علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240
ومن غير أنْ أدَّعي الدقة العلمية لهذه القاعدة، فإنَّني أعتقد بأنَّ رؤية الكتاب المقدَّس، من أنَّ الحقيقة هي تلك التي تحدث وليس الشيء الثابت الموجود، خلقت هذه المعضلات الفلسفية. ذلك أنَّ التقليد المألوف كان يرى أنَّ المعرفة الحقيقية ينبغي أن تكون ثابتة، والمعرفة المتغيِّرة ذات علاقة بالعقيدة، وليس بمجال المعرفة الحقيقية.
ومع ذلك لو أنَّ أحداً يقول مع هيغل (١٧٧٠ - ١٨٣١م) بأنَّ: "الحقيقة لا تتجزأ" ( Ganze Das wahr ist das )، يمكن أنْ يقال له: إنَّ كل هذا القول، أيضاً، مكوَّن من قضايا جزئية، وإنَّ هذه القضايا الجزئية تساهم في تكوين تلك الحقيقة. ومع تجاوز رؤية هيغل، يمكن اعتبار هذا القول قابلاً للتعميم، بل يمكن اتخاه أفقاً، والحقائق - سواء أكانت مؤقَّتة أم خاضعة لشروط معينة - واقعة ضمن هذا الأفق. وعلى هذا، فإنَّ تصوُّر الحقيقة بأنَّها جبرية تاريخية ( bound History ) - كما وردت في الكتاب المقدَّس - لا يتلاءم مع بعض المفاهيم المعاصرة عن الحقيقة.
وهنا نصل إلى اللاَّهوت الجزمي حيث ستواجهنا قضية خاصة، ذلك أنَّ التعبيرات التقليدية للإيمان المسيحي هي نقطة البداية، بل المعيار للاهوت الجزمي وستبقى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنَّه يُوجد بشكل متزايد حالة من عدم الانسجام في هذا النوع من اللاَّهوت النظري، بين النتائج العلمية التي تتمتَّع بالمستوى الراقي في مجال الدراسات ذات العلاقة بالكتاب المقدَّس، وبين متطلَّبات الموعظة المتناسبة مع حاجة المؤمنين. وفضلاً عن
هذا، فإنَّ اللاَّهوت في ما مضى كان يرفد فقط من إطار فلسفي ونظري محدَّد، بينما نرى اليوم حولنا وجود أنظمة فلسفية متنوِّعة كثيراً.
في الحقيقة، لم يعد هناك نظام ثقافي عام؛ ذلك أنَّه ستظهر، بالنتيجة، تعدُّدية كلامية لا محالة.
وأخيراً، إنَّ اللاَّهوت في هذه الأرضية العامة، لن يتمكن من الاستمرار في مجرد نقل مجموعة مدوَّنة من المعارف من غير أن يأخذ في الحسبان التجارب الحية لجماعة المؤمنين؛ إذ إنَّ هذا العمل سيكون مصحوباً بخطر عدم الانسجام التام.
وأخذ التجربة المتعلِّقة بجماعة المؤمنين في الحسبان يعني أنَّه سيصبح مستحيلاً بعد ذلك، الحديث عن الله بمثابة كونه ذا علاقة بالفكر الماوراء - طبيعي. ومن ناحية أخرى، لم يعد مقبولاً، أيضاً، أن نتناول الموضوع بشكل يبدو معه أنَّ ما هو عائد لله مقتصر على معنى يمكن أن يحصل لدى شخص مؤمن؛ حيث إنَّ الله أعلى من ذلك.
ووسط هذه الموضوعانية ( Objectivism ) الزائفة، واللاَّهوت الذي يُقلِّل من محورية الإنسان، هناك اللاَّهوت الصادق الذي يحافظ على الحقيقة الإنسانية عن طريق الاهتمام بتاريخ الخلاص، والبحث عن طريق للخلاص، وفي الوقت نفسه ينفتح بذاته في مواجهة التحديِّات.
وهنا ظهر اتجاهان أساسيان:
الأول يرى أنَّ الوجود الإنساني بمثابة موضوع البحث كلامي ينبغي أن يدرس في ضوء نظرة إيمانية، أي من وجهة نظر كلام الله، وعلى هذا لا يمكن - لأجل دراسته - اتباع منهج البحث
التاريخي هذا.
أمَّا الاتجاه الثاني، فهو لا يُفرِّق بين تاريخ الناسوت وتاريخ الخلاص، فالتاريخ من حيث هو تاريخ هو المكان الذي يتجلَّى فيه الله.
لكن مهما يكن، يبدو أنَّ اللاَّهوت اليوم يهتم بالكشف عن معنى خلود كلام الله بجميع أشكاله. وهنا نقطة البدء في أنَّه كيف يصل الإنسان - في ضوء التاريخ - إلى إدراك نفسه وعالمه؟ وفي الحقيقة، فإنَّ هذا الأمر يقودنا مرةً أخرى إلى علم التأويل: إنَّ الاهتمام باستخراج المعنى المعاصر لنص من قلب الماضي، الذي هو هنا الكتاب المقدَّس وتفاسيره التي ظهرت متعاقبة خلال تقاليد المؤمنين، يجعلنا في كل لحظة أكثر بُعداً عن الاتجاه إلى التفسير العقلاني لزعم نظري له - لا محالة - جواب واحد. صحيح أنَّه ينبغي للاتجاه التأويلي أن يمتنع عن خيانة الماضي، لكنَّه، أيضاً، لا يمكنه الإذعان بذريعة الوفاء لمعطيات ماضٍ ميت. فهدف التأويل - في أعلى درجاته - بلورة معنى الوحي الإلهي لعالم اليوم .
كنتُ - خلال البحث في الحقيقة - قد استخدمت كلمة "أفق"، ويمكن القول: إنَّ هدف علم التأويل هو توسيع أفق النص وأفق رؤية القارئ الجديد، إلى الحد الذي يمتزج فيه هذان الاثنان ليصبحا واحداً. وإنَّ أمراً كهذا يفرض على المتكلِّمين، أن يبتدعوا لغةً جديدة تُؤمِّن موضوعية النص، وفي الوقت نفسه، تنسجم مع ذهنية المفسِّر المعاصر.
وواضح أنَّ لاهوتاً كهذا سيكون مؤقَّتاً بشكل دائم؛ ذلك أنَّ المعرفة البشرية محدودة، وهذا يعني أنَّ اللاَّهوت سيبقى مفتوحاً بشكل دائم على المستقبل، اللاَّهوت أمل، أمل في تحقيق جميع
وعود الله. وإنَّ لاهوتاً يمنح فهماً كهذا، يفتح الطريق أمام عالمنا وفقاً لكلام الله، الكلام الذي لا يكون بمثابة وجود ثابت لا يتغيَّر، بل بوصفه طاقة متحرِّكة.
إنَّنا بعيدون جداً عن تصوُّر ساذج تقريباً كهذا، قائم على أساس أنَّنا نفهم النص بشكل أفضل ممَّا يفهمه مؤلِّفه (كما يمكن للبعض أن يستنتج ذلك من علم التأويل)، ولكنَّنا تجاوزنا، أيضاً، العمل لمجرد تبيان نصٍّ قادم إلينا من قلب الماضي. فعلم التأويل ينوي تفسير النص في موضوعيته، وفهمه كذلك، آخذاً بنظر الاعتبار ما يبينه الحاضر ممَّا هو ذو علاقة بالواقع. فعن طريق التأويل تفتح أمام النص آفاق جديدة، وهذا مغاير للكشف النوعي الجوهري الأبدي والثابت الذي ينتقل من عصرٍ إلى عصرٍ آخر.
ينبغي بلوغ المضمون المجرَّد والحقيقي للإيمان من خلال التأويل، وإنْ لم تُوضع حدود للتأويلات الممكنة، فسيؤدِّي ذلك إلى الذاتية ( Subjectivity ) المجردَّة. إلاَّ أنَّ هذه الحدود موجودة، وهي عبارة عن الإجماع الذي يظهر خلال تبادل وجهات النظر وتعارض الآراء. وبطبيعة الحال، فإنَّ المقصود بهذا الإجماع ليس ذلك الناتج عن أضعف أوجه الاشتراك، بل ذلك النابع من الانفتاح أمام الروح القدس.
واستناداً إلى هذه الرؤية، فإنَّ الإلهام القدسي لكلام الله، له علاقة بإيمان جماعة المؤمنين قبل أن يكون معتمداً على الكلمات نفسها.
من الواضح أنَّه باستثناء القضايا الخاصة التي نجمت عن الحداثة، فإنَّ طريق استجلاء اللاَّهوت قد تأثَّر بشكل كبير بتحديات الحداثة. ويتَّضح هذا الأمر من التلخيص التالي:
بدأ علم الكلام التقليدي عمله من خلال تفسيره رأياً؛ أي أمراً عقائدياً، ثُمَّ وضَّح هذا الأمر في المرحلة الأولى (التي كانت تمتاز بأهمية فائقة). كان هذا الرأي يُبرَّر بفتاوى مراجع التعليم الكنسي ( The Magisterium )، ثُمَّ أورد آباء الكنيسة ( Fathers of the Church ) وبعض المتكلِّمين العظام البراهين عليه، مستعينين بنقل نصوص من الكتاب المقدَّس. وأخيراً ومن خلال الردِّ على المعارضين لتلك الآراء في ذلك العصر أو العصور التي سبقته، تم إقراره بشكل نهائي.
