علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد
0%
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: الصفحات: 240
المشاهدات: 31453
تحميل: 13954
توضيحات:
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240
مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
الثنائية في المرحليتن الزمنيتين القديمة والجديدة؟ هذه هي محورية المسألة، وليس أنَّ كل تطوُّرٍ يُبرَّر التسمية الحديثة المنبثقة عن واقعٍ علمي جديدٍ، ولا أنَّه لا مبرِّر لهذه التسمية حتى لو حصلت تطوُّراتٌ جذريةٌ تفرض قطيعةً كاملةً بين القديم والجديد.
لكن في تقديري، وإذا أردنا أن نخرج من هذه الجدالية وقمنا بقراءة التسمية من جهة أخرى، وهي الجهة التي تُلاحظ فيها أوّلاً ، التداعيات اللاشعورية للتسمية في الوعي العام، أو الخاص، ثانياً، التناسب المنطقي بين المقترح والاستجابات الواقعية الحاصلة له، فإنَّنا سوف نميل إلى التنازل عن هذه التسمية؛ وأمامنا مبرِّران - أحدهما يعالج التسمية نفسها، وثانيهما المسمَّى - وهما:
المبرِّر الأول: إنَّ القطيعة التي تُحدثها هذه التسمية بين الماضي والحاضر، قد صارت في الوعي العام ذات طابعٍ إلغائي، غير محايدٍ إطلاقاً، وهذا ما قد يجعلنا نخسر على المدى البعيد فرص استثارة الجهود السابقة على مستوى الاتجاهات كافّة، والتي لم تصل، في تقديري، إلى الدرجة التي يُسمح لنا فيها بالتعامل بفوقيّةٍ معها. والشيء الملاحظ، أحياناً، هو أنَّ بعض الباحثين المهتمِّين بدراسات علم الكلام الجديد - وكما تحكيه نتاجاتهم - لم تحضر في نتاجاته أيَّة نماذج من علم الكلام القديم، مع أنَّ بعض الموضوعات كان لعلم الكلام القديم فيها تحليلاتٌ ودراساتٌ معمَّقةٌ وموسَّعةٌ، لا يمكن التغاضي عنها بهذه
البساطة، وهذا ما يُؤكِّد القلق المنطقي من الإغراق في التسمية الجديدة؛ بحيث يُحدِث هذا الأمر نوعاً من فقدان الامتداد التاريخي للعلم نفسه.
نعم، إنَّ التسمية الجديدة المقترحة قد يكون فيها شيءٌ من التحفيز على ملاحقة الأبحاث الجديدة والاهتمام بها، وهو أمر قد يدفع إلى الحثِّ على خطواتٍ من هذا القبيل كما يراه "اسفندياري" (1) لكنَّ المشكلة هي في أنَّ التسمية والمصطلح إنَّما يُعبِّران عادةً عن مفهومٍ، أو مقولةٍ متقدِّمة، لم تستطع المصطلحات المتداولة الاستجابة لها، والتعبير عنها بخصائصها الجديدة. وعلم الكلام الجديد وإنْ عبَّر عن هذا المضمون من خلال إيحائه بالنظريات والمتابعات الحديثة، إلاّ أنَّ قطيعته مع الماضي أو القلق من هذه القطيعة المحتملة جداً، يجعل في تبنيه شيئاً من المخاطرة غير الضرورية، لا سيَّما وأنَّ هناك إمكانية للاستعاضة عنه بمصطلحٍ آخر أكثر جامعيةً وشموليةً.
المبرِّر الثاني: إنَّ المشروع المقترح على الرغم من عظمته، إلاّ أنَّه حتى الآن، وبالمقدار الذي أنجز منه، لا تبدو فيه مُقوِّمات الانفصال والتفرُّد. نعم، هو بصيغته المقترحة، يوجد فيه ذلك، لكن التسمية يجب أن تحاكي الواقع، لا الأمل؛ لأنَّ عدم محاكاة المصطلح والتسمية للواقع الحاصل، أو لمعطياتٍ تجعل من تشكُّل هذا الواقع أمراً ميسوراً، يحدث فراغاً داخل المنظومة المعرفية، ما يتسبَّب في حدوث مشكلاتٍ عديدةٍ. ومن هنا تنشأ العلوم الجديدة في الغرب
____________________
(1) مجلَّة " نقد ونظر"، ع 2، ص 214.
عندما تصل مجموعةٌ من الدراسات إلى مرحلةٍ من التضخُّم الحقيقي، تضطُّر العلماء إلى فرزها في علمٍ جديدٍ يكون أكثر قدرةً على استيعابها والتركيز عليها.
