جذور الشر

جذور الشر0%

جذور الشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 224

جذور الشر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 45871
تحميل: 5675

توضيحات:

جذور الشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45871 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
جذور الشر

جذور الشر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وكان على قادة الثورة أن يختاروا أحد أقاليم الدولة الإسلامية منطلقاً لدعوتهم ودعاتهم، يمارسون فيه نشاطهم آمنين مطمئنين لا تقلقهم عيون السلطة ومراقبتها.

ولم يجدوا أفضل من إقليم خراسان يحقق لهم ما يريدون، فهذا الإقليم من الأقاليم، المهمة سعة وكثافة سكان، ويتمتع بموقع جغرافي فريد، فهو ليس بعيداً عن مراكز التأثير في الدولة الإسلامية، وليس قريباً بحيث يسهل تسيير الجيوش إليه، وأهل خراسان أهل قوة وجلد وبأس، وهم بعد ليسوا عرباً يمكن أن تلعب العصبية القبلية دوراً في تشتيت قوى الثورة وتمزيق وحدة الثائرين.

وبدأت الدعوة الهاشمية تندفع بسرعة وتنتشر بسرعة، يساعدها في ذلك صلتها النسبية بالنبي محمد وشعارها الذي رفعته بالعودة إلی أحکام الشريعة واحترامها والالتزام بها، بعدما عانت من انتهاك مستمر علی امتداد الحکم الاموي.

وانتصرت الثورة، وقام الحكم الجديد على انقاض الحكم الاموي السابق.

وأنا لا اريد أن اؤرخ لاحداث هذه الثورة، والحكم الجديد الذي قام بعد انتصارها، ولكن أريد أن اسجل هنا أنّ أول ما بدأ به هذا الحكم أيامه هو نقض العهد الذي تم الاتفاق عليه باختيار محمد النفس الزكية فقد اعلن عن ابي العباس السفاح كأول خليفة في الحكم العباسي الجديد، بدلا من النفس الزكية الذي سبق الاتفاق عليه.(١)

وكان هذا أول غدر، أو أول ظلم في الحكم الجديد، ومؤشراً خطيراً على اتجاهه وسياسته المقبلة، وتحذيراً من ظلم لن يقف عند نقض البيعة، وان لم يكن نقضها، بعد المواثيق المغلظة، وبعد المسح على اليدين، بالامر اليسير، فأي غريب اذن فيما سنراه من غدر وظلم وقتل لا ينتهي ودم لا يتوقف نزفه.

الحديث عن ذاك سيكون حديثاً لا معنى له ولن يضيف في أية حال، إلا جريمة جديدة إلى سجل حافل بما هو أخطر منها.

____________________

(١) مقاتل الطالبيين لابي الفرج، شرح و تحقيق السيد احمد صقر ص ٢٠٦، ٢٥٦.

١٠١

سيقال إن الحكم العباسي كان حكم لصوص وسراق، وأنا اتفق في هذا، وقد كان هو نفسه ثمرة سرقة.

لقد سرقوا الناس أموالهم فأسرفوا في السرقة، لم يعفوا حتى عن ولاتهم وعمالهم، فكانوا يستصفون لانفسهم ما سرقه هؤلاء، ولكنهم لا يكتفون منهم بما سرقوا، بل يقتلونهم بعدما يجردونهم مما سرقوا.

وسيقال إنهم كانوا يشربون دون اعتدال ولا قصد، وإن قصورهم قد تحولت إلى بيوت يمارس فيها كل ضروب اللذة غير المشروعة، حتى الشعر تحول في قصورهم إلى صور خليعة لعملية الجنس، وأنا أتفق في هذا أيضاً.

ماذا يبقى إذن؟!

يبقى إنهم يفعلون كل ذاك باسم الإسلام، فهل لي أن أطلب منهم أن يتخلوا عن اللقب الذي يحملونه: (خليفة المسلمين) الذي يحرم دينهم ما يأتونه بل دون ما يأتونه؟!

وهل لي أن أسأل عن هؤلاء البؤساء من الناس، من سيرعى شؤونهم، من سينصف مظلومهم، وأحسبهم تحولوا كلهم إلى مظلومين؟ من سيمنع ظلم الولاة والعمال لهم وسلبهم أموالهم وحقوقهم وحرياتهم؟

وقد أرد على نفسي أحياناً فأقول: ربما كان من الأفضل أن يشغل أولئك الخلفاء بالشرب والجواري والغلمان، فقد يلهيهم ذلك ويبعدهم عن قتل الناس، وهو الأخطر بين الجرائم. لكني كنت مخطئاً، فقد جمعوا الاثنين معاً، ولم يلههم شيء عن شيء.

١٠٢

(١٨)

الدولة الأموية

معاوية - الخطوط الحمراء - دفن الإنسان حياً

حين أردت الكتابة عن معاوية فكرت طويلاً، طويلاً جداً، فقد تسابقت إلى ذهني صور الجرائم والمجرمين والضحايا، وما أكثر أولئك، وأكثر منهم هؤلاء.

بأية جرائمه سأبدأ حديثه ولا أعرف من يشبهه في كثرة الجرائم، والآخرون من المجرمين يستعجلونني الكتابة عنهم، وأنا بينه وبين استعجال الآخرون أجدني مشدود الأعصاب أو حائراً متردداً.

وقررت أن أبدأ، بأية جريمة، وستتابع الجرائم بعد ذاك يجر بعضها بعضاً، ففيم التردد إذن؟

لكن سؤالاً كبيراً انتصب أمامي قبل أن أبدأ، لم أستطع تجاوزه بل من الخطأ والخطر تجاوزه، وهو يتصل بالفترة التي سبقت حكمه، بالوسائل التي مهدت الطريق لما وصل إليه.

كيف أصبح معاوية خليفة للمسلمين؟! سابقته؟! دينه؟! جهاده؟! فضله؟! علمه؟!

ما الذي جرأ معاوية أن يخوض حرباً غير شرعية ضد الخليفة الشرعي للمسلمين؟!

