علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد25%

علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240

  • البداية
  • السابق
  • 240 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33058 / تحميل: 15718
الحجم الحجم الحجم
علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الثنائية في المرحليتن الزمنيتين القديمة والجديدة؟ هذه هي محورية المسألة، وليس أنَّ كل تطوُّرٍ يُبرَّر التسمية الحديثة المنبثقة عن واقعٍ علمي جديدٍ، ولا أنَّه لا مبرِّر لهذه التسمية حتى لو حصلت تطوُّراتٌ جذريةٌ تفرض قطيعةً كاملةً بين القديم والجديد.

لكن في تقديري، وإذا أردنا أن نخرج من هذه الجدالية وقمنا بقراءة التسمية من جهة أخرى، وهي الجهة التي تُلاحظ فيها أوّلاً ، التداعيات اللاشعورية للتسمية في الوعي العام، أو الخاص، ثانياً، التناسب المنطقي بين المقترح والاستجابات الواقعية الحاصلة له، فإنَّنا سوف نميل إلى التنازل عن هذه التسمية؛ وأمامنا مبرِّران - أحدهما يعالج التسمية نفسها، وثانيهما المسمَّى - وهما:

المبرِّر الأول: إنَّ القطيعة التي تُحدثها هذه التسمية بين الماضي والحاضر، قد صارت في الوعي العام ذات طابعٍ إلغائي، غير محايدٍ إطلاقاً، وهذا ما قد يجعلنا نخسر على المدى البعيد فرص استثارة الجهود السابقة على مستوى الاتجاهات كافّة، والتي لم تصل، في تقديري، إلى الدرجة التي يُسمح لنا فيها بالتعامل بفوقيّةٍ معها. والشيء الملاحظ، أحياناً، هو أنَّ بعض الباحثين المهتمِّين بدراسات علم الكلام الجديد - وكما تحكيه نتاجاتهم - لم تحضر في نتاجاته أيَّة نماذج من علم الكلام القديم، مع أنَّ بعض الموضوعات كان لعلم الكلام القديم فيها تحليلاتٌ ودراساتٌ معمَّقةٌ وموسَّعةٌ، لا يمكن التغاضي عنها بهذه

٨١

البساطة، وهذا ما يُؤكِّد القلق المنطقي من الإغراق في التسمية الجديدة؛ بحيث يُحدِث هذا الأمر نوعاً من فقدان الامتداد التاريخي للعلم نفسه.

نعم، إنَّ التسمية الجديدة المقترحة قد يكون فيها شيءٌ من التحفيز على ملاحقة الأبحاث الجديدة والاهتمام بها، وهو أمر قد يدفع إلى الحثِّ على خطواتٍ من هذا القبيل كما يراه "اسفندياري" (١) لكنَّ المشكلة هي في أنَّ التسمية والمصطلح إنَّما يُعبِّران عادةً عن مفهومٍ، أو مقولةٍ متقدِّمة، لم تستطع المصطلحات المتداولة الاستجابة لها، والتعبير عنها بخصائصها الجديدة. وعلم الكلام الجديد وإنْ عبَّر عن هذا المضمون من خلال إيحائه بالنظريات والمتابعات الحديثة، إلاّ أنَّ قطيعته مع الماضي أو القلق من هذه القطيعة المحتملة جداً، يجعل في تبنيه شيئاً من المخاطرة غير الضرورية، لا سيَّما وأنَّ هناك إمكانية للاستعاضة عنه بمصطلحٍ آخر أكثر جامعيةً وشموليةً.

المبرِّر الثاني: إنَّ المشروع المقترح على الرغم من عظمته، إلاّ أنَّه حتى الآن، وبالمقدار الذي أنجز منه، لا تبدو فيه مُقوِّمات الانفصال والتفرُّد. نعم، هو بصيغته المقترحة، يوجد فيه ذلك، لكن التسمية يجب أن تحاكي الواقع، لا الأمل؛ لأنَّ عدم محاكاة المصطلح والتسمية للواقع الحاصل، أو لمعطياتٍ تجعل من تشكُّل هذا الواقع أمراً ميسوراً، يحدث فراغاً داخل المنظومة المعرفية، ما يتسبَّب في حدوث مشكلاتٍ عديدةٍ. ومن هنا تنشأ العلوم الجديدة في الغرب

____________________

(١) مجلَّة " نقد ونظر"، ع ٢، ص ٢١٤.

٨٢

عندما تصل مجموعةٌ من الدراسات إلى مرحلةٍ من التضخُّم الحقيقي، تضطُّر العلماء إلى فرزها في علمٍ جديدٍ يكون أكثر قدرةً على استيعابها والتركيز عليها.

وأظن أنَّ ما ذكرناه يُبرِّر لنا تحييد هذه التسمية، أو لا أقل عدم الإصرار عليها والحفاظ على التسمية القديمة، أو استبدالها بتسميةٍ أخرى تحكي عن هذا العلم أيضاً على طول الخط، من دون اشتمالها على آثار سلبية كالتي ذكرناها. فإنَّ أساس تسمية العلم المتعلِّق بالعقائد الدينية، بأنَّه علم كلام مهما كانت أسبابه التاريخية والتي وقع جدلٌ طويلٌ معروفٌ فيها، هي تسميةٌ غير متناسبةٍ وغير حاكيةٍ عن مسمَّاها، فسواءٌ سُمِّي الكلام بالكلام لأجل قضية الكلام الإلهي، أو لكثرة الكلام فيه، أو لطبيعة عنونة المسائل قديماً فيه، أو غير ذلك، فلا ضرورة تقتضي الاحتفاظ بهذه التسمية ما دمنا نرى أنَّها لا تعكس لنا المضمون بقيمته ومستواه وأهمِّيته. وهذا ما يجعل من علم أصول الدين، أو علم العقيدة الدينية، أو علم النظريَّات العقديَّة - سواءٌ قبلنا هذه التسمية كجوابٍ نهائي أو لا - أنسبَ من التسمية بعلم الكلام، أو علم الذات والصفات، أو الفقه الأكبر، أو حتّى علم التوحيد وغيره - نظراً لافتقارها إلى عنصر الشمولية لكافَّة الموضوعات المستبطَنة فيه تارةً، أو لعدم تناسب المصطلح مع تسمية علمٍ من العلوم النظرية الفكريّة كتسمية "علم الكلام" التي تتناسب مع علم اللغة أكثر من العقيدة - وأكثرَ جامعيةً وقدرةً على

٨٣

الاستيعاب؛ لِمَا يزيل الثنائية المفترضة حتّى إشعارٍ آخر، تتبدَّل فيه الواقعيات في هذا العلم، لا المقترحات.

ضرورة قراءة التجربة الكلامية القديمة:

في إطار هندسةٍ للكلام الجديد سالمةٍ إلى حد كبيرٍ، من الضروري الأخذ بعين الاعتبار تجربة الكلام القديم، وقراءتها قراءةً موضوعيةً فاحصةً؛ لتحديد عناصر القوة والضعف قدر الإمكان، بغية المحافظة على عناصر القوَّة وتفعيلها، وتفادي المشكلات والآثار الناجمة عن عناصر الضعف، وهذا بحثٌ - بطبعه اللائق به - طويلٌ، لكن نشير هنا إلى نماذج.

عناصر القوَّة:

ونذكر - على سبيل المثال لا الحصر - نماذج أربعة هي:

أ - الدقَّة والشموليّة التي قد يصحُّ التعبير عنها باللامتناهية في معالجة الأفكار . فالمتكلِّم القديم عندما يشتغل بمسألةٍ كلاميةٍ، نراه يتفحَّصها تفحصاً دقيقاً، ويعالجها معالجةً فاحصةً، والتراث الكلامي المدوَّن شاهدٌ ناطقٌ على حجم الجهود التي بذلها المتكلِّمون في دراساتهم المدوَّنة. إنَّ في نفس المصنَّفات الكلامية، أو في علم الأصول (١) وطريقة "إنْ قلتَ"، واحدةٌ من أبرز الطرق الشاهدة على هذا الأمر.

____________________

(١) لا بأس بالإشارة إلى أنَّ جملةً من دراسات علم الكلام، قد توزَّعت في الفترة الأخيرة بين علم أصول الفقه الإسلامي وعلم الفلسفة، ولا سيَّما الفلسفة المتعالية؛ فالإلهيَّات بالمعنى الأخص في علم

٨٤

أمَّا علم الكلام الجديد، فقد تشوبه سرعة الحكم، وعدم الدقَّة وعدم الشمولية؛ فهو بحاجةٍ اليوم إلى عدم استعجال النتائج لكلّ الأمور، وعدم حرق المراحل الطبيعية.

وفي هذا السياق، أيضاً، يُلاحظ أنَّ بعض الدراسات الكلامية الجديدة مبتلاة بعدم الدقة والشمولية في النطاق اللغوي والاصطلاحي؛ فاللغة المتداولة لغةٌ مشوبةٌ، أحياناً، بالتشويش وعدم الشفافية وفتح الباب للاحتمالات العديدة، في حين صارت جامعيّة ومتانة اللغة ضرورة لإيجاد نمو صحيحٍ وتصاعدي لأيّ علم.

