جذور الشر

جذور الشر0%

جذور الشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 224

جذور الشر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 46380
تحميل: 5818

توضيحات:

جذور الشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46380 / تحميل: 5818
الحجم الحجم الحجم
جذور الشر

جذور الشر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(٣٢)

بعض ملامح الحكم الأموي

أظن علي الآن وقد انتهيت من حديث الخلفاء الأمويين، كل على انفراد، أن أتناول الحكم الأموي ككل، وأشير إلى سماته الأساسية فيما يخص سيرته في الناس والعنف الذي أخذهم به؟ والوحشية التي طبعت سلوكه مع الذين كرهوه أو رفضوه أو ثاروا عليه بعد اليأس من إصلاحه.

وسأبدأ بأولى هذه السمات:

١- الإيغال في القتل وسفك الدم: وهي سمة لازمت هذا الحكم منذ أيامه الأولى بل قبل أيامه الأولى كحكم، فالقتل والتفنن فيه وعدم التمييز بين طفل وشيخ ومحارب وغير محارب، هو الأساس الذي قام عليه هذا الحكم.

وما كنت لأقف عند هذه النقطة لو اقتصر الأمر على القتل في ساحة الحرب؛ فذلك لا يثير سؤالاً، والحرب تأكل المحاربين من الطرفين، لكن الذي أود الكلام فيه شيء آخر خطير مختلف تماماً، وأخطر ما فيه أنه أصبح سنة بعد أن مارسه الأمويون طوال حكمهم، وهو هذا الإسراف في القتل الذي شمل من لم يكن مقاتلاً أو من أسر فقتل صبراً وهو أسير خارج دائرة القتال، وهذا ما كان يأباه العرب ويأنفون منه ويعيرون من يفعله منهم، حتى وهم في الجاهلية.

فإذا تجاوزنا القتل صبراً خارج الساحة أو دون ساحة، فألاحظ أن الأمويين نجحوا في استحداث فنون للقتل لم يسبقهم إليها أحد، ثم فنون أخرى لما بعد القتل، فدفن الإنسان حياً، أو قطع رأسه والطواف به أو قطع يديه ورجليه أو حرقه بعد القتل والصلب، كان شيئاً مألوفاً لم تسلم منه حتى النساء عند الظفر بهن.

هكذا تعامل الأمويون مع الناس: وحشية لا أفهم كيف يبررها من يكتبون عنهم ويمجدون حكمهم، إلا أن يكونوا مثلهم في النظر إلى الإنسان؛ هذا الذي لا تقوم الحياة إلا به، بل إنه الحياة نفسها.

١٦١

كيف أفسر انتزاع بسر بن أرطاة، أحد قادة معاوية البارزين، طفلي عبيد الله بن عباس من حضن أمهما وهي متعلقة بهما وهما متعلقان بها ثم يذبحهما أمامها وهي تنظر إليهما والسكين يمضي في عنقيهما، ويتدحرج رأسا الطفلين، الواحد بعد الآخر فتعمى الأم وتجن، ويضحك بسر ويضحك أمير المؤمنين الذين منهم بسر.

أي مشهد هذا؟ أترى كل لغات العالم تستطيع أن تعبر عنه فتحسن التعبير؟

أية وحشية هذه التي ما تصورتها إلا وحاولت أن أبعد صورتها عن ذهني إلى صورة أخرى لا يكفي فيها القول بأنها النقيض لها، صورة أسرع إليها، أتفياً ظلالها، أحاول أن أستعيد الثقة بإنسانيتي من خلالها.

كان جيش الشام في صفين قد أخذ شريعة الفرات ومنع العراقيين من ورده وسقي خيلهم ودوابهم منه ليميتهم عطشاً كما أمر معاوية.

ويشد العراقيون على أهل الشام فيهزمونهم ويزيحونهم عن الفرات ويسيطرون عليه، ولم يبقَ بين هؤلاء وبين أن يهلكوا عطشاً إلا بمقدار ما يستطيع الإنسان أن يصبر عن الماء(١) .

وهنا يظهر الإنسان، الإنسان المثل، الانسان الذي يتعالى على جراحه؛ لأنه يضم الإنسانية كلها بين جنبيه، هنا يأمر علي بأن يخلي عن جزء من الشريعة ليستقي أعداؤه، ويسقوا خيلهم ودوابهم وعيالهم حتى لا يموتوا عطشاً مع أنهم لم يريدوا إلا هذا حين أخذوا الشريعة ومنعوا جيش علي من الماء.

صورتان، ما ذكرت الأولى، إلا أسرعت إلى الثانية، ثم يتحدثون عن معاوية وعمرو ودهاء وانتصار!!

على ان كل حديث عن القتل والدم في ظل الحكم الاموي أو في غيره، سيصغر ازاء ما جرى في العاشر من محرم، حيث شهدت ارض كربلا في ذلك اليوم، المأساة الانسانية الخالدة التي سيهدم حكم الامويين وحكم غيرهم من الظغاة. مأساة كربلاء، مأساة الانسانية في كربلاء. تلك هي الراية التي ستقود زحف الثوار في كل زمان وكل مكان. انها راية العاشر من محرم: راية الحسين.

____________________

(١) الحادثة مشهورة ترويها كل كتب التأريخ، ومنها تأريخ الطبري وتأريخ ابن الأثير أحداث سنة ٣٦.

١٦٢

٢- وكما أسرف الأمويون في دماء المسلمين فقد أسرفوا في أموالهم، وهي حقوقهم التي أفاءتها عليهم سيوفهم واستشهادهم بين أقاصي المشرق وأقاصي المغرب، لم يرثها الخليفة عن أبيه ليتصرف فيها كما يشاء، وهو لو ورثها عن أبيه لما عدم من يلومه وربما طلب الحجر عليه.

ماذا فعل الخلفاء بكل هذه الأموال، وما هو نصيب المسلمين منها ولكل منها نصيب، وهي ثمن دمائهم وعذابهم وهجر ديارهم وعوائلهم؟!