هذا هو السؤال الذي عليّ أن أعالجه أولاً عند الحديث عن معاوية، وقبل الحديث عن جرائمه.

والسؤال كما ترى سيسحبني للعودة إلى وراء، إلى من تولوا الخلافة قبله ومهدوا له سبيلها، وأنا في غنى عن الخوض في ذلك، والخوض فيه سيتجاوز حتماً كل الخطوط الحمراء في التأريخ الإسلامي وهي خطوط بلون الدم لمن أراده.

فلأقتصر في الكتابة عنه على ما لا يبلغ تلك الخطوط، منذ توليه الحكم وحصوله على لقب (أمير المؤمنين).

إذن انتصر معاوية في الحرب التي خاضها ضد الإمام علي وأسفرت عن تسعين ألف قتيل، وكان الإسلام هو الخاسر الأكبر فيها.

١٠٣

فابتداءاً من حكم معاوية طويت نهائياً صفحة الشورى ونسي حديثها بل أصبح الحديث عنها جريمة من هذه الجرائم التي يعاقب عليها.

وها نحن أمام حكم جديد، ليس فيه شيء من قيم الإسلام، وفيه كل شيء مما يخالف الإسلام. إنه حكم الفرد الواحد الظالم المستبد.

وما أظن معاوية كان صادقاً يوماً كما كان صادقاً وهو يقول عن نفسه وحكمه مخاطباً الكوفيين، ومن خلالهم عموم المسلمين: (يا أهل الكوفة، أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتصومون وتحجون، ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم...)(١) .

وهكذا تحول الإسلام من دين رحمة وسلام إلى تحكم في رقاب الناس، وتهديد سافر صارم اللهجة عنيفها يوجهه معاوية إلى المسلمين بأنه قطع كل صلة مع الإسلام الذي يعرفونه، وأن عليهم أن يقطوا كل صلة مع الإسلام الذي يعرفونه، ويرتضوا حكماً لا يملكون فيه إلا الطاعة والخضوع لولي الأمر الحاكم الجديد.

وقد وفى معاوية بما عاهد المسلمين عليه، فبدأ أول ما بدأ بسنة لم يتقدمه فيها أحد وهي لعن علي الذي إن اختلف المسلمون في أنه أول اثنين سبقاً إلى الإسلام، فإنهم لا يختلفون في أنه الثاني منهما والخليفة الشرعي الذي انتخبوه وارتضوه.

هذا هو أول ما فعله معاوية، إنه علم المسلمين اللعن، ولمن؟! لرجل لم يجد حتى أعداؤه ما يتهمونه به غير أنه كان فريداً في مثاليته وإنسانيته، وكان قادراً أن يكسب الحرب بأيسر مما استطاع معاوية أن يكسبها لو أنه تخلى عن هذه المثالية التي كانت جزءاً منه، لم تفارقه في سلم ولا في حرب؛ لأنها جزء منه.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة تحقيق الشيخ حسن تميم ج ٤ منشورات دار الحياة ١٩٦٤، ومقاتل الطالبيين ص ٧٠، والبداية والنهاية لابن كثير ج ٨ ص ١٣١. و مختصر تأريخ ابن عساكر لابن منظور - تحقيق مأمون الصاغه جي - دمشق ١٩٨٩ ترجمة معاوية بن أبي سفيان.

١٠٤

لقد مات المنتصر في الحرب، وعاش الذي ترك النصر مختاراً حين تعارض مع قيم الإنسانية، التي ما تزال ترى فيه مثلها الأعلى الذي تتجه إليه كلما تعرضت لما تعرضت له قبل أربعة عشر قرناً.

وبعد علي، وقد خلص لك الحكم يا ابن أبي سفيان، ما ذنب هؤلاء الذين أحبوه فأخلصوا له الحب؟ ما ذنب حجر بن عدي وأصحابه أن يقتلوا، غير أنهم أحبوا هذا الذي أبغضته ولعنته؟! وماذا عليك أن يحبوا علياً أو لا يحبوه؟! وهل كان الحب والبغض، إلا عندك وعند أصحابك، جريمة عقوبتها القتل يتفنن فيه القاتل ليشفي حقده من القتيل، وممن أحب القتيل. ويل لك من حجر وأصحاب حجر.

وعمرو بن الحمق يطاف برأسه على رمح بين الموصل والشام، وهو أول رأس يطاف به في الإسلام؟! سنة أخرى بعد سنة لعن علي؟! ثم لم يكفك ذلك فَحبست امرأته عندك، حتى إذا وصل رأسه دمشق ألقيت به في حجر امرأته المفجوعة فاحتضنته باكية مقبلة ذاهلة.

قل لي - يا معاوية - أي صنف من المجرمين أنت؟! لا يكفيك ولا يشفي غلك ان تقتل الرجل، ثم ان تحز رقبته، ثم ان تطوف برأسه مرفوعاً على الرمح بين البلدان. فاضفت جريمة ما أظن احداً من المجرمين سبقك إليها: ان تلقي برأس القتيل في حضن زوجته الثكلى التي حبستها عندك لتشفي غلك برؤية دموع الزوجة بعد قتل الزوج.(١)

وعبد الرحمن بن حسان العنزي الذي دفن حياً تحت التراب، ماذا فعل؟! إنه لم يقتل ولم يسرق ولم يخن ولم يزنِ ولم يرتكب ما يستحل به دمه ولا ما هو دون دمه، ليدفن حياً؟! سنة جديدة أخرى من سنن ابن أبي سفيان؟!!

أية جريمة هذه التي يرتكبها من لا يزال يدافع عن حكم شعاره: (لآخذن البريء بالمذنب والمقبل بالمدبر والصحيح بالسقيم). وقد فعل.

