عن ذلك فيقول: « أنّى لك هذا »؟ فتقول: من رزق الله.(١)

فعندها دعا الله سبحانه، كما قال سبحانه:( إِذ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ) (٢) أي دعا ربّه سرّاً غير جهر يخفيه في نفسه لا يريد به رياء، وفي هذا دلالة على أنّ المستحبّ في الدعاء الإخفاء، فإنّه أقرب إلى الاجابة.

و في الحديث: خير الدعاء الخفيّ، وخير الرزق ما يكفي.

وقيل: إنّما أخفاه لئلّا يهزأ به الناس فيقولوا: انظروا إلى هذا الشيخ سأل الولد على الكبر.(٣)

قال ابن عبّاس: كان عمر زكريّا حين طلب الولد عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته ابنة ثمان وتسعين سنة.(٤)

فأوحى الله إليه:( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسمُهُ يَحيَى لَمْ نَجعَلْ لَهُ مِن قَبلُ سَمِيّاً ) (٥) أي لم نسمّ أحداً قبله بهذا الاسم.

وكذلك الحسينعليه‌السلام لم يسم أحد قبله باسمه.

وكان قاتل يحيى ولد زنا، وكذلك قاتل الحسينعليه‌السلام كان ولد زنا.

وحمل رأس يحيى بن زكريّا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل.

وكذلك حمل رأس الحسين إلى نجل بغيّة من بغايا قريش، ولم تبك

____________

١ - إشارة إلى الآية: ٣٧ من سورة آل عمران.

٢ - سورة مريم: ٣.

٣ - مجمع البيان: ٣ / ٥٠٢.

٤ - مجمع البيان: ١ / ٤٣٩، وفيه: يوم بشّر بالولد.

٥ - سورة مريم: ٧.


١٣٤


السماء إلا عليهما بكت أربعين صباحاً.

و سئل الصادقعليه‌السلام عن بكائها، قال: كانت الشمس تطلع حمراء، وتغيب حمراء.(١)

وروي عن علي بن زيد، عن علي بن الحسينعليه‌السلام قال: خرجنا مع الحسينعليه‌السلام إلى العراق فما نزل منزلاً، ولا ارتحل منه إلا ذكر يحيى بن زكريّا.(٢) (٣)

وعن أبي جعفرعليه‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: لا يقتل الأنبياء وولد الأنبياء إلا ولد زنا.(٤)

وسئل الصادقعليه‌السلام عن قول فرعون:( ذَرُونِي أَقتُلْ مُوسَى ) (٥) ، فقيل: من كان يمنعه منه؟

قال: إنّه كان لرشده، ولم يكن ولد زنا، لأنّ الأنبياء والحجج لا يقتلها إلا ولد الزنا.(٦)

____________

١ - انظر كامل الزيارات: ٨٨ ب ٢٨، قصص الأنبياء للراوندي: ٢٢٠ ح ٢٩١، بحار الأنوار: ٤٥ / ٢٠١ ب ٤٠، عوالم العلوم: ١٧ / ٤٦٦ ب ٢.

٢ - مناقب ابن شهراشوب: ٤ / ٨٥، عنه البحار: ٤٥ / ٢٩٨ ح ١٠، وعوالم العلوم: ١٧ / ٦٠٨ ح ٣.

٣ - مجمع البيان: ٣ / ٥٠٤، عنه البحار: ١٤ / ١٧٥.

٤ - كامل الزيارات: ٧٨ ح ٩ وص ٧٩ ح ١٠، عنه البحار: ٢٧ / ٢٤٠ ح ٥ و ٦.

وأورده الراوندي في قصص الأنبياء: ٢٢٠ ح ٢٩٠ و ٢٩١، عنه البحار: ٢٧ / ٢٤٠ ح ٣ و ٤.

٥ - سورة غافر: ٢٦.

٦ - كامل الزيارات: ٧٨ ح ٧، علل الشرائع: ٥٧ ح ١، عنهما البحار: ٢٧ / ٢٣٩ ح ٢.