وأظن أنَّ ما ذكرناه يُبرِّر لنا تحييد هذه التسمية، أو لا أقل عدم الإصرار عليها والحفاظ على التسمية القديمة، أو استبدالها بتسميةٍ أخرى تحكي عن هذا العلم أيضاً على طول الخط، من دون اشتمالها على آثار سلبية كالتي ذكرناها. فإنَّ أساس تسمية العلم المتعلِّق بالعقائد الدينية، بأنَّه علم كلام مهما كانت أسبابه التاريخية والتي وقع جدلٌ طويلٌ معروفٌ فيها، هي تسميةٌ غير متناسبةٍ وغير حاكيةٍ عن مسمَّاها، فسواءٌ سُمِّي الكلام بالكلام لأجل قضية الكلام الإلهي، أو لكثرة الكلام فيه، أو لطبيعة عنونة المسائل قديماً فيه، أو غير ذلك، فلا ضرورة تقتضي الاحتفاظ بهذه التسمية ما دمنا نرى أنَّها لا تعكس لنا المضمون بقيمته ومستواه وأهمِّيته. وهذا ما يجعل من علم أصول الدين، أو علم العقيدة الدينية، أو علم النظريَّات العقديَّة - سواءٌ قبلنا هذه التسمية كجوابٍ نهائي أو لا - أنسبَ من التسمية بعلم الكلام، أو علم الذات والصفات، أو الفقه الأكبر، أو حتّى علم التوحيد وغيره - نظراً لافتقارها إلى عنصر الشمولية لكافَّة الموضوعات المستبطَنة فيه تارةً، أو لعدم تناسب المصطلح مع تسمية علمٍ من العلوم النظرية الفكريّة كتسمية "علم الكلام" التي تتناسب مع علم اللغة أكثر من العقيدة - وأكثرَ جامعيةً وقدرةً على
الاستيعاب؛ لِمَا يزيل الثنائية المفترضة حتّى إشعارٍ آخر، تتبدَّل فيه الواقعيات في هذا العلم، لا المقترحات.
ضرورة قراءة التجربة الكلامية القديمة:
في إطار هندسةٍ للكلام الجديد سالمةٍ إلى حد كبيرٍ، من الضروري الأخذ بعين الاعتبار تجربة الكلام القديم، وقراءتها قراءةً موضوعيةً فاحصةً؛ لتحديد عناصر القوة والضعف قدر الإمكان، بغية المحافظة على عناصر القوَّة وتفعيلها، وتفادي المشكلات والآثار الناجمة عن عناصر الضعف، وهذا بحثٌ - بطبعه اللائق به - طويلٌ، لكن نشير هنا إلى نماذج.
عناصر القوَّة:
ونذكر - على سبيل المثال لا الحصر - نماذج أربعة هي:
أ - الدقَّة والشموليّة التي قد يصحُّ التعبير عنها باللامتناهية في معالجة الأفكار . فالمتكلِّم القديم عندما يشتغل بمسألةٍ كلاميةٍ، نراه يتفحَّصها تفحصاً دقيقاً، ويعالجها معالجةً فاحصةً، والتراث الكلامي المدوَّن شاهدٌ ناطقٌ على حجم الجهود التي بذلها المتكلِّمون في دراساتهم المدوَّنة. إنَّ في نفس المصنَّفات الكلامية، أو في علم الأصول (1) وطريقة "إنْ قلتَ"، واحدةٌ من أبرز الطرق الشاهدة على هذا الأمر.
____________________
(1) لا بأس بالإشارة إلى أنَّ جملةً من دراسات علم الكلام، قد توزَّعت في الفترة الأخيرة بين علم أصول الفقه الإسلامي وعلم الفلسفة، ولا سيَّما الفلسفة المتعالية؛ فالإلهيَّات بالمعنى الأخص في علم
أمَّا علم الكلام الجديد، فقد تشوبه سرعة الحكم، وعدم الدقَّة وعدم الشمولية؛ فهو بحاجةٍ اليوم إلى عدم استعجال النتائج لكلّ الأمور، وعدم حرق المراحل الطبيعية.
وفي هذا السياق، أيضاً، يُلاحظ أنَّ بعض الدراسات الكلامية الجديدة مبتلاة بعدم الدقة والشمولية في النطاق اللغوي والاصطلاحي؛ فاللغة المتداولة لغةٌ مشوبةٌ، أحياناً، بالتشويش وعدم الشفافية وفتح الباب للاحتمالات العديدة، في حين صارت جامعيّة ومتانة اللغة ضرورة لإيجاد نمو صحيحٍ وتصاعدي لأيّ علم.