لا أظنني أغالي إذا قلت إنه لم يكن للمسلمين منها نصيب أو نصيب يناسب الحد الأدنى لتضحياتهم، لقد بذرها الأمويون في غير وجوهها، بل في عكس وجوهها، فاستعملوها في شراء الرجال وإفساد الذمم وتخريب النفوس وفي الإنفاق على مجالس اللهو والندمان والجواري، وعلى أسرة الخليفة وحاشيته، ووعاظ السلاطين ممن هم على استعداد لتبرير ما يفعل الخليفة والإشادة به والدفاع عنه.

ثم هذه الأفواج من الشعراء الذين وجدوا ضالتهم في هؤلاء الخلفاء فتراهم يزدحمون على أبوابهم، لا يخرج الواحد منهم إلا وجائزته معه، على قدر ما ينافق في مديحه لهم والطعن في خصومهم والانتقاص منهم والتنازل عن ضمير، لم يجد من يحرص عليه، إلا الإبعاد والحرمان، وما أقل الذين يحرصون عليه، وهذا ثمنه!

لقد كانت هذه الأموال، وهي محصورة في أيدي الخلفاء، سبباً كبيراً من أسباب التدهور الاجتماعي والخلقي وشيوع النفاق ورواج الكذب في هذا العهد ثم في العهود التي تلته، فهذه الأموال الأسطورية خلقت تفاوتاً خطيراً بين سكان البوادي وسكان الحواضر، ثم داخل هذه الحواضر، بين السعداء المحظوظين من القريبين من الخليفة أو القريبين من هؤلاء القريبين، وبين غيرهم ممن لم يساعدهم الحظ على أن يكونوا منهم.

بين من قتلته التخمة وبين من قتله الجوع لم تكن المسافة بعيدة إذن.

١٦٣

وأحب أن أشير هنا إلى أن محاولة الأمويين حصر المديح فيهم وقصره عليهم يتصل - كما يبدو لي - بموضوع سياسي، بالخلافة ذاتها، ذلك أن ما يقال عن علو بيتهم بين بيوت العرب وأسرها، وتكرار هذا والتأكيد عليه في كل ما يمدحون به - والشعر العربي الأموي في جزء كبير منه مديح لهم - يراد به إقناع العرب، مع طول الوقت، بأن الأمويين وحدهم ودون سائر العرب، هم الذين يصلحون للخلافة وتصلح لهم: امتياز يصرف غيرهم عن التفكير فيها، ويصرف الناس عن الانضمام إلى من يفكر فيها.

وأظن قصة الفرزدق مع سليمان بن عبد الملك تستطيع أن تقدم لنا صورة من هذا، فيروي المترجمون للفرزدق انه حضر يوماً عند سليمان وهو آنذاك خليفة، فطلب من الفرزدق أن ينشده، وإنما أراد سليمان أن ينشده مدحاً فيه، فأنشده الفرزدق مدحاً في أبيه غالب من ثلاثة أبيات يقول في الثالث منها:

إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها

وقد خصرت أيديهم نار غالب

فأعرض عنه سليمان كالمغضب، ويضيف بعضهم أنه قال له: قم فالحق بنار أبيك.

فالأمويون يريدون المديح خالصاً لهم لا شركة فيه لأحد ولا حصة منه لأحد، لا يسمحون أن يمدح بحضورهم سواهم، ولا أن يشرك معهم في المدح غيرهم، ولو استطاعوا أن يمنعوا الشعراء من مديح غيرهم لفعلوا، بدأوا الطريق الذي سلكه العباسيون بعدهم وتجاوزوهم فيه.

وأظنني أسرفت في وقت القارئ وجهده قبل أن أنتهي من الموضوع الذي كنت فيه، وربما أعداني إسراف الأمويين في دم المسلمين ومالهم فأسرفت في وقت القارئ وجهده.

ولأعد إلى حديثي عن أموال المسلمين وتبذيرها في غير مصارفها أو في عكس مصارفها، وسأقتصر من ذلك على بعض الأمثلة وأحسبها تغني عن الإكثار منها ومتابعتها، وهو أمر يتجاوز قدرتي لأنه يمثل سمة لازمت الحكم الأموي، فمن العبث إذن أن أحاول متابعته.

١٦٤

هذا معاوية أول خلفائهم يمنح مصر كلها وبكل مواردها هدية خالصة (طعمة) لعمرو بن العاص ما بقي حياً(١) لماذا؟ ألأن ابن العاص كان فقيراً لا يملك ما ينفقه على عياله؟! فإن في بيت مال المسلمين ما يكفيه ويكفي غيره من فقراء المسلمين ومعدميهم الذين لا يملكون فعلاً ما ينفقونه على عيالهم، ثم إن في دون مصر، وفي دون قرية صغيرة من قراها، ما يفي بحاجة أكثر من واحد من فقراء المسلمين ومعدميهم، مثل عمرو بن العاص!! هذا إلى أن البلدان، وحتى القرى منها ليست مما يهدى أو يطعم، لكن معاوية منح مصر كلها طعمة، اشترى بها عمراً وذمة عمرو للالتحاق به والقتال معه ضد علي، وليس في هذا ما يشرف الإسلام أو المسلمين، وليس في هذا ما يمتنع على غير معاوية وما لا يقدر عليه لو تخلى عن خلقه ودينه وإنسايته.

وتصبح هدية البلدان، هذه التي ابتدعها معاوية سنة، تبعه فيها الآخرون من حكام الأمويين، وولاتهم وأمرائهم، كل (يطعم) من يريد منه شيئاً، بلاداً أو إقليماً أو مدينة مقابل ما يريد منه، وأظنني ذكرت ذلك سابقاً.(٢)

ويستمر حديث الأموال، وربما أطلت فيه لأني لا أملك، وربما لا يملك القارئ منها شيئاً، فلنمضِ فيه لنرى ما حل بأموال المسلمين، ومن خلالها، بالمسلمين أنفسهم.