أمَّا الكلام الذي كان له اتجاه تأويلي، فقد بدأ عمله بالاهتمام الجاد بأمر؛ ألا وهو: إنَّ كل حقيقة هي جبرية للتاريخ . وضمن هذا الاهتمام، أدرك هذا الأمرَ المهم، وهو أنَّه كان يُوجد شطر كبير من الكتابات والنصوص، كما اعتبر اللاَّهوت بوصفه أمراً يُحقِّق تدويناً جديداً للكتاب المنزَّل. وانطلاقاً من هذا، فقد بدأ من كتابات المتقدِّمين كما لو كان يُضيف حلقة جديدة إلى حلقات في سلسلة. وهذا الأمر الذي يتطلَّب في نفس الوقت، التزاماً تجاه القضايا المتقدِّمة، بحاجة إلى إبداع يتَّجه نحو المستقبل؛ ذلك أنَّ المطلوب من علم الكلام هذا، ليس عرض وإيضاح مبادئ العقائد الثابتة، بل استخراج المعاني الحقيقية لكلام الله في ضوء التجربة الجديدة وتاريخ الكنيسة والإنسان
المعاصر. ولبدء عمل كهذا، لا يدَّعي اللاَّهوت تقديم نوع من الحقيقة ممَّا وراء الطبيعة، بل يدَّعي تقديم اليقين القائم على ما يقوله كلام الله لنا اليوم.
ويبدو أنَّ هذا التحوُّل العظيم في الرؤية والاتجاه والمنهج حتى لو بدا - إلى حدٍّ ما - منتزعاً أو سرِّياً، فهو ذا أهمية فائقة، وقد هبَّ بشكل مباشر يصارع تحدِّي الحداثة.
أريد الآن أنْ أشير باختصار إلى قضيتين لا يمكن للاهوت إلاَّ مواجهتهما: العلمانية و التعدُّدية . وكلاهما ناجمان عن الحداثة، وإذا كان مقرَّراً لتلك الأخيرة أن تبقى، فإنَّ اللاَّهوت لابد له أنْ يجابه هذه القضايا ويُقدِّم أجوبة لأسئلتها.
العلمانية واللاَّهوت
العلمانية واحدة من تلك الحزمة من المصطلحات التي استخدمت - وما زالت - على نطاق واسع، رغم أنَّه لم يكن لها، غالباً، تعريف دقيق. وقد مرَّ وقت كان فيه مَن يقول: العلمانية من الكلمات الغامضة التي تظهر فجأة عندما يتخلَّى الناس عن التفكير العميق. وممَّا لا شك فيه، أنَّ هذه الظاهرة ذات علاقة حميمة بالحداثة.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار هاتين المسألتين معاً - أي الاهتمام الواسع الذي يثيره هذا المفهوم حول نفسه، وعلاقته الحميمة بالحداثة - سنحصل على نموذج مفيد عن الكيفية التي يكون عليها ردُّ الفعل الموضوعي والملموس للاَّهوت تجاه واحد من أوجه الحداثة، وكذلك أيُّ شيء يمكن أن نتوقَّعه في المستقبل عن طريق ردِّ فعل اللاَّهوت.
ومن دون أن نخوض في جميع الأوجه الممكنة للتعريف، يكفي أن نقول: إنَّ الخطر هو تدمير الواقع أو العالم السامي الذي يضع بين أيدينا مصير كافَّة الأمور، والذي بفنائه لا يبقى لنا شيء سوى العالم التاريخي البشري والمحدود؛ أي ذلك الشيء الذي يقال له باللاتينية: ( Saeculum ). هذا الفناء الذي سيغطِّي - في مرحلة من المراحل - على كافَّة أوجه الحياة البشرية: المجتمع، والثقافة، والحياة الخاصة والدين، في ذلك الوقت الذي لا يمكن فيه العودة إلى واقعية أفضل وعقلانية مهيمنة، ويكون فيها الإنسان وعالمه مختارين، ويبدأ ذلك بتدهور قوة الدين وتأثيره، ثُمَّ يصبح الجانب المقدَّس للعالم والإنسان بعيداً عن الرؤية؛ ويُؤدِّي هذا، أخيراً، إلى الإلحاد ( Atheism ). إنَّ كل ذلك يعمل على مستوى المجتمع ومستوى الضمائر الفردية، رغم أنَّه من الممكن أن يكون صحيحاً أنَّ اللاَّهوت قدَّم ذات مرة صورة عن الله لم تكن مقبولة في ضوء العلم الحديث، إلاَّ أنَّ الذي لا شك فيه، أيضاً، أنَّ العلمانية - في كثير من البقاع - قد أفرغت العالم من محتواه.
إنَّ أول ردَّ فعل للاَّهوت - أو ردَّ فعل الدين المتكوّن - يمكن أن يُسمَّى بـ "المقاومة" : الإجراءات الحربية، مثل: ترتيب الصفوف ووضع الانضباط العقائدي المتشدِّد، ورعاية الديانة والعبادات التقليدية، وقيام تشكيلات دينية - مؤسَّساتية في ميادين الحياة المختلفة بهدف إفشال التشكيلات الدنيوية (العلمانية). إلاَّ أنَّ هذه السياسة كانت تبدو على المدى البعيد سلبية إلى الحد
الذي لم تكن معه قادرة على إعطاء أجوبة مقنعة حقاً، ردَّاً على التحديِّات المطروحة.
ويمكن تسمية ردَّ الفعل الآخر بـ "التسليم" : وقد وجَّه ردَّ الفعل هذا، اهتمامه إلى صور من اللاَّهوت (في محافل البروتستانت أولاً، ثُمَّ في أوساط المتكلِّمين الكاثوليك بروما)، كان يسعى من خلاله للوصول إلى تفسير جديد للمسيحية في ضوء عبادة الدنيا في الحياة الجديدة.
وقد استثمر البعض الفرق بين الإيمان والدين؛ حيث اعتبر الدين بمثابة الحاجز الذي لا يدع الإنسان يقيم الانسجام - بدون خوف - بين العمل بما تمليه عليه مسؤولياته، وبين انعدام اليقين المتعلِّق بالحياة في هذا العالم. لكن الإيمان الذي كان يُؤخذ بنظر الاعتبار، إنَّما يخرج العالم من فلك أسرار القداسة ليضعه في يد الإنسان، الإنسان الذي يستطيع أن يحصل على القوة والاستقلالية ليهيمن على عالمه ويمنحه شكله. بعدها اعتبر المتكلِّمون - من خلال التأكيد على علاقة الإنسان بالله - اعتبروا الإنسان فاعلاً مختاراً مستقلَّاً في العالم - من غير أن يأخذوا بنظر الاعتبار إيمانه المكوَّن من شكل معقَّد من العقائد التي ينبغي أن تتحقَّق في هذا العالم، بشكل موضوعي وملموس - ولم يعتبروا ظهور ملكوت الله في العلاقة العلّية بعمل الإنسان في هذا العالم.
غير أنَّ متكلِّمين آخرين أكَّدوا أنَّ الإنسان بلغ سن الرشد مع ظهور عيسى المسيح، وكان ينبغي له أن يضع جانباً الصورة الوهمية لإله يمنح
الطمأنينة ليتمكن بشكل حقيقي من القبول بتجلِّي الضعف والألم بوصفهما طريقاً نحو المسيحية.
لا أدعي أنَّني بهذه الإشارات البسيطة لبعض الخطوط العريضة للموضوعات المختلفة في الفكر الكلامي، أستطيع أن أوفِّي البحوث الكلامية المختلفة التي درست العلمانية حقَّها. وينتج عن ذلك، أنَّ نقد هذه الاتجاهات الكلامية استناداً إلى عرض ناقص كهذا، لن يكون ذا جدوى كبيرة، كما أنَّه لن يكون عادلاً. ومع ذلك أظن أنَّ عدداً كبيراً من المتكلِّمين يرون أنَّه لم يكن هناك طريق للفرار من مواجهة العلمانية؛ ولذا فإنَّ الدين في المجتمع الجديد، مضطر إلى أن يُهمِّش دوره يوماً بعد يوم. كما اعتبر البعض العلمانيةَ كما لو كانت شيئاً حسناً، رغم وقوفهم بوجه تأثيراتها الجانبية المزعجة؛ أي ذلك الذي يُدْعَى في مواجهة العلمانية بـ "عبادة الدنيا". وفي الحقيقة، فإنَّ كون العلمانية يمكن فصلها عن عبادة الدنيا، أو في ما يحتمل أنَّ أحدهما - بالضرورة - يتضمَّن الآخر، هو أمر ظل دائماً غير واضح.
والذي ينبغي أن يُقيَّم بشكل إيجابي، هو هذا الاعتقاد الراسخ للمكانة الجديدة للحياة المعاصرة التي تبحث عن لاهوت معاصر. وهذا يعني أنَّ علينا البدء من معرفتنا بكلام الوحي، ثُمَّ نسأل أنفسنا: كيف تصبح علومنا الدنيوية ومهاراتنا الفنية، من خلال التجسيد، بديلاً عن معرفتنا بكلام الله؟ وكما
أرى، فإنَّه رغم أنَّ هذا الكلام يبدو متناقضاً قليلاً، لكن كان علينا الإذعان بأنَّ الهروب من الدين ليس أمراً لا يمكن تجنُّبه؛ ذلك أنَّه ليس الجماعات المؤمنة
فحسب، بل حتى البشرية بصورة عامة، لا يمكنها أن تبقى بشكل مجتمع إنساني يليق به هذا الاسم من دون رجوعها إلى عقلانية أكثر عمقاً من مجرَّد الوضعية ( Positivistic ) والتجريبية. أي معنى ستُقدِّم هذه للاهوتنا المعاصر، وبما يتناسب وعصرنا، وأيُّة صورة عن الله ستُقدِّم بين يدي الإنسان المعاصر في اللاَّهوت المتأخر، فإنَّ عدَّة لقطات تعين على ظهور هذه الصورة الأكثر جدة عن الله، وكذلك عن معنى الله لدى الإنسان المعاصر.