ب - المواكبة الدائمة للمستجدَّات الفكرية في المجتمع الإسلامي . وهذه ميزةٌ مهمةٌ في علم الكلام (١) ، فلا تكاد تسمع بطرح، أو كتاب، أو نقد، أو نظرية صدرت وتناقلتها الألسن في المحافل العلمية، حتى ينبري المتكلِّمون لتقييمها والردِّ عليها، أو تأييدها، وعلى كلّ حالٍ لإبداء رأيٍ فيها. وهذا امتيازٌ يطالب الكلام الجديد، اليوم، بإعادة تمثُّله وبصورةٍ أفضل. فدراسات كثيرة، مضى عليها اليوم قرن أو قرون، تُصنَّف لدى البعض بالحديثة جداً، أو الأحدث، وكأنَّها آخر ما تمخَّض عنه العقل البشري، في حين أنَّه - ومع ضرورة قراءتها بعمقٍ وجدّيةٍ، وخصوصاً الدراسات التأسيسية الغربية وغير الغربية -

____________________

الفلسفة من المسائل التي تعني المتكلِّم بالدرجة الأولى. أمَّا علم الأصول، فقد حدثت فيه اختلاطاتٌ موضوعيةٌ مضمونيةٌ، نُقلت على أثرها مجموعةٌ من مسائل علم الكلام إلى الأصول؛ بحيث إنَّ البحث المعمَّق حولها صار يراجعه الباحث في الأصول أكثر من الكتب الكلامية، وهذه مشكلةٌ حقيقيةٌ لها أسبابها الخاصّة التي لا مجال للبحث عنها الآن.

(١) أشار إليها سماحة السيد علي الخامنئي (حفظه الله تعالى) في خطابه للحوزة العلمية، يُراجع مجلَّة: "الفكر الإسلامي"، ع ١٦، ص ٢٠٩.

٨٥

فإنَّه لابد من التوجُّه إلى الدراسات الواسعة المعاصرة، ولا سيَّما في العقود الثلاثة الأخيرة على مستوى الساحة العربية والإيرانية والغربية، وبالأخص ما ظهر عقيب انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز ظاهرة الأحاديّة القطبية.

ج - اتسم علم الكلام بإجاباته الحاسمة والمطمئِنَّة في تلك الآونة ليس لميزةٍ خاصةٍ به، بل لأنَّ العقل البشري قبل عصر النهضة كان كذلك. أمَّا اليوم، فإنَّ علم الكلام الجديد يُخشى عليه من النزعة التشكيكية الشاملة والمدمِّرة، وهذا يفقده دوره الحضاري في إشاعة الطمأنينة والاستقرار في نفوس المناصرين للاتجاهات الكلامية.

لا نريد العودة إلى عصر اليقين هذا؛ إذ يبدو من الصعب تحقيق ذلك، لكن علم الكلام اليوم مطالبٌ - وبالتعاون مع بقية العلوم، ولا سيَّما الفلسفة وعلوم الدين الأخرى - بالتفكير في حل لمشكلة الاضطراب والتذبذب النفسي، ولو بإجراء تعديلاتٍ على مفهوم اليقين العلمي، وإلا فإنَّ بقاء هذه الحالة سوف يساهم في إعاقة عملية التطوُّر الحضاري، وبخاصة القائمة والمعتمدة على الدين.

د - خصوصية الأصالة التي تمتَّع بها علم الكلام القديم لأسبابٍ عديدةٍ، فعلم الكلام هو من العلوم الإسلاميّة الأصيلة؛ لأنَّه ولد قبل عصر الترجمة، أي أنَّه لم يكن متأثِّراً في انطلاقته بالثقافة والفلسفة اليونانية ، بل إنَّ التاريخ الكلامي يُؤكِّد أنَّ هذا العلم قد وقف موقفاً حذراً إلى حدٍ بعيدٍ من التوجُّهات الفلسفية التي استقت أُسسها ومنطلقاتها وبناها التحتية من الفكر

٨٦

اليوناني بالخصوص، وهو ما سبَّب - أو كان على الأقل أحد أسباب - الخلاف الفلسفي الكلامي في التاريخ الإسلامي، ولا سيَّما القرون الخمسة الأولى.

ولا يعني ذلك أنَّ علم الكلام لم يتأثَّر بالأفكار الواردة على العالم الإسلامي من شرق الأرض وغربها، وأنَّ كل ما كان عنده هو وليد مقولاتٍ وتصوُّراتٍ داخليةٍ لم تتلاقح مع أيِّ واردٍ خارجي، بل كانت في قمَّة القطيعة معه؛ و إنَّما المقصود هو أنَّ الطابع الذي حكم هذا العلم، ولا سيَّما في انطلاقته التي تعود إلى بدايات نشوء فرقة الخوارج في الإسلام، هو طابع الأصالة ، وبالتالي فكانت المزاوجة بينه وبين أيِّ فكرٍ خارجي، مزاوجةً إيجابيةً ومن الدرجة الثانية.

إنَّ المطلوب من الكلام الجديد اليوم هو التماهي مع هذا النمط الكلامي القديم؛ أي الانطلاق في التفكير بصورةٍ أصيلةٍ غير مثقلةٍ بالحمولات الأخرى، من دون أن يعني ذلك سدَّ باب التفاعل الطبيعي بين العلوم كلِّها، بما فيها علم الكلام، الأمر الذي يستدعي أن يقوم هذا العلم بإنشاء علاقةٍ وطيدةٍ مع العلوم الأخرى، وخصوصاً تلك التي تلتقي معه في طبيعة التخصُّص ومنهجه، كعلم الفلسفة وغيره، سواءٌ كانت هذه العلوم ذات نتاجٍ داخلي حضاري أو نتاجٍ خارجي من هذه الناحية.

إلاّ أنَّ المشكلة الحقيقية هنا تكمن في الأسباب المولِّدة لأصالة علم الكلام، وأبرز هذه الأسباب على ما يبدو، هو أنَّ المتكلِّم القديم كان يُفكِّر من موقع الفعل والصنع والإبداع؛ لأنَّه كان منتصراً من الناحية السياسية والعسكرية،

٨٧

بل والأهم من ذلك من الناحية الحضارية. ولذلك، فلم يكن في تفكيره ملاحَقاً، لا زماناً ولا واقعاً؛ أي لم يكن هناك ما يفرض عليه العجلة في التوصُّل إلى نتائجه، أو يفرض عليه - لضرورات الواقع - إنتاج فكرٍ معينٍ، إلا إذا كان هناك سوء علاقةٍ معينةٍ بين المثقَّف والسلطة الحاكمة. وهذا الارتياح النفسي يُساهم، قبل كل شيء، في تجويد الإنتاج وتحسين الأداء، والأهم من ذلك في خلق المفاهيم والمقولات والمصطلحات كما يراه حسن

حنفي (١) .

أمَّا الكلام الجديد، فهو يعيش في إشكاليّةٍ غايةً في التعقيد على هذا المستوى؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنَّ المتكلِّم الإسلامي لم يشارك في صنع الحداثة، ولم يخلق مفاهيمها ومقولاتها، ومن هنا تورَّط في استيرادٍ متواصلٍ للمفاهيم والمصطلحات، وأرهق نفسه في تتبُّعها في عملية شرحٍ وتفسيرٍ، وتبيئةٍ وتوظيفٍ لِمَا ينتجه الغربي بقطع النظر عن مدى الصوابية في هذا الإنتاج.

لم - وربَّما لن - يستطع المتكلِّم الجديد اليوم أن يلحق بالركب السريع الخطى لماكينة المفاهيم والمصطلحات الغربية؛ ولهذا، فإنَّ عقبته سوف تكون، حضارياً، في استغراقه في ردِّ الفعل، وفي استخدامه ما صنعه الآخر، وبالتالي فلن يتمكَّن من تمثُّل الأصالة والذات بهذه السهولة، أو تحقيق العلاقة الطبيعية والصحيّة بينه وبين العلوم الأخرى، حتى تلك الواردة من الغرب.

____________________

(١) حسن حنفي، مجلَّة "قضايا إسلامية معاصرة"، ع ١٤، الاتجاهات الجديدة في علم الكلام، ص ١٧.

٨٨

إنَّ هذه المعادلة المعقَّدة في الواقع العملي، تُؤكِّد على ارتباط علم الكلام بالواقع السياسي للأمّة التي يُمثِّلها هذا العلم كما يطرحه الدكتور حنفي (١) ، لكن ذلك لا يعني بالضرورة عدم قدرة هذا العلم على تخطِّي ولو بعض مشكلات هذه الغربة والازدواجية والانفصام، ولعل أوَّل ما يحتاجه المتكلِّم على الصعيد النفسي، هو الإحساس بالثقة وتبديد عوامل اليأس والإحباط، وهو أمرٌ تلعب التربية الاجتماعية أثراً بالغاً فيه.

عناصر الضعف:

ويمكن كنماذج ذكر ما يلي:

أ - النزعة التجريدية التي عاش الكلام القديم ردحاً طويلاً في مداراتها، هو وبقية أفراد أسرة المعرفة الدينية، من الفلسفة حتى الفقه والأخلاق؛ فأدَّى ذلك إلى انشغال الباحثين بأمور ومسائل، لا ترجع بالفائدة المتناسبة مع حجم الجهود المبذولة. كما وأدَّى إلى تولُّد عقلٍ فرضي يحاكي الصور والاحتمالات من دون أن يلحظها، أو يلحظ انعكاساتها في أفق الواقع، ما أحدث عزلةً نسبيةً للعقل الكلامي. ومن هنا، فإنَّ الكلام الجديد مطالبٌ بمتابعة الرؤى والأفكار، آخذاً بعين الاعتبار، أيضاً، التأثيرات الميدانية لمادَّة البحث ونتائجه، وهذا ما يستدعي إعادة فرزِ وترتيبٍ للموضوعات الكلامية، مع الأخذ بالنظر هذا الجانب كذلك.

____________________

(١) المصدر نفسه.

