علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد16%

علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240

  • البداية
  • السابق
  • 240 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32357 / تحميل: 14903
الحجم الحجم الحجم
علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

تعد طريقة جون ديون في الانتقال - والتي تحدَّثنا عنها أعلاه - من أكثر الطرائق شعبية وفاعلية في التواصل الديني / الاستماع إلى / والتعلُّم من التقاليد الدينية الأخرى.

يصف ديون في شكل عام ما يراه - وأنا أوافقه الرأي - فيقول:

"الانتقال إلى منطلقات بثقافة أخرى، وطريقة حياة أخرى، ودين آخر، تتبعها عملية مساوية ومعاكسة وإلى الخلف - يمكن أن نسميها "العودة" - تحمل رؤىً جديدة لثقافة المرء الخاصة، ولطريقة حياته ودينه" (١) .

ويبدو واضحاً من وصفه المفصَّل لهذه العملية، ومن كيفية تطبيقه الفعلي لها في الغوص في حيوات وثقافات وأديان أخرى، أنَّ جهد ديون يتمحور حول التخيُّل؛ إذ يدخل المرء إلى مشاعر مؤمنين آخرين عبر سماحه لرموزهم وسيرهم وتقاليدهم الدينية أن ترتسم صوراً في مخيَّلته. ثمَُّ يترك المرء نفسه مع هذه الصور، لاحقاً إيَّاها إلى حيث تأخذه. وخلال هذه التجربة الداخلية ثمَّة أمور يتعين على المرء أن يفكر بها - المعطيات التي تسمح له بالتوصُّل إلى رؤىً أو "نظريات" جديدة. ثُمَّ يعود المرء إلى تقليده الديني بهذه الرؤى الجديدة ويختبرها، بل لعله يتبناها ويدخلها في سياق حياته

الخاصة.

وهكذا فإنَّ تقنية الانتقال تقوم على الحصول على الصور التي تنتجها مشاعر المرء، ومن ثُمَّ تحويل هذه الصور إلى رؤىً، واعتماد هذه الرؤى كمرشد. وما يفعله المرء في عملية الانتقال هذه هو محاولة الدخول في شكل متعاطف إلى مشاعر شخص آخر. ومن ثُمَّ يصبح متلقِّياً للصور المعبِّرة عن

____________________

(١) Dunne, Way of All Earth

١٨١

مشاعره وتحويل هذه الصور إلى رؤىً، والعودة مغتنياً بها، بما يسمح له بفهم حياته وتطوُّرها في المستقبل (١) .

ويشير ديون إلى أنَّ إمكان الانتقال إلى التقاليد الدينية الأخرى، يقوم على الاعتراف بنسبية كل المعتقدات والمواقف والأسس التي يستند إليها المرء. فهناك مهما تعلَّم الإنسان، أو عرف الكثير ممَّا لم يعرفه بعد. ولا يمكن لأيِّ موقف أو وجهة نظر يُؤمن بهما، أن يكونا نهائيين. إلاّ أنَّ هذه النسبية - كما يقول ديون - لا تفتح الباب واسعاً للنسبية الدينية، بل على العكس؛ فإنَّ تجربة الانتقال نفسها تمنعنا من الاستنتاج: بأنَّه ما دام كل معتقَدٍ نسبيَّاً، فإنَّه لا يمكن للمرء أن يعرف شيئاً، وينبغي أن يُشكِّك في أيِّ معرفة، بما فيها المعرفة الدينية.

فالانتقال يُبرهن أنَّه رغم عدم تمكُّن المرء من الوصول إلى جواب نهائي، إلاّ أنَّه يصل دائماً إلى أجوبة جديدة، وهي أجوبة فعلية. كذلك، فإنَّه في هذه العملية التي تنضوي على تحفيز المخيَّلة وتوسيع أفق المعرفة، لا ينظر إلى الانتقال كبحث عصبي عن اليقين، بل كسعي تحريري ومثير للفهم، مثله مثل الحياة نفسها: "إذا أبقيتُ في ذهني نسبية المواقف والمعتقدات، وأنا أنتقل من موقفٍ إلى آخر، فإنَّني أنفتح بذلك على الغموض" (٢) . فعلى الرغم من أنَّ الانتقال هو

____________________

(١) المرجع نفسه، ص ٥٣. في هذا الكتاب يحاول ذلك مع حيوات غاندي و جواتما و المسيح .

والدراسات الأخرى التي يستخدم فيها ديون منهجيته في الانتقال أو العبور هي:

A search for God in Time and Memory (University of Notre Dame Press, ١٩٧٧).

The City of the Gods (University of Notre Dame Press, ١٩٨٧).

(٢) Dunn, Search for God, p. ٧, also p. IX.

١٨٢

أساساً عمل تخيُّلي، إلاَّ أنَّه يتطلَّب في الوقت نفسه جهداً ذهنياً كبيراً. فتحوُّل رموز وتعاليم دين آخر إلى صور، ليس بالأمر السهل كما هو متصوَّر، بل يسبقه في العادة عمل تحضيري يجعل المرء قادراً على استيعاب الديانات الغربية عنه والتأثُّر بها. وهذا العمل التحضيري هو كناية عن الدراسة التاريخية والثقافية الاجتماعية والسيميائية الضرورية لفهم أي شخص، أو عمل كلاسيكي ينتمي إلى ثقافة مختلفة، أو زمن مختلف.

فإذا كنا نتعامل مع أسطورة أو مع عقيدة، فعلينا أولاً أن نحاول فهم معناها عِبر موضعة النص، ومحاولة فهمه في إطار عمل أدبي أوسع، وفي عالمه التاريخي والثقافي. ثُمَّ نقوم بنقل رؤية هذا الفهم وصوره إلى مخيَّلتنا، وندع هذه المخيَّلة تأخذنا إلى حيث تريد - إلى رؤىً جديدة، إلى صور جديدة للعالم ولأنفسنا ولله، إلى أشكال جديدة من وجودنا في هذا العالم، وإلى مقاربات مختلفة لرموز ومعتقدات تقاليدنا الدينية نفسها.

والمسار الذي تتَّخذه هذه المغامرة هو في الحقيقة مسار ملحمي ، فهو يبدأ من موطن التقاليد الدينية للفرد ويمضي إلى أرض العجائب؛ أي إلى موطن التقاليد الدينية للآخرين، ومن ثُمَّ العودة إلى الموطن الأصلي. وإذا صحّ هذا كله، فإنَّ الكثير يعتمد على الوطن الذي تبدأ منه الرحلة وتنتهي إليه. فقد بدأ غاندي بالتقليد الهندوسي وانتهى إليه، مروراً في شكل خاص بالمسيحية وكذلك أيضاً بالإسلام، ولكنَّه كان دائماً يعود إلى التقليد الهندوسي.

١٨٣

وبحسب هذا السياق، فإنَّ المسيحي يبدأ من التقليد المسيحي، واليهودي من التقليد اليهودي، والمسلم من التقليد الإسلامي، والبوذي من التقليد البوذي. فإذا درسنا المسألة في عمقها، نجد أنَّ هناك نقطتي بداية ونهاية حتميتين، هما: حياة المرء نفسه. فعلى المرء أنْ ينتقل، وأن يُغيِّر نقطة انطلاقه - حتى ولو كان مسيحياً - لكي يدخل في حياة المسيح، ومن ثُمَّ هو في حاجة إلى أن يُغيِّر نقطة انطلاقه مجدَّداً ليعود إلى حياته.

وبالتالي من وجهة النظر هذه، فإنَّ التقاليد الدينية - حتى تلك التي ينتمي المرء إليها - تصبح جزءاً من أرض العجائب في هذه الملحمة، والوطن في هذه الحالة هو حياة المرء نفسها. والحيوات أيضاً هي جزء من أرض العجائب، وخصوصاً حيوات شخصيات كجواتما، والمسيح، ومحمد .

إنَّ الدخول إلى حيوات هؤلاء هو الذي يجعل المرء يدرك المعنى الحقيقي لكلماتهم. فغاندي على سبيل المثال، سمَّى مغامرته "تجارب مع الحقيقة". ولنطلق نحن على مغامرتنا الاسم نفسه، رغم أنَّنا قد نصل إلى نتائج مختلفة. وعندما ننتقل إلى حياته، سنجد أنَّ التجربة التي خاضها، قادته إلى تحويل العنف إلى قوة خلاّقة للحقيقة Satyaqraha . ولكن لكي ننتقل إلى حياة غاندي ، علينا أنْ نُدرك موقفنا الخاص من العنف. كذلك، فإنَّ حياته كانت حياة بسيطة، مثلها مثل حياة جواتما ، وكانت مكرَّسة لاستنباط الرؤى ومشاركتها مع الآخرين.

كذلك فإنَّ ما خبره جواتما في حياته ليس بالأمر غير الشائع؛ فهو عاش فترة في هذا العالم، ثُمَّ انزوى فترة في الجبال والبراري،

١٨٤

قبل أن يعود إلى المجتمع. ويكمن الجديد في تجربته في تقويمه ورؤيته لتجربته هذه؛ أي في إضاءته على هذه التجربة.