في الماضي، غالباً ما كان يُستفاد من الله في تفسير الظواهر الغامضة أو الإعجازية، وقد فسَّر العلمُ الحديث كثيراً من الأشياء بتفاسير طبيعية، ويُحتمل أن يكون هناك ما هو أكثر في المستقبل؛ وينتج عن ذلك أنَّ الإنسان أصبح إله نفسه. نحن نواجه الآن مسألة العودة إلى الله الحقيقي، الذي ليس هو تجسيداً لحاجتنا إلى اليقين، العودة إلى الله الذي لا يندرج إطلاقاً ضمن أُطر إدراكنا؛ ذلك أنَّه أسمى من كل التصورات والمنظومات الفكرية، العودة إلى الله الذي كنَّا في انتظاره وفي طلبه، هذا الذي هو منتهى غاية كل آمالنا. ففي العالم المنحوت من العقلانية، نحن بحاجة إلى هذا الشوق إلى الله؛ كي ننظر إلى الصورة التي رسمناها عنه في أذهاننا بما يتناسب وحقيقتها.
يضع الإنسان في ذهنه الاستقلالية والكمال ( Self-Fulfillment ) وتحقيق الذات ( Self-Realization )؛ بوصفها السعادة القصوى التي يصبو إليها. ومع هذا، فإنَّه دائماً يُواجه، سواء في حياته أم في حياة الآخرين، المحن والظلم والموت. فعلى عاتق مَن تقع مهمة الدفاع عن الأبرياء الذين يعانون
العذاب؟ وأين ينبغي لنا أن نجد المعايير لتحقيق العدالة الأكبر والإنسانية في أسلوب حياتنا؟ وكيف يمكننا التحرُّر من "الدور" الباطل؛ بين الاستقلالية والتمحور حول الذات (الفردانية) ، من غير الانصياع لله، نصير الضعفاء والمساكين، ومن غير تحرير الإنسان من قيود العناد؛ وذلك من خلال القيم التي يمنحه إياها كي يتمكَّن الناس من التكاتف والتعاون لمواجهة الظلم؟
والمجتمع الحديث رغم كل فرديَّته، مستند بقوة إلى الطمأنينة والثقة، حتى ولو كانت هذه الثقة قد ظهرت إلى الوجود بسبب التخصص وتوزيع الوظائف. إنَّنا، جميعاً، نعلم كيف أنَّ هذه الثقة، قد أدت إلى الفضائح مراراً، وإلى أيِّ حدٍّ يمكن أن تُؤدِّي إلى الانهزامية، بل وحتى إلى الكآبة. وفي المجتمع الحديث تُوجد حاجة إلى أن نعلم عن حاجتنا إلى التوكُّل على الله؛ لنتمكن - ونحن على حافَّة اليأس - من التطلُّع إلى الأمام بشجاعة. إنَّ ما يُريده الله، هو أن ينال الإنسان التوفيق الحقيقي، في جميع التجارب التي يخوضها.
و المجتمع النفعي ( Utilitarian ) لا يُدرك معنى تقديم خدمة لا يتوقَّع تحقيق مكسب من ورائها، ما هو دليل على الإحسان للغير بلا عوض؛ ذلك أنَّ أبرز سمات الإحسان من دون توقُّع المقابل، هو التسامح. وينبغي تذكير المجتمع الإنساني بحقيقة أنَّ الله هو إله الرحمة، وأن الإنسان مستعد دائماً للتسامح، ليس من موقف ضعف، بل حباً بالقيمة السامية لخدمة الغير، وعلى الإنسان أيضاً أن يُعلِّم التسامح.
كانت تلكم فقط نماذج من الأجوبة الكلامية الممكنة في مواجهة تحديات العلمانية، ما يساعد الإنسان ليس من خلال رفض الحداثة ولا الاستسلام لها، بل من خلال اكتشاف طريق يمكن للإنسان بواسطته، أن يتحدَّث من جديد مع ربِّه، طريق يلبِّي أعمق حاجات الإنسان التي غالباً ما تكون لا شعورية.
التعدُّدية واللاَّهوت
عندما نتحدَّث عن التعدُّدية واللاَّهوت، فإنَّ ما نقصده ليس الإكثار من التعابير ذات العلاقة بلاهوت الدين المسيحي الواحد، وإنَّما الإشارة إلى تلك السمة من سمات الحداثة التي تُؤكِّد على الطبيعة الزمانية والمكانية للقضايا المثارة. ومن وجهة النظر هذه، فمن الممكن أن تبدو التعدُّدية في الأديان أمراً طبيعياً تماماً، فطوال تاريخ البشرية - بحدود الزمن الذي لدينا علم به - كان الوضع الواقعي للأمور هو هذا. وإنَّ ما يتمتَّع بالجدية بشكل أكبر، هو الزيادة المضطردة في مواقع التعدُّدية الدينية في بعض المجتمعات والدول، الناجمة عن حركة تنقُّل المجتمعات من مكانٍ إلى آخر، وعن تفكُّك عرى الانسجام الاجتماعي في المجتمعات الحديثة.
وربَّما كانت هذه التعدُّدية - بشكل من الأشكال - قد بدأت في مواجهة التخلي عن الدين في المجتمعات الحديثة التي تمت، إمَّا مع ظهور أشكال شتى من الانتقائية، وإمَّا خلال مجابهة الصور الجديدة للدين، عن طريق إحياء الرابطة الدينية؛ إلاّ أنَّ ما حوَّل التعدُّدية أخيراً إلى مشكلة حقيقية للاهوت هو ادعاء الإطلاق ( Absluteness ) من قبل المسيحية، الادعاء الذي تشترك به - من هذه الناحية - مع سائر أديان العالم.
وعندما نستخدم كلمة "الإطلاق"، لا نعني بها "المبرَّأ من القيود بشكل مطلق"، فالمعنى الدقيق والفلسفي لهذه الكلمة لا يصدق إلاَّ على الله؛ وإنَّما نستخدمها على الأغلب بمعنى "التام" أو "التحقُّق التام". وقد نظرت فلسفة هيغل الديالكتيكية بهذه النظرة إلى المسيحية، بوصفها التحقُّق التام لظاهرة الدين.
كان يُوجد في التقليد الكاثوليكي بروما مثل يصل زمنه إلى القرن الثالث الميلادي، إلاًَّ أنَّه اشتهر غالباً بواسطة قاعدة منسوبة إلى فولجنتيوس الراسبي ( Fulgentius of Ruspe ) من القرن السادس، والمثل هو: "لن ينال أحد الخلاص خارج الكنيسة". كان هذا المثل بادئ الأمر بمثابة تحذير لأهل البدع، من أنَّه لا يمكن الحصول على أي شيء خارج وحدة الإيمان في ظل الكنيسة، إلاَّ أنَّ هذا المعنى تغيَّر تدريجياً إلى أنَّ عامة المسيحين من غير الكاثوليك، ومن ثُمَّ جميع المؤمنين بالأديان غير المسيحية - ولكونهم غير منتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية بروما فحسب - محرومون من الخلاص. وأسوأ أنواع التفسير لهذا المثل تمَّ بشكل رسمي سنة ١٩٤٩، إلاَّ أنَّ التحوُّل الحقيقي والمهم في التعامل مع الأديان غير المسيحية حدث في المجمع الفاتيكاني الثاني (١٩٦٥)؛ حيث نقرأ في الإعلان المسمَّى "رجال عصرنا" (٢) بشأن رأي الكنيسة في الأديان غير المسيحية: "إنَّ الكنيسة الكاثوليكية لا تنبذ ما هو حق ومقدَّس في هذه الأديان، وتحترم هذه الكنيسة أساليب الحياة، والسلوكيات، والتعاليم التي غالباً ما تتضمَّن قبساً من شعاع الحقيقة التي تنير نفوس جميع بني الإنسان، رغم أنَّ فيها اختلافات كبيرة في كثير من أوجهها
مع تعاليمها (أي تعاليم الكنيسة)" .
إنَّ هذا التعامل الأكثر إيجابية وانفتاحاً على الأديان غير المسيحية، الممتزج بحقيقة التعدُّدية الدينية المتزايدة في الدول، أدَّى إلى ظهور شكل من الفكر الكلامي الذي سُمِّي بـ "لاهوت جميع الأديان" ( Theology of Religious ). وهذا ليس صورة كلامية من علم الأديان ( Science of Religions )، بل هو حقاً فكر كلامي يهدف إلى تحقيق فهم أعمق للأديان غير المسيحية، وفهم العلاقة بين المسيحيين وغير المسيحيين، من الناحيتين النظرية والعملية. وأخيراً يُطرح هذا السؤال: في موضوع "الله للعالم"، كيف يمكن أن تكون أهمية التعدُّدية الدينية، وكيف يمكن البرهنة على هذا الأمر من منظور كلامي؟
غير أنَّه يُوجد عنصر يجعل هذا الجهد أكثر صعوبة؛ حيث يُواصل إعلان "رجال عصرنا" - الذي نقلنا شطراً منه آنفاً - كلامه، فيقول: "إلاّ أنَّها (أي الكنيسة) وبدون أدنى تردُّد - وكما هو قدرها - تُسبِّح المسيح الذي هو طريق الحقيقة والحياة، ففيه وحده يجد الإنسان كمال حياته الدينية، وفيه وبواسطته يتصالح الله مع جميع الأشياء" .
حينما يُريد أحد النظر في العلاقة بين الأديان، فإنَّه يواجه مسارين أساسيين، هما:
الأول: التحريم تجاه الآخر مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات بينهما.
الثاني: الالتزام تجاه النفس، أي تجاه هويَّته الدينية.
وبدون هذين الاثنين، فإنَّ العلاقة ستكون مجردَّة عن التناسب.
وإنَّ إشكالية اللاَّهوت تنبع من هذا
الأمر، الذي يرى فيه جمع من الناس، أنَّه لكي يكون هناك خطاب يتمتَّع بنسبةٍ أو نوعٍ من الوئام، فمن الضروري وجود مساواة مبدئية: لا ينبغي لأحد - منذ البدء - أن يدَّعي امتلاك الحقيقة النهائية ، لكن هذا هو ما تهتم به الأديان العالمية.