هذا خالد بن عبد الله القسري والي العراق من قبل هشام، لقد بلغت غلته السنوية - لا ما يملك - عشرين ألف ألف درهم. ولأنهم لم يعرفوا المليون في ذلك الوقت، فسأخبرك أن المبلغ يساوي عشرين مليون في حساب أيامنا.

فخالد وهو لا يزيد على أن يكون واحداً من الولاة، تبلغ غلته عشرين مليون في السنة، وتزيد غلة ابنه على العشرة ملايين، وأظنك تدرك ما يعني هذا الرقم في العهد الذي نتكلم عنه(٣) .

____________________

(١) مروج الذهب ج ٢ ص ٣٤٥.

(٢) راجع ص ٨٥ من هذا الكتاب.

(٣) راجع ص ١١٧ من هذا الكتاب.

١٦٥

ولكن ما لنا نلوم خالداً وابنه ونستكثر عليهما ذلك، إذا كان الخليفة هشام نفسه يلجأ إلى الحيلة في الحصول على المال، فينقل لنا الجهشياري: (إن هشاماً أقطع قبل أن تفضي الخلافة إليه أرضاً يقال لها (دورين)، فأرسل في قبضها فإذا هي خراب فقال لذويد - كاتب كان بالشام - ويحك: كيف الحيلة! فقال: ما تجعل لي؟ فقال: أربعمائة دينار، فكتب (دورين وقراها) ثم أمضاها في الدواوين فأخذ هشام شيئاً كثيراً...).(١)

ولن يخفف من فعل هشام أن ذلك كان منه قبل أن يلي الخلافة؛ لأنه بعد الخلافة لن يحتاج إلى التزوير.

بل إن الوظائف العامة قد تحولت في زمن الأمويين إلى صفقات يفوز بها من يزيد في السعر، فيروي زياد بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي، في قصة طويلة له مع خالد بن عبد الله القسري لا ضرورة لإثباتها هنا، وسأقتصر على ما له صلة بموضوعنا رغم طوله أيضاً (فقال: - يعني خالداً لزياد - اخرج فقد وليتك عمله - عامله على الري - فخرجت حتى قدمت الري، فأخذت عامل الخراج فأرسل إلي: إن هذا أعرابي مجنون، فإن الأمير لم يولِّ على الخراج عربياً قط، وإنما هو عامل المعونة، فقل له فليقرني على عملي وله ثلاثمائة ألف، قال: فنظرت في عهدي، فإذا أنا على المعونة، فقلت: والله لانكسرت، ثم كتبت إلى خالد: إنك بعثتني على الري، فظننت أنك جمعتها لي. فأرسل إلى صاحب الخراج أن أقره على عمله ويعطيني ثلاثمائة ألف درهم، فكتب إلي: أن اقبل ما أعطاك واعلم إنك مغبون...)(٢) .

ولا أريد أن أضيف شيئاً إلى النص، وما أراه يحتاج إلى إضافة، الكل يشتري ويبيع: الأكبر إلى الكبير، والكبير إلى من دونه، تجار كبار وتجار جملة وتجار مفرق، والويل للمستهلك.

____________________

(١) الوزراء والكتاب لمحمد بن عبدوس الجهشياري ط أولى. مصطفى البابي الحلبي ص ٦٠.

(٢) تأريخ الطبري ج ٧ ص ٢٨.

١٦٦

وفي خلافة الوليد بن يزيد، وبعد أن اشترى منه يوسف بن عمر، ولاية خراسان، كتب يوسف إلى نصر يأمره بالقدوم عليه مع ما أمكنه من الهدايا والأموال، فجمع نصر ما طلبه يوسف، من أهل خراسان ومن عماله فيها، فلم يدع بخراسان جارية ولا عبداً ولا برذوناً فارهاً إلا أعده، واشترى ألف مملوك وأعطاهم السلاح وحملهم على الخيل، ويقال إنه (أعد خمسمائة وصيفة وأمر بصنعة أباريق الذهب والفضة وتماثيل الضباء ورؤوس السباع والأبابيل وغير ذلك).(١)

ولا أدري ماذا تعني هذه الـ (غير ذلك) بعد كل ذلك!!

يبقى السؤال: من أين لخالد بن عبد الله ولابنه ولنصر بن سيار ولكل الذين أسندت لهم وظائف في الدولة، ابتداء من الأمراء والولاة، وحتى أصغر العمال فيها، تاركين الخلفاء وأبناءهم، فالدولة كلها ملك لهم، من أين لهؤلاء كل هذه الأموال؟ هل كانت فائضة أو من غنائم الحروب، فالأولى بها أن ترسل إلى بيت مال المسلمين، فهي حق لهم، جمعتها سيوفهم ودماؤهم وإن كانت قد أخذت قهراً وغصباً، وهو هذا، فكان الله في عون هؤلاء المساكين الذين سلب منهم قوتهم ليصاغ ذهباً وفضة وتماثيل الظباء و.. و.. .

وأظن من العبث بعد كل هذا، الحديث عن عدل في التعامل مع الإنسان، ومما يتجاوز العبث سيكون الحديث عن حقوق وحريات وشورى ومشاركة في حكم أو في اختيار حاكم.

٣- ولاية العهد: وأصل إلى ولاية العهد: هذا الداء الخبيث الذي أفسد الحياة السياسية الإسلامية، بل شلها، ولأقل - غير مبالغ - قتلها، وكأن الحياة السياسية الإسلامية كانت سليمة فأضيف إليها هذا الداء، وهو أخطر ما أضيف.

مبدأ ولاية العهد هذا، هو الذي أريد الحديث عنه هنا كسمة من السمات التي طبعت الحكم الأموي على امتداده تقريباً، مع أني تحدثت عنه في هذا الكتاب وفي غير هذا الكتاب، وأظنه يستحق أكثر من حديث.

لقد كانت ولاية العهد النقيض الواضح للشورى وحرية الإنسان وحقه في اختيار من يراه أهلاً للحكم، لا أجد ما يبرره رغم كل حجج المدافعين عنه أو - حتى أكون صريحاً - حجج المدافعين عن شخصين: هما: الذي سنّه وشرعه ثم الذي سار عليه وأكده.

