علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد
0%
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: الصفحات: 240
المشاهدات: 31451
تحميل: 13954
توضيحات:
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
ومن غير أنْ أدَّعي الدقة العلمية لهذه القاعدة، فإنَّني أعتقد بأنَّ رؤية الكتاب المقدَّس، من أنَّ الحقيقة هي تلك التي تحدث وليس الشيء الثابت الموجود، خلقت هذه المعضلات الفلسفية. ذلك أنَّ التقليد المألوف كان يرى أنَّ المعرفة الحقيقية ينبغي أن تكون ثابتة، والمعرفة المتغيِّرة ذات علاقة بالعقيدة، وليس بمجال المعرفة الحقيقية.
ومع ذلك لو أنَّ أحداً يقول مع هيغل (1770 - 1831م) بأنَّ: "الحقيقة لا تتجزأ" ( Ganze Das wahr ist das )، يمكن أنْ يقال له: إنَّ كل هذا القول، أيضاً، مكوَّن من قضايا جزئية، وإنَّ هذه القضايا الجزئية تساهم في تكوين تلك الحقيقة. ومع تجاوز رؤية هيغل، يمكن اعتبار هذا القول قابلاً للتعميم، بل يمكن اتخاه أفقاً، والحقائق - سواء أكانت مؤقَّتة أم خاضعة لشروط معينة - واقعة ضمن هذا الأفق. وعلى هذا، فإنَّ تصوُّر الحقيقة بأنَّها جبرية تاريخية ( bound History ) - كما وردت في الكتاب المقدَّس - لا يتلاءم مع بعض المفاهيم المعاصرة عن الحقيقة.
وهنا نصل إلى اللاَّهوت الجزمي حيث ستواجهنا قضية خاصة، ذلك أنَّ التعبيرات التقليدية للإيمان المسيحي هي نقطة البداية، بل المعيار للاهوت الجزمي وستبقى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنَّه يُوجد بشكل متزايد حالة من عدم الانسجام في هذا النوع من اللاَّهوت النظري، بين النتائج العلمية التي تتمتَّع بالمستوى الراقي في مجال الدراسات ذات العلاقة بالكتاب المقدَّس، وبين متطلَّبات الموعظة المتناسبة مع حاجة المؤمنين. وفضلاً عن
هذا، فإنَّ اللاَّهوت في ما مضى كان يرفد فقط من إطار فلسفي ونظري محدَّد، بينما نرى اليوم حولنا وجود أنظمة فلسفية متنوِّعة كثيراً.
في الحقيقة، لم يعد هناك نظام ثقافي عام؛ ذلك أنَّه ستظهر، بالنتيجة، تعدُّدية كلامية لا محالة.
وأخيراً، إنَّ اللاَّهوت في هذه الأرضية العامة، لن يتمكن من الاستمرار في مجرد نقل مجموعة مدوَّنة من المعارف من غير أن يأخذ في الحسبان التجارب الحية لجماعة المؤمنين؛ إذ إنَّ هذا العمل سيكون مصحوباً بخطر عدم الانسجام التام.
وأخذ التجربة المتعلِّقة بجماعة المؤمنين في الحسبان يعني أنَّه سيصبح مستحيلاً بعد ذلك، الحديث عن الله بمثابة كونه ذا علاقة بالفكر الماوراء - طبيعي. ومن ناحية أخرى، لم يعد مقبولاً، أيضاً، أن نتناول الموضوع بشكل يبدو معه أنَّ ما هو عائد لله مقتصر على معنى يمكن أن يحصل لدى شخص مؤمن؛ حيث إنَّ الله أعلى من ذلك.
ووسط هذه الموضوعانية ( Objectivism ) الزائفة، واللاَّهوت الذي يُقلِّل من محورية الإنسان، هناك اللاَّهوت الصادق الذي يحافظ على الحقيقة الإنسانية عن طريق الاهتمام بتاريخ الخلاص، والبحث عن طريق للخلاص، وفي الوقت نفسه ينفتح بذاته في مواجهة التحديِّات.
وهنا ظهر اتجاهان أساسيان:
الأول يرى أنَّ الوجود الإنساني بمثابة موضوع البحث كلامي ينبغي أن يدرس في ضوء نظرة إيمانية، أي من وجهة نظر كلام الله، وعلى هذا لا يمكن - لأجل دراسته - اتباع منهج البحث
التاريخي هذا.
أمَّا الاتجاه الثاني، فهو لا يُفرِّق بين تاريخ الناسوت وتاريخ الخلاص، فالتاريخ من حيث هو تاريخ هو المكان الذي يتجلَّى فيه الله.
