علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240
الثنائية في المرحليتن الزمنيتين القديمة والجديدة؟ هذه هي محورية المسألة، وليس أنَّ كل تطوُّرٍ يُبرَّر التسمية الحديثة المنبثقة عن واقعٍ علمي جديدٍ، ولا أنَّه لا مبرِّر لهذه التسمية حتى لو حصلت تطوُّراتٌ جذريةٌ تفرض قطيعةً كاملةً بين القديم والجديد.
لكن في تقديري، وإذا أردنا أن نخرج من هذه الجدالية وقمنا بقراءة التسمية من جهة أخرى، وهي الجهة التي تُلاحظ فيها أوّلاً ، التداعيات اللاشعورية للتسمية في الوعي العام، أو الخاص، ثانياً، التناسب المنطقي بين المقترح والاستجابات الواقعية الحاصلة له، فإنَّنا سوف نميل إلى التنازل عن هذه التسمية؛ وأمامنا مبرِّران - أحدهما يعالج التسمية نفسها، وثانيهما المسمَّى - وهما:
المبرِّر الأول: إنَّ القطيعة التي تُحدثها هذه التسمية بين الماضي والحاضر، قد صارت في الوعي العام ذات طابعٍ إلغائي، غير محايدٍ إطلاقاً، وهذا ما قد يجعلنا نخسر على المدى البعيد فرص استثارة الجهود السابقة على مستوى الاتجاهات كافّة، والتي لم تصل، في تقديري، إلى الدرجة التي يُسمح لنا فيها بالتعامل بفوقيّةٍ معها. والشيء الملاحظ، أحياناً، هو أنَّ بعض الباحثين المهتمِّين بدراسات علم الكلام الجديد - وكما تحكيه نتاجاتهم - لم تحضر في نتاجاته أيَّة نماذج من علم الكلام القديم، مع أنَّ بعض الموضوعات كان لعلم الكلام القديم فيها تحليلاتٌ ودراساتٌ معمَّقةٌ وموسَّعةٌ، لا يمكن التغاضي عنها بهذه
البساطة، وهذا ما يُؤكِّد القلق المنطقي من الإغراق في التسمية الجديدة؛ بحيث يُحدِث هذا الأمر نوعاً من فقدان الامتداد التاريخي للعلم نفسه.
نعم، إنَّ التسمية الجديدة المقترحة قد يكون فيها شيءٌ من التحفيز على ملاحقة الأبحاث الجديدة والاهتمام بها، وهو أمر قد يدفع إلى الحثِّ على خطواتٍ من هذا القبيل كما يراه "اسفندياري" (١) لكنَّ المشكلة هي في أنَّ التسمية والمصطلح إنَّما يُعبِّران عادةً عن مفهومٍ، أو مقولةٍ متقدِّمة، لم تستطع المصطلحات المتداولة الاستجابة لها، والتعبير عنها بخصائصها الجديدة. وعلم الكلام الجديد وإنْ عبَّر عن هذا المضمون من خلال إيحائه بالنظريات والمتابعات الحديثة، إلاّ أنَّ قطيعته مع الماضي أو القلق من هذه القطيعة المحتملة جداً، يجعل في تبنيه شيئاً من المخاطرة غير الضرورية، لا سيَّما وأنَّ هناك إمكانية للاستعاضة عنه بمصطلحٍ آخر أكثر جامعيةً وشموليةً.
المبرِّر الثاني: إنَّ المشروع المقترح على الرغم من عظمته، إلاّ أنَّه حتى الآن، وبالمقدار الذي أنجز منه، لا تبدو فيه مُقوِّمات الانفصال والتفرُّد. نعم، هو بصيغته المقترحة، يوجد فيه ذلك، لكن التسمية يجب أن تحاكي الواقع، لا الأمل؛ لأنَّ عدم محاكاة المصطلح والتسمية للواقع الحاصل، أو لمعطياتٍ تجعل من تشكُّل هذا الواقع أمراً ميسوراً، يحدث فراغاً داخل المنظومة المعرفية، ما يتسبَّب في حدوث مشكلاتٍ عديدةٍ. ومن هنا تنشأ العلوم الجديدة في الغرب
____________________
(١) مجلَّة " نقد ونظر"، ع ٢، ص ٢١٤.
عندما تصل مجموعةٌ من الدراسات إلى مرحلةٍ من التضخُّم الحقيقي، تضطُّر العلماء إلى فرزها في علمٍ جديدٍ يكون أكثر قدرةً على استيعابها والتركيز عليها.
وأظن أنَّ ما ذكرناه يُبرِّر لنا تحييد هذه التسمية، أو لا أقل عدم الإصرار عليها والحفاظ على التسمية القديمة، أو استبدالها بتسميةٍ أخرى تحكي عن هذا العلم أيضاً على طول الخط، من دون اشتمالها على آثار سلبية كالتي ذكرناها. فإنَّ أساس تسمية العلم المتعلِّق بالعقائد الدينية، بأنَّه علم كلام مهما كانت أسبابه التاريخية والتي وقع جدلٌ طويلٌ معروفٌ فيها، هي تسميةٌ غير متناسبةٍ وغير حاكيةٍ عن مسمَّاها، فسواءٌ سُمِّي الكلام بالكلام لأجل قضية الكلام الإلهي، أو لكثرة الكلام فيه، أو لطبيعة عنونة المسائل قديماً فيه، أو غير ذلك، فلا ضرورة تقتضي الاحتفاظ بهذه التسمية ما دمنا نرى أنَّها لا تعكس لنا المضمون بقيمته ومستواه وأهمِّيته. وهذا ما يجعل من علم أصول الدين، أو علم العقيدة الدينية، أو علم النظريَّات العقديَّة - سواءٌ قبلنا هذه التسمية كجوابٍ نهائي أو لا - أنسبَ من التسمية بعلم الكلام، أو علم الذات والصفات، أو الفقه الأكبر، أو حتّى علم التوحيد وغيره - نظراً لافتقارها إلى عنصر الشمولية لكافَّة الموضوعات المستبطَنة فيه تارةً، أو لعدم تناسب المصطلح مع تسمية علمٍ من العلوم النظرية الفكريّة كتسمية "علم الكلام" التي تتناسب مع علم اللغة أكثر من العقيدة - وأكثرَ جامعيةً وقدرةً على
الاستيعاب؛ لِمَا يزيل الثنائية المفترضة حتّى إشعارٍ آخر، تتبدَّل فيه الواقعيات في هذا العلم، لا المقترحات.
ضرورة قراءة التجربة الكلامية القديمة:
في إطار هندسةٍ للكلام الجديد سالمةٍ إلى حد كبيرٍ، من الضروري الأخذ بعين الاعتبار تجربة الكلام القديم، وقراءتها قراءةً موضوعيةً فاحصةً؛ لتحديد عناصر القوة والضعف قدر الإمكان، بغية المحافظة على عناصر القوَّة وتفعيلها، وتفادي المشكلات والآثار الناجمة عن عناصر الضعف، وهذا بحثٌ - بطبعه اللائق به - طويلٌ، لكن نشير هنا إلى نماذج.
عناصر القوَّة:
ونذكر - على سبيل المثال لا الحصر - نماذج أربعة هي:
أ - الدقَّة والشموليّة التي قد يصحُّ التعبير عنها باللامتناهية في معالجة الأفكار . فالمتكلِّم القديم عندما يشتغل بمسألةٍ كلاميةٍ، نراه يتفحَّصها تفحصاً دقيقاً، ويعالجها معالجةً فاحصةً، والتراث الكلامي المدوَّن شاهدٌ ناطقٌ على حجم الجهود التي بذلها المتكلِّمون في دراساتهم المدوَّنة. إنَّ في نفس المصنَّفات الكلامية، أو في علم الأصول (١) وطريقة "إنْ قلتَ"، واحدةٌ من أبرز الطرق الشاهدة على هذا الأمر.
____________________
(١) لا بأس بالإشارة إلى أنَّ جملةً من دراسات علم الكلام، قد توزَّعت في الفترة الأخيرة بين علم أصول الفقه الإسلامي وعلم الفلسفة، ولا سيَّما الفلسفة المتعالية؛ فالإلهيَّات بالمعنى الأخص في علم
أمَّا علم الكلام الجديد، فقد تشوبه سرعة الحكم، وعدم الدقَّة وعدم الشمولية؛ فهو بحاجةٍ اليوم إلى عدم استعجال النتائج لكلّ الأمور، وعدم حرق المراحل الطبيعية.
وفي هذا السياق، أيضاً، يُلاحظ أنَّ بعض الدراسات الكلامية الجديدة مبتلاة بعدم الدقة والشمولية في النطاق اللغوي والاصطلاحي؛ فاللغة المتداولة لغةٌ مشوبةٌ، أحياناً، بالتشويش وعدم الشفافية وفتح الباب للاحتمالات العديدة، في حين صارت جامعيّة ومتانة اللغة ضرورة لإيجاد نمو صحيحٍ وتصاعدي لأيّ علم.
