علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد
0%
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: الصفحات: 240
المشاهدات: 31456
تحميل: 13954
توضيحات:
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
الاعتراف بحقَّانيَّتها.
أضف إلى ذلك أنَّ الإسلام يسمح لغير المسلمين، المقيمين في المجتمع الإسلامي، أن يطبِّقوا شرائعهم في ما بينهم (1) ، ولا يعني ذلك، بأيِّ وجه، إمضاء الإسلام لهذه الشرائع إلاّ عند أصحابها.
د - اشتهر على لسان كثير من علماء المسلمين مقولة: "الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق" (2) .
وهذه المقولة التي لا تستند، بحسب تتبُّعي، إلى نص مأثور عن النبي (صلَّى الله عليه وآله)، أو غيره من المعصومين (عليهم السلام).
ويمكن أن يُفهم منها أحد معنيين:
المعنى الأول:
هو أنَّ الله يقبل من الإنسان أيَّ دين يختاره للتديُّن به والوصول إليه، وهذا هو ما يريده دعاة التعدُّدية بهذا المعنى الذي نعالجه الآن. ولكن هذا التفسير هو أحد احتمالين، وليس المعنى الوحيد، بل لعلنا نجد في المأثور ما يتنافى معها، كالحادثة المشهورة عن النبي (صلَّى الله عليه وآله)؛ حيث يروي ابن مسعود: "خطَّ لنا
____________________
(1) نجم الدين المعروف بـ "المحقِّق الحلِّي"، شرائع الإسلام، ط 1، بيروت، مؤسَّسة الوفاء، 1983، ج 4، مج 2، ص 934. وقارن محمد رضا الكلبايكاني، الدر المنضود، ط 1، قم، دار القرآن الكريم، 1412هـ، ج 1، ص 943.
(2) وردت هذه العبارة عند كثيرين، منهم: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ط 1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ج 64، ص 137. وملا هادي السبزواري، شرح الأسماء الحسنى، قم، بصيرتي، لا ت، ج 1، ص 145. ومصطفى الخميني، تفسير القرآن الكريم، ط 1، طهران، العروج، ج 2، ص 127. وقد وردت كعنوان لرسالة من تأليف أحمد بن عمر المعروف بنجم الدين الكبرى، في رسالة منسوبة إليه بعنوان: رسالة الطرق، افتتحها بقوله: "والطرق إلى الله بعدد أنفاس...".
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يوماً خطَّاً، ثُمَّ قال: (هذا سبيل الله)، ثُمَّ خطَّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثُمَّ قال: (هذه سُبُل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)، ثُمَّ تلا قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (1) .
وكذلك قول الله سبحانه في القرآن: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) (2) .
وكذلك الرواية المشهورة عن النبي (صلَّى الله عليه وآله)، حيث يقول: (اليمين والشمال مضلَّة، والطريق الوسطى هي الجادة) (3) .
المعنى الثاني:
ويبدو أنَّ الأوفق بالمعروف من الذهنية الإسلامية، بل كل أصحاب الأديان الذين يعتقدون أنَّ الدين الذي يؤمنون به هو الحق من عند ربهم، وبالتالي، لا يتسنَّى لهم القبول باتباع غيره من الأديان. وهذا المعنى هو أنَّ سُبُل الهداية إلى الله والدين الحق متعدِّدة، فمن الناس مَن يُؤمن بعد رؤية المعجزات، ومنهم مَن يُؤمن بعد التأمُّل الفكري في صحة المفردات التي يدعو
____________________
(1) الأنعام: 153. والرواية نقلها عدد من المحدِّثين، منهم: الدارمي في سُنَنِه، ج 1، ص 67، وأحمد في مسنده، ج 1، ص 425.
(2) آل عمران: 85.
(3) ابن أبي جمهور الإحسائي، عوالي اللآلي، ج 4، ص 110.
إليها هذا الدين، وهكذا.... وبناءً عليه، لا يمكن استفادة التعدُّدية بهذا المعنى من هذه المقولة.