٨٩

من المعروف أنَّه، ونتيجةً لتأثيرات المنطق الأرسطي، فقد جُعلت استقامة الفكر منفصلةً عن الواقع الخارجي العملي؛ لأنَّ هذا المنطق يرى أنَّ سلامة العمليات الاكتشافية العقلية تكمن في قدرتها على وضع القضايا والمعلومات في مكانها الذهني الصحيح، للمساهمة في ضمان صحَّة التوصُّل إلى النتيجة، وهذا يعني أنَّ الهدف الذي يتوخَّاه العقل الأرسطي هو الوصول العقلي إلى نتيجةٍ سليمةٍ ذهنياً، من دون النظر إلى التردُّدات العملية لهذه النتيجة (١) .

لكنَّه من المناسب هنا الإشارة إلى عدم الإفراط في ملاحقة هذه النزعة وإقصائها، إلى الحد الذي يفقدنا قيمة أبحاث وموضوعات قيِّمة، فالعملانية ضرورة غير نهائية . والسبب في إثارة هذه القضية هو أنَّ هناك نزعةً ملحوظةً سرت في الفترة الأخيرة في الأوساط الفكرية والثقافية الدينية، وتُعبِّر هذه النزعة عن حالةٍ من النقد الشديد للدراسات النظرية في الفكر الديني، والتي لا توجد تردُّداتٌ عمليةٌ لها، الأمر الذي يبرز واضحاً في علم أصول الفقه، وهذه النزعة يمكن الموافقة عليها والدفاع عنها للخلاص من الجهود الاستنزافية التي غرقت بها الدراسات الدينية في كثير من الأحيان. إلاّ أنَّ المشكلة هنا هي في ظاهرة تخطِّي هذه النزعة للحدود المنطقية، وتحوُّلها، أحياناً، إلى ظاهرة رفضٍ، فيه شيءٌ من الإطلاقية، وشعورٌ بحالةٍ من التأزُّم، وهو ما يُؤدِّي إلى ضياع الكثير من الجهود، وقطع مسار تواصلها وديمومتها.

ولعلَّ هناك مَن يتحدَّث

____________________

(١) راجع: عبد الجبار الرفاعي، ومحمد مجتهد الشبستري، مصادر سابقة.

٩٠

اليوم عن علم أصول فقهٍ مصغّرٍ جداً، قد تُؤدِّي الموافقة عليه إلى شيءٍ من فقدان الدراسات التأسيسيّة الهامة، كما لعل هناك مَن يستبعد الكثير من الأفكار الاعتقاديّة الهامة لمجرَّد تحسُّسه أهميّة موضوعاتٍ أخرى في الفترة الراهنة تحسُّساً يمكن الوقوف معه غالباً، وهو ما يدعونا إلى التمييز بين لغْويّة بحثٍ ما من حيث المبدأ وزيادة أهمية بحثَ آخر عليه في فترةٍ معينةٍ.

ب - النزعة اليقينية (وهنا نقرأها من جانبٍ آخر غير ما تقدَّم) حيث ساهم المنطق الأرسطي - وغيره أيضاً - فيها، فإنَّه وِفق تصوُّره لليقين ووسائل الإثبات ساهم - كذلك - في تكوين عقلٍ دوغمائي جزمي، ينفي الآخر بمجرد إثبات ذاته، نفياً غير قابلٍ لاحتمال الخلاف. وهذه النزعة الدوغمائية المُشبَعة بشيءٍ من النرجسية أشبعت علم الكلام القديم بشكلٍ واضحٍ يُلاحظ بأدنى مراجعة للمتون الكلامية، ولا سيَّما تلك التي هي ذات طابعٍ مذهبي خالصٍ.

هذه النزعة قد لا يُوافق البعض على إجراء تعديلاتٍ فيها، غير أنَّ ذلك - في تقديري - صار لازماً عملياً لعلم الكلام الجديد؛ باستبدال العقل الدوغمائي بعقلٍ تعدُّدي احتمالي مُنفتح، يُوسِّع من هامش التنقُّل العلمي والمعرفي، ويُضيِّق من ضغوط اللاَّوعي.

ج - النزعة المذهبية التي اصطبغ بها الكلام القديم حتى صارت السمة الغالبة عليه. وهذا الاصطباغ مع ما فيه من حسناتٍ، إلاّ أنَّه حدَّ من حركة هذا العلم؛ لأنَّه أحاطه بجداليَّة لا متناهية في موضوعاتٍ محدودةٍ، وحكم عليه بأطرٍ محدَّدةٍ غير قابلة للتجاوز، تمَّ تلقِّيها على أنَّها خطوط حمراء، ومقدَّسات

٩١

غير قابلةٍ للبحث وإعادة النظر - بقطع النظر عن صحَّتها أو فسادها من حيث هي - ولا حاجة لكثير كلام - في ما أعتقد، ولا سيَّما في واقعنا الراهن - على سلبيات هذه النزعة، التي صار من الضروري استبدالها بعقلٍ منبسطٍ. فإنَّ واحدةً من آثار هذه النزعة وأشباهها، هو اعتماد المتكلِّمين على المنطق الجدلي؛ وهو منطق يتَّكئ بالدرجة الأولى على القضايا المشهورة والمسلَّمة، ويستهدف صرع الآخر أكثر من كشف حقيقةٍ، أو حلّ مشكلةٍ، في حين يحتاج الكلام اليوم إلى ركائز علمية، قبلها فلان أو لم يقبلها؛ لأنَّ هذا ما يحل المشكلة أو يُنير الطريق.

د - لعلَّه ولأسباب تاريخية، لم تُعط دراساتُ مقارنة الأديان حقَّها في الكلام القديم . أمَّا اليوم - ولا سيَّما بعد صيرورة العالم بحكم قريةٍ كونيةٍ واحدةٍ، واحتكاك المسلمين والمسيحيين واليهود على أكثر من صعيدٍ - فقد صار علم الكلام المقارن ضرورةً ملحَّةً، حتى يقوم الحوار بين الأديان على قواعد علمية تختزل الوقت وتغتنم الفرص؛ ولهذا لابد أن يُركَّز الكلام الجديد على مقارنة الأديان، وأن لا يقتصر على مقارنة المذاهب كما هو الحاصل فعلاً.

هـ - إنَّ تاريخ علم الكلام يكشف عن اعتماده على المنطق الأرسطي كمنطقٍ وحيدٍ ، وحَكَمٍ متفرِّدٍ في الجدل العلمي؛ حيث قُدِّم هذا المنطق على أنَّه حقائق ثابتة عامة شاملة كلية ويقينية، غير أنَّ تطوُّر المعارف البشرية كشف عن ثغراتٍ في هذا المنطق، لِأقول: إنَّ بوضعه الحالي، ليست لديه

٩٢

قابلية لحل كل المشكلات اليوم .

ومن هنا - ونظراً لتجدُّد الكثير من الإشكاليَّات ذات الطابع المنطقي المختلف - فإنَّه من الضروري للكلام الجديد الاتكاء على مخزون منطقي أكبر، يشمل - إلى جانب المنطق الأرسطي - المنطق الاستقرائي ، و الرياضي ، و التجريبي، و الذاتي، و الديالكتيكي و.. وإلاّ فإنَّ أزمة تخاطبٍ ستنشأ تبعاً للهوَّة الحاصلة بين الهيكلية المنطقية للأفكار والإشكاليات الجديدة، مع الهيكلية المنطقية التي تحكم علم الكلام.

لا يُراد هنا التنقيص من شأن المنطق الأرسطي بقدر ما يراد الإشارة إلى كون هذا المنطق جهداً بشرياً لا يتَّصف بالكمال.

و - إنَّ واحدةً من إفرازات نزعة اليقين والتمذهب، هي: الذاتية والتحيُّز، وبالتالي ضعف الموضوعية والحياد. وهي مشكلةٌ جديَّةٌ لا يخلو منها علم، لكن الكلام القديم - كبعض العلوم الأخرى - قد تجاوزت فيه الذاتية والتحيّز الحدَّ الطبيعي. ومن هنا، فعلى الكلام الجديد تجنُّب هذه المشكلة بواسطة رفع القيود، وتقليل الاعتبارات التي تُفضي بالمتكلِّم إلى الذاتية والأحكام المسبَّقة. وتقليل هذه الاعتبارات سيساهم في فتح الباب أمام صنوف الأفكار والآراء؛ الأمر الذي يُثري حركة الفكر، ويرفع رصيد علم الكلام، ويضاعف من إنتاجه (١) .

____________________

(١) بعض هذه النقاط ليست من مختصَّات الكلام، لكنَّه اتصف بها أيضاً.

٩٣

الفصل الثاني

سبيل الله الواحد أم سُبُله المتعدِّدة.......................................... محمد حسن زراقط

نظرة إلى التعدُّدية في الأديان............................................ عبد الحسين خسروبناه

دور الخيال في التعدُّدية الدينية.............................................. دافيد س. سكوت

٩٤

٩٥

سبيل الله الواحد أم سُبُله المتعدِّدة

دراسة في بُنى التعدُّدية الدينية ومُرتَكَزاتها

الشيخ محمد حسن زراقط (*)

تمهيد

تنقَّل مصطلح التعدُّدية بين العلوم المختلفة، واكتسب تبعاً للمجال المستخدم فيه معنى جديداً (١) . وما نهدف إلى البحث عنه في هذه المقالة، هو التعدُّدية في مجال الدراسات الدينية، إلاّ أنَّه من المناسب للإحاطة بالموضوع، الإشارة إلى بعض هذه المعاني، والوقوف على المداليل المختلفة له في الدراسات الدينية، وفي غيرها. وسوف نلاحظ أنَّ التعدُّدية ببعض المعاني المقصودة من المصطلح قد تكون مقبولة، بل مندوباً إليها في الأدبيات الدينية الإسلامية. وسوف نستعرض بعض المباني والمنطلقات الفكرية أو الاجتماعية

____________________

* كاتب ومدرس في الحوزة العلمية - لبنان.