ب - المواكبة الدائمة للمستجدَّات الفكرية في المجتمع الإسلامي . وهذه ميزةٌ مهمةٌ في علم الكلام (١) ، فلا تكاد تسمع بطرح، أو كتاب، أو نقد، أو نظرية صدرت وتناقلتها الألسن في المحافل العلمية، حتى ينبري المتكلِّمون لتقييمها والردِّ عليها، أو تأييدها، وعلى كلّ حالٍ لإبداء رأيٍ فيها. وهذا امتيازٌ يطالب الكلام الجديد، اليوم، بإعادة تمثُّله وبصورةٍ أفضل. فدراسات كثيرة، مضى عليها اليوم قرن أو قرون، تُصنَّف لدى البعض بالحديثة جداً، أو الأحدث، وكأنَّها آخر ما تمخَّض عنه العقل البشري، في حين أنَّه - ومع ضرورة قراءتها بعمقٍ وجدّيةٍ، وخصوصاً الدراسات التأسيسية الغربية وغير الغربية -
____________________
الفلسفة من المسائل التي تعني المتكلِّم بالدرجة الأولى. أمَّا علم الأصول، فقد حدثت فيه اختلاطاتٌ موضوعيةٌ مضمونيةٌ، نُقلت على أثرها مجموعةٌ من مسائل علم الكلام إلى الأصول؛ بحيث إنَّ البحث المعمَّق حولها صار يراجعه الباحث في الأصول أكثر من الكتب الكلامية، وهذه مشكلةٌ حقيقيةٌ لها أسبابها الخاصّة التي لا مجال للبحث عنها الآن.
(١) أشار إليها سماحة السيد علي الخامنئي (حفظه الله تعالى) في خطابه للحوزة العلمية، يُراجع مجلَّة: "الفكر الإسلامي"، ع ١٦، ص ٢٠٩.
فإنَّه لابد من التوجُّه إلى الدراسات الواسعة المعاصرة، ولا سيَّما في العقود الثلاثة الأخيرة على مستوى الساحة العربية والإيرانية والغربية، وبالأخص ما ظهر عقيب انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز ظاهرة الأحاديّة القطبية.
ج - اتسم علم الكلام بإجاباته الحاسمة والمطمئِنَّة في تلك الآونة ليس لميزةٍ خاصةٍ به، بل لأنَّ العقل البشري قبل عصر النهضة كان كذلك. أمَّا اليوم، فإنَّ علم الكلام الجديد يُخشى عليه من النزعة التشكيكية الشاملة والمدمِّرة، وهذا يفقده دوره الحضاري في إشاعة الطمأنينة والاستقرار في نفوس المناصرين للاتجاهات الكلامية.
لا نريد العودة إلى عصر اليقين هذا؛ إذ يبدو من الصعب تحقيق ذلك، لكن علم الكلام اليوم مطالبٌ - وبالتعاون مع بقية العلوم، ولا سيَّما الفلسفة وعلوم الدين الأخرى - بالتفكير في حل لمشكلة الاضطراب والتذبذب النفسي، ولو بإجراء تعديلاتٍ على مفهوم اليقين العلمي، وإلا فإنَّ بقاء هذه الحالة سوف يساهم في إعاقة عملية التطوُّر الحضاري، وبخاصة القائمة والمعتمدة على الدين.
د - خصوصية الأصالة التي تمتَّع بها علم الكلام القديم لأسبابٍ عديدةٍ، فعلم الكلام هو من العلوم الإسلاميّة الأصيلة؛ لأنَّه ولد قبل عصر الترجمة، أي أنَّه لم يكن متأثِّراً في انطلاقته بالثقافة والفلسفة اليونانية ، بل إنَّ التاريخ الكلامي يُؤكِّد أنَّ هذا العلم قد وقف موقفاً حذراً إلى حدٍ بعيدٍ من التوجُّهات الفلسفية التي استقت أُسسها ومنطلقاتها وبناها التحتية من الفكر
اليوناني بالخصوص، وهو ما سبَّب - أو كان على الأقل أحد أسباب - الخلاف الفلسفي الكلامي في التاريخ الإسلامي، ولا سيَّما القرون الخمسة الأولى.
ولا يعني ذلك أنَّ علم الكلام لم يتأثَّر بالأفكار الواردة على العالم الإسلامي من شرق الأرض وغربها، وأنَّ كل ما كان عنده هو وليد مقولاتٍ وتصوُّراتٍ داخليةٍ لم تتلاقح مع أيِّ واردٍ خارجي، بل كانت في قمَّة القطيعة معه؛ و إنَّما المقصود هو أنَّ الطابع الذي حكم هذا العلم، ولا سيَّما في انطلاقته التي تعود إلى بدايات نشوء فرقة الخوارج في الإسلام، هو طابع الأصالة ، وبالتالي فكانت المزاوجة بينه وبين أيِّ فكرٍ خارجي، مزاوجةً إيجابيةً ومن الدرجة الثانية.
إنَّ المطلوب من الكلام الجديد اليوم هو التماهي مع هذا النمط الكلامي القديم؛ أي الانطلاق في التفكير بصورةٍ أصيلةٍ غير مثقلةٍ بالحمولات الأخرى، من دون أن يعني ذلك سدَّ باب التفاعل الطبيعي بين العلوم كلِّها، بما فيها علم الكلام، الأمر الذي يستدعي أن يقوم هذا العلم بإنشاء علاقةٍ وطيدةٍ مع العلوم الأخرى، وخصوصاً تلك التي تلتقي معه في طبيعة التخصُّص ومنهجه، كعلم الفلسفة وغيره، سواءٌ كانت هذه العلوم ذات نتاجٍ داخلي حضاري أو نتاجٍ خارجي من هذه الناحية.
إلاّ أنَّ المشكلة الحقيقية هنا تكمن في الأسباب المولِّدة لأصالة علم الكلام، وأبرز هذه الأسباب على ما يبدو، هو أنَّ المتكلِّم القديم كان يُفكِّر من موقع الفعل والصنع والإبداع؛ لأنَّه كان منتصراً من الناحية السياسية والعسكرية،
بل والأهم من ذلك من الناحية الحضارية. ولذلك، فلم يكن في تفكيره ملاحَقاً، لا زماناً ولا واقعاً؛ أي لم يكن هناك ما يفرض عليه العجلة في التوصُّل إلى نتائجه، أو يفرض عليه - لضرورات الواقع - إنتاج فكرٍ معينٍ، إلا إذا كان هناك سوء علاقةٍ معينةٍ بين المثقَّف والسلطة الحاكمة. وهذا الارتياح النفسي يُساهم، قبل كل شيء، في تجويد الإنتاج وتحسين الأداء، والأهم من ذلك في خلق المفاهيم والمقولات والمصطلحات كما يراه حسن
حنفي (١) .
أمَّا الكلام الجديد، فهو يعيش في إشكاليّةٍ غايةً في التعقيد على هذا المستوى؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنَّ المتكلِّم الإسلامي لم يشارك في صنع الحداثة، ولم يخلق مفاهيمها ومقولاتها، ومن هنا تورَّط في استيرادٍ متواصلٍ للمفاهيم والمصطلحات، وأرهق نفسه في تتبُّعها في عملية شرحٍ وتفسيرٍ، وتبيئةٍ وتوظيفٍ لِمَا ينتجه الغربي بقطع النظر عن مدى الصوابية في هذا الإنتاج.
لم - وربَّما لن - يستطع المتكلِّم الجديد اليوم أن يلحق بالركب السريع الخطى لماكينة المفاهيم والمصطلحات الغربية؛ ولهذا، فإنَّ عقبته سوف تكون، حضارياً، في استغراقه في ردِّ الفعل، وفي استخدامه ما صنعه الآخر، وبالتالي فلن يتمكَّن من تمثُّل الأصالة والذات بهذه السهولة، أو تحقيق العلاقة الطبيعية والصحيّة بينه وبين العلوم الأخرى، حتى تلك الواردة من الغرب.
____________________
(١) حسن حنفي، مجلَّة "قضايا إسلامية معاصرة"، ع ١٤، الاتجاهات الجديدة في علم الكلام، ص ١٧.
إنَّ هذه المعادلة المعقَّدة في الواقع العملي، تُؤكِّد على ارتباط علم الكلام بالواقع السياسي للأمّة التي يُمثِّلها هذا العلم كما يطرحه الدكتور حنفي (١) ، لكن ذلك لا يعني بالضرورة عدم قدرة هذا العلم على تخطِّي ولو بعض مشكلات هذه الغربة والازدواجية والانفصام، ولعل أوَّل ما يحتاجه المتكلِّم على الصعيد النفسي، هو الإحساس بالثقة وتبديد عوامل اليأس والإحباط، وهو أمرٌ تلعب التربية الاجتماعية أثراً بالغاً فيه.