والانتقال إلى حياة جواتما يَفترض بنا أن ندرس حياتنا وعبورنا، ومن ثُمَّ عودتنا. وإذا كان ذلك حقيقياً، فإنَّه يَفترض أن يكون من الممكن أن نجد في داخلنا ما يجعلنا نفهم حيوات شديدة الغرابة بالنسبة إلينا، حياة رايموندو بانيكار - وهو أيضاً من المخضرمين في دائرة العلاقات بين الأديان - ذلك أن باطنيَّته الصعبة الفهم تجعل الرموز الصوفية هي المعطيات الرئيسية للتفاعل بين الأديان، وهي معطيات لا يمكن إدراكها والشعور بها إلاّ عبر الخيال. والطريقة الخلاّقة التي لعب بها خياله وتفاعل وتعلَّم من رموز وصور الديانات الأخرى واضحةٌ في كل أعماله، وخصوصاً في عمله الخالد "التجربة الفيداوية (منترامنجاري)" (١) .

ثَمَّة نوع آخر من الرؤية التخيُّلية في الإنجيل المسيحي. وفي المركز من هذه الرؤية مدينة مقدَّسة لا يُوجد فيها ظلام؛ لأنَّ عظمة الرب متمثِّلة في هذا النور الأزلي. وتنتفتح أبواب هذه المدينة في كل الاتجاهات، ولا تنغلق أبداً. ومن خلال هذه الأبواب يأتي الناس من كل مكان في العالم، جالبين معهم إلى هذه المدينة "عظمة الأمم وعزَّتها". إنَّ رؤية يوحنا هذه، مستمدَّة من

____________________

(١) ( Raimundo Panikkar, The Vedic Experience (Berkeley: University of California Press, ١٩٧٧

أنظر أيضاً كيف تعمل مخيَّلته الخلاَّقة مع رموز الهندوس من البراهما والإيفارا في:

The Unknow Christ of Hinduism (Maryknoll, N.Y.: Orbis, ١٩٨١ ), P.P., ٩٧-١٦٢

١٨٥

الرؤية التخيُّلية لنبي يهودي هو النبي حزقيل (٤٧: ٧ - ١٢)، الذي كان قد رأى المدينة والمعبد. وفي رؤية هذا النبي يتدفَّق نهر من تحت الباب الرئيسي لحرم المعبد تجاه الشرق، ويتحوَّل تدريجياً إلى نهر عظيم، مياه هي مياه الحياة، يتدفَّق هذا النهر من المعبد جالباً الحياة والوفرة والشفاء حيثما تدفَّق.

أمَّا يوحنا ، فقد رأى النهر الذي يحمل ماء الحياة، إلاّ أنَّه لم يرَ معبداً، بل الله وحده: "وأراني الملاكُ نهراً صافياً من ماء حياة، لامعاً كبلُّور، خارجاً من عرش الله والحمل، في وسط سوق المدينة، وعلى النهر - من هنا وهناك - شجرة حياة... وورق الشجر لشفاء الأمم" (١) .

إلى ذلك، فإنَّ مياه الحياة مجانية، يمكن لكل مَن يُريد أن يأخذ ماء الحياة كهدية... إنَّها صورة جميلة: لا يوجد معبد، بل نهر ماء الحياة والشفاء المتدفِّق من وجود الله نفسه. وما له دلالته أنَّ ديانا إيك تعترف بأنَّها بعدما عبرت من بيتها في بوزمان، مونتانا، إلى بنارس الهندوسية، فإنَّها لا تستطيع أن تقرأ الفصول الأخيرة من رؤية يوحنا التخيُّلية من دون أن ترى نهر Ganga Mai "الأم - الغانج" في عقلها. فهو بالنسبة غلى الأخوات والأخوة الهندوس نهر السماء المحيط بمدينة براهما المقدَّسة، المتدفِّق من قدم فيشنو Vishnu غاسلاً مدار القمر، والمندفعة مياهه إلى رأس الإله شيفا Shiva ، وتلمس الأرض في أعلى قممها جبل ميرو Meru ، وتنقسم بعد ذلك بكرم إلى

____________________

(١) رؤيا يوحنا اللاهوتي، ٢١ - ٢٢.

١٨٦

أربع أقنية، تتدفَّق في الجهات وتسقي جميع أنحاء الأرض بأنهار البركة. تقول إيك : ويمضي نهر السماء الذي أعرفه جيداً جنوباً إلى الهند، وهو لا يزال إلى اليوم يعانق مدينة بنارس المقدَّسة حيث يأتي الحجاج ليستحمُّوا في الفجر. والأكيد أنَّ نهر الأردن هو أحد جداول نهر السماء - وكذلك نهر "جيلاتن" (١) .

____________________

(١) Dinan Eck Encountering God: A spiritual Journey from Bozeman to Benares Boston: Beacon Press, ١٩٩٢, P. ٢٣١ Bozeman.

١٨٧

١٨٨

الفصل الثالث

التقييم الكلامي للحداثة..................................................... بي هورستن

حوار الإسلام والحداثة..................................................... كليم صديقي

١٨٩

١٩٠

التقييم الكلامي للحداثة

بي هورستن (*)

إنَّ محاولة دراسة النطاق الواسع للبحوث الكلامية المعاصرة قياساً إلى الحداثة ( Modernity سيكون ادعاءً مبالغاً فيه، إنْ لم يكن مستحيلاً. ومع هذا الدفاع عن جدوى هذه المفردة، ذلك أنَّ اللاهوت بأسره تقريباً - بشكل مباشر أو غير مباشر - يتَّخذ موقفاً من الحداثة، ولا مفر من اتخاذ الموقف هذا. وفي الحقيقة، فإنَّ الحداثة تترسَّخ عملياً في جميع أرجاء عالمنا على اختلاف في الدرجات. ومع هذا، فإنَّ مفهومها ليس بالشكل الذي يمكن تحليله بسهولة، وتحديد خصوصياته وقوانينه. فالحداثة نتاج ظاهرةٍ ما، ظاهرة تحديث ( Modernization ) العالم الناجمة عن معطيات العلم والإبداع في القرون الأخيرة. والنتيجة المترتِّبة على ظاهرة التغيير هذه، هي نظرة جديدة تماماً للعالم والمجتمع والإنسان. وإنَّ أبرز سمات الحداثة - كما يُحتمل - هو الاطلاع على التحوُّلات والارتباط بها وتقييمها الإيجابي، وهذا ليس مجرد

____________________

* (الهامش غير موجود في الأصل)

١٩١

تحوُّل نسبي محدَّد ومؤقَّت، بل هو تحوُّل جذري وشامل بشكل لا يقبل التراجع عنه، ويترك أثره في جميع جوانب حياة الأفراد والمجتمعات.

وبطبيعة الحال، فإنَّ كل فترة من فترات التاريخ كان لها تقليديُّوها ومجدِّدوها. لقد كان فكر القرون الوسطى على معرفة بالطريق الجديد ( modernorum Via وكان ذلك الطريق الجديد في صِدام مع القضايا الفكرية الكلاسيكية. وخلال تلك الفترة كان للمعرفة تركيب ذو مراتب، وكانت العلوم بأسرها تابعة، وكان أسلوب القياس يُستخدم في كل الحالات؛ حيث كان يُخطط على أساس سلسلة من علاقات العلة والمعلول. وقد جعل هذا الأسلوبُ الدمجَ الواقعي للمعرفة ممكناً.

كان التركيب ( Synthesis ) يُفسِّر جميع المعرفة بالمفاهيم الكلية والثابتة، وكان مضمونه هو أنَّ العقل البشري له في جميع الأزمنة والأمكنة مفاهيم متساوية. وهنا ينبغي الانتباه إلى أنَّ علم اللاهوت المدرسي (العنوان الذي يُعرف به لاهوت القرون الوسطى في الغرب) كان يسعى لأجل تحقق الموضوعية قدر المستطاع، والانعتاق بشكل أكبر من قيود الزمان بالشكل الذي طرح قبل قليل باختصار، وطالما أنَّه أصبح مُعاداً، وربَّما غير منسجم، بل أكثر تنافراً كما يقال هذه الأيام.

والحداثة التي ارتبطت بمفهوم التطوُّر، تشتمل على نفي ذلك الاعتقاد الذي يعتبر أنَّ بلوغ الفهم الكامل مرةً واحدة هو أمر ممكن وإلى الأبد. وفي السعي لبلوغ حقيقة أكمل قدر المستطاع، تستدعي كل المعرفة للمنازلة بشكل مستمر.

١٩٢

بدأت هذه النهضة مصحوبة بالتحوُّلات العلمية والفنية والسياسية في القرن السادس عشر، وأصبح العلم تخصُّصياً بشكل متزايد، واعتبر شيئاً ذا حياة؛ بمعنى أنَّه لم يعد تكراراً وجزءاً من تركيب متناسق وشامل، وكانت هذه هي لحظة ظهور العلوم الاستقرائية التي تستند إلى الأدلة التجريبية. وفي هذا الوقت بالذات تكوَّن تدريجياً طريق جديد في تركيب الفلسفة، كانت فيه الذاتية ( Subjectivity ) و الفكر المنطقي ( Rational ) يقعان موقع تأكيد متزايد. كما نضج الاتجاه الحركي نحو الجبرية التاريخية لكل العقائد.