3 - النظرية الثالثة: التعدُّد في سُبُل النجاة
يُراد من هذا المعنى من معاني التعدُّدية أنَّ الله - سبحانه - يقبل من المكلَّف الذي بذل جهده للوصول إلى الحق، واستنفد طاقاته المتاحة له لذلك، إلاّ أنَّه لم يحالفه التوفيق. ويبدو أنَّ هذا المعنى، من المعاني التي تملك مبرِّراتها في الإطار الإسلامي، بل هو من البديهيات الواضحة في بعض مصاديقه؛ وذلك لأنَّ الإسلام لم يحصر سُبُل النجاة بدين واحد - على الأقل - قبل بعثة النبي محمد (صلّى الله عليه وآله).
ومن هذه الآيات: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ...) (1) ، وغيرها ممَّا قد يُعثر عليه المتتبِّع، إلاّ أنَّ هذه الآيات وردت في مقام الدعوة إلى الدين الحق وضرورة اتباعه.
وفي مثل هذا المقام، لا يمكن لأيِّ معتقِد بصحة أفكاره، إلاّ
____________________
(1) آل عمران: 19.
أن يبيِّن صَحَّتها وبطلان غيرها. والدعوة إلى الحق تقتضي ذلك أيضاً، ولكن هذا شيء، والحكم على بعض الناس الذين لم يتيسَّر لهم السير في طريق النجاة شيء آخر. وهذا الأخير هو محلُّ كلامنا.
الكنيسة والنجاة:
لقد آمنت الكنيسة المسيحية بأنَّ النجاة محصورة بالمسيح، وبالقيام ببعض الأفعال الخاصة، كالعمادة مثلاً. ومن هنا، فلم تحكم حتى على بعض الأنبياء الذين تحترمهم، بالنجاة والفلاح، كإبراهيم مثلاً؛ لأنَّه لم يُؤدِّ الطقس الكنسي الخاص (1) . ووُجِدت تياراتٌ وآراءٌ أكثر تساهلاً، لكنَّها، على أيِّ حال، حصرت النجاة بالمسيح عِبر مقولة المسيحيين المجهولين.
الإسلام والنجاة:
يمكن التنظير لمقولة النجاة لغير المسلمين في الإطار الإسلامي من خلال عدَّة منطلقات، بعضها يرجع إلى الموروث الديني المنقول، وبعضها يستند إلى اجتهادات كلامية أو أصولية تركِّز مقولة التعدُّدية بهذا المعنى الذي نبحث عنه راهناً في هذه المقولة:
____________________
(1) انظر: محمد لغنهاوزن، مجلَّة "كتاب نقد" الإيرانية، ع 4، ص 41.
قوى الإدراك، والأشياء المدرَكة" (1) ، مهمِلة سائر الموضوعات التي كانت الشغل الشاغل للفلاسفة في عصور سابقة، كالميتافيزيقا مثلاً.
ومن بين النظريات التي طُرحت في نظرية المعرفة نظرية نسبية المعرفة ، والدعوة إلى عدم الاطمئنان إلى أيِّ يقين يتوصَّل إليه الإنسان في بحثه عن المعرفة. وربَّما يمكن تصنيف عدد من الأفكار تحت هذا العنوان.
أ - الاتجاه الكانطي:
لقد ميَّز كانط (1724 - 1804) في مجال المعرفة بين أمرين، هما: "الشيء في ذاته" و "الشيء كما يبدو لنا"، وبناءً على هذا المبنى المعرفي لا يتيسَّر للإنسان معرفة ماهيَّات الأشياء وحقائقها كما هي، بل يعرفها من خلال ما تظهر له (2) . وبعبارةٍ أخرى، فَصَل كانط بين موضوع المعرفة وبين فاعل المعرفة (3) ، ويظهر جليَّاً من هذا الطرح الكانطي نوع من النسبية في المعرفة، أو على الأقل استفيد منها للوصول إلى ذلك.
ولعل المطَّلع على ما طرحه المناطقة المسلمون في باب التعريف، يجد نوعاً من التشابه بين كلامهم وكلام كانط؛ حيث إنَّهم اعترفوا بعدم إمكان الاطلاع على حقائق الأشياء للوصول إلى تعريف دقيق لها: "... إنَّ المعروف
____________________
(1) توفيق الطويل، أسس الفلسفة، ط 6، القاهرة، دار النهضة العربية، 1976، ص 51.
(2) مجاهد عبد المنعم مجاهد، الموسوعة الفلسفية العربية، م س، مج 1، ص 526.
