جذور الشر

جذور الشر0%

جذور الشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 224

جذور الشر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 46423
تحميل: 5821

توضيحات:

جذور الشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46423 / تحميل: 5821
الحجم الحجم الحجم
جذور الشر

جذور الشر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لِمَ بقي علي بن الحسن بن الحسن محبوساً حتى وفاته عام ١٤٦، ولو لم تدركه الوفاة وتنهي عذابه، لأدركه القتل أو البقاء تحت التعذيب في الحبس(١) .

ولأنتقل الآن، بعد آل الحسن، إلى هذا العثماني الذي كتب عليه أن يكون أخاً لعبد الله بن الحسن من أمّه فاطمة بنت الحسين، فلم تبخل عليه يا أبا جعفر بالعذاب الذي بسطته على آل الحسن، بل زدت عليه.

وسأذكرك يا أمير المؤمنين ببعض ما عذبته به قبل أن تنهي حياته بالقتل الذي هو عشقك وعشق كل أمراء المؤمنين، وإن كان غريباً مني أن أذكرك، وكأنك لم تأمر ولم تشهد ولم تحضر، وكأن الذي فعلت مما ينسى.

هل تذكر حين أمرت ببني الحسن فأُتي بهم إليك وأنت في الربذة، تحملهم الإبل مغلولين بغير وطاء حتى سقط لحم بعضهم، ومعهم محمد بن عبد الله العثماني، فطلبته فدخل عليك، ثم خرج منك وكأنه زنجي قد غيرت السياط لونه وأسالت دمه، وأصاب سوط منها إحدى عينيه فذهب بها، ثم أقعد إلى جنب أخيه عبد الله وعطش فتحاماه الناس، ولم يجرؤ أحد أن يسقيه لولا رجل خراساني ما أحسبه إلا هاوي موت، جاءه بماء فشرب(٢) .

وطلبته ثانية وأمرت بشقّ ثيابه حتى بدت عورته، ثم أمرت فضرب مائة وخمسين سوطاً، وحين قال للجلاد: اكفف عن وجهي فإن له حرمة من رسول الله؛ لأنه ابن فاطمة بنت الحسين، قلت للجلاد، وكأنك انتبهت إلى أشد ما يؤذي من أعضاء الإنسان: الرأس الرأس، فضرب كما اشتهيت، وبعد السياط دعوت بساجور من خشب فشد في عنقه وشدت به يده، وأخرج على هذه الهيئة، وكان أذاه بانكشاف عورته أقسى عليه من أذاه بوقع السياط. ويراه مولى له فيلقي عليه ثوبه ستراً له وحفظاً لحرمة لم تحفظها.

ومع كل العذاب الذي أنزلته بمحمد بن عبد الله، أبيت إلا أن تعذب بعذابه أخاه عبد الله بن الحسن الذي كنت تجعله في السير، خلف أخيه محمد؛ ليرى آثار السياط في ظهره ويتألم، فتكون قد عذبت اثنين بعذاب واحد(٣) .

____________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ١٩٥.

(٢) تأريخ الطبري ج ٧ ص ٥٥٠، ومقاتل الطالبيين ص ٢٢٠ - ٢٢١.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٢٢٢.

٤١

ولم تكن في حاجة إلى كل ذاك؛ إذ كنت قادراً على قتل الاثنين معاً، لولا هذا المرض الذي اسمه أبو جعفر المنصور.

وتنتهي حياة محمد بن عبد الله كما انتهت حياة الآخرين ممن شاركوه السجن، ولكن هل تعرف - عزيزي القارئ - كيف انتهت حياته؟

سأروي لك القصة، وهي قصة قد تبدو غريبة لولا أن يعوّدنا خلفاء المسلمين على ما هو أغرب.

فحين ظهر محمد النفس الزكية في المدينة، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن؛ أمر المنصور بقتل محمد بن عبد الله العثماني، ثم بعث بجسمه إلى خراسان، وبعث معه رجالاً يحلفون بالله أنه محمد بن عبد الله وأنه ابن فاطمة بنت رسول الله.

وأظنك عرفت كيف يحتال أمراء المؤمنين، فمحمد النفس الزكية، الثائر على المنصور. ومحمد العثماني يشتركان في اسم الأب عبد الله، وأم الاثنين فاطمة بنت الحسين، فكان الرجال يحلفون بأن الذي حملوه هو محمد بن عبد الله الذي أمه فاطمة بنت رسول الله.

وهذا ما عبر عنه ساخراً أحد الهاشميين حين سئل عن السب في قتل محمد بن عبد الله العثماني فأجاب قائلاً: احتيج إلى رأسه!!

احتاج أميرالمؤمنين إلى رأس من اسمه محمد بن عبد الله: اسم محمد النفس الزكية واسم أبيه. ومن جدّه لأمه رسول الله، فقتل محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان الذي كان مقتولاً على كل حال، وربما أراحه المنصور من عذاب سيطول قبل أن يقتله.

ومأثرة أخرى لك يا أمير المؤمنين أعتذر لأني أغفلتها وأنا أعدد مآثرك، وعلى كلٍّ فما أظنها الوحيدة التي أغفلتها، عمداً أو سهواً، وإلا لكان الكتاب خاصاً بك، ولتعرّضت بذلك لغضب أمراء المؤمنين الآخرين، الذين سأضطر لتجاوزهم وهم كثر، وبعضهم كما تعلم ليس دونك.

على أن هذه المأثرة سبقك إليها واحد ممن يحملون لقب أمير المؤمنين وأحسبك عرفتها وعرفته الآن.

