جذور الشر

جذور الشر0%

جذور الشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 224

جذور الشر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 46536
تحميل: 5853

توضيحات:

جذور الشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46536 / تحميل: 5853
الحجم الحجم الحجم
جذور الشر

جذور الشر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قلت وقد أصابني الذهوك: أتقول حقّاً أيها الرجل؟! أهناك بين المسلمين من يجرؤ على إحراق أحاديث رسول الله؟! والله لو استطعت أن أكتبها بماء الذهب وأحملها معي أنّى سرت لفعلت. كيف يحرق أبو بكر أحاديث نبيّه وهو لم يكن خليفته إلاّ به وبأحاديثه؟! ما أظنك إلاّ مازحاً.

قال: ويلي على أمثالك المغفّلين!! هو ما أقول لك، وليس الأمر مما يحتمل المزاح.

وعدت أسأل: ولِمَ يحرقها؟ ما الذي يدعوه إلى إحراقها؟!

قال وقد ضاق ذرعاً بأسئلتي: إذهب إليه واسأله. لقد سمعت أنهّم يخشون أن تختلط بالقرآن أو يشغل المسلمون بها عن القرآن، فتراهم يحرقونها. بل طلبوا من المسلمين الذين عندهم شيء منها أن يحرقوه أو لا يحدّثوا به ويتركوا ذكره.

وقبل أن أطرح سؤالاً جديداً، كان الرجل قد أخذ طريقه وابتعد عنّي.

وتسمّرت في مكاني وأنا أتساءل: ما الذي يجري إذا كان ما يقوله الرجل حقّاً وما أظنه إلاّ حقّاً؟!

يخافون أن تختلط بالقرآن؟! ألم يكن تدوينه - لا حرقه - هو الذي يمنع اختلاطه بالقرآن؟! ومتى اختلط الحديث بالقرآن منذ أن نزل القرآن وتحدّث رسول الله وحفظ المسلمون الاثنين: القرآن والحديث ولم يخلطوا بينمهما.

وبِمَ أصبح أبو بكر خليفةً؟! أبغير (الائمة من قريش) يرن صداه في سقيفة بني ساعدة؟! هل أحرقه قبل أن يستخلف وترك الإستشهاد به وهو وصاحباه يجادلون الأنصار في السقيفة؟! أم إنهم لم يعودوا بحاجة إلى الأحاديث بعد أن أدّت دورها كما يشاؤون؟!

وللحظات فكّرت أن أعود إلى أبي بكر أسأله عمّا يدور في ذهني، ولكني خفت. فليس أسهل من أن يأمر فألقى في هذا النار المستعرة التي هيئت لإحراق أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . لقد فعلها من قبل حين أحرق الفجاءة السلمي(١) .

____________________

 (١) تاريخ اليعقوبي، أيام أبي بكر.

٢٠١

وتركت سؤال أبي بكر وأنا أردّد في نفسي، وقد غلبتني دموعي: بئسما جازيتم نبيّكم وأنتم تحرقون أحاديثه التي به وبها صرتم خلفاء للمسلمين.

وسأقف هنا فأظن في هذا ما يكفي من خلافة أول الراشدين، وإن لم يكن هو كل ما يمكن قوله فيه.

٢٠٢

٢ - عمر بن الخطّاب (الفاروق)

لم أكن قد نمت طويلاً، حين رأيت عمر بن الخطاب يمرّ قريباً منّي.

قلت وكأني أكلّم نفسي: فرصتك والله. لا عذر لك بعد اليوم إن فاتك ولم تسأله، ثم رفعت صوتي بحيث يسمعني، قائلاً: يا خليفة المسلمين. يا أبا حفص. إنّي واحدٌ من المسلمين الذين كنت خليفتهم، أريد أن أسألك عن بعض ما يدور في ذهني منذ زمن، وقد رأيتك الآن، فهلاّ توقّفت وأصغيت لي قليلا! إنّي في حاجةٍ إليك. لقد كنت أنتظر مثل هذه الفرصة التي لم تتح لي إلاّ الآن، لن أدعها تفوت.

قال: أمّا الآن فلا، فعندي ما يعجلني كما ترى، فاطلب غيري أو انتظر وقتاً آخر أكون أفرغ فيه.

قلت: لا والله. لن أتركك. إنّي أحمل بعض الأسئلة منذُ زمنٍ بعيدٍ وليس غيرُك من يحلّها ويريحني من همّها. لن آخذ الكثير من وقتك، فهلاّ تلبّثت قليلاً لتجيبني عليها.

قال: سأقبل مع هذا الشرط: ألاّ تطيل في الأسئلة، وتقبل بالجواب مختصراً.

قلت: قبلت.

قال: هات إذن.

قلت: سأبدأ من تأريخ إسلامك، فالمؤرّخون عندنا يقولون إنّك أسلمتَ بعد تسعةٍ وثلاثين أو أربعين أو أكثر قليلاً. فهل هم على حقٍّ في هذا؟ هل كنت التاسع والثلاثين أو الأربعين في الإسلام كما يذكر هؤلاء المؤرّخون؟ أو حتى الخامس والأربعين؟!

قال: وما لي ولمؤرّخيكم وما يذكرون ويروون؟! ما ذنبي إذا كانوا لا يصدقون؟! إذهب إليهم واسألهم إن شئت.

٢٠٣

لِمَ تسألني أنا وتتركهم؟! والله لقد أضافوا لابن الخطاب من الفضائل ما أجهله أنا وأُنكره، وإنّي لأستغرب فعلهم، لكني أستغرب أكثر، من هؤلاء الذين يصدّقونهم فيما يختلقون ويضيفون. لقد لقيت هنا بعض هؤلاء، وحدّثوني عن فضائل لي لا أعرفها. وحين سألتهم كيف وصلتهم، قالوا: كل المؤلّفين يذكرونها، وكل المؤلّفات. لقد أصبحت جزءاً من المسلّمات التي لا تقبل نقاشاً، حتى لو أردت أنا أن أكذّبهم فيها لما استطعت، ولاتهمت بأني أجهل التأريخ أو بأنّي من أعداء عمر وربما أعداءُ الإسلام.

قلت: لم تجبني على سؤالي يا أمير المؤمنين.