إلاّ أنَّ هذا الأمر أدى - عاجلاً أم آجلاً - إلى طرح قضية العلائقية ( Relativism ) و التطوُّرية ( Evolutionism ) على بساط البحث، كما كان ينبغي أن تُؤخذ هذه القضية بنظر الاعتبار من خلال قياسها إلى المعتقدات. وقد اصطحب الدور الأكثر فاعلية للفرد مفهوم الحرية معه. ونتيجةً لذلك، كان بالإمكان اختيار المستقبل المحدَّد بالحدود التي تعيَّن من قبل الأوضاع التاريخية. ولقد قلَّ الاتجاه إلى دراسة الظواهر الطبيعية والاعتماد على التفاسير السامية ( Transeendent ) لمصلحة التفاسير الباطنية ( Immanent ) التي تقود إلى وجهات نظر دنيوية.

وإنَّ انعدام المعيار الكامل الذي جرى تعريفه والثابت في سبيل التحكيم، يدعم الكثرة من الطرق المؤدِّية إلى الحل، وقد خلف من بعده التعدُّدية ( Pluralism ). وشيئاً فشيئاً بدأت البشرية بقبول هذا الافتراض المبدئي؛ من أن تقرير مصيرها ومصير العالم هو أمر بيدها حقاً.

١٩٣

القضية الأساسية هي قضية الحقيقة وكيفية تحقيقها ، التي حظيت مع ظهور الحداثة بأهمية خاصة، وكان العامل الحائز على أهمية فائقة والمرتبط بهذه القضية هو عامل اللغة. وإنَّ الباحثين في مجال العلوم الإنسانية ( Humanists ) على علم بحقيقة أنَّ الكلمات وحدها لا تُشكِّل الغلاف الخارجي

للعقائد. فكلام الإنسان دائماً مقيَّد بالحالات والأوضاع، ومرتبط إلى حدٍ ما باللغة التي هي بمثابة القالب له، ولا تُعتبر لغة اللاهوت والدين بدورها استثناء من هذه القاعدة.

وفي القرن السادس عشر الميلادي واجهت الكنيسة الكاثوليكية بروما، حركة الإصلاح الديني البروتستانتية ( Protestant Reformation هذه الحركة التي أولت اهتماماً للمسائل الكلامية. لكنَّها تزامنت مع ظهور تيار بعض الآراء الحديثة التي كان مقرَّراً لها أن تُشكِّل السمات المميَّزة للحداثة: قيمة الفرد ، عنصر الاختيار ، العلاقة باللغات ، سواء أكانت لغات الكتاب المقدَّس أم اللغات القومية، شكل جديد من المجتمع والتعدُّدية.

وفي ردِّ فعل منها على القضايا الكلامية لحركة الإصلاح الديني، بادرت الكنيسة الكاثوليكية في الحقيقة إلى إغلاق الباب أمام أيِّة مواجهة مع الآراء الجديدة الأخرى. وقد أدَّى هذا الأمر إلى أنْ يبتعد كل من الكنيسة والعالم المتجدِّد بشكل متزايد عن بعضهما، إلى الحد الذي اتضح معه أنَّ تصوُّر إمكانية هيمنة الجانب المادي للعالم على أساس هذه الحداثة، وفي الوقت نفسه المحافظة على المواقع الكلامية التي هي استمرار لمعطيات أسلوب ما قبل الحداثة في ميدان

١٩٤

الحياة والأعمال الدينية، إنَّما هو حلم طوباوي ( Utopian ) . وخلال ذلك أقدم المجمع الفاتيكاني الثاني على خطوة جريئة لمواجهة هذا التحدِّي، رغم أنَّ التعيير لم يكن اتجاهاً غير متوقع بشكل كامل، وقد كان كثير من المتكلِّمين ومفسِّري الكتاب المقدَّس قد مهَّدوا الطريق لذلك.

إنَّني هنا لا أريد تفسير النصوص ذات العلاقة بالمجمع الفاتيكاني الثاني ونقدها، ومع الآخذ بنظر الاعتبار ما قيل آنفاً، فإنَّني أريد فقط محاولة شرح بعض النقاط ذات الصلة.

كنتُ قد أشرت - في مجالٍ آخر - إلى التحوُّل؛ أي البعد التاريخي للبحث عن الحقيقة ، وسأسعى في هذه المقالة إلى إيضاح طريق جديد في ما يتعلَّق بالإلهيات ما اشتهر بعلم التأويل ( Hermeneutics ). وإلى جانب هذه المسألة المنهجية ( Methodological )، فسأتناول باختصار، الحديث عن موضوعين تمَّت الإشارة إليهما، سأذكِّر بـ: العلمنة ( Secularization ) و التعددية، وكيف أنَّ لاهوت اليوم يسعى للتعايش مع هذا الشكل من جوانب الحياة العصرية.

كما أنَّ إضافة موضوع آخر سيكون نافعاً؛ ألا وهو أنَّ هذه المقالة تنبري لبحوث اللاهوت المعاصر. وهذا يعني أنَّ بعض النقاط المطروحة على بساط البحث ما تزال في حال التجربة ومؤقَّتة، أو أنَّها لم تكتمل بعد. وربَّما لم يحن بعدُ الزمن الذي تُقدَّم فيه الحلول النهائية للقضايا التي طرحتها

الحداثة. وكما

١٩٥

سنرى، فإنَّ واحدة من القضايا المطروحة، والتي هي في الحقيقة "إلى أي حدٍّ" و "بأيِّ معنىً"، ما يزال بإمكانها أن تتوقَّع أجوبة حاسمة.

علم التأويل واللاهوت

إنَّ البعد التاريخي للمعرفة الإنسانية، وكذلك تنوُّع الطُّرق الموصِلة إليها ضمن الأطر اللغوية وأمثالها، قد أوضح لكثير من الناس أنَّ المعرفة الحقَّة والعلمية تستدعي المواجهة الناقدة والتأويلية للموضوع المطروح للبحث.

ولفنِّ التأويل تاريخ عريق وبعيد في ثقافة أوروبا الغربية، بدأ بتأويل آثار هوميروس ( Homer ). ومنذ البدء ظهر اتجاهان:

الأول: التأويل النحوي ( Grammatical ) الذي هو مفتاح المعنى؛ أي أن يتم البحث عن المعنى الظاهري في باطن النص نفسه.

و الثاني: التأويل المجازي ( allegorical ) الذي يبحث عن مفتاح كهذا في موضع آخر. إلاّ أنَّ تصوُّر كلا الفرضين يرى وجود ثغرة بين النص والقارئ، وفي سبيل سد هذه الثغرة فنحن بحاجة إلى توجيه علم التأويل .

وقد اضطر الكتاب المقدَّس إلى أن يصبح موضوعاً للتأويل، ويتمتَّع التأويل هنا بشفافية خاصة؛ ذلك أنَّ هذا النص اعتبر "كلام الله". وقبل ظهور المسيحية فإنَّ العهد القديم تم تأويله استناداً إلى مبدأين:

الأول: الهروب من المعنى الظاهري للنص واللجوء إلى قصر فهم النص ضمن إطار المعايير الكلامية.

١٩٦

الثاني: كتابة القواعد التي ينبغي أن تجعل للتأويلات الممكنة حدوداً معينة بشكل لا تُؤدِّي معه إلى تهديد أصالة إيمان المؤمنين بالمخاطر. وكانت المسيحية مجبرة على خوض مجابهة بتحدٍّ مضاعف في التأويل. وللوهلة الأولى، فقد كان ينبغي لنص العهد القديم أن يُقرأ من جديد في ضوء تجارب المسيحية وعقائدها.

كل هذا مع الإحساس بضرورة تدوين فهرست موثوق به لكتبه المقدَّسة، أي العهد الجديد ( The New Testament )، ووضع معايير وأُطر للتأويل السليم في مواجهة بدع المتقدِّمين.

ومع مرور القرون، تحوَّل الاهتمام بهدوء ممَّا اصطلح على تسميته بمادة النص إلى القلق الأرثوذكسي ( Orthodoxy )، الذي وافقت عليه الكنيسة الرسمية في التعاليم الشهيرة لفنسن اللوريني ( Vincent ) (تُوفِّي بعد ٤٥٠ للميلاد): حول ضرورة بذل اهتمام خاص للتمسُّك - في كل مكان وزمان، ومن قبل الجميع - بكل ما هو ذو علاقة بالعقيدة.

وفي القرن السادس عشر قدَّمت حركة الإصلاح الديني البروتستانتي، عن طريق قراءة اللغات الأصلية للكتاب المقدَّس وترجمته إلى اللغات القومية، عناصر جديدة، فضلاً عن إعدادها ميداناً أكثر اتساعاً للأحكام الشخصية، رغم أنَّه مع مرور الزمان، قلَّت أهمية آخر سمات حركة الإصلاح الديني هذه.

وكان ردُّ فعل الكنيسة الكاثوليكية في روما على موقف البروتستانتيين هو التأكيد على نظرية أخذت مصدرين بنظر الاعتبار: الإيمان الأصيل الذي

١٩٧

يرى في الكتاب المقدَّس - وكذلك في تقاليد الكنيسة - مصدرين له.

ومرة أخرى نواجه رواية من شكلين اثنين جذريين في التأويل: أحدهما يبحث عن مفتاح الفهم في داخل النص، والآخر يبحث عنه في مكان آخر.