(١) انظر: حيدر حب الله، التعدُّدية الدينية، ط ١، بيروت، الغدير للدراسات والنشر، ٢٠٠١م، ص ٢٠، وما بعدها.

٩٦

التي استندت إليها دعوة التعدُّدية. وقبل أيِّ شيء، أرى من المناسب الإطلالة على الأصل اللغوي لهذا المفهوم.

التعدُّدية في اللغة:

يبدو أنَّ مصطلح التعدُّدية من المفردات الوافدة على اللغة العربية رغم الجذر العربي الذي يشير إلى الكثرة والتعدُّد، إلاّ أنَّ هذا الاشتقاق لا يُلاحظ له أصل في اللغة. ومن هنا، خلت منه بعض المعاجم العربية غير المتخصِّصة (١) . وهو مصدر صناعي يراد به الدلالة على المذهب، أو الاتجاه، أو غير ذلك من المفاهيم المشابهة. وأمثال هذا المصطلح في اللغة كثير، منها: الاشتراكية، والعلمانية، والبيروقراطية... ومنها ما استحدثه الفلاسفة للتعبير عن مراداتهم، ككلمة ماهية، وكيفية، وغيرها.

التعدُّدية في الميتافيزيقا:

يُشير مصطلح التعدُّدية في مجال الميتافيزيقا (٢) إلى تشكُّل العالم من مجموعة من العناصر يصل عددها إلى أربعة عند "أمبادوقليس" ، وهي: التراب ، والماء، والهواء، والنار. بينما لم يجد "أنكساغوراس" هذا العدد الضئيل من العناصر

____________________

(١) لاحظ: المنجد، ولسان العرب، ولكن لا يفتقد هذا النمط من الاشتقاقات إلى المشروعية اللغوية؛ فقد أشار بعض الباحثين في اللغة إلى الحاجة إليه في كثير من العلوم للتعبير عن مفاهيمها الخاصة بها والتي لا يوجد في أصل اللغة ما يدل عليها. (عبَّاس حسن، النحو الوافي، ط ٤، القاهرة، دار المعارف، د ت، ج ٣، ص ١٨٧).

(٢) استخدمتُ هذا المصطلح هنا، لأنَّ الكلام عن أصل الكائنات وما وراء طبيعتها.

٩٧

كافياً لتفسير الكثرة الموجودة في هذا العالم. ومن هنا، لم يحصرها بأربعة، مُبقياً عددها في دائرة اللامتناهي (١) .

وقد شقَّت نظرية العناصر الأربعة طريقها إلى الفلسفة العربية الإسلامية، ولاقت قبولاً من كثير من الفلاسفة المسلمين؛ حيث نجد إشارة إليها عند ابن سينا وشرَّاحه. يقول شارح الإشارات: "... والمراد من قوله: أمَّا التي لا يمكن فيها ذلك فهو الفلكيَّات... فالجسم البالغ في الحرارة بطبعه هو النار، والبالغ في البرودة بطبعه هو الماء، والبالغ في الميعان هو الهواء، والبالغ في الجمود هو الأرض. أراد أن يشير إلى أنَّ العناصر أربعة ويُعيِّنها..." (٢) وبقيت هذه المقولة قيد التداول الفكري أيضاً إلى عصور متأخرة، فها هو نصير الدين الطوسي ينسج جزءاً من فلسفته الطبيعية على هديها، فيقول: "وأمَّا العناصر البسيطة، فأربعة: كرة النار، والهواء، والماء، والأرض. واستفيد عددها من مزاوجات الكيفيَّات الفعلية والانفعالية" (٣) . ويشرح الحلِّي كلامه قائلاً: "... واعلم أنَّ البسائط العنصرية أربع، فأقربها إلى الفلك النار، ثُمَّ الهواء، ثُمَّ الماء، ثُمَّ الأرض..." (٤) .

____________________

(١) معن زيادة وآخرون، الموسوعة الفلسفية العربية، ط ١، بيروت، معهد الإنماء العربي، ١٩٨٨، مادة: تعدُّدية.

(٢) شرح الإشارات، ص ٢٥١.

(٣) نصير الدين الطوسي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ط ١، بيروت، الأعلمي، ١٩٧٩م، ص ١٥٦.

(٤) الحسن بن يوسف الحلِّي، م. ن، ص ١٥٦.

٩٨

وربَّما أصرَّ كثير من الفلاسفة على هذه الفكرة، وعضوا عليها بالنواجذ - بل فعلوا (١) - لولا أنَّ "مندلييف" (١٨٣٤ - ١٩٠٧ Mendeleyev ) فاجأهم بزعمه أنَّ العناصر تصل في عددها إلى ثمانية وسبعين عنصراً، وما زالت بعض الخانات في جدوله الأثير فارغة بانتظار مَن يملؤها باكتشاف عناصر جديدة. وهكذا اتضح أنَّ بسائط الفلسفة اليونانية أضحت مركَّبات كغيرها من المركَّبات.

وعلى أيَِّة حال، فإنَّ البحث عن هذا النمط من التعدُّدية لا يدخل في صميم غرضنا، وإنَّما أشرنا إليه رغبة في الوضوح؛ كونه أحد معاني المصطلح المبحوث عنه.

التعدُّدية السياسية:

يُقصد بمصطلح التعدُّدية عندما يستخدم في المجال السياسي: أنَّ يُسمح لفئات الشعب - على اختلاف اتجاهاتها وتياراتها؛ من أحزاب وتجمعات غير حزبية - أن تتداول السلطة، وأن تشارك في صناعة القرار السياسي. وهي بهذا المعنى من أهم الأسس التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي. ولو رجعنا في تأمُّلنا للنسق الفكري السياسي، فلا نجد تنظيراً واضحاً لهذا المفهوم ولآليات ممارسته في الفلسفة السياسية الإسلامية، أو ما يُعرف في التراث الإسلامي بـ "الأحكام السلطانية"؛ حيث لم تكن فكرة الأحزاب بالمعنى السائد اليوم قد

____________________

(١) ربَّما يُستكشف القبول بهذه النظرية من إبراهيم الزنجاني في تعليقته على كشف المراد. انظر: م.ن، ص ١٥٦.

٩٩

أبصرت النور، فالأحزاب التي عُرفت في التاريخ الإسلامي لم تكن سوى تكتُّلات تجمعها ولاءات دينية أو عصبية مختلفة.

ومن هنا، نجد أنَّ فكرة الحزب احتاجت إلى محاولات لإثبات مشروعيَّتها وعدم منافاتها للشريعة كطريقة للعمل السياسي أو الاجتماعي، قبل البحث حول جدواها وأهمِّيتها في أيِّ عملية نهوض بالأمة، أو تغيير لواقعها الراهن؛ حيث يُدَّعى أنَّ الحزبية نسق غربي يتضمَّن الكثير من السلبيات التي تمنع من اقتباسه في الإطار الإسلامي. مضافاُ إلى أنَّ القرآن الكريم يتحدَّث عن الحزبية بشكل سلبي، يقول تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) (١) ، ويقول تعالى في موردٍ آخر: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٢) .

هذا، ولكنَّنا نجد على الجهة الأخرى أنَّه يتحدَّث (سبحانه) عن نمطٍ آخر من الحزبية بطريقة تُوحي بالرضا والقبول، فيقول سبحانه: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ) (٣) .

إذاً، لا يمكن أن نستنتج من القرآن موقفاً قيميَّاً من العمل الحزبي، بل الأمر تابع للقيم التي يحملها الحزب نفسه، ومن هنا: "قد لا يجد الإنسان

____________________

(١) هود: ١٧.

(٢) مريم: ٣٧.

(٣) المائدة: ٥٦.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ومن غير أنْ أدَّعي الدقة العلمية لهذه القاعدة، فإنَّني أعتقد بأنَّ رؤية الكتاب المقدَّس، من أنَّ الحقيقة هي تلك التي تحدث وليس الشيء الثابت الموجود، خلقت هذه المعضلات الفلسفية. ذلك أنَّ التقليد المألوف كان يرى أنَّ المعرفة الحقيقية ينبغي أن تكون ثابتة، والمعرفة المتغيِّرة ذات علاقة بالعقيدة، وليس بمجال المعرفة الحقيقية.

ومع ذلك لو أنَّ أحداً يقول مع هيغل (1770 - 1831م) بأنَّ: "الحقيقة لا تتجزأ" ( Ganze Das wahr ist das )، يمكن أنْ يقال له: إنَّ كل هذا القول، أيضاً، مكوَّن من قضايا جزئية، وإنَّ هذه القضايا الجزئية تساهم في تكوين تلك الحقيقة. ومع تجاوز رؤية هيغل، يمكن اعتبار هذا القول قابلاً للتعميم، بل يمكن اتخاه أفقاً، والحقائق - سواء أكانت مؤقَّتة أم خاضعة لشروط معينة - واقعة ضمن هذا الأفق. وعلى هذا، فإنَّ تصوُّر الحقيقة بأنَّها جبرية تاريخية ( bound History ) - كما وردت في الكتاب المقدَّس - لا يتلاءم مع بعض المفاهيم المعاصرة عن الحقيقة.