قال: ومصرّ على الجواب! أعوذ بالله من أسئلةٍ تُبدأ بهذا. لقد أسلمت في السنة السادسة للبعثة، عند عودة المسلمين من أرض الحبشة في هجرتهم الثانية، وكان عددهم، كما أذكر، ثلاثة وثمانين رجلاً، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغاراً أو الذين وُلدوا هناك.

قلت: إذن بعد أكثر من ثمانين، لا تسعة وثلاثين ولا أربعين. ولا خمسة وأربعين.

قال: ليس هذا فحسب. فقد بقي في مكّة إلى جانب النبيّ، عمّه حمزة وأبو بكرٍ وعليّ في رجالٍ من المسلمين الذين أقاموا مع رسول الله ولم يخرجوا مع الذين خرجوا إلى أرض الحبشة.

قلت: إذن بلغنا المائة أو تجاوزناها، ونحن لم نذكر الأربعين من المسلمين الذين كانوا يجتمعون في بعض بيوت مكّة خوف ملاحقة قريش.

قال: وأكثر من هؤلاء. ماذا تريد منهم ومن؟! ألم تنتهِ بعد؟! لقد أخبرتك بما أعرف. قال ذاك وهو يستعجل الكلمات، ويهمُّ بالذهاب.

قلت: لقد اتفقنا على غير هذا. قبلت أن تجيب على أسئلتي، وقبلت أن أختصرها. ولم أسأل حتى الآن إلاّ سؤالاً واحداً، اختصرته كما تريد.

قال وهو يبتعد: لن تجد عندي جواباً لأيّ من أسئلتك، ولن أمرّ من هنا بعدَ اليوم.

وانتبهت من نومي لأكمل الحديث عن عمر.

٢٠٤

حين أسلم عمر بن الخطّاب، كان أكثر من مائةٍ قد سبقوه إلى الإسلام ودخلوا فيه وبدؤوا يظهرونه(١) غير مبالين بما ينالهم من أذى قريشٍ وتعذيبها لهم وسخريّتها منهم وقسوتها في القصاص معهم. وربمّا كان ذلك أحد الأسباب التي دفعتهم إلى الدخول في الدين الجديد الذي لا قهر فيه ولا سيطرة لقريش ولا ذلّ ولا استعباد. لقد تحمّلوا صابرين ثابتين أو فرحين ساخرين عذاب قريشٍ وشدّتها، وكان الإسلام يقوى كل يومٍ ويعزّ كل يومٍ بمسلمٍ جديدٍ ينضمّ اليه.

هكذا كان الحال حين أسلم عمر.

وأنا لا أستطيع أن أقبل الرواية الشائعة عن إسلامه والتي يمكن اختصارها بأنّ عمر دخل بيت أخته فاطمة مغضباً يريد بها شرّاً، بعدما سمع عن إسلامها هي وزوجها سعيد بن زيد، وأنّ أخته طلبت منه أن يسمع بعض ما كانت تحفظ من القرآن قبل أن ينفّذ ما جاء فيه، فلما سمع عمر ما تلته عليه أو ما قرأة من سورة طه حين طلب من أخته ذلك دخل في نفسه ثم أعلن إسلامه.

فهذه الرواية تفترض أنّ عمر لم يكن قد سمع شيئاً من القرآن قبل دخوله بيت أخته، مع أنّ المسلمين كانوا قد أظهروا إسلامهم. ومع إسلامهم، كان القرآن رفيقاً لهم، يتلونه ويتدارسونه ويسترشدون به، فلا إسلام دون قرآن ولا فصل بينهما.

ثم كيف أفسّر انقلاب عمر من عدّوٍ محاربٍ للإسلام، إلى داخلٍ فيه لمجرّد سماعه آيةً أو آيتين من أخته وهو في تلك الحال من الغضب.

____________________

(١) سبق أن ذكرت أنّ خباب بن الأرز - وهو سادس ستة أسلموا - هو أول من أظهر إسلامه. وهناك من يذكرأنّ عبدالله بن مسعود هو أول من جهر بالقرآن.

٢٠٥

لقد دخل عمر الإسلام - في رأيي - بعد جدلٍ وحديثٍ طويل مع النفس دون أن يكون لفاطمة هذا السحر الذي غيّره ودفع به لأن يستبدل بدينه ودين آبائه ديناً آخر مخالفاً بل مناقضاً لدينه ودين آبائه.

ولم يكن عمر من أسرةٍ من أسر قريش المعروفة كبني عبد مناف أو بني مخزوم، ولم يسمع أحدٌ بالخطاب أبي عمر، إلاّ مقترناً باسم ابنه فيقال عمر بن الخطّاب.

وسأعود إلى هذه النقطة فيما بعد.

ولأنتقل الآن إلى الأسلوب الذي جاء بعمر إلى الخلافة. فألاحظ أنّ عمر تولّى الخلافة بوصيةٍ أو كتابٍ من أبي بكر كتبه في مرض موته عام ١٣ للهجرة.

ويأخذني العجب والدهشة وأنا أذكر ما حصل قبل سنتين من هذا التأريخ.

ففي ربيع الأول من عام ١١ للهجرة رفض عددٌ من المسلمين، ومنهم الموصي والموصى إليه، طلباً لنبيّهم أن يكتب لهم كتاباً قبل موته، دون أن يحاولوا معرفة ما سيتضمّنه(١) . وهاهم الآن يقبلون كتاباً من واحدٍ منهم بتنصيب آخر خليفة عليهم دون أن يترك لهم الحريّة في اختيار من يرونه للخلافة.

وكان هذا في نظري أول خرقٍ لمبدأ الشورى الذي لا ينقطع الحديث عنه هذه الأيّام.

وسيرد عليّ المتبرّعون بالرّد، وهم كثيرون والحمد لله، بأنّ عمر كان أهلاً للخلافة، وبأن ليس في الصحابة من ينافسه أو يساويه في استحقاقه لها.