لقد استباح جيشك الأهواز ثلاثاً في حربك ضد إبراهيم بن عبد الله أخي محمد النفس الزكية، تماماً كما استباح جيش يزيد المدينة ثلاثاً في واقعة الحرّة.

٤٢

ولا أدري لَم يذكر الناس حرّة يزيد وينسون (حرّتك) مع أنها لم تكن دون تلك في استباحة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم؛ ربما لأنّ ليزيد فضل الريادة والسبق إلى مثل هذا الصنف من (المآثر).

وها أنا أحاول أن أرد الظلم عنك فأسجّلها لك لتضاف إلى مآثرك الأخرى.

أظنني حملت القارئ كثيراً، ومن الخير له ولي ولك يا أبا جعفر أن أقف عند هذا الحد من حديثك والمثل العربي يقول: (يكفيك من شرٍّ سماعه).

وقد كفانا وأرهقنا ما سمعنا، وكان يكفينا ويرهقنا دون ذلك.

٤٣

(٨)

المهدي

عندما يجبر الأب على أن يقتل ابنه

الخليفة المهدي يتوسّط غرفة كبيرة من غرف قصره الكبير الفخم، وعلى يمينه وشماله يقف عدد من رجال دولته ومن حاشيته، عرفت منهم وزيره الفضل بن الربيع.

وأمام المهدي شيخ، أو هكذا يتصوّره من يراه، ما يقوى على الوقوف، ترتعش يداه بالسيف، وقد شحب وجهه وذبلت شفتاه، وهو ينظر بعينين غائرتين ما أظنهما تبصران شيئاً مما حولهما.

وقلت لصاحبي ونحن نتابع المشهد: ما لهذا الشيخ ترتعش يداه بالسيف وكأنه لم ير سيفاً من قبل، وليس أكثر من السيوف في عهد المهدي وهي تحتز رقاب هؤلاء (الزنادقة)!

قال: ألا تعرفه؟!

قلت: لا والله، فلست من أصحاب الخليفة ولا من أصحاب أصحابه، لقد عشت حياتي بعيداً عنهم.

قال: إنه أبو عبيد الله.

قلت: وزير المهدي تعني؟

قال: نعم، هو ذاك، أبو عبيد الله، إن لم تره فلا شك أنك سمعت به.

قلت: ومن لم يسمع به وهو صاحب أمير المؤمنين ووزيره؟! ولكن ما شأنه؟ ما له يرتعش والسيف في يديه، وكانت الدنيا في يديه؟! ضحية جديدة من ضحايا الخليفة؟! ألم أقل لك يوماً إن خلفاءكم لا أمان لهم ولا عهد ولا دوام مودة ولا حساب لفضل أو سابق خدمة؟ لا تدري - وأنت وزير - متى يطرق عليك الباب أو يكسرها، من يجرك من فراشك دون سبب معلوم، ثم لا تدري إن كنت ستعود لأهلك، أم هو الطريق الآخر الذي تعرف إلى أين ينتهي، كوزرائنا في عهد صدام.

٤٤

ولكن ما لنا ولهذا؟ ما هي التهمة التي جاءت به إلى هنا؟ رشوة؟ خيانة؟ سرقة؟ وليس فيهم من تبرّئه منها، وأوّلهم الخليفة نفسه الذي سرق شعباً كاملاً وانتهكه.

قال: ليس شيء مما ذكرت.

قلت: والله لقد حيرتني، ما الذي جاء به إذن، إذا لم تنسب إليه، لا الرشوة ولا الخيانة ولا السرقة؟!

قال: تلك قصة طويلة لا صلة لها بالرشوة والسرقة التي لا يعاقب عليها إلا إذا تناولت أموال أمير المؤمنين، قصة تتكرر كثيراً هذه الأيام، رأيناها قبل أبي عبيد الله ونراها مع أبي عبيد الله وسنرى أقسى وأشد منها في قابل الأيام كما أحسب.

قلت: هاتها فليس عندي ما يشغلني، بل هي جزء مما يشغلني.

قال: اسمع إذن.

كان عبيد الله بن أبي عبيد الله قد اتهم بالزندقة، وهي تهمة رائجة في عصرنا، تلجأ إليها السلطة للتنكيل بخصومها كلما أعوزتها الأسباب، مع أنها لا تعوزها الأسباب ولا تحتاج إليها.

وكان الربيع الذي يقال إنه ابن يونس، يحقد علي أبي عبيد الله ويكرهه أشد الكره ويسعى به دائماً لدى الخليفة، ويدس من يثير مخاوفه منه أو غضبه عليه ليزيله من مكانه، وكان هذا جارياً بين حاشية الخلفاء وأركان السلطة، كلٌّ يريد التفرّد والاستئثار بها، وكلٌّ يريد إبعاد غيره عنها.

لكن المهدي لم يكن يصغي لأحد في أبي عبيد الله؛ فهو معتمده الأثير لديه الذي لا يعدل به أحداً.

وفكّر الربيع فيما يبعد الخليفة عنه ويوغر صدره عليه.

والربيع رجل مكر ودهاء، ولا تعوزه الحيلة للوصول إلى ما يريد، وحين لم يجد في أبي عبيد الله نفسه منفذاً للدخول منه، فها هو عبيد الله ابنه يسهّل عليه هذا المنفذ.