عناصر الضعف:
ويمكن كنماذج ذكر ما يلي:
أ - النزعة التجريدية التي عاش الكلام القديم ردحاً طويلاً في مداراتها، هو وبقية أفراد أسرة المعرفة الدينية، من الفلسفة حتى الفقه والأخلاق؛ فأدَّى ذلك إلى انشغال الباحثين بأمور ومسائل، لا ترجع بالفائدة المتناسبة مع حجم الجهود المبذولة. كما وأدَّى إلى تولُّد عقلٍ فرضي يحاكي الصور والاحتمالات من دون أن يلحظها، أو يلحظ انعكاساتها في أفق الواقع، ما أحدث عزلةً نسبيةً للعقل الكلامي. ومن هنا، فإنَّ الكلام الجديد مطالبٌ بمتابعة الرؤى والأفكار، آخذاً بعين الاعتبار، أيضاً، التأثيرات الميدانية لمادَّة البحث ونتائجه، وهذا ما يستدعي إعادة فرزِ وترتيبٍ للموضوعات الكلامية، مع الأخذ بالنظر هذا الجانب كذلك.
____________________
(١) المصدر نفسه.
من المعروف أنَّه، ونتيجةً لتأثيرات المنطق الأرسطي، فقد جُعلت استقامة الفكر منفصلةً عن الواقع الخارجي العملي؛ لأنَّ هذا المنطق يرى أنَّ سلامة العمليات الاكتشافية العقلية تكمن في قدرتها على وضع القضايا والمعلومات في مكانها الذهني الصحيح، للمساهمة في ضمان صحَّة التوصُّل إلى النتيجة، وهذا يعني أنَّ الهدف الذي يتوخَّاه العقل الأرسطي هو الوصول العقلي إلى نتيجةٍ سليمةٍ ذهنياً، من دون النظر إلى التردُّدات العملية لهذه النتيجة (١) .
لكنَّه من المناسب هنا الإشارة إلى عدم الإفراط في ملاحقة هذه النزعة وإقصائها، إلى الحد الذي يفقدنا قيمة أبحاث وموضوعات قيِّمة، فالعملانية ضرورة غير نهائية . والسبب في إثارة هذه القضية هو أنَّ هناك نزعةً ملحوظةً سرت في الفترة الأخيرة في الأوساط الفكرية والثقافية الدينية، وتُعبِّر هذه النزعة عن حالةٍ من النقد الشديد للدراسات النظرية في الفكر الديني، والتي لا توجد تردُّداتٌ عمليةٌ لها، الأمر الذي يبرز واضحاً في علم أصول الفقه، وهذه النزعة يمكن الموافقة عليها والدفاع عنها للخلاص من الجهود الاستنزافية التي غرقت بها الدراسات الدينية في كثير من الأحيان. إلاّ أنَّ المشكلة هنا هي في ظاهرة تخطِّي هذه النزعة للحدود المنطقية، وتحوُّلها، أحياناً، إلى ظاهرة رفضٍ، فيه شيءٌ من الإطلاقية، وشعورٌ بحالةٍ من التأزُّم، وهو ما يُؤدِّي إلى ضياع الكثير من الجهود، وقطع مسار تواصلها وديمومتها.
ولعلَّ هناك مَن يتحدَّث
____________________
(١) راجع: عبد الجبار الرفاعي، ومحمد مجتهد الشبستري، مصادر سابقة.
اليوم عن علم أصول فقهٍ مصغّرٍ جداً، قد تُؤدِّي الموافقة عليه إلى شيءٍ من فقدان الدراسات التأسيسيّة الهامة، كما لعل هناك مَن يستبعد الكثير من الأفكار الاعتقاديّة الهامة لمجرَّد تحسُّسه أهميّة موضوعاتٍ أخرى في الفترة الراهنة تحسُّساً يمكن الوقوف معه غالباً، وهو ما يدعونا إلى التمييز بين لغْويّة بحثٍ ما من حيث المبدأ وزيادة أهمية بحثَ آخر عليه في فترةٍ معينةٍ.
ب - النزعة اليقينية (وهنا نقرأها من جانبٍ آخر غير ما تقدَّم) حيث ساهم المنطق الأرسطي - وغيره أيضاً - فيها، فإنَّه وِفق تصوُّره لليقين ووسائل الإثبات ساهم - كذلك - في تكوين عقلٍ دوغمائي جزمي، ينفي الآخر بمجرد إثبات ذاته، نفياً غير قابلٍ لاحتمال الخلاف. وهذه النزعة الدوغمائية المُشبَعة بشيءٍ من النرجسية أشبعت علم الكلام القديم بشكلٍ واضحٍ يُلاحظ بأدنى مراجعة للمتون الكلامية، ولا سيَّما تلك التي هي ذات طابعٍ مذهبي خالصٍ.
هذه النزعة قد لا يُوافق البعض على إجراء تعديلاتٍ فيها، غير أنَّ ذلك - في تقديري - صار لازماً عملياً لعلم الكلام الجديد؛ باستبدال العقل الدوغمائي بعقلٍ تعدُّدي احتمالي مُنفتح، يُوسِّع من هامش التنقُّل العلمي والمعرفي، ويُضيِّق من ضغوط اللاَّوعي.
ج - النزعة المذهبية التي اصطبغ بها الكلام القديم حتى صارت السمة الغالبة عليه. وهذا الاصطباغ مع ما فيه من حسناتٍ، إلاّ أنَّه حدَّ من حركة هذا العلم؛ لأنَّه أحاطه بجداليَّة لا متناهية في موضوعاتٍ محدودةٍ، وحكم عليه بأطرٍ محدَّدةٍ غير قابلة للتجاوز، تمَّ تلقِّيها على أنَّها خطوط حمراء، ومقدَّسات
غير قابلةٍ للبحث وإعادة النظر - بقطع النظر عن صحَّتها أو فسادها من حيث هي - ولا حاجة لكثير كلام - في ما أعتقد، ولا سيَّما في واقعنا الراهن - على سلبيات هذه النزعة، التي صار من الضروري استبدالها بعقلٍ منبسطٍ. فإنَّ واحدةً من آثار هذه النزعة وأشباهها، هو اعتماد المتكلِّمين على المنطق الجدلي؛ وهو منطق يتَّكئ بالدرجة الأولى على القضايا المشهورة والمسلَّمة، ويستهدف صرع الآخر أكثر من كشف حقيقةٍ، أو حلّ مشكلةٍ، في حين يحتاج الكلام اليوم إلى ركائز علمية، قبلها فلان أو لم يقبلها؛ لأنَّ هذا ما يحل المشكلة أو يُنير الطريق.
د - لعلَّه ولأسباب تاريخية، لم تُعط دراساتُ مقارنة الأديان حقَّها في الكلام القديم . أمَّا اليوم - ولا سيَّما بعد صيرورة العالم بحكم قريةٍ كونيةٍ واحدةٍ، واحتكاك المسلمين والمسيحيين واليهود على أكثر من صعيدٍ - فقد صار علم الكلام المقارن ضرورةً ملحَّةً، حتى يقوم الحوار بين الأديان على قواعد علمية تختزل الوقت وتغتنم الفرص؛ ولهذا لابد أن يُركَّز الكلام الجديد على مقارنة الأديان، وأن لا يقتصر على مقارنة المذاهب كما هو الحاصل فعلاً.
هـ - إنَّ تاريخ علم الكلام يكشف عن اعتماده على المنطق الأرسطي كمنطقٍ وحيدٍ ، وحَكَمٍ متفرِّدٍ في الجدل العلمي؛ حيث قُدِّم هذا المنطق على أنَّه حقائق ثابتة عامة شاملة كلية ويقينية، غير أنَّ تطوُّر المعارف البشرية كشف عن ثغراتٍ في هذا المنطق، لِأقول: إنَّ بوضعه الحالي، ليست لديه
قابلية لحل كل المشكلات اليوم .
ومن هنا - ونظراً لتجدُّد الكثير من الإشكاليَّات ذات الطابع المنطقي المختلف - فإنَّه من الضروري للكلام الجديد الاتكاء على مخزون منطقي أكبر، يشمل - إلى جانب المنطق الأرسطي - المنطق الاستقرائي ، و الرياضي ، و التجريبي، و الذاتي، و الديالكتيكي و.. وإلاّ فإنَّ أزمة تخاطبٍ ستنشأ تبعاً للهوَّة الحاصلة بين الهيكلية المنطقية للأفكار والإشكاليات الجديدة، مع الهيكلية المنطقية التي تحكم علم الكلام.
لا يُراد هنا التنقيص من شأن المنطق الأرسطي بقدر ما يراد الإشارة إلى كون هذا المنطق جهداً بشرياً لا يتَّصف بالكمال.
و - إنَّ واحدةً من إفرازات نزعة اليقين والتمذهب، هي: الذاتية والتحيُّز، وبالتالي ضعف الموضوعية والحياد. وهي مشكلةٌ جديَّةٌ لا يخلو منها علم، لكن الكلام القديم - كبعض العلوم الأخرى - قد تجاوزت فيه الذاتية والتحيّز الحدَّ الطبيعي. ومن هنا، فعلى الكلام الجديد تجنُّب هذه المشكلة بواسطة رفع القيود، وتقليل الاعتبارات التي تُفضي بالمتكلِّم إلى الذاتية والأحكام المسبَّقة. وتقليل هذه الاعتبارات سيساهم في فتح الباب أمام صنوف الأفكار والآراء؛ الأمر الذي يُثري حركة الفكر، ويرفع رصيد علم الكلام، ويضاعف من إنتاجه (١) .
