تسلية المجالس وزينة المجالس الجزء ١

تسلية المجالس وزينة المجالس13%

تسلية المجالس وزينة المجالس مؤلف:
المحقق: فارس حسون كريم
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 337276 / تحميل: 8191
الحجم الحجم الحجم
تسلية المجالس وزينة المجالس

تسلية المجالس وزينة المجالس الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

قال سهل: فدنوت من صاحب الرأس: فقلت: هل لك أن تقضي لي حاجة وتأخذ منّي أربعمائة درهم؟

قال: ما هي؟

قلت: تقدّم الرأس أمام الحرم، ففعل ذلك فسلّمت إليه الدراهم، ووضع الرأس في طشت واُدخل على يزيد، فدخلت مع الناس، وكان يزيد جالساً على السرير، وعلى رأسه تاج مكلّل، وحوله كثير من مشايخ قريش، فلمـّا دخل صاحب الرأس جعل يقول:

أوقر ركابي فضّة وذهبا

أنا قتلت السيّد المهذّبا(١)

قتلت خير الناس اُمّاً وأبا

وخيرهم إذ ينسبون(٢) النسبا

فقال يزيد: إذا علمت أنّه خير الناس فلمَ قَتلتَه؟

قال: رجوت الجائزة.

فقيل: إنّ يزيد أمر بقتله.(٣)

وروى سيّدنا السند عليّ بن طاوسرضي‌الله‌عنه ، قال: لمـّا قرب القوم بالرؤوس والاُسارى من دمشق دنت اُمّ كلثوم من شمر لعنه الله، وكان في جملتهم، فقالت: لي إليك حاجة.

قال: وما حاجتك؟

قالت: إذا دخلت البلد فأدخلنا في درب قليل النظّارة، وتقدّم إلى

____________

١ - في المقتل: المحجّبا.

٢ - في المقتل: يذكرون.

٣ - مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢/٦٠ - ٦١، عنه عوالم العلوم: ١٧/٤٢٧.

٣٨١

أصحابك أن يخرجوا الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذا الحال، فأمر في جواب سؤالها أن يجعلوا الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً، وسلك بهم على تلك الحال بين النظّارة حتّى أتى بهم باب دمشق فاقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبى، فروي أن بعض الفضلاء التابعين لمـّا شهد رأس الحسينعليه‌السلام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه، فلمـّا وجدوه بعد أن فقدوه سألوه عن سبب ذلك، فقال: أمّا ترون ما نزل بنا؟ ثمّ أنشأ يقول:

جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد

مترمّلاً بدمائه ترميلا

فكأنّما بك يا ابن بنت محمد

قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشاناً ولمـّا يرقبوا

في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبّرون بأن قُتلتَ وإنّما

قتلوا بك التكبير والتهليلا

يا من إذا حسن العزاء عن امرىء

كان البكاء حسناً عليه جميلا

فبكتك أرواح السحائب غدوة

وبكتك أرواح الرياح أصيلا(١)

و روي أنّهم لما دخلوا دمشق واُقيموا على درج المسجد منتظرين الإذن من يزيد حيث يقام السبي أقبل شيخ من أهل الشام حتّى دنا منهم، فقال: الحمد لله الّذي قتلكم وأهلكم، وأراح العباد من رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم.

فقال له عليّ بن الحسينعليه‌السلام : يا شيخ، هل قرأت القرآن؟

____________

١ - مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢/١٢٥ - ١٢٦، الملهوف على قتلى الطفوف: ٢١٠، وفيهما الأبيات الأربعة الاُولى فقط.

٣٨٢

قال: نعم.

قال: قرأت هذه الآية( قُلْ لَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) ؟

قال الشيخ: قرأت ذلك.

فقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : فنحن الـقربى، يا شيخ، هل قرأت( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَــأنَّ للهِ خُمُسهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٢) ؟

قال: نعم.

قال: فنحن القربى، يا شيخ، هل قرأت( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣) ؟

قال: نعم.

قال: فنحن أهل البيت الّذي خصصنا به.

قال: فبقي الشيخ مبهوتاً ساعة ساكتاً نادما على ما تكلّم به، ثمّ رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللّهمّ إنّي اتوب إليك من بغض هؤلاء القوم، ثمّ التفت إلى عليّ بن الحسين، فقال: بالله أنتم هم؟

فقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : تالله إنّا لنحن هم من غير شكّ، وحقّ جدّنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثمّ رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللّهمّ

__________________

١ - سورة الشورى: ٢٣.

٢ - سورة الأنفال: ٤١.

٣ - سورة الأحزاب: ٣٣.

٣٨٣

إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمد من جنّ أو إنس، ثمّ قال: هل من توبة، يا ابن رسول الله؟

قال : نعم، إن تبت تاب الله عليك، وأنت معنا.

فقال: وأنا تائب، فبلغ يزيد مقالته، فأمر بقتله.

قال: ثمّ اُدخلوا على يزيد وهم مقرنون بالحبال، وكان أوّل من دخل شمر بن ذي الجوشن على يزيد بعليّ بن الحسينعليه‌السلام مغلولة يده إلى عنقه، فلمـّا وقفوا بين يديه على تلك الحال قال له عليّ بن الحسينعليه‌السلام : اُنشدك(١) بالله يا يزيد، ما ظنّك برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لو رآنا على هذا الحال ما كان يصنع؟ فأمر يزيد بالحبال فقطعت(٢) ، ثمّ وضع رأس الحسين في طشت بين يديه، وأجلس النساء خلفه كيلا ينظرن إليه، وأمّا زينب فإنّها لمـّا رأته أهوت إلى جيبها فشقّته(٣) ، ثمّ نادت بصوت حزين يقرح(٤) القلوب: يا حسيناه، يا حبيب رسول الله، يا ابن مكّة ومنى، ويا ابن فاطمة الزهراء سيّدة النساء، يا ابن بنت المصطفى.

قال: فوالله لقد أبكت كلّ من في المجلس ويزيد ساكت.

ثمّ جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسينعليه‌السلام وتنادي: وا حسيناه، وا سيّداه، يا ابن محمداه، يا ربيع الأرامل واليتامى، يا قتيل أولاد الأدعياء.

____________

١ - اُقسمك - خ ل -.

٢ - بقطع الحبال - خ ل -.

٣ - فشقت وجهه - خ ل -.

٤ - كذا في الملهوف، وفي الأصل: يفزع.

٣٨٤

قال: فأبكت كلّ من سمعها.(١)

قال(٢) : وقام من أهل الشام أحمر، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية تعينني.

قالت: وكنت(٣) جارية وضيئة، فارتعدت وفرقت وظننت أنّه يفعل ذلك، فأخذت بثياب اُختي زينب فقال: كذبتَ والله ولؤمتَ ما ذلك لك ولا له.

فغضب يزيد، فقال: بل أنت كذبت إنّ ذلك لي، ولو شئت فعلته.

فقالت: كلّا والله ما جعل الله ذلك لك إلّا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا.

فقال يزيد: إيايّ تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك.

فقالت: بدين الله ودين أبي وجدّي اهتديت.

قال: كذبتِ يا عدوّة الله.

قالت زينب: أمير متسلّط يشتم ظلماً، ويقهر بسلطانه، اللّهمّ إليك أشكو دون غيرك، فاستحيا يزيد وندم وسكت مطرقاً.

__________________

١ - مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢/٦١ - ٦٢، الملهوف على قتلى الطفوف: ٢١١ - ٢١٤.

٢ - في المقتل: وروي عن فاطمة بنت الحسين أنّها قالت: لما اُدخلنا على يزيد ساءه ما رأى من سوء حالنا، وظهر ذلك في وجهه، فقال: لعن الله ابن مرجانة، وابن سميّة، لوكان بينه وبينكم قرابة ما صنع بكم هذا، وما بعث بكنّ هكذا، قالت: فقام إليه رجل من أهل الشام

٣ - كذا في المقتل، وفي الأصل: قال: وكانت.

٣٨٥

وأعاد الشامي فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية.

فقال يزيد: اعزب لعنك الله، ووهب لك حتفاً قاضياً، ويلك لا تقل ذلك، فهذه بنت عليّ وفاطمة، وهم أهل بيت لم يزالوا مبغضين لنا منذ كانوا.(١)

قال الشامي: الحسين بن فاطمة وابن عليّ بن أبي طالب!!

قال: نعم.

فقال الشامي: لعنك الله يا يزيد، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته، والله ما توهّمت إلّا أنّهم سبي الروم.

فقال يزيد: والله لألحقنّك بهم، ثمّ أمر به فضربت عنقه.

قال: ثمّ تقدّم عليّ بن الحسين بين يدي يزيد وقال:

لا تطمعوا أن تهينونا نكرمكم

وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا

الله يعلم أنّا لا نحبّكم

ولا نلومكم إذ(٣) لم تحبّونا

فقال يزيد: صدقت ولكن أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين، فالحمد لله الّذي قتلهما، وسفك دمهما، ثمّ قال: يا عليّ، إنّ أباك قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.

فقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام :( مَا أصَابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أنْفُسِكُمْ إلَّا في كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) (٤) .