ب - المواكبة الدائمة للمستجدَّات الفكرية في المجتمع الإسلامي . وهذه ميزةٌ مهمةٌ في علم الكلام (1) ، فلا تكاد تسمع بطرح، أو كتاب، أو نقد، أو نظرية صدرت وتناقلتها الألسن في المحافل العلمية، حتى ينبري المتكلِّمون لتقييمها والردِّ عليها، أو تأييدها، وعلى كلّ حالٍ لإبداء رأيٍ فيها. وهذا امتيازٌ يطالب الكلام الجديد، اليوم، بإعادة تمثُّله وبصورةٍ أفضل. فدراسات كثيرة، مضى عليها اليوم قرن أو قرون، تُصنَّف لدى البعض بالحديثة جداً، أو الأحدث، وكأنَّها آخر ما تمخَّض عنه العقل البشري، في حين أنَّه - ومع ضرورة قراءتها بعمقٍ وجدّيةٍ، وخصوصاً الدراسات التأسيسية الغربية وغير الغربية -
____________________
الفلسفة من المسائل التي تعني المتكلِّم بالدرجة الأولى. أمَّا علم الأصول، فقد حدثت فيه اختلاطاتٌ موضوعيةٌ مضمونيةٌ، نُقلت على أثرها مجموعةٌ من مسائل علم الكلام إلى الأصول؛ بحيث إنَّ البحث المعمَّق حولها صار يراجعه الباحث في الأصول أكثر من الكتب الكلامية، وهذه مشكلةٌ حقيقيةٌ لها أسبابها الخاصّة التي لا مجال للبحث عنها الآن.
(1) أشار إليها سماحة السيد علي الخامنئي (حفظه الله تعالى) في خطابه للحوزة العلمية، يُراجع مجلَّة: "الفكر الإسلامي"، ع 16، ص 209.
فإنَّه لابد من التوجُّه إلى الدراسات الواسعة المعاصرة، ولا سيَّما في العقود الثلاثة الأخيرة على مستوى الساحة العربية والإيرانية والغربية، وبالأخص ما ظهر عقيب انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز ظاهرة الأحاديّة القطبية.
ج - اتسم علم الكلام بإجاباته الحاسمة والمطمئِنَّة في تلك الآونة ليس لميزةٍ خاصةٍ به، بل لأنَّ العقل البشري قبل عصر النهضة كان كذلك. أمَّا اليوم، فإنَّ علم الكلام الجديد يُخشى عليه من النزعة التشكيكية الشاملة والمدمِّرة، وهذا يفقده دوره الحضاري في إشاعة الطمأنينة والاستقرار في نفوس المناصرين للاتجاهات الكلامية.
لا نريد العودة إلى عصر اليقين هذا؛ إذ يبدو من الصعب تحقيق ذلك، لكن علم الكلام اليوم مطالبٌ - وبالتعاون مع بقية العلوم، ولا سيَّما الفلسفة وعلوم الدين الأخرى - بالتفكير في حل لمشكلة الاضطراب والتذبذب النفسي، ولو بإجراء تعديلاتٍ على مفهوم اليقين العلمي، وإلا فإنَّ بقاء هذه الحالة سوف يساهم في إعاقة عملية التطوُّر الحضاري، وبخاصة القائمة والمعتمدة على الدين.
د - خصوصية الأصالة التي تمتَّع بها علم الكلام القديم لأسبابٍ عديدةٍ، فعلم الكلام هو من العلوم الإسلاميّة الأصيلة؛ لأنَّه ولد قبل عصر الترجمة، أي أنَّه لم يكن متأثِّراً في انطلاقته بالثقافة والفلسفة اليونانية ، بل إنَّ التاريخ الكلامي يُؤكِّد أنَّ هذا العلم قد وقف موقفاً حذراً إلى حدٍ بعيدٍ من التوجُّهات الفلسفية التي استقت أُسسها ومنطلقاتها وبناها التحتية من الفكر
اليوناني بالخصوص، وهو ما سبَّب - أو كان على الأقل أحد أسباب - الخلاف الفلسفي الكلامي في التاريخ الإسلامي، ولا سيَّما القرون الخمسة الأولى.
ولا يعني ذلك أنَّ علم الكلام لم يتأثَّر بالأفكار الواردة على العالم الإسلامي من شرق الأرض وغربها، وأنَّ كل ما كان عنده هو وليد مقولاتٍ وتصوُّراتٍ داخليةٍ لم تتلاقح مع أيِّ واردٍ خارجي، بل كانت في قمَّة القطيعة معه؛ و إنَّما المقصود هو أنَّ الطابع الذي حكم هذا العلم، ولا سيَّما في انطلاقته التي تعود إلى بدايات نشوء فرقة الخوارج في الإسلام، هو طابع الأصالة ، وبالتالي فكانت المزاوجة بينه وبين أيِّ فكرٍ خارجي، مزاوجةً إيجابيةً ومن الدرجة الثانية.