إنَّني أستطيع التكلُّم نيابة عن المسيحيين فقط، وأشير إلى الكيفية التي يسعى بها القول بفكرة "لاهوت جميع الأديان" لتبيان القضايا المطروحة. ربَّما ما يزال باكراً الادعاء بالعثور على جواب لهذه الإشكالية، بينما كان إصلاح التفسير المتعلِّق بالمثل القائل: "لن ينال أحد الخلاص خارج الكنيسة"، أمراً سهلاً.
والإشكالية الحقيقية التي تنجم عن هذا الأمر، وهي أنَّه من وجهة نظر مسيحية، فإنَّ أحداً لن ينال الخلاص خارج عيسى المسيح "ليس بأحد غيره الخلاص؛ لأنَّ ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس" (أعمال الرسل، ١٢). وهناك نصٌ آخر من الكتاب المقدَّس يُقرِّر بوضوح هذه
الإشكالية، وهو: "لأنَّ هذا حسن ومقبول لدى مخلِّصنا، الله الذي يريد أنَّ جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون"، ويواصل: "لأنَّه يوجد إله واحد، ووسيط واحد، بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" (تيموثاوس الأولى، ٢: ٤ - ٥) .
وقد أخذ المجمع الفاتيكاني الثاني - من خلال موقفه الإيجابي - بنظر الاعتبار، الوحدةَ الأساسية للجنس البشري بوصفها نقطة البدء في فهم فكرة
الله، وآمن بوجود "بذور الكلمة" ( Seeds of the Word )، ليس في قلوب كل فرد من بني الإنسان فحسب، بل حتى في التقاليد الدينية
غير المسيحية، والذي هو شكل من أشكال الوجود الخفي لسر المسيح المخلِّص. ومع هذا، فإنَّ المجمع الفاتيكاني الثاني لم يتقدَّم خطوة إلى الأمام ليعتبر التقاليد الدينية الأخرى "طرقاً للخلاص"، رغم أنَّ البعض يحملون الاعتقاد بأنَّ الخطوة الأولى بهذا الاتجاه قد بدأت.
ليس عجيباً أن تتركَّز أفكار تلك المجموعة من المتكلِّمين المسيحيين الذين يولون هذه القضايا عناية خاصة، على هذا القسم من اللاَّهوت الذي يدعى الكريستولوجيا ( Christology )؛ أي تلك التعاليم التي تتناول شخص عيسى المسيح، ممَّا كان بإمكانه أن يأخذ في زمن أقدم اسم: حصر محورية المسيح ( Christocentice Exclusivism )، ويسميه البعض: محورية الكنيسة؛ ذلك أنَّ هذا الدور المحوري قد نسب للكنيسة. ويعتمد هذا الموقف في الحقيقة على الرأي القائل بأنَّ الإيمان الواضح بعيسى المسيح والتمسُّك الراسخ بالكنيسة هما الشرطان اللازمان للخلاص.
وقد حلَّ هذا النهج الأقدم - وبشكل مضطرد - محلَّ النهج القائل بمحورية المسيح، الذي يُؤكِّد على حصر محورية المسيح، والذي يعتقد أنَّ الوحي المسيحي هو المعيار النهائي للأديان. إلا أنَّه يمكن العثور في هذه الأديان على قيم أصيلة يمكنها - على الأقل - أن تكون بمثابة "الخطوة الأولى" أو "معبِّدة الطريق للإنجيل"، ويمكنها أن تعين أتباع الأديان الأخرى على نيل فهم الحقيقة الكامنة في سرّ المسيح.
ومع ذلك، فإنَّ بعض المتكلِّمين يشعرون أنَّه حتى هذا النهج الشامل مفتقر إلى الانسجام الحقيقي؛ ذلك أنَّه لا يحمل على محمل الجد الاختلاف مع الأديان الأخرى، وهم يقولون: إنَّنا بحاجة إلى ثورة كوبرنيكية في اللاَّهوت. فكما أنَّ الفلكيين اضطروا في نهاية المطاف إلى نبذ النظرية الفلكية البطليموسية التي تجعل من الأرض محور العالم، واختاروا علم الفلك الكوبرنيكي الذي يجعل من الشمس محور العالم، فإنَّ على اللاَّهوت أيضاً أن يتخلَّى عن محورية المسيح من أجل محورية الله .
وفي هذا المنهج الفكري تبدو الأديان الكبرى في العالم بمثابة أجوبة متنوِّعة للحقيقة الإلهية التي لا مثيل لها، ومحورية الله هذه هي بمثابة المقولة الكلامية التي تُدعى أحياناً بالتعدُّدية، أو اللاَّهوت المتعدِّد. واستناداً إلى ما يعتقده بعض المتكلِّمين، فإنَّه يمكن الإيمان بنظرية محورية الله، التي يمكن أن تكون مفيدة في تبرير حقيقة التعدُّدية الدينية التي لها ربُّها المتناسب معها - استناداً إلى أدلتنا وإدراكنا - وفي نفس الوقت، الاعتقاد بدور مصيري للسيد المسيح في تدبير الخلاص. وهم من غير أن يُسمُّوا الأديان الأخرى بالطرق العادية للخلاص، يتحدَّثون، أحياناً، عن "الطرق المنفصلة للخلاص" . أمَّا بقية المتكلِّمين، فلا يرون حاجة لحفظ صورة عن "محوريَّة المسيح المعيارية" ( Normative ).
لا شك في أنَّ استخلاص النتائج النهائية من هذا البحث ما يزال مبكراً؛ حيث النقاش والبحث ما يزالان متواصلين. وأشعر - باسم الالتزام المخلص لهويَّتي المسيحية - أنَّه لابد للخصوصية المحورية للاَّهوت المسيحي، الأخذَ في
نظر الاعتبار، جميع الأديان أن تكون محورية للمسيح شاملة.
ومن ناحية أخرى، يبدو أنَّ التأكيد على أنَّ عيسى المسيح لن يحل محل الله، منسجم تماماً مع رؤية الكتاب المقدَّس: المسيح في قلب خلاصنا؛ ذلك أنَّ الله وضعه هناك. وهذا الأمر يهدينا إلى إمكانية منح محورية المسيح التي لدينا بعد محورية الله، حتى لو أُجِّل إلى المستقبل تبلور الشكل النهائي لهذا اللاَّهوت الآخذ بنظر الاعتبار جميع الأديان. وبغض النظر عمَّا سيحدث، فإنَّ ملاحظاتنا الأولية أعدَّتْنا لنتعامل - ضمن إطار معين - مع إمكانية المبادرة إلى طرق متعدِّدة للبحث في هذا السر.
في الختام، ربَّما أمكن إضافة هذا الأمر: إنَّ السعي لبلوغ حوار أصيل، يحتاج - إضافة إلى الالتزام الجاد من قبل جميع المشاركين في هذا الحوار - إلى صبر عظيم. ولمَّا كان اللاَّهوت المنظَّم ما يزال منهمكاً في البحث عن أجوبة رصينة لكثير من القضايا القائمة، فإنَّه - في نفس الوقت الذي نهتم فيه بصنع عالم أفضل - لا ينبغي لأيِّ شيء أن يكون حائلاً بيننا وبين أن نكون متحابِّين متوادِّين مع بعضنا.
الدكتور كليم صديقي (*)
تمهيد
يهدف هذا المقال إلى البحث عن إمكانية الوصول إلى فصل مشترك، أو نقطة التقاء، بين الحداثة والإسلام، من خلال علم اجتماع المعرفة. مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الإسلام والحداثة، يشكلان قطبين متمايزين في ما يتَّصل بالنظر إلى المعرفة، والحقيقة، والشعب. والنظرة الكونية للحداثة، تتميَّز بالمحدودية، والنفعية، والانشطار، إلَّا أنَّنا نستطيع القول: إنَّ هناك نوعاً من التلاؤم في ما بينهما. فالحداثة باستطاعتها تنمية ثقافتها الموسَّعة، من خلال طرق مختلفة. والإسلام يقبل بهذا التخصيب، ويُحوِّل ذلك إلى جزء من بنائه القابل للتنمية المستمرة. وهذا لا يعني بتاتاً قبول الإسلام لكل منجزات الحداثة. إنَّ هذا المنهج يرفض كل ما لا يتَّفق مع قيمه، ونظرته العاطفية، وموازينه الاجتماعية، ومعاييره لمعرفة الجمال.
وفي هذا المقال نشرح باختصار
بعض المفاهيم الأساسية للحداثة والإسلام - تلك المفاهيم التي نرى أنَّها في تقابل قطعي في ما بينها - كي تتيسر الدراسة المقارنة لها. ومن ثُمَّ نسعى إلى إيجاد الصلة في ما بينها، وتعبيد الطريق أمام تجديد بناء الفكر الثيولوجي والقانوني للإسلام، في القضايا المطلوبة والضرورية. ومن الواضح أنَّ كل ما قلناه يتوقَّف على تعريفنا للحداثة والإسلام.
والهدف الآخر للمقال، هو إبراز تبعات إزالة القدسية عن العلم بواسطة الحداثة، وبيان صلة الدين بإنسان ما بعد الحداثة المتعطِش للمعنوية. الحداثة التي هي ظاهرة متنامية، وفي حركة مستمرة، وُلِدَ منها في مقابل إنسان العصور الوسطى، إنسان الحداثة والعلماني. ومع مرور الزمن، و - بعد مخاضٍ عسير - ولد إنسان ما بعد الحداثة من رحم العلمانية، والذي كان يتصف نفسياً بعدم الركون والطمأنينية والشعور بالوحدة. ومن وسط هذا الشقاء الروحي والمعنوي، نهض إنسان الثورة وما بعد الحداثة حتى يرجع - كما سوف نرى - إلى فكر وسلوك ما قبل الحداثة.