____________________
(١) بعض هذه النقاط ليست من مختصَّات الكلام، لكنَّه اتصف بها أيضاً.
الفصل الثاني
سبيل الله الواحد أم سُبُله المتعدِّدة.......................................... محمد حسن زراقط
نظرة إلى التعدُّدية في الأديان............................................ عبد الحسين خسروبناه
دور الخيال في التعدُّدية الدينية.............................................. دافيد س. سكوت
دراسة في بُنى التعدُّدية الدينية ومُرتَكَزاتها
الشيخ محمد حسن زراقط (*)
تمهيد
تنقَّل مصطلح التعدُّدية بين العلوم المختلفة، واكتسب تبعاً للمجال المستخدم فيه معنى جديداً (١) . وما نهدف إلى البحث عنه في هذه المقالة، هو التعدُّدية في مجال الدراسات الدينية، إلاّ أنَّه من المناسب للإحاطة بالموضوع، الإشارة إلى بعض هذه المعاني، والوقوف على المداليل المختلفة له في الدراسات الدينية، وفي غيرها. وسوف نلاحظ أنَّ التعدُّدية ببعض المعاني المقصودة من المصطلح قد تكون مقبولة، بل مندوباً إليها في الأدبيات الدينية الإسلامية. وسوف نستعرض بعض المباني والمنطلقات الفكرية أو الاجتماعية
____________________
* كاتب ومدرس في الحوزة العلمية - لبنان.
(١) انظر: حيدر حب الله، التعدُّدية الدينية، ط ١، بيروت، الغدير للدراسات والنشر، ٢٠٠١م، ص ٢٠، وما بعدها.
التي استندت إليها دعوة التعدُّدية. وقبل أيِّ شيء، أرى من المناسب الإطلالة على الأصل اللغوي لهذا المفهوم.
التعدُّدية في اللغة:
يبدو أنَّ مصطلح التعدُّدية من المفردات الوافدة على اللغة العربية رغم الجذر العربي الذي يشير إلى الكثرة والتعدُّد، إلاّ أنَّ هذا الاشتقاق لا يُلاحظ له أصل في اللغة. ومن هنا، خلت منه بعض المعاجم العربية غير المتخصِّصة (١) . وهو مصدر صناعي يراد به الدلالة على المذهب، أو الاتجاه، أو غير ذلك من المفاهيم المشابهة. وأمثال هذا المصطلح في اللغة كثير، منها: الاشتراكية، والعلمانية، والبيروقراطية... ومنها ما استحدثه الفلاسفة للتعبير عن مراداتهم، ككلمة ماهية، وكيفية، وغيرها.
التعدُّدية في الميتافيزيقا:
يُشير مصطلح التعدُّدية في مجال الميتافيزيقا (٢) إلى تشكُّل العالم من مجموعة من العناصر يصل عددها إلى أربعة عند "أمبادوقليس" ، وهي: التراب ، والماء، والهواء، والنار. بينما لم يجد "أنكساغوراس" هذا العدد الضئيل من العناصر
____________________
(١) لاحظ: المنجد، ولسان العرب، ولكن لا يفتقد هذا النمط من الاشتقاقات إلى المشروعية اللغوية؛ فقد أشار بعض الباحثين في اللغة إلى الحاجة إليه في كثير من العلوم للتعبير عن مفاهيمها الخاصة بها والتي لا يوجد في أصل اللغة ما يدل عليها. (عبَّاس حسن، النحو الوافي، ط ٤، القاهرة، دار المعارف، د ت، ج ٣، ص ١٨٧).
(٢) استخدمتُ هذا المصطلح هنا، لأنَّ الكلام عن أصل الكائنات وما وراء طبيعتها.
كافياً لتفسير الكثرة الموجودة في هذا العالم. ومن هنا، لم يحصرها بأربعة، مُبقياً عددها في دائرة اللامتناهي (١) .
وقد شقَّت نظرية العناصر الأربعة طريقها إلى الفلسفة العربية الإسلامية، ولاقت قبولاً من كثير من الفلاسفة المسلمين؛ حيث نجد إشارة إليها عند ابن سينا وشرَّاحه. يقول شارح الإشارات: "... والمراد من قوله: أمَّا التي لا يمكن فيها ذلك فهو الفلكيَّات... فالجسم البالغ في الحرارة بطبعه هو النار، والبالغ في البرودة بطبعه هو الماء، والبالغ في الميعان هو الهواء، والبالغ في الجمود هو الأرض. أراد أن يشير إلى أنَّ العناصر أربعة ويُعيِّنها..." (٢) وبقيت هذه المقولة قيد التداول الفكري أيضاً إلى عصور متأخرة، فها هو نصير الدين الطوسي ينسج جزءاً من فلسفته الطبيعية على هديها، فيقول: "وأمَّا العناصر البسيطة، فأربعة: كرة النار، والهواء، والماء، والأرض. واستفيد عددها من مزاوجات الكيفيَّات الفعلية والانفعالية" (٣) . ويشرح الحلِّي كلامه قائلاً: "... واعلم أنَّ البسائط العنصرية أربع، فأقربها إلى الفلك النار، ثُمَّ الهواء، ثُمَّ الماء، ثُمَّ الأرض..." (٤) .
____________________
(١) معن زيادة وآخرون، الموسوعة الفلسفية العربية، ط ١، بيروت، معهد الإنماء العربي، ١٩٨٨، مادة: تعدُّدية.
(٢) شرح الإشارات، ص ٢٥١.
(٣) نصير الدين الطوسي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ط ١، بيروت، الأعلمي، ١٩٧٩م، ص ١٥٦.
(٤) الحسن بن يوسف الحلِّي، م. ن، ص ١٥٦.
وربَّما أصرَّ كثير من الفلاسفة على هذه الفكرة، وعضوا عليها بالنواجذ - بل فعلوا (١) - لولا أنَّ "مندلييف" (١٨٣٤ - ١٩٠٧ Mendeleyev ) فاجأهم بزعمه أنَّ العناصر تصل في عددها إلى ثمانية وسبعين عنصراً، وما زالت بعض الخانات في جدوله الأثير فارغة بانتظار مَن يملؤها باكتشاف عناصر جديدة. وهكذا اتضح أنَّ بسائط الفلسفة اليونانية أضحت مركَّبات كغيرها من المركَّبات.
وعلى أيَِّة حال، فإنَّ البحث عن هذا النمط من التعدُّدية لا يدخل في صميم غرضنا، وإنَّما أشرنا إليه رغبة في الوضوح؛ كونه أحد معاني المصطلح المبحوث عنه.
التعدُّدية السياسية:
يُقصد بمصطلح التعدُّدية عندما يستخدم في المجال السياسي: أنَّ يُسمح لفئات الشعب - على اختلاف اتجاهاتها وتياراتها؛ من أحزاب وتجمعات غير حزبية - أن تتداول السلطة، وأن تشارك في صناعة القرار السياسي. وهي بهذا المعنى من أهم الأسس التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي. ولو رجعنا في تأمُّلنا للنسق الفكري السياسي، فلا نجد تنظيراً واضحاً لهذا المفهوم ولآليات ممارسته في الفلسفة السياسية الإسلامية، أو ما يُعرف في التراث الإسلامي بـ "الأحكام السلطانية"؛ حيث لم تكن فكرة الأحزاب بالمعنى السائد اليوم قد
____________________
(١) ربَّما يُستكشف القبول بهذه النظرية من إبراهيم الزنجاني في تعليقته على كشف المراد. انظر: م.ن، ص ١٥٦.
أبصرت النور، فالأحزاب التي عُرفت في التاريخ الإسلامي لم تكن سوى تكتُّلات تجمعها ولاءات دينية أو عصبية مختلفة.
ومن هنا، نجد أنَّ فكرة الحزب احتاجت إلى محاولات لإثبات مشروعيَّتها وعدم منافاتها للشريعة كطريقة للعمل السياسي أو الاجتماعي، قبل البحث حول جدواها وأهمِّيتها في أيِّ عملية نهوض بالأمة، أو تغيير لواقعها الراهن؛ حيث يُدَّعى أنَّ الحزبية نسق غربي يتضمَّن الكثير من السلبيات التي تمنع من اقتباسه في الإطار الإسلامي. مضافاُ إلى أنَّ القرآن الكريم يتحدَّث عن الحزبية بشكل سلبي، يقول تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) (١) ، ويقول تعالى في موردٍ آخر: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٢) .
هذا، ولكنَّنا نجد على الجهة الأخرى أنَّه يتحدَّث (سبحانه) عن نمطٍ آخر من الحزبية بطريقة تُوحي بالرضا والقبول، فيقول سبحانه: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ) (٣) .
إذاً، لا يمكن أن نستنتج من القرآن موقفاً قيميَّاً من العمل الحزبي، بل الأمر تابع للقيم التي يحملها الحزب نفسه، ومن هنا: "قد لا يجد الإنسان
____________________
(١) هود: ١٧.
(٢) مريم: ٣٧.
(٣) المائدة: ٥٦.