____________________

(١) أنساب الأشراف للبلاذري ج ٤ ترجمة معاوية والاصابة لابن حجر ترجمة عمرو بن الحمق رقم ٨٢٢ والاوائل لابن ابي عروبة الحراني ط دار ابن حزم ٢٠٠٣ ص ١٦٦ وتأريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٧٥ والاوائل لابي هلال العسكري ط دارالكتب العلمية بيروت ١٩٨٧ ص ١٩٨.

١٠٥

وهؤلاء الموالي أو (الحمراء) كما صار اسمهم، ما الذي فعلوه حتى أردت يا ابن أبي سفيان أن تقتل شطرهم، لولا أن يكفك عن ذلك سيد نبيل هو الأحنف بن قيس؟! إنهم مسلمون فقراء لم يثوروا ولم يحملوا السلاح ضدك، أذنبهم أنهم دخلوا الإسلام طامعين في عدله مؤمنين، إنه سيحميهم ويحرم دماءهم وأموالهم على من يريد بها ظلماً(١) ؟!

بل قل لي: ما ذنب الأطفال يجرون من حضن أمهم، وهم يتعلقون بها وهي تتعلق بهم، ليحز رقابهم أمامها سيف مجرم من مجرميك، فيذبح الأطفال وتجن الأم؟! ذلك هو بسر بن أرطاة الذي أقام في المدينة شهراً يستعرض الناس، لا يقال عن أحد إنه ممن أعان على عثمان إلا قتله، دون أن يسأل في ذلك حجة ولا إثباتاً؛ لأن قتل الناس في عهدك أهون من أن يسأل فيه حجة أو إثبات(٢) .

والله إن الوحشية لأهون ما يمكن أن توصف به، ويوصف به حكمك.

ماذا دها الإسلام منك ومن هؤلاء الحكام من مدرستك بعدك؟ لا تعفون عن طفل تنتزعونه من بين يدي أمه، ولا عن امرأة لا ذنب لها إلا أنها لم تشهد زوراً على زوجها، لا تكتفون بالقتل دون ذنب، وهو كبير في الإسلام وغير الإسلام، فتضيفون إليه الصلب، ثم الحرق بعد الصلب.

وتسيير الرؤوس على الرماح، ومنع الماء عن الأطفال والنساء ممن لم يشارك في حرب أو قتال، ثم لا تكتفون، فتحرقون الخيم على الأطفال والنساء.

والله لو علم الناس إن الإسلام هو الذي عندكم لما أسلم أحد.

وأموال المسلمين، وهي الأهون إذا قيست بأرواحهم، ماذا صنعت بها وأنت توزعها هنا وهناك على من لا يستحق، تسترضي بها من تخافه أو تطمع فيه، وتشتري ذمم رجال لا يحركهم إلا المال؟!

____________________

(١) العقد الفريد لابن عبد ربه تحقيق محمد سعيد العريان، نشر دار الفكر، ج ٢، ص ٢٢٦ - ٢٢٧.

(٢) الأطفال هم أبناء عبيد الله بن عباس والي الإمام علي على اليمن، والتي عميت وجنت هي أمهم، والحادثة تجدها في كل كتب التأريخ.

١٠٦

ومصر؟ مصر التي أعطيتها طعمة مدى الحياة لعمرو بن العاص؟!

هل سمع أحد أن بلداً كاملاً وبحجم مصر (يعطى) طعمة لشخص، كل ميزاته وكل فضله انه كان يحسن الخداع ويضلل الناس ويدافع عن الباطل؟!(١)

أكانت مصر ملكاً لك أو لأبيك تهبها لمن تشاء؟!

أم استسهلت ذلك بعد أن صار كل شيء سهلاً، وقد صرت أميراً للمؤمنين؟!

وقبل أن أنتقل إلى موضوع يزيد، أريد أن أسألك عن استلحاقك زياداً. ولن أكلفك الرد فأنا أعرفه.

ويحك يا معاوية، ألم تستحِ أن تحقق الزنا على أبيك؟! والله لو كان أبوك قد زنا حقاً بسمية وأولدها زياداً، لكان حرياً بك أن تستحيي من ذاك وتبرأ منه.

ثم ألا تعلم أن أباك قد توفي عام ٣٣ في خلافة عثمان، وبعد حديث الزنا بأكثر من ثلاثين عاماً، فما الذي منعه أن يدعي زياداً، طول هذه المدة؟!

____________________

(١) انظر في (طعمة) مصر لعمرو بن العاص، مروج الذهب للمسعودي ج ٢ ص ٥٤ - الباب الثامن والسبعون - خلافة علي بن أبي طالب والبدء والتاريخ جزء ٥ أحداث صفين وتأريخ اليعقوبي جزء ٢ - ص ٢١٦ - ٢١٧، وشرح نهج البلاغة تحقيق الشيخ حسن تميم قاضي بيروت الشرعي - دار مكتبة الحياة - بيروت ١٩٦٢ المجلد ١، ص ٣٢٢. وقد اصبحت (طعمة) البلدان سنة خصوصاً مصر. سنة سار عليها الخلفاء والامراء بعد معاوية، فعبدالملك بن مروان يعرض مصر طعمة لاخيه عبد العزيز يشتري بها تنازله عن ولاية العهد لابنه الوليد، كما يعرض خراسان (طعمة) لعبد الله بن خازم ان هو تخلى عن نصرة عبد الله بن الزبير وانضم إليه، ويزيد بن عبد الملك بن مروان يعد أخاه هشام أن (يطعمه) الجزيرة إذا خلع نفسه من ولاية العهد لابنه الوليد. بل إن الامر نزل إلى الأدنى، إلى من هم دون الخلفاء، فعبدالله بن خازم المار ذكره يعطي ميسان في العراق طعمة لزهير بن ذويب أحد رجال بني تميم و فرسانهم في ذلك العهد. تأريخ اليعقوبي ( أيام عبد الملك بن مروان وأيام يزيد بن عبد الملك، وتأريخ الطبري وتأريخ ابن الاثير، حوادث سنة ٧٣ وتأريخ ابن الوردي - دارالكتب العلمية ط اولى بيروت ١٩٩٦ (اخبار معاوية) والاخبار الطوال لابي حنيفة الدينوري (وقعة صفين) والبدء والتاريخ ج ٦ ص ٢٣ في الحرب بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان.