لكن مهما يكن، يبدو أنَّ اللاَّهوت اليوم يهتم بالكشف عن معنى خلود كلام الله بجميع أشكاله. وهنا نقطة البدء في أنَّه كيف يصل الإنسان - في ضوء التاريخ - إلى إدراك نفسه وعالمه؟ وفي الحقيقة، فإنَّ هذا الأمر يقودنا مرةً أخرى إلى علم التأويل: إنَّ الاهتمام باستخراج المعنى المعاصر لنص من قلب الماضي، الذي هو هنا الكتاب المقدَّس وتفاسيره التي ظهرت متعاقبة خلال تقاليد المؤمنين، يجعلنا في كل لحظة أكثر بُعداً عن الاتجاه إلى التفسير العقلاني لزعم نظري له - لا محالة - جواب واحد. صحيح أنَّه ينبغي للاتجاه التأويلي أن يمتنع عن خيانة الماضي، لكنَّه، أيضاً، لا يمكنه الإذعان بذريعة الوفاء لمعطيات ماضٍ ميت. فهدف التأويل - في أعلى درجاته - بلورة معنى الوحي الإلهي لعالم اليوم .
كنتُ - خلال البحث في الحقيقة - قد استخدمت كلمة "أفق"، ويمكن القول: إنَّ هدف علم التأويل هو توسيع أفق النص وأفق رؤية القارئ الجديد، إلى الحد الذي يمتزج فيه هذان الاثنان ليصبحا واحداً. وإنَّ أمراً كهذا يفرض على المتكلِّمين، أن يبتدعوا لغةً جديدة تُؤمِّن موضوعية النص، وفي الوقت نفسه، تنسجم مع ذهنية المفسِّر المعاصر.
وواضح أنَّ لاهوتاً كهذا سيكون مؤقَّتاً بشكل دائم؛ ذلك أنَّ المعرفة البشرية محدودة، وهذا يعني أنَّ اللاَّهوت سيبقى مفتوحاً بشكل دائم على المستقبل، اللاَّهوت أمل، أمل في تحقيق جميع
وعود الله. وإنَّ لاهوتاً يمنح فهماً كهذا، يفتح الطريق أمام عالمنا وفقاً لكلام الله، الكلام الذي لا يكون بمثابة وجود ثابت لا يتغيَّر، بل بوصفه طاقة متحرِّكة.
إنَّنا بعيدون جداً عن تصوُّر ساذج تقريباً كهذا، قائم على أساس أنَّنا نفهم النص بشكل أفضل ممَّا يفهمه مؤلِّفه (كما يمكن للبعض أن يستنتج ذلك من علم التأويل)، ولكنَّنا تجاوزنا، أيضاً، العمل لمجرد تبيان نصٍّ قادم إلينا من قلب الماضي. فعلم التأويل ينوي تفسير النص في موضوعيته، وفهمه كذلك، آخذاً بنظر الاعتبار ما يبينه الحاضر ممَّا هو ذو علاقة بالواقع. فعن طريق التأويل تفتح أمام النص آفاق جديدة، وهذا مغاير للكشف النوعي الجوهري الأبدي والثابت الذي ينتقل من عصرٍ إلى عصرٍ آخر.
ينبغي بلوغ المضمون المجرَّد والحقيقي للإيمان من خلال التأويل، وإنْ لم تُوضع حدود للتأويلات الممكنة، فسيؤدِّي ذلك إلى الذاتية ( Subjectivity ) المجردَّة. إلاَّ أنَّ هذه الحدود موجودة، وهي عبارة عن الإجماع الذي يظهر خلال تبادل وجهات النظر وتعارض الآراء. وبطبيعة الحال، فإنَّ المقصود بهذا الإجماع ليس ذلك الناتج عن أضعف أوجه الاشتراك، بل ذلك النابع من الانفتاح أمام الروح القدس.
واستناداً إلى هذه الرؤية، فإنَّ الإلهام القدسي لكلام الله، له علاقة بإيمان جماعة المؤمنين قبل أن يكون معتمداً على الكلمات نفسها.
من الواضح أنَّه باستثناء القضايا الخاصة التي نجمت عن الحداثة، فإنَّ طريق استجلاء اللاَّهوت قد تأثَّر بشكل كبير بتحديات الحداثة. ويتَّضح هذا الأمر من التلخيص التالي:
بدأ علم الكلام التقليدي عمله من خلال تفسيره رأياً؛ أي أمراً عقائدياً، ثُمَّ وضَّح هذا الأمر في المرحلة الأولى (التي كانت تمتاز بأهمية فائقة). كان هذا الرأي يُبرَّر بفتاوى مراجع التعليم الكنسي ( The Magisterium )، ثُمَّ أورد آباء الكنيسة ( Fathers of the Church ) وبعض المتكلِّمين العظام البراهين عليه، مستعينين بنقل نصوص من الكتاب المقدَّس. وأخيراً ومن خلال الردِّ على المعارضين لتلك الآراء في ذلك العصر أو العصور التي سبقته، تم إقراره بشكل نهائي.
