مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)0%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437
المشاهدات: 216482
تحميل: 7793

توضيحات:

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 216482 / تحميل: 7793
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: 964-8163-70-7
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مارس كلامهم، ودرس مقتضيات الأحوال، فإنّهم لمْ يزالوا يتحرّون الوسائل الدقيقة لتوجيه النّفوس نحوهم، وتعريف ما لهم من حقّ مغصوب.

فمن ذلك ما أوصى به الإمام الباقرعليه‌السلام باعطاء ثمانمئة درهم لنوّادب يندبنه بمنى أيّام الموسم(١) .

فإنّك إذا عرفت أنّ النّاس من مختلف الأقطار والمذاهب يجتمعون في منى أيّام الحجّ، وقد أحلّوا من كلِّ ما حُرّم عليهم إلا النّساء، وأنّها أيّام عيد وتزاور، فتعقد هنالك حفلات المسرّة ونوادي التهاني، تعرف النكتة الدقيقة التي لاحظها الإمامعليه‌السلام باختياره أيام منى على عرفات والمشعر؛ لاشتغال النّاس بالعبادة والإبتهال إلى المولى سبحانه في هذين الموقفين مع قصر الزمان.

نعم، في أيام منى حيث إنّها ثلاثة: وهي أيام عيد وفرح وسرور، لا حزن وبكاء، وطبعاً أنّ السامع للبكاء في أيام المسرّات، يستفزّ إلى الأسباب الموجبة له، ويتساءل عمّن يندبنه، وما هي دعوته وأعماله، ويسأل عمّن ناوأه ودافعه عن حقّه، وبهذا الفحص يتجلّى له الحقُّ والطريقة المثلى؛ لأنّ نور الله لا يطفى، والدعوة إليه جليّة البرهان. وهذا النبأ يتناقله النّاس إلى مَن كان نائياً عن هذه المواقف عند الإياب إلى مقرّهم، فيصل إلى الغائبين بهذا الطريق، وبه تتم الحُجّة، فلا يسع كلّ أحد أن يتذرّع بعذر عدم الوصول إلى المدينة، التي هي موطن (حُجّة اللهعليه‌السلام )، ولا من أبلغه خبره، ولا عرفت دعوة الإمام وضلال مناوئه، فلا يبقى حينئد جاهل قاصر على الأغلب.

ومن هنا نفهم السّبب في إعراض الإمامعليه‌السلام عن الوصيّة للنوادب يندبنه بمكّة، أو في المدينة أيام الحجّ؛ فإنّه في البلدين لا تكون الندبة إلا في الدور، فمن أين يقف الرجال عليهن؟ وكيف يكون هذا البكاء مشعراً بالغرض المطلوب؟.

____________________________

(١) التهذيب للشيخ الطوسي ٢ / ١٠٨ كتاب المكاسب، والمنتهى للعلامة الحلي ٢ / ١١٢، والذكرى للشهيد الأول - المبحث الرابع من أحكام الاموات. وفي كتاب من لا يحضره الفقيه / ٣٦: أنهعليه‌السلام أوصى بثمانمئة درهم لمأتمه، وأن يندب في المواسم عشر سنين.

١٠١

ودعوى كون صوت المرأة عورة، ويحرم على الأجانب سماعه مردودة، بما رواه الكليني في الكافي: أنّ اُمّ خالد دخلت على الإمام الصادقعليه‌السلام ، وكانت عاقلة عارفة، وعنده أبو بصير. فقالعليه‌السلام لأبي بصير:«أتحبّ أنْ تسمع كلامها؟» ، ثمّ أجلسها معه على الطنفسة، وتكلّمت اُمّ خالد فإذا هي امرأة بليغة عاقلة(١) ، فلو كان سماع صوت المرأة محرماً على الأجانب، لَما أجاز الإمام ذلك لأبي بصير.

على أنّ وصيّة الإمام الباقرعليه‌السلام بالمال للنوادب بمنى تفيد الجواز؛ لأنّ سماع الرجال أصواتهن لا ينكر، وإلا لأمر بالبكاء عليه في دور المدينة ومكّة، بل النكتة الملحوظة للإمامعليه‌السلام لا تحصل إلا بسماع الرجال أصواتهن، وما يدعونَّ إليه.