وأظنني رددت على هذا في أكثر من مكان من هذا الكتاب ومن غيره. وقلت إنّ الموضوع لا يخص عمر ولا يفهم منه أنني أشكّ في مواهب عمر وصفاته التي تؤهّله لشغل هذا المنصب. وما شككت يوماً بهذا. ولكني وكما قلت أيضاً في أكثر من مكانٍ من هذا الكتاب ومن غيره، أتحدّث عن مبدأ لا عن شخص. وكم تمنيت أن يكون عمر - الأهل لمنصب الخلافة - قد تمّ اختياره عن طريق الشورى. ذلك أنّ أسلوب ولاية العهد الذي جاء بعمر هو الذي وضع الأساس ومنح الشرعيّة لمبدأ ولاية العهد الذي سيكون قاعدة الحكم فيما بعد. والذي استذل المسلمين وحال، وما يزال، دون تقدّمهم.

____________________

(١) وهذه المواقف مذكورة في كل كتب التأريخ ولهذا لم أجد حاجةً لذكر مصادرها.

٢٠٦

هذا الأسلوب هو الذي أرفضه إذن. بعيداً عن الأشخاص، وهو الذي ينقض كل ما يجهد المرتزقة والمزوّرون في أن يصوّروا الحكم في الإسلام وكأنّه حكم الشورى والحريّة والديمقراطيّة، وليس هو إلاّ حكم الفرد الذي لا رأي مع رأيه ولا نقاش لرأيه.

وإذا كان عمر لم يأت عن طريق الشورى، فمن المؤسّف أنه لم يأخذ بالشورى وهو يحصر الخلافة بعده في ستة أشخاصٍ كلّهم من قريش. مكرّساً بذلك حكم قبيلةٍ واحدةٍ هي قريش، وسالباً المسلمين حقّهم في أن يكونوا مرشّحين للخلافة، بل حقّهم في أن يختاروا من يرتضونه من بين هؤلاء الستة القرشيين المرشّحين وحدهم للخلافة. لقد جعل من شخصٍ واحدٍ هو عبد الرحمن بن عوف ممثلاً للمسلمين ونائباً عنهم ومعبرّاً عن إرادتهم حين منحه هذا الإمتياز المتمثّل في ترجيح أيّ جانبٍ ينضم إليه لو اختلف الستة وانقسموا فريقين وتساوت أصواتهم، ثلاثة في كل فريق.

ولا أدري ما الذي منع عمر من تسمية عبد الرحمن هذا خليفةً له فيجنّب المسلمين الصراع الذي ثار فيما بعد، ما دام قد ميزّه من بينهم وجعله المرجّح عند اختلافهم. أو أن يجعل عدد المرشّحين فرديّاً: خمسة أو سبعة مثلاً، وهو ليس بالأمر الصعب.

وهكذا نرى عمر بعيداً عن الشورى وهو يأتي بعهدٍ ممن سبقه، وبعيداً عن الشورى وهو يستخلف من بعده.

وهكذا سلب المسلمون حقّهم في المشاركة بأيّة صورةٍ في الحكم الذي استقرّ في قريش وحدها.

ولقد تساءلت طويلاً عن الأسباب التي دفعت عمر إلى هذا الأسلوب في اختيار خليفته. فلا هو بالذي أعاد الأمر شورى بين المسلمين كما يفترض، ولا هو بالذي حدّده بواحدٍ منهم فجنّبهم الاختلاف والصراع، حين جعل الخليفة واحداً من ستة، كل يرى نفسه الأولى بها، أو على الأقل، ليس غيره من الخمسة الآخرين بأولى بها ولا أحق وقد سموا للخلافة بعهدٍ واحد، ووراء كلٍّ منهم مؤيّدون وأنصار يدعمونه ولا يرون غيره ويرفضون غيره.

لقد تساءلت طويلاً، وما أحسبني اهتديت إلى الجواب حتى اليوم.

٢٠٧

وأبقى مع عمر الذي يأخذك الحديث عنه في أكثر من اتجّاه. فالمؤرّخون يتناقلون أنه كان عزيز الجانب شجاعاً وهوباً، ويروون حديثاً للبني تجده في كل كتب التأريخ والحديث والسيرة، يقول فيه: اللّهمّ أعزّ الإسلام بعمر بن الخطّاب أو الحمزة بن عبد المطلب، أو بعمر بن الخطّاب أو أبي جهل: عمرو ابن هشام بن المغيرة. فعمر هو أحد الرجلين اللذين يتمنّى النبي على الله أن يعزّ به الإسلام: مع حمزة أو مع أبي جهل، فيهما الاختلاف لا فيه، فهو دائماً أحدهما.

ويتناقلون أيضاً أنه قال وهو يريد الهجرة إلى المدينة: من أراد أن تثكله أُمّه فليتّبعني خلف هذا الوادي.

فعمر إذن من العزّة والشجاعة بحيث يتمنّى رسول الله على ربّه أن يهديه للإسلام حتى يعزّ به.

وعمر إذن من العزّة والشجاعة بحيث يتحدّى كفّار قريش أن يتّبعه واحدٌ منهم خلف الوادي إلاّ إذا أراد أن تثكله أُمّه.

ولكي يعزّ الله دينه بشخصٍ أو لكي يتحدّى هذا الشخص قريشاً وهو يخرج مهاجراً، فلا بد أن يكون هذا الشخص عزيزاً بقومه أو شجاعاً بنفسه أو جامعاً للاثنين.

وفيما يخصّ قوم عمر فإنّ التأريخ لا يحدّثنا بشيء عن بني عدي كما يحدّثنا عن غيرهم من بطون قريش وأحيائها.

وحتى الخطّاب نفسه أبو عمر لا يذكر، كما قلت، إلاّ مقترناً باسم ابنه عمر حين يقال عمر بن الخطاب، فليس له في نفسه شأنٌ أو ذكر ولا يمثّل إلاّ واحداً في عمود النسب الذي يربط عمر بعدي بن كعب بن لؤي بن غالب الخ.

هذا عن أسرة عمر وقومِه.

فماذا عن عمر نفسه؟ هل كان شجاعاً، وشجاعاً بالدرجة التي يحاول المؤرّخون أن يضيفوها إليه؟

٢٠٨

ولا أريد أن أتجنّى على التأريخ كما يفعل الآخرون. ولا أريد أن أنتقص من عمر كما قد يظن المؤرّخون. إنمّا أكتب للتأريخ أو لتصحيح التأريخ. لا عداء لي مع أحدٍ ولا محاباة لأحدٍ. ويكفي هذا التأريخ حتى الآن ما شوّه وزوّر كما لم يشوّه ويزوّر أيّ تأريخٍ آخر بفعل عوامل الكره أو الحب التي لا يستقيم معها مقياسٌ ولا يصحّ حكم.