أمَّا الكلام الذي كان له اتجاه تأويلي، فقد بدأ عمله بالاهتمام الجاد بأمر؛ ألا وهو: إنَّ كل حقيقة هي جبرية للتاريخ . وضمن هذا الاهتمام، أدرك هذا الأمرَ المهم، وهو أنَّه كان يُوجد شطر كبير من الكتابات والنصوص، كما اعتبر اللاَّهوت بوصفه أمراً يُحقِّق تدويناً جديداً للكتاب المنزَّل. وانطلاقاً من هذا، فقد بدأ من كتابات المتقدِّمين كما لو كان يُضيف حلقة جديدة إلى حلقات في سلسلة. وهذا الأمر الذي يتطلَّب في نفس الوقت، التزاماً تجاه القضايا المتقدِّمة، بحاجة إلى إبداع يتَّجه نحو المستقبل؛ ذلك أنَّ المطلوب من علم الكلام هذا، ليس عرض وإيضاح مبادئ العقائد الثابتة، بل استخراج المعاني الحقيقية لكلام الله في ضوء التجربة الجديدة وتاريخ الكنيسة والإنسان
المعاصر. ولبدء عمل كهذا، لا يدَّعي اللاَّهوت تقديم نوع من الحقيقة ممَّا وراء الطبيعة، بل يدَّعي تقديم اليقين القائم على ما يقوله كلام الله لنا اليوم.
ويبدو أنَّ هذا التحوُّل العظيم في الرؤية والاتجاه والمنهج حتى لو بدا - إلى حدٍّ ما - منتزعاً أو سرِّياً، فهو ذا أهمية فائقة، وقد هبَّ بشكل مباشر يصارع تحدِّي الحداثة.
أريد الآن أنْ أشير باختصار إلى قضيتين لا يمكن للاهوت إلاَّ مواجهتهما: العلمانية و التعدُّدية . وكلاهما ناجمان عن الحداثة، وإذا كان مقرَّراً لتلك الأخيرة أن تبقى، فإنَّ اللاَّهوت لابد له أنْ يجابه هذه القضايا ويُقدِّم أجوبة لأسئلتها.
العلمانية واللاَّهوت
العلمانية واحدة من تلك الحزمة من المصطلحات التي استخدمت - وما زالت - على نطاق واسع، رغم أنَّه لم يكن لها، غالباً، تعريف دقيق. وقد مرَّ وقت كان فيه مَن يقول: العلمانية من الكلمات الغامضة التي تظهر فجأة عندما يتخلَّى الناس عن التفكير العميق. وممَّا لا شك فيه، أنَّ هذه الظاهرة ذات علاقة حميمة بالحداثة.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار هاتين المسألتين معاً - أي الاهتمام الواسع الذي يثيره هذا المفهوم حول نفسه، وعلاقته الحميمة بالحداثة - سنحصل على نموذج مفيد عن الكيفية التي يكون عليها ردُّ الفعل الموضوعي والملموس للاَّهوت تجاه واحد من أوجه الحداثة، وكذلك أيُّ شيء يمكن أن نتوقَّعه في المستقبل عن طريق ردِّ فعل اللاَّهوت.
ومن دون أن نخوض في جميع الأوجه الممكنة للتعريف، يكفي أن نقول: إنَّ الخطر هو تدمير الواقع أو العالم السامي الذي يضع بين أيدينا مصير كافَّة الأمور، والذي بفنائه لا يبقى لنا شيء سوى العالم التاريخي البشري والمحدود؛ أي ذلك الشيء الذي يقال له باللاتينية: ( Saeculum ). هذا الفناء الذي سيغطِّي - في مرحلة من المراحل - على كافَّة أوجه الحياة البشرية: المجتمع، والثقافة، والحياة الخاصة والدين، في ذلك الوقت الذي لا يمكن فيه العودة إلى واقعية أفضل وعقلانية مهيمنة، ويكون فيها الإنسان وعالمه مختارين، ويبدأ ذلك بتدهور قوة الدين وتأثيره، ثُمَّ يصبح الجانب المقدَّس للعالم والإنسان بعيداً عن الرؤية؛ ويُؤدِّي هذا، أخيراً، إلى الإلحاد ( Atheism ). إنَّ كل ذلك يعمل على مستوى المجتمع ومستوى الضمائر الفردية، رغم أنَّه من الممكن أن يكون صحيحاً أنَّ اللاَّهوت قدَّم ذات مرة صورة عن الله لم تكن مقبولة في ضوء العلم الحديث، إلاَّ أنَّ الذي لا شك فيه، أيضاً، أنَّ العلمانية - في كثير من البقاع - قد أفرغت العالم من محتواه.
إنَّ أول ردَّ فعل للاَّهوت - أو ردَّ فعل الدين المتكوّن - يمكن أن يُسمَّى بـ "المقاومة" : الإجراءات الحربية، مثل: ترتيب الصفوف ووضع الانضباط العقائدي المتشدِّد، ورعاية الديانة والعبادات التقليدية، وقيام تشكيلات دينية - مؤسَّساتية في ميادين الحياة المختلفة بهدف إفشال التشكيلات الدنيوية (العلمانية). إلاَّ أنَّ هذه السياسة كانت تبدو على المدى البعيد سلبية إلى الحد
الذي لم تكن معه قادرة على إعطاء أجوبة مقنعة حقاً، ردَّاً على التحديِّات المطروحة.