__________________

١ - مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢/٦٢.

٢ - الملهوف على قتلى الطفوف: ٢١٨ - ٢١٩.

٣ - في المقتل: فالله يعلم إن.

٤ - سورة الحديد: ٢٢.

٣٨٦

فقال يزيد لابنه [ خالد ](١) : اردد عليه، فلم يدر ما يقول، فقال يزيد:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (٢) .

ثمّ قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : يا ابن معاوية وهند وصخر، إنّ النبوّة والإمرة لم تزل لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد، ولقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب يوم بدر واُحد والأحزاب في يده راية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار.

ثمّ جعل صلوات الله عليه يقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم

ماذا فعلتم وأنتم آخر الاُمم

ثمّ قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت، وما الّذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال، وافترشت الرماد، ودعوت بالويل والثبور ان يكون رأس الحسين بن فاطمة وعليّ ولده منصوبان(٣) على باب مدينتكم، وهو وديعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، [ فيكم ](٤) فابشر بالخزي والندامة غداً إذا جمع الناس ليوم القيامة.(٥)

ووجدت رواية أحببت إيرادها هنا بحذف الأسانيد، قال: لمـّا اُدخل رأس الحسينعليه‌السلام وحرمه على يزيد وكان رأس الحسين بين يديه في طشت جعل ينكت ثناياه بمخصرة في يده يقول:

__________________

١ - من المقتل.

٢ - سورة الشورى: ٣٠.

٣ - في المقتل: أيكون رأس أبي الحسين بن عليّ وفاطمة منصوباً.

٤ - من المقتل.

٥ - مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢/٦٣.

٣٨٧

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

فقامت زينب بنت عليّ فقالت: الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّد المرسلين صدق الله كذلك يقول:( ثُمّ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ أساءُوا السّؤى أنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (١) أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسرى أنّ بنا هواناً على الله، وبك عليه كرامة؟ وانّ ذلك لعظيم خطرك عنده، وشمخت بأنفك، ونظرت إلى عطفك جذلان سروراً حين رأيت الدنيا مستوسقة، والاُمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله سبحانه:( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (٢) آمن العدل - يا ابن الطلقاء - تخديرك حرائرك وإمائك، وسوقك بنات المصطفى رسول الله كسبايا قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ من بلد الى بلد يستشر فهنّ أهل المناهل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف، وليس معهنّ من رجالهنّ وليّ، ولا من حماتهنّ حمي، وكيف [ ترتجى ](٣) مراقبة من لفظ فوه أكباد السعداء(٤) ، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟!

و كيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن

____________

١ - سورة الروم: ١٠.

٢ - سورة آل عمران: ١٧٨.

٣ - من الملهوف.

٤ - في الملهوف: الأزكياء.

٣٨٨

والأضغان، ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم.

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك.

وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء آل محمد، وتهتف بأشياخك زعمت تناديهم؟ ولتردّن وشيكاً موردهم، ولتودّن أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلتَ ما قلتَ.

وقالت: اللّهمّ خذ بحقّنا، وانتقم ممّن ظلمنا، واحلُل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا، فوالله ما فريتَ إلّا جلدك، ولا حززت إلّا لحمك، وسترد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما تحملت من سفك دماء ذرّيّته، وانتهكت من عترته وحرمة ولحمته، وليخاصمنّك حيث يجمع الله تعالى شملهم، ويلمّ شعثهم ويأخذ لهم بحقّهم،( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) .

وحسبك بالله حاكماً، وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سوَّل لك هذا ومكّنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلاً، وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً.

ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك، أنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى.

ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء،

__________________

١ - سورة آل عمران: ١٦٩.

٣٨٩

فهذه الأيدي تنطف(١) من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها(٢) العواسل، وتعفوها اُمّهات الفراعل، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنّا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلّا ما قدّمت [ يداك ](٣) ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤) ) فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.

فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد؟ ويوم ينادي المناد: ألا لعنة الله على الظالمين.

والحمدُ للهِ الّذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله(٥) أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلف(٦) ، إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فقال يزيد لعنه الله:

يا صيحةً تعلن من صوائح

ما أهون الحزن(٧) على النوائح(٨)

قال: ودعا يزيد الخاطب وأمره أن يصعد المنبر ويذمّ الحسين وأباه

__________________

١ - في الملهوف: تنضح.

٢ - في الملهوف: تتناهبها.

٣ - من المقتل والملهوف.

٤ - سورة فصلت: ٤٦.

٥ - لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل والملهوف.

٦ - في الملهوف: الخلافة.

٧ - يا صيحة تحمد الموت.

٨ - مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢/٦٤ - ٦٦، الملهوف على قتلى الطفوف ٢١٤ - ٢١٨، البحار: ٤٥/١٣٣.

٣٩٠

عليهما‌السلام ، فصعد وبالغ في سبّ أمير المؤمنين والحسينعليهما‌السلام والمدح لمعاوية ويزيد.

فصاح به عليّ بن الحسينعليه‌السلام : ويلك أيّها الخاطب، اشتريتَ مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوّء مقعدك من النار.

ولقد أحسن من قال:

أعلى المنابر تعلنون بسبّه

وبسيفه نُصبتْ لكم أعوادها؟(١)

وروي: أنّ عليّ بن الحسينعليه‌السلام لمـّا سمع ما سمع من الخاطب لعنه الله قال ليزيد: اُريد أن تأذن لي أن اصعد المنبر فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضاً ولهؤلاء الجلساء أجر، فأبى يزيد:

فقال الناس: يا أمير المؤمنين ائذن فليصعد، فلعلّنا نسمع منه شيئاً.

فقال: إنّه إن صعد لم ينزل إلّا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان.

فقيل له: وما قدر ما يحسن هذا؟

فقال: إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّاً.

قال: فلم يزالوا به حتّى أذن له، فصعد المنبر(٢) ، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ

____________

١ - الملهوف على قتلى الطفوف: ٢١٩.

٢ - في « ح »: حكي عن الشعبي الحافظ لكتاب الله عزّوجل أنّه قال: استدعاني الحجّاج بن يوسف يوم الأضحى فقال لي: أيّها الشيخ أيّ يوم هذا؟ فقلت: هذا يوم الأضحى، قال بم يتقرّب به الناس في مثل هذا اليوم؟ فقلت: بالأضحية والصدقة وأفعال البرّ والخير.

فقال: اعلم أنّي قد عزمت اليوم أن اضحي برجل حسيني.

قال الشعبي: فبينما هو يخاطبي إذ سمعت من خلفي صوت لسلسلة وحديد فخشيت أن ألتفت فيستخفني، وإذا قد مثل بين يديه رجل علوي وفي عنقه سلسلة وفي رجليه قيد من حديد، فقال له الحجّاج: ألست فلان بن فلان؟

٣٩١

__________________

قال: نعم.

فقال له: أنت القائل إنّ الحسن والحسين من ذرّيّة رسول الله؟

قال: ما قلت وما أقول، ولكنّي قلت وأقول: إنّ الحسن والحسين ولدا رسول الله وفرخاه، وإنّهما دخلا في ظهره وخرجا من صلبه على رغم أنفك يا حجّاج.

قال: وكان الملعون مستنداً فصار جالساً وقد اشتدّ غيضه وغضبه وانتفخت أوداجه حتّى تقطّعت أزرار بردته فدعا ببردة غيرها فلبسها، ثمّ قال للعلويّ: يا ويلك إن لم تأتني بدليل من القرآن يدلّ على انّ الحسن والحسين ولدا رسول الله دخلا في ظهره وخرجا من صلبه وإلّا لأصلبنّك ولأقتلنّك في هذا الحين أشرّ قتلة، وإن أتيتني بدليل يدلّ على ذلك أعطيتك هذه البدرة الّتي بيدي وخلّيتك سبيلك.

قال الشعبي: وكنت حافظاً لكتاب الله تعالى كلّه وأعرف وعده ووعيده، وناسخة ومنسوخه، فلم تخطر على بالي آية تدلّ على ذلك، فحزنت في نفسي يعزّ والله عليَّ ذهاب هذا الرجل العلوي.

قال: فابتدأ الرجل يقرأ الآية فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فقطع عليه الحجّاج قراءته وقال: لعلّك تريد أن تحتج عليّ بآية المباهلة. [ وهي قوله تعالى:( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) سورة آل عمران: ٦١ ].

فقال العلوي: هي والله حجّة مؤكدّة معتمدة، ولكنّي آتيك بغيرها، ثمّ ابتدأ يقرأ:( بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذرّيّته داود وسليمان وأيوّب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين - وزكرّيا ويحيى ) [ سورة الأنعام: ٨٤ - ٨٥ ] وسكت فقال له الحجّاج: فلم لا قلت عيسى أنسيت عيسى؟

فقال: نعم صدقت يا حجّاج، فبأيّ شيء دخل عيسى في صلب نوحعليه‌السلام [ وليس له أب؟ فقال له الحجّاج: انّه دخل في صلب نوح ] من حيث اُمّه، فقال العلوي: وكذلك الحسن والحسين دخلا في صلب رسول الله من اُمّها فاطمة الزهراء.