موضوعات الكلام الجديد:
لم يجرِ في علم الكلام الجديد تأسيس موضوعاتٍ لم يكن لها سابق بحثٍ وحضورٍ في الساحة الفكرية الإسلامية دائماً؛ بمعنى أنَّ أصحاب الاقتراح لم يقوموا بتأسيس مجموعةٍ من القضايا والمباحث الكلامية التي ليس لها سابق وجودٍ، وإنَّما نظَّموا مسائل علم الكلام الجديد على أساس عملية تجميعٍ لأبرز الموضوعات التي ظهرت أمام المفكِّرين المسلمين في الآونة الأخيرة، ومسَّت المسائل الفكرية والعقائدية الجذرية، من دون أن تكون محصورةً بعلمٍ معيَّنٍ كعلم الفقه، أو الأصول مثلاً؛ بحيث تكون مسألةً أصوليةً أو فقهيةً بطبيعتها. وهذا الأمر يُؤدِّي بطبيعته - إذا لم تجرِ عملية تحديدٍ مُسبَّقٍ لموضوع هذا العلم ومداه ودائرته - إلى حدوث خلطٍ مضموني في هذا العلم، وهذا خللٌ أساسي جدّاً؛ لأنَّ تحويل علم الكلام إلى علمٍ تجميعي لمسائل متفرِّقة، وهموم مختلفة، يُصيِّره على مرِّ الأيّام خليطاً متناقضاً من موضوعات واهتمامات لا رابط في ما بينها، وهذا ما قد يُؤدِّي على المدى البعيد إلى افتقاده المنهج الواضح الموحَّد، وكذلك التناسق المنطقي المتناغم.
وعلى أيِّ حال، فإنَّ أبرز النماذج المطروحة في مجال نشاط الكلام الجديد، هي - وبشكلٍ مُفهرسٍ وسريعٍ (1) - كالتالي:
____________________
(1) قد تتداخل بعض هذه الأبحاث وتنفرز أبحاث نقطة واحدة، كما أنَّنا تجاهلنا هنا الفرز الموجود عند البعض بين مسائل علم الكلام الجديد ومسائل علم فلسفة الدين.
1ـ نطاق الدين ومجاله: هل الدين محدود في دائرة الفرديات والأخلاقيات، أم أنَّه يمتد ليشمل النواحي السياسية والاقتصادية و... وحتى الطِّبية وأمثالها؟ وما هي تأثيرات الجواب عن ذلك على الفهم الديني ككل؟ ويقع هنا، في الحقيقة، ملتقى مجموعةٍ من النظريات، أبرزها نظرية "انتظارات وتوقُّعات البشر من الدين"، كما تُدرس هنا وبعمقٍ نظرية شمول الدين لكلّ وقائع الحياة وما هو شكل هذا الشمول، كما وتأتي هنا نظريةً أخيرةٌ عُرفت بنظرية "الدين بالحد الأعلى، والدين بالحد الأدنى"، أو ما يتعلَّق بنظريةٍ جديدةٍ أخرى تُسمَّى بنظرية "تكامل التجربة النبوية" ، والتي طرحها الدكتور "عبد الكريم سروش" في إيران.
2ـ اللغة الدينية: وهل هي لغة رمزية، أسطورية، واقعية، قصصية، بيانية؟... هل ترجع القضايا الدينية إلى مضمونٍ، أم أنَّها بلا معنى كما يقول الوضعيُّون؟ هل هي لغة إنشائية، أم إخبارية حقيقية، أم مجازية؟ هل للدين لغةٌ خاصَّةٌ به؟ كيف يمكن تقييم التوصيفات البشرية للدين، ولا سيَّما للباري تعالى؟...
3ـ النزعة الدينية: ما هي أسباب ظهور التديُّن؟ الخوف، أو الجهل، أو الطبقية، أو...، تحليل نظريات: ماركس، وسبنسر، ودوركمايم، وفرويد. هل البشر بحاجةٍ إلى الدين؟ وهل هو فطري؟ وما معنى وحقيقة الفطرة؟ هل الفطرة أمرٌ آخر غير البديهيَّات القبلية التي قرَّرها علم المنطق أم أنَّها ليست
سوى هذه القبليات الواضحة عقلياً؟ وبالتالي هل يمكن الاعتماد بصورةٍ مستقلَّةٍ على الفطرة في قبال الأدلّة والمعايير العلمية الأخرى، أم لا؟...
4ـ التجربة الدينية: ما هي حقيقة المشاعر والأحاسيس الدينية؟ وما هي عناصرها وميِّزاتها؟ وهل هناك فرق بين التجربة الدينية والأخلاقية؟ ما هو ميزان ضبط صدقيَّة التجربة الدينية؟ العلاقة بين التجربة الدينية والروحية والعرفانية؟...
5ـ عقلانية الدين: هل إثبات القضايا الدينية يكون بشكلٍ عقلاني أو شهودي؟ وهنا تُطرح نظريَّات الكانطيين في ما يرتبط بالعقل العملي، والإثبات الأخلاقي للدين، كما وتُقرأ المدارس الروحية والعرفانية لدى الأديان كافَّة أيضاً... الرابطة بين الدين والعقلانية؟ التعقُّل والتعبُّد في الدين ومساحاتهما وعلاقاتهما؟...
6ـ معنى الدين وحقيقته: ما هو تعريف الدين؟ وما هو الحد الفاصل بين الديني وغير الديني؟ وأساساً هل للدين تعريف محدَّد؟ وعلى تقدير ذاك، فهل هو ذو خصيصة معرفية، أم عاطفية، أم عملية، أم غير ذلك؟...
7ـ الجوهر والعرض في الدين: ما هو ذلك الذي يُمثِّل العنصر الذاتي في الدين؟ وما هو ذاك الذي يُمثِّل العنصر العرضي؟ كيف نُرتِّب سلسلة الدينيَّات من حيث الأهمية والرتبة؟ ومن أين نبدأ؟... الأخلاق، القانون، العقيدة، أم ماذا؟
8 - القاسم الديني المشترك: مميِّزات وقواسم الأديان والمذاهب، ما هي الحدود الواضحة والشفّافة بينها؟ هل يرجع الكل إلى منظومةٍ واحدةٍ أم لا؟ ما هو موقف الأديان من بعضها البعض؟ ما هي المقوُّمات الحقيقية - أخلاقياً ومعرفياً وميدانيَّاً - للحوار الديني والمذهبي؟ ما هي حقيقة هذا الحوار؟ وهل الحوار هو السبيل أم التصادم؟ وأين تكمن مظاهر من قبيل التكفير، واللعن، والسُّباب من هذه القضية؟...
9 - مناهج المعرفة الدينية: هل منهج المعرفة في الدين هو عقلي تركيبي، تفكيكي، نقلي، تجريبي، سلوكي، شهودي، أم أنَّ هناك تلفيقاً ما؟ ما هي طبيعة هذا التلفيق وكيف هو؟ ما هي حدود كل منهجٍ ونطاقه؟ هل علاقة الدين بمنطقٍ ما، ومنهج تفكيرٍ ما، علاقة خالدة؟...
10 - التعدُّدية الدينية: هل كل الأديان مصيبة؟ ما هي نسبة الإصابة والخطأ؟ هل الوصول يمكن أن يتمَّ عبر كل الطرق؟ هل يَعذر المتديِّنون بما دانوا به من دينٍ أو مذهبٍ، ولماذا؟ ما هي حدود اعتراف الأديان ببعضها؟...
11ـ الدور الديني: ما هو الأثر الذي يتركه الدين في حياة الفرد والجماعة؟ وما هي الأرقام حول هذا الموضوع؟ هل هو أثر نفسي، اجتماعي، سياسي، أو...، أو ملفَّق، أو مجموع؟ ما هو دور الدين في الصنع والفعل الحضاري؟ وما هي تأثيرات الدين في صنع القرارات السياسية؟ هنا تُدرس مسائل علم الاجتماع الديني، وعلم النفس الديني، وغيرهما من العلوم، وتُحدَّد العلاقة بين الدين وعلم الإحصاء والقراءات الميدانية...
12ـ المجتمع الديني: ما هي خصائص ومقوِّمات المجتمع الديني؟ ما هي العلاقة بين المجتمع الديني والمجتمع المدني بعد تحديدهما بشكل دقيق؟ ما هي بنية الاجتماع الديني؟ ما هي المعالم المميِّزة لهذا المجتمع؟ طبقة علماء الدين في المجتمع الديني؟ الطبقية والعشائرية والقبلية في المجتمع الديني؟ ومعالجة إشكاليَّات عديدة على هذا الصعيد، لعل أبرزها: مسألة الوضعيّة الاجتماعية والاقتصادية والحقوقيّة لذريَّة النبي محمّد (صلَّى الله عليه وآله).
13ـ المعرفة الدينية والبشرية: ما هي حدود التفاعل بينهما؟ أنواع هذا التفاعل؟ هل هو كلي أم محدود وجزئي، وكيف؟ ماذا ينجم عن قبول أو رفض نظرية التفاعل وتأثر المعرفة الدينية بالمعرفة البشرية؟ أين تقع الذاتية والموضوعية في القراءة الدينية؟ هل هناك إسقاطاتٌ دائمةٌ على النص الديني؟ هل المعرفة الدينية رهينة القارئ أم أنَّه هو رهين النص؟ ما هي العلاقة بين النص وقارئه على ضوء نظريات اللغة والهرمنيوطيقا الحديثة؟ وعلى أساس ذلك، ما هو المقدَّس، وأين هو في الدين؟ أم هل تنمُّ فكرة المقدًّس، أساساً، عن عقلٍ خائف أم لا؟...