وأخرجه في البحار: ١٣ / ١٣٢ ح ٣٥ عن العلل.


١٣٥


وكان يحيى أكبر من عيسى بستّة أشهر، وكلّف التصديق به، وكان أوّل مصدّق به، وشهد أنّه كلمة الله وروحه، وكان ذلك أحد معجزات عيسىعليه‌السلام ، وأقوى الأسباب لإظهار أمره، فإنّ الناس كانوا يقبلون قوله لمعرفتهم بصدقه وزهده.(١)

فلهذا اجتمعت اليهود على قتله(٢) ، فلمّا أحسّ بذلك فرّ منهم واختفى في أصل شجرة، فالتأمت عليه، فدلّهم إبلي عليه ؛ وقيل: إنّه جذب طرف ردائه فلاح(٣) لهم في ظاهر الشجرة، فوضعوا عليه منشاراً، وقدّوا أصل الشجرة ويحيى بنصفين، فأرسل الله سبحانه عليهم بخت نصّر، وكان دم يحيى يفور من أصل الشجرة، فقتل عليه سبعين ألفاً، وكذلك قتل بالحسين سبعون وسبعون ألفاً، وما أُخذ بثأره إلى الآن.

المناجاة

يا من أغرق أصحاب الأفكار الصائبة في بحار إلهيّته، وحيّر أرباب الأنظار الثاقبة في مبدأ ربوبيّته، ويا من تفرّد بالبقاء في قديم أزليّته، ويا من توحّد بالعلى في دوام عظمته، ويا من وسم ما سواه بميسم( كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجهَهُ ) (٤) ، ويا من جعل لكلّ حيّ إلى سبيل الموت غاية ووجهة، ويا

____________

١ - مجمع البيان: ١ / ٤٣٨، عنه البحار: ١٤ / ١٦٩.

٢ - روي هذا في زكريّاعليه‌السلام ، انظر: علل الشرائع: ٨٠ ح ١، عنه البحار: ١٤ / ١٧٩ ح ١٥.

وقصص الأنبياء للراوندي: ٢١٧ ح ٢٨٤، عنه البحار: ١٤ / ١٨١ ح ٢٢.

٣ - في « ح »: أي فظهر.

٤ - سورة القصص: ٨٨.


١٣٦


من رجوت وجوده منزّه عن العدم، ويا من دوام بقائه متّصف بالأحديّة والقدم، ويا من هدانا السبيل إلى ما يزلفنا برضوانه، وعرّفنا الدليل إلى ما يتحفنا بجنانه، ونصب لنا أعلاماً يهتدي بها الحائر عن قصد السبيل في معتقده ونحلته، وأثبت لنا في سماء الصباح إيضاح بيانه أنجماً ينجو بنورها السائر بغير دليل في ظلمة حيرته، وجعلهم خاصّة نفسه من عباده، وولاة أمره في بلاده، لذّتهم في امتثال أوامره ونواهيه، وفرحتههم فيما يقرّبهم من حضرته ويرضيه، وكلّفهم بالتكاليف الشاقّة من جهاد أعدائه، وألزمهم بكفّ أكفّ الملحدين في صفاته وآلائه.

فبذلوا وسعهم في إعلاء كلمته، وأجهدوا جهدهم إذعاناً لربوبيّته، وقابلوا بشرائف وجوههم صفاح الأعداء، وتلقّوا بكرائم صدورهم رماح الأشقياء، حتى قطعت أوصالهم، وذبحت أطفالهم، وسبيت ذراريهم ونساؤهم، واُنهبت أثقالهم وأموالهم، واُهديت إلى رؤوس البغاة رؤوسهم، واستلّت بسيوف الطغاة نفوسهم، وصارت أجسادهم على الرمضاء منبوذة، وبصوارم الأعداء موقوذة(١) ، تسفي(٢) عليهم الأعاصير بذيولها، وتطأهم الأشقياء بخيولها، وتبكي عليهم السموات السبع بأفلاكها، والأرضون السبع بأملاكها، والبحار ببينانها، والأعصار بأزمانها، والجنّة بولدانها، والنار بخزّانها، والعرش بحملته، والفرش بحملته، أبدانهم منبوذة بالعراء، وأرواحهم منّعمة في الرفيق الأعلى.