قال: فبقي الحجّاج كأنّما أُلقي حجر في فيه.

فقال له الحجّاج: ما الدليل على أنّ الحسن والحسين إمامان؟ فقال العلويّ: يا حجّاج لقد ثبتت لهما الامامة بشهادة الرسول في حقّهما لأنّه قال في حقّهما: « ولداي هذان إمامان فاضلان إن قاما وإن قعدا، تميل عليهما الأعداء فيسفكون دماءهما ويسبون حرمهما » ولقد شهد لهم النبيّ بالإمامة أيضاً فقال: « ابني هذا - يعني الحسين - إمام ابن إمام أبو أئمّة تسعة ».

٣٩٢

خطب خبطة أبكى بها العيون، وأوجل منها القلوب، ثمّ قال: أيّها الناس، اُعطينا ستّاً، وفضِّلنا، بسبع اُعطينا: العلم، والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنّا الصّديق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد الله وأسد رسوله، ومنّا خيرة(١) نساء العالمين، ومنّا سبطا هذه الْاُمّة [ وسيّدا شباب أهل الجنّة ](٢) ، من عرفني فقد

____________

فقال الحجّاج: يا علويّ وكم عمر الحسين في دار الدنيا؟

فقال: ثماني وخمسون سنة، فقال له: وفي أيّ يوم قتل؟

قال: اليوم العاشر من المحرّم بين الظهر والعصر.

فقال: ومن قتله؟

فقال: يا حجّاج، لقد جند الجنود ابن زياد بأمر اللعين يزيد لعنه الله، فلمـّا اصطفّت العساكر لقتاله فقتلوا حماته وأنصاره وأطفاله وبقي فريداً، فبينما هو يستغيث فلا يغاث، ويستجير فلا يجار، يطلب جرعة من الماء ليطفى بها حرّ الظمأ، فبينما هو واقف يستغيث إلى ربّه إذ جاء سنان فطعنه بسنانه، ورماه خولي بسهم ميشوم فوقع في لبته، وسقط عن ظهر جواده إلى الأرض يجول في دمه، فجاء الشمر لعنه الله فاجتزّ رأسه بحسامه ورفعه فوق قناته، وأخذ قميصه إسحاق الحضرمي، وأخذ سيفه قيس النهشلي، وأخذ بغلته حارث الكندي، وأخذ خاتمه زيد بن ناجية الشعبي، وأحاط القوم بخبائه، وعاثوا في باقي أثاثه، وأسبوا حريمه ونساءه.

فقال الحجّاج: هكذا جرى عليهم يا علوي، والله لو لم تأتني بهذا الدليل من القرآن وبصحة إمامتهما لأخذت الّذي فيه عيناك، ولقد نجّاك الله تعالى ممّا عزمت عليه من قتلك، ولكن خذ هذه البدرة لا بارك الله لك فيها؛ فأخدها العلوي وهو يقول: هذا من عطاء ربّي وفضله لا من عطائك يا حجّاج، ثمّ إن العلويّ بكى وجعل يقول:

صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه

والطيّبون على النبيّ الناصح

وعلى قرابته الّذين نهضوا

بالنائبات وكلّ خطب فادح

طلبوا الحقوق فاُبعدوا عن دارهم

وعوى عليهم كلّ كلب نائح

 [ المنتخب للطريحي: ٤٩١ - ٤٩٣ ]

١ - في المقتل: سيّدة.

٢ - من المقتل.

٣٩٣

عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.

أيّها الناس، أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء، أنا ابن خير من اتّزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبّي، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء، أنا ابن من اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحي إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن عليّ المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا: لا إله إلا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين.

أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيّين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين, ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين، وأصبر الصّابرين، وأفضل العالمين، وأفضل القائمين، من آل طه وياسين، أنا ابن المؤيّد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفضل من مشى من قريش أجمعين، وأوّل من استجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأوّل السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين الله، ووليّ أمر الله، وبستان حكمة الله وعيبة علمه.

سمح سخيّ، بهلول زكيّ، مقدّم همام، صبّار صوّام، مهذّب قوّام، قاطع

٣٩٤

الأصلاب، ومفرق الأحزاب، أربطهم عناناً، وأثبتهم جناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدّهم شكيمة، أسد باسل يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة، وقويت الأعنّة طحن الرحا، ويذروهم فيها ذري الريح الهشيم.

ليث الحجاز، وكبش العراق، مكّي مدنيّ [ أبطحي تهامي، ](١) خيفي عقبي، بدريّ اُحديّ، شجريّ مهاجري، من العرب سيّدها، وفي الوغا ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين، الحسن والحسين [ مظهر العجائب، ومفرّق الكتائب، والشهاب الثاقب، والنور العاقب، أسد الله الغالب، مطلوب كلّ طالب ](٢) ، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب.

ثمّ قال: أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء.

فلم يزل يقول أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب والأنين، وخشي يزيد اللعين أن تكون فتنة فأمر المؤذّن، فقال: اقطع عليه الكلام.

فلمـّا قال المؤّذن: الله أكبر الله أكبر، قالعليه‌السلام : الله أكبر من كلّ شيء.

فلمـّا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي.

فلمـّا قال المؤّذن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، التفت عليّعليه‌السلام من فوق المنبر إلى يزيد، فقال: محمد هذا جدّي أم جدّك، يا يزيد؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبتَ وكفرتَ، وإن زعمتَ أنّه جدّي فلمَ قتلتَ عترته؟

__________________

١ و ٢ - من المقتل.

٣٩٥

قال : وفرغ المؤذّن من الأذان والاقامة، وتقدّم يزيد وصلّى صلاة الظهر.

قال: وروي أنّه كان في مجلس يزيد حبر من أحبار اليهود، فقال من هذا الغلام، يا أمير المؤمنين؟

قال: هو عليّ بن الحسين.

قال: فمن الحسين؟

قال: ابن عليّ بن أبي طالب.

قال: فمن اُمّه؟

قال: فاطمة بنت محمد.

فقال الحبر: يا سبحان الله! فهذا ابن بنت نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة، بئسما خلفتموه في ذرّيّته، لو ترك فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لظننّا أنّا كنّا نعبده من دون ربّنا، وأنتم فارقتم نبيّكم بالأمس فوثبتم على ابنه فقلتموه، سوءة لكم من اُمّة.

قال: فأمر به يزيد فوجىء في حلقه ثلاثاً، فقام وهو يقول: إن شئتم فاقتلوني، وإن شئتم فذروني(١) ، فإنّي أجد في التوراة انّ من قتل ذرّيّة نبيّ لا يزال ملعوناً أبداً ما بقي، فإذا مات أصلاه الله جهنّم وساءت مصيراً.(٢)

قال: ثمّ أمر يزيد بهم فاُنزلوا منزلاً لا يكتمهم(٣) من حرٍّ ولا من برد، فأقاموا فيه حتّى تقشّرت وجوههم، وكانوا مدّة مقامهم في البلد المشار إليه

____________

١ - كذا في المقتل، وفي الأصل: إن شئتم فاضربوني، وإن شئتم فاقتلوني وتذروني.

٢ - مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢/٦٩ - ٧١.

٣ - في الملهوف: ولا يكنّهم.

٣٩٦

ينوحون على الحسينعليه‌السلام .(١)

و روى عن زيد بن عليّ، [ و ](٢) عن محمد بن الحنفيّةرضي‌الله‌عنه ، عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام أنّه لمـّا أُتي برأس الحسين إلى يزيد لعنه الله كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين ويضعه بين يديه ويشرب عليه، فحضر ذات يوم في مجلس يزيد رسول ملك الروم وكان من عظمائهم، فقال: يا ملك العرب، هذا رأس مَن؟

فقال يزيد: ما لكَ ولهذا الرأس؟

فقال: إنّي إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كلّ شيء رأيته فأحببت أن اُخبره بقصّة هذا الرأس وصاحبه حتّى نشاركك في السرور والفرح.

قال يزيد لعنه الله: هذا رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب.

فقال: ومن كانت اُمّه؟

قال: فاطمة الزهراء.

قال: بنت مَن؟

قال: بنت رسول الله.

فقال النصرانيّ: اُفّ لك ولدينك، ما من دين اخسّ من دينك [ اعلم ](٣) إنّي من أحفاد(٤) داود، وبيني وبينه آباء كثيرة والنصارى يعظّمونني ويأخذون

____________

١ - الملهوف على قتلى الطفوف: ٢١٩.

٢ و ٣ - من المقتل.

٤ - كذا في المقتل، وفي الأصل: حوافد، وكذا في الموضع الآتي.

٣٩٧

التراب من تحت قدميّ تبرّكاً به لأني من أحفاد داود، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم وما بينه وبين نبيّكم إلّا اُمّ واحدة، فأيّ دين دينكم؟ ثمّ قال: هل سمعت بحديث كنيسة الحافر؟

فقال يزيد: قل حتّى أسمع.