إنَّ المطلوب من الكلام الجديد اليوم هو التماهي مع هذا النمط الكلامي القديم؛ أي الانطلاق في التفكير بصورةٍ أصيلةٍ غير مثقلةٍ بالحمولات الأخرى، من دون أن يعني ذلك سدَّ باب التفاعل الطبيعي بين العلوم كلِّها، بما فيها علم الكلام، الأمر الذي يستدعي أن يقوم هذا العلم بإنشاء علاقةٍ وطيدةٍ مع العلوم الأخرى، وخصوصاً تلك التي تلتقي معه في طبيعة التخصُّص ومنهجه، كعلم الفلسفة وغيره، سواءٌ كانت هذه العلوم ذات نتاجٍ داخلي حضاري أو نتاجٍ خارجي من هذه الناحية.
إلاّ أنَّ المشكلة الحقيقية هنا تكمن في الأسباب المولِّدة لأصالة علم الكلام، وأبرز هذه الأسباب على ما يبدو، هو أنَّ المتكلِّم القديم كان يُفكِّر من موقع الفعل والصنع والإبداع؛ لأنَّه كان منتصراً من الناحية السياسية والعسكرية،
بل والأهم من ذلك من الناحية الحضارية. ولذلك، فلم يكن في تفكيره ملاحَقاً، لا زماناً ولا واقعاً؛ أي لم يكن هناك ما يفرض عليه العجلة في التوصُّل إلى نتائجه، أو يفرض عليه - لضرورات الواقع - إنتاج فكرٍ معينٍ، إلا إذا كان هناك سوء علاقةٍ معينةٍ بين المثقَّف والسلطة الحاكمة. وهذا الارتياح النفسي يُساهم، قبل كل شيء، في تجويد الإنتاج وتحسين الأداء، والأهم من ذلك في خلق المفاهيم والمقولات والمصطلحات كما يراه حسن
حنفي (1) .
أمَّا الكلام الجديد، فهو يعيش في إشكاليّةٍ غايةً في التعقيد على هذا المستوى؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنَّ المتكلِّم الإسلامي لم يشارك في صنع الحداثة، ولم يخلق مفاهيمها ومقولاتها، ومن هنا تورَّط في استيرادٍ متواصلٍ للمفاهيم والمصطلحات، وأرهق نفسه في تتبُّعها في عملية شرحٍ وتفسيرٍ، وتبيئةٍ وتوظيفٍ لِمَا ينتجه الغربي بقطع النظر عن مدى الصوابية في هذا الإنتاج.
لم - وربَّما لن - يستطع المتكلِّم الجديد اليوم أن يلحق بالركب السريع الخطى لماكينة المفاهيم والمصطلحات الغربية؛ ولهذا، فإنَّ عقبته سوف تكون، حضارياً، في استغراقه في ردِّ الفعل، وفي استخدامه ما صنعه الآخر، وبالتالي فلن يتمكَّن من تمثُّل الأصالة والذات بهذه السهولة، أو تحقيق العلاقة الطبيعية والصحيّة بينه وبين العلوم الأخرى، حتى تلك الواردة من الغرب.
____________________
(1) حسن حنفي، مجلَّة "قضايا إسلامية معاصرة"، ع 14، الاتجاهات الجديدة في علم الكلام، ص 17.
إنَّ هذه المعادلة المعقَّدة في الواقع العملي، تُؤكِّد على ارتباط علم الكلام بالواقع السياسي للأمّة التي يُمثِّلها هذا العلم كما يطرحه الدكتور حنفي (1) ، لكن ذلك لا يعني بالضرورة عدم قدرة هذا العلم على تخطِّي ولو بعض مشكلات هذه الغربة والازدواجية والانفصام، ولعل أوَّل ما يحتاجه المتكلِّم على الصعيد النفسي، هو الإحساس بالثقة وتبديد عوامل اليأس والإحباط، وهو أمرٌ تلعب التربية الاجتماعية أثراً بالغاً فيه.