ويمكن تسمية ردَّ الفعل الآخر بـ "التسليم" : وقد وجَّه ردَّ الفعل هذا، اهتمامه إلى صور من اللاَّهوت (في محافل البروتستانت أولاً، ثُمَّ في أوساط المتكلِّمين الكاثوليك بروما)، كان يسعى من خلاله للوصول إلى تفسير جديد للمسيحية في ضوء عبادة الدنيا في الحياة الجديدة.
وقد استثمر البعض الفرق بين الإيمان والدين؛ حيث اعتبر الدين بمثابة الحاجز الذي لا يدع الإنسان يقيم الانسجام - بدون خوف - بين العمل بما تمليه عليه مسؤولياته، وبين انعدام اليقين المتعلِّق بالحياة في هذا العالم. لكن الإيمان الذي كان يُؤخذ بنظر الاعتبار، إنَّما يخرج العالم من فلك أسرار القداسة ليضعه في يد الإنسان، الإنسان الذي يستطيع أن يحصل على القوة والاستقلالية ليهيمن على عالمه ويمنحه شكله. بعدها اعتبر المتكلِّمون - من خلال التأكيد على علاقة الإنسان بالله - اعتبروا الإنسان فاعلاً مختاراً مستقلَّاً في العالم - من غير أن يأخذوا بنظر الاعتبار إيمانه المكوَّن من شكل معقَّد من العقائد التي ينبغي أن تتحقَّق في هذا العالم، بشكل موضوعي وملموس - ولم يعتبروا ظهور ملكوت الله في العلاقة العلّية بعمل الإنسان في هذا العالم.
غير أنَّ متكلِّمين آخرين أكَّدوا أنَّ الإنسان بلغ سن الرشد مع ظهور عيسى المسيح، وكان ينبغي له أن يضع جانباً الصورة الوهمية لإله يمنح
الطمأنينة ليتمكن بشكل حقيقي من القبول بتجلِّي الضعف والألم بوصفهما طريقاً نحو المسيحية.
لا أدعي أنَّني بهذه الإشارات البسيطة لبعض الخطوط العريضة للموضوعات المختلفة في الفكر الكلامي، أستطيع أن أوفِّي البحوث الكلامية المختلفة التي درست العلمانية حقَّها. وينتج عن ذلك، أنَّ نقد هذه الاتجاهات الكلامية استناداً إلى عرض ناقص كهذا، لن يكون ذا جدوى كبيرة، كما أنَّه لن يكون عادلاً. ومع ذلك أظن أنَّ عدداً كبيراً من المتكلِّمين يرون أنَّه لم يكن هناك طريق للفرار من مواجهة العلمانية؛ ولذا فإنَّ الدين في المجتمع الجديد، مضطر إلى أن يُهمِّش دوره يوماً بعد يوم. كما اعتبر البعض العلمانيةَ كما لو كانت شيئاً حسناً، رغم وقوفهم بوجه تأثيراتها الجانبية المزعجة؛ أي ذلك الذي يُدْعَى في مواجهة العلمانية بـ "عبادة الدنيا". وفي الحقيقة، فإنَّ كون العلمانية يمكن فصلها عن عبادة الدنيا، أو في ما يحتمل أنَّ أحدهما - بالضرورة - يتضمَّن الآخر، هو أمر ظل دائماً غير واضح.
والذي ينبغي أن يُقيَّم بشكل إيجابي، هو هذا الاعتقاد الراسخ للمكانة الجديدة للحياة المعاصرة التي تبحث عن لاهوت معاصر. وهذا يعني أنَّ علينا البدء من معرفتنا بكلام الوحي، ثُمَّ نسأل أنفسنا: كيف تصبح علومنا الدنيوية ومهاراتنا الفنية، من خلال التجسيد، بديلاً عن معرفتنا بكلام الله؟ وكما
أرى، فإنَّه رغم أنَّ هذا الكلام يبدو متناقضاً قليلاً، لكن كان علينا الإذعان بأنَّ الهروب من الدين ليس أمراً لا يمكن تجنُّبه؛ ذلك أنَّه ليس الجماعات المؤمنة
فحسب، بل حتى البشرية بصورة عامة، لا يمكنها أن تبقى بشكل مجتمع إنساني يليق به هذا الاسم من دون رجوعها إلى عقلانية أكثر عمقاً من مجرَّد الوضعية ( Positivistic ) والتجريبية. أي معنى ستُقدِّم هذه للاهوتنا المعاصر، وبما يتناسب وعصرنا، وأيُّة صورة عن الله ستُقدِّم بين يدي الإنسان المعاصر في اللاَّهوت المتأخر، فإنَّ عدَّة لقطات تعين على ظهور هذه الصورة الأكثر جدة عن الله، وكذلك عن معنى الله لدى الإنسان المعاصر.