٤٥

كان الخليفة المهدي قد جرّد سيفه، وسيوف الخلفاء حادّة قاطعة، في المسلمين، يقتل من يخاف أو يتوهّم الخوف منه على حكمه تحت شعار الزندقة، وأوغل في ذلك حتى عيّن وكيلاً عنه هو عمر الكلواذي الذي تحول اسمه إلى (صاحب الزنادقة). والصحبة هنا لا تعني الصداقة والمودّة، وإنما ملاحقة هؤلاء الذين سموهم زنادقة، والبحث عنهم وأخذهم بمنتهى الشدّة؛ فهي صحبة قتل وتعذيب وسجن، وهو أقل ما يلحق الزنادقة من (صاحبهم).

وكان عبيد الله بن أبي عبيد الله متهماً بالزندقة؛ إذن ها هي الفرصة التي طالما انتظرها وبحث عنها الربيع، وها هو سلاحه الذي لن يجد أمضى منه للنيل من أبي عبيد الله، الذي عجزت وسائله الأخرى من النيل منه وتجريده من المكانة التي يحتلها عند الخليفة.

وجيء بعبيد الله إلى مجلس الحكم الذي لا أدري لماذا يحضره الخليفة مع وجود القاضي.

وعرض عبيد الله توبته، لكن المهدي رفض، رغم أن القاضي، وأظن اسمه عافية بن يزيد، طلب أن يخلي عنه بعد إعلانه التوبة، فما كان من المهدي إلا أن أمر بنزع عمامة القاضي ووجئه في عنقه؛ لأنه رأى باطلاً فأبى - وهو القاضي - أن يقره، وهذا ما لا يحتمله أمراء المؤمنين، فمهمة القضاة عندهم هي تشريع الظلم لا منعه أو الاعتراض عليه.

وأُطيح برأس عبيد الله كما أُطيح برؤوس كثيرة قبله وبعده دون أن يهتم بها أحد.

ولا أسألك يا أمير المؤمنين لِمَ قتلت عبيد الله بعد إعلان توبته، فأنتم - أمراء المؤمنين - أحرار فيما تفعلون، ومن بين ذلك وربما أول ذلك، قطع الرؤوس: هوايتكم المفضلة.

لكني أسألك فقط: كيف سمحت لنفسك أن تطلب من الأب أن يقتل ابنه؟!

أكان من شروط القتل في الزندقة أن يتولى الأب قتل ابنه المتهم بها، أم أعوزك هؤلاء الذين لا يحسنون شيئاً كما يحسنون القتل ويفرحون له بعدما جردتموهم من آدميتهم لطول ما قطعوا من رؤوس؟!

ألم ترع لهذا الشيخ سنّه وسابق خدمته لك وحسن قيامه بشؤون دولتك؛ فتطلب منه ما لا يطلبه واحد يصدق عليه وصف الإنسان؟!

ويرتعد الأب الشيخ وتخور قواه، ويسقط ويسقط السيف من يده، ويرفق به أحد الحاضرين فيرجوك أن تعفيه مما يستطيع غيره القيام به.

٤٦

وأقسم أني ما تصوّرت منظر هذا الشيخ الذي تطلب منه أن يقتل ابنه إلا ارتعدت كما ارتعد، وأمسكت برأسي من هول ما أتصوّر.

وبعد هذا، أكان عبيد الله وحده الذي جيء به متهماً بالزندقة؟! لِمَ استثنيت مثلاً من حكمك: داود بن روح بن حاتم، وإسماعيل بن سليمان بن مجالد، ومحمد بن أبي أيوب، ومحمد بن طيفور الذين أقرّوا بزندقتهم فتركتهم ولم تعرض لهم، ولم يلحق القتل إلا ابن أبي عبيد الله الذي أعلن تبرؤه منها؟!

ثم ما لكم لا ترفعون اليوم شخصاً إلا لتنكبوه غداً؟! رفع أبوك آل المورياني وقدّمهم ثم نكبهم. ورفعت أنت أبا عبيد الله وقلّدته أمور دولتك ثم نكبته بأبشع ما ينكب إنسان، وسيرفع ابنك الرشيد البرامكة ويطلق أيديهم ويوكل شؤون الدولة إليهم ثم ينكبهم بما يسمى حتى الآن بـ (نكبة) البرامكة.

أية نفوس مريضة، هذه التي لا ترفع أحداً اليوم إلا لتطيح به غداً، ولا تنعم على أحد اليوم إلا لتسلبه النعمة غداً، ومعها نفسه على الأكثر؟!!

أهذا هو التراث الذي ستستلهمه الأجيال بعدكم؟!

هل تعلم: إنك وأمثالك من أمراء المؤمنين وخلفاء المسلمين، كنتم وراء انصراف الكثيرين عن الإسلام والبعد عنه، فليس من السهل دائماً التمييز بين الإسلام وبين المسلمين، فضلاً عن التمييز بين الإسلام وبين خلفاء المسلمين؟

وما أزال في الزندقة: ميدانك الذي شهرت به.

وما يزال الكثير من الأسئلة التي أريد استيضاحها منك، وقد سمحت لي بالحديث معك.

بشار بن برد مثلاً، لِمَ قتلته؟

وستجيب طبعاً: الزندقة، لقد كان زنديقاً فاستحق القتل بها.

ولا أدري إن كنت جاداً يا أمير المؤمنين، أم تريد أن تسخر منّا كعادة أُمراء المؤمنين.

٤٧

لقد بقي بشار يقول الشعر أكثر من ستين عاماً، لم يترك باباً من أبوابه إلا طرقه ونظم فيه، تغزّل وشبّب وأفسد النساء بشعره، فلم تؤذه ولم تعرض له بسوء.