وهنا نصل إلى اللاَّهوت الجزمي حيث ستواجهنا قضية خاصة، ذلك أنَّ التعبيرات التقليدية للإيمان المسيحي هي نقطة البداية، بل المعيار للاهوت الجزمي وستبقى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنَّه يُوجد بشكل متزايد حالة من عدم الانسجام في هذا النوع من اللاَّهوت النظري، بين النتائج العلمية التي تتمتَّع بالمستوى الراقي في مجال الدراسات ذات العلاقة بالكتاب المقدَّس، وبين متطلَّبات الموعظة المتناسبة مع حاجة المؤمنين. وفضلاً عن

٢٠١

هذا، فإنَّ اللاَّهوت في ما مضى كان يرفد فقط من إطار فلسفي ونظري محدَّد، بينما نرى اليوم حولنا وجود أنظمة فلسفية متنوِّعة كثيراً.

في الحقيقة، لم يعد هناك نظام ثقافي عام؛ ذلك أنَّه ستظهر، بالنتيجة، تعدُّدية كلامية لا محالة.

وأخيراً، إنَّ اللاَّهوت في هذه الأرضية العامة، لن يتمكن من الاستمرار في مجرد نقل مجموعة مدوَّنة من المعارف من غير أن يأخذ في الحسبان التجارب الحية لجماعة المؤمنين؛ إذ إنَّ هذا العمل سيكون مصحوباً بخطر عدم الانسجام التام.

وأخذ التجربة المتعلِّقة بجماعة المؤمنين في الحسبان يعني أنَّه سيصبح مستحيلاً بعد ذلك، الحديث عن الله بمثابة كونه ذا علاقة بالفكر الماوراء - طبيعي. ومن ناحية أخرى، لم يعد مقبولاً، أيضاً، أن نتناول الموضوع بشكل يبدو معه أنَّ ما هو عائد لله مقتصر على معنى يمكن أن يحصل لدى شخص مؤمن؛ حيث إنَّ الله أعلى من ذلك.

ووسط هذه الموضوعانية ( Objectivism ) الزائفة، واللاَّهوت الذي يُقلِّل من محورية الإنسان، هناك اللاَّهوت الصادق الذي يحافظ على الحقيقة الإنسانية عن طريق الاهتمام بتاريخ الخلاص، والبحث عن طريق للخلاص، وفي الوقت نفسه ينفتح بذاته في مواجهة التحديِّات.

وهنا ظهر اتجاهان أساسيان:

الأول يرى أنَّ الوجود الإنساني بمثابة موضوع البحث كلامي ينبغي أن يدرس في ضوء نظرة إيمانية، أي من وجهة نظر كلام الله، وعلى هذا لا يمكن - لأجل دراسته - اتباع منهج البحث

٢٠٢

التاريخي هذا.

أمَّا الاتجاه الثاني، فهو لا يُفرِّق بين تاريخ الناسوت وتاريخ الخلاص، فالتاريخ من حيث هو تاريخ هو المكان الذي يتجلَّى فيه الله.

لكن مهما يكن، يبدو أنَّ اللاَّهوت اليوم يهتم بالكشف عن معنى خلود كلام الله بجميع أشكاله. وهنا نقطة البدء في أنَّه كيف يصل الإنسان - في ضوء التاريخ - إلى إدراك نفسه وعالمه؟ وفي الحقيقة، فإنَّ هذا الأمر يقودنا مرةً أخرى إلى علم التأويل: إنَّ الاهتمام باستخراج المعنى المعاصر لنص من قلب الماضي، الذي هو هنا الكتاب المقدَّس وتفاسيره التي ظهرت متعاقبة خلال تقاليد المؤمنين، يجعلنا في كل لحظة أكثر بُعداً عن الاتجاه إلى التفسير العقلاني لزعم نظري له - لا محالة - جواب واحد. صحيح أنَّه ينبغي للاتجاه التأويلي أن يمتنع عن خيانة الماضي، لكنَّه، أيضاً، لا يمكنه الإذعان بذريعة الوفاء لمعطيات ماضٍ ميت. فهدف التأويل - في أعلى درجاته - بلورة معنى الوحي الإلهي لعالم اليوم .

كنتُ - خلال البحث في الحقيقة - قد استخدمت كلمة "أفق"، ويمكن القول: إنَّ هدف علم التأويل هو توسيع أفق النص وأفق رؤية القارئ الجديد، إلى الحد الذي يمتزج فيه هذان الاثنان ليصبحا واحداً. وإنَّ أمراً كهذا يفرض على المتكلِّمين، أن يبتدعوا لغةً جديدة تُؤمِّن موضوعية النص، وفي الوقت نفسه، تنسجم مع ذهنية المفسِّر المعاصر.

وواضح أنَّ لاهوتاً كهذا سيكون مؤقَّتاً بشكل دائم؛ ذلك أنَّ المعرفة البشرية محدودة، وهذا يعني أنَّ اللاَّهوت سيبقى مفتوحاً بشكل دائم على المستقبل، اللاَّهوت أمل، أمل في تحقيق جميع

٢٠٣

وعود الله. وإنَّ لاهوتاً يمنح فهماً كهذا، يفتح الطريق أمام عالمنا وفقاً لكلام الله، الكلام الذي لا يكون بمثابة وجود ثابت لا يتغيَّر، بل بوصفه طاقة متحرِّكة.

إنَّنا بعيدون جداً عن تصوُّر ساذج تقريباً كهذا، قائم على أساس أنَّنا نفهم النص بشكل أفضل ممَّا يفهمه مؤلِّفه (كما يمكن للبعض أن يستنتج ذلك من علم التأويل)، ولكنَّنا تجاوزنا، أيضاً، العمل لمجرد تبيان نصٍّ قادم إلينا من قلب الماضي. فعلم التأويل ينوي تفسير النص في موضوعيته، وفهمه كذلك، آخذاً بنظر الاعتبار ما يبينه الحاضر ممَّا هو ذو علاقة بالواقع. فعن طريق التأويل تفتح أمام النص آفاق جديدة، وهذا مغاير للكشف النوعي الجوهري الأبدي والثابت الذي ينتقل من عصرٍ إلى عصرٍ آخر.

ينبغي بلوغ المضمون المجرَّد والحقيقي للإيمان من خلال التأويل، وإنْ لم تُوضع حدود للتأويلات الممكنة، فسيؤدِّي ذلك إلى الذاتية ( Subjectivity ) المجردَّة. إلاَّ أنَّ هذه الحدود موجودة، وهي عبارة عن الإجماع الذي يظهر خلال تبادل وجهات النظر وتعارض الآراء. وبطبيعة الحال، فإنَّ المقصود بهذا الإجماع ليس ذلك الناتج عن أضعف أوجه الاشتراك، بل ذلك النابع من الانفتاح أمام الروح القدس.

واستناداً إلى هذه الرؤية، فإنَّ الإلهام القدسي لكلام الله، له علاقة بإيمان جماعة المؤمنين قبل أن يكون معتمداً على الكلمات نفسها.

٢٠٤

من الواضح أنَّه باستثناء القضايا الخاصة التي نجمت عن الحداثة، فإنَّ طريق استجلاء اللاَّهوت قد تأثَّر بشكل كبير بتحديات الحداثة. ويتَّضح هذا الأمر من التلخيص التالي:

بدأ علم الكلام التقليدي عمله من خلال تفسيره رأياً؛ أي أمراً عقائدياً، ثُمَّ وضَّح هذا الأمر في المرحلة الأولى (التي كانت تمتاز بأهمية فائقة). كان هذا الرأي يُبرَّر بفتاوى مراجع التعليم الكنسي ( The Magisterium )، ثُمَّ أورد آباء الكنيسة ( Fathers of the Church ) وبعض المتكلِّمين العظام البراهين عليه، مستعينين بنقل نصوص من الكتاب المقدَّس. وأخيراً ومن خلال الردِّ على المعارضين لتلك الآراء في ذلك العصر أو العصور التي سبقته، تم إقراره بشكل نهائي.

أمَّا الكلام الذي كان له اتجاه تأويلي، فقد بدأ عمله بالاهتمام الجاد بأمر؛ ألا وهو: إنَّ كل حقيقة هي جبرية للتاريخ . وضمن هذا الاهتمام، أدرك هذا الأمرَ المهم، وهو أنَّه كان يُوجد شطر كبير من الكتابات والنصوص، كما اعتبر اللاَّهوت بوصفه أمراً يُحقِّق تدويناً جديداً للكتاب المنزَّل. وانطلاقاً من هذا، فقد بدأ من كتابات المتقدِّمين كما لو كان يُضيف حلقة جديدة إلى حلقات في سلسلة. وهذا الأمر الذي يتطلَّب في نفس الوقت، التزاماً تجاه القضايا المتقدِّمة، بحاجة إلى إبداع يتَّجه نحو المستقبل؛ ذلك أنَّ المطلوب من علم الكلام هذا، ليس عرض وإيضاح مبادئ العقائد الثابتة، بل استخراج المعاني الحقيقية لكلام الله في ضوء التجربة الجديدة وتاريخ الكنيسة والإنسان

٢٠٥

المعاصر. ولبدء عمل كهذا، لا يدَّعي اللاَّهوت تقديم نوع من الحقيقة ممَّا وراء الطبيعة، بل يدَّعي تقديم اليقين القائم على ما يقوله كلام الله لنا اليوم.

ويبدو أنَّ هذا التحوُّل العظيم في الرؤية والاتجاه والمنهج حتى لو بدا - إلى حدٍّ ما - منتزعاً أو سرِّياً، فهو ذا أهمية فائقة، وقد هبَّ بشكل مباشر يصارع تحدِّي الحداثة.

أريد الآن أنْ أشير باختصار إلى قضيتين لا يمكن للاهوت إلاَّ مواجهتهما: العلمانية و التعدُّدية . وكلاهما ناجمان عن الحداثة، وإذا كان مقرَّراً لتلك الأخيرة أن تبقى، فإنَّ اللاَّهوت لابد له أنْ يجابه هذه القضايا ويُقدِّم أجوبة لأسئلتها.