(3) كريم مجتهدي، نگاهى به فلسفه هاى جديد ومعاصر در جهان غرب [نظرة إلى الفلسفات الحديثة والمعاصرة في الغرب]، ط 1، طهران، أمير كبير، 1373ه.ش، ص 142.
عند العلماء، أنَّ الاطلاع على حقائق الأشياء وفصولها من الأمور المستحيلة أو المتعذِّرة" (1) . وعلى هذا يبتني كل تصريح باليأس من العثور على تعريف لظاهرة ما (2) .
كما ويشبه كلام كانط أيضاً ما تفتَّقت عنه عبقرية الشهيد الصدر الفذَّة من ابتكاره لمصطلح اليقين الذاتي في مقابل اليقين الموضوعي. ويُقصد بالأول: اليقين بما هو حالة نفسية يتَّصف بها الإنسان المتيقِّن؛ سواء امتلك هذا اليقين مبرِّراً موضوعياً أم لم يمتلك. وبالثاني: اليقين الذي يستند إلى مُعطيات خارجية (3) .
والفرق بين هذه الموارد من الفكر الإسلامي وبين نظام المعرفة الكانطي أنَّها لا تتنافى مع إمكان المعرفة ضمن حدود معينة، بخلاف ما ينسب إلى كانط من إنكار إمكانية الوصول إلى معرفة صافية. ولا نريد في هذه المقالة التعرُّض للردود التي وُجِّهت إلى المذهب الكانطي في المعرفة، ولمَن يريد ذلك مراجعة الكتب المتخصِّصة في هذا المجال (4) .
ويتَّضح الموقف الفلسفي في الإطار الإسلامي بملاحظة تحليلات الفلاسفة المسلمين لمسألة الوجود الذهني؛ حيث لا يقبلون أيَّ نوع من الاختلاف بين عالم الواقع وعالم الذهن. ويرون في ذلك سفسطة وبُعداً عن الواقع، وجهلاً.
____________________
(1) محمد رضا المظفر، المنطق، لا ط، بيروت، دار التعارف، 1980م، ص 101.
(2) كاظم الخراساني، كفاية الأصول، ط 1، بيروت، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، ص 348.
(3) محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، ط 1، بيروت، دار المنتظر، 1985م، مج 2، ص 39.
(4) محمد باقر الصدر، فلسفتنا، ط 15، بيروت، دار التعارف، 1989، ص 126 وما بعدها.
يقول الطباطبائي في سياق ردِّه لنظرية مَن ينكر الوجود الذهني: "وهذا [القول بأنَّ العلم هو عبارة عن صورة تشبه الواقع المعلوم] في الحقيقة سفسطة ينْسَدُّ معها باب العلم بالخارج من أصله" (1) ؛ ويعلِّل ذلك في الهامش بقوله: "لمغايرة الصور الحاصلة عند الإنسان لِمَا في الخارج مغايرة مطلقة، فلا علم بشيء مطلقاً، وهو السفسطة" (2) .
ب - لا حتمية هايزنبرغ:
طرح هايزنبرغ في مجال الفيزياء نظريةً سَرَتْ إلى المعرفة والفلسفة، وتركت آثارها على الفلسفة المعاصرة بشكل واسع. وحاصل هذه النظرية، هو: إنَّنا لا نستطيع معرفة موقع الإلكترون الذي يدور حول نواة الذرة إلاّ إذا سلَّطنا عليه الضوء، وعندما يصطدم الإلكترون بالفوتون يأخذ قسطاً منه، فتزداد سرعته، فيلتبس علينا موقعه. ويشبِّه أحد الفيزيائيين هذه الظاهرة بقطة عالقة في قبوٍ مُظلم نريد معرفة موقعها في هذا القبو، ولا يمكننا ذلك إلاّ بتسليط الضوء عليها من ثقب صغير في باب القبو، ومن الطبيعي أنَّنا عندما نفعل ذلك سوف تهرب إلى زاوية أخرى غير التي كانت فيها (3) . والنتيجة الأبرز لهذه النظرية الفلسفية هي التنازل الكامل عن دعوى إمكانية تحصيل
____________________
(1) محمد حسين الطباطبائي، بداية الحكمة، بيروت، مؤسَّسة أهل البيت، 1986، ص 36.