وخلال ذلك انبرى معتنقو الأديان الكتابية (١) ( Religions of the Book ) إلى التوسع المبدئي في التأويل الخاص بهم، وكان ينبغي لذلك أن يُؤدِّي إلى تفاعل واسع. وفي الوقت نفسه - وقبل قرن من هذا التاريخ - لم يكن هناك منهج منتظم للتأويل له مبادئ واضحة ويستخدم في اللاهوت. إنَّ واضع أساس علم التأويل العام هو فردريك شلاير ماخر (١٧٦٨ - ١٨٣٤م)، وأدخله ويليم ديلثي (١٨٣٣ - ١٩١١م) في نطاق الموضوعات العلمية.

وكان هدف شلاير ماخر هو تأسيس نظرية فلسفية عامة في علم التأويل، بينما كان هدف ديلتاي بلوغ فهم أفضل لحياة الإنسان التي تبدو في صور معقدَّة، فقد كان يعتقد بأهمية فائقة للماهية المجازية ( Analogical ) للفهم الإنساني، مّا أدَّى إلى أن يستخلص كل مفسِّر، من كل أمر، معنىً مختلفاً عمَّا يفهمه الآخرون تقريباً؛ وقد أدى ذلك إلى ظهور التعدُّدية. إلاّ أنَّ الأساس النهائي لفلسفة التأويل في القرن العشرين وُضع بواسطة آثار مارتن هايدغر (١٨٨٩ - ١٩٧٦م). وإنَّ جميع علماء الكلام المسيحيين الذين سعوا إلى أعمال التأويل في بحوثهم، بدءوا هذا العمل - عملياً - استناداً إلى الآراء والمبادئ التي كان هايدغر قد دوَّنها.

١٩٨

وقبل أنْ أنهمك في بحث الاتجاه الكلامي نحو علم التأويل، أودُّ أن أتحدَّث باختصار عن الدور الذي لعبته مبادئ علم التأويل في دراسات الكتاب المقدَّس. واستمراراً للمنهج العام في الاهتمام بالاتجاه التاريخي، شاع أسلوب جديد في القرن التاسع عشر لدراسة الكتاب المقدَّس، وما زال متواصلاً حتى اليوم، ذلك هو المنهج المعروف بالنقد التاريخي .

وقد وصف هذا المنهج بالتاريخي ليس لكونه يتعامل فقط مع النصوص القديمة (مثل الكتاب المقدَّس) باحثاً عن أهميتها التاريخية، بل فضلاً عن ذلك، وبشكل أساسي، لسعيه إلى إيضاح المعطيات التاريخية التي كانت سبب تبلور تلك النصوص.

كما أنَّ وصف "النقد" على هذا المنهج؛ فهو لأنَّه كان يريد من خلال استخدام المعايير العلمية تحقيق أقصى قدر ممكن من الموضوعية. وهذا الأسلوب التحليلي الذي يدرس الكتاب المقدَّس كما يدرس أي نصٍّ قديم آخر، يُفسره كواحد من الوثائق الخاصة بلغة الإنسان.

وبطبيعة الحال، فإنَّه على الرغم الانطلاق من هذه النقطة، كان هدفه الدائم هو بلوغ فهم أفضل لمضمون الوحي الإلهي. وفي الحقيقة، فالاتجاه الذي كان ينبغي أن يقصر نفسه على الوقائع التاريخية والقادر فقط على بلوغ الرؤية التاريخية، نجده لا يثير اهتمامنا بالتاريخ فحسب، بل بتاريخ الخلاص ( Salvation ) أيضاً. ولأجل أن نفهم التاريخ من جديد بوصفه تاريخ خلاص، ينبغي لنا أن نشاهده من خلال نسبته إلى الله والكتاب المقدَّس كما هو مستفاد من

١٩٩

التاريخ، التاريخ الذي ورد بشكل تجارب في علاقة الله بنا، الحوار المستمر بين الله والإنسان.

وعلى هذا، فإنَّ ما حدث في التاريخ يجد له معنىً أعمق؛ ولذا فإنَّ الكتاب المقدَّس وبدلاً من الحديث استناداً إلى الحقائق الثابتة، يُقدِّم عهد الله بوصفه الضمانة للاستمرارية من خلال كل تحوُّلات التاريخ، بمعنى أنَّنا ربَّما نستطيع القول: "إنَّ الحقيقة تحدث"، بدلاً من القول: "إنَّ الحقيقة لها وجود". ذلك أنَّ الله الصادق مع ذاته وبحسب وعده للإنسان وعهده معه، له حضور دائم خلال التاريخ. والعهد القديم والعهد الجديد هما النتاج المدوَّن لتأمُّلات كلامية مؤمنة، وتجارب التاريخ هنا هي بمثابة تاريخ للخلاص.

لا شك في أنَّ النقد التاريخي منهج ممتاز لبلوغ معرفة عميقة، وأكثر دقة ورصانة للمعنى الظاهري لنصوص الكتاب المقدَّس، وهذا المعنى هو نفسه الذي فُهم منه في الظروف التاريخية لتدوين نصوص الكتاب المقدَّس، لكن هذا المنهج لا يتناول المعاني الأخرى الكامنة التي كُشِفت طوال الفترات التاريخية اللاحقة لوحي الكتاب المقدَّس أو تاريخ الكنيسة، بينما الكتاب المقدَّس هو كلام الله ويُغطِّي جميع المراحل.

وينتج عن ذلك أنَّه توجد حاجة دائمة إلى إزالة الحاجز بين كتَّاب النصوص والمخاطبين بها من جهة، وبين القرَّاء اللاحقين من جهة أخرى. وهذا يعني أنَّ التفاسير التي تمَّت استناداً لمنهج النقد التاريخي مضطرة - وينبغي لها أن تكون كذلك - أن تكمل باتجاه تأويلي، إلى تفسير لعالم اليوم. وبطبيعة الحال، فإنَّ تفاسير كهذه يجب عليها إماطة اللثام عن المعنى الخاص لتاريخ الخلاص، وتكشف عن الغنى الكامن فيه.

٢٠٠

ومن غير أنْ أدَّعي الدقة العلمية لهذه القاعدة، فإنَّني أعتقد بأنَّ رؤية الكتاب المقدَّس، من أنَّ الحقيقة هي تلك التي تحدث وليس الشيء الثابت الموجود، خلقت هذه المعضلات الفلسفية. ذلك أنَّ التقليد المألوف كان يرى أنَّ المعرفة الحقيقية ينبغي أن تكون ثابتة، والمعرفة المتغيِّرة ذات علاقة بالعقيدة، وليس بمجال المعرفة الحقيقية.

ومع ذلك لو أنَّ أحداً يقول مع هيغل (1770 - 1831م) بأنَّ: "الحقيقة لا تتجزأ" ( Ganze Das wahr ist das )، يمكن أنْ يقال له: إنَّ كل هذا القول، أيضاً، مكوَّن من قضايا جزئية، وإنَّ هذه القضايا الجزئية تساهم في تكوين تلك الحقيقة. ومع تجاوز رؤية هيغل، يمكن اعتبار هذا القول قابلاً للتعميم، بل يمكن اتخاه أفقاً، والحقائق - سواء أكانت مؤقَّتة أم خاضعة لشروط معينة - واقعة ضمن هذا الأفق. وعلى هذا، فإنَّ تصوُّر الحقيقة بأنَّها جبرية تاريخية ( bound History ) - كما وردت في الكتاب المقدَّس - لا يتلاءم مع بعض المفاهيم المعاصرة عن الحقيقة.

وهنا نصل إلى اللاَّهوت الجزمي حيث ستواجهنا قضية خاصة، ذلك أنَّ التعبيرات التقليدية للإيمان المسيحي هي نقطة البداية، بل المعيار للاهوت الجزمي وستبقى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنَّه يُوجد بشكل متزايد حالة من عدم الانسجام في هذا النوع من اللاَّهوت النظري، بين النتائج العلمية التي تتمتَّع بالمستوى الراقي في مجال الدراسات ذات العلاقة بالكتاب المقدَّس، وبين متطلَّبات الموعظة المتناسبة مع حاجة المؤمنين. وفضلاً عن

٢٠١

هذا، فإنَّ اللاَّهوت في ما مضى كان يرفد فقط من إطار فلسفي ونظري محدَّد، بينما نرى اليوم حولنا وجود أنظمة فلسفية متنوِّعة كثيراً.

في الحقيقة، لم يعد هناك نظام ثقافي عام؛ ذلك أنَّه ستظهر، بالنتيجة، تعدُّدية كلامية لا محالة.

وأخيراً، إنَّ اللاَّهوت في هذه الأرضية العامة، لن يتمكن من الاستمرار في مجرد نقل مجموعة مدوَّنة من المعارف من غير أن يأخذ في الحسبان التجارب الحية لجماعة المؤمنين؛ إذ إنَّ هذا العمل سيكون مصحوباً بخطر عدم الانسجام التام.

وأخذ التجربة المتعلِّقة بجماعة المؤمنين في الحسبان يعني أنَّه سيصبح مستحيلاً بعد ذلك، الحديث عن الله بمثابة كونه ذا علاقة بالفكر الماوراء - طبيعي. ومن ناحية أخرى، لم يعد مقبولاً، أيضاً، أن نتناول الموضوع بشكل يبدو معه أنَّ ما هو عائد لله مقتصر على معنى يمكن أن يحصل لدى شخص مؤمن؛ حيث إنَّ الله أعلى من ذلك.