لقد كنت، على العكس، تدنيه وتقرّبه وتطلب منه أن يصف لك من جواريك، ما لا يطلبه شخص من شخص. بل لقد تجاوزت معه كل الحدود، حت طلبت منه أن يصف لك ما لا يجوز وما لا يقدر عليه إلا من كان حاضراً عملية ممارسة الجنس أو ما يمهّد لممارسة الجنس.

أتذكر يوم دخلت إلى بعض حجر النوم فنظرت إلى جارية منهن تغتسل - وما أكثر الجواري عندكم معاشر أمراء المؤمنين - فلما رأتك اضطربت ولم تدرِ ما تفعل غير أن وضعت يدها على... فقلت:

نظرت عيني لحيني

ثم ارتج عليك فلم تستطيع أن تجيز، فسألت عمن ببابك من الشعراء ليجيز شطرك، وكان بشار هناك، فلما دخل طلبت منه أن يكمل الشطر، ولم يقصر بشار ولم يكتفِ بإجازة الشطر، فقد أضاف إلى البيت الذي شاركك فيه، بيتين آخرين قلت له بعدهما (... قبحك الله، ويحك أكنت ثالثنا ...) ثم تقف عند ذاك فطلبت منه الزيادة. وأظنك تعرف ماذا تعني الزيادة هنا، والموضوع كله يدور حول جارية عارية، وقد أعجب الخليفة المنظر وما بعد المنظر.

ولأن بشاراً أعمى لا يرى محاسن الجارية، فكنت أنت يا أمير المؤمين تصف له مواضع الحسن فيها، وكيف تريد أن تكون معها إذا اختليت بها.

هذا هو بشار، وهذه علاقتك ومعرفتك به.

فما الذي استجدّ لديه مما لم تكن تعرف، ليستحق القتل عندك؟!

تركته حين كان يصف لك من الجواري والنساء ما تريد وتشتهي.

٤٨

تركته عندما كان يقول الشعر فيما هو مقبول ومسموح به، وفيما هو غير مقبول ولا مسموح به.

تركته حين كانت تهمة الزندقة يمكن أن توجّه إليه وتصدق فيه، حتى إذا بلغ التسعين أو تجاوزها اكتشفت زندقته!!

إن الأحداث تقول غير ما قلت، تقول إنّ السياسة وهجاءه وزيرك يعقوب بن داود وهجاءك معه، ثم ما نسب إليه من أبيات تعرّض فيها لك ولعلاقتك بعمّاتك، ذلك ما قتل بشاراً.

أليس ذلك صحيحاً يا أمير المؤمنين، فيما بينك وبين نفسك على الأقل، إن كنت لا تريد أن تصدقني علناً فيه؟(١) .

وصالح بن عبد القدوس؟ ما شأنه هو الآخر، لِمَ قتلته؟ تهمة الزندقة أيضاً؟!!

لكن صالحاً نفاها عنه وأعلن براءته منها حين أحضرته لديك، ولم يدع لك سبيلاً عليه، وبدا وكأنه نجا من الموت، غافلاً عما قرّرته واعتزمته فيه.

ويتهيأ صالح للخروج وهو يحس الأمان أو هكذا تصوّر، ويتجه نحو الباب لكنه لم يبلغه حتى أمرته بالعودة وتردّد بيته الذي لا يكاد يجهله أحد:

والشيخ لا يترك أخلاقه

حتى يوارى في ثرى رمسه(٢)

ثم تقول له: (وأنت لا تترك أخلاقك ونحن نحكم فيك بحكمك في نفسك) وكالعادة، فقد أمرت به فقتل وصلب على الجسر.

____________________

(١) انظر ما يخص بشاراً كتابنا (في الزندقة والشعوبية).

(٢) هذا البيت هو الثاني من خمسة أبيات هي:

ما يبلغ الأعداء من جاهل

ما يبلغ الجاهل من نفسه

والشيخ لا يترك اخلاقه

حتى يوارى في ثرى رمسه

إذا ارعوى عاد إلى جهله

كذي الضنا عاد إلى نكسه

وإن من أدّبته في الصبا

كالعود يسقى الماء في غرسه

حتى تراه مورقا ناضراً

بعد الذي أبصرت من يبسه

٤٩

ماذا تريد من شخص يؤكّد أنه برئ من تهمة تصرّ أنت على إلصاقها به، وليس معه من سلاح يثبت البراءة، ومعك كل الأسلحة التي تثبت الإدانة.

ماذا يجدي على صالح وغير صالح إنكاره وإعلان براءته حتى لو أقسم بكل ما يقطع الشك عند المسلمين، إذا كان أمير المؤمنين نفسه هو الذي يطلب رأسه، وكان رأس صالح مما يطلب أمير المؤمنين.

لقد تعلقت ببيت لصالح لم يقله عند قتله ولا قبله بقليل، وليس فيه على أية حال ما يتصل بالزندقة من قريب أو بعيد، وإنما هو بيت فيه حكمة وعظة وخبرة إنسان عاش حياته وعرف حياة الآخرين، ولا تعدم مثله في شعر العرب ابتداء من الجاهلية حتى عصر صالح، ولم يقتل به شاعر على حد علمي.

الذي قتل صالحاً ليس بيت الشعر.

الذي قتل صالحاً هو مسجد البصرة الذي كان يغص بالناس يتوافدون إليه من مختلف المناطق للاستماع إلى هذا الشيخ الحكيم وهو يروي لهم من أحداث الماضي ومآسي الحاضر ما يحرّك الفكر ويوجه النظر إلى واقع الناس، وهو إلى ذلك، شاعر أديب حلو الحديث ساحر البيان يتحدث فتنقطع الأعناق إليه ويشتد والزحام للاستماع منه، وهذا خطر آخر. ويتسع مجلسه، ويتسع نفوذه.