١٠٧

قد تقول، كما يقولون الآن وهم يبررون فعلك، إنّه كان يخشى أن يعلن ذلك خوفاً من عمر.

لكنك تعلم أن عمر قد توفي عام ٢٣، وعاش أبوك بعده ثماني سنين في خلافة عثمان، كان يستطيع خلالها أن يستلحق زياداً دون أن يخاف عمر ولا غير عمر، والخليفة هو عثمان ابن عمه، وأبوك أولى به منك وأحرى أن يدعيه لو كان زياداً ابنه، حتى مع القول بأنه من زنا.

ولو تجاوزت كل ذلك، وهو ما لا يمكن تجاوزه، فكيف سأتجاوز النبي (صلّى الله عليه وآله)؟! كيف سأصنع بقوله الذي تعرفه ويعرفه الجميع: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وقد خالفته وعارضته وعملت بعكسه، وكأنك تريد أن تؤكد انقطاع صلتك بالنبي محمد (صلّى الله عليه وآله) وبدينه؟!!

واصل إلى يزيد، كيف توليه خلافة المسلمين مع ما تعرفه عنه من رذائل قلما اجتمعت في سواه، وهو لو كان في غير حكمك لأقيم عليه ألف حد؟!

ألم يكن في أفاضل المسلمين من يصلح للخلافة بعدك فاضطررت لاستخلاف يزيد، أم حسبت مجلس الخلافة لا يختلف عن مجلس الشرب؟! وعلى كلٍّ فالذي يغفر لك أنك أنت لم تكن خليفة شرعياً، فما الغريب أن تمنح ما لا حق لك فيه لمن لا حق له في إرثه؟!

والويل للمسلمين من حكم يؤخذ فيه البريء بالمذنب والمطيع بالعاصي!!

ألم أقل إن الإسلام كان الخاسر الأكبر حين استولى معاوية على الحكم؟!

ألم أقل إن حكمه جريمة كبيرة؟! ألم أقل ...

وعيني على قلمي ألا يزل فيبلغ الخطوط الحمراء التي أخشى الإشارة إليها.

١٠٨

(١٩)

يزيد

عندما يذهب الأخطل حاجاً إلى مكّة

وهكذا تنحدر الأمور، تبدأ بالسيء ثم تسير، إذا لم تجد رادعاً، نحو الأسوأ، حتى يصبح هذا الأسوأ هو القاعدة التي تجري بموجبها الأمور.

وهذا ما حصل مع يزيد.

وأظنني كنت قد أشرت إلى ذلك في مكان سابق وتخوفت من أن ترك الشورى والتخلي عنها، إلى تعيين شخص، أو عدد محدد من الأشخاص، قد يقود يوماً إلى أن يرشح للخلافة مثل يزيد، اعتماداً على وجود هذه السابقة التي ستسمح بترشيحه، لو أراد معاوية ذلك.

وقد أراد، إذ عين ابنه يزيد على كل مساوئه ومعرفته به وبها، ولياً لعهده ومرشحاً للخلافة بعده، لا برضا المسلمين الذين لم يعد يعير رضاهم أو سخطهم أي اعتبار، ولكن بحد السيف من جهة، وبحكم السابقة التي جرأته ويسرت عليه أن يجعل من ابنه يزيد ولياً لعهد المسلمين، على سوء رأيهم فيه، مع وجود عدد من كبار الصحابة وخيار التابعين في ذلك العهد، ممن هم أولى بالخلافة، وممن يحظون برضا وثقة المسلمين، لو ترك هؤلاء ومن يختارون، ولو لم يكن مبدأ الشورى قد وئد وترك العمل به منذ عهد الراشدين.

جاء يزيد إذن إلى الحكم وقد استباح أبوه قبله كل شيء، فلم يتحرج هو من شيء، ولم يمتنع عن شيء.

وسأتجاوز سيرته الشخصية وما شهر به من لهو وعبث واستخفاف بأحكام الدين وازدراء بمقام الخلافة، مع أن السيرة الشخصية هنا تنعكس بقوة على حياة الناس وتؤثر فيها ولا تنفصل عنها في أية حال.

١٠٩

سأتجاوز هذا فقد أجد من يتبرع، كما هي العادة، بالرد بأنه من صنع أعداء (أمير المؤمنين) يزيد وأعداء الأمويين وأعداء العروبة والإسلام أيضاً، ثم إنه شأن شخصي ليس لأحد أن يتدخل فيه أو يؤاخذ يزيد به!! فما على يزيد ولي عهد المسلمين أو خليفتهم أن يدخل عليه نديمه الأخطل والخمر تسيل من لحيته والصليب يتدلى على صدره؟! وما على يزيد أن يصطحب الأخطل معه في حجه إلى مكة وهو ولي عهد المسلمين؟! فربما اشترط عليه أن يسلم خلال فترة الحج ليعود إلى مسيحيته بعده!! وربما اشترط عليه أن يترك الخمر أو يقللها وهو يطوف بيت الله؟!(١) .

وخطر في ذهني أن أزور يزيد وقد زرت، وسأزور كل (أمراء المؤمنين) فلِمَ استثناؤه من بينهم؟ خصوصاً وأنه الوحيد الذي لن أحتاج معه إلى وقت طويل، فالمسلمون كلهم، وربما غير المسلمين، يعرفون عنه مثلما أعرف أو أكثر مما أعرف.

لكنني خشيت أن يغلبني الضحك وأنا أخاطبه بـ (أمير المؤمنين) والحرس قد انتضوا سيوفهم، تكفيهم إشارة منه، ولا حاجة لذكر ما بعد الإشارة.

وبين الرغبة في زيارته، وبين الحرص على رأسي، قررت أن ألغي الزيارة وأن أختصر الحديث عنه ما استطعت وهو حديث قصير كما قلت.