ووسط هذه الموضوعانية ( Objectivism ) الزائفة، واللاَّهوت الذي يُقلِّل من محورية الإنسان، هناك اللاَّهوت الصادق الذي يحافظ على الحقيقة الإنسانية عن طريق الاهتمام بتاريخ الخلاص، والبحث عن طريق للخلاص، وفي الوقت نفسه ينفتح بذاته في مواجهة التحديِّات.

وهنا ظهر اتجاهان أساسيان:

الأول يرى أنَّ الوجود الإنساني بمثابة موضوع البحث كلامي ينبغي أن يدرس في ضوء نظرة إيمانية، أي من وجهة نظر كلام الله، وعلى هذا لا يمكن - لأجل دراسته - اتباع منهج البحث

٢٠٢

التاريخي هذا.

أمَّا الاتجاه الثاني، فهو لا يُفرِّق بين تاريخ الناسوت وتاريخ الخلاص، فالتاريخ من حيث هو تاريخ هو المكان الذي يتجلَّى فيه الله.

لكن مهما يكن، يبدو أنَّ اللاَّهوت اليوم يهتم بالكشف عن معنى خلود كلام الله بجميع أشكاله. وهنا نقطة البدء في أنَّه كيف يصل الإنسان - في ضوء التاريخ - إلى إدراك نفسه وعالمه؟ وفي الحقيقة، فإنَّ هذا الأمر يقودنا مرةً أخرى إلى علم التأويل: إنَّ الاهتمام باستخراج المعنى المعاصر لنص من قلب الماضي، الذي هو هنا الكتاب المقدَّس وتفاسيره التي ظهرت متعاقبة خلال تقاليد المؤمنين، يجعلنا في كل لحظة أكثر بُعداً عن الاتجاه إلى التفسير العقلاني لزعم نظري له - لا محالة - جواب واحد. صحيح أنَّه ينبغي للاتجاه التأويلي أن يمتنع عن خيانة الماضي، لكنَّه، أيضاً، لا يمكنه الإذعان بذريعة الوفاء لمعطيات ماضٍ ميت. فهدف التأويل - في أعلى درجاته - بلورة معنى الوحي الإلهي لعالم اليوم .

كنتُ - خلال البحث في الحقيقة - قد استخدمت كلمة "أفق"، ويمكن القول: إنَّ هدف علم التأويل هو توسيع أفق النص وأفق رؤية القارئ الجديد، إلى الحد الذي يمتزج فيه هذان الاثنان ليصبحا واحداً. وإنَّ أمراً كهذا يفرض على المتكلِّمين، أن يبتدعوا لغةً جديدة تُؤمِّن موضوعية النص، وفي الوقت نفسه، تنسجم مع ذهنية المفسِّر المعاصر.

وواضح أنَّ لاهوتاً كهذا سيكون مؤقَّتاً بشكل دائم؛ ذلك أنَّ المعرفة البشرية محدودة، وهذا يعني أنَّ اللاَّهوت سيبقى مفتوحاً بشكل دائم على المستقبل، اللاَّهوت أمل، أمل في تحقيق جميع

٢٠٣

وعود الله. وإنَّ لاهوتاً يمنح فهماً كهذا، يفتح الطريق أمام عالمنا وفقاً لكلام الله، الكلام الذي لا يكون بمثابة وجود ثابت لا يتغيَّر، بل بوصفه طاقة متحرِّكة.

إنَّنا بعيدون جداً عن تصوُّر ساذج تقريباً كهذا، قائم على أساس أنَّنا نفهم النص بشكل أفضل ممَّا يفهمه مؤلِّفه (كما يمكن للبعض أن يستنتج ذلك من علم التأويل)، ولكنَّنا تجاوزنا، أيضاً، العمل لمجرد تبيان نصٍّ قادم إلينا من قلب الماضي. فعلم التأويل ينوي تفسير النص في موضوعيته، وفهمه كذلك، آخذاً بنظر الاعتبار ما يبينه الحاضر ممَّا هو ذو علاقة بالواقع. فعن طريق التأويل تفتح أمام النص آفاق جديدة، وهذا مغاير للكشف النوعي الجوهري الأبدي والثابت الذي ينتقل من عصرٍ إلى عصرٍ آخر.

ينبغي بلوغ المضمون المجرَّد والحقيقي للإيمان من خلال التأويل، وإنْ لم تُوضع حدود للتأويلات الممكنة، فسيؤدِّي ذلك إلى الذاتية ( Subjectivity ) المجردَّة. إلاَّ أنَّ هذه الحدود موجودة، وهي عبارة عن الإجماع الذي يظهر خلال تبادل وجهات النظر وتعارض الآراء. وبطبيعة الحال، فإنَّ المقصود بهذا الإجماع ليس ذلك الناتج عن أضعف أوجه الاشتراك، بل ذلك النابع من الانفتاح أمام الروح القدس.

واستناداً إلى هذه الرؤية، فإنَّ الإلهام القدسي لكلام الله، له علاقة بإيمان جماعة المؤمنين قبل أن يكون معتمداً على الكلمات نفسها.

٢٠٤

من الواضح أنَّه باستثناء القضايا الخاصة التي نجمت عن الحداثة، فإنَّ طريق استجلاء اللاَّهوت قد تأثَّر بشكل كبير بتحديات الحداثة. ويتَّضح هذا الأمر من التلخيص التالي:

بدأ علم الكلام التقليدي عمله من خلال تفسيره رأياً؛ أي أمراً عقائدياً، ثُمَّ وضَّح هذا الأمر في المرحلة الأولى (التي كانت تمتاز بأهمية فائقة). كان هذا الرأي يُبرَّر بفتاوى مراجع التعليم الكنسي ( The Magisterium )، ثُمَّ أورد آباء الكنيسة ( Fathers of the Church ) وبعض المتكلِّمين العظام البراهين عليه، مستعينين بنقل نصوص من الكتاب المقدَّس. وأخيراً ومن خلال الردِّ على المعارضين لتلك الآراء في ذلك العصر أو العصور التي سبقته، تم إقراره بشكل نهائي.

أمَّا الكلام الذي كان له اتجاه تأويلي، فقد بدأ عمله بالاهتمام الجاد بأمر؛ ألا وهو: إنَّ كل حقيقة هي جبرية للتاريخ . وضمن هذا الاهتمام، أدرك هذا الأمرَ المهم، وهو أنَّه كان يُوجد شطر كبير من الكتابات والنصوص، كما اعتبر اللاَّهوت بوصفه أمراً يُحقِّق تدويناً جديداً للكتاب المنزَّل. وانطلاقاً من هذا، فقد بدأ من كتابات المتقدِّمين كما لو كان يُضيف حلقة جديدة إلى حلقات في سلسلة. وهذا الأمر الذي يتطلَّب في نفس الوقت، التزاماً تجاه القضايا المتقدِّمة، بحاجة إلى إبداع يتَّجه نحو المستقبل؛ ذلك أنَّ المطلوب من علم الكلام هذا، ليس عرض وإيضاح مبادئ العقائد الثابتة، بل استخراج المعاني الحقيقية لكلام الله في ضوء التجربة الجديدة وتاريخ الكنيسة والإنسان

٢٠٥

المعاصر. ولبدء عمل كهذا، لا يدَّعي اللاَّهوت تقديم نوع من الحقيقة ممَّا وراء الطبيعة، بل يدَّعي تقديم اليقين القائم على ما يقوله كلام الله لنا اليوم.

ويبدو أنَّ هذا التحوُّل العظيم في الرؤية والاتجاه والمنهج حتى لو بدا - إلى حدٍّ ما - منتزعاً أو سرِّياً، فهو ذا أهمية فائقة، وقد هبَّ بشكل مباشر يصارع تحدِّي الحداثة.

أريد الآن أنْ أشير باختصار إلى قضيتين لا يمكن للاهوت إلاَّ مواجهتهما: العلمانية و التعدُّدية . وكلاهما ناجمان عن الحداثة، وإذا كان مقرَّراً لتلك الأخيرة أن تبقى، فإنَّ اللاَّهوت لابد له أنْ يجابه هذه القضايا ويُقدِّم أجوبة لأسئلتها.

العلمانية واللاَّهوت

العلمانية واحدة من تلك الحزمة من المصطلحات التي استخدمت - وما زالت - على نطاق واسع، رغم أنَّه لم يكن لها، غالباً، تعريف دقيق. وقد مرَّ وقت كان فيه مَن يقول: العلمانية من الكلمات الغامضة التي تظهر فجأة عندما يتخلَّى الناس عن التفكير العميق. وممَّا لا شك فيه، أنَّ هذه الظاهرة ذات علاقة حميمة بالحداثة.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار هاتين المسألتين معاً - أي الاهتمام الواسع الذي يثيره هذا المفهوم حول نفسه، وعلاقته الحميمة بالحداثة - سنحصل على نموذج مفيد عن الكيفية التي يكون عليها ردُّ الفعل الموضوعي والملموس للاَّهوت تجاه واحد من أوجه الحداثة، وكذلك أيُّ شيء يمكن أن نتوقَّعه في المستقبل عن طريق ردِّ فعل اللاَّهوت.