وفي حديث حمّاد الكوفي، أن الصادقعليه‌السلام قال له:«بلغني أن اُناساً من أهل الكوفة يأتون قبر أبي عبد الله عليه‌السلام في النصف من شعبان» ، فبيّن مَن يقرأ ويقص إلى أنْ قال:«ونساء يندبنه» ، قال حمّاد: قد شهدت بعض ما تصف، فقال:«الحمد لله الذي جعل في شيعتنا مَن يفد إلينا، ويمدحنا ويرثي لنا» (٢) . ولا ينكر أن ندبة النّساء عند القبر يلزمها سماع الأجانب أصواتهن، ولو كان محرماً، لما استحسنه الإمام الحُجّة، ودعا لهم بالرحمة.

وأمّا كون صوت المرأة عورة، فلم تشهد به رواية. وما ورد من منع الرجال محادثة الأجنبية، أو المبيت معها في بيت واحد، فليس من جهة كون صوتها عورة؛ بل للحذر عن الوقوع فيما لا يُحمد عقباه. وما ذكره العلامة الحلّي في كتابه التحرير، أول النّكاح، المسألة التاسعة: لا يجوز للأعمى سماع صوت الأجنبيّة، فلعلّه لذلك، لا لأنّه عورة. نعم، صرَّح في كتابه التذكرة، أول النكاح: إنّ صوتها عورة، يحرم استماعه مع خوف الفتنة لا بدونه. وللشافعيّة قولان، في كونه عورة أو لا. وردّ صاحب الجواهر على المحقق بالسيرة المتواترة في الأعصار، فقد كانت النّساء تخاطب الأئمّةعليهم‌السلام ، وخطبة الزهراءعليها‌السلام وبناتها معلومة.

والفقه السنّي لم يمنع منه، ففي الفقه على المذاهب الأربعة ١ / ١٦٧، صوت المرأة ليس بعورة، لأنّ نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كنّ يتكلّمن مع الصحابة

____________________________

(١) الوسائل للحر العاملي ٣ / ٢٥ باب ١٠٦، حكم سماع صوت الأجنبية، وكذلك في روضة الكافي - الحديث ٣١٩.

(٢) كامل الزيارات / ٣٢٥ باب ١٠٨، اول النوادر.

١٠٢

ويستمعون منهنّ أحكام الدِّين. وقال الشيباني الحنبلي: صوت المرأة لم يكن عورة ولكن يحرم التلذذ بصوتها(١) . وهو مختار ابن حجر في كف الرعاع على هامش الزواجر ١ / ٢٧. نعم، ذهب بعض أهل السنّة إلى كونه عورة، ولم يستصحّه ابن حجر. وفي البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ١ / ٢٧٠، ذكر المصنّف في الكافي: إنّ المرأة لا تلبّي جهراً؛ لأنّ صوتها عورة. وعليه صاحب المحيط في باب الأذان. وفي فتح القدير على هذا، لو قيل: إذا جهرتْ في الصلاة، فسدت كان متّجهاً. وفي شرح المنية: الأشبه أنّ صوتها ليس بعورة، وإنّما يؤدّي إلى الفتنة. كما علّل به صاحب الهداية وغيره في مسألة التلبية. وفي النّوازل: نغمة المرأة عورة. وبنى عليه تعلّمها القرآن من المرأة أحبّ من تعلّمها من الأعمى. انتهى البحر الرائق. وقال ابن نجيم في أحكام الخنثى: صوتها عورة في قول(٢) . وفي الفروع لابن مفلح الحنبلي ٣ / ١٢، قال: لا يحرم سماع صوتها على الأصحّ؛ لأنّه ليس بعورة. وفي عمدة القاري للعيني على شرح البخاري ٤ / ١٢، آخر باب الأمر باتباع الجنائز: يجب على المرأة ردّ سلام الرجل، ولا ترفع صوتها؛ لأنّه عورة. وفي طرح التثريب لزين الدِّين العراقي ١ / ٢٥٠: عند ابن عبد البر في الاستذكار عدم كونه عورة، وهو الصحيح عند الشافعيّة. وفي المصدر نفسه ٧ / ٤٥ في النّكاح: صوتها ليس بعورة. وفي شرح المجموع للنووي ٧ / ٢٤٩ ط ٢، صرح الدارمي والقاضي أبو الطيب: إنّ رفع صوتها بالتلبية غير حرام. وفي نيل الأوطار للشوكاني ٤ / ٢٧٤ باب التلبية: عند الروياني وابن الرفعة: لا يحرم رفع صوتها بالتلبية؛ لأنّه ليس بعورة.