(2) المصدر نفسه، ص 36.
(3) انظر: محمد عابد الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم، ط 4، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1998، ص 381.
معرفة موضوعية، بل كل معرفة من المعارف؛ سواء في العلوم الطبيعية أم في غيرها من العلوم، يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، ونتيجة المعرفة بأدوات قياسها ومقدِّمات الوصول إليها.
والتعليق الذي يمكن أن يوجَّه إلى الاستفادة المعرفية من هذه النظرية هو: أنَّه لا مبرِّر للخلط بين مجال الفيزياء وغيرها من المجالات العلمية الأخرى، فإذا كان موقع الإلكترون لا يتحدَّد إلاّ بعد تدخُّل أجهزة القياس، فلماذا نفرض الموقف نفسه على كل معرفة؟! وهذا الالتباس المعرفي هو عين ما وقعت بعد نظرية داروين في التطوُّر؛ حيث نُقِل التطوُّر - على فرض صحَّته - من عالم الطبيعة، إلى عالم الفلسفة والأخلاق وغيرها (1) .
المنطلق الديني للتعدُّدية:
قد يستند دعاة التعدُّدية الدينية - بهذا المعنى المبحوث عنه في هذا الفصل من المقالة - إلى مجموعة من الآيات القرآنية، سوف أحاول الإشارة إلى أهمِّها:
أ - قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (2) .
____________________
(1) لمزيد من التفاصيل راجع: عبد الكريم سروش، دانش وأرزش، ط 2، طهران، انتشارات ياران، 1385هـ.ش، ص 131.
(2) البقرة: 62.
عبد الحسين خسرو بناه (*)
تمهيد
إنَّ سعة ساحة الحوار والنقاش العلمي هي من العوامل المؤثِّرة في إغناء العلم والمعرفة في المجتمع، وإنَّ النمو الكمِّي والكيفي لأيِّ فكرٍ، هو وليد تضارب الآراء، وتبادل الأفكار. وتكامل علم الكلام، أيضاً، ليس استثناءً من هذه القاعدة. وقد أُتيح هذا المجال - بلطف الله - لمجتمعنا بعد انتصار الثورة، فاتسعت المساحة بشكل أكبر من خلال طرح الآراء والعقائد المختلفة في مجال علم الأديان وعلم الكلام الإسلامي، وخرجت هذه العلوم من حالة الخمود والجمود. وهذا النوع من التحرُّك العلمي أدَّى إلى التعمُّق أكثر في الأدلة والبراهين الدالة على وجود الله، وإلى دخول مسائل جديدة إلى ساحة علم الكلام الإسلامي، مثل: الوحي والإيمان، ومعيار الصدق في القضايا الدينية، ومسألة اللغة الدينية، وتعدُّدية الأديان، وغير ذلك.
____________________
* كاتب ومدرِّس في الحوزة العلمية - قم.
وهذه المقالة تحاول - باختصار - توضيح وتبيين ونقد، الآراء المختلفة في مجال الوحدة والكثرة في الأديان، رغم أنَّ تفصيل ذلك يحتاج إلى فرصة أخرى، ومقالات متعدِّدة.
إنَّ التعدُّدية ( Pluralism ) مذهب واتجاه أساسه ومبناه هو التعدَّد، والميل نحو الكثرة، والتعدُّدي ( Pluralist ) هو الشخص الذي يُؤمن بالكثرة، ووجود أكثر من حقيقة مطلقة، في مقابل مَن يعتقد بالوحدة، ويميل نحو نوع من الحصرية الدينية. وقد قُسِّم مذهب التعدُّدية هذا إلى: تعدُّدية أخلاقية ، وسياسية، ودينية .
تَعتبر التعدُّدية الأخلاقية أنَّ هناك أكثر من مبدأ ومعيار للحسن والقبح؛ ما يعني نسبية الأخلاق. وتبعاً لذلك، ضرورة التسامح والمداراة في ساحة العمل الفردي والجماعي. و التعدُّدية الاجتماعية هي إحدى مباحث فلسفة العلوم الاجتماعية، وهي تعتقد أنَّ المجتمع قائم على أساس مجموعات قومية، أو عرقية. وأمَّا التعدُّدية السياسية ، فهي أحد المبادئ الأساسية للديمقراطية الليبرالية، وهي تُؤمن بتقاسم السلطة السياسية بين الجماعات والمنظمات المستقلة عن الحكومة لتشارك في الساحة السياسية.