وأعود إلى موضوع شجاعة عمر.

واستقرئ وقائع الإسلام الكبيرة ابتداءً من بدر التي تمثّل منعطفاً خطيراً في التاريخ الإسلامي، وأوّل تجربةٍ يمتحن المسلمون من خلالها قوّتهم وإيمانهم وقدرتهم على منازلة قريش ثم الانتصار عليها.

فماذا تقول أحداث بدر؟

وسأكتفي بدور الناقل عمّا حصل فيها وعن الذين خاضوها وبرزوا على ساحتها وكانت لهم مواقف متميّزة في النجاح الذي توّجت به.

يذكر المؤرّخون وأصحاب السير بتفصيلٍ يختلف بين الواحد والآخر، هؤلاء الذين برزوا من المسلمين في بدر. يذكرون عليّاً والحمزة وعبيدة وعمّاراً والزبير وأبا دجانة وطلحة وعاصم بن أبي الأقلح لكنهم لا يذكرون عمر، بل لا يذكرون أنه شارك في القتال بأيّ شكلٍ، فضلاً عن بروزه وتميّزه فيه.

ما الذي منع عمر أن يقاتل وقد قاتل المسلمون واستشهد من استشهد منهم، وأبلى وبرز من يذكره المؤرّخون منهم؟! وبدر هي الواقعةُ التي يسجّل فيها المسلمون أول انتصارٍ على مشركي قريش، وهي الواقعةُ التي يبدأ معها فصلٌ جديدٌ من تأريخ الإسلام.

ماذا كان ينتظر عمر؟! ولِمَ كان يدّخر شجاعته؟! أليس من حقّك أن تفتّش عن مكان عمر مع المسلمين الآخرين في بدر، وعن الذين كانوا ستثكلهم أُمّهاتهم - وما أكثرهم - في بدر؟!

ولأترك بدراً إلى واقعةٍ أخرى انعكست فيها الصورة وتعرّض المسلمون لنكسةٍ موجعةٍ وأصيب فيها النبي بجراحٍ حتى أُشيع أنّه قُتل. تلك هي واقعةُ أُحد. وما أظنك تجهل أحداثها، وما أظنك تجهل أسباب النكسة أو الهزيمة فيها. لقد كان المسلمون في حاجةٍ لأيّ سيفٍ ولأيّ رجلٍ، والمشركون يمزّقون صفوفهم ويثخنون فيهم.

٢٠٩

هنا أيضاً تفتّش عن دورٍ لهذا الذي يتحدّى قريشاً أن يتبعه واحدٌ منهم إلاّ إذا أراد أن تثكله أُمّه. لكنّك لا تجد له دوراً ولا بعضَ دور. لم يشارك في قتالٍ ولم يضرب بسيفٍ ولا بحجرٍ، وأفضل ما يقال فيه وقد ارتقى الجبل مبتعداً عن القتال في أُحد، إنه لم يهرب كعثمان الذي كان يسابق الريح في سرعة عدوه طلباً للنجاة.

ما الذي منع عمر من المشاركة في معركتين من أهمّ ما خاض المسلمون من معارك، أو أهمّ ما خاض المسلمون من معارك؟!

أترى خانته الشجاعة بأن كانت له حسابات أخرى بعيدةً عن القتال وبدر وأحد، قريبةً من الخلافة والتخطيط لها والمستقبل والتفكير فيه؟!

وبعد بدرٍ وأحدٍ، هل سمعت بذكرٍ لعمر في كل الوقائع التي دارت بين المسلمين وبين أعدائهم على كثرة تلك الوقائع؟! دونك كتب التأريخ فاقرأها كتاباً كتاباً وصفحةً صفحةً، منذ بدر وحتى آخر واقعةٍ قبل وفاة النبي لكي تتأكّد مما أقول ولا تتهمني فيما أقول.

إنّ الحديث عن شجاعة عمر مرتبط في رأيي بالموقف من عليّ. فحين عجز أعداء عليّ عن إنكار شجاعته وعظم بلائه في الإسلام وذبّه عنه، راحوا يبحثون عمّا يقلّل من شأن شجاعته، بإضافتها إلى غيره وإشراك غيره فيها وكأنهم يقولون، ليس عليّ وحده الشجاع فهذا عمر - وهو المهم عندهم - الذي كان يتحدّى أن يتبعه واحدٌ من قريش، والذي قال فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اللّهمّ أعزّ الإسلام بعمر، مع أنّ الإسلام كان يسير ثابتاً قوياً عزيزاً بإيمان هؤلاء الذين سبقوا عمر في الدخول إليه. كان خباب بن الأرت وعبد الله بن مسعود والمسلمون من ورائهما، وقبل إسلام عمر، يجهرون بقراءة القرآن في مكّة، غير مبالين بجبروت قريش وبطشها.

أمّا ما يذكر عن شدّة عمر وجرأته و(درّته) التي كان يهابها ويخشاها المسلمون، فليست في الواقع إلاّ رفضاً وتمرّداً على الشعور بالضعف والإنكسار الذي عاشه في طفولته، وخمول البيئة التي نشأ فيها. وهو ما يفسّر موقفه وكذلك موقف أبي بكر من علي، حينوليا الخلافة وملكا السلطة.

٢١٠

لقد كان هناك تفاوتٌ كبير بين تيم وعدي: قبيلتي أبي بكر وعمر وبين آل عبد مناف بن قصي: قبيلة علي، وهو تفاوت لا أستطيع أن أغفله، وما أظن أبا بكر وعمر استطاعا أن يغفلاه، وهما لو حاولا ذلك لبقي قويّاً في داخلهما يحكم سلوكهما من علي بوعي أو من خارج حدود الوعي. ولا أريد أن ألغي كما يفعل الآخرون، أثر البيئة وقيم العصر وثقافته، لأركض وراء الإسلام ممسكاً به وكأنه قد غيّر كل شيء، وبدّل العرب غير العرب أو جعل من العرب ملائكةً في أشكال عرب.