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٧ ص ٢٢٤.

١٦٧

وبين تشريعه وبين تأكيده، أجد الأسلوب الذي تأكد به وأفرز قاعدة جديدة للحكم، هو أسوأ الأساليب، فهذا الأسلوب حصر أولاً الخلافة في قريش وحدها، مستبعداً، دون حق، كل المسلمين الآخرين، فلست تجد بين الستة المرشحين واحداً من خارج قريش، مع أن الإسلام لم يميز بين قرشي وغير قرشي، ولم يكن التفاضل فيه إلا بالسابقة والدين والجهاد، وبين المسلمين المستبعدين من هو أفضل أو لا يقل عن بعض المرشحين الستة للخلافة.

وليت الأمر وقف عند سلب المسلمين حقهم في الخلافة، وإنما تجاوز ذلك ليسلب حقهم حتى في اختيار من يفضلونه من بين المرشحين القرشيين للخلافة، حين فوض الأمر كله وحصره بواحد من هؤلاء الستة، جعل له وحده حق اختيار الخليفة من بينهم.

ثم إن هذا الأسلوب زرع الفتنة وأسباب العداء والبغضاء، لا بين المسلمين وبين قريش فقط، حين استبعد الأولين وسلبهم حقهم، بل زرع الفتنة وأسباب العداء والبغضاء بين بطون قريش وأحيائها، وهي تحارب بعضها وتقاتل بعضها للفوز بالخلافة المحصورة فيهم.

لقد كان هذا الأسلوب في نظري بداية الفتنة التي عمت المسلمين ومزقت صفوفهم وما تزال.

وعلى كل فقد تحول هذا الأسلوب - الاستثناء إلى أن يكون هو القاعدة والأصل عندما انتقل الحكم إلى الأمويين، فها هو معاوية: أول خلفائهم يأخذ ولاية العهد أي خلافة المسلمين بعده، لابنه يزيد، مع كل ما عرف عنه، ومع وجود عدد كبير من خيار الصحابة والتابعين ممن كان سيتولى الخلافة على الأرجح، لو ترك المسلمون ومن يختارون.

ولست في معرض الحديث عن يزيد وأخلاقه وصلاحه أو عدم صلاحه لخلافة المسلمين، فهذا ما أراني في غنى عن الخوض فيه لأكثر من سبب أهمها أنه معروف.

١٦٨

لكن ما يلفت في هذا الاستثناء الذي تطور فيما بعد وأصبح قاعدة للحكم عند الأمويين، أنه لم يعد يقتصر على الشكل الأول لولاية العهد: من شخص إلى آخر.ولا الشكل الثاني وهو أسوأ من سابقه: ترشيح أكثر من واحد في نفس الوقت، يختار من بينهم الخليفة. وإنما تحول - كما هو المتوقع في مثل هذه الأمور - إلى الأسوأ من الاثنين؛ إذ صارت ولاية العهد بالخلافة، لأكثر من واحد بالتعاقب. وطبيعي أن يحاول السابق، وقد صار الخليفة، القادر على كل شيء، أن يحاول إبعاد اللاحق عنها، لصالح من هو أقرب إليه، أو أن يستعجل اللاحق ويسرع إلى التخلص من السابق ليحل محله إذا تهيأ له ذلك. فليس منصب الخلافة بالمنصب الهين الذي يمكن لمن له (الحق) في إشغاله، أن يتنازل عن حقه أو يتسامح فيه أو يتركه لغيره.

وهكذا تحولت الخلافة من شورى كما يقال إلى تعيين. ومن تعيين واحد إلى أكثر من واحد في ذات الوقت تدور بينهم الخلافة. ثم إلى تعيين أكثر من واحد على التوالي. وما شيءت من مؤامرات وفتن وصفقات لإبعاد الثاني أو للتخلص من الأول. وهي النتيجة الطبيعية لأمر غير طبيعي، يدفع الثمن فيه هؤلاء الناس الذين حررهم الإسلام فاستعبدهم المسلمون.

وحديث طويل عريض لا ينتهى طولاً وعرضاً عن الحرية والشورى ونزاهة الحكم.

٤- العصبية القبلية:

والعصبية مرض يصيب الإنسان فيفسد عقله حتى لا يرى من الأشياء إلا جانباً واحداً هو الذي يريده منها، وهنا موضع الخطر. فهو لا يناقش، وإذا اضطر يوماً إلى أن يناقش فإنه يكون قد حدد مسبقاً نتيجة هذا النقاش وحسمها لصالحه، حتى لو لجأ إلى حرف الوقائع أو إنكارها إذا وجد فيها ما يتعارض مع رأيه.

وهذا المرض لا يختص بميدان بذاته، بل تواجهه في كل ميدان: في الفكر وفي السلوك، في الدين وفي المذهب، في السياسة والاقتصاد، في أخطر القضايا وفي أبسطها.

ولقد عانت الإنسانية خلال تأريخها، الكثير من هذا المرض الذي لم تفلح حتى الآن في إيجاد الدواء المناسب له.

١٦٩

والعديد من الحروب التي حصدت الملايين من البشر، قامت بسبب هذه العصبية العرقية أو الدينية أو المذهبية. وأحسب عالماً كبيراً هو هذا العالم العربي الإسلامي الذي نحن - لسوء الحظ جزء منه - ما يزال يعاني من هذا المرض، وربما أشد من السابق.

فالعصبية بأي صورها أخذتها، تتعارض مع الحرية، وهي قيد ثقيل عليها، بل قيد على العقل الذي لم يخربه ويشله كهذه العصبية.

ولأن حديثي يتعلق أصلاً بالعصبية القبلية في ظل الحكم الأموي ومدى تأثيره فيها، فسأحاول أن أقصره عليها كموضوع عربي لا أخرج به إلى ميدان آخر.