٢٠٦

ومن دون أن نخوض في جميع الأوجه الممكنة للتعريف، يكفي أن نقول: إنَّ الخطر هو تدمير الواقع أو العالم السامي الذي يضع بين أيدينا مصير كافَّة الأمور، والذي بفنائه لا يبقى لنا شيء سوى العالم التاريخي البشري والمحدود؛ أي ذلك الشيء الذي يقال له باللاتينية: ( Saeculum ). هذا الفناء الذي سيغطِّي - في مرحلة من المراحل - على كافَّة أوجه الحياة البشرية: المجتمع، والثقافة، والحياة الخاصة والدين، في ذلك الوقت الذي لا يمكن فيه العودة إلى واقعية أفضل وعقلانية مهيمنة، ويكون فيها الإنسان وعالمه مختارين، ويبدأ ذلك بتدهور قوة الدين وتأثيره، ثُمَّ يصبح الجانب المقدَّس للعالم والإنسان بعيداً عن الرؤية؛ ويُؤدِّي هذا، أخيراً، إلى الإلحاد ( Atheism ). إنَّ كل ذلك يعمل على مستوى المجتمع ومستوى الضمائر الفردية، رغم أنَّه من الممكن أن يكون صحيحاً أنَّ اللاَّهوت قدَّم ذات مرة صورة عن الله لم تكن مقبولة في ضوء العلم الحديث، إلاَّ أنَّ الذي لا شك فيه، أيضاً، أنَّ العلمانية - في كثير من البقاع - قد أفرغت العالم من محتواه.

إنَّ أول ردَّ فعل للاَّهوت - أو ردَّ فعل الدين المتكوّن - يمكن أن يُسمَّى بـ "المقاومة" : الإجراءات الحربية، مثل: ترتيب الصفوف ووضع الانضباط العقائدي المتشدِّد، ورعاية الديانة والعبادات التقليدية، وقيام تشكيلات دينية - مؤسَّساتية في ميادين الحياة المختلفة بهدف إفشال التشكيلات الدنيوية (العلمانية). إلاَّ أنَّ هذه السياسة كانت تبدو على المدى البعيد سلبية إلى الحد

٢٠٧

الذي لم تكن معه قادرة على إعطاء أجوبة مقنعة حقاً، ردَّاً على التحديِّات المطروحة.

ويمكن تسمية ردَّ الفعل الآخر بـ "التسليم" : وقد وجَّه ردَّ الفعل هذا، اهتمامه إلى صور من اللاَّهوت (في محافل البروتستانت أولاً، ثُمَّ في أوساط المتكلِّمين الكاثوليك بروما)، كان يسعى من خلاله للوصول إلى تفسير جديد للمسيحية في ضوء عبادة الدنيا في الحياة الجديدة.

وقد استثمر البعض الفرق بين الإيمان والدين؛ حيث اعتبر الدين بمثابة الحاجز الذي لا يدع الإنسان يقيم الانسجام - بدون خوف - بين العمل بما تمليه عليه مسؤولياته، وبين انعدام اليقين المتعلِّق بالحياة في هذا العالم. لكن الإيمان الذي كان يُؤخذ بنظر الاعتبار، إنَّما يخرج العالم من فلك أسرار القداسة ليضعه في يد الإنسان، الإنسان الذي يستطيع أن يحصل على القوة والاستقلالية ليهيمن على عالمه ويمنحه شكله. بعدها اعتبر المتكلِّمون - من خلال التأكيد على علاقة الإنسان بالله - اعتبروا الإنسان فاعلاً مختاراً مستقلَّاً في العالم - من غير أن يأخذوا بنظر الاعتبار إيمانه المكوَّن من شكل معقَّد من العقائد التي ينبغي أن تتحقَّق في هذا العالم، بشكل موضوعي وملموس - ولم يعتبروا ظهور ملكوت الله في العلاقة العلّية بعمل الإنسان في هذا العالم.

غير أنَّ متكلِّمين آخرين أكَّدوا أنَّ الإنسان بلغ سن الرشد مع ظهور عيسى المسيح، وكان ينبغي له أن يضع جانباً الصورة الوهمية لإله يمنح

٢٠٨

الطمأنينة ليتمكن بشكل حقيقي من القبول بتجلِّي الضعف والألم بوصفهما طريقاً نحو المسيحية.

لا أدعي أنَّني بهذه الإشارات البسيطة لبعض الخطوط العريضة للموضوعات المختلفة في الفكر الكلامي، أستطيع أن أوفِّي البحوث الكلامية المختلفة التي درست العلمانية حقَّها. وينتج عن ذلك، أنَّ نقد هذه الاتجاهات الكلامية استناداً إلى عرض ناقص كهذا، لن يكون ذا جدوى كبيرة، كما أنَّه لن يكون عادلاً. ومع ذلك أظن أنَّ عدداً كبيراً من المتكلِّمين يرون أنَّه لم يكن هناك طريق للفرار من مواجهة العلمانية؛ ولذا فإنَّ الدين في المجتمع الجديد، مضطر إلى أن يُهمِّش دوره يوماً بعد يوم. كما اعتبر البعض العلمانيةَ كما لو كانت شيئاً حسناً، رغم وقوفهم بوجه تأثيراتها الجانبية المزعجة؛ أي ذلك الذي يُدْعَى في مواجهة العلمانية بـ "عبادة الدنيا". وفي الحقيقة، فإنَّ كون العلمانية يمكن فصلها عن عبادة الدنيا، أو في ما يحتمل أنَّ أحدهما - بالضرورة - يتضمَّن الآخر، هو أمر ظل دائماً غير واضح.

والذي ينبغي أن يُقيَّم بشكل إيجابي، هو هذا الاعتقاد الراسخ للمكانة الجديدة للحياة المعاصرة التي تبحث عن لاهوت معاصر. وهذا يعني أنَّ علينا البدء من معرفتنا بكلام الوحي، ثُمَّ نسأل أنفسنا: كيف تصبح علومنا الدنيوية ومهاراتنا الفنية، من خلال التجسيد، بديلاً عن معرفتنا بكلام الله؟ وكما

أرى، فإنَّه رغم أنَّ هذا الكلام يبدو متناقضاً قليلاً، لكن كان علينا الإذعان بأنَّ الهروب من الدين ليس أمراً لا يمكن تجنُّبه؛ ذلك أنَّه ليس الجماعات المؤمنة

٢٠٩

فحسب، بل حتى البشرية بصورة عامة، لا يمكنها أن تبقى بشكل مجتمع إنساني يليق به هذا الاسم من دون رجوعها إلى عقلانية أكثر عمقاً من مجرَّد الوضعية ( Positivistic ) والتجريبية. أي معنى ستُقدِّم هذه للاهوتنا المعاصر، وبما يتناسب وعصرنا، وأيُّة صورة عن الله ستُقدِّم بين يدي الإنسان المعاصر في اللاَّهوت المتأخر، فإنَّ عدَّة لقطات تعين على ظهور هذه الصورة الأكثر جدة عن الله، وكذلك عن معنى الله لدى الإنسان المعاصر.

في الماضي، غالباً ما كان يُستفاد من الله في تفسير الظواهر الغامضة أو الإعجازية، وقد فسَّر العلمُ الحديث كثيراً من الأشياء بتفاسير طبيعية، ويُحتمل أن يكون هناك ما هو أكثر في المستقبل؛ وينتج عن ذلك أنَّ الإنسان أصبح إله نفسه. نحن نواجه الآن مسألة العودة إلى الله الحقيقي، الذي ليس هو تجسيداً لحاجتنا إلى اليقين، العودة إلى الله الذي لا يندرج إطلاقاً ضمن أُطر إدراكنا؛ ذلك أنَّه أسمى من كل التصورات والمنظومات الفكرية، العودة إلى الله الذي كنَّا في انتظاره وفي طلبه، هذا الذي هو منتهى غاية كل آمالنا. ففي العالم المنحوت من العقلانية، نحن بحاجة إلى هذا الشوق إلى الله؛ كي ننظر إلى الصورة التي رسمناها عنه في أذهاننا بما يتناسب وحقيقتها.

يضع الإنسان في ذهنه الاستقلالية والكمال ( Self-Fulfillment ) وتحقيق الذات ( Self-Realization )؛ بوصفها السعادة القصوى التي يصبو إليها. ومع هذا، فإنَّه دائماً يُواجه، سواء في حياته أم في حياة الآخرين، المحن والظلم والموت. فعلى عاتق مَن تقع مهمة الدفاع عن الأبرياء الذين يعانون

٢١٠

العذاب؟ وأين ينبغي لنا أن نجد المعايير لتحقيق العدالة الأكبر والإنسانية في أسلوب حياتنا؟ وكيف يمكننا التحرُّر من "الدور" الباطل؛ بين الاستقلالية والتمحور حول الذات (الفردانية) ، من غير الانصياع لله، نصير الضعفاء والمساكين، ومن غير تحرير الإنسان من قيود العناد؛ وذلك من خلال القيم التي يمنحه إياها كي يتمكَّن الناس من التكاتف والتعاون لمواجهة الظلم؟

والمجتمع الحديث رغم كل فرديَّته، مستند بقوة إلى الطمأنينة والثقة، حتى ولو كانت هذه الثقة قد ظهرت إلى الوجود بسبب التخصص وتوزيع الوظائف. إنَّنا، جميعاً، نعلم كيف أنَّ هذه الثقة، قد أدت إلى الفضائح مراراً، وإلى أيِّ حدٍّ يمكن أن تُؤدِّي إلى الانهزامية، بل وحتى إلى الكآبة. وفي المجتمع الحديث تُوجد حاجة إلى أن نعلم عن حاجتنا إلى التوكُّل على الله؛ لنتمكن - ونحن على حافَّة اليأس - من التطلُّع إلى الأمام بشجاعة. إنَّ ما يُريده الله، هو أن ينال الإنسان التوفيق الحقيقي، في جميع التجارب التي يخوضها.