لم يدرك أبو بكر وعمر عليّاً حاضراً - وأنا أتكلّم عن ذلك العصر - في شجاعته وبلائه وذبّه عن الإسلام. ولم يدركا عليّاً ماضياً: آباءً وأجداداً وقبيلةً. ولم يكن هذا ذنب علي، ولم يكن بيده أن يعالجه أو يتخلّص منه. من الذي يمكنه أن يقارن أبا طالبٍ وعبد المطلب وهاشم الذين هم على كل لسان، بأبي قحافة والخطّاب والآخرين من آبائهما على سلسلة النسب الذين أجهلهم وتجهلهم إلاّ بالرجوع إلى كتب الأنساب، إن احتجت يوماً إلى معرفتهم. لقد كانا يعانيان إذن من عقدة نقصٍ تجاه علي، عقدةٌ ظهرت بوضوح في سلوكهما معه، خصوصاً عندما وليا الخلافة.

وبعد هذا يبقى الحديث مع عمر طويلاً متشعباً كما قلت، يأخذك في كل جانب.

ما الذي دعا عمر إلى منع تدوين الحديث النبوي الذي كان سهلاً في ذلك العهد عقب وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرةً، ليفسح المجال واسعاً فيما بعد، لكل المزوّرين والكذّابين والذين باعوا أنفسهم للسلطان، أن يأتونا بهذه الأحاديث التي بلغت المليون كما يذكر ابن حنبل، لعدم تدوينها عندما كان من الميسور تدوينها ومعرفة صادقها من كاذبها، وعندما كان هناك من يخشى الكذب ومن يستطيع الكشف عن الكذب.

أيّ تبرير مقبول يمكن أن يقدّمه عمر لمنع تدوين الحديث ومعاقبة مَن يرويه وينقله من الصحابة؟!

ماذا تقول يا عمر لهذه الأجيال التي فتك بها مرض خبيث اسمه أبو هريرة، ما يزال يعبث بعقولها هدماً وتخريباً منذ خمسة عشر قرناً حتى لم يعد البرء منه ممكناً إلاّ بعمليات جراحيّة صعبة لكي تعيد إليها توازنها وقدرتها على التفكير وتغلّبها على هذا المرض الذي كنت أنت وراءه، حين منعت تدوين الحديث وعاقبت عليه؟!

٢١١

مَن الذي يتحمّل مسؤوليّة تضليل هذه الأجيال من المسلمين وتجهيلها، قديماً وحديثاً وفي كل جمعة وفي كل اجتماع، يواجهها هذا المزوّر الأُمّي التافه بألف حديث يشلّ عقلها ويعيدها إلى مربع الجهل والتخلّف كلما أوشكت أن تفيق؟!

لِمَ أُريد للمسلمين أن يبقوا متخلّفين، ولأموالهم ألاّ تنفق إلاّ للإبقاء عليهم متخلّفين؟!

ما لهم لا يتحرّكون ولا ينشطون، قد انتزع منهم إرادتهم هذا الأبو هريرة ومعه زمرة الهريرييّن من مختلف الأصناف ومختلف الأجور، وقد التقوا جميعاً على هدف واحدٍ غير نبيل، هو الدفاع عن أنظمة الجهل والظلم والإستبداد؟!

بِمَ تواجه الله ورسوله يا عمر وقد أصبح الإسلام أبا هريرة وسخف أبي هريرة وجهل أبي هريرة، ينشأ على ذلك الصغير ويشيب الكبير، وقد حاصرتهم كتب الصحاح وحاصرتهم الجوامع والجمع؟!

إنّ منع تدوين الحديث في ذلك العصر القريب من عصر النبوّة جريمةٌ من أيّ وجهٍ نظرت إليه. ولا أجد ما أفسّره به إلاّ دوافع شخصية فرضت استبعاد الحديث لإستبعاد نتائجه.

أليس كذلك يا أبا حفص؟! ألستَ مصدّقي فيما أقول؟!

ولأنتقل إلى قضيّةٍ ما زالت تلح عليّ منذ زمنٍ طويل. لقد أقمت الدنيا على خالد بن الوليد، سيف الله كما يسمّونه، وألححت على أبي بكر بالإقتصاص منه وإقامة الحدّ عليه بجريمتين: قتل مسلم - مالك بن نويرة - بلا ذنبٍ، والزنا بامرأته.

فمالك نسيت كل ما كنت تطالب أبا بكر بتنفيذه بعدما أصبحت خليفةً؟! نسيت خالداً ونسيت إقامة الحدّ أو الحدّين عليه. ألبعد المدّة؟! ولم تكن المدّة بعيدةً بين الجريمتين وبين توليّك الخلافة. على أنّ الحدود لا تسقطها المدد وإن طالت.

ما أظنك إلاّ ضقت بي وبما كشفت من أسرار حرصت على أن تبقى خفيّةً لا يعرفها أحد ولا يصل إليها أحد.

فلأكتف بما كشفت حتى الآن، ولأترك الباقي إلى وقت آخر.

٢١٢

٣- عثمان بن عفّان (ذوالنّورين)

وأراني وصلت إلى عهدٍ آخر من العهود الزّاهية والزّاهية جدا!! ذلك هو عهد عثمان والجرائم التي ارتكبت فيه، وكان من أخطر نتائجها أنها مزّقت المسلمين فلم يجتمعوا بعدها، وهيّأت لعهود من الظلم والاستبداد وما أظنها كانت ستحصل لولا هذا العهد وما رافقه وما حصل فيه من جرائم.