عناصر الضعف:
ويمكن كنماذج ذكر ما يلي:
أ - النزعة التجريدية التي عاش الكلام القديم ردحاً طويلاً في مداراتها، هو وبقية أفراد أسرة المعرفة الدينية، من الفلسفة حتى الفقه والأخلاق؛ فأدَّى ذلك إلى انشغال الباحثين بأمور ومسائل، لا ترجع بالفائدة المتناسبة مع حجم الجهود المبذولة. كما وأدَّى إلى تولُّد عقلٍ فرضي يحاكي الصور والاحتمالات من دون أن يلحظها، أو يلحظ انعكاساتها في أفق الواقع، ما أحدث عزلةً نسبيةً للعقل الكلامي. ومن هنا، فإنَّ الكلام الجديد مطالبٌ بمتابعة الرؤى والأفكار، آخذاً بعين الاعتبار، أيضاً، التأثيرات الميدانية لمادَّة البحث ونتائجه، وهذا ما يستدعي إعادة فرزِ وترتيبٍ للموضوعات الكلامية، مع الأخذ بالنظر هذا الجانب كذلك.
____________________
(1) المصدر نفسه.
من المعروف أنَّه، ونتيجةً لتأثيرات المنطق الأرسطي، فقد جُعلت استقامة الفكر منفصلةً عن الواقع الخارجي العملي؛ لأنَّ هذا المنطق يرى أنَّ سلامة العمليات الاكتشافية العقلية تكمن في قدرتها على وضع القضايا والمعلومات في مكانها الذهني الصحيح، للمساهمة في ضمان صحَّة التوصُّل إلى النتيجة، وهذا يعني أنَّ الهدف الذي يتوخَّاه العقل الأرسطي هو الوصول العقلي إلى نتيجةٍ سليمةٍ ذهنياً، من دون النظر إلى التردُّدات العملية لهذه النتيجة (1) .
لكنَّه من المناسب هنا الإشارة إلى عدم الإفراط في ملاحقة هذه النزعة وإقصائها، إلى الحد الذي يفقدنا قيمة أبحاث وموضوعات قيِّمة، فالعملانية ضرورة غير نهائية . والسبب في إثارة هذه القضية هو أنَّ هناك نزعةً ملحوظةً سرت في الفترة الأخيرة في الأوساط الفكرية والثقافية الدينية، وتُعبِّر هذه النزعة عن حالةٍ من النقد الشديد للدراسات النظرية في الفكر الديني، والتي لا توجد تردُّداتٌ عمليةٌ لها، الأمر الذي يبرز واضحاً في علم أصول الفقه، وهذه النزعة يمكن الموافقة عليها والدفاع عنها للخلاص من الجهود الاستنزافية التي غرقت بها الدراسات الدينية في كثير من الأحيان. إلاّ أنَّ المشكلة هنا هي في ظاهرة تخطِّي هذه النزعة للحدود المنطقية، وتحوُّلها، أحياناً، إلى ظاهرة رفضٍ، فيه شيءٌ من الإطلاقية، وشعورٌ بحالةٍ من التأزُّم، وهو ما يُؤدِّي إلى ضياع الكثير من الجهود، وقطع مسار تواصلها وديمومتها.
ولعلَّ هناك مَن يتحدَّث
____________________
(1) راجع: عبد الجبار الرفاعي، ومحمد مجتهد الشبستري، مصادر سابقة.
اليوم عن علم أصول فقهٍ مصغّرٍ جداً، قد تُؤدِّي الموافقة عليه إلى شيءٍ من فقدان الدراسات التأسيسيّة الهامة، كما لعل هناك مَن يستبعد الكثير من الأفكار الاعتقاديّة الهامة لمجرَّد تحسُّسه أهميّة موضوعاتٍ أخرى في الفترة الراهنة تحسُّساً يمكن الوقوف معه غالباً، وهو ما يدعونا إلى التمييز بين لغْويّة بحثٍ ما من حيث المبدأ وزيادة أهمية بحثَ آخر عليه في فترةٍ معينةٍ.
ب - النزعة اليقينية (وهنا نقرأها من جانبٍ آخر غير ما تقدَّم) حيث ساهم المنطق الأرسطي - وغيره أيضاً - فيها، فإنَّه وِفق تصوُّره لليقين ووسائل الإثبات ساهم - كذلك - في تكوين عقلٍ دوغمائي جزمي، ينفي الآخر بمجرد إثبات ذاته، نفياً غير قابلٍ لاحتمال الخلاف. وهذه النزعة الدوغمائية المُشبَعة بشيءٍ من النرجسية أشبعت علم الكلام القديم بشكلٍ واضحٍ يُلاحظ بأدنى مراجعة للمتون الكلامية، ولا سيَّما تلك التي هي ذات طابعٍ مذهبي خالصٍ.