السّجود على التربة

من الأساليب التي اتخذها الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام للتعريف بمظلوميّة الحسينعليه‌السلام ، وابتعاد من ناوأه عن سنن الحقِّ، وأنّ نهضته أحكمت دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعبّدت الطريق إليها، أمرهم بالسّجود على التربة. فإنّ من أهمّ أسرارها تذكّر المصلّي في أوقاته الخمسة حينما يضع جبهته عليها، تضحية (روح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله )، وأهل بيته البهاليل، وصحبه المناجيد في سبيل تركيز المبدأ الصحيح، وما قاساه سيّد الشهداءعليه‌السلام من فجائع الصخر الأصم، وقابلها بالصبر الذي تعجّبت منه

____________________________

(١) نيل المآرب ٢ / ١٢٧.

(٢) الاشباه والنظائر / ٢٠٠.

١٠٣

ملائكة السّماوات كما جاء في زيارته، ثمّ يتذكّر أنّ هذه التربة امتزج بها (دم المظلومعليه‌السلام )، ودماء الأزكياء من أهل بيته وصحبهعليهم‌السلام ، الذين وصفهم أمير المؤمنينعليه‌السلام بـ«أنّهم سادة الشهداء، لا يسبقهم سابق، ولا يلحقهم لاحق» (١) .

وبالطبع يحتدم قلب الموالي لهم، وتهمل عينه، ويحترق فؤاده، ويتباعد عن كلّ من أورد عليهم العدوان، ومَن سار على إثره ومَن أسس له. ويتجلّى له أنّ هذه النّهضة الجبّارة حطّمت هياكل الجور. كما عرّفت الأجيال المتعاقبة استهانة أهمّ الذخائر، وأعزّ الأنفس في تأييد العقيدة. ومثل الأمر بالسّجود على التربة الحسينيّة أمرهمعليهم‌السلام بالتسبيح في خرز معمولة منها؛ تحقيقاً لتلك الغاية الثمينة، وهذه الغايات ألمع إليها أهل البيتعليه‌السلام وإنْ لم تفهم الاُمّة أسرارها الدقيقة.

وتجاهلُ غيرنا علينا بالابتداع والضلال ناشئ عن الجهل بهذه الأسرار الحكيمة، وعدم فهم حديث وحي السّماء«جُعلتْ ليَ الأرضُ مَسجداً وطهُورا». وهذه القطعة المُعدّة للسجود عليها ترابٌ مزج بالماء فجمد، فهي من مصاديق الحديث المتّفق عليه.

تشريع الزيارة

إنّ مجتمعات الزيارة كمواسم جاء الحثّ عليها؛ حيث إنّ المَزور دعامة من دعائم الدِّين ومنار هداه، ومنه تؤخذ التعاليم، وتُدرس المعارف. فإذا ازدلف الزائرون إلى قبره من شتّى النّواحي، وتعرّف كلٌّ بالآخر، وشاهد كلٌّ منهم ذلك الزحام المعجب، والتهافت المتواصل، والتهالك دون ذلك المقصد الشريف بما أنّ صاحب المشهد صاحب دعوة إلهيّة، وداعية إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحَسنة.