التلوُّث الفكري لآدم
الحداثة والدين نظرتان مختلفتان إلى الحياة، الحداثة لها توجُّه نفعي (إثباتي) علماني وميكانيكي إلى العالم، والدين يسعى إلى تكريس نظرة كونية متعالية، مقدَّسة وأخلاقية، ومؤمنة بالله. هذه الرؤية تعتبر من نتائج معرفة تختصّ بهذه الدوائر. إنَّ المعرفة التي تدافع عن نظرة كونية ميكانيكية، هي معرفة الحقائق الفاقدة للروح، والتي تنتج من خلال التجربة الحسيّة. إنَّ هذه
المعرفة التي يبتني عليها علم الحداثة الفاقد للإله، خالية من المعنى والهدف ومحايدة أمام القيمة، وكمثال نلفت انتباهكم إلى نظرية الانفجار الكبير، في ما يرتبط بالكون والحياة، و نظرية التكامل الأعمى .
والمعرفة التي تدافع عن النظرية الكونية الإلهية، معرفة متعالية أظهرها الله لأنبيائه. إنَّ هذه المعرفة التي يبتني عليها الدين ذات معنى وتُؤمن
بالقيم. وإنَّ الهدف الذي يكمن في هذه المعرفة، يُعطي للحقائق التجريبية والحياة معناها. فالمعنى، والهدف، والقيمة، هي أبعاد غير قابلة للانفصال عن هذه المعرفة. إنَّ الله لم يخلق الكون من أجل أن يلهو، بل خلقه ليرى مَن يُؤدِّي عملاً صالحاً (1) .
إنَّ المعرفة سلاح فعَّال للصراع من أجل الحياة. ولهداية الحياة على هذا الكوكب، نحتاج إلى معرفة الحقائق ومعرفة القيم معاً؛ ولهذا السبب زوَّد الله الإنسان بالمعرفة الملكوتية والمعرفة الأرضية معاً (2) . والنوع الثاني من المعرفة يلزم للمقاومة في الأرض؛ ولهذا لم تُزَوَّد به الملائكة.
إنَّ أهمية الإنسان تكمن في أنَّه رمز وحدة المعرفة الملكوتية والمعرفة الأرضية، ولا يستطيع عقل الإنسان من دون الوحي، أنْ يصل إلى الحقيقة النهائية. إنَّ الوحي يُزوِّد المعرفة الأرضية بالهدف، ويُعطي أفقاً روحانياً للحياة، ودواءَ كل أدواء إنسان ما بعد الحداثة يكمن في هذا التراث لآدم.
____________________
(1) الملك: 67: 2.
(2) البقرة: 2: 31.
المفاهيم الأساسية للحداثة
إنَّ الحداثة نشأت وسط نهوض العلم الذي عمل كقوة فكرية واجتماعية كبيرة. الحداثة انقلاب على كل سُنَّة وسلطة، سيَّما سلطة الدين. إنَّ العقل يأخذ مجال الإحساس. الحداثة عقلانية؛ بمعنى أنَّها تبحث عن معرفة كل شيء، وطبيعانية؛ بمعنى أنَّها تتولَّى تفسير الطبيعة الداخلية والخارجية من دون افتراض ما وراء الطبيعة. فمن جهة تتقيَّد بالعقلانية، ومن جهة أخرى تلتزم بالطبيعانية. تُؤكِّد الحداثة أنَّ العالم (الكون) نشأ نتيجة التجاور التلقائي للقوى الكونية العمياء، من دون هدف مسبَّق، وفي حركة ميكانيكية، ويتكامل، ومن ثُمَّ ينطلق كبالون قد انفصل عن خيطه، ليدور هنا وهناك.
يكمن أساس الحداثة في علم المعرفة (الإبستمولوجيا) التجريبية والعقلانية. وحسب رؤية الحداثة، فإنَّ التجربة الحسية هي المصدر الوحيد للوصول إلى الحقيقة، ولا صلة للوحي بالعقل، كما أنَّه لا يُعد من مصادر المعرفة. إنَّ "علم المعرفة" حسب الحداثة يميل إلى التضييق، ورؤيته إلى الحياة كليانية وشاملة. وعلى هذا الأساس، فإنَّ المعرفة الكونية لدى الحداثة مُضيَّقة أيضاً، وتبادر إلى تفسير جميع الظواهر من خلال المادة، وتعترف بالمادة معياراً للحقيقة مقابل الروح. إنَّ هذه الرؤية المعرفية المُضيَّقة تعتبر الأمر المتعالي شيئاً زائداً.
إنَّ الرؤية المعرفية والكونية المُضيَّقة كما سبق، تعتبر النظرة الأحادية والغائية سمتين أساسيتين للحداثة. وبالنتيجة، فإنَّ النظرة الكونية للحداثة
محدودة للغاية، كما أنَّها غير متماسكة وغير كاملة، ولها نظرة كليانية إلى الحياة.
وعلى هذا الأساس، فإنَّ النظرة المعرفية تنفصل عن النظرة الكونية (الأنطولوجية) في الحداثة، وتُعطي صورة مجتزأة وغير متماسكة عن الحقيقة. الحداثة لا تستطيع أن ترى العالم في كليِّته، وأنْ تجد صلة أساسية بين الوجود والمعرفة؛ لأنَّها لا تعتبر أنَّ العالم مخلوق لخالقٍ متعال.
إنَّ المعرفة التجريبية العقلانية - مصدر المعرفة والحداثة - تُعتبر غير نهائية، وعلى ضوء الأبحاث التالية، تتغيَّر وتُعدَّل. إنَّ عصرنا هو عصر انفجار المعرفة. وإنَّ الحركية والنشاط الذاتي للثقافة الغربية، تنشأ من إمكانياتها في التكيُّف مع الظروف المتغيِّرة للحياة. ليس هناك أي شيء في داخل هذه الثقافة أو في خارجها يُعد أمراً ثابتاً وقطعياً؛ بحيث لا يتغيَّر في عالم يتغيَّر باستمرار (1) . الحياة كلُّها تغيير وسيلان. وهناك عناصر ثابتة فيها، إلاَّ أنَّه في البناء المتغيِّر للحداثة لا يوجد شيء ثابت على الإطلاق.
مجتمع الحداثة مجتمع عنصري. فالعصبية المتصلة باللون، والعرق، واللغة، والإقليم، هي التي تحدِّد بناء الشعب؛ وتنتهي إلى الشوفينية والقومية المفرِطة. وباعتبار أنَّ العصبية القومية تُبشِّر بالحرية والإصلاحات للشعب، فإنَّها في الحقيقة تلعب دور الإله الجديد في مجتمع الحداثة. فيما تُصنَّف القومية في مرتبة أعلى من الإنسانية، فإنَّها تُحدِّد الأفق الاجتماعي للشعب.
____________________
(1) محمد إقبال، إحياء الفكر الديني في الإسلام، مؤسَّسة الثقافة الإسلامية، لاهور، 1986.
إنَّ الإنسان يُشكل قطب الحداثة. فالحداثة حركة إنسانية، وتُعتبر الصلات الإنسانية فوق الجميع. الإنسان معيار كل شيء، ومصدر المعارف و
القيم. والإنسان الذي تتحدَّث عنه الحداثة ليس هو الإنسان العالمي الذي يخلِف النبي آدم (عليه السلام)، بل هو ذاك الإنسان القومي وثمرة النهضة (الأوروبية)، الذي يتميَّز عن الإنسانية من خلال الحدود الفيزيقية، مثل: اللون، والعرق، واللغة، والإقليم. إنَّ برنامج الحداثة ينبني على التبشير بالحياة السعيدة في الدنيا؛ لأنَّها لا تستطيع أن تتصوَّر حياة وراء هذه الحياة الدنيا.
الأسس الفكرية للإسلام
المثال الإسلامي - المبني على وجود "إله واحد" - يُحدِّد الجهة المعرفية، والنفسانية، والسلوكية للمسلمين. الإنسان ذاك الروح المجسَّم؛ حيث خلق الله جسم الإنسان من الطين، ومن ثُمَّ نفخ فيه من روحه (1) . إنَّ التعايش المشترك بين المادة والروح، والاعتقاد بعدم الفصل بينهما، هو الأساس للحياة من وجهة نظر الإسلام. ويُعد أساساً ثابتاً للأصول الخُلُقية المتعالية له. وحسب القرآن الكريم، فإنَّ الحقيقة النهائية هي الجانب الروحي للإنسان مضافاً إلى نشاطه الدنيوي أيضاً. والروح تتجلَّى في صورة طبيعية، ومادية أيضاً.
وعلى هذا الأساس، فكل ما يُتصوَّر أنَّه مادي وعلماني، فإنَّ أساس وجوده أمر مقدَّس (2) . يقول إقبال اللاَّهوري: "لا وجود لعالم الكفر أساساً. وكل أبعاد
____________________
(1) السجدة: 32: 7 - 9.
(2) إقبال: المرجع السابق، ص 123.
العظمة في المادة من تجليِّات الروح" (1) . وحسب هذه النظرة الدينية إلى المادة، فإنَّ المعرفة التجريبية لا تُعتبر طبيعانية وفاقدة للأسس الخُلُقية، ومتَّسمة بالعلمانية والنفعية.
ومن جهة المعرفة الوجودية (الأنطولوجية)، يعتبر الإسلام الروح والمادة، معاً، وجهين غير منفصلين عن الحقيقة. إنَّ هذه المعرفة الوجودية "المادية - الروحية" تقف في مقابل المعرفة الوجودية الأحادية للحداثة؛ حيث إنَّها تحصر الحقيقة بالمادة فقط، ومن خلال النظرة الكليانية، فإنَّها أجنبية عن الحياة.