واتجهت إلى المدينة، مهبط الوحي ومسكن الرسول ومدفنه، المدينة التي ولد فيها التأريخ الإسلامي.

لقد شاقتني وبعد عهدي بها وطال غيابي عنها.

ولكن ماذا أرى؟! ما الذي يحدث في المدينة؟! ما لهؤلاء العذارى من بنات المهاجرين والأنصار يتراكضن مذعورات في كل درب من دروبها، لا تجد الواحدة منهن مأوى لها، حتى يفترس الذئاب من جيش يزيد عشراً ممن لم يجدن المأوى، وهم يقتحمون المدينة من جهة الحرة(٢) .

____________________

(١) الأغاني طبعة دار الكتب ج ٨ ترجمة الأخطل.

(٢) الحرة هي الأرض ذات الحجارة السوداء، وهي هنا الجهة التي دخل منها جيش يزيد إلى المدينة ودارت فيها المعركة؛ ومنها جاء اسمها (واقعة الحرة).

١١٠

واستوقفت شيخاً كان يلهث من الجهد وهو يتحامل على نفسه لا يقوى على الركض وإن بدا مسرعاً، أردت أن أسأله عن هذا الذي يجري، قال وهو يحث الخطى والخوف بادٍ عليه: إن الأمر لأخطر من حديث تسمعه مني وأنا في طلب المأوى، ستعرف الجواب عما قريب، قال ذاك دون أن يقف وعيناه تنظران إلى خلف أكثر مما تنظران إلى أمام.

وانتحيت جانباً أفكر في هذا الذي أرى، وأفكر في نفسي، لا أدري ما أفعل، فربما اشتبهوا في أني من أهل المدينة، وأنا لا أستطيع الركض ولا أعرف أحداً فيها استتر عنده، والبيوت كلها معرضة للتفتيش.

ورأيتني أتساءل: أكان هولاكو مسلماً أو أميراً للمؤمنين كما كان يزيد أميراً للمؤمنين؟ هل استباح جيش هولاكو بغداد كما استباح جيش يزيد المدينة؟! هولاكو، هذا الذي يتحدثون عنه فيطيلون الحديث، وما يزالون يتحدثون عنه فيطيلون الحديث.

أكانت بغداد أهم من المدينة عند المسلمين، وهي ثاني الحرمين ومهبط الوحي ثلاث عشرة سنة؟!

أكان أهل بغداد أولى بالحماية والاهتمام من أهل المدينة، وهم المهاجرون والأنصار وجلة المسلمين وذوو السابقة والجهاد منهم؟!

هل فعل هولاكو - على افتراض صحة ما يقولون عنه - إلا بعض ما فعل يزيد؟!

ما لي لا أفتح كتاباً إلا كان هولاكو أكبر عناوينه في الوحشية والإجرام ولا ذكر لـ (أمير المؤمنين) يزيد ولا لأمراء مؤمنين آخرين.

إنه التأريخ يكتبه الذين يملكون كتابته.

لقد كانت واقعة الحرة إحدى الوقائع التي هزت ضمير المسلمين وما تزال كذلك حتى اليوم وبعد اليوم، ولا أدري كيف سيعتذر المزورون القدماء والجدد عما جرى فيها؟!

١١١

ماذا سيقولون عن هذه الواقعة التي بلغ عدد القتلى فيها الآلاف من خيار المهاجرين والأنصار وأبناء المهاجرين والأنصار، من حمل السلاح ومن لم يحمله. وانتهكت فيها ألف من بنات المهاجرين والأنصار(١) وما أظن هذا العدد إلا الحد الأدنى الذي يمكن تصوره، وقد استبيحت المدينة ثلاثة أيام يفعل فيها الجيش ما يشاء ولا يمنعه شيء مما يشاء، فكأن يزيد أراد أن يثأر لفتح مكة في زمن جده، بفتح المدينة في زمنه، ولكن الفاتح هناك أنزل شعار الملحمة ورفع شعار المرحمة، والفاتح هنا أنزل شعار المرحمة ورفع شعار الملحمة.

ثم لم يكتفِ بكل ذاك حتى أخذ البيعة ممن بقي من أهل المدينة لم يقتل ولم يسجن ولم يهرب، على أنهم (عبيد) ليزيد، وضرب عنق كل من يرفض هذه البيعة(٢) .

أسمعت بشيء من هذا في غير تأريخنا الذي يريدون أن ينشأ عليه أطفالنا عبيداً لمن بيده الأمر، لا يحسنون إلا الخضوع والطاعة والدعاء لمن يظلمهم ويقتلهم وينتهك أعراضهم؟

ما كان ذنب أهل المدينة أن يتعرضوا لما تعرضوا له؟! ما الذي فعلوه ليستحقوا كل هذا الذي جرى لهم؟!

لقد راعهم كما راع غيرهم من المسلمين، وهم بعد قريبو عهد بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يستخلف عليهم من لم تجتمع السيئات في شخص كما اجتمعت فيه؛ فلجؤوا إلى ما يلجأ إليه الأحرار حين يستنفدون كل الوسائل الممكنة لدفع الظلم عنهم.

ماذا يبقى بعد النصح والتحذير والإنكار وإرسال الوفود لإبلاغ (أمير المؤمنين) بآراء المؤمنين ومطالبهم، وليس فيها إلا ما هو مشروع؟!

وجرد يزيد جيشه بقيادة مسلم - الذي يسميه المسلمون مسرفاً - ابن عقبة المري.

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي، أحداث سنة ٦٣ ج ٣ ص ٦٩.

(٢) تأريخ الطبري ج ٤ ص ٣٨١، ومروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٦٩ أحداث سنة ٦٣. وتأريخ اليعقوبي ج ٢ (مقتل الحسين بن علي).

١١٢

وكان ما ذكرت - وهو ليس إلا جزءاً مما لم يشأ المؤرخون أن يقولوه - إلا مخففاً.