العلمانية واللاَّهوت

العلمانية واحدة من تلك الحزمة من المصطلحات التي استخدمت - وما زالت - على نطاق واسع، رغم أنَّه لم يكن لها، غالباً، تعريف دقيق. وقد مرَّ وقت كان فيه مَن يقول: العلمانية من الكلمات الغامضة التي تظهر فجأة عندما يتخلَّى الناس عن التفكير العميق. وممَّا لا شك فيه، أنَّ هذه الظاهرة ذات علاقة حميمة بالحداثة.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار هاتين المسألتين معاً - أي الاهتمام الواسع الذي يثيره هذا المفهوم حول نفسه، وعلاقته الحميمة بالحداثة - سنحصل على نموذج مفيد عن الكيفية التي يكون عليها ردُّ الفعل الموضوعي والملموس للاَّهوت تجاه واحد من أوجه الحداثة، وكذلك أيُّ شيء يمكن أن نتوقَّعه في المستقبل عن طريق ردِّ فعل اللاَّهوت.

٢٠٦

ومن دون أن نخوض في جميع الأوجه الممكنة للتعريف، يكفي أن نقول: إنَّ الخطر هو تدمير الواقع أو العالم السامي الذي يضع بين أيدينا مصير كافَّة الأمور، والذي بفنائه لا يبقى لنا شيء سوى العالم التاريخي البشري والمحدود؛ أي ذلك الشيء الذي يقال له باللاتينية: ( Saeculum ). هذا الفناء الذي سيغطِّي - في مرحلة من المراحل - على كافَّة أوجه الحياة البشرية: المجتمع، والثقافة، والحياة الخاصة والدين، في ذلك الوقت الذي لا يمكن فيه العودة إلى واقعية أفضل وعقلانية مهيمنة، ويكون فيها الإنسان وعالمه مختارين، ويبدأ ذلك بتدهور قوة الدين وتأثيره، ثُمَّ يصبح الجانب المقدَّس للعالم والإنسان بعيداً عن الرؤية؛ ويُؤدِّي هذا، أخيراً، إلى الإلحاد ( Atheism ). إنَّ كل ذلك يعمل على مستوى المجتمع ومستوى الضمائر الفردية، رغم أنَّه من الممكن أن يكون صحيحاً أنَّ اللاَّهوت قدَّم ذات مرة صورة عن الله لم تكن مقبولة في ضوء العلم الحديث، إلاَّ أنَّ الذي لا شك فيه، أيضاً، أنَّ العلمانية - في كثير من البقاع - قد أفرغت العالم من محتواه.

إنَّ أول ردَّ فعل للاَّهوت - أو ردَّ فعل الدين المتكوّن - يمكن أن يُسمَّى بـ "المقاومة" : الإجراءات الحربية، مثل: ترتيب الصفوف ووضع الانضباط العقائدي المتشدِّد، ورعاية الديانة والعبادات التقليدية، وقيام تشكيلات دينية - مؤسَّساتية في ميادين الحياة المختلفة بهدف إفشال التشكيلات الدنيوية (العلمانية). إلاَّ أنَّ هذه السياسة كانت تبدو على المدى البعيد سلبية إلى الحد

٢٠٧

الذي لم تكن معه قادرة على إعطاء أجوبة مقنعة حقاً، ردَّاً على التحديِّات المطروحة.

ويمكن تسمية ردَّ الفعل الآخر بـ "التسليم" : وقد وجَّه ردَّ الفعل هذا، اهتمامه إلى صور من اللاَّهوت (في محافل البروتستانت أولاً، ثُمَّ في أوساط المتكلِّمين الكاثوليك بروما)، كان يسعى من خلاله للوصول إلى تفسير جديد للمسيحية في ضوء عبادة الدنيا في الحياة الجديدة.

وقد استثمر البعض الفرق بين الإيمان والدين؛ حيث اعتبر الدين بمثابة الحاجز الذي لا يدع الإنسان يقيم الانسجام - بدون خوف - بين العمل بما تمليه عليه مسؤولياته، وبين انعدام اليقين المتعلِّق بالحياة في هذا العالم. لكن الإيمان الذي كان يُؤخذ بنظر الاعتبار، إنَّما يخرج العالم من فلك أسرار القداسة ليضعه في يد الإنسان، الإنسان الذي يستطيع أن يحصل على القوة والاستقلالية ليهيمن على عالمه ويمنحه شكله. بعدها اعتبر المتكلِّمون - من خلال التأكيد على علاقة الإنسان بالله - اعتبروا الإنسان فاعلاً مختاراً مستقلَّاً في العالم - من غير أن يأخذوا بنظر الاعتبار إيمانه المكوَّن من شكل معقَّد من العقائد التي ينبغي أن تتحقَّق في هذا العالم، بشكل موضوعي وملموس - ولم يعتبروا ظهور ملكوت الله في العلاقة العلّية بعمل الإنسان في هذا العالم.

غير أنَّ متكلِّمين آخرين أكَّدوا أنَّ الإنسان بلغ سن الرشد مع ظهور عيسى المسيح، وكان ينبغي له أن يضع جانباً الصورة الوهمية لإله يمنح

٢٠٨

الطمأنينة ليتمكن بشكل حقيقي من القبول بتجلِّي الضعف والألم بوصفهما طريقاً نحو المسيحية.

لا أدعي أنَّني بهذه الإشارات البسيطة لبعض الخطوط العريضة للموضوعات المختلفة في الفكر الكلامي، أستطيع أن أوفِّي البحوث الكلامية المختلفة التي درست العلمانية حقَّها. وينتج عن ذلك، أنَّ نقد هذه الاتجاهات الكلامية استناداً إلى عرض ناقص كهذا، لن يكون ذا جدوى كبيرة، كما أنَّه لن يكون عادلاً. ومع ذلك أظن أنَّ عدداً كبيراً من المتكلِّمين يرون أنَّه لم يكن هناك طريق للفرار من مواجهة العلمانية؛ ولذا فإنَّ الدين في المجتمع الجديد، مضطر إلى أن يُهمِّش دوره يوماً بعد يوم. كما اعتبر البعض العلمانيةَ كما لو كانت شيئاً حسناً، رغم وقوفهم بوجه تأثيراتها الجانبية المزعجة؛ أي ذلك الذي يُدْعَى في مواجهة العلمانية بـ "عبادة الدنيا". وفي الحقيقة، فإنَّ كون العلمانية يمكن فصلها عن عبادة الدنيا، أو في ما يحتمل أنَّ أحدهما - بالضرورة - يتضمَّن الآخر، هو أمر ظل دائماً غير واضح.

والذي ينبغي أن يُقيَّم بشكل إيجابي، هو هذا الاعتقاد الراسخ للمكانة الجديدة للحياة المعاصرة التي تبحث عن لاهوت معاصر. وهذا يعني أنَّ علينا البدء من معرفتنا بكلام الوحي، ثُمَّ نسأل أنفسنا: كيف تصبح علومنا الدنيوية ومهاراتنا الفنية، من خلال التجسيد، بديلاً عن معرفتنا بكلام الله؟ وكما

أرى، فإنَّه رغم أنَّ هذا الكلام يبدو متناقضاً قليلاً، لكن كان علينا الإذعان بأنَّ الهروب من الدين ليس أمراً لا يمكن تجنُّبه؛ ذلك أنَّه ليس الجماعات المؤمنة

٢٠٩

فحسب، بل حتى البشرية بصورة عامة، لا يمكنها أن تبقى بشكل مجتمع إنساني يليق به هذا الاسم من دون رجوعها إلى عقلانية أكثر عمقاً من مجرَّد الوضعية ( Positivistic ) والتجريبية. أي معنى ستُقدِّم هذه للاهوتنا المعاصر، وبما يتناسب وعصرنا، وأيُّة صورة عن الله ستُقدِّم بين يدي الإنسان المعاصر في اللاَّهوت المتأخر، فإنَّ عدَّة لقطات تعين على ظهور هذه الصورة الأكثر جدة عن الله، وكذلك عن معنى الله لدى الإنسان المعاصر.

في الماضي، غالباً ما كان يُستفاد من الله في تفسير الظواهر الغامضة أو الإعجازية، وقد فسَّر العلمُ الحديث كثيراً من الأشياء بتفاسير طبيعية، ويُحتمل أن يكون هناك ما هو أكثر في المستقبل؛ وينتج عن ذلك أنَّ الإنسان أصبح إله نفسه. نحن نواجه الآن مسألة العودة إلى الله الحقيقي، الذي ليس هو تجسيداً لحاجتنا إلى اليقين، العودة إلى الله الذي لا يندرج إطلاقاً ضمن أُطر إدراكنا؛ ذلك أنَّه أسمى من كل التصورات والمنظومات الفكرية، العودة إلى الله الذي كنَّا في انتظاره وفي طلبه، هذا الذي هو منتهى غاية كل آمالنا. ففي العالم المنحوت من العقلانية، نحن بحاجة إلى هذا الشوق إلى الله؛ كي ننظر إلى الصورة التي رسمناها عنه في أذهاننا بما يتناسب وحقيقتها.