إنَّ المعرفة الوجودية في الإسلام تُولِّد المعرفة الإبستمولوجية (المعرفية)، وفي الحداثة فإنَّ المعرفة الإبستمولوجية التجريبية - العقلانية تُولِّد المعرفة الوجودية، المادية. إنَّ النظرة الثنائية إلى الحقيقة في الإسلام أوجبت أن لا تنحصر معرفته الإبستمولوجية بأيِّ مصدر من المصادر. ومن هنا، فإنَّها تستفيد من التجربة (2) ، والعقل (3) ، والوحي (4) ، والشهود (5) لكسب المعرفة في نطاق الأمور الحسّية والانتزاعية والروحانية.
إنَّ المعرفة الوجودية، والمعرفة الإبستمولوجية الجامعة للإسلام، قد حوَّلتاه إلى أيديولوجيا معتدلة ومتوازنة. إنَّ الحداثة المفرطة تعرف الإنسان من خلال
____________________
(1) المرجع السابق، ص 123.
(2) الملك: 67: 23.
(3) الآية نفسها.
(4) الآية نفسها.
(5) الشعراء: 26: 89، والصافَّات: 37: 84.
الفكر الاستقرائي، ولا تنصفه في جانبه العلمي والعاطفي، فيما ينتهي الفكر والعاطفة في الإسلام إلى العمل، ويُؤكِّد في السلوك على الاعتدال: (كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ) (1) . و الوسطية أصل أخلاقي عام في الإسلام، وقد ورد في القرآن الكريم تسمية المجتمع المسلم بالأمة الوسط مراراً (2) ، أي المجتمع الذي يختار المنهج الوسط في القضايا كافة.
إنَّ المعرفة الإبستمولوجية في الإسلام - بخلاف الحداثة - جزء من المعرفة الوجودية، وليست منفصلة عنها. إنَّ الله هو خالق الكون، والعلم، ومصدر معرفتنا بالعالم.
وكما سبق في البداية فإن الحداثة انقلاب على التقاليد وكل أشكال السلطة. وعلى الحداثة أن تثني بـ(التغيير) كـ "أيديولوجيا" أساسية لها. وفي مقابل هذا الموقف الإفراطي، فإنَّ الإسلام يُحقِّق التوازن بين التقاليد والمتغيِّرات، فهو يدعو إلى حفظ الثقافة وصيانتها، ولكنَّه في الوقت عينه يدعو إلى تجديد بنائها لمعالجة الأمور الحياتية المتغيِّرة. إنَّ الاجتهاد والإجماع، في جنب الحركة الدائبة للحياة، يتقدَّمان إلى الأمام، ويسعيان لاستقطاب عناصر من الثقافات الأخرى. ويكفي أنْ نفتح (أمامنا) من جديد منفذ الاجتهاد الذي تم غلقه قبل ألف سنة.
تُعرِّف الحداثة الشعب انطلاقاً من وحدة اللون، واللغة، والإقليم. وفي مقابل هذه النظرة القومية المحدودة إلى المجتمع، فإنَّ المجتمع الإسلامي هو مجتمع
____________________
(1) الأعراف: 7: 31.
(2) البقرة: 2: 143.
الأخوة الموسَّع. نحن أبناء آدم وإخوة، وجميع العالم (المجتمعات الإنسانية) أسرة الله. هذه الفكرة تُجسِّد الوحدة العاطفية بين أفراد البشر.
وفي نطاق خاص، فنحن المسلمين، نُؤمن بهادٍ واحدٍ وهو القرآن الكريم، ونرى الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) قائداً لنا. وبهدف نيل رضى الله نبني حياتنا ونسمَّى "أمَّة". الأمة تقع في ما وراء القيود (والشؤون) الدنيوية.
إنَّ المفاهيم الدنيوية - كاللون، والعرق، واللغة، والإقليم - تُقسِّم الثقافة الإسلامية الأصيلة إلى الفئات الثقافية الفرعية. والقرآن الكريم يعتبر اختلاف الألسن والألوان (1) من آيات الله. ولا يريد الإسلام أن يُحوِّل العالم إلى نمط ثقافي واحد، بل يعترف بتنوُّع ثقافات الفئات المختلفة، إلاَّ أنَّه يعتبرها فاقدةً للقيمة النهائية. يقول القرآن الكريم:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (2) .
ويعتبر المسلمين أمة واحدة، لا بمعنى شعب واحد بمفهومه القومي، إنَّ الشعب له مفهوم دنيوي، والأمة لها معناها الأوسع من الحدود والقيود الدنيوية. إنَّ العنصرية والقومية مذمومتان في الإسلام، في حين أنَّ حب الوطن أمرٌ ممدوح. الإسلام يعتبر الدفاع عن الوطن - وإنْ أدَّى إلى فناء النفس - مسؤولية كل مسلم.
ويختلف حب الوطن عن القومية في الأساس؛ القومية تعني الإعجاب بالنفس، والنفرة
____________________
(1) الروم: 30: 22.
(2) الحجرات: 49: 13.
من باقي الشعوب والأوطان، وتُعتبر جناية على الإنسانية، بخلاف حب الوطن؛ حيث إنَّه مسؤولية أخلاقية واجتماعية بالمفهوم الديني.
إنَّ محور الحداثة هو الإنسان، في حين أنَّ محور الإسلام هو الله. إنَّ الحداثة والإسلام كلاهما يهتمان بالإنسان وسعادته مع الاختلاف في زاوية الرؤية، فإحداهما تنظر إليه من زاوية بشرية، والثانية ينظر من زاوية ربَّانية (1) .
الحداثة إثباتية (نفعية) بمفهومها الدنيوي، وفي المقابل، فإنَّ الإسلام يدعو إلى التعالي في الدنيا والآخرة، ولا يدعو إلى الآخرة فقط؛ لأنَّه لا يدافع عن الرهبانية والعزلة من الدنيا. وفي نفس الوقت، فإنَّه ليس دنيوياً بحتاً؛ لأنَّه لا يعتبر هذا العالم غايته الأخيرة.
ومن وجهة نظر الإسلام، فإنَّ أهمية الدنيا تكمن في كونها موطن العمل الصالح، وتكمن أهمية الآخرة في أنَّها مجال الحساب والجزاء. الإسلام يُؤكِّد على تنفيذ أحكام الله في الدنيا وعاجلاً. وقد أطلق "فضل الرحمان" على تأكيد الإسلام "سلوك الفرد في هذه الدنيا" بـ "الإثباتية (النفعية) الإسلامية" (2) . ويُضيف: "وهذا يعني أنَّ الإسلام دين لهذه الدنيا" (3) . إنَّ النفعية الإسلامية تختلف مع نفعية الحداثة (4) ، الإسلام يُبشِّر بالسعادة في الدنيا والآخرة، بينما الحداثة تحصر مجالها في الدنيا فقط.
____________________
(1) فضل الرحمن، الإسلام، ويدنفلد، نيكولسون، لندن، 1966، ص 12.
(2) فضل الرحمن، جذور الإسلام والأصولية الجديدة، جامعة سيراكوزا، نيويورك، 1981، ص 25.
(3) م. ن.
(4) نفسه، ص 26.
وممَّا سبق يتضَّح أنَّ الإسلام والحداثة - على الأقل في جملة من المواقف - ينتميان إلى قطبين مختلفين، لا التقاء بينهما. ولكن هناك موارد من التلاؤم بين الطرفين. يستطيع الإسلام أن يستقطب الرؤية المحدودة والغائية للحداثة حول العلم، ويزيل منها النفعية والعلمانية، ويصنفها ضمن إطاره القيمي الموسَّع، أو أن يُجدِّد بناء فكره المعرفي حول الله ونظامه القانوني على ضوء علم الحداثة؛ كما بادر إلى ذلك المجدِّدون المسلمون؛ أمثال: جمال الدين الأفغاني (1879)، ومحمد عبده (1905)، وسيد أحمد خان (1898)، وإقبال اللاَّهوري (1938)، وآخرين.
يقول إقبال : "يلزم على المسلمين الحداثويين أن ينظروا مجدَّداً إلى كل نظام الإسلام ويجدِّدوا بناءه، من دون أن يقطعوا صلتهم بالماضي (1) . وأن يملكوا نظرة نقدية ومستقلَّة أمام تقدُّم الفكر الإنساني" (2) .
ما هو التحديث؟
نحن نعيش في عصر الانفجار المعرفي، وبما أنَّ الثقافة من ثمرات المعرفة، فإنَّ معرفة الإنسان بنفسه سوف تُؤثِّر بشكل مباشر على الثقافة. إنَّ ظاهرة التغيير الاجتماعي - التي بدأت بهذه الصورة - يَسمى بالتحديث أو ظاهرة تجديد البناء الاجتماعي. التحديث ليس سبيلاً سويَّاً، ولا يمكن أن يتحقَّق سريعاً وبهدوء، إنَّه يتحقَّق ضمن مهلة زمنية مطوَّلة. والإنسان - الذي يُشكِّل
____________________
(1) إقبال، نفس المرجع، ص 78.
(2) نفس المرجع.
موضوع الحداثة - ينتمي إلى الأمور المرتبطة بالماضي العريق وبالحاضر معاً. من هنا، فإنَّه يعيش أزمةً داخلية، وعليه أنْ يشقَّ طريقه بدقة وحذر بالغين من خلال الاتجاهين المتقابلين.
الحداثة ثمرة الصراع بين المحافظة والليبرالية
يقول أحد المفكِّرين:
"إنَّ ظاهرة التغييرات المترابطة بعضها بالبعض، وفي مستويات متعدِّدة، في مجالات الاقتصاد والسياسة الثقافة، والتي تُؤدِّي إلى أن تكتسب المجتمعات غير النامية سمات المجتمعات النامية، تُسمَّى بـ (الحداثة)" .
وكما يبدو، فإنَّ هذا التعريف يُؤكِّد على التغيير السريع والشامل، إضافة إلى انتقال المؤسَّسات من البلدان النامية إلى بلدان غير نامية. كما أنَّ هذا التعريف يتَّسم بطابع ثقافي معين، ولا ينسجم مع الأهداف التي نتوخَّاها. وحسب هذا التعريف فإنَّ الحداثة هي تغريب باقي المجتمعات دون تحديثها.