في الماضي، غالباً ما كان يُستفاد من الله في تفسير الظواهر الغامضة أو الإعجازية، وقد فسَّر العلمُ الحديث كثيراً من الأشياء بتفاسير طبيعية، ويُحتمل أن يكون هناك ما هو أكثر في المستقبل؛ وينتج عن ذلك أنَّ الإنسان أصبح إله نفسه. نحن نواجه الآن مسألة العودة إلى الله الحقيقي، الذي ليس هو تجسيداً لحاجتنا إلى اليقين، العودة إلى الله الذي لا يندرج إطلاقاً ضمن أُطر إدراكنا؛ ذلك أنَّه أسمى من كل التصورات والمنظومات الفكرية، العودة إلى الله الذي كنَّا في انتظاره وفي طلبه، هذا الذي هو منتهى غاية كل آمالنا. ففي العالم المنحوت من العقلانية، نحن بحاجة إلى هذا الشوق إلى الله؛ كي ننظر إلى الصورة التي رسمناها عنه في أذهاننا بما يتناسب وحقيقتها.
يضع الإنسان في ذهنه الاستقلالية والكمال ( Self-Fulfillment ) وتحقيق الذات ( Self-Realization )؛ بوصفها السعادة القصوى التي يصبو إليها. ومع هذا، فإنَّه دائماً يُواجه، سواء في حياته أم في حياة الآخرين، المحن والظلم والموت. فعلى عاتق مَن تقع مهمة الدفاع عن الأبرياء الذين يعانون
العذاب؟ وأين ينبغي لنا أن نجد المعايير لتحقيق العدالة الأكبر والإنسانية في أسلوب حياتنا؟ وكيف يمكننا التحرُّر من "الدور" الباطل؛ بين الاستقلالية والتمحور حول الذات (الفردانية) ، من غير الانصياع لله، نصير الضعفاء والمساكين، ومن غير تحرير الإنسان من قيود العناد؛ وذلك من خلال القيم التي يمنحه إياها كي يتمكَّن الناس من التكاتف والتعاون لمواجهة الظلم؟
والمجتمع الحديث رغم كل فرديَّته، مستند بقوة إلى الطمأنينة والثقة، حتى ولو كانت هذه الثقة قد ظهرت إلى الوجود بسبب التخصص وتوزيع الوظائف. إنَّنا، جميعاً، نعلم كيف أنَّ هذه الثقة، قد أدت إلى الفضائح مراراً، وإلى أيِّ حدٍّ يمكن أن تُؤدِّي إلى الانهزامية، بل وحتى إلى الكآبة. وفي المجتمع الحديث تُوجد حاجة إلى أن نعلم عن حاجتنا إلى التوكُّل على الله؛ لنتمكن - ونحن على حافَّة اليأس - من التطلُّع إلى الأمام بشجاعة. إنَّ ما يُريده الله، هو أن ينال الإنسان التوفيق الحقيقي، في جميع التجارب التي يخوضها.
و المجتمع النفعي ( Utilitarian ) لا يُدرك معنى تقديم خدمة لا يتوقَّع تحقيق مكسب من ورائها، ما هو دليل على الإحسان للغير بلا عوض؛ ذلك أنَّ أبرز سمات الإحسان من دون توقُّع المقابل، هو التسامح. وينبغي تذكير المجتمع الإنساني بحقيقة أنَّ الله هو إله الرحمة، وأن الإنسان مستعد دائماً للتسامح، ليس من موقف ضعف، بل حباً بالقيمة السامية لخدمة الغير، وعلى الإنسان أيضاً أن يُعلِّم التسامح.
كانت تلكم فقط نماذج من الأجوبة الكلامية الممكنة في مواجهة تحديات العلمانية، ما يساعد الإنسان ليس من خلال رفض الحداثة ولا الاستسلام لها، بل من خلال اكتشاف طريق يمكن للإنسان بواسطته، أن يتحدَّث من جديد مع ربِّه، طريق يلبِّي أعمق حاجات الإنسان التي غالباً ما تكون لا شعورية.
التعدُّدية واللاَّهوت
عندما نتحدَّث عن التعدُّدية واللاَّهوت، فإنَّ ما نقصده ليس الإكثار من التعابير ذات العلاقة بلاهوت الدين المسيحي الواحد، وإنَّما الإشارة إلى تلك السمة من سمات الحداثة التي تُؤكِّد على الطبيعة الزمانية والمكانية للقضايا المثارة. ومن وجهة النظر هذه، فمن الممكن أن تبدو التعدُّدية في الأديان أمراً طبيعياً تماماً، فطوال تاريخ البشرية - بحدود الزمن الذي لدينا علم به - كان الوضع الواقعي للأمور هو هذا. وإنَّ ما يتمتَّع بالجدية بشكل أكبر، هو الزيادة المضطردة في مواقع التعدُّدية الدينية في بعض المجتمعات والدول، الناجمة عن حركة تنقُّل المجتمعات من مكانٍ إلى آخر، وعن تفكُّك عرى الانسجام الاجتماعي في المجتمعات الحديثة.
وربَّما كانت هذه التعدُّدية - بشكل من الأشكال - قد بدأت في مواجهة التخلي عن الدين في المجتمعات الحديثة التي تمت، إمَّا مع ظهور أشكال شتى من الانتقائية، وإمَّا خلال مجابهة الصور الجديدة للدين، عن طريق إحياء الرابطة الدينية؛ إلاّ أنَّ ما حوَّل التعدُّدية أخيراً إلى مشكلة حقيقية للاهوت هو ادعاء الإطلاق ( Absluteness ) من قبل المسيحية، الادعاء الذي تشترك به - من هذه الناحية - مع سائر أديان العالم.