عظم في عينه الشخص المزور ونزعته ودعوته، وثلج صدره بذلك المنظر المبهج، ورقّ له قلبه، وثبت به يقينه. وبطبع الحال ينجذب إلى تتبع تعاليمه، ودرس أحواله، واقتصاص أثره، وتعرّف مظلوميّته، إلى ما هنالك من فوائد لا تحصى. وهناك معنى آخر، وهو أنّ الزيارة تحكم رابطة الاخوّة بين المؤمنين، التي دعا إليها الكتاب المجيد ( إِنّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ ) (٢) ، فإنّ الزائرين باجتماعهم عند القبر، وفي الطريق إليه يتبادلون المعروف والمكافاة عليه، ويتفاهمون في التوجيه نحو الدِّين الصحيح؛

____________________________

(١) كامل الزيارات / ٢٧٠ الباب ٨٨.

(٢) سورة الحُجُرات / من الآية ١٠.

١٠٤

فينكشف الخطأ في اعتقاد الطوائف الاُخرى وشذوذها، وتصبح الرابطة بينهما حكيمة الأساس.

هذه هي الحقيقة في زيارة أئمّة الهدى أجمع، فإنّهم الطريق المهيع، والسّبيل الجديد إلى كلّ هدى متبع، وناموس مصلح، وطقس مهذّب، ورشد هاد، ومعرفة كاملة. كما أنّه يجب أنْ يعتقد فيهم ذلك بعد الوقوف على فضلهم الظاهر، وعلومهم الجمّة، وورعهم الموصوف، ومعاجزهم الخارجة عن حدِّ الاحصاء. ولا شكّ أنّ في المثول حول مشاهدهم المقدّسة بداعي الزلفى للمولى سبحانه، مزيداً لهاتيك العقيدة ورسوخها. هذا هو السّبب الوحيد لتشريع الزيارة.

أمّا تخصيص سيّد الشهداء بزيارات خاصّة في أيّام السّنة - زائداً على ما جاء في الحثّ المتأكد على زيارته المطلقة دون سائر الأئمة، بل لم يخصّص سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله بزيارة خاصّة - فيتصور لذلك علل وأسباب:

أهمّها: إنّ النّزعة الاُمويّة لم تزل تنجم وتخبو في الفينة بعد الفينة، تتعاوى بها ذوو أغراض مستهدفة وإن أصبح الاُمويون رمماً بالية، ولم يبقَ منهم إلا شية العار، وسبّة عند كل ذكر. لكن بما أنها إلحادية يتحراها لفيفهم، ومن انضوى إليهم من كل الأجيال، فكان همُّ أهل البيتعليه‌السلام إخمادها، ولفت الأنظار إلى ما فيها من المروق عمّا جاء به المنقذ الأكبرصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي لاقى المتاعب في سبيل نشر دعوته واحيائها. ومن الطرق الموجبة لتوجيه النّفوس نحوها، وتعريف مظلوميّتهم، ودفعهم عن الحقّ الإلهي المجعول لهم من المشرّع الأعظم ذِكرُ قضيّة سيّد الشهداءعليه‌السلام ؛ لاحتفافها بمصائب يرقّ لها قلب العدوّ الألد، فضلاً عن الموالي المشايع لهم، المعترف بما لهم من خلافة مغتصبة.

فأراد الأئمّةعليهم‌السلام أن تكون شيعتهم على طول السّنة، ومرّ الأيام غير غافلين عمّا عليه السّلطة الغاشمة من الإبتعاد عن النّهج القويم؛ فحمّلوهم على المثول حول مرقد سيّد شباب أهل الجنةعليه‌السلام في مواسم خاصّة وغيرها، فإنّ طبع الحال قاضٍ بأنّهم في هذا المجتمع يتذاكرون تلك القساوة التي استعملها الاُمويّون؛ من ذبح الأطفال، وتسفير حرم الرسالة من بلد لآخر:

١٠٥

مـغلولة الأيدي إلى الأعناقِ

تُسبى على عجف من النياقِ

حـاسرة الـوجه بغير برقعِ

لا سترَ غير ساعدٍ وأذرعِ (١)