يضع الإنسان في ذهنه الاستقلالية والكمال ( Self-Fulfillment ) وتحقيق الذات ( Self-Realization )؛ بوصفها السعادة القصوى التي يصبو إليها. ومع هذا، فإنَّه دائماً يُواجه، سواء في حياته أم في حياة الآخرين، المحن والظلم والموت. فعلى عاتق مَن تقع مهمة الدفاع عن الأبرياء الذين يعانون

٢١٠

العذاب؟ وأين ينبغي لنا أن نجد المعايير لتحقيق العدالة الأكبر والإنسانية في أسلوب حياتنا؟ وكيف يمكننا التحرُّر من "الدور" الباطل؛ بين الاستقلالية والتمحور حول الذات (الفردانية) ، من غير الانصياع لله، نصير الضعفاء والمساكين، ومن غير تحرير الإنسان من قيود العناد؛ وذلك من خلال القيم التي يمنحه إياها كي يتمكَّن الناس من التكاتف والتعاون لمواجهة الظلم؟

والمجتمع الحديث رغم كل فرديَّته، مستند بقوة إلى الطمأنينة والثقة، حتى ولو كانت هذه الثقة قد ظهرت إلى الوجود بسبب التخصص وتوزيع الوظائف. إنَّنا، جميعاً، نعلم كيف أنَّ هذه الثقة، قد أدت إلى الفضائح مراراً، وإلى أيِّ حدٍّ يمكن أن تُؤدِّي إلى الانهزامية، بل وحتى إلى الكآبة. وفي المجتمع الحديث تُوجد حاجة إلى أن نعلم عن حاجتنا إلى التوكُّل على الله؛ لنتمكن - ونحن على حافَّة اليأس - من التطلُّع إلى الأمام بشجاعة. إنَّ ما يُريده الله، هو أن ينال الإنسان التوفيق الحقيقي، في جميع التجارب التي يخوضها.

و المجتمع النفعي ( Utilitarian ) لا يُدرك معنى تقديم خدمة لا يتوقَّع تحقيق مكسب من ورائها، ما هو دليل على الإحسان للغير بلا عوض؛ ذلك أنَّ أبرز سمات الإحسان من دون توقُّع المقابل، هو التسامح. وينبغي تذكير المجتمع الإنساني بحقيقة أنَّ الله هو إله الرحمة، وأن الإنسان مستعد دائماً للتسامح، ليس من موقف ضعف، بل حباً بالقيمة السامية لخدمة الغير، وعلى الإنسان أيضاً أن يُعلِّم التسامح.

٢١١

كانت تلكم فقط نماذج من الأجوبة الكلامية الممكنة في مواجهة تحديات العلمانية، ما يساعد الإنسان ليس من خلال رفض الحداثة ولا الاستسلام لها، بل من خلال اكتشاف طريق يمكن للإنسان بواسطته، أن يتحدَّث من جديد مع ربِّه، طريق يلبِّي أعمق حاجات الإنسان التي غالباً ما تكون لا شعورية.

التعدُّدية واللاَّهوت

عندما نتحدَّث عن التعدُّدية واللاَّهوت، فإنَّ ما نقصده ليس الإكثار من التعابير ذات العلاقة بلاهوت الدين المسيحي الواحد، وإنَّما الإشارة إلى تلك السمة من سمات الحداثة التي تُؤكِّد على الطبيعة الزمانية والمكانية للقضايا المثارة. ومن وجهة النظر هذه، فمن الممكن أن تبدو التعدُّدية في الأديان أمراً طبيعياً تماماً، فطوال تاريخ البشرية - بحدود الزمن الذي لدينا علم به - كان الوضع الواقعي للأمور هو هذا. وإنَّ ما يتمتَّع بالجدية بشكل أكبر، هو الزيادة المضطردة في مواقع التعدُّدية الدينية في بعض المجتمعات والدول، الناجمة عن حركة تنقُّل المجتمعات من مكانٍ إلى آخر، وعن تفكُّك عرى الانسجام الاجتماعي في المجتمعات الحديثة.

وربَّما كانت هذه التعدُّدية - بشكل من الأشكال - قد بدأت في مواجهة التخلي عن الدين في المجتمعات الحديثة التي تمت، إمَّا مع ظهور أشكال شتى من الانتقائية، وإمَّا خلال مجابهة الصور الجديدة للدين، عن طريق إحياء الرابطة الدينية؛ إلاّ أنَّ ما حوَّل التعدُّدية أخيراً إلى مشكلة حقيقية للاهوت هو ادعاء الإطلاق ( Absluteness ) من قبل المسيحية، الادعاء الذي تشترك به - من هذه الناحية - مع سائر أديان العالم.

٢١٢

وعندما نستخدم كلمة "الإطلاق"، لا نعني بها "المبرَّأ من القيود بشكل مطلق"، فالمعنى الدقيق والفلسفي لهذه الكلمة لا يصدق إلاَّ على الله؛ وإنَّما نستخدمها على الأغلب بمعنى "التام" أو "التحقُّق التام". وقد نظرت فلسفة هيغل الديالكتيكية بهذه النظرة إلى المسيحية، بوصفها التحقُّق التام لظاهرة الدين.

كان يُوجد في التقليد الكاثوليكي بروما مثل يصل زمنه إلى القرن الثالث الميلادي، إلاًَّ أنَّه اشتهر غالباً بواسطة قاعدة منسوبة إلى فولجنتيوس الراسبي ( Fulgentius of Ruspe ) من القرن السادس، والمثل هو: "لن ينال أحد الخلاص خارج الكنيسة". كان هذا المثل بادئ الأمر بمثابة تحذير لأهل البدع، من أنَّه لا يمكن الحصول على أي شيء خارج وحدة الإيمان في ظل الكنيسة، إلاَّ أنَّ هذا المعنى تغيَّر تدريجياً إلى أنَّ عامة المسيحين من غير الكاثوليك، ومن ثُمَّ جميع المؤمنين بالأديان غير المسيحية - ولكونهم غير منتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية بروما فحسب - محرومون من الخلاص. وأسوأ أنواع التفسير لهذا المثل تمَّ بشكل رسمي سنة 1949، إلاَّ أنَّ التحوُّل الحقيقي والمهم في التعامل مع الأديان غير المسيحية حدث في المجمع الفاتيكاني الثاني (1965)؛ حيث نقرأ في الإعلان المسمَّى "رجال عصرنا" (2) بشأن رأي الكنيسة في الأديان غير المسيحية: "إنَّ الكنيسة الكاثوليكية لا تنبذ ما هو حق ومقدَّس في هذه الأديان، وتحترم هذه الكنيسة أساليب الحياة، والسلوكيات، والتعاليم التي غالباً ما تتضمَّن قبساً من شعاع الحقيقة التي تنير نفوس جميع بني الإنسان، رغم أنَّ فيها اختلافات كبيرة في كثير من أوجهها

٢١٣

مع تعاليمها (أي تعاليم الكنيسة)" .

إنَّ هذا التعامل الأكثر إيجابية وانفتاحاً على الأديان غير المسيحية، الممتزج بحقيقة التعدُّدية الدينية المتزايدة في الدول، أدَّى إلى ظهور شكل من الفكر الكلامي الذي سُمِّي بـ "لاهوت جميع الأديان" ( Theology of Religious ). وهذا ليس صورة كلامية من علم الأديان ( Science of Religions )، بل هو حقاً فكر كلامي يهدف إلى تحقيق فهم أعمق للأديان غير المسيحية، وفهم العلاقة بين المسيحيين وغير المسيحيين، من الناحيتين النظرية والعملية. وأخيراً يُطرح هذا السؤال: في موضوع "الله للعالم"، كيف يمكن أن تكون أهمية التعدُّدية الدينية، وكيف يمكن البرهنة على هذا الأمر من منظور كلامي؟

غير أنَّه يُوجد عنصر يجعل هذا الجهد أكثر صعوبة؛ حيث يُواصل إعلان "رجال عصرنا" - الذي نقلنا شطراً منه آنفاً - كلامه، فيقول: "إلاّ أنَّها (أي الكنيسة) وبدون أدنى تردُّد - وكما هو قدرها - تُسبِّح المسيح الذي هو طريق الحقيقة والحياة، ففيه وحده يجد الإنسان كمال حياته الدينية، وفيه وبواسطته يتصالح الله مع جميع الأشياء" .

حينما يُريد أحد النظر في العلاقة بين الأديان، فإنَّه يواجه مسارين أساسيين، هما:

الأول: التحريم تجاه الآخر مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات بينهما.

الثاني: الالتزام تجاه النفس، أي تجاه هويَّته الدينية.

وبدون هذين الاثنين، فإنَّ العلاقة ستكون مجردَّة عن التناسب.

وإنَّ إشكالية اللاَّهوت تنبع من هذا

٢١٤

الأمر، الذي يرى فيه جمع من الناس، أنَّه لكي يكون هناك خطاب يتمتَّع بنسبةٍ أو نوعٍ من الوئام، فمن الضروري وجود مساواة مبدئية: لا ينبغي لأحد - منذ البدء - أن يدَّعي امتلاك الحقيقة النهائية ، لكن هذا هو ما تهتم به الأديان العالمية.

إنَّني أستطيع التكلُّم نيابة عن المسيحيين فقط، وأشير إلى الكيفية التي يسعى بها القول بفكرة "لاهوت جميع الأديان" لتبيان القضايا المطروحة. ربَّما ما يزال باكراً الادعاء بالعثور على جواب لهذه الإشكالية، بينما كان إصلاح التفسير المتعلِّق بالمثل القائل: "لن ينال أحد الخلاص خارج الكنيسة"، أمراً سهلاً.

والإشكالية الحقيقية التي تنجم عن هذا الأمر، وهي أنَّه من وجهة نظر مسيحية، فإنَّ أحداً لن ينال الخلاص خارج عيسى المسيح "ليس بأحد غيره الخلاص؛ لأنَّ ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس" (أعمال الرسل، 12). وهناك نصٌ آخر من الكتاب المقدَّس يُقرِّر بوضوح هذه

الإشكالية، وهو: "لأنَّ هذا حسن ومقبول لدى مخلِّصنا، الله الذي يريد أنَّ جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون"، ويواصل: "لأنَّه يوجد إله واحد، ووسيط واحد، بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" (تيموثاوس الأولى، 2: 4 - 5) .