14ـ الثبات والتحوُّل الديني: ما هي مساحات الثابت والمتحوِّل في الدين؟ هل يطرأ التحوُّل على كل شيء أم لا، وكيف؟ هل المتحوُّل هو المعرفة البشرية للدين، أم أنَّ الدين نفسه يخضع لتحوُّلاتٍ أيضاً؟ النظرة التاريخية للدين، واعتبار القرآن الكريم والتجربة النبوية ظاهرةً تاريخية وبشرية، ومضاعفات وملابسات هذه النظرة منهجياً ومضمونيَّاً، وهنا تُستعرض
نظريَّات أمثال "نصر حامد أبو زيد"، و "محمّد أركون"، و "عبد الكريم سروش" و...
15ـ الدين والعلم: وهذه أهمُّ مسألة في الكلام الجديد وفق نظرة الشيخ "محمد مجتهد الشبستري" (1) ؛ إذ يُتساءل هنا: هل يجب وضع المفاهيم الدينية أمام العلم كخط أحمر، ونتائجَ نهائية لا يُسمح له بتجاوزها، أم نمنح العلم حقَّ الاستقلال؟ هل نحن ملزَمون بالتوفيق بين النتائج العلمية، لا سيَّما تلك المتعلِّقة بالظواهر الكونية والخِلقة الإنسانية (ومن أبرزها نظريَّة تطوُّر الأحياء لداروين) ونظريات علم النفس والاجتماع...، وبين المفاهيم الدينية؟ وعلى تقديره، فما هو طريق التوفيق المنطقي والموضوعي؟ هل يُقدَّم أحدهما على الآخر، ما هو ولماذا؟ كيف يُجمع بين المعجزة والنظام الكوني، بين منطق التكليف العام وجبرية السلوك الإنساني على كل الصعد، أو على بعضها؟ فطرية الدين والغربة التي يعيشها المؤمن؟ هل الفارق هو في اللغة الدينية والعلمية، أم في الجوهر؟ ما هي حدود وأساليب وقوانين تطويع المتن الديني للعلم؟ هل نحن من حيث المبدأ عقلانيُّون أم نصيِّون؟... هذه الإشكالية أكثر ما تبرز صعوبتها بين العلوم الإنسانية والدين؛ إذ تتدخَّل العلوم الإنسانية كثيراً في الحقل الذي يدلي فيه الدين بدلوه، كالنفس البشرية، والمجتمع، والتربية، والاقتصاد، والأخلاق...
____________________
(1) محمد مجتهد الشبستري، مدخل إلى علم الكلام الجديد، الكتاب السادس لمجلَّة "قضايا إسلامية معاصرة"، عام 1998م، ص 51 - 58، حوار ترجمه وأعدَّه: جواد علي.
16ـ الدين والأخلاق: ما هي النظرية الأخلاقية الدينية؟ أين تقف مبادئ الحق والواجب والتكليف، والفرد والجماعة، والإلزام والنيَّة، والثواب والعقاب، وغيرها من هذه النظرية؟ هل الدين يدعم الأخلاق أم يتصادم معها؟ هل بالإمكان تصوُّر عالَم أخلاقي بلا دين؛ بحيث يكون التلازم بين مساري الدين والأخلاق تاريخياً، لا واقعياً حتميا ً، أم لا؟ ما هي الضمانات التي يُؤمِّنها الدين للأخلاق؟ ما هي نسبية الأخلاق وتأثيرها على الأخلاق الدينية؟ ما هي العلاقة بين الأخلاق والقانون؟ وبينهما وبين الدين؟ الجمال والجماليّات (ومنها: الأدب والفن) في التصوُّر الديني؟...
17ـ إنسانية الدين: هل الدين إنساني أم غير إنساني؟ أين تقف موضوعة حقوق الإنسان من الدين؟ الحرية والعدالة في الدين؟ التمايز الديني والعصبية الدينية؟ الدين ومفاهيم القومية والعرقية؟ مفهوم الأخوَّة والمساواة في الدين؟ قضية الأقليَّات؟ موضوعة المرأة وإشكاليَّاتها المعقَّدة؟ حقوق الطفل؟ حقوق العامل؟ الحقوق العامة وعلاقة مفهوم السلطة - بعد تحديده - بمفهوم الحق العام؟ نظام العقوبات الجنائية والجزائية في الدين، ولا سيَّما مسألتي الإعدام وأساليبه، والارتداد والتكييف الإنساني لهما؟...
18ـ الدين والأسطورة: العلاقة بينهما في الجوهر واللغة؟ السرُّ في نموِّ الأساطير في الساحة الدينية؟ ميِّزات الأسطورة والحقيقة الدينية؟ هل التشابه التاريخي بين الأديان والأساطير يجعلنا نصدر حكماً ما؟...
19ـ الدين والأيديولوجيا: الرابطة بين الدين والأيديولوجيا والنسبة بينهما؟ تعريف الأيديولوجيا تعريفاً واضحاً؟ موضوعة موت الأيديولوجيا وتأثيرها على الدين، وموقف الدين منها؟ النزعات البراغماتية وموقف الدين منها؟...
20ـ آفات الدين: هل للدين مساوئ؟ العصبية - التطرف الديني - التفرُّدية - الفوقية الدينية - الشخصانية - الحروب - الكبت الجنسي والفكري - الإرهاب بكل أشكاله - العنف والخشونة - وغيرها، وتحليلها تحليلاً علمياً، وتقديم إجابة وافية حولها...
21ـ الأبحاث التقليدية الكلامية: على النمط الحديث، كمسألة الروح، الجن، الشيطان، الباري تعالى، الوحي (وهو مسألة مهمَّة جداً)، المعجزة ورابطتها المنطقية الإثباتية، الملائكة، الإمامة، المهدويّة، الحسن والقبح، مسألة آدم (عليه السّلام) والخلافة الإلهية، وغيرها من المسائل العديدة...
22ـ التقليدية والحداثة في الدين: ما هي قابلية الدين لتحديث نفسه؟ ما هي أُطر هذا التطوير؟ كيف يتم إحياء الدين وتنميته؟ قراءات فاحصة ونقدية للتجارب الإحيائية للدين (جمال الدين الأفغاني - محمد عبده - عبد الرحمان الكواكبي - محمد حسين النائيني - روح الله الخميني - محمد باقر الصدر - مرتضى مطهَّري - علي شريعتي - محمد رشيد رضا - محمود شلتوت - محسن الأمين - محمد إقبال - مالك بن نبي... على المستوى الإسلامي، والبروتستانتية
بكل أشكالها على المستوى المسيحي...)، قابليَّة الدين للتكيُّف مع متغيِّرات الحياة...
وغيرها من المسائل التي لا مجال لذكرها هنا لضيق المجال، ممَّا بحثه الكلام الجديد فعلاً أو لم يبحثه حتى الآن.
ومن اللازم هنا الإشارة إلى أنَّ العناوين والموضوعات الكلامية الجديدة المتقدِّم بعضها، ذات تشعُّباتٍ عديدة، وذات قابلية للقراءة من أكثر من جانبٍ؛ فموضوعة حقوق الإنسان قضية تتَّصل بالفقه والقانون الإسلامي كما تتَّصل بالكلام الجديد. ومن هنا، فمن الضروري السعي لتحديد المحور الذي يُعنى به علم الكلام؛ حتى لا يتسبَّب ذلك في حصول حالة تسيُّبٍ منهجيةٍ واختلاطٍ موضوعي. فالمقصود - إجمالاً - من البحث الكلامي في هذه الموضوعات، هو الترسيم العام للخارطة الفكرية المتَّصلة بالبنية التحتية لهذه الموضوعات، لا البُنى الفوقية التي تتعلَّق بعضها بمسائل الفقه الإسلامي، أو بمسائل علم الأخلاق، أو التاريخ... ومن هنا تمكُن الملاحظة على ما يطرحه بعض الباحثين كموضوعاتٍ لعلم الكلام الجديد، ممَّا يتَّصل بالعلوم الدينية الأخرى بالدرجة الأولى، وكأنَّ علم الكلام الجديد اليوم مسؤولٌ عن كافَّة الموضوعات الجديدة التي تتَّصل بالفكر الديني عموماً.
حكماً شرعياً منافياً للعمل الحزبي، بحيث يُوجب حرمته، ليكون الإنسان العامل على هذا الخط مرتكباً لحرام شرعي، إلاّ في ما قد يحدث من تفاصيل؛ من الالتزام بما لا يجوز الالتزام به... فهي [الحزبية] تشبه في الدائرة العامة الالتزام بفتوى غير المجتهد أو المجتهد الفاسق... ممَّن لا يجوز تقليده، فهل يمكن أن نقول بأنَّ أسلوب الخط الفتوائي، أو خط التقليد، لا ينسجم مع الإسلام" (1) .