وابتداءً أسأل: ما الذي جاء بعثمان مرشّحاً للخلافة ثم خليفة؟ ما هي مؤهّلاته التي رفعته لمثل هذا المنصب، غير أنّ الملائكة تستحيي من النظر إليه. لماذا؟ أهو امتياز لعثمان وحده؟! وقبل هذا أسأل! هل كانت الملائكة تمارس من الأفعال ما يوجب الحياء؟! ولماذا لا تستحيي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - إذا تركنا باقي الصحابة - وهي تمارس أفعالها تلك؟! أكان عثمان أعلى منزلةً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أم كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرضى بأن يمارس في حظوره ما ينافي الحياء خلافاً لعثمان، فهي لا تستحيي منه وتستحيي من عثمان؟!!(١)

وتوجّهت إلى الملائكة أسألهم فما وجدت عند أحدٍ منهم علماً. ورأيتهم يسأل بعضهم بعضاً وكأنهم لم يسمعوا بذلك من قبل. فلم يسبق لأيّ منهم أن نظر إلى عثمان فاستحيى من النظر إليه، ولم يسبق لأيّ منهم أن رأى عثمان إلاّ حين هرب مع مَن هرب من كبار الصحابة يوم أُحد وقد أطلق ساقيه للريح وهو يستبعد الملجأ على قربه، وضربات قلبه تسمع من بعيد. وأفترض أنّ الذي يستحيي من النظر إلى الآخر، بعد هذا، هو عثمان لا الملائكة.

ولأنتقل إلى الجد من موضوع عثمان.

____________________

(١) صحيح البخاري وصحيح مسلم.

٢١٣

لقد كانت خلافة عثمان نتيجة مساوماتٍ مع عددٍ من الذين رشّحهم عمر للخلافة، تعهّد لهم عثمان عبرها بالتزام سيرة الشيخين - أبي بكر و عمر - وهما شخصان مهما علت منزلتهما ومهما بلغ احترامنا لهما، فإنهما يبقيان شخصين من الناس لا يحسن بالخليفة الجديد أن يكون نسخةً منهما أو من غيرهما، ولا يحدّد نفسه فيكون أسيراً لهما في كل ما فعلا وما تركاه. ولم يكونا نبييّن ولا موصى إليهما من الله، ولم تكن سيرتهما ركناً من الإسلام يلزم المسلمون بالعمل بها. وقد يكون بين المسلمين مَن لم يوافقهما أو من يخالفهما في بعض تصرّفاتهما كالتي أشرنا إليها فيما مرّ. هذا إلى أنّ سيرتهما لم تكن واحدة.

وربما اختلفت هنا أو هناك، في هذه القضية أو تلك(١) ماذا سيفعل الخليفة الجديد في مثل هذا الموقف لو واجهه، وهو لا بد مواجهه يوماً؟ كيف يسمح خليفة أن يلغي وجوده ويقتصر على أن يكون مجرّد تابعٍ لسواه ممن مضى، وأمامه الكتاب والسنّة، وأمامه هذا العدد الكبير من أصحاب رسول الله الذين لن يبخلوا عليه بالنصح لو أراد أن يستشيرهم ويسترشد بآرائهم فيما يحدث من أمور لا يجد لها حلاً في الكتاب والسنّة، ولم يتبيّن له الوجه فيها؟! وهل كان سلفاه المطلوب منه أن يلتزم بسيرتهما، سيفعلان غير هذا لو قُدّر لهما أن يكونا في موضعه؟! بل هل استغنى سلفاه المطلوب منه أن يلتزم بسيرتهما، عن هذا؟!

وأيّ غناء وأيّ نفع في خليفةٍ يحكمه الأموات وهو يريد أن يحكم بين الأحياء؟!

إنني - لا علي بن أبي طالب - سأرفض قطعاً هذا الموقف لو طلب منّي والذي لا يمثّل في رأيي إلاّ مسخاً لشخص مَن يقبل به، وحرصاً وتهالكاً على الحكم بأيّ ثمن، وهو ما كان من عثمان.

لقد أراد أن يكون خليفةً، وكان على استعدادٍ لأن يقبل أي شرط يعرض عليه، حتى لو تجاوز سيرة الشيخين.

____________________

(١) اختلف أبو بكر وعمر في قسمة الفيء والصدقات. فأبو بكر يذهب إلى التسوية بين المسلمين فيهما دون تفضيل ولا تمييز بينما يأخذ عمر بسياسة التفضيل والتمييز بين الناس، فقد فضّل المهاجرين كافةً على الأنصار كافة، وفضّل العرب على العجم والصريح على المولى. كما اختلف أبو بكر وعمر في إقامة الحدّ على خالد بن الوليد بعد قتله مالك بن نويرة وزناه بامرأته إذ كان عمر يلحّ على أبي بكر بإقامة حدّي القتل والزنا على خالد وأبو بكر يرفض ويعتذر عنه، كما اختلفا أيضاً في المؤلّفة قلوبهم وقضايا كثيرة أخرى.

٢١٤

ومع ذاك، فهل وفّى عثمان بالعهد الذي قطعه على نفسه لعبد الرحمن بن عوف بالتزام سيرة الشيخين؟

لِمَ اختلف الرجلان وبلغ من بعد ما بينهما أنّ عبد الرحمن كان يدير وجهه وهو مريضٌ، عندما يعوده عثمان حتى لا يراه. ولم يكلّمه منذ اختلفا إلى أن توفّي عبد الرحمن في خلافة عثمان الذي لم يعلم بوفاته ولم يحضر جنازته ولم يصلّ عليه.

ما الذي أثار عبد الرحمن على عثمان؟

ما الذي أثار الصحابة في المدينة حتى كتبوا إلى إخوانهم في الأمصار يطلبون منهم العودة (لإقامة دين محمدٍ بعدما أفسده الخليفة)؟ وما الذي أثار المسلمين في غير المدينة.

ماذا فعل أبو ذر، زاهد الأُمّة الذي يقول فيه النبي: (ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر) لينفى إلى الربذة بشكل مزرٍ يؤذي أيّ مسلم، ويمنع الناس من توديعه حتى وهو ذاهب إلى منفاه، فيذهب وحيداً، ويموت هناك وحيداً ليس معه إلاّ امرأته الحائرة لا تعرف ما تفعل؟

وماذا فعل عبد الله بن مسعود، هذا الصحابي الجليل الذي كان، كما يقول المؤرّخون، أول من جهر بالقرآن في مكّة أمام شيوخ قريش ليغيظهم؟! لقد حرم عطاءه وهو حق له، إلى أن مات، ثم لم يكتفوا منه بهذا حتى كسروا ضلعين من أضلاعه في ضرب قاسٍ عنيف، كان الضاربون أولى به.

وعمّار بن ياسر؟! ابن أول شهيدين في الإسلام والذي بشّره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو وأهله بالجنّة. ما كان ذنبه حين طُعن في بطنه طعناً أشفى به على الموت وخلّف له فتقاً خطيراً لازمه حتى مقتله في صفّين؟!