أسألك بحقّ ما ضمّت كربلاء من أشباحهم، وجنّة المأوى من أرواحهم،

__________________

١ - الوقذ: شدّة الضرب. « لسان العرب: ٣ / ٥١٩ - وقذ - ».

٢ - سَفَتِ الريح التراب تسفيه سَفياً، إذا أذرَته. « صحاح الجوهري: ٦ / ٢٣٧٧ - سفى - ».


١٣٧


وبحقّ ألوانهم الشاحبة في عراها، وأوداجهم الشاخبة(١) في ثراها، وبما ضمّ صعيدها من قبورهم وظرائحهم، وما غيّب في عراصها من أعضائهم وجوارحهم، وبحقّ تلك الوجوه التي طال ما قبّلها الرسول، وأكرمتها البتول، وبحقّ تلك الأبدان التي لم تزل تدأب في عبادتك، وتكدح في طاعتك، طالما سهرت نواظرها بلذيذ مناجاتك، وأظمأت هواجرها طلباً لمرضاتك، شاهدت أنوار تجلّيات عظمتك بأبصار بصائرها، ولاحظت جلال ربوبيّتك بأفكار ضمائرها، فأشرقت أنوار إلهيّتك على مرايا قلوبها، فأضاءت الأكوان بانعكاس أشعّة ذلك النور الّذي هو كمال مطلوبها.

أن تصلّي على محمد وآل محمد، وان تجعل قلوبنا معمورة بحبّهم، وأنفسنا مسرورة بقربهم، وألسنتنا بذكر مناقبهم ناطقة، وأبداننا بنشر فضائلهم عانقة، ومدائحنا إلى نحو جهاتهم موجّهة، وقرائحنا بمعاني صفاتهم مفوّهة، وشكرنا موقوفاً على حضرة رفعتهم، وذكرنا مصروفاً إلى مدحة عظمتهم، لانعقد سواهم سبيلاً موصلاً إليك، ولا نرى غير حبّهم سبباً منجياً لديك، نرى كلّ مجد غير مجدهم حقيراً، وكلّ غنيّ بغير ولاتهم فقيراً، وكلّ فخر سوى فخرهم زوراً، وكلّ ناطق بغير لسانهم زخرفاً وغروراً، وكلّ عالم بغير علمهم جاهلاً، وكلّ إمام يدّعي من دونهم باطلاً.

فلك الحمد على ما اطّلعنا عليه من سرّك المصون بعرفان فضلهم، وأهلّنا له من علمك المخزون بالاستمساك بحبلهم.

__________________

١ - في حديث الشهداء: أوداجهم تَشخُبُ دماً، قيل: هي ما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح « لسان العرب: ٢ / ٣٩٧ - ودج - ».


١٣٨


اللّهمّ فثبّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ونوّر بمصابيح ولاتهم سبيل سلوكنا إليك في ظلمات الساهرة(١) ، وزيّن بذكرهم مجالس وعظنا، وشرّف بشركهم نفائس لفظنا، واجعلنا وحاضري مجلسنا ممّن يناله شفاعتهم يوم وقوفنا بين يديك، ومن تتلقّاهم الملائكة الكرام بالبشرى حين العرض عليك، وأثبنا على تحمّل الأذى فيهم من أعداء دينك ثواب الصدّيقين، وأيّدنا بروح قدسك، وانصرنا على القوم الكافرين.

والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

__________________

١ - الساهرة: الأرض، الفلاة ؛ وقيل: أرض يجدّدها الله يوم القيامة. « لسان العرب: ٤ / ٣٨٣ - سهر - ».


١٣٩



١٤٠