إلا أنَّ الواقع الإسلامي عبر التاريخ لم يخل من الأحزاب؛ بمعنى التجمُّعات ذات الطابع السياسي أو الديني أو العصبي العشائري، لكن العقل الإسلامي لم يتفتَّق عن ضوابط تحكم عملية تداول السلطة السياسية بشكل سلمي، منذ الثورة على عثمان في صدر الإسلام إلى ما يقرب من عصرنا هذا، بل وفيه أيضاً إلى حد كبير. ولولا التجربة الإسلامية الرائدة في إيران، لاستطعنا أن نُعمِّم الحكم ونطلقه، هذا رغم ما دوَّنه أصحاب الأحكام السلطانية من مقرَّرات وشروط ينعزل الإمام تلقيائياً لو افتقدها. (2)
____________________
(1) محمد حسين فضل الله، الحركة الإسلامية هموم وقضايا، ط 2، قم، إسماعيليان للطباعة والنشر، 1991م، ص 28.
(2) انظر: علي بن محمد الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ط 2، بيروت، دار الكتاب العربي، 1994م، ص 53.
استدراك حول التعدُّدية السياسية:
يمكن الإشارة إلى نوع من التعدُّدية السياسية في المجتمع الإسلامي، عَنيْتُ بذلك ما يُعرَف في التاريخ الإسلامي بأهل الذمة وما يتعلق بهم من أحكام؛ وذلك أنَّه يُوجد نموذجان من العلاقة بغير المسلمين في الاجتماع السياسي الإسلامي:
أ - الاندماج الكامل:
وهو ما يعكسه كتاب النبي (صلَّى الله عليه وآله) في المدينة، بينه وبين اليهود. هذا الكتاب الذي يُعد وثيقة سياسية كأروع ما تكون الاتفاقيات السياسية، أو فَقُلْ: هو عقد سياسي اجتماعي ينظِّم العلاقة بين أهل الأمة الواحدة، ويُؤمِّن انصهارها رغم التباينات السائدة. وينص الكتاب على أنَّ أهل المدينة، من يهودٍ ومسلمين، أمةٌ واحدة من دون الناس. وفي تعبير الأمة إشارة واضحة من النبي (صلَّى الله عليه وآله) إلى القبول بالآخر رغم عدم الرضا بدينه.
يقول الكتاب النبوي:
"بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب، ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنَّهم أمة من دون الناس..." (1)
ويعلِّق الشيخ محمد مهدي شمس الدين على هذا النص، قائلاً: "... وعلى كلا الاحتمالين تكون الأمة بالمعنى العقيدي قادرة على التشكُّل في مجتمع
____________________
(1) محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي، سيرة ابن هشام، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، 1383، ج 2، ص 348.
سياسي متنوِّع، يتكوَّن منها ومن أمة أخرى قائمة على أساس عقيدي أو عرفي آخر... وهنا نلفت النظر إلى أمر عظيم الأهمية جداً، وهو: إنَّ هذا النص... يدل على أنَّه في الفكر الإسلامي لا يُوجد تلازم بين مفاهيم: وحدة الأمة (بالمعنى العقيدي)، ووحدة المجتمع السياسي، ووحدة الدولة" (1) .
ب - الكيان السياسي المستقل:
هذا ولم تأخذ العلاقة مع أهل الأديان الأخرى شكلاً واحداً، بل تطوُّرت إلى مفهوم جديد، هو: مفهوم أهل الذمة، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً. وبغض النظر عن كثير من الالتباسات التي أحاطت بهذا المصطلح، فأخرجته عن معناه الإنساني الجميل الذي يعني نوعاً من الرعاية والإحساس بالمسؤولية تجاه الآخر؛ لجهة الحفاظ على كرامته الإنسانية أمام مَن يريد الانتقاص منها، وبغض النظر عن قبول المسيحيين اليوم لهذا النمط من التعاطي أو عدمه (2) ؛ بغض النظر عن كل هذا، أريد أن أشير إلى أنَّ عقد الذمة عندما كان يُقَر، كان يتضمَّن نوعاً من الاعتراف بالكيان السياسي لأهل الذمة المقيمين في الدولة
____________________
(1) محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي، ط 1، قم، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1994م، ص 289 و290.
(2) ينقل أحد الأصدقاء أنَّ المطران جورج خضر قال في حوار مع أحد المفكِّرين المسلمين ما مضمونه: "إنَّ هذا النموذج في التعامل السياسي جميل جداً، وفي غاية الحسن، إلاّ أنَّنا لا نرضاه - نحن النصارى - لأنفسنا مهما حاولتم تجميله وتحسين صورته".
الإسلامية (1) ، وهو ما يمكن تسميته إلى حد ما بالحكم الذاتي باصطلاح الفكر السياسي المعاصر.
التعدُّدية الدينية:
لا يتَّفق دعاة التعدُّدية الدينية على مدلول محدَّد لدعوتهم، وإنَّما تختلف هذه الدعاوى باختلاف أصحابها. وسوف نعرض لبعض هذه المدَّعيات في محاولة للبحث عن مرتكزاتها ومنطلقاتها الفكرية والمعرفية.
1 - النظرية الأولى: الحوار بين الأديان (2)
وتهدف هذه المقولة إلى إثبات ضرورة قيام حوار فعلي بين الأديان المختلفة، وتَقبُّل كل منها الآخر؛ للوصول إلى أسس مشتركة، وترك موارد الاختلاف جانباً.
ويكثر دُعاة هذه النظرية في البلاد التي يُوجد فيها أديان متعدِّدة، أو مذاهب متعدِّدة من دين واحد. والنموذج الأبرز لموطن هذه الدعوة لبنان، إلى حد قيل: "إنَّ اللبنانيين يتحدَّثون عن الحوار أكثر ممَّا
____________________
(1) إنَّ عقد الذمة يكتسب مشروعيته القانونية من رضا أهل الذمة أنفسهم به، فهو عقد كسائر العقود التي يلزم الإنسان نفسه بها. وشروط الالتزام يُحدِّدها التوافق بين المتعاقدين، فربَّما تغيَّرت من زمن لآخر. لمزيد من التفاصيل حول كيفية عقد الذمة وشروطه، انظر: محمد بن الحسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ط 1، بيروت، دار المؤرَّخ العربي، 1992م، ج 7، ص[؟].
(2) انظر: عبد الحسين خسروبناه، كلام جديد، ط 1، قم، مركز مطالعات وپژوهشهاى فرهنگى حوزه علميه، 1379هـ.ش، ص 170.
يتحاورون!". ولا داعي للحديث عن فوائد الحوار في تخفيف حالة التوتر وتقريب وجهات النظر، أو خلق حالة من تَقبُّل الآخر، أو تفهُّمه إنْ
لم يُقبَل. وتنطلق هذه الدعوة من منابت متعدِّدة أهمُّها:
المنبت الاجتماعي:
تهدف هذه النظرية - كما يبدو منها - إلى حل مشكلة التنوُّع الديني في الواقع الاجتماعي، وما ينجم عن ذلك من توتُّر يحكم العلاقة بين أتباع الأديان المتعايشين - ولو كرهاً - في بلد واحد. ولا يُؤثِّر الكم في حل هذه المشكلة، فهي تبقى قائمة، سواء بلغ هذا التنوُّع درجة التساوي العددي أم كان هناك فئة تُمثِّل أقليَّة ضمن أكثرية. ومن هنا، عبَّر بعض المفكِّرين عن هذا التنوُّع بالمشكلة: "لم تُطرح مسألة الأقليات في أيِّة حقبة من حقب التاريخ العربي - الإسلامي بالحدة وبالخطورة التي تُطرح بهما اليوم" (1) .
وأُعلِّق هنا لأقول: إنَّ الإسلام قد اعترف بهذه المشكلة وعمل على حلها بطريقة تضمن للأقليِّات "المغلوبة" كثيراً من حقوقها، عِبر تشريعات
رائدة (2) ، وتوصيات قانونية ملزِمة بالتسامح مع أهل الأديان الأخرى ومراعاتهم: (ولا
____________________
(1) برهان غليون، المسألة الطائفية ومشكلة الأقليَّات، ط 1، بيروت، دار الطليعة، 1979م، ص 5.
(2) تقدَّمت الإشارة قبل قليل إلى فكرة أهل الذمة، ولا يُصرُّ المسلمون على هذا الحل، فربَّما يُعد عند بعضهم حلَّاً تاريخياً، يناسب فترة زمنية محدَّدة ولا يناسب أخرى. ومن هنا، لا نجد أثراً لهذه الصيغة القانونية في التجربة الإسلامية الإيرانية. انظر: دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، المادة التاسعة عشرة، والمادة الثالثة والعشرون.
تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً، تغتنم أُكلهم؛ فإنَّهم صنفان، إمَّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) (1) .
وحول الدعوة القرآنية إلى حوار الأديان يمكن الإشارة إلى قوله تعالى:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (2) .
وأعلى درجة من درجات الاحترام للآخر نجدها عند الإسلام؛ حيث ضمَّنت تشريعاته المساواة أمام القانون بين جميع الرعايا، من أيِّ دين كانوا وإلى أيِّ ملَّة انتموا، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، عن رجل قتل رجلاً من أهل الذمة، فقال: "هذا حديث لا يحتمله الناس، ولكن يعطي الذمي دية المسلم، ثم يُقتَل به المسلم" (3) .