ويقول "سي. بي بلاك" في تعريف الحداثة: "الحداثة هي الصورة الحركية من ظاهرة التجديد الضاربة في القدم، والتي أخذت هذه الصورة نتيجة التطوُّر الحاصل من انفجار المعرفة في القرون الأخيرة" .
وعلى هذا الأساس، فإنَّ خصوصيتي الحركية و العالمية ، وما تخلِّفان من الأثر على القضايا الإنسانية، تُعتبران ذاتي أهمية (1) .
إنَّ الحداثة وتيرة ذات أبعاد
____________________
(1) بلاك، ص 7.
متعدِّدة، تتكيَّف على ضوئها المؤسَّسات المتطوِّرة لتجسِّد الأدوار المتعدِّدة في عصور مختلفة (1) .
إنَّ التعريف يعتبر الحداثة وتيرة معقدَّة ومتعدِّدة الأبعاد، ويعترف بالدور التكاملي التاريخي، ويرفض بالمطلق النظرة المضيَّقة إلى الأمور. وتأكيده على تغييرات المؤسَّسات دون نقلها، يفتح المجال أمام التغييرات المختلفة. وعلى هذا الأساس، فلابد أن تسعى المجتمعات المختلفة إلى التحديث ضمن تركيبتها الثقافية الخاصة. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ هذا التعريف عالج التقابل بين الحداثة والتقاليد أيضاً؛ لأنَّه يُعطي التكامل التاريخي دوراً مهماً.
يُضيف "بلاك" :
"ليس من الصحيح أن نعتبر التحديث عملية اجتياز بسيطة من التقاليد إلى الحداثة، التحديث جزء من الحركة اللاَّنهائية من الأيام الأولى إلى مستقبل غير مسمَّى" (2) .
ومن الواضح أنَّ رؤية بلاك الشاملة والمعتدلة، تنسجم مع الأهداف التي نتوخَّاها. وعلى هذا الأساس، نستطيع أن ندمج العلم الحديث في إطار الثقافة الإسلامية بعد تجديد بنائه وإخضاعه للانتقاء؛ فإنَّ الاستعارة الثقافية لها منحى انتقائي.
إنَّ الثقافة النامية يجب أن تتَّجه إلى انتقاء ما يتَّفق مع حاجاتها، وأن تمتنع عن استقبال واقتناء الثقافة الأجنبية من دون نقدها.
____________________
(1) نفسه، ص 6.
(2) نفسه، 54.
إسلام الحداثة في البحث عن علم كلام جديد
يعتبر القرآنُ الطبيعةَ و الآفاقَ و الأنفسَ مصادر أساسية للمعرفة الإنسانية، ويطلب منا أن نتدبَّر في الظواهر الطبيعية، مثل: الشمس، والقمر، والليل، والنهار. إنَّ هذا العمل الفكري - الذي أكد عليه القرآن - كان علم كلام الأيَّام الأولى من الإسلام. ومع مرور الزمن، تمَّت سيطرة الفلسفة - بدل الدين - على مجرى العلم. وبهذه الصورة، انفصل علم الكلام عن منطق القرآن الطبيعي.
وفي عصر الخلفاء العبَّاسيين تحقَّق تجديد بناء المنطق النظري اليوناني، بغرض التواصل مع العصر. وإنَّ واحداً من أهداف الكلام، هو: تبيين التعاليم الإسلامية بلغة العصر. والكلام العلمي كلام حركي، لا يتوقف عن السير. وعصرنا هو عصر العلم والثقافة. ومن الضروريات الأساسية لهذه المرحلة هي تجديد بناء "علم الكلام - القياسي" - وهو من تراث العصور الوسطى - وتبديله إلى "معرفة استقرائية" .
إنَّ أول مَن طرح ضرورة تجديد بناء هذا العلم هو السيد أحمد خان مؤسِّس الجامعة الإسلامية في عليكرة. إنَّه كان يعتبر أنَّ الأساس في علم الكلام الجديد، هو: معيار التطابق مع الطبيعة، والانسجام مع العقل (1) . إنَّ الدين الحقيقي لا يخالف الطبيعة، ولا العقل. وكان يعتقد أنَّ الدين هو كلام الله، والعلم هو فعل الله. ومن هنا، فلا يمكن للعلم والدين أن يعارضا بعضهما البعض. إنَّه في النهاية - وعلى رغم ما قاله - يُقدِّم العلم على
____________________
(1) السر سيد أحمد خان، مقالات السر سيد، ج 3، مجلس ترقى عرب، لاهور، 1961، ص17.
الدين (1) ، ويعتبر العقل مقدَّماً على الوحي. كما أنَّه - وبتأكيده استقلالية الطبيعة والقوانين التي تحكمها - اعتبر الدعاء غير ذي جدوى، ونفى المعجزة، ورأى أنَّ الله هو مصدر العلم.
ويُعتبر العلامة إقبال (1938)، الذي كان يعيش في شبه القارة الهندية، من الحداثويين المسلمين البارزين. ولقد كتب كلاماً جديداً، إلاّ أنَّه لم يُكرِّر خطأ سيد أحمد خان. ومن وجهة نظره، فإنَّ الوحي يُعتبر المعيار الأهم بالقياس إلى العقل. ويثني إقبال على العقل لكونه مصدراً للمعرفة الدنيوية، ومنظماً للحياة، ويتقدَّم إلى الأمام في هذا المجال إلى درجة أنَّه يقول: "إنَّ الدين يحتاج إلى العقل أكثر من الأصول العلمية الجازمة. إنَّ الإسلام ليس فقط لم يخالف العلم، بل هو الدين الوحيد الذي يدعو الإنسان إلى البحث في الطبيعة منطلقاً من العقل... وميلاد الإسلام.. ميلاد للعقل الإستقرائي" (2) . ويبدو أنَّ عبارته الأخيرة صحيحة إلى درجة ما، ولا يمكن إنكارها.
إنَّ المنهج المعرفي لإقبال مركَّب من التعاطي بين العقل والشهود. ولا يرى إقبال أنَّهما متقابلان، بل يعتبرهما متكاملين. إنَّ هذه الفكرة تمنح روحاً معنوية للمعرفة التجريبية. وأخيراً هو يعتبر "معرفة الطبيعة معرفة فعل الله" (3) .
____________________
(1) إشتياق حسين قريشي، التعليم والتربية في باكستان، معارف، كراتشي، ص 68.
(2) إقبال، نفس المرجع، ص 2.
(3) نفسه، ص 45.
إسلام الحداثة في البحث عن فقه جديد
لقد تمَّ تدوين جملة من عقائد الإسلام وأحكامه المتصلة بالقضايا المشتركة بين الناس في الفقه (القانون) الإسلامي. وانطلاقاً من رؤية "علم اجتماع المعرفة" ، يمكن القول إنَّه لم يتقدَّم علم الكلام ( Theology )، ولا الفقه، في موازاة التغييرات الزمنية ومتطلَّبات العصور. وبالنتيجة حصلت هوة عميقة بين التصوُّرات الثقافية القديمة والحقائق الاجتماعية الجديدة، ينبغي أن تتم معالجتها. الثقافة مرنة، وقابلة للتعديل والتكيُّف، تُهيِّئ إمكانية تلبية الحاجات المعنوية المادية للإنسان. فالثقافة التي لا تستطيع أن تقوم بهذا الدور الأساسي تفقد نشاطها، وقدرتها، واعتبارها، وتأثيرها. والثقافة الإسلامية المعاصرة تمرُّ بهذه المرحلة.
وتكمن في المفهوم الإسلامي للقانون نقطتان: الأولى: أنَّه قانون ديني. و الثانية : أنَّه يشتمل على الجانب المادي والجانب المعنوي من حياة الإنسان
معاً.
القانون له أساس إلهي في الإسلام، إلاّ أنَّ السلوك الذي يستلهم منه إنساني. تبتني إنسانية العمل والسلوك، على النية (1) التي يقوم عليها العمل. إنَّ الجانب الإلهي والإنساني للقانون، يُشكِّلان معاً، فلسفة القانون الإسلامي. إنَّ القانون يُوجب مسؤولية أخلاقية على الإنسان؛ لأنَّ أساس المسؤولية الأخلاقية إلهي، وليس بإنساني.
____________________
(1) فضل الرحمن، نفس المرجع، ص 68.
إن الشريعة تُوجِد أواصر الربط بين الله والإنسان والمجتمع. ومحتوى هذه الصلة غير قابل للتغيير، ويُعد من الأمور الأبدية والأزلية، إلاَّ أنَّ أساليبها تتغيَّر حسب المواقع والعوامل الزمكانية. وبعد ختم النبوة الأبدي، فإنَّ مسؤولية تفسير وتنفيذ قانون الشريعة في المواقف المختلفة، ترجع إلى فقهاء المسلمين. إنَّ الفقهاء الأوائل قد عرفوا مسؤولياتهم بشكل جيد، وعملوا بها. وقد نشأت من أواسط القرن الأول الهجري ولغاية القرن الرابع الهجري، ما يقرب من تسعة عشرة مدرسة فقهية؛ بغرض تلبية الحاجات المعنوية والمادية للحضارة النامية. وقد اشتهرت من بينها مدارس فقهية سنية أربعة - الشافعية، والحنفية، والحنبلية، والمالكية - لجهة نظرتها الفقهية؛ لأنَّ هذه المدارس اتجهت في تعبيراتها من النظرة القياسية إلى النظرة الاستقرائية (1) .
وإنَّ المدارس الفقهية التي نشأت في العصور الوسطى، ليس باستطاعتها أن تستجيب لحاجات المجتمعات الرازحة تحت سلطة العلم والثقافة؛ لذلك نحتاج إلى فقه جديد لهذا العصر، قد يتم تأسيسه على المنهج الاستقرائي. إنَّ تجديد البناء هذا، هو الثمن الذي ينبغي أن ندفعه في عصر الانفجار المعرفي للمحافظة على الفقه، ولا تستطيع الثقافة النامية أن تغضَّ النظر عن خطر الفناء، من دون أن تأخذ ذلك بالحسبان.