وقد أخذ المجمع الفاتيكاني الثاني - من خلال موقفه الإيجابي - بنظر الاعتبار، الوحدةَ الأساسية للجنس البشري بوصفها نقطة البدء في فهم فكرة

الله، وآمن بوجود "بذور الكلمة" ( Seeds of the Word )، ليس في قلوب كل فرد من بني الإنسان فحسب، بل حتى في التقاليد الدينية

٢١٥

غير المسيحية، والذي هو شكل من أشكال الوجود الخفي لسر المسيح المخلِّص. ومع هذا، فإنَّ المجمع الفاتيكاني الثاني لم يتقدَّم خطوة إلى الأمام ليعتبر التقاليد الدينية الأخرى "طرقاً للخلاص"، رغم أنَّ البعض يحملون الاعتقاد بأنَّ الخطوة الأولى بهذا الاتجاه قد بدأت.

ليس عجيباً أن تتركَّز أفكار تلك المجموعة من المتكلِّمين المسيحيين الذين يولون هذه القضايا عناية خاصة، على هذا القسم من اللاَّهوت الذي يدعى الكريستولوجيا ( Christology )؛ أي تلك التعاليم التي تتناول شخص عيسى المسيح، ممَّا كان بإمكانه أن يأخذ في زمن أقدم اسم: حصر محورية المسيح ( Christocentice Exclusivism )، ويسميه البعض: محورية الكنيسة؛ ذلك أنَّ هذا الدور المحوري قد نسب للكنيسة. ويعتمد هذا الموقف في الحقيقة على الرأي القائل بأنَّ الإيمان الواضح بعيسى المسيح والتمسُّك الراسخ بالكنيسة هما الشرطان اللازمان للخلاص.

وقد حلَّ هذا النهج الأقدم - وبشكل مضطرد - محلَّ النهج القائل بمحورية المسيح، الذي يُؤكِّد على حصر محورية المسيح، والذي يعتقد أنَّ الوحي المسيحي هو المعيار النهائي للأديان. إلا أنَّه يمكن العثور في هذه الأديان على قيم أصيلة يمكنها - على الأقل - أن تكون بمثابة "الخطوة الأولى" أو "معبِّدة الطريق للإنجيل"، ويمكنها أن تعين أتباع الأديان الأخرى على نيل فهم الحقيقة الكامنة في سرّ المسيح.

٢١٦

ومع ذلك، فإنَّ بعض المتكلِّمين يشعرون أنَّه حتى هذا النهج الشامل مفتقر إلى الانسجام الحقيقي؛ ذلك أنَّه لا يحمل على محمل الجد الاختلاف مع الأديان الأخرى، وهم يقولون: إنَّنا بحاجة إلى ثورة كوبرنيكية في اللاَّهوت. فكما أنَّ الفلكيين اضطروا في نهاية المطاف إلى نبذ النظرية الفلكية البطليموسية التي تجعل من الأرض محور العالم، واختاروا علم الفلك الكوبرنيكي الذي يجعل من الشمس محور العالم، فإنَّ على اللاَّهوت أيضاً أن يتخلَّى عن محورية المسيح من أجل محورية الله .

وفي هذا المنهج الفكري تبدو الأديان الكبرى في العالم بمثابة أجوبة متنوِّعة للحقيقة الإلهية التي لا مثيل لها، ومحورية الله هذه هي بمثابة المقولة الكلامية التي تُدعى أحياناً بالتعدُّدية، أو اللاَّهوت المتعدِّد. واستناداً إلى ما يعتقده بعض المتكلِّمين، فإنَّه يمكن الإيمان بنظرية محورية الله، التي يمكن أن تكون مفيدة في تبرير حقيقة التعدُّدية الدينية التي لها ربُّها المتناسب معها - استناداً إلى أدلتنا وإدراكنا - وفي نفس الوقت، الاعتقاد بدور مصيري للسيد المسيح في تدبير الخلاص. وهم من غير أن يُسمُّوا الأديان الأخرى بالطرق العادية للخلاص، يتحدَّثون، أحياناً، عن "الطرق المنفصلة للخلاص" . أمَّا بقية المتكلِّمين، فلا يرون حاجة لحفظ صورة عن "محوريَّة المسيح المعيارية" ( Normative ).

لا شك في أنَّ استخلاص النتائج النهائية من هذا البحث ما يزال مبكراً؛ حيث النقاش والبحث ما يزالان متواصلين. وأشعر - باسم الالتزام المخلص لهويَّتي المسيحية - أنَّه لابد للخصوصية المحورية للاَّهوت المسيحي، الأخذَ في

٢١٧

نظر الاعتبار، جميع الأديان أن تكون محورية للمسيح شاملة.

ومن ناحية أخرى، يبدو أنَّ التأكيد على أنَّ عيسى المسيح لن يحل محل الله، منسجم تماماً مع رؤية الكتاب المقدَّس: المسيح في قلب خلاصنا؛ ذلك أنَّ الله وضعه هناك. وهذا الأمر يهدينا إلى إمكانية منح محورية المسيح التي لدينا بعد محورية الله، حتى لو أُجِّل إلى المستقبل تبلور الشكل النهائي لهذا اللاَّهوت الآخذ بنظر الاعتبار جميع الأديان. وبغض النظر عمَّا سيحدث، فإنَّ ملاحظاتنا الأولية أعدَّتْنا لنتعامل - ضمن إطار معين - مع إمكانية المبادرة إلى طرق متعدِّدة للبحث في هذا السر.

في الختام، ربَّما أمكن إضافة هذا الأمر: إنَّ السعي لبلوغ حوار أصيل، يحتاج - إضافة إلى الالتزام الجاد من قبل جميع المشاركين في هذا الحوار - إلى صبر عظيم. ولمَّا كان اللاَّهوت المنظَّم ما يزال منهمكاً في البحث عن أجوبة رصينة لكثير من القضايا القائمة، فإنَّه - في نفس الوقت الذي نهتم فيه بصنع عالم أفضل - لا ينبغي لأيِّ شيء أن يكون حائلاً بيننا وبين أن نكون متحابِّين متوادِّين مع بعضنا.

٢١٨

حوار الإسلام والحداثة

الدكتور كليم صديقي (*)

تمهيد

يهدف هذا المقال إلى البحث عن إمكانية الوصول إلى فصل مشترك، أو نقطة التقاء، بين الحداثة والإسلام، من خلال علم اجتماع المعرفة. مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الإسلام والحداثة، يشكلان قطبين متمايزين في ما يتَّصل بالنظر إلى المعرفة، والحقيقة، والشعب. والنظرة الكونية للحداثة، تتميَّز بالمحدودية، والنفعية، والانشطار، إلَّا أنَّنا نستطيع القول: إنَّ هناك نوعاً من التلاؤم في ما بينهما. فالحداثة باستطاعتها تنمية ثقافتها الموسَّعة، من خلال طرق مختلفة. والإسلام يقبل بهذا التخصيب، ويُحوِّل ذلك إلى جزء من بنائه القابل للتنمية المستمرة. وهذا لا يعني بتاتاً قبول الإسلام لكل منجزات الحداثة. إنَّ هذا المنهج يرفض كل ما لا يتَّفق مع قيمه، ونظرته العاطفية، وموازينه الاجتماعية، ومعاييره لمعرفة الجمال.

وفي هذا المقال نشرح باختصار

٢١٩

بعض المفاهيم الأساسية للحداثة والإسلام - تلك المفاهيم التي نرى أنَّها في تقابل قطعي في ما بينها - كي تتيسر الدراسة المقارنة لها. ومن ثُمَّ نسعى إلى إيجاد الصلة في ما بينها، وتعبيد الطريق أمام تجديد بناء الفكر الثيولوجي والقانوني للإسلام، في القضايا المطلوبة والضرورية. ومن الواضح أنَّ كل ما قلناه يتوقَّف على تعريفنا للحداثة والإسلام.

والهدف الآخر للمقال، هو إبراز تبعات إزالة القدسية عن العلم بواسطة الحداثة، وبيان صلة الدين بإنسان ما بعد الحداثة المتعطِش للمعنوية. الحداثة التي هي ظاهرة متنامية، وفي حركة مستمرة، وُلِدَ منها في مقابل إنسان العصور الوسطى، إنسان الحداثة والعلماني. ومع مرور الزمن، و - بعد مخاضٍ عسير - ولد إنسان ما بعد الحداثة من رحم العلمانية، والذي كان يتصف نفسياً بعدم الركون والطمأنينية والشعور بالوحدة. ومن وسط هذا الشقاء الروحي والمعنوي، نهض إنسان الثورة وما بعد الحداثة حتى يرجع - كما سوف نرى - إلى فكر وسلوك ما قبل الحداثة.

التلوُّث الفكري لآدم

الحداثة والدين نظرتان مختلفتان إلى الحياة، الحداثة لها توجُّه نفعي (إثباتي) علماني وميكانيكي إلى العالم، والدين يسعى إلى تكريس نظرة كونية متعالية، مقدَّسة وأخلاقية، ومؤمنة بالله. هذه الرؤية تعتبر من نتائج معرفة تختصّ بهذه الدوائر. إنَّ المعرفة التي تدافع عن نظرة كونية ميكانيكية، هي معرفة الحقائق الفاقدة للروح، والتي تنتج من خلال التجربة الحسيّة. إنَّ هذه

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240