أذنبهم أنهم رأوا باطلاً فأنكروه، وسيرةً لا ترضي الله ولا رسوله ولا المسلين فنقدوها وأعلنوا سخطهم عليها.

أكان يراد منهم أن يشاركوا الحكم إثمه؟ أن يسكتوا فلا ينكروا ولا ينقدوا، وأن يباركوا الظلم ويستزيدوا منه ويشجّعوا عليه؟!

٢١٥

أكنت تريد منهم ومن غيرهم من المسلمين أن يصفّقوا لك وأنت تهب الخمس كلّه من غنائم فتح أفريقيا إلى ابن عمّك مروان بن الحكم، او يلومون لأنّك اقتصرت على الخمس وحده فلم تهبه النصف مثلا، بما سلف منه ومن أبيه الحكم بن أبي العاص، من جهادٍ وبلاء في الاسلام؟!!!! وربما وصلتك أبيات ابن حنبل الجحمي في هذه الهبة. ومع ذاك فلا بأس أن أذكر الأخير منها:

وأعطيت مروان خمس البلاد

فهيهات سعيك ممن سعى

ويبدو أنك استقللت ما أعطيت لمروان، فأعطيت أباه الحكم ثلاثمائة ألف درهم، هي كل صدقات قضاعة حين وليته عليها.

وعبد الله بن خالد بن أسيد الأموي الذي وصلته بأربعمائة ألف درهم، لا أدري مقابل ماذا. هل فكرت يوماً أن تصل فقراء المسلمين، وهم كثر والحمد لله في زمن حاكم مثلك، ببعض ما وصلت به ابن خالد بن أسيد وليس له من فضل على سواه إلاّ أنه أموي مثلك؟!

وفدك! هذه الأرض التي كانت خالصة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحرمت منها وارثتها الشرعية فاطمة ابنته بحديث لم يسمعه منه إلاّ أبو بكر وحده دون جميع المسلمين، ومنهم طبعاً فاطمة وزوجها علي. كيف جاز لك أن تهبها لمروان بن الحكم - ابن عمّك - وقد منعت منها وارثتها بـ (نحن معاشر الأنبياء لا نورث).

أكانت فاطمة تحرم من فدك ليرثها مروان؟!

ثم مالك ولمواشي المسلمين التي لم تسلم هي أيضاً من ظلمك حين منعت عليها الرعي في المراعي حول المدينة وأبحته لمواشي بني أميّة؟!

ألم يكفك أن تحمل بني أمية على رقاب المسلمين، فحملت مواشيهم على رقاب مواشي المسلمين وميّزتها، فأتخمت تلك وأجعت هذه؟!

وما الذي دفع عبد الله بن الأرقم صاحب بيت المال، أن يلقي بمفاتيحه في وجهك وهو يصرخ محتجّاً (والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيراً) فما كان منك إلا أن قلت له (ألقِ المفاتيح يا ابن أرقم فإنّا سنجد غيرك).

٢١٦

نعم ستجد ولا شك غيره، فما أكثر المرتزقة في حكم ليست الحظوة فيه إلاّ للمرتزقة وأشباههم، وليس الإبعاد إلاّ لذوي الفضل والدين.

لكن قل لي يا عثمان ألا ترى أن من حق المسلمين أن يعرفوا اين تذهب أموالهم، وهي حق لهم وليست إرثاً لك من عفّان بن أبي العاص تتصرّف فيه كيف شئت؟!

لقد ضاق ابن الأرقم بتبذيرك أموال المسلمين في بني أمية ولم يستطع أن يتحمّل أكثر مما تحمّل فجاء تائباً إلى الله أن يكون شريكاً فيما يجري، وألقى مفاتيح بيت المال بعد أن طلبت منه أن يعطي أبا سفيان مائتي ألف درهم ومروان مائة ألف في يوم واحد، وكأن كل ما سبق أن أعطيته لهما لم يكن كافياً في نظرك، لسابقتهما في الإسلام وعظيم آثارهما في تأييده والدفاع عنه في مكّة وفي بدر وفي أحد!!!

أي عداء بينك وبين مال المسلمين فما يصل إليك شيء منه حتى تسرع إلى توزيعه فيمن كانوا أشد الأعداء للمسلمين؟!

وهذا الذي كان يكتب الوحي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم ارتدّ مشركاً وصار إلى قريش بمكّة فقال لهم (إني كنت أصرف محمداً حيث أريد، كان يملي علي « عزيز حكيم» فاقول « أو عليم حكيم » فيقول - يعني النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله - « نعم كل صواب »).

وأظنك عرفت من أعني. إنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح. كيف أجزت لنفسك أن تستأمن له وقد أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتله مع اثنين أو ثلاثة، حتى لو وجدوا متعلّقين بأستار الكعبة؟!

وأريد أن أقبل أنه استجار بك فأجرته، فكيف أقبل أن تبذخ عليه من أموال المسلمين ما لا أظنه كان يحلم ببعضه، وأنت تمنع عن خيارهم حقّهم الذي لا فضل لك فيه.

وهل استغرب بعد هذا قول سعيد بن العاص والي عثمان على الكوفة (إنما السواد بستان لقريش).

لقد كان سعيد صادقاً في قوله ذاك، لكنه سيكون أصدق لو قال (إنما الارض الإسلامية كلها - لا السواد وحده - بستان لقريش) وأصدق لو قال (بستان لأُميّة).

٢١٧

وهل نستغرب بعد هذا أن تقوم الثورة على عثمان، وقد هيّأ عثمان نفسه أسبابها؟!

لكن الغريب أن الكثيرين من المؤرّخين، قدماء ومحدثين، يحاولون الاعتذار عن كل ما قام به عثمان، مرة بالتشكيك في الفعل ذاته أو التقليل من شأنه، ومرة بأنه لم يباشره بنفسه وكأن المفروض في الحاكم أن يتولّى القتل أو التعذيب أو الضرب بيده، ومرة بأنه اجتهد رأياً، ومرة بأن المال المدفوع، ربما كان على سبيل القرض، ومرة بأنه استغفل فلم يعلم بما وقع.