قال: إن بين عمان والصين بحر مسيرة سنة، ليس فيه عامر(١) إلّا بلدة واحدة في وسط الماء، طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين، ما على [ وجه ](٢) الأرض بلدة أكبر منها، ومنها يحمل الكافور والياقوت، أشجارهم العود ومنهم يحمل العنبر، وهي في أيدي النصارى، لا ملك لأحد فيها من الملوك، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة أعظمها كنيسة الحافر، في محرابها حقّة من ذهب معلّقة فيها حافر يقولون إنّه حافر حمار كان يركبه عيسىعليه‌السلام ، وقد زيّنوا حول الحقّة من الذهب والديباج ما لا يوصف، في كلّ عام يقصدونها العلماء من النصارى، يطوفون بتلك الحقّة ويقبّلونها، ويرفعون حوائجهم إلى الله سبحانه، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنّه حافر حمار عيسى، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم، فلا بارك الله فيكم، ولا في دينكم.

فقال يزيد [ لأصحابه ](٣) : اقتلوا هذا النصرانيّ، فإنّه يفضحني إن رجع إلى بلاده فيشنّع عليَّ، فلمـّا أحسّ النصرانيّ بالقتل قال: يا يزيد، تريد أن تقتلني؟

قال: نعم.

قال: اعلم أنّي رأيت البارحة نبيّكم في المنام [ وهو ](٤) يقول لي: يا نصرانيّ، أنت من أهل الجنّة، فتعجّبت من كلامه، وها أنا أشهد أن لا إله إلّا

__________________

١ - في المقتل: عمران.

٢ و ٣ و ٤ - من المقتل.

٣٩٨

الله، وأنّ محمّداً رسول الله، ثمّ وثب إلى رأس الحسينعليه‌السلام وضمّه إلى صدره، وجعل يقبّله ويبكي حتّى قتلرحمه‌الله .

و في رواية أنّ النصرانيّ اخترط سيفه وحمل على يزيد، فحال الخدم بينهما، ثمّ قتل على المكان وهو يقول: الشهادة الشهادة.

وذكر أبو مخنف انّ يزيد أمر بأن يصلب رأس الحسينعليه‌السلام على باب داره، وأمر بالنسوة أن يدخلوا داره، فلمـّا دخلت النسوة دار يزيد لم تبق امرأة من آل أبي سفيان ومعاوية(١) إلّا استقبلتهنّ بالبكاء والصراخ والنياحة على الحسينعليه‌السلام ، وألقين ما عليهنّ من الثياب والحلل والحليّ، وأقمن المآتم ثلاثة أيّام، وخرجت هند بنت عبد الله بن [ عامر بن ](٢) كريز امرأة يزيد مكشوفة الرأس، وكانت قبل ذلك تحت الحسينعليه‌السلام حتّى شقت الستر وهي حاسرة، فوثبت إلى يزيد وهو في مجلس عامّ فغطّاها، ثمّ قال: نعم فاعولي عليه - يا هند - وابكي على ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زياد فقتله قتله الله.

ثمّ إنّ يزيد أنزلهم في داره الخاصّة، فما كان يتغدّى ولايتعشّى حتّى يحضر عليّ بن الحسينعليه‌السلام معه.

وروي أنّه عرض عليهم المقام بدمشق، فأبوا ذلك، فقالوا: بل ردّنا إلى المدينة لأنّها مهاجر جدّنا.

فقال للنعمان بن بشير: جهّز لهؤلاء بما يصلحهم، وابعث معهم رجلاً أميناً صالحاً، وابعث معهم خيلاً وأعواناً، ثمّ كساهم وحباهم وفرض لهم الأرزاق

____________

١ - كذا في المقتل، وفي الأصل: لم يبق من آل أبي سفيان ومعاوية أحد.

٢ - من المقتل.

٣٩٩

والأنزال، ثمّ دعا بعليّ بن الحسين فقال له: لعن الله ابن مرجانة، أمّا والله لو كنت صاحبه ما سألني خطة إلاّ أعطيته إيّاها، ولدفعت عنه الحتف بكلّ ما قدرت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن قضى الله ما رأيت، فكاتبني بكل حاجة تكون لك(١) ، ثمّ أوصى بهم الرسول، فخرج بهم الرسول يسايرهم فيكونون أمامه حيث لا يفوتوا بطرفه، فإذا نزلوا تنحّى عنهم وتفرّق هو وأصحابه كهيئة الحرس، ثمّ ينزل بهم حيث أراد واحدهم الوضوء، ويعرض عليهم حوائجهم ويتلطّف بهم حتّى دخلوا المدينة.

قال الحارث بن كعب: قالت [ لي ](٢) فاطمة بنت علي: قلت لأُختي زينب: قد وجب علينا حقّ هذا لحسن صحبته لنا، فهل لكِ أن نصله؟

قالت: والله ما لنا ما نصل به إلّا أن نعطيه حليّنا، فأخذت سواري ودملجي وسوار اُختي ودملجها فبعثنا بها إلى الرسول واعتذرنا من قلّته، وقلنا: هذا بعض جزائك لحسن صحبتك إيّانا.

فقال: لو كان الّذي فعلته للدنيا لكان في بعض هذا رضاي، ولكن والله ما فعلته إلّا لله ولقرابتكم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .(٣)

وآقول: لعن الله يزيد وأباه، وجدّيه وأخاه، ومن تابعه وولّاه، بينا هو ينكت ثنايا الحسين ويتمثّل بشعر ابن الزبعرى: يا غراب البين ما شئت فقل، إلى آخره، واغلاظه لزينب بنت عليّ بالكلام السيّء لمـّا سأله الشامي، وقال: هب لي هذه الجارية - يعني فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام

____________

١ - كذا في المقتل، وفي الأصل: فكاتبني وأنّه إلى كلّ حاجة تكون لك.

٢ - من المقتل.

٣ - مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢/٧٢ - ٧٥، عنه البحار: ٤٥/١٤٢ - ١٤٥.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420


ا لكناني وزامل بن عبيد الخزاعي ومالك بن روضة الجُمحي مبارزة. وطعن الأشعث لشُرحِبِيل بن السِمط ولأبي الأعور السلمي، فخرج حوشب ذو الظليم وذو الكلاع في نفر فقالوا: أمهلونا هذه الليلة:

فقالوا: لا نبيت إلّا في معسكرنا، فانكشفوا.

ثم إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أنفذ سعيد بن قيس الهمداني وبشر(٥) بن عمرو الأنصاري إلى معاوية ليدعواه إلى الحق فانصرفا بعد ما احتجّا عليه.

ثم أنفذ أمير المؤمنينعليه‌السلام [ شبث بن ربقي و ](٦) عديّ بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وزياد بن خصفة(٧) بمثل ذلك، فكان معاوية يقول: سلّموا إلينا قتلة عثمان لنقتلهم به، ثمّ نعتزل الأمر حتى يكون شورى، فتقاتلوا في ذي الحجّة وأمسكوا في المحرّم، فلمّا استهلّ صفر سنة سبع وثلاثين أمر أمير المؤمنينعليه‌السلام فنودي في عسكر الشام بالاعذار والانذار، ثم عبّى عسكره فجعل على ميمنة الجيش الحسنين وعبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل، وعلى ميسرته محمد بن الحنفيّة ومحمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال، وعلى القلب عبد الله بن العبّاس والعبّاس بن ربيعة بن الحارث والأشتر والأشعث، وعلى الجناح سعد(٨) بن قيس الهمداني وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ورفاعة بن شدّاد البجلي وعديّ بن حاتم، وعلى الكمين عمّار بن ياسر وعمرو بن الحمق وعامر بن واثلة الكناني وقبيصة بن

____________

الجُمحي، وزامل بن عبيد الله الحِزامي، ومحمد بن روضة الجُمحي.

٤ - في المناقب: زياد.

٥ - في وقعة صفّين: بشير. وأضاف إليهما شبث بن رِبعي التميمي.

٦ - من وقعة صفّين والمناقب.

٧ - كذا في وقعة صفّين، وفي الأصل والمناقب: حفص.

٨ - كذا في وقعة صفّين والمناقب، وفي الأصل: سعيد. وكذا في الموضع الآتي.


٤٢١


جابر الأسدي.

وجعل معاوية على ميمنته ذاالكَلاع الحميري وحوشب ذاالظليم، وعلى الميسرة عمرو بن العاص وحبيب بن مَسلمة، وعلى القلب الضحّاك بن قيس الفهري وعبد الرحمان بن خالد بن الوليد، وعلى الساقة بسر بن أرطاة الفهري، وعلى الجناح عبد الله بن مسعدة الفزاري وهمام بن قبيصة النمري، وعلى الكمين أبا الأعور السلمي وحابس بن سعد الطائي.

فبعث أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى معاوية أن اخرج إليّ اُبارزك، فلم يفعل، وقد جرى بين العسكرين أربعون وقعة تغلّب فيها أهل العراق: أوّلها يوم الأربعاء بين الأشتر وحبيب بن مسلمة، والثانية بين المرقال و [ أبي ](١) الأعور السلمي، والثالثة بين عمّار وعمرو بن العاص، والرابعة بين محمد بن الحنفيّة وعبيدالله بن عمر، والخامسة بين عبد الله بن عبّاس والوليد بن عقبة، والسادسة بين سعد بن قيس وذي الكلاع، إلى تمام الأربعين، وكان آخرها ليلة الهرير.(٢)

ولأبطال أهل العراق مع أبطال أهل الشام وقعات وحروب وأشعار لا نطوّل بذكرها خوف الملل، ففي بعض أيّامها جال أمير المؤمنينعليه‌السلام في الميدان قائلاً:

أنا علي فاسـألوني تخبروا

ثمّ ابرزوا لي في الوغى وابتدروا

سيفي حسام وسناني يزهرُ

منّا النـبـي الـطاهر المـطّهرُ

وحمزة الخير ومـنّا جعفر

وفـاطـمُ عرسـي وفيـها مفخرُ

 __________________

١ - من المناقب.