هذه النزعة قد لا يُوافق البعض على إجراء تعديلاتٍ فيها، غير أنَّ ذلك - في تقديري - صار لازماً عملياً لعلم الكلام الجديد؛ باستبدال العقل الدوغمائي بعقلٍ تعدُّدي احتمالي مُنفتح، يُوسِّع من هامش التنقُّل العلمي والمعرفي، ويُضيِّق من ضغوط اللاَّوعي.
ج - النزعة المذهبية التي اصطبغ بها الكلام القديم حتى صارت السمة الغالبة عليه. وهذا الاصطباغ مع ما فيه من حسناتٍ، إلاّ أنَّه حدَّ من حركة هذا العلم؛ لأنَّه أحاطه بجداليَّة لا متناهية في موضوعاتٍ محدودةٍ، وحكم عليه بأطرٍ محدَّدةٍ غير قابلة للتجاوز، تمَّ تلقِّيها على أنَّها خطوط حمراء، ومقدَّسات
غير قابلةٍ للبحث وإعادة النظر - بقطع النظر عن صحَّتها أو فسادها من حيث هي - ولا حاجة لكثير كلام - في ما أعتقد، ولا سيَّما في واقعنا الراهن - على سلبيات هذه النزعة، التي صار من الضروري استبدالها بعقلٍ منبسطٍ. فإنَّ واحدةً من آثار هذه النزعة وأشباهها، هو اعتماد المتكلِّمين على المنطق الجدلي؛ وهو منطق يتَّكئ بالدرجة الأولى على القضايا المشهورة والمسلَّمة، ويستهدف صرع الآخر أكثر من كشف حقيقةٍ، أو حلّ مشكلةٍ، في حين يحتاج الكلام اليوم إلى ركائز علمية، قبلها فلان أو لم يقبلها؛ لأنَّ هذا ما يحل المشكلة أو يُنير الطريق.
د - لعلَّه ولأسباب تاريخية، لم تُعط دراساتُ مقارنة الأديان حقَّها في الكلام القديم . أمَّا اليوم - ولا سيَّما بعد صيرورة العالم بحكم قريةٍ كونيةٍ واحدةٍ، واحتكاك المسلمين والمسيحيين واليهود على أكثر من صعيدٍ - فقد صار علم الكلام المقارن ضرورةً ملحَّةً، حتى يقوم الحوار بين الأديان على قواعد علمية تختزل الوقت وتغتنم الفرص؛ ولهذا لابد أن يُركَّز الكلام الجديد على مقارنة الأديان، وأن لا يقتصر على مقارنة المذاهب كما هو الحاصل فعلاً.
هـ - إنَّ تاريخ علم الكلام يكشف عن اعتماده على المنطق الأرسطي كمنطقٍ وحيدٍ ، وحَكَمٍ متفرِّدٍ في الجدل العلمي؛ حيث قُدِّم هذا المنطق على أنَّه حقائق ثابتة عامة شاملة كلية ويقينية، غير أنَّ تطوُّر المعارف البشرية كشف عن ثغراتٍ في هذا المنطق، لِأقول: إنَّ بوضعه الحالي، ليست لديه
قابلية لحل كل المشكلات اليوم .
ومن هنا - ونظراً لتجدُّد الكثير من الإشكاليَّات ذات الطابع المنطقي المختلف - فإنَّه من الضروري للكلام الجديد الاتكاء على مخزون منطقي أكبر، يشمل - إلى جانب المنطق الأرسطي - المنطق الاستقرائي ، و الرياضي ، و التجريبي، و الذاتي، و الديالكتيكي و.. وإلاّ فإنَّ أزمة تخاطبٍ ستنشأ تبعاً للهوَّة الحاصلة بين الهيكلية المنطقية للأفكار والإشكاليات الجديدة، مع الهيكلية المنطقية التي تحكم علم الكلام.
لا يُراد هنا التنقيص من شأن المنطق الأرسطي بقدر ما يراد الإشارة إلى كون هذا المنطق جهداً بشرياً لا يتَّصف بالكمال.
و - إنَّ واحدةً من إفرازات نزعة اليقين والتمذهب، هي: الذاتية والتحيُّز، وبالتالي ضعف الموضوعية والحياد. وهي مشكلةٌ جديَّةٌ لا يخلو منها علم، لكن الكلام القديم - كبعض العلوم الأخرى - قد تجاوزت فيه الذاتية والتحيّز الحدَّ الطبيعي. ومن هنا، فعلى الكلام الجديد تجنُّب هذه المشكلة بواسطة رفع القيود، وتقليل الاعتبارات التي تُفضي بالمتكلِّم إلى الذاتية والأحكام المسبَّقة. وتقليل هذه الاعتبارات سيساهم في فتح الباب أمام صنوف الأفكار والآراء؛ الأمر الذي يُثري حركة الفكر، ويرفع رصيد علم الكلام، ويضاعف من إنتاجه (1) .