في العصور الماضية لم تكن الأديان والمذاهب تتعرَّف إلى بعضها، وإذا كان هناك فعل أو ردُّ فعل فيما بينها، كان عادة قائماً على نوع من التعارض والصراع الديني، وقلَّما كان هناك بحث وحوار بينها للوصول إلى معرفة عميقة، أو للوصول إلى تفاهم. لكن القرن الأخير شهد بحوثاً علمية من أجل
الوصول إلى معرفة أدق بالأديان؛ وكان أول دواعي هذه البحوث وجود الدعاوى المتعارضة بين الأديان. وفي النتيجة، دخلت إلى فلسفة الدين مسألة جديدة.
وإذا أردنا أن نتكلَّم بشكل ملموس أكثر، فإنَّنا نواجه هذا السؤال: مع وجود فرضية قبلية هي الحصرية ( Exdusirism ) في الأديان السماوية
وغيرها، كيف يمكن أن نفتح طريق الفلاح بالنسبة لسائر الأديان؟
فمن البديهي أنَّ أيَّ شخص يُولد في أيِّ بلد، سيختار الدين والمذهب السائد هناك ويتبعه، وآراء جميع الأديان تختلف في باب غاية البشر وسعادتهم، وفي تبيان الحقائق المتعلِّقة بالله والإنسان.
يقول جون هيك ( Jhon Hick ): "يعتقد البعض أنَّ كل دين يستدل بعدة أدلة تَثبت صحَّتُه، وهكذا يحكم بعدم صحة الدين الآخر. وبالنتيجة، فإنَّ كل دين يمتلك دوماً أدلة أكثر من أجل إبطال دعوى الدين الآخر أكثر ممَّا يمتلك أدلة لإثبات مدعَّياته" (1) .
والأهم من كل ذلك، أنَّ أيَّ متكلِّم يُدرك بشكل بديهي حقيقةَ أنَّ هناك أديان ومذاهب أخرى، غير دينه ومذهبه، وعليه أن يُبدي وجهة نظره تجاهها، وأن يعرف خصائصها المميِّزة لها والمشترِكة مع غيرها، وأن يُوازن بينها من خلال تحديد صحتها وسقمها، وأن يستخدم الأساليب الحكيمة المقبولة للدفاع العقلائي عن المعتقدات الدينية الموجودة في النصوص المقدَّسة
____________________
(1) جون هيغ، فلسفة الدين، ترجمة: بهرام راد، ص 226.
لدينه، وأن يجيب بشكل منطقي عن الشبهات والاعتراضات التي يطرحها أتباع سائر الأديان والمذاهب. وعليه كذلك، الإجابة عن هذه الأسئلة: هل هناك طريق محدَّد للفلاح والسعادة وبلوغ الحقيقة من خلال جميع الأديان أم لا؟ وهل يمكن افتراض وجود جوهر واحد لجميع الأديان؟ وهل يمكن التوفيق بين الآراء المتضاربة للأديان من خلال الحوار أو النسبية، أو ما شابه ذلك؟
والأمر الذي يستحق الاهتمام هو أنَّهم قسَّموا التعدُّدية الدينية إلى قسمين: داخل الدين ، و خارج الدين .
التعدُّدية داخل الدين الواحد تعتقد أنَّ جميع التفاسير المختلفة للدين الواحد، والتي أدَّت إلى ظهور مذاهب وفِرق مختلفة، كلها حقيقية وتًُؤدِّي إلى السعادة. ومثل هذا الكلام ما جاء في نظرية التصويب عند الأشاعرة والمعتزلة؛ والتي تُؤدِّي إلى نوع من الجمع بين النقيضين أحياناً.
والتعدُّدية خارج الدين هي: الاعتقاد بأنَّ جميع الأديان المختلفة تشتمل على الحقيقة، وتُؤدِّي إلى السعادة.
و التقسيم الآخر للتعدُّدية هو: اعتقاد البعض بأنَّ الهدف والحقيقة متعدِّدان، بينما اعتقد آخرون أنَّ الهدف واحد، لكن طرق الوصول إلى ذلك الهدف وتلك الحقيقة متعدِّدة...