٢ - مناقب ابن شهراشوب: ٣ / ١٦٤ - ١٦٩.


٤٢٢


هذا لهذا وابن هند محجرٌ

مذبذب مطرد مؤخّر

فاستلحقه(١) عمرو بن الحصين السكوني على أن يطعنه فرآه سعيد بن قيس فطعنه.

و أنفذ معاوية ذا الكلاع إلى بني همدان فاشتبكت الحرب بينهم إلى الليل، ثم انهزم أهل الشام، وأنشد أمير المؤمنينعليه‌السلام :

فوارس من همدان ليسوا بعزل

غداة الوغى من شاكر وشبام

يقودهـم حـامي الحقيقة ماجد

سعيد بن قيس والكريم محام

جزى الله همدان الجنان فإنّهم

سهام العدى في يوم كلّ حمام(٢)

ونادى خال السدوسي من أصحاب عليعليه‌السلام : من يبايعني على الموت؟ فأجابه تسعة آلاف، فقاتلوا حتى بلغوا فسطاط معاوية، فهرب معاوية فنهبوا فسطاطه، وأنفذ معاوية إليه: يا خالد، لك عندي إمرة خراسان [ متى ](٣) ظفرت فاقصر ويحك عن فعالك هذا، فنكل عنه، فتفل أصحابه في وجهه وحاربوا إلى الليل.

وخرج حمزة بن مالك الهمداني من أصحاب معاوية قائلاً لهاشم المرقال:

يا أعور العين وما فينا عور

نبغي ابن عفّان ونلحَى من غَدَر(٤)

____________

١ - في المناقب: فاستخلفه.

٢ - مناقب ابن شهراشوب: ٣ / ١٧١ - ١٧٢.

٣ - من المناقب.

٤ - اورد الأرجاز في وقعة صفّين: ٣٤٧ هكذا:

يا أعور العين وما بي من عَوَر

أثُبت فإنّي لستُ من فَرعَي مُضر

نحن اليمانون وما فينا خَوَر

كيـفَ ترى وقع غُلامٍ من عُذَر


٤٢٣


فقتله المرقال، فهجموا على المرقال فقتلوه رحمة الله عليه، فأخذ سفيان بن الثور رايته(١) فقاتل حتى قتل، فأخذها عتبة بن المرقال فقاتل حتى قتل، فأخذها أبو الطفيل الكناني مرتجزاً:

يا هاشم الخير دخلت الجنّة

قتلت في الله عدوّ السنّة(٢)

فقاتل حتى جرح فرجع القهقرى، وأخذها عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي مرتجزاً:

أضربكم ولا أرى مـعاويه

أبرج العين العظيم الحاويه(٣)

هوت به في النار اُمّ هاوية

جاوَرَه(٤) فيها كلاب عاويه(٥)

فهجمو ا عليه فقتلوه، فأخذها عمرو بن الحمق وقاتل أشدّ قتال، وخرج من أصحاب معاوية ذو الظليم، وبرز من عسكر عليّعليه‌السلام سليمان بن صرد الخزاعي، وحملت الأنصار معه حملة رجل واحد، فقُتل ذو الظليم وذو

____________

يَنعى ابن عَفّانٍ ويَلحى مَن غَدَر

سِيّان عِندي مَن سَعى ومن أمَر

١ - كذا في المناقب، وفي الأصل: فجزّ شيبان بن الثور رأسه. وهو تصحيف.

٢ - أورد الأرجاز في وقعة صفّين: ٣٥٩ هكذا:

يا هاشمَ الخَيرِ جُزيتَ الجنّه

قاتلـتَ في الله عدوّ السّنّه

والتاركي الحقّ وأهلَ الظنّه

أعظِم بِِما فُزتَ به من مِنّه

صيّـرني الدَهر كأنّي شَنّه

يا ليتَ أهلي قد عَلَوني رَنّه

من حَوْبةٍ وعَمَّةٍ وَكَنَّهْ

٣ - الأبرج العين: أي كان بياضها محدقاً بالسواد كلّه. والحاوية: الأمعاء.

٤ - كذا في المناقب، وفي الأصل: خاوية.

٥ - نسب هذه الأرجاز في وقعة صفّين: ٣٩٩ إلى مالك الأشتر، وبهذا اللفظ:

أضربـُهَمْ ولا أرى مُعاويهْ

الأخزَرَ العَين العظيمَ الحاويهْ

هوتْ به في النار اُمّ هاويه

جاورهُ فيـهاَ كـلابٌ عاويهْ

أغوى طَغاماً لاهَدَته هاديه


٤٢٤


الكلاع وساروا(١) إليهم وكاد معاوية يؤخذ.

وخرج عبدالله بن عمر ودعا محمد بن الحنفية إلى البراز، فنهض محمد فنهاه أبوه، وكان لعنة الله عليه وعلى أبيه يقول:

أنا عُبيد الله ينميني عمر

خيرُ قريشٍ مَن مضى ومن غَبرْ

فقتله عبد الله بن سوار ؛ ويقال: حريث بن خالد(٢) ؛ ويقال: هانئ بن الخطّاب: ويقال: محمد بن الصبيح، فأمر معاوية بتقديم سبعين راية، وبرز عمّار في رايات، فقُتل من أصحاب معاوية سبعمائة رجل، ومن أصحاب عليّ مائتا رجل.

وخرج العراد بن الأدهم ودعا العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، فقتله العبّاس، فنهاه عليّعليه‌السلام عن المبارزة، فقال معاوية: من قتل العبّاس فله عندي كذا ما يشاء، فخرج رجلان لخميان(٣) ، فدعاه أحدهما إلى البراز.

فقال: إن أذن لي سيّدي اُبارزك، وأتى عليّاًعليه‌السلام ، فلبس عليّ سلاح العبّاس، وركب فرسه متنكّراً.

فقال الرجل: أذن لك سيّدك؟ فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :( اُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُوا ) (٤) فقتله، ثمّ برز الآخر، فقتله.

__________________

١ - كذا في المناقب، وفي الأصل: وساير، وفي وقعة صفّين: واستدار القوم.

٢ - في وقعة صفّين: ٢٩٩: حُريث بن جابر الحنفيّ.

٣ - كذا في المناقب، وفي الأصل: نحيبان.

واللخم: حيّ باليمن.

٤ - سورة الحجّ: ٣٩.


٤٢٥


و خرج حَجل بن عامر(١) العبسي فطلب البراز، فبرز إليه ابنه(٢) اُثال، فلمّا رآه أبوه قال: انصرف إلى أهل الشام فإنّ فيها أموالاً جمّة فقال ابنه: يا أبة انصرف إلينا فجنّة الخلد مع عليّ.

وعبّى معاوية أربعة صفوف فتقدّم أبو الأعور السلمي يحرّض أهل الشام، ويقول: يا أهل الشام، إيّاكم والفرار فإنّه سبّة وعار، فدقّوا [ على ](٣) أهل العراق، فإنّهم أهل فتنة ونفاق، فبرز سعيد بن قيس وعديّ بن حاتم والأشتر والأشعث، فقتلوا منهم ثلاثة آلاف ونيّفاً، وانهزم الباقون.

وبرز عبدالله بن جعفر فقتل خلقا كثيراً حتى استغاث عمرو بن العاص، وأتى اُويس القرني وهو متقلّد بسيفين ؛ وقيل: كان معه مرماة ومخلاة من الحصى، فسلّم على أمير المؤمنينعليه‌السلام وودّعه وبرز مع(٤) رجّالة ربيعة، فقتل من يومه، فصلّى عليه أمير المؤمنين ودفنه.

ثم إنّ عمّار كان يقاتل ويقول:

نحن قتلناكم(٥) على تنزيله

ثمّ قتلناكم على تأويـلهِ

ضرباً يزيل الهامَ عن مَقيله

ويذهِل الخليل عن خليله(٦)

____________

١ - في الأصل والمناقب: حجل بن اُثال، والصحيح ما أثبتناه وفقاً لوقعة صفّين: ٤٤٣.

٢ - كذا في المناقب، وهو الصحيح، وفي الأصل: أبوه.

٣ - من المناقب.

٤ - كذا في المناقب، وفي الأصل: معه.

٥ - في المناقب: ضربناكم.

٦ - أورد الرجز في وقعة صفّين: ٣٤١ هكذا:

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويلهِ

ضرباً يُزِيلُ الهامَ عن مَقيلهِ

ويذهـل الـخليلَ عن خليله

أو يرجعَ الحقُّ إلى سبيلهِ

وما في المناقب يختلف عمّا هو في الأصل ووقعة صفّين.