وتصل أخباره إلى المهدي، وأظنك تعرف ما سيحدث بعد ذاك، وليس بعد ذاك إلا... إلا القتل(١) .

ولم تكن الزندقة إلا مطية ركبتها لقتل صالح، كما كانت مطية ركبتها لقتل بشار وغير بشار.

وسأترك الزندقة التي مللت حديثها إلى ميدان آخر، لكن عليّ قبل ذاك أن أخبرك ما لا تريد أن يعرفه أحد عنك، وهو وجه من الوجوه التي كنت تعتبرها زندقة وتقتل عليها.

____________________

(١) انظر ما يخص صالح بن عبد القدوس كتابنا (في الزندقة والشعوبية).

٥٠

يقولون إنك أول خليفة ظهر لندمائه وكان يسمح لهم بالشرب والسماع في قصره(١) ، بل يقولون إنك أكببت على اللذات والشرب(٢) .

وإنّ من أهم الأسباب التي ربطت بينك وبين وزيرك يعقوب بن داود، وقرّبته منك فبلغ ما بلغ من منزلة هو حديث النساء والجنس؛ الذي عرف يعقوب ولعك به فكان يدفع به شر الساعين والمتربّصين من أعدائه ومنافسيه، وهم يخلون بك في الليل يملؤون قلبك غيظاً عليه، وينتظرون أن تثور به صباحاً لكنهم يفاجأون بعكس ما انتظروا.

لقد عرف يعقوب ضعفك وشغفك بحديث النساء والجنس وأتاك من هذا واستولى عليك.

وهل كانت الزندقة في واحد من وجوهها على الأقل، غير ما تفعله أنت؟ وهو المكشوف الذي استطاع المؤرخون أن يعرفوه ويرووه.

ولأنتقل إلى هذا الميدان الآخر المتعلّق بأموال المسلمين التي اؤتمنت عليها، فأية مصلحة لهم في أن تبني متنزهاً لمتعك مع جواريك وندمائك بخمسين ألف ألف درهم، ومرتّب رئيس الكتاب لا الكاتب لا يزيد على الثلاثمائة درهم في الشهر عليه أن يعيش بها هو وعياله؟!

وماذا فعلت بالتسعمائة والستين ألف ألف درهم التي كانت في بيت المال يوم وليت الخلافة فانفقتها كلها في غير مصارفها، ولو وزعت في ذلك الوقت على فقراء المسلمين لكفتهم؟!

وعيسى بن موسى الذي دفع له أبوك مبالغ كبيرة لكي يحمله على التنازل لك عن ولاية العهد، ثم دفعت له أنت مثل تلك المبالغ، أو أكثر كما افترض، ليتنازل لولديك الهادي والرشيد عن حقّه في ولاية العهد. وهكذا، عيسى يتنازل، وبيت المال يدفع.

____________________

(١) الأوائل للعسكري ص ١٧٨، والوسائل إلى معرفة الأوائل للسيوطي، وتأريخ الطبري ج ٨ ص ١٦٠ أحداث سنة ١٦٦، وتأريخ الخلفاء للسيوطي نقلاً عن الصولي.

(٢) الوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٩.

ولكن قل لي، وأرجو أن يكون هذا السؤال هو الأخير، كيف استجزت لنفسك أن تقتل ألفين وتسعين أسيراً صبراً، بعد المعارك وخارج ساحاتها، والأسير كما لا تجهل، أمانة بيد الآسر لا يجوز أن يعتدى عليه بما هو دون القتل فضلاً عن القتل.

٥١

عذرك الوحيد - يا أمير المؤمنين - أنك لم تتعب ولم تعرق في تحصيلها وأنك، متى شيءت، فرضت على الناس أضعافها.

لا عليك يا أمير المؤمنين مما يقوله المتحدثون، وسأودعك مضطراً هنا، فالطريق أمامي طويل والمنتظرون كثيرون، ربما أكثر من قائمة الأسئلة التي حملتها إليك والتي لم أطرح إلا بعضها.

٥٢

(٩)

الهادي

الطبق الذي يحمل الفحشاء

سيكون الحديث معك يا سيدي قصيراً، قصر المدة التي أمضيتها في (مهنة) إمارة المؤمنين، وهي لا تتجاوز السنة والثلاثة أشهر عند المكثر.

سأقتصر إذن على بعض الأسئلة التي بدا لي أن أوجهها إليك، في فضول قد لا تكون مستعداً لتحمله في هذا الوقت، وقد احمرت عيناك من السهر وطول الشرب(١) .

ولكني سأختصر كما وعدتك، ولن أقطع عليك ما أنت فيه من متعة. أمتعك الله دائماً. إلا بقدر ما تأخذ منك الإجابة على أسئلتي هذه.

فلأسرع فيها، مع عذري لهؤلاء الجواري الحسان اللاتي لا يسرهن أن أقطع عليك وعليهن مجلسكم الذي تمنيت أن أكون حاضراً فيه، لو أن مثلي ممن يسمح بحضوره.