بعد طرح المسألة وشرحها، نبدأ بتوضيح الاتجاهات والاستنتاجات المختلفة التي قدَّمها فلاسفة الدين والمتكلِّمون. وقد تناول البروفسور ريتشار غلين ( Richards Glyn ) (رئيس مركز الدراسات الدينية في جامعة سترلينغ)
معظم هذه التفسيرات في كتابه (نحو إلهيَّات تعدُّدية الأديان) (1) . وقد قدَّم أحد أساتذة الحوزة والجامعة عرضاً لهذا الكتاب في العدد الأول من فصلية (الحوزة والجامعة)، وما نورده هنا يُركز على تلك المقالة، رغم أنَّه يُعرِّج على آراء بعض علماء إيران أيضاً.
الاتجاه الأول
وهو اتجاه الحوار بين الأديان. ومن أنصار هذه النظرة: جون هيك ، نينيان سمارت ( Ninian Smart )، و ويلفرد كنت ، و ول سميث ( Wilfred Cant Well Smith )، و رايموند وبانيكار ( Raimund and Panikkar ). وتعتقد هذه الجماعة بلزوم عدم دعوى الحصرية لمصلحة أيِّ دين من الأديان. ولابد من الانتباه إلى أنَّ المشاركة الوجدانية في الحوارات لن تُؤدِّي إلى زوال الصفاء العقائدي لأتباع الأديان فحسب، بل سوف تزيد ثقافتهم الدينية غنى وعمقاً (2) .
ويبدو أنَّ هذا الاتجاه أقرب إلى التسامح والتساهل منه إلى البحث الفلسفي والكلامي. وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ هذه النظرة هي نوع من اتجاه أخلاقي نفسي، وليس نتاجاً فلسفياً وكلامياً.
____________________
(1) Towards a Theology or Religions .
(2) راجع فصلية "حوزه ودانشگاه" [الحوزة والجامعة]، السنة 1، ع 1، ص 62، والسنة 2، ع 6، ص 53.
إنَّ مشكلتنا هي: هل سيتمكن جميع المؤمنين والمتدينين من نيل السعادة الحقيقية؟ أم أنَّ السعادة الحقيقية حكر على دين أو مذهب خاص؟ إنَّ اتجاه الحوار بين الأديان لن يقضي على الاختلافات القائمة في ميدان المعرفة الدينية مطلقاً؛ بل كل ما يُؤدِّيه هو إفادة بعض المتدينين، وإغناء المعرفة الدينية، والتقريب بين الأديان والمذاهب، وخلق نوع من التفاعل وسعة الصدر لدى الباحثين، وإزالة التوتُّر الاجتماعي لدى المتدينين، وفي النهاية يبقى سؤالنا من دون جواب.
والجدير بالذكر أنَّ أئمة الدين الإسلامي - وخصوصاً أئمة المذهب الشيعي - كانوا يولون المناظرة أهمية خاصة، وكانوا يحاورون ويناقشون معارضيهم بسعة صدر. يؤلِّبون أصحابهم إذا واجهوا معارضيهم بتصرف فظ أو غليظ. وفي هذا الجوِّ، ظهر علم المناظرة في التاريخ الكلامي الشيعي، عُرِّضت فيه الآداب الأخلاقية والمنطقية للحوار والمناظرة.
خلاصة الكلام، أنَّه ينبغي عدم الخلط بين التعدُّدية، والتسامح الديني؛ فالتسامح هو حل عملي من أجل التعايش المشترك، والسلم الاجتماعي. وبعبارةٍ أخرى، هو نوع من الحرية واحترام حقوق أتباع سائر الأديان، وهذا الحل يختلف عن التعدُّدية. نعم، الإنسان التعدُّدي ينجر في مقام العمل إلى نوع من التسامح أيضاً، وذلك لوجود الترابط النفسي بين المعتقَد والسلوك.