وقد ضمن لهم الإسلام حقوقهم وحرَّم الاعتداء عليهم، كما حرَّم الاعتداء على غيرهم من المواطنين في الدولة الإسلامية، ففي رسالة الحقوق المروية عن
____________________
(1) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، من عهده إلى مالك الأشتر واليه على مصر، ج 3، ص 84.
(2) آل عمران: 64.
(3) الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ط 1، قم، مؤسَّسة آل البيت لإحياء التراث، ج 29، ص 108.
الإمام زين العابدين (عليه السلام): (وحق الذمة أن تقبل منهم ما قبل الله (عزَّ وجلَّ)، ولا تظلمهم ما وفوا الله بعهدهم) (1) .
وقد تحرَّج أصحاب الأئمة من التصرف في أموالهم التي يبيحونها لهم تحت ضغط السلطان الجائر، فها هو أحدهم يسأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قرية لأناس من أهل الذمة، لا أدري أصِلُها لهم أم لا، غير أنَّها في أيديهم وعليها خراج، فاعتدى عليهم السلطان، فطلبوا إليَّ، فأعطوني أرضهم وقريتهم على أن يكفيهم السلطان بما قلَّ أو كثر، ففضُل لي بعد ذلك فضل، بعد ما قبض السلطان ما قبض؟
فقال: (لا بأس بذلك، لك ما كان من فضل) (2) .
تكشف هذه الرواية عن دقة أصحاب الأئمة في التعامل مع أموال أهل الذمة، فأهل الذمة هم الذين أباحوا أموالهم وقريتهم، ولا يُعلَم إنْ كان أصلها لهم أم لا، ومع ذلك يتردَّد السائل في أخذ ما بقي من الأموال.
ولا يخفى ما بين هذا النص وما يدل من سماحة في التعاطي مع أهل الذمة وبين بعض فتاوى بعض الفقهاء من السنة والشيعة (3) التي تعكس تشدُّداً في التعاطي معهم؛ ولعل هذا التفاوت يعود إلى الأعراف السياسية التي سادت في المجتمعات الإسلامية، عبر عصور متلاحقة.
وعلى أية حال، يحتاج هذا الموضوع إلى بحث آخر ليس هنا محلُّه.
____________________
(1) المصدر نفسه، ج 15، ص 179.
(2) المصدر نفسه، ج 19، ص 58.
(3) من فقهاء الشيعة لاحظ: محمد بن الحسن الطوسي، المبسوط، ج 3، ص 44. ومن أهل السنة لاحظ: ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 74.
ولعل من المناسب الإشارة إلى شهادتين حول التسامح الإسلامي مع أهل الأديان الأخرى، قبل أن أنتقل إلى بيان النظرية الثانية للتعدُّدية:
أ - يقول "لامارتين"، الشاعر والمستشرق الفرنسي المعروف: "إنَّهم [المسلمين] الشعب الأكثر تسامحاً على الأرض، وهو الأكثر تقديراً واحتراماً للعبادة والصلاة مهما تنوَّعت اللغات والطقوس؛ ذاك أنَّه لا يكره بالعمق سوى الإلحاد، وهو يعتبره... انحطاطاً للفكر الإنساني وازدراء للبشرية قبل أن يكون إهانة لله" (1) .
ب - ويقول صموئيل أتينجر: "اتسمت علاقات اليهود بالمجتمع المحيط بهم طيلة الفترة الواقعة بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر بقدر كبير من الاستقرار، وكانت أماكن العمل طيلة هذه الفترة تجمع اليهود بإخوانهم من المسيحيين والمسلمين، وكان أبناء هذه الطوائف يلتقون معاً آنذاك خارج العمل أيضاً" (2) .
____________________
(1) لامارتين، نقلاً عن: جان جبور، النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي، ط 1، بيروت، دار النهار، 2001، ص 264.
(2) صموئيل آتينجر، اليهود في البلدان الإسلامية، سلسلة عالم المعرفة، الرقم 197، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1995، ص 208.
2 - النظرية الثانية: حقانية الأديان كلِّها
وهذه النظرية من أشدِّ الاتجاهات تطرُّفاً بين دعاة التعدُّدية، ويُقصد بها الدعوة إلى التعدُّد، وعدم التعلُّق بدين واحد وحصر الحق به دون غيره من الأديان. وقد ذهب هذا المذهب بعض الفلاسفة والعرفاء المسلمين؛ حيث يُنقل عن ابن عربي قوله:
لَقَد كُنتُ قَبلَ اليَومِ أنكِرُ صاحِبي إِذا لَم يَكُن ديني إِلى دينِهِ داني
وَقَد صارَ قَلبي قابِلاً كُلَّ صورَةٍ فَمَرعَى لِغزِلانٍ وَدَيرٌ لِرُهبان
وَبَيْتُ أَوثانٍ وَكَعبَةُ طَائِفِ تَوراةٍ وَمُصحَفُ قرآن
أَدينُ بِدينِ الحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهَت رَكائِبُهُ فَالحُبُّ ديني وَإِيماني (1)
وتنطلق هذه الدعوة من منطلقات معرفية ودينية عدَّة، أشير إلى أهمِّها:
المنطلق المعرفي أو نسبية المعرفة:
بدأ الاشتغال الفلسفي على المعرفة الإنسانية لجهة البحث عن مصادرها وكيفية تكوُّنها وغير ذلك من المباحث المشابهة، في العصر الحديث من عصور الفلسفة الأوروبية، حتى قيل: إنَّ الفلسفة في العصر الحديث تحوَّلت إلى بحث عن نظرية المعرفة: "أمَّا الفلسفة الحديثة، فقد اتجهت إلى البحث في المعرفة، واهتمَّت بدراسة طبيعتها؛ للوقوف على حقيقة العلاقة التي تربط بين
____________________
(1) ابن عربي، نقلاً عن: سعاد الحكيم، مجلَّة الحياة الطِّـيِّبة، ع 9، ص 200.
فقد اعترفت هذه الآية لغير المسلمين بأديانهم، وأقرَّت لهم بعدم الخوف والحزن، وهذه هي دعوى التعدُّدية لا أكثر؛ حيث إنَّ المراد من التعدُّدية هو الاعتراف بأكثر من دين كوسيلة للتعبُّد، والوصول بالتالي إلى النجاة.
هذا ولم أجد أحداً من المفسِّرين فهم من هذه الآية أنَّ الله يقبل من المكلَّّف أيَّ دين يدين به. ولا أريد أن أقول: إنَّ ما فهمه المفسرون حجَّة، لا تجوز مخالفته. إنَّما أزعم أنَّ فهم أيَّ جزءٍ من كتاب، سواء أكان قرآنا أم غيره، لابد أن يتمَّ على أساس السياق العام الذي ورد فيه. ومن هنا، عندما نراجع القرآن، نجد إلى جنب هذه الآية عدداً كبيراً من الآيات تُؤكِّد أنَّ الدين واحد، وهو الإسلام، منها قوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) (1) .
وإذا فهمنا من هذه الآية الإسلام بالمعنى اللغوي، فإنَّنا نجد الكثير من الآيات التي تدعو إلى اتباع النبي محمد (صلَّى الله عليه وآله)، ولا تجوِّز اتباع غيره، كقوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (2) .
____________________
(1) آل عمران: 85. وسوف يأتي لاحقاً المراد من الإسلام في هذه الآية.
(2) النساء: 65.
ب - قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) (1) ، وكذلك قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (2) .
وقد استدلَّ جمع من علماء الأصول (أصول الفقه) بهاتين الآيتين على عدم مسؤولية المكلَّف تجاه التكليف الذي لم يصله بأيِّ نحوٍ من أنحاء الوصول؛ وهذا ما يسمُّونه أصل البراءة في المصطلح الأصولي (3) .
وهذه الآيات لا يمكن استفادة التعدُّدية بهذا المعنى منها، بل هي دالة - عند مَن يرتضي دلالتها - على عدم المسؤولية في حالة الجهل وعدم وصول الرسول - عقلاً كان هذا الرسول أم شرعاً ووحياً - أي هي تدل على تعدُّد سُبُل النجاة.
ج - قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (والله، لو ثنيت لي الوسادة، لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم...) (4) .
وهذه الرواية تكشف عن الإمضاء لشريعة غير المسلمين، وإلاّ كيف يحكم الإمام بشريعة باطلة منسوخة؟ ولكن ربَّما يُعترض على الاستدلال بهذه الرواية بأنَّ الإمام في مقام الاحتجاج وإثبات معرفته الواسعة بالشرائع السابقة، لا
____________________
(1) الطلاق: 7.
(2) الإسراء: 15.
(3) محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، م.س، ص 13. قارن بمناقشة الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، م.س، ص 93. وقارن كذلك بـ: ابن حزم، الأحكام، تحقيق: أحمد شاكر، مطبعة العاصمة، ج 1، ص 94.
(4) المحمودي، نهج السعادة، ج 3، ص 431.