____________________
(1) بعض هذه النقاط ليست من مختصَّات الكلام، لكنَّه اتصف بها أيضاً.
الفصل الثاني
سبيل الله الواحد أم سُبُله المتعدِّدة.......................................... محمد حسن زراقط
نظرة إلى التعدُّدية في الأديان............................................ عبد الحسين خسروبناه
دور الخيال في التعدُّدية الدينية.............................................. دافيد س. سكوت
دراسة في بُنى التعدُّدية الدينية ومُرتَكَزاتها
الشيخ محمد حسن زراقط (*)
تمهيد
تنقَّل مصطلح التعدُّدية بين العلوم المختلفة، واكتسب تبعاً للمجال المستخدم فيه معنى جديداً (1) . وما نهدف إلى البحث عنه في هذه المقالة، هو التعدُّدية في مجال الدراسات الدينية، إلاّ أنَّه من المناسب للإحاطة بالموضوع، الإشارة إلى بعض هذه المعاني، والوقوف على المداليل المختلفة له في الدراسات الدينية، وفي غيرها. وسوف نلاحظ أنَّ التعدُّدية ببعض المعاني المقصودة من المصطلح قد تكون مقبولة، بل مندوباً إليها في الأدبيات الدينية الإسلامية. وسوف نستعرض بعض المباني والمنطلقات الفكرية أو الاجتماعية
____________________
* كاتب ومدرس في الحوزة العلمية - لبنان.
(1) انظر: حيدر حب الله، التعدُّدية الدينية، ط 1، بيروت، الغدير للدراسات والنشر، 2001م، ص 20، وما بعدها.
التي استندت إليها دعوة التعدُّدية. وقبل أيِّ شيء، أرى من المناسب الإطلالة على الأصل اللغوي لهذا المفهوم.
التعدُّدية في اللغة:
يبدو أنَّ مصطلح التعدُّدية من المفردات الوافدة على اللغة العربية رغم الجذر العربي الذي يشير إلى الكثرة والتعدُّد، إلاّ أنَّ هذا الاشتقاق لا يُلاحظ له أصل في اللغة. ومن هنا، خلت منه بعض المعاجم العربية غير المتخصِّصة (1) . وهو مصدر صناعي يراد به الدلالة على المذهب، أو الاتجاه، أو غير ذلك من المفاهيم المشابهة. وأمثال هذا المصطلح في اللغة كثير، منها: الاشتراكية، والعلمانية، والبيروقراطية... ومنها ما استحدثه الفلاسفة للتعبير عن مراداتهم، ككلمة ماهية، وكيفية، وغيرها.
التعدُّدية في الميتافيزيقا:
يُشير مصطلح التعدُّدية في مجال الميتافيزيقا (2) إلى تشكُّل العالم من مجموعة من العناصر يصل عددها إلى أربعة عند "أمبادوقليس" ، وهي: التراب ، والماء، والهواء، والنار. بينما لم يجد "أنكساغوراس" هذا العدد الضئيل من العناصر
____________________
(1) لاحظ: المنجد، ولسان العرب، ولكن لا يفتقد هذا النمط من الاشتقاقات إلى المشروعية اللغوية؛ فقد أشار بعض الباحثين في اللغة إلى الحاجة إليه في كثير من العلوم للتعبير عن مفاهيمها الخاصة بها والتي لا يوجد في أصل اللغة ما يدل عليها. (عبَّاس حسن، النحو الوافي، ط 4، القاهرة، دار المعارف، د ت، ج 3، ص 187).
(2) استخدمتُ هذا المصطلح هنا، لأنَّ الكلام عن أصل الكائنات وما وراء طبيعتها.
كافياً لتفسير الكثرة الموجودة في هذا العالم. ومن هنا، لم يحصرها بأربعة، مُبقياً عددها في دائرة اللامتناهي (1) .