هل لك أن تخبرني لِمَ إصرارك على نزع أخيك الرشيد من ولاية العهد، وجعلها في ابنك الطفل الذي لم يكن قد بلغ الحلم؟ أكانت خلافة المسلمين قد بلغت من الهوان ما يجعل منها لعبة لا تصلح ولا يصلح لها إلا الأطفال؟ ألم تعتبر بمن سبقك، وكل من سبقك تقريباً مارس هذه اللعبة التي تصادر حق المسلمين في إدارة شؤونهم واختيار من يرونه أهلاً للحكم فيهم؟

لقد كانت ولاية العهد وبالاً على المسلمين، يتحمل وزرها من شرّعها وسنّها فجرى الآخرون عليها.

لِمَ أصررت على إبعاد أخيك هارون من هذه الولاية، حتى قرّرت قتله، هو وأصحابه، وأولهم يحيى بن خالد، في الليلة التي متّ فيها، للتخلّص منه ومنهم وقد رفضت أنت وأبيت حين أراد أبوك المهدي أن ينزعك من ولاية العهد ليجعلها في الرشيد(٢) .

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٢٢٣، والوزراء والكتاب ص ١٧٢.

(٢) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٢٣٠ أحداث سنة ١٧٠.

٥٣

ولأترك ولاية العهد فقد أصبح الصراع عليها وإبعاد صاحب (الحق) فيها من الأمور المعتادة، فكل ولي للعهد يدفع من يليه في الولاية إلى من هو أقرب وأحب إليه، وليس غير ابنه، إلا ما كان على سبيل الاستثناء.

سأترك ولاية العهد التي صار الحديث عنها مملولاً، لاتناول معك موضوع هذا التبذير في أموال المسلمين والعبث بها وإنفاقها في غير وجوهها، ووالله لو كانت إرثاً لحجر عليك، وقبلك على أبيك.

كيف دفعت لسلم الخاسر - والغريب إن لقبه الخاسر بقي ولم يبدل - ثلاثمائة ألف درهم في أبيات أظنها لا تتجاوز الثلاثة قالها كاذباً في مديحك، وهذا يعني أنّ كل بيت كلّف مائة ألف درهم تحمّلها بيت مال المسلمين؟!(١) .

وكم تمنيت أن أتقدم إلى عصرك أو تتأخر إلى عصري، وسأنظم فيك أكثر مما نظم سلم وأقبل أقل مما أخذ، لولا أن واحداً غير سلم اسمه عبد الله بن مالك كان يتولى الشرطة لأبيك وقد تقدم منه - بأمر أبيك طبعاً - شيء ساءك في ندمائك، وكنت بعد ولياً للعهد، فخاف عبد الله هذا حين صارت إليك الخلافة، وأردت أن تزيل خوفه وتدنيه إليك وتبعده أن يكون في صفّ أخيك هارون، وأنت تخوض الصراع ضده على ولاية العهد فأمرت فدخل بيته أربعمائة بغل موقرة دراهم، وأنا أعرف أن البغل معد للأحمال الثقيلة التي لا تطيقها الخيل ولا الحمير(٢) .

ونسيت سلماً، وقلت ربما جاء لقبه (الخاسر) بعد أن قورنت جائزته بجائزة عبد الله بن مالك التي لم يستطع حملها إلا أربعمائة من البغال.

ولكني أخطأت هنا أيضاً، وأنا أعتذر لك عن هذا الخطأ، فقد تجاوز إبراهيم الموصلي صاحبيه: سلماً وابن مالك وكان أسعد حظاً منهما، هل تذكر حين قلت له في مجلس ضمك وإياه وبعض المغنّين - وهذه هي مجالس أمراء المؤمنين - (من أطربني منكم فله حكمه...).

____________________

(١) الوزراء والكتاب ص ١٧٢.

(٢) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٢١٦ أحداث سنة ١٧٠، وتاريخ ابن الأثير ج ٥ ص ٢٧٤. ٢٧٥ أحداث سنة ١٧٠.

٥٤

ولن أطيل في الحديث، فقد أطربك إبراهيم بـ (سليمى أجمعت بينا ...) وأدخل بيت المال، أظنه مال المسلمين، فلم يخرج إلا بألف ألف درهم، شاركه الخازن، ومن حقّه أن يفعل، بثلاثمائة ألف منها، فبقي معه سبعمائة ألف(١) .

وبيت مال المسلمين والحمد لله فيه دائماً ما يكفي للإنفاق على المغنين، لكنني أحزن لسليمى التي قبض فيها ألف ألف درهم، ولم تقبض هي منها درهماً واحداً!!

ولعلّي ضايقتك بالحديث عن الشعر والغناء، وسليمى، فربما أذكرتك عهد الشباب الذي ما تزال تحنّ إليه كما أحنّ إليه، مع هذا الفرق الكبير بين شبابك وشبابي، وعدم وجود المغنّين والجوائز وسليمى.

ولأتحول إلى موضوع آخر، وإن كنت لا أدري كيف ستستقبله، فقد يكون من الأمور التي تحرص على عدم إذاعتها.

فلِمَ حاولت أن تقتل أُمّك بأوزّة مسمومة بعثت بها إليها، لكنها كانت من الدهاء بالموضع الذي تعرف، فلم تمسها ودفعتها إلى كلب أكل بعضها فتساقط لحمه(٢) .

ألم تستطع أن تمنعها من تجاوزك والقطع في الأمور دون الرجوع إليك، بوسيلة أخرى غير القتل بهذه الطريقة التي ستشينك وتخزيك؟!

ماذا سيقول الناس لو علموا ولابدّ أن يعلموا، إنّ الخليفة قتل أُمّه، خصوصاً مع ما يتناقلونه من اختلاف القوّاد والأمراء إليها في منزلها؟!