الاتجاه الثاني
ويطرح هذا الاتجاه جوابه عبر النسبية، فهذه الجماعة تخالف الإطلاق والاضطراد من جهة، ومن جهة أخرى - تبعاً لمعرفتها بالتحوُّلات التاريخية - تعتقد بأنَّ كل شيء عرضة للتحوُّل التاريخي، بما في ذلك الظواهر الثقافية، والآراء الدينية، والأخلاقية. وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ جميع الأديان بأشكالها المختلفة، تُؤمِّن وسيلة النجاة والفلاح للبشر. وعليه، ليس على البشر أن يبحثوا في الخلافات، بل عليهم أن يهتمُّوا بالقواسم المشتركة في ما بينهم، واجتناب ما يُفرِّقهم.
طرح هذا الجواب من قبل جماعة؛ منهم: أرنست تروليتش ( Ernst Trroeltsch ) عالم الكلام والفيلسوف الألماني (1865 - 1923)، و آرنولد توينبي ( ِ Arnold Toynbee ) المؤرِّخ وفيلسوف التاريخ البريطاني (1889 - 1975). وقد واجه هذا الجواب إشكالات (علم - معرفية وكلامية) عدَّة، منها:
الإشكال الأول:
إذا كانت هذه الفئة تميل إلى التحوُّل التاريخي لكل الظواهر، وكذلك إلى النسبية الواقعية والخارجية؛ عندئذٍ يجب عدم الأخذ بمقولة تدَّعى النجاة والفلاح، في حين أنَّ هذه المفاهيم هي الهدف النهائي لجميع المتدينين؛ لأنَّ هناك تصوُّراً ثابتاً عن مفهوم الهدف النهائي، لا يتناسب مع التحوُّل الشامل لدعاة النسبية.
الإشكال الثاني:
إنَّ ذلك يستلزم عدم التناسب بين التحوُّل الشامل، وقبول القواسم المشتركة بين الأديان. ولو كانت جميع ظواهر العالم متحوِّلة ومتغيِّرة، فكيف يمكن إيجاد أمر أو عدَّة أمور، مشتركة وثابتة في جميع الأديان، حتى نوصي المتدينين بها، ونلفت نظرهم نحوها؟
الإشكال الثالث:
وهو إشكال مبنائي؛ وهو أنَّ التحوُّل العام بين الظواهر، مرفوضٌ من قبل جميع المفكِّرين الواقعيين؛ لأنَّ أول ضحايا هذا التحوُّل ستكون نظرية النسبية لأصحاب هذا الاتجاه، وسوف يتبدَّل التحوُّل الشامل إلى ثابت.
الإشكال الرابع:
حتى الآن لم يثبت وجود أمر مشترك بين جميع الأديان، رغم وجود أوجه مشتركة بين بعضها؛ كالاعتقاد المشترك - إلى حد ما - بوحدانية الله تعالى، الموجود في الدينين اليهودي والإسلامي. لكن هذا الفهم للوحدانية لا يتناسب مع الفكر المسيحي، فتفسير المسيحيين لوحدة الله يتناسب مع فكرة التثليث أو الثالوث.
الاتجاه الثالث
وهو اتجاه جماعة، منهم: شلاير ماخر ( ٍٍٍٍٍٍٍ Schleier Macher) ، و كارل غوستاف يونغ ( Carl Gustav Jung ). وهو جواب جوهري؛ حيث قبل أولئك بضرورة الدين في وجود جوهر الدين.
يقول شلاير ماخر : "إنَّ تعدُّد الأديان أمر ضروري من أجل إظهار شمولية وكمال الوحدة السامية للدين؛ لأنَّ كل دين خاص يُجسِّم جزءاً من ذات وجوهر الدين الأزلي الأيدي" .
بينما اعتقد بعض آخر - مثل: هوكينغ ( Howching ) - بأنَّ جوهر الدين هو العناصر المشتركة بين الأديان، من دون أن يُؤكِّد على خصائص الأديان.
ويونغ أيضاً - والذي كان له موقف إيجابي من الدين خلافاً لفرويد - اعتبر أنَّ جوهر الدين هو الصحة النفسية للإنسان، واعتبره من العناصر الطبيعية للحياة البشرية.