٤٢٦


ثم قال: والله لو قتلونا حتى بلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحق وهم على الباطل.(١)

و برز أمير المؤمنينعليه‌السلام ودعا معاوية وقال: أسألك أن تحقن دماء المسلمين وتبرز إليّ وأبرز إليك، فيكون الأمر لمن غلب، فبهت معاوية ولم ينطق بحرف، فحمل أمير المؤمنينعليه‌السلام على الميمنة فأزالها، ثم حمل على الميسرة فطحنها، ثم حمل على القلب وقتل منهم جماعة، ثم أنشد:

فهل لك في(٢) أبي حسن عليّ

لعلّ الله يمكّن من قفاكا

دعـاك إلى البراز فكعت عنه

ولو بارزته تربت(٣) يداكا

وانصرف أمير المؤمنينعليه‌السلام وخرج متنكّراً، فخرج عمرو بن العاص مرتجزاً:

يا قادة الكوفة من أهل الفتن

يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن

كفى بهذا حَزَناً مِنَ(٤) الحَزَن

أضربكم ولا أرى أبا الحسن(٥)

____________

١ - قوله: « ثمّ قال: والله على الباطل » ليس في المناقب. وسيأتي هذا الكلام مكرّراً في ص ٤٥٠، فراجع.

٢ - كذا في المناقب، وفي الأصل: من.

٣ - كذا في المناقب، وفي الأصل: ثبّت. وانظر الأبيات في وقعة صفّين: ٤٣٢.

٤ - في المناقب: مع.

٥ - رويت هذه الأرجاز والأرجاز التي تليها في وقعة صفّين: ٣٧١ منسوبة إلى عمرو بن العاص، وبهذا اللفظ:

أنا الـغلام الـقرشـيّ المؤتمن

الماجدُ الأبلجُ ليث كالشَّـطن

يرضى به الشام إلى أرض عدن

يا قادة الكوفة من أهـل الفتن

يأيّها الأشرافُ مـن أهـل اليمن

أضربكم ولا أرى أبا حـسن

أعني عليّاً وابنَ عـمّ الـمؤتَمَن

كفى بهذا حَزَناً مـن الحَـزَن


٤٢٧


فتناكل(١) عنه عليّعليه‌السلام رجاء أن بتبعه عمرو، فتبعه، فرجع أمير المؤمنين إليه مرتجزاً:

أنا الـغلام الـقرشـيّ المؤتمن

الماجدُ الأبلج ليـث كـالشطن(٢)

يرضى به السادة من أهل اليمن

[ من ساكني نجد ومن أهل عَدَن ](٣)

أبو الحسين فاعلمن وأبو الحسن

جاك يقـتاد العـنان والرسـن

فولّى عمرو هارباً، فطعنه أمير المؤمنين فوقعت في ذيل درعه، فاستلقى على قفاه وأبدى عورته، فصفح عنه أمير المؤمنين استحياء وتكرّماً.

فقال له معاوية: أحمد الله الذي عافاك، وأحمد استك الّذي وقاك.

ففي ذلك يقول أبو نؤاس:

فلا خير في دفع الأذى(٤) بمذلّة

كما ردّها يوماً بسوءته عمرو

ثمّ دعا أمير المؤمنين معاوية إلى البراز، فنكل عنه، فخرج بسر بن أرطاة طامعاً في عليّ، فصرعه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فاستلقى على قفاه وكشف عورته، فانصرف عليّعليه‌السلام .

فقال أهل العراق(٥) : ويلكم يا أهل الشام، أما تستحيون من معاملة المخانيث؟ لقد علّمكم رأس المخانيث عمرو في الحرب كشف الاساءة.

ولمّا رأى معاوية كثرة براز عليّ أخذ في الخديعة، فأنفذ عمرو إلى ربيعة

__________________

١ - أي نكص وأظهر الجبن.

٢ - الأبلج: المشرق الوجه أو منفصل الحاجبين. والشطن: الحبل المضطرب أو الطويل.

٣ - من المانقب، وليس فيه العجز الأخير: « جاك يقتاد ».

٤ - في المناقب: الردى.

٥ - نسب هذا القول في المناقب إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام .


٤٢٨


فوقعوا فيه، فقال: اكتب إلى ابن عبّاس وغرّه، فكتب:

طال البلاء فما يدرى له آسِ

بعد الإله سوى رِفق ابن عبّاسِ

فكان جواب ابن عبّاس:

يا عمرو حسـبك من خَدعٍ ووَسواسِ

فاذهب فمالك فـي ترك الهدى(١) آسِ

إلاّ بــوادر(٢) طعن فـي نحوركم

تشجى النفوس لـه فـي النقع إفلاسِ

إن عادت الحرب عدنا فالتمس هرباً

في الأرض أو سلّماً في الاُفق يا قاسي

ثمّ كتب إليه معاوية أيضاً:

إ نّما بي من قريش ستّة نفر: أنا وعمرو بالشام، وسعد وابن عمر في الحجاز، وعلي وأنت في العراق، على خطبٍ عظيم، ولو بويع لك بعد عثمان لأسرعنا فيه.

فأجابه ابن عبّاس:

دعوتَ ابن عبّاس إلى السلم خدعة(٣)

وليس لها حتى تموت بقابِل(٤)

____________

١ - كذا في المناقب، وفي الأصل: الأذى.

٢ - البوادر: جمع البادرة، طرف السهم من جهة النصل. وفي وقعة صفّين: ٤١٣: تواتر.

٣ - كذا في المناقب، وفي الأصل: بدعة.

٤ - في المناقب: بخادع. والأبيات طويلة وردت في وقعة صفّين: ٤١٦ منسوبة إلى الفضل ابن عبّاس.


٤٢٩


و كتب إلى عليّعليه‌السلام :

أمّا بعد، فإنّا لو علمنا أنّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لِمَ تجهّمنا بعضنا على بعض؟ وإن كنّا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا ما نرمّ(١) به ما مضى، ونصلح به ما بقي، وقد كنت سألتك الشام على ألاّ تلزمني لك طاعة ولا بيعة، فأبيتَ، وأن أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنّك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولاتخاف من الفناء الا ما أخاف، وقد والله رقّت الأجساد، وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض يستذلّ به عزيز، ويسترقّ به حرّ.

فأجابه أمير المؤمنينعليه‌السلام :

أمّا قولك إنّ الحرب قد أكلت العرب الا حشاشات أنفس بقيت، ألا ومن أكله الحقّ فإلى النار، وأمّا طلبك إليّ الشام فإنّي لم أكن لاُعطيك [ اليوم ](٢) ما منعتك أمس، وما استواؤنا في الخوف والرجاء(٣) ، فلست أمضي على الشكّ منّي على اليقين، وليس أهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة.

وأمّا قولك إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن، وليس اُميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطّلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الطليق كالمهاجر، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحقّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل، وفي أيدينا فضل النبوّة الذي أذللنا به العزيز، وأنعشنا به الذليل، وبعنا بها الحرّ.

____________

١ - في المناقب: نصلح. وكلاهما بمعنى واحد.

٢ - من المناقب.

٣ - في المناقب: والرضا.


٤٣٠


وأمر معاوية ابن خَديج الكندي أن يكاتب الأشعث، والنعمان بن بشير أن يكاتب قيس بن سعد في الصلح، ثمّ أنفذ عمراً وحبيب بن مسلمة والضحّاك بن قيس إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلمّا كلّموه قال: أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله، فإن تجيبوا إلى ذلك فللرشد أصبتم، وللخير وفّقتم، وإن تابوا لم تزدادوا من الله الا بعداً.

فقالوا: قد رأينا أن تنصرف عنّا فنخلّي بينكم وبين عراقكم، وتخلّون بيننا وبين شامنا، فتحقن(١) دماء المسلمين.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : لم أجد إلا القتال أو الكفر بما اُنزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ برز الأشتر وقال: سوّوا صفوفكم.

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : أيّها الناس، من بيع يربح في هذا اليوم - في كلام له - ألا إنّ خضاب النساء حنّاء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير في عواقب الاُمور، ألا إنّها إحن بدريّة، وضغائن اُحديّة، وأحقاد جاهليّة، ثم قرأعليه‌السلام :( فَقَاتِلُوا أئمَّةَ الكُفرِ إنَّهُم لَا أيمَانَ لَهُم لَعَلَّهُم يَنتَهُونَ ) (٢) .

ثم تقدّمعليه‌السلام وهو يرتجز:

دُبّوا دَبيبَ النَمل لا تفوتوا

وأصبحوا في حربكم وبيتوا

كيما تَنالوا الدين أو تَمُوتوا

أو لا فإنّي طالما عُـصيتُ

__________________

١ - في المناقب: فنحن نحقن.

٢ - سورة التوبة: ١٢.


٤٣١


قد قلتم لو جئتنا فجيتُ(١)

ثمّ حملعليه‌السلام في سبعة آلاف(٢) رجل فكسروا الصفوف.

فقال معاوية لعمرو: اليوم صبر وغداً فخر.