وقد شقَّت نظرية العناصر الأربعة طريقها إلى الفلسفة العربية الإسلامية، ولاقت قبولاً من كثير من الفلاسفة المسلمين؛ حيث نجد إشارة إليها عند ابن سينا وشرَّاحه. يقول شارح الإشارات: "... والمراد من قوله: أمَّا التي لا يمكن فيها ذلك فهو الفلكيَّات... فالجسم البالغ في الحرارة بطبعه هو النار، والبالغ في البرودة بطبعه هو الماء، والبالغ في الميعان هو الهواء، والبالغ في الجمود هو الأرض. أراد أن يشير إلى أنَّ العناصر أربعة ويُعيِّنها..." (2) وبقيت هذه المقولة قيد التداول الفكري أيضاً إلى عصور متأخرة، فها هو نصير الدين الطوسي ينسج جزءاً من فلسفته الطبيعية على هديها، فيقول: "وأمَّا العناصر البسيطة، فأربعة: كرة النار، والهواء، والماء، والأرض. واستفيد عددها من مزاوجات الكيفيَّات الفعلية والانفعالية" (3) . ويشرح الحلِّي كلامه قائلاً: "... واعلم أنَّ البسائط العنصرية أربع، فأقربها إلى الفلك النار، ثُمَّ الهواء، ثُمَّ الماء، ثُمَّ الأرض..." (4) .
____________________
(1) معن زيادة وآخرون، الموسوعة الفلسفية العربية، ط 1، بيروت، معهد الإنماء العربي، 1988، مادة: تعدُّدية.
(2) شرح الإشارات، ص 251.
(3) نصير الدين الطوسي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ط 1، بيروت، الأعلمي، 1979م، ص 156.
(4) الحسن بن يوسف الحلِّي، م. ن، ص 156.
وربَّما أصرَّ كثير من الفلاسفة على هذه الفكرة، وعضوا عليها بالنواجذ - بل فعلوا (1) - لولا أنَّ "مندلييف" (1834 - 1907 Mendeleyev ) فاجأهم بزعمه أنَّ العناصر تصل في عددها إلى ثمانية وسبعين عنصراً، وما زالت بعض الخانات في جدوله الأثير فارغة بانتظار مَن يملؤها باكتشاف عناصر جديدة. وهكذا اتضح أنَّ بسائط الفلسفة اليونانية أضحت مركَّبات كغيرها من المركَّبات.
وعلى أيَِّة حال، فإنَّ البحث عن هذا النمط من التعدُّدية لا يدخل في صميم غرضنا، وإنَّما أشرنا إليه رغبة في الوضوح؛ كونه أحد معاني المصطلح المبحوث عنه.
التعدُّدية السياسية:
يُقصد بمصطلح التعدُّدية عندما يستخدم في المجال السياسي: أنَّ يُسمح لفئات الشعب - على اختلاف اتجاهاتها وتياراتها؛ من أحزاب وتجمعات غير حزبية - أن تتداول السلطة، وأن تشارك في صناعة القرار السياسي. وهي بهذا المعنى من أهم الأسس التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي. ولو رجعنا في تأمُّلنا للنسق الفكري السياسي، فلا نجد تنظيراً واضحاً لهذا المفهوم ولآليات ممارسته في الفلسفة السياسية الإسلامية، أو ما يُعرف في التراث الإسلامي بـ "الأحكام السلطانية"؛ حيث لم تكن فكرة الأحزاب بالمعنى السائد اليوم قد
____________________
(1) ربَّما يُستكشف القبول بهذه النظرية من إبراهيم الزنجاني في تعليقته على كشف المراد. انظر: م.ن، ص 156.
أبصرت النور، فالأحزاب التي عُرفت في التاريخ الإسلامي لم تكن سوى تكتُّلات تجمعها ولاءات دينية أو عصبية مختلفة.
ومن هنا، نجد أنَّ فكرة الحزب احتاجت إلى محاولات لإثبات مشروعيَّتها وعدم منافاتها للشريعة كطريقة للعمل السياسي أو الاجتماعي، قبل البحث حول جدواها وأهمِّيتها في أيِّ عملية نهوض بالأمة، أو تغيير لواقعها الراهن؛ حيث يُدَّعى أنَّ الحزبية نسق غربي يتضمَّن الكثير من السلبيات التي تمنع من اقتباسه في الإطار الإسلامي. مضافاُ إلى أنَّ القرآن الكريم يتحدَّث عن الحزبية بشكل سلبي، يقول تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) (1) ، ويقول تعالى في موردٍ آخر: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (2) .
هذا، ولكنَّنا نجد على الجهة الأخرى أنَّه يتحدَّث (سبحانه) عن نمطٍ آخر من الحزبية بطريقة تُوحي بالرضا والقبول، فيقول سبحانه: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ) (3) .
إذاً، لا يمكن أن نستنتج من القرآن موقفاً قيميَّاً من العمل الحزبي، بل الأمر تابع للقيم التي يحملها الحزب نفسه، ومن هنا: "قد لا يجد الإنسان
____________________
(1) هود: 17.
(2) مريم: 37.
(3) المائدة: 56.