وإنّ الحميّة والشهامة تأبى لكلّ أحد أن يخضع لمن أتى بهذا الفعل الشنيع مع كلّ أحد، فضلاً عن آل الرسول الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فتحتدم إذ ذاك النّفوس، وتثور العاطفة، ويحكم على هؤلاء الأرجاس بالمروق عن دين الإسلام. وطبعاً هذا الداعي في سيّد الشهداءعليه‌السلام ألزم من غيره من الأئمّةعليهم‌السلام ؛ لاشتمال قضيّته على ما يرقق القلوب، ومن هنا اتخذه المعصومونعليه‌السلام حُجّة يصولون بها على أعدائهم، فأمروا شيعتهم بالبكاء تارة، والإحتفال بأمره - بأيّ نوع كان - تارة اُخرى، وزيارته ثالثة، إلى غير ذلك؛ ممّا ترك الاُمّة حسينيّة الذكر كما أنّها حسينيّة المبدأ، ولا تلفظ نفسها الأخير إلا وهي حسينيّة المنتهى.

وإنّ دعاء الإمام الصادقعليه‌السلام في سجوده، الذي يرويه معاوية بن وهب ممّا يبعث إلى القلوب نوراً، وللعقيدة رسوخاً، وللنفوس ارتياحاً، ويوقفنا على أسرار غامضة ممّا تأتي بها الاُمّة من هذه الأعمال.

قالعليه‌السلام وهو ساجد:

«اللهمّ، يا من خصَّنا بالكرامة، ووعدنا بالشفاعة، وخصّنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر جدّي الحسين، الذين أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم رغبةً في بِرنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيّك، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا؛ أرادوا بذلك رضاك فكافئهم عنّا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنّهار، وأخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف، وأصحبهم، واكفِهم شرَّ كلِّ جبّار عنيد، وكلّ ضعيف من خلقك وشديد، وشرّ شياطين الإنس والجنّ.

وأعطهم أفضل ما أملوه في غربتهم عن أوطانهم.

وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.

____________________________

(١) من اُرجوزة للحُجّة الشيخ هادي كاشف الغطاءقدس‌سره .

١٠٦

اللهمّ، إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم إلينا، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا؛ خلافاً منهم على ما خالفنا.

اللهم، ارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس.

وارحم تلك الخدود التي تقلّبت على حفرة أبي عبد الله الحسين.

وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا.

وارحم تلك القلوب التي جزعت، واحترقت لنا.

وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا.

اللهمّ، إنّي استودعك تلك الأنفس والأبدان حتّى توفيهم على الحوض يوم العطش الأكبر» .

ولما استكثر معاوية بن وهب هذا لزوّار الحسين، قال له الإمام الصادقعليه‌السلام :«إنّ مَن يدعو لزوّار الحسين في السّماء، أكثر ممّن يدعو لهم في الأرض» (١) .

وهذا الدعاء من إمام الاُمّة اشتمل على أحكام جليلة، ومزايا لا يقف عليها إلا من استضاء بنورهم، واعتصم بحبل ولايتهم. فمن ذلك؛ رجحان البكاء، والجزع والصراخ لِما أصاب المعصومين من أهل البيتعليهم‌السلام . والصرخة كما نص عليها علماء اللغة: هي الصيحة الشديدة عند الفزع والمصيبة(٢) . وحيث لم تخص في الدعاء بما إذا وقعت في الدور، كان الاطلاق شاملاً لمحبوبيتها في كلّ حال؛ سواء وقعت في الشوارع، أو المشاهد، أو غيرهما من رجال أو نساء.

ومنها مسح الخدود على القبر الأطهر، ولا يقتضي التخصيص بقبر الحسينعليه‌السلام ، فإن رواية الشيخ الطوسي في التهذيب ج ١ ص ٢٠٠ في الصلاة على القبور، عن محمّد بن عبد الله الحميري قال: كتبت إلى الفقيه أسأله عن الرجل يزور القبور، إلى أن قال في التوقيع: أمّا السّجود على القبر، فلا يجوز في نافلة ولا فريضة، بل يضع خدّه الأيمن على القبر(٣) . وعمومه شامل لرجحان وضع الخدّ عند كل قبر من قبور المعصومينعليهم‌السلام .

____________________________

(١) رواه الكليني في الكافي ٤ / ٥٨٢ - ٥٨٣، وابن قولويه في كامل الزيارات / ١١٦، والصدوق في ثواب الأعمال / ٥٤.