لقد أردت أن أصف ما حصل في الحرّة بأنه الصفحة السوداء في تأريخ الأمويين، لولا أني تذكرت أن تأريخ الأمويين كله - عدا سنتي ابن عبدالعزيز - لم يكن أكثر من كتاب أسود، وليست الحرة أشد صفحاته سواداً.

ومن المدينة وحرتها أخذت طريقي إلى مكة التي سبقني إليها جيش يزيد وحاصرها ومنع الزائرين من دخولها، فلم أعرف أخبارها إلا ممن استطاع أن ينجح في مغادرتها إيثاراً للسلامة، بعد الذي جرى في الحرة وهو غير بعيد.

وسألت أحد هؤلاء عما يحدث في مكة وسبب وجود جيش يزيد ومحاصرته لها، وفيها بيت الله وقبلة المسلمين وأقدس مكان لديهم، فعلمت أن عبد الله بن الزبير قد خلع طاعة يزيد وأنه انتقل إلى مكة يدعو لنفسه، وقد أجابه إلى دعوته عدد كبير من المسلمين في مكة وغير مكة وبايعوه خليفة لهم.

ولم ينصف عبد الله بيت الله في مكة حين لجأ إليه وتحصن فيه وعرض حرمته للامتهان، وهذا ما تكرر منه في زمن عبد الملك بن مروان.

وإذا كان ابن الزبير قد أخطأ وهو يخاطر بحرمة الكعبة، فماذا كان على جيش يزيد لو أنه اكتفى منه بحصره وقطع الإمداد عنه، بدلاً من أن يسرع إلى ضرب الكعبة بالمجانيق فيجرئ على ضربها من بعده.

وعلى كلٍّ فقد جاء موت يزيد ليريح ابن الزبير، ويجنب الكعبة ما كان ينتظرها من جيش يزيد، وسيكون أكثر من ضربها بالمجانيق.

وتركت مكة أعتسف الطريق، لا أدري إلى أين، فقد كان منظر الكعبة وهي تضرب بالمجانيق قد بلغ مني ما أذهلني عن طريقي الذي أريد.

ومن بعيد، لاح لي الأفق وهو مصبوغ بالدم، وما تزال قطرات منه تنزل، وكأن الدم لم يجف بعد... ولن يجف.

١١٣

إذن وصلت الطف.

إذن هذه هي الأرض التي شهدت مأساة الإنسانية، وهذا هو الدم الذي ما يزال يعلم الإنسان كيف يواجه الظلم وينتصر عليه، دون جيش أو سلاح، وهو قد انتصر دون جيش أو سلاح.

هنا وقف الحسين وحده بعد مصرع آله وأصحابه، شامخاً يمثل كبرياء الإنسان وكرامته وعنفوانه أمام الطغيان والظلم وانتهاك إنسانية الإنسان؛ ليكتب تأريخاً جديداً لم تستكمل صفحاته بعد.

أيها الراية الحمراء أرى في كل خفقة من خفقاتها ساحة قتال، ومصارع شهداء وصور أيد وأرجل مقطعة، وأشلاء مبعثرة هنا وهناك ودماً يصرخ بالضعفاء والمترددين والخائفين: إن الطريق هو هذا فاتبعوني.

أيها الملحمة الخالدة على امتداد العصور يستلهم منها الإنسان كبرياء الإنسان وثباته وشموخه.

يا نشيد الثوار، لا تزيده الأيام إلا علواً وارتفاعاً وقوة وهو يخترق الزمان والمكان ليدك حصون المتجبرين الطغاة.

أيها القصيدة التي تنشدها الإنسانية كلها؛ لأنها انتظمت الإنسانية كلها.

أيها اللحن الحزين ينساب في جسم الإنسان برءاً وسلاماً وصفاء حين يعمى الدرب وتختلط الألوان وتضل الرؤية.

أيها الدم الزاكي يسقي الأرض نبلاً وحباً وإخاء.

يا نسيم الفجر يمر رقيقاً ندياً يملأ النفس رقة وإشراقاً وأمناً.

وينتهي الحديث عن يزيد، وينتهي يزيد نفسه، فلا يذكر إلا حين يذكر الظلم والاستخفاف بالإنسان وانتهاك إنسانيته.

ويبقى الحسين وسيبقى الحسين؛ لأن الإنسان لن يموت.

ولكن قبل الانتقال إلى الفصل التالي واستكمالاً لهذا الفصل؛ أراني مضطراً أن أقف عند ظاهرة لم أكن نسيتها؛ لأنها لا يمكن أن تنسى وهي جزء من الفصل نفسه.

١١٤

فجيش يزيد لم يكتف بقتل المقاتلين من الرجال ولا بقتل غير المقاتلين من الأطفال، ولا بمنع الماء عنهم، وهو ما لم يسبق إليه أحد؛ بل تجاوز كل ذاك، إلى الهجوم على النساء والصبيان والفتيات، وحرق الخيام التي تؤويهم، وتركهم دون مأوى ولا ستر ولا أمن، وإن الطفل ليلتصق بثدي أمه فلا تجد ما ترضعه منه؛ لأنها لم تجد ما تأكل، ويشغلها عن الأكل الذي لا تجده، ما هي فيه مما يتجاوز الأكل.

وغير بعيد عن الخيام المحروقة، كان عشرة من (الفرسان) يطؤون بخيلهم جثة هي جثة الحسين، يتفاخرون أمام الأمير: أيهم كان أشد وأقوى في وطئها، بعد أن قطع الرأس ووضع على رمح في طريقه إلى الشام يحمل البشرى لـ (أمير المؤمنين).

سلاماً كربلاء...

وعشقاً لمن ضم ثراك.

١١٥

(٢٠)

عبد الله بن الزبير - الصراع بينه وبين الأمويين

ماذا جرى للمسلمين لا ينتهون من حرب إلا إلى حرب، ولا من قتال إلا إلى قتال، وهم بعد لم يفارقوا نبيهم إلا منذ فترة يمكن حسابها بالأيام، وإن شيءت بالساعات.