و المجتمع النفعي ( Utilitarian ) لا يُدرك معنى تقديم خدمة لا يتوقَّع تحقيق مكسب من ورائها، ما هو دليل على الإحسان للغير بلا عوض؛ ذلك أنَّ أبرز سمات الإحسان من دون توقُّع المقابل، هو التسامح. وينبغي تذكير المجتمع الإنساني بحقيقة أنَّ الله هو إله الرحمة، وأن الإنسان مستعد دائماً للتسامح، ليس من موقف ضعف، بل حباً بالقيمة السامية لخدمة الغير، وعلى الإنسان أيضاً أن يُعلِّم التسامح.

٢١١

كانت تلكم فقط نماذج من الأجوبة الكلامية الممكنة في مواجهة تحديات العلمانية، ما يساعد الإنسان ليس من خلال رفض الحداثة ولا الاستسلام لها، بل من خلال اكتشاف طريق يمكن للإنسان بواسطته، أن يتحدَّث من جديد مع ربِّه، طريق يلبِّي أعمق حاجات الإنسان التي غالباً ما تكون لا شعورية.

التعدُّدية واللاَّهوت

عندما نتحدَّث عن التعدُّدية واللاَّهوت، فإنَّ ما نقصده ليس الإكثار من التعابير ذات العلاقة بلاهوت الدين المسيحي الواحد، وإنَّما الإشارة إلى تلك السمة من سمات الحداثة التي تُؤكِّد على الطبيعة الزمانية والمكانية للقضايا المثارة. ومن وجهة النظر هذه، فمن الممكن أن تبدو التعدُّدية في الأديان أمراً طبيعياً تماماً، فطوال تاريخ البشرية - بحدود الزمن الذي لدينا علم به - كان الوضع الواقعي للأمور هو هذا. وإنَّ ما يتمتَّع بالجدية بشكل أكبر، هو الزيادة المضطردة في مواقع التعدُّدية الدينية في بعض المجتمعات والدول، الناجمة عن حركة تنقُّل المجتمعات من مكانٍ إلى آخر، وعن تفكُّك عرى الانسجام الاجتماعي في المجتمعات الحديثة.

وربَّما كانت هذه التعدُّدية - بشكل من الأشكال - قد بدأت في مواجهة التخلي عن الدين في المجتمعات الحديثة التي تمت، إمَّا مع ظهور أشكال شتى من الانتقائية، وإمَّا خلال مجابهة الصور الجديدة للدين، عن طريق إحياء الرابطة الدينية؛ إلاّ أنَّ ما حوَّل التعدُّدية أخيراً إلى مشكلة حقيقية للاهوت هو ادعاء الإطلاق ( Absluteness ) من قبل المسيحية، الادعاء الذي تشترك به - من هذه الناحية - مع سائر أديان العالم.

٢١٢

وعندما نستخدم كلمة "الإطلاق"، لا نعني بها "المبرَّأ من القيود بشكل مطلق"، فالمعنى الدقيق والفلسفي لهذه الكلمة لا يصدق إلاَّ على الله؛ وإنَّما نستخدمها على الأغلب بمعنى "التام" أو "التحقُّق التام". وقد نظرت فلسفة هيغل الديالكتيكية بهذه النظرة إلى المسيحية، بوصفها التحقُّق التام لظاهرة الدين.

كان يُوجد في التقليد الكاثوليكي بروما مثل يصل زمنه إلى القرن الثالث الميلادي، إلاًَّ أنَّه اشتهر غالباً بواسطة قاعدة منسوبة إلى فولجنتيوس الراسبي ( Fulgentius of Ruspe ) من القرن السادس، والمثل هو: "لن ينال أحد الخلاص خارج الكنيسة". كان هذا المثل بادئ الأمر بمثابة تحذير لأهل البدع، من أنَّه لا يمكن الحصول على أي شيء خارج وحدة الإيمان في ظل الكنيسة، إلاَّ أنَّ هذا المعنى تغيَّر تدريجياً إلى أنَّ عامة المسيحين من غير الكاثوليك، ومن ثُمَّ جميع المؤمنين بالأديان غير المسيحية - ولكونهم غير منتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية بروما فحسب - محرومون من الخلاص. وأسوأ أنواع التفسير لهذا المثل تمَّ بشكل رسمي سنة 1949، إلاَّ أنَّ التحوُّل الحقيقي والمهم في التعامل مع الأديان غير المسيحية حدث في المجمع الفاتيكاني الثاني (1965)؛ حيث نقرأ في الإعلان المسمَّى "رجال عصرنا" (2) بشأن رأي الكنيسة في الأديان غير المسيحية: "إنَّ الكنيسة الكاثوليكية لا تنبذ ما هو حق ومقدَّس في هذه الأديان، وتحترم هذه الكنيسة أساليب الحياة، والسلوكيات، والتعاليم التي غالباً ما تتضمَّن قبساً من شعاع الحقيقة التي تنير نفوس جميع بني الإنسان، رغم أنَّ فيها اختلافات كبيرة في كثير من أوجهها

٢١٣

مع تعاليمها (أي تعاليم الكنيسة)" .

إنَّ هذا التعامل الأكثر إيجابية وانفتاحاً على الأديان غير المسيحية، الممتزج بحقيقة التعدُّدية الدينية المتزايدة في الدول، أدَّى إلى ظهور شكل من الفكر الكلامي الذي سُمِّي بـ "لاهوت جميع الأديان" ( Theology of Religious ). وهذا ليس صورة كلامية من علم الأديان ( Science of Religions )، بل هو حقاً فكر كلامي يهدف إلى تحقيق فهم أعمق للأديان غير المسيحية، وفهم العلاقة بين المسيحيين وغير المسيحيين، من الناحيتين النظرية والعملية. وأخيراً يُطرح هذا السؤال: في موضوع "الله للعالم"، كيف يمكن أن تكون أهمية التعدُّدية الدينية، وكيف يمكن البرهنة على هذا الأمر من منظور كلامي؟

غير أنَّه يُوجد عنصر يجعل هذا الجهد أكثر صعوبة؛ حيث يُواصل إعلان "رجال عصرنا" - الذي نقلنا شطراً منه آنفاً - كلامه، فيقول: "إلاّ أنَّها (أي الكنيسة) وبدون أدنى تردُّد - وكما هو قدرها - تُسبِّح المسيح الذي هو طريق الحقيقة والحياة، ففيه وحده يجد الإنسان كمال حياته الدينية، وفيه وبواسطته يتصالح الله مع جميع الأشياء" .

حينما يُريد أحد النظر في العلاقة بين الأديان، فإنَّه يواجه مسارين أساسيين، هما:

الأول: التحريم تجاه الآخر مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات بينهما.

الثاني: الالتزام تجاه النفس، أي تجاه هويَّته الدينية.

وبدون هذين الاثنين، فإنَّ العلاقة ستكون مجردَّة عن التناسب.

وإنَّ إشكالية اللاَّهوت تنبع من هذا

٢١٤

الأمر، الذي يرى فيه جمع من الناس، أنَّه لكي يكون هناك خطاب يتمتَّع بنسبةٍ أو نوعٍ من الوئام، فمن الضروري وجود مساواة مبدئية: لا ينبغي لأحد - منذ البدء - أن يدَّعي امتلاك الحقيقة النهائية ، لكن هذا هو ما تهتم به الأديان العالمية.

إنَّني أستطيع التكلُّم نيابة عن المسيحيين فقط، وأشير إلى الكيفية التي يسعى بها القول بفكرة "لاهوت جميع الأديان" لتبيان القضايا المطروحة. ربَّما ما يزال باكراً الادعاء بالعثور على جواب لهذه الإشكالية، بينما كان إصلاح التفسير المتعلِّق بالمثل القائل: "لن ينال أحد الخلاص خارج الكنيسة"، أمراً سهلاً.

والإشكالية الحقيقية التي تنجم عن هذا الأمر، وهي أنَّه من وجهة نظر مسيحية، فإنَّ أحداً لن ينال الخلاص خارج عيسى المسيح "ليس بأحد غيره الخلاص؛ لأنَّ ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس" (أعمال الرسل، 12). وهناك نصٌ آخر من الكتاب المقدَّس يُقرِّر بوضوح هذه

الإشكالية، وهو: "لأنَّ هذا حسن ومقبول لدى مخلِّصنا، الله الذي يريد أنَّ جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون"، ويواصل: "لأنَّه يوجد إله واحد، ووسيط واحد، بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" (تيموثاوس الأولى، 2: 4 - 5) .