ترد على هذا الاتجاه عدَّة إشكالات:
أولها : ما هو الدليل على وجود جوهر واحد للأديان؟ وبأيِّ طريق يمكن اكتشاف الجوهر الواحد لجميع الأديان؟
و الإشكال الثاني، هو: إذا كان وجود الصَّدَف (الصدف في مقابل الجوهر) غير ضروري للأديان، فجوهر الدين لا يمكن أن يدوم كذلك. وبعبارةٍ أخرى: حتى لو قبلنا بالتمايز بين صَدَفِ الأديان وجوهرها، ولكن لا يمكننا إنكار وجود الصَّدَف؛ لأنَّ كل إنسان متديِّن إذا أراد أن ينال جوهر دينه،
فليس له مفر من نيله عن طريق الصَّدَف. من هنا، فإنَّ هذا الاتجاه لا يحقِّق ما تريده التعدُّدية أيضاً؛ إذ إنَّ كل دين يُفتي بانحصار الصواب بما في أصدافه.
وقد ظنَّ البعض أنَّ معنى نفي ضرورة وجود الأصداف، هو أنَّ أيَّ واحدة من أصداف الأديان تُوصل الإنسان المتديِّن إلى الجوهر المشترك. مثلاً: بإقامة العشاء الرباني، وبالصلاة، والسير والسلوك البوذي، وبإقامة الأعمال الدينية، يمكن الوصول إلى الجوهر المشترك للأديان؛ لذا فإنَّ التأكيد على هذه الأصداف أمر غير صحيح، بل إنَّه لغو لا طائل من ورائه.
لكن هذا القول ليس فقط لا يتناسب مع خاتمية الأديان، التي هي من ضروريات الدين الإسلامي، بل هو لا يتناسب مع نسخ الشرائع الذي تقرُّه معظم الأديان. لأنَّ أحد معاني نسخ الشرائع هو نسخ الأصداف، لا نسخ الجوهر المشترك. ونسخ الأصداف هذا نابع من مقتضيات الزمان؛ لذا فإنَّ زعماء المذهب الكاثوليكي وإنْ كانوا يرون أنَّ النجاة تكون في الأديان غير المسيحية أيضاً، لكنَّهم كانوا يرون أنَّ اللطف الوافر والنجاة الكاملة لا تكون إلاّ في اللجوء إلى التقليد المسيحي.
الإشكال الآخر، هو: أنَّ تفسير بعض المعتقدين بهذا الاتجاه المبني على فرض وحدة جوهر الأديان، كان مبنياً على أساس علم المعرفة، وأنَّ التمايز بين الواقعية الذاتية والواقعية الظاهرية، بمعنى أنَّ الواقعية الذاتية واحدة، إلا أنَّ الواقعية التي تظهر في الذهن ذات كثرة، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار
جوهر الدين واحداً ومشتركاً، وإنْ كانت طرق الوصول إليه متفاوتة؛ بسبب اختلاف التقاليد، والثقافات، ومجالات المعرفة المختلفة.
واستناداً إلى هذا المبدأ المعرفي، فإنَّ مذهب التعدُّدية - القائم على افتراض وحدة جوهر الأديان - يأخذ منحى مثالياً ونسبياً؛ لأنَّ المذهب الواقعي مبني على شرطين: التمايز بين الذهن والواقع المحسوس، والتطابق العام للذهن مع الواقع المحسوس. وفي النتيجة، فإنَّ التمايز العام والكلي بين الواقعية الذاتية والواقعية الظاهرية، لا يُؤدِّي إلاّ إلى النسبية.
الاتجاه الرابع
وهو اتجاه التجربة الوحيانية والدينية. وقد طرح تفسير هذا الاتجاه بول تيليش ( Paul Tillich ) الفيلسوف وعالم الكلام البروتستانتي الألماني (1886 - 1956).
تستند هذه الرؤية إلى التجارب الوحيانية العامة التي لا تختص بشخص واحد أو دين محدَّد، فهو يعتقد أنَّ هناك ثلاثة عناصر أساسية في التجارب الدينية للبشر، وهي: عنصر السرّية والخفاء والغيب، و العنصر العرفاني، و عنصر النبوَّة. بحيث إذا تناسقت واتحدت العناصر الثلاثة المذكورة، أظهرت ما يُسمَّى بـ: دين الروح العينية . وهو ما تطلبه الأديان، ولم يظهر في كل دين تاريخي سوى جزء منه. إذاً، فالحُجِّـيَّة مطلقة، وغير منحصرة في فرد أو دين معيِّن (1) .
____________________
(1) مجلَّة [الحوزة والجامعة]، ع 1، ص 62.