بدأت بما سموها حروب (الردّة) التي اشتعلت بعد أيام من وفاة النبي مع طليحة، ثم مع بني يربوع ومالك بن نويرة ثم مع بني حنيفة في اليمامة، ثم لم تتوقف.

ثورة في المدينة وقتال.

حرب في الجمل وصفين وقتال في النهروان.

دم طاهر مسفوك في كربلاء.

حصار واستباحة للمدينة.

حصار لمكة وضرب بالمجانيق.

حرب في مرج راهط بالشام.

حرب بين جيش الأمويين وبين جيش مصعب في مسكن.

ماذا جر على المسلمين تركهم للشورى؟!!

ماذا جر على المسلمين عدم تدوين الحديث، ليمكن لحديث كـ (الأمراء من قريش) أن يشعل القتال داخل قريش نفسها، وكل حي منها يطمع في الخلافة ويحارب للوصول إليها، والمسلمون هم القتلى ووقود الحرب.

لقد تحولت الخلافة إلى حكم يستند إلى القوة والعصبية القبلية، بعيداً عن مفاهيم الإسلام وقيمه التي كانت تقوم على السابقة والبلاء والدين والتي استبعدت وحل محلها قيم أخرى أو قيم نقيضة. فلم تعد تجد المهاجرين والأنصار، ولم تعد تسمع بلالاً وعماراً، بل احتل مكان هؤلاء، اليمانية والمضرية وكلب وقيس وحسان بن بحدل وزفر بن الحارث.

١١٦

هكذا إذن أصبح الإسلام وهذه صورة الحكم فيه، ونحن بعد لم نتجاوز النصف الأول من قرنه الأول إلا قليلاً: صراع وقتال ودم وحروب للاستيلاء على السلطة، وغالب ومغلوب، وعصبيات تقرب وتبعد المطالبين بالحكم اعتماداً على صلة أي منهم بهذه القبيلة أو تلك وقوة هذه القبيلة أو تلك وقدرتها على دعم صاحبها وإنجاحه.

نحن الآن في بداية العقد السابع من القرن الأول وقد انتقل عبد الله بن الزبير إلى مكة واتخذها مركزاً للدعوة إلى نفسه خليفة للمسلمين سراً منذ عام ٦١، ثم علناً بعد موت يزيد.

واستجاب لدعوته غالبية الأقاليم الإسلامية وبايعته. حتى الشام ذات الولاء التقليدي للأمويين، كان الكثير من مدنها قد انحازت إلى ابن الزبير وأعلنت مبايعتها له(١) .

وبدا وكأن ابن الزبير قد بسط سلطانه، ولم يبقَ من يقف مع أعدائه من بني أمية في الشام إلا قبيلة كلب اليمانية ذات النفوذ والقوة هناك، والمعروفة بولائها للأمويين، فمنها كانت نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان، ومنها كانت ميسون بنت بحدل أم يزيد بن معاوية.

وكان كبير الأمويين وشيخهم في ذلك العهد هو مروان بن الحكم، الذي استطاع أن يجمع صفوفهم ويوحدهم، وينظم صفوف أنصارهم من أهل الشام الذين اجتمع رأيهم بعد خلاف طويل على البيعة له كما هو معروف في كتب التأريخ.

وبدأ مروان يتحرك وأمامه خصم قوي هو الضحاك بن قيس الفهري(٢) الذي كان يدعو في دمشق لابن الزبير، تدعمه في ذلك القيسيةن ولابدّ من الخلاص منه.

والتقى الطرفان في أول معركة كبيرة بينهما على أرض الشام عام ٦٥ هي معركة مرج راهط(٣) التي انتهت بهزيمة جيش ابن الزبير وقتل قائده الضحاك بن قيس.

____________________

(١) كان الضحاك بن قيس في دمشق وزفر بن الحارث في قنسرين والنعمان بن بشير في حمص ونائل بن قيس في فلسطين، وكلهم من دعاة ابن الزبير وانصاره، ولم يبق إلا الأردن التي يسيطر عليها حسان بن مالك ابن بحدل الكلبي داعياً للأمويين.

(٢) كان من رؤوس أصحاب معاوية ولي له دمشق. وبعد وفاة يزيد انضم إلى ابن الزبير وقتل عام ٦٥ في معركة مرج راهط التي انتصر فيها جيش الأمويين بقيادة مروان بن الحكم.

(٣) من أرض الشام وفيها كانت المعركة الحاسمة بين جيش عبد الله بن الزبير وبين جيش الأمويين.

١١٧

واستقامت الشام لحكم مروان الذي لم تدم خلافته إلا أشهراً معدودات توفي بعدها ليخلفه فيها ابنه عبد الملك.

وبعد معركة المرج بست سنين جاءت المعركة الحاسمة عام ٧١ في مسكن من نواحي الأنبار في العراق والتي انتهت هي الأخرى، لا بهزيمة الجيش الزبيري وحده، ولكن بقتل قائده مصعب بن الزبير أخي الخليفة عبد الله وتمزق جيشه، وزوال أي أمل لدى عبد الله الذي كان قد اتخذ من مكة عاصمة له.

وقبل أن أصل إلى القتال الذي دار على أرض مكة هذه المرة وداخل بيت الله، سأتوقف لأرى كيف كان حكم ابن الزبير خلال الفترة التي حكم فيها، وأي عدل أشاعه وأي ظلم قمعه، وهو الذي كان ينعى على الأمويين ظلمهم وبعدهم عن الإسلام وقيمه.

وأول ما ألاحظه أن ابن الزبير كان يتبارى مع الأمويين في كره الهاشميين والحقد عليهم والطعن فيهم، يسبقونه حيناً ويسبقهم أحياناً، حتى لقد ترك الصلاة على النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لنسبه الهاشمي(١) ، ولا أدري إن كان على النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يبدل نسبه، أم على الهاشميين أن ينفوا النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله !!

واستمر هذا الحقد ملازماً له طول حياته.