ولأبدأ من الجاهلية: فهل كان العربي في الجاهلية حراً كما يوصف دائماً؛ لعدم وجود سلطة يخضع لها ولا دولة تفرض عليه قوانينها؟

لا أظن. وليس من بأس أن أستعير هنا الاصطلاح المتداول هذه الأيام لوصف العربي بأنه: كان مصاباً بازدواج الشخصية. فهو حر في التعبير عن حبه ووصف حبيبته، هذه التي تيمته وملكت فؤاده، يسهر مع خيالها في الليل، يناجي النجم حين ينام الخليون من الناس.

وهو حر في وصف ناقته التي يجوب عليها القفار المخوفة، لا أنيس فيها غير الوحش، تنشط أحياناً ويصيبها الكلل أحياناً. أو وصف فرسه في كل حالاته، في الحرب والسلم، وفي سرعته التي يسابق بها الريح، فلا يصيبه بسوطه إلا ظالماً له.

والعربي حر في الإدلال بشجاعته وفي اقتحامه المخاطر التي لا يجرؤ غيره على اقتحامها. وفي التمدح بكرمه وهو ينحر ناقته التي قد لا يملك غيرها لمن ينزل عنده من الضيوف، عن معرفة أو عن غير معرفة.

والعربي حر في أن يقول ما يشاء، وصفاً ومدحاً وهجاء وفخراً ورثاء.

١٧٠

هو إذن حر في التعبير عن عواطفه كما يشاء. لا قيد على حريته تلك، ما تعلق الأمر به كفرد ولم يتجاوز حدوده كفرد، لكنه ما أن يترك فرديته إلى القبيلة، حتى يصبح جزءاً منها، حريته من حريتها فيما يقول ويتصرف: يثور حين تثور ويسكن حين تسكن، فهي التي تتحرك فيه وتقول على لسانه ما يقول. قد نسي كل شيء إلا أنه من غزية، يغوى إن غوت ويرشد إن ترشد.(١)

وحين جاء الإسلام، حاول أن يستبدل بعصبية القبيلة عصبية الدين فيكون هذا هو الذي يجمع المسلمين. وبقدر اقترابهم منه يكون اقترابهم من بعضهم. فالإسلام لا القبيلة، هو الذي يجب أن تتجه إليه العصبية؛ به يكون الفضل عند التفاضل وبالسبق إليه والبلاء فيه والجهاد لإعلاء كلمته يمتاز مسلم عن مسلم، ويتقدم مسلم على مسلم.

لكن العصبية القبلية لم تمت حتى في حياة النبي نفسه وإن كانت ضعفت تحت تأثير الدين وبقوته كما ذكرت.(٢)

وانتهى عصر النبوة، وانتهى بعده عصر الراشدين الذي لم تخل أيامه هو أيضاً من بعض وجوه العصبية القبلية.

وها نحن أمام عهد جديد لم يقم على أساس من دين أو جهاد أو سابقة، وإنما بعد حرب استعمل فيها معاوية كل الوسائل غير الأخلاقية البعيدة عن الإسلام وقيمه، والبعيدة عن الإنسان وقيمه. فأي غريب أن تضعف العصبية الإسلامية وتخلي مكانها للعصبية القبلية التي بدأت مبكراً مع الحكم الأموي، أو بالأحرى قام عليها هذا الحكم.

____________________

(١) وهذا ما يمثله بيت دريد بن الصمة أحد فرسان هوازن المشهورين في الجاهلية وهو من عدة أبيات منها بيته المعروف:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

(٢) من ذلك ما كان في غزوة بني المصطلق من خزاعة عام ٦ للهجرة حين تزاحم على ماء المريسيع: ماء لبني المصطلق، جهجاه بن مسعود الغفاري أجير عمر بن الخطاب وسنان بن وبر الجهنى حليف بني عوف بن الخزرج فاقتتلا، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ جهجاه يا معشر المهاجرين. وكادت تقع فتنة لولا أن يتداركها النبي بتعجيل الرجوع إلى المدينة لاشغال الناس عما جرى. سيرة ابن هشام، المكتبة العلمية- بيروت لبنان ج ٣ ص ٢٩٠، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٦٠٥، وتأريخ ابن الأثير ج ٢ ص ٨١.

١٧١

فمنذ البدء اعتمد معاوية في حكمه علي العصبية القرشية، وعلى عدد من القبائل، تمثل اليمانية مركز الثقل فيها. ومن بين هذه القبائل، كانت كلب: القبيلة اليمانية القوية، وأخوال ابنه يزيد، هي صاحبة النفوذ الأقوى في عهد معاوية.

وبقيت كلب والقبائل اليمانية عموماً تتمتع بهذا النفوذ في زمن يزيد ومروان بن الحكم؛ فقد كان لكلب خصوصاً، الدور الكبير في الانتصار الذي حققه مروان على عبد الله بن الزبير في معركة مرج راهط، التي مثلت مرحلة هامة في الحرب التي استمرت دائرة بين ابن الزبير وبين الأمويين بقيادة عبدالملك بن مروان، حتى انتهت أخيراً بقتل ابن الزبير وصلبه في مكة، على يد الحجاج بن يوسف كما هو معروف.

وجاءت معركة المرج هزيمة للقيسية المضرية ونصراً لأعدائهم من القبائل اليمنية سيما كلب.

وقبل هذه المعركة وبعدها، كانت السياسة الأموية تدفع دفعاً إلى العصبية القبلية تبعاً لمواقف الخلفاء، وأحياناً مواقف ولاتهم من هذه القبيلة أو تلك، وتقريبهم أو استبعادهم لها. وزاد من حدة الشعور بهذه العصبية، أن التقريب والاستبعاد في هذا العهد يعني تقريباً أو استبعاداً من السطوة والمال والحكم. وهو ما لم تعرفه العصبية القبلية في الجاهلية.

ولكي تعلم مدى ما وصلت إليه العصبية القبلية من خطورة فسأنقل لك نصاً للطبري يورده ضمن أحداث سنة ١١٧ تحت عنوان (أمر أسد بن عبد الله - القسري اليمني أخي خالد بن عبد الله - مع دعاة بني العباس).