وعندما نستخدم كلمة "الإطلاق"، لا نعني بها "المبرَّأ من القيود بشكل مطلق"، فالمعنى الدقيق والفلسفي لهذه الكلمة لا يصدق إلاَّ على الله؛ وإنَّما نستخدمها على الأغلب بمعنى "التام" أو "التحقُّق التام". وقد نظرت فلسفة هيغل الديالكتيكية بهذه النظرة إلى المسيحية، بوصفها التحقُّق التام لظاهرة الدين.
كان يُوجد في التقليد الكاثوليكي بروما مثل يصل زمنه إلى القرن الثالث الميلادي، إلاًَّ أنَّه اشتهر غالباً بواسطة قاعدة منسوبة إلى فولجنتيوس الراسبي ( Fulgentius of Ruspe ) من القرن السادس، والمثل هو: "لن ينال أحد الخلاص خارج الكنيسة". كان هذا المثل بادئ الأمر بمثابة تحذير لأهل البدع، من أنَّه لا يمكن الحصول على أي شيء خارج وحدة الإيمان في ظل الكنيسة، إلاَّ أنَّ هذا المعنى تغيَّر تدريجياً إلى أنَّ عامة المسيحين من غير الكاثوليك، ومن ثُمَّ جميع المؤمنين بالأديان غير المسيحية - ولكونهم غير منتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية بروما فحسب - محرومون من الخلاص. وأسوأ أنواع التفسير لهذا المثل تمَّ بشكل رسمي سنة 1949، إلاَّ أنَّ التحوُّل الحقيقي والمهم في التعامل مع الأديان غير المسيحية حدث في المجمع الفاتيكاني الثاني (1965)؛ حيث نقرأ في الإعلان المسمَّى "رجال عصرنا" (2) بشأن رأي الكنيسة في الأديان غير المسيحية: "إنَّ الكنيسة الكاثوليكية لا تنبذ ما هو حق ومقدَّس في هذه الأديان، وتحترم هذه الكنيسة أساليب الحياة، والسلوكيات، والتعاليم التي غالباً ما تتضمَّن قبساً من شعاع الحقيقة التي تنير نفوس جميع بني الإنسان، رغم أنَّ فيها اختلافات كبيرة في كثير من أوجهها
مع تعاليمها (أي تعاليم الكنيسة)" .
إنَّ هذا التعامل الأكثر إيجابية وانفتاحاً على الأديان غير المسيحية، الممتزج بحقيقة التعدُّدية الدينية المتزايدة في الدول، أدَّى إلى ظهور شكل من الفكر الكلامي الذي سُمِّي بـ "لاهوت جميع الأديان" ( Theology of Religious ). وهذا ليس صورة كلامية من علم الأديان ( Science of Religions )، بل هو حقاً فكر كلامي يهدف إلى تحقيق فهم أعمق للأديان غير المسيحية، وفهم العلاقة بين المسيحيين وغير المسيحيين، من الناحيتين النظرية والعملية. وأخيراً يُطرح هذا السؤال: في موضوع "الله للعالم"، كيف يمكن أن تكون أهمية التعدُّدية الدينية، وكيف يمكن البرهنة على هذا الأمر من منظور كلامي؟
غير أنَّه يُوجد عنصر يجعل هذا الجهد أكثر صعوبة؛ حيث يُواصل إعلان "رجال عصرنا" - الذي نقلنا شطراً منه آنفاً - كلامه، فيقول: "إلاّ أنَّها (أي الكنيسة) وبدون أدنى تردُّد - وكما هو قدرها - تُسبِّح المسيح الذي هو طريق الحقيقة والحياة، ففيه وحده يجد الإنسان كمال حياته الدينية، وفيه وبواسطته يتصالح الله مع جميع الأشياء" .
حينما يُريد أحد النظر في العلاقة بين الأديان، فإنَّه يواجه مسارين أساسيين، هما:
الأول: التحريم تجاه الآخر مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات بينهما.
الثاني: الالتزام تجاه النفس، أي تجاه هويَّته الدينية.
وبدون هذين الاثنين، فإنَّ العلاقة ستكون مجردَّة عن التناسب.
وإنَّ إشكالية اللاَّهوت تنبع من هذا
الأمر، الذي يرى فيه جمع من الناس، أنَّه لكي يكون هناك خطاب يتمتَّع بنسبةٍ أو نوعٍ من الوئام، فمن الضروري وجود مساواة مبدئية: لا ينبغي لأحد - منذ البدء - أن يدَّعي امتلاك الحقيقة النهائية ، لكن هذا هو ما تهتم به الأديان العالمية.
إنَّني أستطيع التكلُّم نيابة عن المسيحيين فقط، وأشير إلى الكيفية التي يسعى بها القول بفكرة "لاهوت جميع الأديان" لتبيان القضايا المطروحة. ربَّما ما يزال باكراً الادعاء بالعثور على جواب لهذه الإشكالية، بينما كان إصلاح التفسير المتعلِّق بالمثل القائل: "لن ينال أحد الخلاص خارج الكنيسة"، أمراً سهلاً.