فقال عمرو: صدقت، ولكنّ الموت حقّ، والحياة باطل، ولو حمل عليّ في أصحابه حملة اُخرى فهو البوار.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : فما انتظاركم إن كنتم تريدون الجنّة؟

فبرز أبو الهيثم بن التيهان قائلاً:

أحمد ربّي فهو الحميد

ذاك الّذي يفعل ما يريد

دين قويم وهو الرشيدُ

فقاتل حتى قُتل.

و برز عمّار بن ياسر، وكان له من العمر ثمانون سنة، فجعل يقول:

اليوم نلقى الأحبّه

محمداً وحزبه

والله والله لو قتلونا حتى بلغوا بنا سعفاتِ هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وهم على الباطل، وهو الّذي قال رسو اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّه: « عمّار جلدة بين عيني، تقتله الفئة الباغية لانالهم شفاعتي »(٣) ، فقاتل

____________

١ - انظر ديوان الامام علي بن أبي طالب ( طبعة دار الكتاب العربي ): ٥٤ ففي آخره:

قد قلتم لو جئتنا فجيتُ

ليس لكم ما شئتم وشيتُ

بل ما يريدُ المحييُ المميتُ

٢ - في المناقب: في سبعة عشر ألف.

٣ - انظر الأحاديث الغيبيّة: ١ / ٢١٨ - ٢٢٨.


٤٣٢


حتى قُتِل.(١)

و برز خزيمة بن ثابت الأنصاري قائلاً:

كم ذا يُرجّي أن يعيشَ الماكثُ

والناس موروث ومنهم وارث

هذا عليٌَ مَن عَصاه ناكثُ(٢)

فقاتل حتى قتل.

وبرز عديّ بن حاتم قائلاً:

أبعد عمّارٍ وبعد هاشم

وابن بُديل صاحب المَلاحم

ترجو البقاءَ من بعد يا ابن حاتم(٣)

فما زال يقاتل حتى فقئت عينه.

وبرز الأشتر قائلاً:

سيروا إلى الله ولا تعرّجوا

دينٌ قويم وسبيل مُنهَج(٤)

وقتل جندب بن زهير، فلم يزالوا يقاتلوا حتى دخلت وقعة الخميس وهي ليلة الهرير، وكان أصحاب عليّعليه‌السلام يضربون الطبول من أربع جوانب عسكر معاوية، ويقولون: عليّ المنصور، وهوعليه‌السلام يرفع رأسه إلى السماء ساعة بعد ساعة ويقول: اللّهمّ إليك نقلت الأقدام، وإليك أفضت القلوب، ورفعت الأيدي، ومدّت الأعناق، وطلبت الحوائج، وشخصت الأبصار. اللّهمّ افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين.

____________

١ - قوله: « وبرز عمّار حتى قُتِل » لم يرد في المناقب.

٢ - انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين: ٣٩٨.

٣ - انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين: ٤٠٣.

٤ - انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين: ٤٠٤.


٤٣٣


وكانعليه‌السلام يحمل عليهم مرّة بعد مرّة ويدخل في غمارهم ويقول: الله الله في البقيّة، الله الله في الحرم والذرّيّة، فكانوا يقاتلون أصحابهم بالجهل، فلمّا أصبح صلوات الله عليه كان القتلى من عسكره أربعة آلاف رجل، وقتل من عسكر معاوية اثنتين وثلاثين ألفاً، فصاحوا: يا معاوية، هلكت العرب، فاستغاث بعمروٍ، فأمره برفع المصاحف.

قال قتادة: كانت القتلى يوم صفّين ستّون ألفاً. وقال ابن سيرين: سبعون ألفاً، وهو المذكور في أنساب الأشراف، ووضعوا على كلّ قتيل قصبة، ثمّ عدّوا القصب.(١)

قلت: أعظم بها فتنة يملّ من رصفها البنان، ويكلّ عن وصفها اللسان، ويخفق لذكرها الجنان، ويرجف لهولها الانسان، طار شررها فعمّ الآفاق، وسطع لهبها فعمّ بالاحراق، وارتفع رهج سنابكها فبلغ أسباب السماء، وضاقت سبيل مسالكها فانسدّ باب الرجاء.

يالها فتنة اطّيّرت رؤوس رؤوسها عن أبدانها، وابترت نفوس قرومها بخرصانها، وبرقت بوارق صفاحها في غمائم عبرتها، وضعفت رواعد هزبر أبطالها في سحائب مزنها، قد كفر النقع شمسها، وأخرس الهول نفسها، وأبطلت مواقع صفاحها حركات أبطالها، وصبّغت أسنّة رماحها أثباج رجالها بحرباتها، لا يسمع فيها إلا زئير اُسد غابها سمر القنا، ولا ترى منها إلا وميض بريق مواضي الأسنّة والضبا، كم افترست ثعالب عواملها ليثاً عبوساً؟ وكم اخترمت بحدود مضاربها أرواحاً ونفوساً؟ وكم أرخصت في سوق قيامها على ساقها نفيساً؟ وكم أذلّت بتواصل صولات حملات

__________________

١ - مناقب ابن شهراشوب: ٣ / ١٧٤ - ١٨١، عنه البحار: ٣٢ / ٥٨٠ - ٥٨٩.


٤٣٤


قرومها رئيساً؟

أبدان الشجعان ضرام وقودها، وأجساد الأمجاد طعام حديدها، ما صيحة عاد وثمود بأهول من وقعة صفعتها، ولا ظلّة أصحاب الأيكة بأصحى من ظلمة ظلّتها، طفى نحرها فأعرق، واضطرم جرها فأحرق، وعمّ قطرها فاجتاج فرعها وأصلها، ودارت رحى منونها فطحنت خيلها ورجلها، صبح عادياتها يذهل السامع، وقارعة قوارعها تصخّ المسامع، تزلّ الأقدام لتكاثر زلزالها، ويحجم الأبطال لخطر نزالها، اختلط خاثرها بزبادها، واُشبهت أمجادها بأوغادها، وموافقها بمنافقها، ومخخالفها بموالفها، ودنيّها بشريفها، وصريحها بحليفها، وبرّها بفاجرها، ومؤمنها بكافرها، فئة تقاتل في سبيل الله واُخرى كافرة، وفرقة تبتغي عرض الحياة الدنيا وفرقة ترجو ثواب الآخرة.

قد فتحت أبوا بالجنان لأرواح بذلت وسعها في طاعة ربّها ووليّها، وشجرة دركات النيران لأنفس أخلفت عهد إمامها ونبيّها، طالت ليلة هريرها فكم حلايلاً تمت؟ واضطربت حطمة سعيرها فكم أطفالاً أيتمت؟ امتدّت ظلمتها، واشتدّت سدفتها، وثلمت صفاحها، وحطمت رماحها، وعلا ضجيجها، وارتفع عجيجها، وتكادمت فحولها، وتصادمت خيولها، وتزأّرت آسادها، وتقطّرت أمجادها.

وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام نجمها الثاقب، وسهمها الصائب، وليثها الخادر، وعينها الهامر، وبحرها الزاخر، وبدرها الزاهر، كم أغرق في لجّة بطشه منافقاً؟ وكم أخرق بشهاب سيفه متنافقاً؟

جبريل في حروبه مكتب كتابته، وميكائيل في وقائعه يعجب من


٤٣٥


ضرائبه، وملك الموت طوع أمر حسامه، وروح القدس يفخر بثبات جأشه وإقدامه.

كم فلّ بحدّ غضبه حدّاً؟ وكم قدّ بعزم ضربه قدّاً؟ وكم عفّر في الثرى بصارمه جبيناً وخدّاً؟ وكم بني للاسلام بجهاده فخراً ومجداً؟

اُمثّله في فكرتي، واُصوّره في سريرتي، في حالتي مسيره بكتائبه إلى خصمه، وجلوسه على وسادته لنشر غرائب علمه، طوداً يقلّه طرف، وبحراً يظلّه سقف، إن تكلّم بيّن وأوضح، وإن كلم هشم وأوضح، يقط الأصلاب بضربه، ويقصّ الرقاب في حربه، آية الله في خلقه، ومعجز النبيّ على صدقه، ومساويه في وجوب حقّه، ومضاهيه في خَلقه وخُلقه، أفضل خلق من بعده، وأشرف مشارك له في مجده، كلّ من الرسل الاُولى عاتبه ربّه على ترك الأولى ؛ قال سحانه في آدم:( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (١) ، وفي نوح:( إنّي أعِظُكَ أن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (٢) ، وفي الخليل:( قَالَ أوَلَم تُؤمِنْ ) (٣) ، وفي الكليم:( فَعَلتُها إذاً وَأنَا مِنَ الضَّالِّين ) (٤) ، وفي داود:( وَظَنَّ دَاوُدَ أنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (٥) ، وفي سليمان:( إنّي أحبَبتُ حُبَّ الخَيرِِ عَن ذِكرِ رَبِّي ) (٦) ، وفي يونس:( وَذَا النُّونِ إذ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أن لَن نَقدِرَ عَلَيهِ ) (٧) .

وأمير المؤمنين باع نفسه من ربّه، وحبس قلبه على حبّه، ووقف

__________________

١ - سورة طه: ١٢١.

٢ - سورة هود: ٤٦.

٣ - سورة البقرة: ٢٦٠.