(وفي هذه السنة - ١١٧ - أخذ أسد بن عبد الله جماعة من دعاة بني العباس بخراسان، فقتل بعضهم ومثل ببعضهم، وحبس بعضهم. وكان فيما أخذ سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب ولاهز بن قريظ وخالد بن إبراهيم وطلحة بن زريق، فأتي بهم، فقال لهم: يا فسقة ألم يقل الله تعالى:( عَفَا اللهُ عَمّا سَلَفَ وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) (١) . فذكر أن سليمان بن كثير قال: أتكلم أم أسكت؟ قال بل تكلم، قال: نحن والله كما قال الشاعر:

لَو بِغَيرِ الماءِ حَلقي شَرِقٌ

كَنتُ كَالغَصّانِ بِالماءِ اعتِصاري

____________________

(١)المائدة: ٩٥.

١٧٢

تدري ما قصتنا؟ صيدت والله العقارب بيدك أيها الأمير، إنا أناس من قومك، وإن هذه المضرية إنما رفعوا إليك هذا لأنا كنا أشد الناس على قتيبة بن مسلم - باهلي قيسي مضري - وإنما طلبوا بثأرهم. فتكلم ابن شريك بن الصامت الباهلي، وقال: إن هؤلاء القوم قد أخذوا مرة بعد مرة، فقال مالك بن الهيثم: أصلح الله الأمير: ينبغي لك أن تعتبر كلام هذا بغيره، فقالوا: كأنك يا أخا باهلة تطلبنا بثأر قتيبة! نحن والله كنا أشد الناس عليه، فبعث بهم أسد إلى الحبس، ثم دعا عبد الرحمن بن نعيم فقال له: ما ترى؟ قال: أرى أن تمن بهم على عشائرهم، قال: فالتميميان اللذان معهم؟ قال: تخلي سبيلهما، قال - يعني أسد بن عبد الله - أنا إذاً من عبد الله بن يزيد نفي، قال: فكيف تصنع بالربعي؟ وبين اليمن وربيعة حلف طويل؟ قال: أخلي والله سبيله، ثم دعا بموسى بن كعب - وهو من تميم من مضر - وأمر به فأُلجم بلجام حمار، وأمر باللجام أن يجذب فجذب حتى تحطمت أسنانه، ثم قال: اكسروا وجهه، فدق أنفه ووجأ لحيته، فندر ضرس له. ثم دعا بلاهز بن قريظ - وهو تميمي مضري أيضاً - فقال لاهز: والله ما في هذا الحق أن تصنع بنا هذا، وتترك اليمانيين والربعيين، فضربه ثلثمائة سوط، ثم قال: اصلبوه، فقال الحسن بن زيد الأزدي: هو لي جار وهو بريء مما قذف به، قال: فالآخرون؟ قال: أعرفهم بالبراءة، فخلى سبيلهم)(١) .

فهل رأيت إلى أين وصلت العصبية القبلية؟ دعاة بارزون لبني العباس، يريدون هدم الحكم الأموي الذي يمثل أسد بن عبد الله وأخوه خالد بن عبد الله القسري اليمني، ركنين من أركانه، يؤخذون وهم في نشاطهم أكثر من مرة. كما يظهر من الآية الكريمة التي استشهد بها أسد في أول حديثه معهم، ومن كلام ابن شريك بن الصامت الباهلي.

ولو زال الحكم الأموي وقام الحكم العباسي، فما أظن أسداً ولا خالداً أخاه سيطمعان من الحكم الجديد، بأكثر من القتل، دون تعذيب يتمنيان معه القتل.

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٧ ص ١٠٧، وابن الأثير ج ٤ ص ٤١٥.

١٧٣

فماذا يفعل أسد بن عبد الله بهؤلاء الأعداء للحكم، وله نفسه من خلال العداء للحكم؟ لقد نسي كل شيء، إلا هذه العصبية القبلية اليمنية، فهو يأمر بإخلاء سبيل سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم الخزاعيين اليمنيين، وطلحة بن زريق الخزاعي بالولاء - عم أبي طاهر بن الحسين القائد العباسي المشهور - كما يأمر بإخلاء سبيل خالد بن إبراهيم من بكر بن وائل من ربيعة، للحلف القديم بين اليمن وربيعة، لكنه يأمر بتعذيب موسى بن كعب ولاهز بن قريظ، الشريكين في نفس التهمة، ولم يفلت لاهز من الصلب إلا بوساطة يمني من الأزد. لماذا؟! لأن الأخيرين من تميم من مضر، وأسد اليمني لا يمكن أن ينسى عداءه لمضر، حتى في مثل هذا الظرف الذي لن يطيح بالحكم، قبل أن يطيح به وبأخيه.

ماذا يمكن أن تفعل العصبية أكثر من هذا؟

ماذا يمكن، وقد وصلت العصبية الى النبي محمد و الى الله نفسه الم تسمع (ما زالت ربيعة غاضبة على الله منذ بعث نبيه من مضر)؟!

لقد أراد الأمويون إشغال العرب بعضهم ببعض، فاشغلوهم، ثم شغلوا بانفسهم فضعفوا وأضعفوا معهم العرب بسلاح العصبية القبلية التي أذكوا نارها.

فحين دهمهم الخطر القادم من الشرق مع الدعوة العباسية، لم يستطيعوا دفعه. وحين أفاق العرب وانتبهوا للخطر، كان هذا قد تجاوزهم.

وكان السلاح الذي استعمله الأمويون في ضرب العرب بعضهم ببعض عن طريق العصبية القبلية، قد وجد من يحسن استعماله بأفضل مما استعمله الأمويون؛ فارتد عليهم وقوض حكمهم.

وملاحظة أخيرة قد تجمل ما تناولته الملاحظات السابقة هي إن الأمويين قد تنكروا في حكمهم للإسلام وقيمه وأحكامه، لقد بعدوا عنه أو فعلوا عكسه. وانتهى في حكمهم، لا الإسلام وحده، بل قبله أو معه، الإنسان بما يمثل من قيم وبما له من حقوق ليس الاختيار والشورى والمشاركة في الحكم أهمها ولا أولها، وفي بعض ما ذكرت ما يكفي لإثباته.