والإشكالية الحقيقية التي تنجم عن هذا الأمر، وهي أنَّه من وجهة نظر مسيحية، فإنَّ أحداً لن ينال الخلاص خارج عيسى المسيح "ليس بأحد غيره الخلاص؛ لأنَّ ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس" (أعمال الرسل، 12). وهناك نصٌ آخر من الكتاب المقدَّس يُقرِّر بوضوح هذه
الإشكالية، وهو: "لأنَّ هذا حسن ومقبول لدى مخلِّصنا، الله الذي يريد أنَّ جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون"، ويواصل: "لأنَّه يوجد إله واحد، ووسيط واحد، بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" (تيموثاوس الأولى، 2: 4 - 5) .
وقد أخذ المجمع الفاتيكاني الثاني - من خلال موقفه الإيجابي - بنظر الاعتبار، الوحدةَ الأساسية للجنس البشري بوصفها نقطة البدء في فهم فكرة
الله، وآمن بوجود "بذور الكلمة" ( Seeds of the Word )، ليس في قلوب كل فرد من بني الإنسان فحسب، بل حتى في التقاليد الدينية
غير المسيحية، والذي هو شكل من أشكال الوجود الخفي لسر المسيح المخلِّص. ومع هذا، فإنَّ المجمع الفاتيكاني الثاني لم يتقدَّم خطوة إلى الأمام ليعتبر التقاليد الدينية الأخرى "طرقاً للخلاص"، رغم أنَّ البعض يحملون الاعتقاد بأنَّ الخطوة الأولى بهذا الاتجاه قد بدأت.
ليس عجيباً أن تتركَّز أفكار تلك المجموعة من المتكلِّمين المسيحيين الذين يولون هذه القضايا عناية خاصة، على هذا القسم من اللاَّهوت الذي يدعى الكريستولوجيا ( Christology )؛ أي تلك التعاليم التي تتناول شخص عيسى المسيح، ممَّا كان بإمكانه أن يأخذ في زمن أقدم اسم: حصر محورية المسيح ( Christocentice Exclusivism )، ويسميه البعض: محورية الكنيسة؛ ذلك أنَّ هذا الدور المحوري قد نسب للكنيسة. ويعتمد هذا الموقف في الحقيقة على الرأي القائل بأنَّ الإيمان الواضح بعيسى المسيح والتمسُّك الراسخ بالكنيسة هما الشرطان اللازمان للخلاص.
وقد حلَّ هذا النهج الأقدم - وبشكل مضطرد - محلَّ النهج القائل بمحورية المسيح، الذي يُؤكِّد على حصر محورية المسيح، والذي يعتقد أنَّ الوحي المسيحي هو المعيار النهائي للأديان. إلا أنَّه يمكن العثور في هذه الأديان على قيم أصيلة يمكنها - على الأقل - أن تكون بمثابة "الخطوة الأولى" أو "معبِّدة الطريق للإنجيل"، ويمكنها أن تعين أتباع الأديان الأخرى على نيل فهم الحقيقة الكامنة في سرّ المسيح.
ومع ذلك، فإنَّ بعض المتكلِّمين يشعرون أنَّه حتى هذا النهج الشامل مفتقر إلى الانسجام الحقيقي؛ ذلك أنَّه لا يحمل على محمل الجد الاختلاف مع الأديان الأخرى، وهم يقولون: إنَّنا بحاجة إلى ثورة كوبرنيكية في اللاَّهوت. فكما أنَّ الفلكيين اضطروا في نهاية المطاف إلى نبذ النظرية الفلكية البطليموسية التي تجعل من الأرض محور العالم، واختاروا علم الفلك الكوبرنيكي الذي يجعل من الشمس محور العالم، فإنَّ على اللاَّهوت أيضاً أن يتخلَّى عن محورية المسيح من أجل محورية الله .
وفي هذا المنهج الفكري تبدو الأديان الكبرى في العالم بمثابة أجوبة متنوِّعة للحقيقة الإلهية التي لا مثيل لها، ومحورية الله هذه هي بمثابة المقولة الكلامية التي تُدعى أحياناً بالتعدُّدية، أو اللاَّهوت المتعدِّد. واستناداً إلى ما يعتقده بعض المتكلِّمين، فإنَّه يمكن الإيمان بنظرية محورية الله، التي يمكن أن تكون مفيدة في تبرير حقيقة التعدُّدية الدينية التي لها ربُّها المتناسب معها - استناداً إلى أدلتنا وإدراكنا - وفي نفس الوقت، الاعتقاد بدور مصيري للسيد المسيح في تدبير الخلاص. وهم من غير أن يُسمُّوا الأديان الأخرى بالطرق العادية للخلاص، يتحدَّثون، أحياناً، عن "الطرق المنفصلة للخلاص" . أمَّا بقية المتكلِّمين، فلا يرون حاجة لحفظ صورة عن "محوريَّة المسيح المعيارية" ( Normative ).