وأي غريب بعد في أن تسمّ الربيع بن يونس بكأس فيه شراب عسل، قدّمته إليه فلم يقدر على الامتناع من شربه، وحين انصرف إلى منزله جمع أولاده وأوصاهم بعد أن أحس الموت، ثم مات من يومه أو غده(٣) ؟! وهو ما يذكّر بفعل جدّك المنصور مع أبي الجهم.

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٢٠٦ أحداث سنة ١٧٠.

(٢) الوزراء والكتاب للجهشياري، وتأريخ الخلفاء للسيوطي.

(٣) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٢٢٨ أحداث سنة ١٧٠.

٥٥

وما دمت في حديث القتل، فاسمح لي بسؤال أخير أختم به الحديث معك.

ما ذنب هاتين الجاريتين اللتين قطعت رأسيهما ثم أمرت بوضعهما في طبق جاء يحمله خادمك مزهواً وهو يسير خلفك، وطلبت منه أن يحطّه أمام جلسائك الذين عدت إليهم، بعدما تركتهم لقطع الرأسين، وأنت ترعد كأنك في معركة، وأصحابك لا يعلمون شيئاً من أمر الطبق حتى رفع الخادم المنديل عن رأسي هاتين البائستين اللتين جنى عليهما القدر فكانتا من جواريك(١) ؟!!.

وأنا أعرف ما ستجيب به، ستقول إنهما اجتمعتا على الفاحشة، فقتلتهما؛ إذ كان هذا لا يجوز في قصر أمير المؤمنين!

أليس هذا هو كل ما تملك من جواب؟!

أغباء يا أمير المؤمنين أم تغابٍ؟!

لقد جمعت في قصرك المعمور ألوف الجواري وألوف الغلمان.

وأعترف أنك لست الوحيد بين أمراء المؤمنين في هذا؛ حتى ضاق بهن وبهم القصر على سعته.

ولم يكن يسمح لهؤلاء الجواري بالزواج، ومجالس اللهو والشرب والجنس لا تفارق قصرك؛ وهي تغريهن وتغري غيرهن بالفاحشة التي تتم بأمرك أحياناً.

لقد كن جزءاً من هذه المجالس، لا تعمر ولا تكتمل إلا بهن، بين ساقية ومغنية وراقصة و.. و..، والسعيدة منهن التي ترضيك وترضي جلساءك.

فما الذي سيبعدهن عما تسمّيه الفاحشة، وأنت تدفع إليها دفعاً؟

إن الفاحشة يا سيدي، هي ما تعمله أنت، حين تجمع كل هذه الألوف من الجواري والغلمان في قصرك، لا ما اضطرت إليه هاتان البائستان.

إن كانتا ركبتا الفاحشة، فليس غيرك من يجب أن يتحمل الذنب ويحاسب.

____________________

(١) تاريخ الطبری، أحداث سنة ١٧٠.

٥٦

ولكنك أمير المؤمنين، القوي القادر على القتل، وكانتا الطرف الضعيف الذي لا يملك إلا الاستسلام للقتل.

وهل تصدقني يا أمير المؤمنين إذا قلت لك: إن هاتين الجاريتين لم تكونا الوحيدتين في ركوب الفاحشة، لقد كانت كل زاوية من زوايا قصرك وكل حجرة من حجره، مكاناً لركوب هذه الفاحشة، فالواحدة منهن تخشى الاتصال بالرجل معها في القصر خوف الحمل، ومع الحمل، القتل طبعاً، فتضطر إلى هذا الشذوذ، تجنباً للقتل، علها تسلم، ولم تسلم.

كيف تمنعهن من إتيان الفاحشة، والواحدة منهن لا تعرف في حضن من تنام الليلة أو غداً؛ فليس أسهل من أن يسكر أمير المؤمنين ويهب من يشاء منهن، إلى من يشاء من هؤلاء المسوخ الذين استطاعوا أن ينالوا رضاه بنكتة باردة، أو مديح مزيّف، أو أي شيء مما يسر أمير المؤمنين أدام الله سروره، ثم يقضي هذا وطره منها، ليبيعها في السوق كأية سلعة قد لا تجد من يرغب فيها، وقد زال جمالها وذهب الزمن بفتنتها، فترمى للموت الذي سيكون أرفق بها من أمير المؤمنين.

أليس غريباً أن يملك جسدها أي شخص، ويتصرف بجسدها أي شخص إلا هي، لا تملك ولا تتصرف بشيء منه؟

ألم يخطر ببالك أن تسأل نفسك أو نساءك، عن حاجة لهؤلاء الجواري، غير السعي في ساحات القصر، وغير إرضاء هؤلاء المشوهين من جلساء أمير المؤمنين؟ حتى الحلي والجواهر لم يكن لهن منه شيء، وإنما لمتعة أمير المؤمنين حين يخلو بواحدة منهن.

إن رأسي ليدور وأنا أتصوّر هذا القصر الذي أفترض أنه أُعد ليكون بيتاً تناقش فيه أمور المسلمين، وتعالج فيه مشاكلهم وقضاياهم، وما أكثرها، فتحوّل إلى بيتٍ للدعارة وارتكاب الفاحشة والقتل فيه.

لكم رثيت لهؤلاء البائسات وأنا أتسمع في الليل إلى بكائهن الخفي، وقد خلت كل إلى نفسها، وهي لا تملك غير البكاء، وربما خافت حتى البكاء.