وأظنك تذكر أن ابن الزبير حبس محمد بن علي (ابن الحنفية) وعبد الله بن عباس وعدداً من وجوه الهاشميين وأنصارهم في سجن عارم وضرب لهم أجلاً يبايعونه قبل حلوله أو يحرقهم، ولم يكن هذا منه مجرد تهديد، فقد هيأ كل شيء لتنفيذه، ولم ينقذهم إلا وصول القوات التي بعث بها المختار بن أبي عبيد والتي أخرجتهم من السجن قبل يومين فقط من الأجل المضروب لإحراقهم(٢) .

____________________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٧٩، وشرح نهج البلاغة ج ٥ ص ٨٢٠، وتأريخ اليعقوبي (أيام مروان بن الحكم وعبد الله ابن الزبير ...) وبقي ابن الزبير لا يصلي على النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أربعين يوماً (حتى عاتبه على ذلك قوم من خاصته وتشاءموا بذلك منه وخافوا عاقبته).

(٢) تأريخ الطبري احداث سنة ٦٦ وابن الأثير أحداث نفس السنة والأغاني ترجمة كثير عزة.

١١٨

وأظنك تذكر أيضاً هذه المرأة المفجوعة بزوجها، إنها عمرة بنت النعمان بن بشير، لقد نسي ابن الزبير فضل جدها بشير بن سعد الذي كان أول المبايعين في السقيفة لجده من قبل أمه أبي بكر.

ما ذنبها؟ إنها قالت ما عرفته عن زوجها المختار حين سألها عنه مصعب فصدقته القول فيه: إنه كان من المصلين الصائمين الصالحين، رافضة أن تكذب كما طلب منها أخو أمير المؤمنين؟!

لقد فضلت أن تموت صادقة على أن تشتري حياتها باتهام شخص بريء هو زوجها الذي عاشت معه وعرفته، فلم تعرف منه إلا الخير.

ودفعت ثمن صدقها: رأسها يفصله عن جسدها سيف مجرم(١) .

إنها امرأة لم تحمل سيفاً ولم تشارك في قتال ولم تفعل إلا ما تفعله المرأة الوفية الصالحة، يطلب منها أن تكذب على زوجها القتيل فترفض.

أكان عليها أن تكذب؟! أن تتهم زوجها الذي تعرفه، بما هو بريء منه لكي تنجو من السيف.

لقد كان قتل عمرة عاراً لن يستطيع محوه هؤلاء الذين أجهدوا أنفسهم وأقلامهم في الحديث عن المروءة العربية والفروسية العربية، وعمرة تصرخ في وجوههم ساخرة مستنكرة.

وولدا حجر بن عدي؟! أي ذنب ارتكباه، وهما لم يبلغا السن التي يمكن أن ينسب إليهما ذنب؟ لِمَ قتلهما مصعب بعد أن انتزعهما من حضن أمهما الثكلى؟ ما أظنه إلا حسد بسر بن أرطأة وهو ينتزع طفلي عبيد الله بن عباس من حضن أمهما ويقتلهما فلم يرد أن يكون دون بسر في الإنسانية والمروءة !!.

والسبعة آلاف أسير الذين سيأتي حديثهم بعد هذا؟!

أية سادية وأي عشق للقتل، هذا الذي يحمله في جنبيه أمير المؤمنين وأخوه؟! وأية جريمة يقترفها هؤلاء المبررون للجريمة، المدافعون عنها؟!

____________________

(١) انظر تفصيل ذلك في كتابنا (على هامش الفرق الإسلامية) في الفصل الخاص بالمختار.

١١٩

هؤلاء الذين يريدون أن يجعلوا من ابني الزبير، ومن كل المجرمين العرب - قبلهما وبعدهما - أبطالاً ورموزاً للحق والعدل والمروءة لا يعوزهم إلا نصب التماثيل... وأحسبهم فعلوها!!!

ويح ابن الزبير، ألم يخش ربه وهو يزعم أنه ما ثار إلا لإعلاء كلمته وإعادة ما درس من أحكام دينه؟!

ما الذي زاد عليه الأمويون، وبماذا كان هو دونهم؟!

ماذا كان سيلقى المسلمون منه لو طال حكمه أكثر مما طال؟!

إذن والله سينسيهم كل جبابرة الدنيا وطغاتها، ولن يكون أشدهم جبروتاً وطغياناً إلا ملكاً رحيماً في جنبه.

رحم الله هؤلاء المسلمين الذين قتلهم هو وأخوه وأبوه.

وقبل أن أنتهي من حديث ابن الزبير، كنت أسأل نفسي: لِمَ يلجأ هذا الرجل في حروبه مع الأمويين إلى حرم الله؟ ما الذي يدعوه إلى ذلك؟

لِمَ لم يخرج لقتال جيش الأمويين يقوده الحصين بن نمير؟!

ولِمَ لم يخرج لقتال جيشهم يقوده الحجاج، وهو يعرف أنه غير تاركه، وأن تحصنه في بيت الله لن يفعل أكثر من تعريضه للامتهان - بيت الله - وهو ما حصل حين ضربت الكعبة بالمجانيق وهدم جزء منها؟!

لِمَ لم يخرج إليهم ويقاتلهم كما يفعل المقاتلون الفرسان، فلا يتحصن بالحرم ولا يعرضه لما تعرض له؟!

هلا فعل كما فعل بعده، ثائر علوي هو محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) الذي عرض عليه أن ينجو بنفسه ويلتحق بمكة أو باليمن وله فيهما مأمن. وذلك حين أحاط به جيش عيسى بن موسى في المدينة، وقتل أو تفرق عنه أصحابه وأيقن بالقتل، فأبى رغم ما بذل له عيسى من الأمان على نفسه وأهله وماله وقال: (إذن يستعرض عيسى أهل المدينة بالسيف فيكون لهم يوم كيوم الحرة، لا والله لا أحفظ نفسي بهلاك أهل المدينة بل أجعل دمي دون دمائهم.

١٢٠