لا شك في أنَّ استخلاص النتائج النهائية من هذا البحث ما يزال مبكراً؛ حيث النقاش والبحث ما يزالان متواصلين. وأشعر - باسم الالتزام المخلص لهويَّتي المسيحية - أنَّه لابد للخصوصية المحورية للاَّهوت المسيحي، الأخذَ في
نظر الاعتبار، جميع الأديان أن تكون محورية للمسيح شاملة.
ومن ناحية أخرى، يبدو أنَّ التأكيد على أنَّ عيسى المسيح لن يحل محل الله، منسجم تماماً مع رؤية الكتاب المقدَّس: المسيح في قلب خلاصنا؛ ذلك أنَّ الله وضعه هناك. وهذا الأمر يهدينا إلى إمكانية منح محورية المسيح التي لدينا بعد محورية الله، حتى لو أُجِّل إلى المستقبل تبلور الشكل النهائي لهذا اللاَّهوت الآخذ بنظر الاعتبار جميع الأديان. وبغض النظر عمَّا سيحدث، فإنَّ ملاحظاتنا الأولية أعدَّتْنا لنتعامل - ضمن إطار معين - مع إمكانية المبادرة إلى طرق متعدِّدة للبحث في هذا السر.
في الختام، ربَّما أمكن إضافة هذا الأمر: إنَّ السعي لبلوغ حوار أصيل، يحتاج - إضافة إلى الالتزام الجاد من قبل جميع المشاركين في هذا الحوار - إلى صبر عظيم. ولمَّا كان اللاَّهوت المنظَّم ما يزال منهمكاً في البحث عن أجوبة رصينة لكثير من القضايا القائمة، فإنَّه - في نفس الوقت الذي نهتم فيه بصنع عالم أفضل - لا ينبغي لأيِّ شيء أن يكون حائلاً بيننا وبين أن نكون متحابِّين متوادِّين مع بعضنا.
الدكتور كليم صديقي (*)
تمهيد
يهدف هذا المقال إلى البحث عن إمكانية الوصول إلى فصل مشترك، أو نقطة التقاء، بين الحداثة والإسلام، من خلال علم اجتماع المعرفة. مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الإسلام والحداثة، يشكلان قطبين متمايزين في ما يتَّصل بالنظر إلى المعرفة، والحقيقة، والشعب. والنظرة الكونية للحداثة، تتميَّز بالمحدودية، والنفعية، والانشطار، إلَّا أنَّنا نستطيع القول: إنَّ هناك نوعاً من التلاؤم في ما بينهما. فالحداثة باستطاعتها تنمية ثقافتها الموسَّعة، من خلال طرق مختلفة. والإسلام يقبل بهذا التخصيب، ويُحوِّل ذلك إلى جزء من بنائه القابل للتنمية المستمرة. وهذا لا يعني بتاتاً قبول الإسلام لكل منجزات الحداثة. إنَّ هذا المنهج يرفض كل ما لا يتَّفق مع قيمه، ونظرته العاطفية، وموازينه الاجتماعية، ومعاييره لمعرفة الجمال.
وفي هذا المقال نشرح باختصار
بعض المفاهيم الأساسية للحداثة والإسلام - تلك المفاهيم التي نرى أنَّها في تقابل قطعي في ما بينها - كي تتيسر الدراسة المقارنة لها. ومن ثُمَّ نسعى إلى إيجاد الصلة في ما بينها، وتعبيد الطريق أمام تجديد بناء الفكر الثيولوجي والقانوني للإسلام، في القضايا المطلوبة والضرورية. ومن الواضح أنَّ كل ما قلناه يتوقَّف على تعريفنا للحداثة والإسلام.
والهدف الآخر للمقال، هو إبراز تبعات إزالة القدسية عن العلم بواسطة الحداثة، وبيان صلة الدين بإنسان ما بعد الحداثة المتعطِش للمعنوية. الحداثة التي هي ظاهرة متنامية، وفي حركة مستمرة، وُلِدَ منها في مقابل إنسان العصور الوسطى، إنسان الحداثة والعلماني. ومع مرور الزمن، و - بعد مخاضٍ عسير - ولد إنسان ما بعد الحداثة من رحم العلمانية، والذي كان يتصف نفسياً بعدم الركون والطمأنينية والشعور بالوحدة. ومن وسط هذا الشقاء الروحي والمعنوي، نهض إنسان الثورة وما بعد الحداثة حتى يرجع - كما سوف نرى - إلى فكر وسلوك ما قبل الحداثة.
التلوُّث الفكري لآدم
الحداثة والدين نظرتان مختلفتان إلى الحياة، الحداثة لها توجُّه نفعي (إثباتي) علماني وميكانيكي إلى العالم، والدين يسعى إلى تكريس نظرة كونية متعالية، مقدَّسة وأخلاقية، ومؤمنة بالله. هذه الرؤية تعتبر من نتائج معرفة تختصّ بهذه الدوائر. إنَّ المعرفة التي تدافع عن نظرة كونية ميكانيكية، هي معرفة الحقائق الفاقدة للروح، والتي تنتج من خلال التجربة الحسيّة. إنَّ هذه