وقد أخذ المجمع الفاتيكاني الثاني - من خلال موقفه الإيجابي - بنظر الاعتبار، الوحدةَ الأساسية للجنس البشري بوصفها نقطة البدء في فهم فكرة

الله، وآمن بوجود "بذور الكلمة" ( Seeds of the Word )، ليس في قلوب كل فرد من بني الإنسان فحسب، بل حتى في التقاليد الدينية

٢١٥

غير المسيحية، والذي هو شكل من أشكال الوجود الخفي لسر المسيح المخلِّص. ومع هذا، فإنَّ المجمع الفاتيكاني الثاني لم يتقدَّم خطوة إلى الأمام ليعتبر التقاليد الدينية الأخرى "طرقاً للخلاص"، رغم أنَّ البعض يحملون الاعتقاد بأنَّ الخطوة الأولى بهذا الاتجاه قد بدأت.

ليس عجيباً أن تتركَّز أفكار تلك المجموعة من المتكلِّمين المسيحيين الذين يولون هذه القضايا عناية خاصة، على هذا القسم من اللاَّهوت الذي يدعى الكريستولوجيا ( Christology )؛ أي تلك التعاليم التي تتناول شخص عيسى المسيح، ممَّا كان بإمكانه أن يأخذ في زمن أقدم اسم: حصر محورية المسيح ( Christocentice Exclusivism )، ويسميه البعض: محورية الكنيسة؛ ذلك أنَّ هذا الدور المحوري قد نسب للكنيسة. ويعتمد هذا الموقف في الحقيقة على الرأي القائل بأنَّ الإيمان الواضح بعيسى المسيح والتمسُّك الراسخ بالكنيسة هما الشرطان اللازمان للخلاص.

وقد حلَّ هذا النهج الأقدم - وبشكل مضطرد - محلَّ النهج القائل بمحورية المسيح، الذي يُؤكِّد على حصر محورية المسيح، والذي يعتقد أنَّ الوحي المسيحي هو المعيار النهائي للأديان. إلا أنَّه يمكن العثور في هذه الأديان على قيم أصيلة يمكنها - على الأقل - أن تكون بمثابة "الخطوة الأولى" أو "معبِّدة الطريق للإنجيل"، ويمكنها أن تعين أتباع الأديان الأخرى على نيل فهم الحقيقة الكامنة في سرّ المسيح.

٢١٦

ومع ذلك، فإنَّ بعض المتكلِّمين يشعرون أنَّه حتى هذا النهج الشامل مفتقر إلى الانسجام الحقيقي؛ ذلك أنَّه لا يحمل على محمل الجد الاختلاف مع الأديان الأخرى، وهم يقولون: إنَّنا بحاجة إلى ثورة كوبرنيكية في اللاَّهوت. فكما أنَّ الفلكيين اضطروا في نهاية المطاف إلى نبذ النظرية الفلكية البطليموسية التي تجعل من الأرض محور العالم، واختاروا علم الفلك الكوبرنيكي الذي يجعل من الشمس محور العالم، فإنَّ على اللاَّهوت أيضاً أن يتخلَّى عن محورية المسيح من أجل محورية الله .

وفي هذا المنهج الفكري تبدو الأديان الكبرى في العالم بمثابة أجوبة متنوِّعة للحقيقة الإلهية التي لا مثيل لها، ومحورية الله هذه هي بمثابة المقولة الكلامية التي تُدعى أحياناً بالتعدُّدية، أو اللاَّهوت المتعدِّد. واستناداً إلى ما يعتقده بعض المتكلِّمين، فإنَّه يمكن الإيمان بنظرية محورية الله، التي يمكن أن تكون مفيدة في تبرير حقيقة التعدُّدية الدينية التي لها ربُّها المتناسب معها - استناداً إلى أدلتنا وإدراكنا - وفي نفس الوقت، الاعتقاد بدور مصيري للسيد المسيح في تدبير الخلاص. وهم من غير أن يُسمُّوا الأديان الأخرى بالطرق العادية للخلاص، يتحدَّثون، أحياناً، عن "الطرق المنفصلة للخلاص" . أمَّا بقية المتكلِّمين، فلا يرون حاجة لحفظ صورة عن "محوريَّة المسيح المعيارية" ( Normative ).

لا شك في أنَّ استخلاص النتائج النهائية من هذا البحث ما يزال مبكراً؛ حيث النقاش والبحث ما يزالان متواصلين. وأشعر - باسم الالتزام المخلص لهويَّتي المسيحية - أنَّه لابد للخصوصية المحورية للاَّهوت المسيحي، الأخذَ في

٢١٧

نظر الاعتبار، جميع الأديان أن تكون محورية للمسيح شاملة.

ومن ناحية أخرى، يبدو أنَّ التأكيد على أنَّ عيسى المسيح لن يحل محل الله، منسجم تماماً مع رؤية الكتاب المقدَّس: المسيح في قلب خلاصنا؛ ذلك أنَّ الله وضعه هناك. وهذا الأمر يهدينا إلى إمكانية منح محورية المسيح التي لدينا بعد محورية الله، حتى لو أُجِّل إلى المستقبل تبلور الشكل النهائي لهذا اللاَّهوت الآخذ بنظر الاعتبار جميع الأديان. وبغض النظر عمَّا سيحدث، فإنَّ ملاحظاتنا الأولية أعدَّتْنا لنتعامل - ضمن إطار معين - مع إمكانية المبادرة إلى طرق متعدِّدة للبحث في هذا السر.

في الختام، ربَّما أمكن إضافة هذا الأمر: إنَّ السعي لبلوغ حوار أصيل، يحتاج - إضافة إلى الالتزام الجاد من قبل جميع المشاركين في هذا الحوار - إلى صبر عظيم. ولمَّا كان اللاَّهوت المنظَّم ما يزال منهمكاً في البحث عن أجوبة رصينة لكثير من القضايا القائمة، فإنَّه - في نفس الوقت الذي نهتم فيه بصنع عالم أفضل - لا ينبغي لأيِّ شيء أن يكون حائلاً بيننا وبين أن نكون متحابِّين متوادِّين مع بعضنا.

٢١٨

حوار الإسلام والحداثة

الدكتور كليم صديقي (*)

تمهيد

يهدف هذا المقال إلى البحث عن إمكانية الوصول إلى فصل مشترك، أو نقطة التقاء، بين الحداثة والإسلام، من خلال علم اجتماع المعرفة. مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الإسلام والحداثة، يشكلان قطبين متمايزين في ما يتَّصل بالنظر إلى المعرفة، والحقيقة، والشعب. والنظرة الكونية للحداثة، تتميَّز بالمحدودية، والنفعية، والانشطار، إلَّا أنَّنا نستطيع القول: إنَّ هناك نوعاً من التلاؤم في ما بينهما. فالحداثة باستطاعتها تنمية ثقافتها الموسَّعة، من خلال طرق مختلفة. والإسلام يقبل بهذا التخصيب، ويُحوِّل ذلك إلى جزء من بنائه القابل للتنمية المستمرة. وهذا لا يعني بتاتاً قبول الإسلام لكل منجزات الحداثة. إنَّ هذا المنهج يرفض كل ما لا يتَّفق مع قيمه، ونظرته العاطفية، وموازينه الاجتماعية، ومعاييره لمعرفة الجمال.

وفي هذا المقال نشرح باختصار

٢١٩

بعض المفاهيم الأساسية للحداثة والإسلام - تلك المفاهيم التي نرى أنَّها في تقابل قطعي في ما بينها - كي تتيسر الدراسة المقارنة لها. ومن ثُمَّ نسعى إلى إيجاد الصلة في ما بينها، وتعبيد الطريق أمام تجديد بناء الفكر الثيولوجي والقانوني للإسلام، في القضايا المطلوبة والضرورية. ومن الواضح أنَّ كل ما قلناه يتوقَّف على تعريفنا للحداثة والإسلام.

والهدف الآخر للمقال، هو إبراز تبعات إزالة القدسية عن العلم بواسطة الحداثة، وبيان صلة الدين بإنسان ما بعد الحداثة المتعطِش للمعنوية. الحداثة التي هي ظاهرة متنامية، وفي حركة مستمرة، وُلِدَ منها في مقابل إنسان العصور الوسطى، إنسان الحداثة والعلماني. ومع مرور الزمن، و - بعد مخاضٍ عسير - ولد إنسان ما بعد الحداثة من رحم العلمانية، والذي كان يتصف نفسياً بعدم الركون والطمأنينية والشعور بالوحدة. ومن وسط هذا الشقاء الروحي والمعنوي، نهض إنسان الثورة وما بعد الحداثة حتى يرجع - كما سوف نرى - إلى فكر وسلوك ما قبل الحداثة.

التلوُّث الفكري لآدم

الحداثة والدين نظرتان مختلفتان إلى الحياة، الحداثة لها توجُّه نفعي (إثباتي) علماني وميكانيكي إلى العالم، والدين يسعى إلى تكريس نظرة كونية متعالية، مقدَّسة وأخلاقية، ومؤمنة بالله. هذه الرؤية تعتبر من نتائج معرفة تختصّ بهذه الدوائر. إنَّ المعرفة التي تدافع عن نظرة كونية ميكانيكية، هي معرفة الحقائق الفاقدة للروح، والتي تنتج من خلال التجربة الحسيّة. إنَّ هذه

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240