وانتهى الحكم الأموي ليقوم على أنقاضه حكم جديد هو حكم العباسيين الذي كان تسلسله الأوّل فيما بحثت في هذا الكتاب.

١٧٤

(٣٣)

هكذا يفعل الأمويّون

عبد الله بن خباب وطريق الموت

لم يتصور الزوجان الشابان أن هذا اليوم هو آخر يوم في حياتهما، وأن الطريق الذي أخذاه متجهين إلى الكوفة هو الطريق الذي يتجه بهما إلى الموت لا إلى الكوفة.

كان عبد الله بن خباب(١) يسوق بزوجته ليلى بنت سعد(٢) . وبعد كل مسافة يقطعانها يجلسان للراحة والحديث الذي يحلو في مثل هذه المناسبات، ويساعد على نسيان التعب واستعادة النشاط قبل استئناف السير.

لقد تزوّجا منذ وقت قصير، وليلى في شهرها التاسع من أشهر الحمل. إنها تمر يدها على بطنها وابتسامة عذبة رقيقة تعلو وجهها وهي تكلّم هذا الذي يسكنها الآن. تداعبه تحلم به، قد هيأت كل ما يلزمه مما يحتاجه الأطفال عند ولادتهم وبعد ولادتهم. ها هي تعد الأيام الباقية من الأشهر التسعة. إنها ليست بعيدة.

وعبد الله جنبها يشرق وجهه بالسعادة وهو يشاركها أحلامها يحسب الأيام مثلها أو أكثر منها. ينتظر المولود الجديد.

وتسأل ليلى: ماذا سنسمّيه يا عبد الله؟ أظنك ما تزال تفضّل (خباباً) اسم أبيك. لقد كان هذا رأيك منذ بدايات الحمل. وإني والله أفضله كما تفضله. ما أحب اسم خباب إليّ! سأفخر دائماً أن يكون خباب جدّاً لابني. ألم يكن خباب من خيار أصحاب رسول الله؟ ألم يشهد المشاهد كلها معه: بدراً وغير بدر، لم يتخلّف عن أيٍّ منها؟! ألم يسلم سادس ستة، وكان أول من أظهر إسلامه؟!

ونهضت ليلى ونهض عبد الله. إنهما الآن على مشارف الكوفة. لم يبق في الطريق إليها ما يستحق نزولاً أو توقّفاً.

____________________

(١) أبوه خباب بن الارز من كبار الصحابة شهد بدراً والمشاهد كلها. أسلم سادس ستة وأول من أظهر إسلامه. عذب كثيراً في إسلامه توفي عام ٢٧ وصلّى عليه عليّ.

(٢) الحق أنني أجهل اسم الزوجة ولم أجد بين المؤرّخين من ذكر اسمها وهو يسوق الرواية (ليلى بنت سعد) هو ما اخترته أنا للزوجة، مما اقتضاني التنبيه.

١٧٥

ولكن من هؤلاء المتجهون إلينا؟ ربما كانوا يقصدون المكان الذي تركناه، أو أن مساكنهم في هذه الناحية فهم ذاهبون إليها. ربما أرادو سؤالنا عن الطريق.

كل شيء خطر في ذهن الزوجين الشابين إلاّ شيء واحد. ما الذي يخيفهما من هؤلاء أو من غيرهم، فلم يكن عبد الله قد آذى أحداً أو اعتدى على أحد. ولم يكن ذا رأي يمكن أن يثير عليه غضب أي من جهات الصراع الذي كان دائراً آنذاك. بل إن اسم أبيه ومنزلته وحسن بلائه في الإسلام كفيل بأن يبعث في نفسه الأمن والاطمئنان. ومع ذاك فيبدو أن ليلى ليست مطمئنة.

إني أرى في وجوههم الشر يا عبد الله فمل بنا عنهم. قالت ليلى لزوجها. لكنهم كانوا قد اقتربوا فلم يسع الزوجين تغيير طريقهما وتجنّبهم.

ونادى أحدهم بصوت فيه خشونة وجفاء: من أنت؟

وفزع عبد الله وأهوى الى ثوبه يتناوله من الأرض وكان قد سقط من الفزع، وأجاب: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله.

ودنوا أكثر منه ومن زوجته المذعورة، وبدأ امتحانهم له.

وحين عرفوا أنه لم يكن على رأيهم، بدأ شيء آخر: كتفوه ثم جاءوا به وبامرأته و طرحوهما بعنف على جانب النهر.

وقال أحدهم: والله لنقتلنكما شر قتلة يا أعداء الله.

ولم ينفع عبد الله توسّله ولا توسّل زوجته وتضرّعها بأنهما لم يفعلا ما يستحقان عليه القتل، وأنهما من المسلمين، يشهدان ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لم ينفعهما ذلك بشيء. لقد قرّر القوم قتلهما. ألا يكفي ذنباً يستحقان عليه القتل، أنهما لم يكونا من الخوارج، ولم يكفّرا عثمان في السنوات الست الأخيرة من حكمه وعليّاً بعد التحكيم.

وتسابق الزوجان، كلٌّ يقول إبدؤوا بي أوّلاً.

وللمرة الأخيرة كانت ليلى تمر يدها تتحسّس من في بطنها، تعتذر إليه وعيناها معلقتان به.

١٧٦

كان الكلام يقتصر على لسانها. شفتان مصفرّتان تتحركان بضعف تستطيع أن تعرف ما تريدان قوله، وإن لم تستطع تبيّنه.

ومرت سراعاً أمامها أيام زواجها وأحلامها، وتصوّرت خباباً وقد أصبح طفلاً وهو يناديها، وهي تقبّله مساءً قبل النوم، وتضمّه إلى صدرها أول ما ينهض من النوم.

وغلبتها دموعها قبل أن يشق أحدهم بطنها سيذبح المشرك، بعد أن ذبح أباه وأُمّه.