المهم عندهم هو الاعتذار عن الحاكم وتبرئته، وهو هنا عثمان، حتى لو أدّى ذلك إلى اتهامه المسلمين كلهم وإلى تزوير التأريخ كله.

والأغرب أنّ أشدّ المدافعين عن عثمان ومحاولة تبرير أفعاله والتماس العذر له فيها، هم بعض شيوخ المعتزلة: أصحاب المنهج العقلي والفكر الحر كما يوصفون عند الحديث عنهم(١) .

على أن موقف المعتزلة من عثمان وغير عثمان، ومن كل ما له صلة بالسلطة هو موقف المبرّر دائماً، المساند دائماً، المدافع عنها مهما ارتكبت من جرائم. هذا موقفهم الثابت الذي لا تغيير فيه من كل سلطة، وعليه قامت مدرستهم منذ مؤسّسها واصل بن عطاء أو مؤسّسيها واصل وعمرو بن عبيد.

لقد كان المعتزلة شرطة السلطة وأعوانها ومسوّقي جرائمها رغم مواقفهم الجريئة على الصعيد الإيماني. لقد خافوا سلطان الدنيا فجبنوا وأمنوا سلطان الدين فاجترؤوا.

____________________

(١) انظر في ذلك دفاع قاضي القضاة وأبي الحسين الخياط في نهاية الجزء الثاني وبداية الجزء الثالث من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد تحقيق محمد أبوالفضل ابراهيم - دار إحياء الكتب العربية ط ١٩٥٩.

٢١٨

٤- علي بن أبي طالب (...؟)

ما لابن أبي طالب وحده لا يحمل لقباً كأصحابه الخلفاء الآخرين، كالصدّيق والفاروق وذي النورين؟! أتراهم استكثروا عليه ذلك وهم يوزّعون الألقاب حتى على من كان دون الخلفاء كـ (أمين الأُمّة) و(سيف الله)؟!

ولكن، أكان علي في حاجة إلى لقب؟! ماذا سيكون لقبه، ودونه كل الألقاب؟!

تلك كانت خاطرة أسرعت إلى ذهني وأنا أتناول الخلفاء الراشدين واحداً بعد الآخر. فلأبدأ بما أريد الحديث فيه.

كانت تركة العهد العثماني تمثّل عبئاً ثقيلاً وثقيلاً جداً على من يخلف عثمان، حتى لو كان أقوى الرجال وأقدر الرجال. فالفساد لحق جميع مفاصل الحياة، بل إنك لا تخطئ إذا قلت، إن الحياة كلها قد لحقها الفساد، وأن الإسلام كقيم وسلوك قد تراجع وانحسر بفعل عوامل كثيرة ضغطت عليه طوال ذلك العهد، عرضنا لبعضها وتركنا بعضها لأنه معروف.

في مثل هذه الظروف تمّ انتخاب علي الذي أصرّ على الاعتذار، لكنه قبل أخيراً - رغم معرفته بالظروف وربما بسبب معرفته بالظروف - حين وجد أن الاعتذار لا يسعه وأن مصلحة المسلمين توجب عليه القبول.

وجاء انتخابه بإجماع لم يعرف من قبل. لم يكن تعييناً من سابق للاحق. ولم يكن اختياراً من بين عدد محدود يمر عبر صفقات ومساومات.

لكن هذا الانتخاب وبالشكل الذي حصل فيه، أثار حفيظة الكثيرين من أعداء علي القدماء والجدد الذين رأوا في خلافته ضربة موجعة لمصالحهم وأطماعهم، وحاجزاً لا يمكن اختراقه لبلوغ ما يريدون. فهم يعرفون علياً ويعرفون شدّته في الحق وقوّته في ردع الظالمين وانتصافه للضعفاء والمظلومين. وربما كان يكفيهم منه أن يتركهم وما في أيديهم. لكنهم كانوا على يقين أن ذلك لن يتحقّق، وليس ما في أيديهم إلاّ أموالاً اقتطعت من أموال المسلمين.

٢١٩

كانت الصورة أمامهم واضحة: حكم يتساوى فيه أقصى المسلمين بأدناهم وأضعفهم بأقواهم، ولن يكون الخاسر فيه إلاّ هم.

وكان عليهم أن يعملوا بسرعة، قبل أن يتمكّن علي، وقبل أن يسبقهم الزمن فيفسد عليهم مسعاهم.

وأسرعوا. هاهم يتسابقون لإشغال علي وتأليب الرأي الإسلامي ضدّه: باتهامه بالاشتراك في قتل عثمان وعدم نصرته والتخذيل عنه تارة، أو باتهامه بإيواء قتلة عثمان تارة.

والتقى خصوم الأمس من ارستقراطية قريش وذوي النفوذ والجاه والمال تحت شعار محاربة علي: الخطر الوشيك على النفوذ والجاه والمال. ولم يكونوا ليلتقوا قبل اليوم، لكنها المصالح تنسي العداوات وتقفز عليها.

على أنّ من الحق أن أشير إلى أنّ محاولة استبعاد علي من الواجهة السياسية التي أخذت شكل الحرب والقتال بعد مبايعته بالخلافة، قد سبقت ذلك بزمن طويل. لقد كان علي ضحيّة مؤامرة كبيرة بدأت قبل خلافته وقبل الشورى وقبل السقيفة، ومنذ حياة النبي، شاركت فيها رؤوس كبيرة وأسماء كبيرة من رجال قريش.

ومع علي، كان الإسلام والمسلمون ضحيّة من ضحايا تلك المؤامرة التي انطلقت من يومئذ لتنتهي بظلم ما يزال يوجع الإنسان عندنا حتى اليوم.

وهكذا توحّدت مصالح الكبار من المسلمين وعلى رأسهم هذه الارستقراطية القرشية بما تمثّل من احتكار للثروات والمناصب، وعداوات قديمة وحديثة للهاشميين ولعلي، لتشارك كلها في قتل علي والتخلّص منه نهائياً، فانتهكت بقتله، حقوق هذه الملايين من المسلمين الذين كانوا يرون فيه وجه الإسلام النقي الصافي العذب، والذين وئدت آمالهم التي كان يجسّدها علي، لتصحيح وضع فاسد لم يعد يمثل أية قيمة إسلامية.

٢٢٠