يعتقد "إف. شئون" أنَّ: "كافة الحضارات تؤول إلى الزوال، إلاّ أنَّ طريقة زوالها تختلف؛ فإنَّ زوال الحضارة الشرقية انفعالي، وزوال الحضارة الغربية فعَّال. إنَّ الشرق لا يُفكِّر لدى
____________________
(1) إقبال، نفس المرجع، ص 131.
ا لأفول، والغرب يُفكِّر حتى عند الأفول أيضاً، وقد يُخطئ في فكره. إنَّ الشرق نصب عينيه إلى الحقائق، وغرق في سبات عميق، والغرب يعيش في متاهات الأخطاء" (1) .
لقد تطرَّقنا إلى ضرورة التطوير في الشريعة، وتطابقها مع العصر. ولابد في هذا المجال أن يتم اختيار استراتيجية تحمي الاجتهاد من السقوط في المتاهات، و المقصود من الإستراتيجية، هو: المنهج الهرمينوطيقي الملائم للمؤسسة الفكرية ذات الطابع الديني. إنَّ هذا المنهج - الذي يُستعان به في مجال التفسير، وقد أوصى به فضل الرحمن - يتكوَّن على ضوء حركة فكرية متواصلة وجادة، وفي هذه الحركة الفكرية:
1ـ من الضروري الامتناع عن المواجهة الموردية والعينية للقرآن، والأخذ بعين الاعتبار الظروف المعيشية آنذاك، والاعتماد على الأصول العامة التي تلتقي عندها جميع أحكام وتعاليم الإسلام.
2ـ ينبغي التحرُّك من هذا الأفق الواسع والعام إلى الوراء، والاهتمام بتشريع القوانين الخاصة انطلاقاً من مكانة الحياة في العصر الحاضر.
وعلى أساس هذا المنهج الهرمينوطيقي، فإنَّ الاجتهاد بمقدوره أن يمنحنا قوانين عملية ومُؤثِّرة، تلك القوانين التي نستطيع من خلالها أن نتقدَّم إلى الأمام في قضايا الحياة، ونبادر إلى تنظيمها في أجواء الحداثة.
____________________
(1) إف، شئون، آفاق المعنوية في الحقيقة الإنسانية، لندن، 1954، ص 22.
إسلام ما بعد الحداثة
إنَّ القضية الأساسية لإسلام الحداثة، هي تجديد بناء الفكر الثيولوجي والقانوني الإسلامي على أساس استقرائية، وهذا ما لم يتم بعد. إنَّ قضية إسلام ما بعد الحداثة تختلف كلياً عن قضية إسلام الحداثة. إنَّ قضية إسلام ما بعد الحداثة هي بناء المعرفة على ضوء المعايير الإسلامية . إنَّ الحداثة تنقصها الأخلاقية التي بمقدورها أن تمنح القدرة لها؛ ولهذا السبب لم يكتب لها الانتشار في العالم الإسلامي. إنَّ الحداثويين المسلمين قد ذكَّروا بشكلٍ جاد - في هذه المسألة - وقرَّروا، أن يعالجوا هذه النقص في معرفة الحداثة. وكمثال على ذلك، فإنَّه قد تمَّ تأسيس المركز العالمي للفكر الإسلامي في
فيرجينيا / الولايات المتحدة الأميركية - سنة 1981، بإشراف إسماعيل الفاروقي. وكان الهدف لهذا المركز إعلاء وأسلمة المعرفة العلمانية الغربية. وبعد سنة، قام الفاروقي بنشر مشروع مؤسَّسة المعرفة الإسلامية ومجلَّة العلوم الاجتماعية الإسلامية في أميركا بعنوان: "أسلمة المعرفة" .
إنَّ مسؤولية مسلم ما بعد الحداثة هي تجديد بناء العلوم الطبيعية والاجتماعية على ضوء معرفة الوجود، وعلم المعرفة (الإبستمولوجيا) والمعرفة الكونية والمعرفة الاجتماعية ومعرفة القيم انطلاقاً من الإسلام.
بالنظر إلى معرفة الوجود، فإنَّ الله خلق الكون من العدم، وأقامه، وأنَّ الحياة لها قيمة متعالية، وتتجه إلى عالم الآخرة، والتأكيد على العمل في هذه الدنيا.
والإنسان هو أشرف المخلوقات، وخليفة الله في الأرض. ومن مسؤولياته أن ينطلق سلوكه من الخُلُقيات الرفيعة والمتعالية، ويسعى إلى إقرار الأمن والاستقرار في الأرض، وأن يُنظِّم حياته في ظل حاكمية الله، وأن يعيش تحت إرادته.
ولله في خلقه إرادتان تتجلَّيان في القانون الخُلُقي و القانون الطبيعي. يتحقق أحدهما في الحرية، والثاني في الضرورة. أحدهما ثابت قابل للنقض، والآخر ثابت لا يقبل النقض. والقانونان معاً أزليَّان، ويمنحان الوحدة للعالم. وإنَّ الوجود كله وحدة منسجمة؛ لأنَّه من خلق إله واحد.
العقل في الإسلام شريك الوحي، ومتَّحد معه، وليس عدواً له. ولا يمكن الوصول إلى حقيقة الوحي إلاّ من خلال العقل. يرى العقل آيات الله في الأنفس والآفاق. والمعرفة هي مجموع الوحي والعقل، ويبتني علم المعرفة الإسلامي على وحدة الاثنين معاً. الحقيقة لا تُصنع كما يتصوَّر البراغماتيون، بل هي ثابتة من البداية وواحدة. والقانون الخُلُقي و الطبيعي يرجعان إلى حقيقة واحدة، هي إرادة الله. وبما أنَّ الحقيقة واحدة، فالمعرفة أيضاً واحدة. ووحدة المعرفة من النتائج الحتمية لوحدة الحقيقة.
وإنَّ حياة الإنسان كل لا يتجزَّأ، ولا يمكن تقسيمها إلى "المنهج الإلهي" ، و "المنهج الإنساني". إنَّ قانون الشريعة يتضمن المعنى والمادة معاً؛ لأنَّه قد تمَّ بناؤه على الوحدة اللاَّمرئية التي تحكم الحياة.
وعلى المستوى الاجتماعي، فإنَّ التوحيد، ووحدة النظام الكوني، ووحدة المعرفة، ووحدة الحقيقة، ووحدة الحياة، ووحدة النوع الإنساني، والأهم من
ذلك الأخلاقيات المتعالية، هي أصول أساسية ينبغي أن يتم على أساسها تجديد بناء معرفة الحداثة الفاقدة للقيم، في الإطار القيمي للإسلام.
إنَّ الحداثة تتَّجه إلى ما بعد الحداثة، وما وراءها، وخصائص هذه المراحل الثلاثة هي ما يلي: التقدُّم، العبثية، و الرجوع إلى الدين .
الحداثة - التقدُّم
الحداثة تُؤمن بقُدرات العلم بشكل قاطع، وتنظر إلى حاضر الإنسانية ومستقبلها بنظرة تفاؤلية. وتُذعن بقدرة العلم على اجتراح الحلول لجميع قضايا الإنسان، وتقودنا عبر الصناعة والديمقراطية والتنمية، إلى عصر السلم والأمن، والتقدم والسعادة. إلاَّ أنَّ هذه الرؤيا لم تتحقَّق. وأنَّ الحربين الكونيتين المدمِّرتين، قد ساهمتا بشكل مؤثِّر في وهن فكرة التقدُّم. إنَّ الحداثة، وفي حربها ضد الفاشية في ألمانيا وإيطاليا؛ وبهدف الدفاع عن الديمقراطية، في الحقيقة حاربت نفسها؛ لأنَّ الفاشية والديمقراطية كلتيهما من نتائج الحداثة. وفي فيتنام أيضاً قد ارتكبت تلك المجازر الوحشية باسم الديمقراطية. إنَّ العلم الذي كان سبباً لغرور الإنسان، قد تحوَّل إلى آلة مدمِّرة؛ لأنَّها دنيوية وفاقدة للقيمة.
ما بعد الحداثة - العبثية
ما بعد الحداثة استمرار للحداثة، ونتيجة منطقية لدنيوية العلم، والانفجار المعرفي العلماني في السنوات الأخيرة. ثمرة ما بعد الحداثة هي الإذعان بنوع
من السيلان الأبدي. الحداثة هي اسم للتجديد والتحوُّل. ليس فيه ما يملك القرار، والثبات، والاستمرار. وفقدان اليقين في الحداثة، أدخلنا إلى عصر ما بعد الحداثة، التي من سماتها العبثية . إنسان الحداثة - من ناحية المادة - في رفاهية، وإنسان ما بعد الحداثة - من حيث المعنى - يعيش مشرَّداً ومنعزلاً ومتردِّداً. إنَّ القضية الكبرى بالنسبة إلى إنسان ما بعد الحداثة هي أن يجد طريقاً للحفاظ على إنسانية الإنسان، والحيلولة دون زوال القيم المعنوية والخُلُقية في عصر سيطرة العلم والتقانة.
ما وراء ما بعد الحداثة - الرجوع إلى الدين
كما أنَّ ما بعد الحداثة استمرار للحداثة، فإنَّ ما وراء ما بعد الحداثة أيضاً استمرار لِمَا بعد الحداثة. إنَّ ما وراء ما بعد الحداثة، هو السعي للوصول إلى محور روحاني ومعنوي، قد تمَّ ضياعه في دنيا العلمانية. إنَّ هذا الانتماء يُؤيِّد البُعد المعنوي والروحاني في الإنسان. يسعى الإنسان لملء الفراغ الحاصل من فقدان الإيمان، ولإحياء تراث آدم المركَّب من العلم والدين.