٥٧

لكم حزنت لهؤلاء الفتيات أو الجواري، وهذا هو اسمهن عند المسلمين، وقد انتزعن من أهلهن ومنازلهن وملاعب طفولتهن، وحرمن من الحب والزواج والانجاب كمثيلاتهن من الفتيات، وأُتي بهن غنائم حرب دون أن يشاركن في الحرب، ودون أن يعرفن - كما أظن - معنى الحرب، ثم أُلقي بهن في هذا القصر ذي الأسوار العالية، وكل ما فيه يخيف ويرعب ويقلق، الوجوه عابسة والخطوات محسوبة، وعلى أي منهن أن تحذر الضحكة والابتسامة... فهنا قصر أميرالمؤمنين!!

رحمة لكما أيتها القتيلتان بسيف الخليفة العفيف الغيور!! وربما خفّف حزنى أن السيف كان قاطعاً كسيوف الخلفاء فلم تتعذبا وهو يسرع فيكما.

الويل لك يا من يسمونك أمير المؤمنين، من دمٍ مسفوك بغير حق، ليس دم الفتاتين إلا أقلّه.

٥٨

(١٠)

الرشيد - جعفر

والحرق، بعد الصلب، بعد القتل

ما لمسرور يحث الخطى مسرعاً لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، كأنه في سباق مع الوقت؟!

ما الذي أخرجه في مثل هذه الساعة من الليل؟! ها هو يتجه إلى بيت جعفر بن يحيى، لابد أنّ شيئاً خطيراً قد طرق أمير المؤمنين بعد ما تركه جعفر، وهو يريد التباحث معه فيه، فجعفر وزيره وصديقه وأخوه؛ لا يقطع أمراً دونه ولا يبتّ بأمر دون استشارته وأخذ رأيه.

لكن ما هو هذا الشيء الذي منع أمير المؤمنين، أن ينتظر حتى عودة جعفر في الصباح، ولم يبقَ عليه إلا ساعات قليلة؟! لا أحد يعرف، لا أحد غير مسرور وأمير المؤمنين الذي أرسله.

كان الليل قد انتصف، وجعفر بن يحيى فارق الرشيد في آخر النهار إلى بيته، وقبل أن يفارقه تعانق الاثنان كعادتهما كلما أرادا الافتراق.

لا شيء يثير الريبة ولا شيء يدعو إلى القلق، المجلس حلو والحديث حلو والسرور مكتمل، والمائدة عامرة. إنها مائدة ابن يحيى التي يشتهيها أهل الجنة، وأبو زكار الأعمى يغني، والكل نشوان سعيد قد أخذه الطرب، أو سحره الجمال مما يرى في مجلس جعفر.

ويسمع طرق على الباب، قوي ومتواصل.

ويستغرب جعفر، ويستغرب الحاضرون، فليس الوقت وقت زيارة، والليل قد مضى أكثره، ربما كان الرشيد يريد جعفر في أمر لا يحتمل التأخير، أو شاعر يطمع في جائزة جعفر - وهو مطمع الشعراء - وليس مثل هذه الفرصة، ربما طالب حاجة لا يستطيع أن ينتظر في حاجته صباح الغد.

وقبل أن ينتهي جعفر من تصوّر الأسباب، وقبل أن يقوم الخادم لفتح الباب، كان مسرور يدفع الباب بقوّة ويدخل بوجه غير ما اعتاده جعفر حين يراه.

٥٩

ويضطرب جعفر، ويضطرب الحاضرون، لا من مجيء مسرور خادم أمير المؤمنين وموضع سرّه، ولكن من طريقة دخوله، ومن وجهه العابس المكفهر الذي كان يحمل النذير بشيء لم يخطر ما هو دونه في ذهن جعفر.

ويقطع مسرور كل تفكير قريب أو بعيد قد ينصرف إليه الذهن، فيسرع بإبلاغ جعفر بأنه ما جاء إلا لأخذ رأسه.

وكانت أكثر من مفاجأة، لم تصب جعفر وحده بالذهول، وإنما أصابت الآخرين أيضاً ممن حضروا المجلس.

واصفرت الوجوه وران على المجلس سكون حزين وانقطع أبو زكار عما فيه من غناء.

لم يصدق جعفر أولاً، وتصوّر أن الأمر لا يخلو من مزاح أو خطأ وقع فيه مسرور، أو، وهذا أقصى ما يمكن أن يبلغه تفكيره، أن الرشيد غلبه الشرب فأمر مسروراً بما أمره، وسيكون ما حصل نكتة يضحك منها الرشيد طويلاً عندما يستعيد وعيه، لكن وجه مسرور ونظراته الحادة الملتهبة ولهجته الشديدة الجافة؛ تؤكّد أن الأمر جد لا يشوبه مزاح ولا خطأ، وأن هذا هو آخر مجلس له وآخر يوم من حياته.

ويطلب جعفر أن يسمح له بمواجهة الرشيد فيرفض، ويطلب أن يدخل البيت لتوديع أهله وعياله فيرفض، كل ما هو مسموح به أن يوصي إن شاء، وربما كان هذا كثيراً عليه.

إذن لم يبقَ بينه وبين السيف الذي يهتز بيد مسرور إلا أن يخرج من البيت وذلك لن يطول، فليس لدى مسرور وقت يضيعه والرشيد ينتظر الرأس، وهو لن يغفر لمسرور أي إبطاء.

ويُقتل جعفر ليبدأ الفصل الأول فيما عرف بعدئذٍ بنكبة البرامكة، التي لم يقصر المؤرخون تعصباً أو غباء، في تشويه صورتهم وإضافة ما هو معقول وما هو غير معقول إلى أسباب نكبتهم.

٦٠