٤ - سورة الشعراء: ٢٠.

٥ - سورة ص: ٢٤.

٦ - سورة ص: ٣٢.

٧ - سورة الأنبياء: ٨٧.


٤٣٦


جسده على طاعته، وفرغ روحه لمراقبته، أطلعه سبحانه على جلال عظمته، وكمال معرفته، وسقاه من شراب حبّه، واختصّه بشرف قربه، فما في فؤاده الا إيّاه، وما في لسانه إلا ذكراه، يفني وجوده في شهوده إذا هو ناجاه، ويصفو أبحر ندّه في سجوده عمّا سواه، قد استشعر لباس المراقبة، وحاسب نفسه قبل المحاسبة.

يأنس بالظلام إذا الليل سجى، ويستضيء بأنوار الكشف إذا الغسق دجا، ويستوحش من الخلق في حال خلوته مع حبيبه، ويستنشف نفحات الحقّ إذ هو كمال مطلوبه، رقي لقدم صدقه صفوف الكروبيّين بروحانيّته، وطار بقوادم عشقه ففات أشباح الصافّين الحافّين بإخلاص محبّته، جذبته يد المحبّة بزمام العناية إلى حضرة معشوقه، وأزاحت كدورات الطبيعة عن مسالك طريقه، حتى إذا آيس من جانب طور قيّوم الملكوت أنوار عظمته، واستأنس بمناجاة صاحب العزّة والجبروت واطّلع على أسرار إلهيّته، وقرع بيد إخلاصه شريف بابه، وأصغى بصماخ( وَتَعِيَهَا اُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (١) إلى لذيذ خطابه، وأشعر قلبه لباس الخضوع بين يديه، وأحضر لبّه جلال من وجّه مطايا عزمه إليه، وشاهد بعين يقينه عزّه هيبة سلطانه، وقطع العلائق عمّا سوى القيام بشروط الخدمة لكبرياء عظم شأنه.

كشف فياض العناية به الحجاب عن جلال كمال عزّته، ورفع النقاب عن ذلك الجناب فأدرك بكمال عرفانه بهجة حضرته، أجلسه على بساط المنادمة في غسق الدجا، وناجاه بلسان المحبّة وقد برح الخفا، وسقاه بالكأس الرويّة من شراب( يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ ) (٢) ، ويثب في مدارج السلوك إلى عين اليقين

__________________

١ - سورة الحاقّة: ١٢.

٢ - سورة المائدة: ٥٤.


٤٣٧


يقينه، وتوّجه بتاج( إنَّمَا وَلِيُّكُمُ ) (١) ، ونفعه نحلة( وَأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم ) (٢) ، وجعل له الرئاسة العامّة في خلقه، وقرن طاعته بطاعته، وحقّه بحقّه، وأثبت في ديوان الصفيح الأعلى منشور عموم ولايته، ووقّع بيد القدرة العليا توقيع شمول خلافته، يطالع رهبان صوامع العالم الأشرف في اللوح المحفوظ أحرف صفاته، ويصغي بصماخ توجّهاتها إلى لذيذ مناجاته، فتحتقر شدّة كدحها في طاعة ربّها في حبّ طاعته، وترى عبادتها لمبدعها كالقطرة في اليمّ في جانب عبادته.

باهى الله به ليلة الفراش(٣) أمينيه جبرئيل وميكائيل، وناداهما بلسان الابتلاء وهو العالم من أفعال عباده بكلّ دقيق وجليل: إنّي قد جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر أخاه بالزيادة؟ فكلّ منهما بخل ببذل الزيادة لأخيه، وتلكّأ عن جواب صانعه ومنشيه، فأوحى إليهما: هلّا كنتما كابن أبي طالب؟! فإنّه آثر أخاه بالبقيّة من أجَله، وبات مستاقا(٤) بسيوف الأعداء من أجله، اهبطا إلى الأرض فاحسنا كلاءته وحفظه، وامنعاه من كيد عدوّه في حالتي المنام واليقظة.

وكذلك يوم اُحد وقد ولّوا الأدبار، واعتصموا بالفرار، وأسلموا الرسول إلى الجبن، ولم يعد بعضهم إلا بعد يومين، هذا ووليّ الله يتلقّى عنه السيوف

__________________

١ - سورة المائدة: ٥٥.

٢ - سورة الأنعام: ١٥٣.

٣ - حديث مبيت أمير المؤمنين عليعليه‌السلام على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأحاديث المتواترة والمشهورة، انظر: الفصول المائة في حياة أبي الأئمّة: ١ / ٢٢٧ - ٢٦٣ فقد أوفى الكلام في هذا الحديث.

٤ - كذا في الأصل.


٤٣٨


بشريف طلعته، ويمنع عوامل الحتوف بشدّة عزمته، حتى باهى الله يومئذ ملائكته ببطشه القويّ، ونادى منادٍ من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى الا عليّ.

وفي بدر إذا التقى الجمعان، واصطدم الفيلقان، وشخصت الأعين، وخرست الألسن، وجبت الجيوب، ووجبت القلوب، كان صلوات الله عليه وآله قاصم أبطالها، وميتّم أشبالها، وليث ناديها، وصل داريها، صبّ الله بشدّة بطشه على أعدائه سوط عذابه، وأنزل بالملحدين في آياته من صولة سطوته وخيم عقابه.

صاحب بطشتها الكبرى، وناصب رايتها العظمى، جعل الله الملائكة المسوّمين فيها من جملة حشمه وجنده، ولواء الفتح المبين خافقاً على هامة رفعته ومجده، وشمس الشرك ببدر وجهه مكوّرة، وجموع البغي بتصحيح عزمه مكسّرة، وهل أتاك نبأ الخصم الألدّ؟ أعني مقدام الأحزاب عمرو بن ودّ، البطل الأعبل، وفارس يليل، إذ أقبل برز كالليث القرم، ويهدر كالفحل المغتلم، ويصول مدلّاً بنجدته، ويجول مفتخراً بشدّته، ويشمخ بأنفه كبراً، ويبذخ بخدّه صعراً، قد تحامته الفرسان خوفاً من سطوته، وأحجمت عنه الشجعان حذراً من صولته، وانهلعت قلوب الأبطال لمّا طبق الخندق بطرفه، وذهلت عقول الرجال لمّا شزرهم بطرفه، كالأسد الكاسر في غابه، أو النمر الكاشر عن نابه، فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وأحجمت الأنصار لمّا سمعت زئير الأسد المبادر، وامتدّت نحوه الأعناق، وشخصت إليه الأحداق، وخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، وهو يؤنّب بتعنيفه، ويجبر بتأفيفه.

فعندها أشرق بدر الحقّ من شفق الفتوّة، وطلعت شمس المجد من برج


٤٣٩


النبوّة، وأقبل علم الاسلام يرفل في ملابس الجلال، وتبدّى نور الايمان يخطر في حلل الكمال، كالطود الشامخ في مجده، أو البحر الزاخر عند مدّه، قد أيّده الله بروح قدسه، وأوجب من ولائه ما أوجب من ولاء نفسه، وأيّده بالعصمة التامّة، وشرّفه بالرئاسة العامّة، كالقمر المنير في كفّه شهاب ساطع، أو الموت المبير إذا علا بسيفه القاطع، حتى إذا قارنه وقاربه وشزره بطرفه عند المصاولة علاه بمشحوذ العذاب لو علا به رضوى لغادر كثيباً مهيلاً، ولو أهوى به على أكبر طود في الدنيا لصبّره منفطراً مقلولاً، فخرّ كالجذع المنقعر، أو البعير إذا نحر، يخور بدمه، ويضطرب لشدّة ألمه، قد سلبته ملابس الحياة أيدي المنيّة، وكسته من نجاح دمه حلّة عدميّة، وكفى الله المؤمنين القتال بوليّه المطلق، صدّيق نبيّه المصدّق، الّذي أعزّ الله الاسلام وأهله بعزمه، وأذلّ الشرك وجنده بقدمه.

فيا من كفر بأنعم ربّه، وأجلب بخيله ورجله على حربه، ورابطه مصابراً، وعانده مجاهراً، وأظهر نفاقه الكامن، وغلّه الباطن، ألم يكن أبوك في تلك المواطن رأساً للمشركين؟ ألم يكن في حرب نبيّه ظهيراً للكافرين؟ ألست ابن آكلة الأكباد البغيّة؟ ألست زعيم العصابة الأمويّة؟ ألست فرع الشجرة الملعونة؟ ألست رأس الاُمّة المفتونة؟ أليس قائد احزاب المشركين أباك؟ أليس أوّل المبارزين في بدر جدّك وخالك وأخاك، اُديرت كؤوس المنون بيد وليّ الله عليهم، وبطرت الحتوف من كثب إليهم، وأنزل سبحانه( فَاضرِبُوا فَوقَ الأَعناقِ وَاضرِبُوا مِنهُم كُلَّ بَنَانٍ ) (١) منهم ذلك بما قدّمت أيديهم، قلبت أشلاءهم بعد الموت في القلب،( وَلَو تَرَى إذ فَزِعُوا فَلَا فَوتَ

__________________

١ - سورة الأنفال: ١٢.


٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592