وعانق دم الأبوين دم الابن ليسجّل التأريخ مأساة جديدة أخرى في تأريخ لا تعوزه المآسي ولا شيء فيه أكثر من المآسي.

وما ذكرت القصّة إلاّ حزنت أشد الحزن لعبد الله وزوجته وطفلهما الذي ذُبح وهو بعد في بطن أُمّه.

وما ذكرت القصّة إلاّ سخرت أشد السخرية من هؤلاء الكتّاب، الكثيرين هذه الأيام، وهم يريدون أن يجعلوا من الخوارج، روّاد الديمقراطية والعدل في الإسلام.

ولو غفر الله يوماً للخوارج ما ارتكبوا، فما أظنه سيغفر لهؤلاء الذين يبرّرون للخوارج ما ارتكبوا.

لا غفر الله للاثنين.

ماذا فعل عبد الله بن خباب وماذا فعلت زوجته الحامل ليقتل وتقتل زوجته وتبقر بطنها ويقتل جنينها.

وبعد ابن خباب وزوجته، ماذا فعلت أم سنان الصيدواوية والنساء اللائي قُتلن معها بعد ما انتهى المجرمون من قتل ابن خباب وزوجته؟!

وما ذنب عقيل بن مصعب وعدي بن عمرو وأبي ليث بن أبي سليم وأزهر بن عبد الله وذهل بن الحارث؟!(١)

____________________

(١) تأريخ الطبري أحداث سنة ٧٦.

١٧٧

وكيف ستعتذر عن قتل الأب أمام ابنته والبنت أمام أبيها في وحشية قلّما حدّثنا التأريخ عنها؟!

والألوف أو عشرات الألوف من المسلمين، شيوخاً واطفالاً ورجالاً ونساءً، فاضت دماؤهم في غير ساحة حرب ولا أثناء قتال، لم يصدر منهم ما يحل دماءهم إلاّ أنهم لا يشاركون الخوارج آراءهم؟!

ومتى كان اختلاف الرأي محرّماً؟!

ومتى كان اختلاف الرأي موجباً للقتل إلاّ عند الخوارج: خوارج الأمس وهؤلاء الخوارج الجدد في هذه الأيام؟!

١٧٨

جذور الشر

عهد الراشدين

سأخصّص هذا الفصل للحديث عن عهد الراشدين. هذا العهد الذي يعتبره الكثيرون مثالياً في عدله واحترامه للإنسان، وفي قيامه على الشورى ورضى المسلمين، حتى أنك لا تنتقد نظاماً ولا حكماً ولا حاكماً في عصرنا هذا، إلا ركضوا إليه يستحضرونه ويستشهدون به على الحرية والعدل اللذين كان المسلمون ينعمون بهما في ظلّه. وكأن ما نحياه اليوم لا يعدو أن يكون مجرّد استثناء وخروج على القاعدة التي اتسمت بها علاقات المسلمين، حاكمين ومحكومين، على امتداد العهود الإسلامية السابقة، ابتداءً من أزكاها وأفضلها وأعدلها: عهد الراشدين.

فلأبدأ بهذا العهد، وبأول خلفائه: أبي بكر.

١- أبو بكر (الصدّيق)

وأظنك تستغرب أن يكون عهد أبي بكر موضوعاً للحديث في هذا الكتاب، وهو الذي يرى فيه الغالبية العظمى من المسلمين، المثل الذي لا يجدون له نظيراً في أنظمة الحكم القديمة والمعاصرة، على سعة الأرض التي نسكنها واختلاف الأنظمة فيها من السويد وحتى السعودية.

وهذا ما يخيف الكاتب وهو يريد أن يكون صادقاً مع نفسه وقارئه.

وهذا ما أخافني فعلاً.

١٧٩

لقد عانيت طويلاً وأنا أريد أن أكتب عن عهد أبي بكر، لا مدحاً كما يفعل الآخرون، وهذا ما لا يحتاج إلى معاناة وجرأة، فليس عليك إلاّ أن تكرّر ما كتبه السابقون وهو كثير، ثم تضيف إليه ما لم يذكروه مما تريد ذكره، ولكن نقداً كما جرت الأمور في ذلك العهد. وهذا ما أخافني، وهذا ما عانيت منه.

من ذا الذي يستطيع أن ينقد أبا بكر وعهد أبي بكر ولا يخاف، وهو يخاف أن ينقد من هو دونه، ودونه من هؤلاء الذين يسمّونهم (صحابة)؟!!

وأردت أن أغض النظر واؤثر السلامة وأسكت. ولكن فكّرت أن لو غضضت النظر وسكت عمّا جرى في عهد أبي بكر إرضاءً للآخرين أو خوفاً منهم، فسأضطر أن أغض النظر وأسكت عما جرى في غيره من العهود، أو أن أكون مزوّراً منافقاً كهؤلاء الذين أساؤوا إلى تأريخنا ممن ذكرتهم في أكثر من موضع، فأكتب بقلمين مختلفين: عمّن أخاف وعمّن لا أخاف.

وأظنك ستستغرب أكثر إذا أخبرتك أن أول ظلم لحق المسلمين وانتهك حقوقهم، وأن أول من جرأ على ظلم المسلمين وانتهاك حقوقهم كان أبا بكر وعهد أبي بكر.

لم يكن أبو بكر من الملائكة كما يصوّر، ولم يكن عهده ملائكياً كما يصوّر. لقد كان أبو بكر شخصاً من الناس تولّى حكم المسلمين فتصرّف كأي حاكم يريد الاحتفاظ بحكمه وإبعاده عن كل ما من شأنه أن يتهدّده. وليس ما يرويه الرواة من عدل مثالي لازم حكمه إلاّ من أساطير المزوّرين الذين سبق الحديث عنهم.

ولن أطيل عليك في الكلام، ولن أزوّر في الاعتذار عن ظلم نال المسلمين لا أجد ما أعتذر به لو حاولت، إلاّ أن أكون شريكاً فيه.

١٨٠