(٢) تاج العروس ٣ / ٦٦، مادة صرخ.

١٠٧

إيثارهمعليهم‌السلام

وممّا أرشدنا إليه هذا الدعاء، محبوبيّة ما تفعله الشيعة من بذل الأموال؛ لإحياء أمر أئمّتهمعليهم‌السلام في العزاء والمواليد وغيرهما، وإيثارهم بذلك على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.

وغير بعيد عنك معنى الإيثار، فإنّه: ترجيح الغير على النّفس، إمّا بسد خلّته، أو لتأييده في بلوغ اُمنيته، أو لتكريمه. وهو من الخصال الحميدة المنبعثة عن كرم الطباع، ودماثة الأخلاق، وطيب العنصر. وقد مدح سبحانه وتعالى المتّصفين به، فقال: ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (١) ، وهي الحاجة والفقر وسوء الحال(٢) .

ولا إشكال في أنّ مَن اُريد إيثاره، إذا كان جامعاً لموجباته يكون الإيثار فيه آكد، وأنت إذا أمعنت البصيرة في ذوي الفضائل، لا تجد من هو أحقّ بالإيثار من (عترة الوحي)؛ لِما منحهم الباري سبحانه من المرتبة الفاضلة، ومبوَّءاً من الرفعة لا يسامى، وأيادٍ على الاُمّة لابدّ أن تكافأ، وحقوقاً واجبة لا محيص عن أدائها.

فأيّ مُوالٍ لهم لا يؤثرهم على نفسه وأهله وقرباه، وهو يذعن بأنّ الأئمّة أسباب الفيوض الإلهيّة، وهم المعلّمون بالشريعة، وكلّ ما في السّعادة للإنسان، وفوزه بالرقي من أخلاق فاضلة، وسياسة حقّه، وأحكام اجتماعيّة، وتعاليم كافلة للنجاح، مع ما لأئمّة الدِّين من جهود جبّارة، دون انتشال الاُمّة إلى ساحل النّجاة، وإنقاذها من غمرات الهلكة حتّى أنّهمعليهم‌السلام آثروا ذلك بالحياة السّعيدة، فضحّوا بنفوسهم؛ لتقف الاُمّة على المحجّة، أو ليدرأ عنها العذاب.

كما في حديث الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام أنّه وقى بنفسه دون شيعته(٣) مع

____________________________

(١) سورة الحشر / ٩.

(٢) تاج العروس ٤ / ٣٨٧.

(٣) الحديث في أصول الكافي بهامش مرآة العقول ١ / ١٨٩، ونصه:«قال موسى بن جعفر عليه‌السلام : إنّ الله غضب على الشيعة فخيّرني نفسي أو هم، فوقيتهم والله بنفسي» . قال المجلسيرحمه‌الله : «لعل الغضب إنما هو لأجل تركهم التقية حتّى انتشر أمر إمامته، فتردد الامر بين أن يقتلهم الرشيد، أو يحبس الإمام ويقتله، فاختار البلاء لنفسه، ووقى بذلك شيعته». =

١٠٨

حبّهم المتواصل لشيعتهم حتّى كانوا يترحمون عليهم كلّ صباح ومساء، ويفرحون عند فرحهم، كما يحزنون عند حزنهم، لأنّهم من فاضل طينتهم، وهم أوراق تلك الدوحة الطيبة، التي أصلها ثابت وفرعها في السّماء.

وقد ورد في دعاء الحُجّة عجّل الله فرجه:«اللهمّ، إنّ شيعتنا خلقوا من شعاع أنوارنا، وبقيّة طينتنا، وقد فعلوا ذنوباً كثيرة؛ إتكالاً على حبّنا وولايتنا. فإنْ كانت ذنوبهم فيما بينك وبينهم، فاصفح عنهم، فقد رضينا. وما كان منها فيما بينهم، فاصلح بينهم، وقاص بها عن خمسنا، وأدخلهم الجنة، وزحزحهم عن النّار، ولا تجمع بينهم وبين أعدائنا في سخطك» (١) .

وإني لا أراك - والحالة هذه - تجد في شريعة الحقوق، أو يلتاح لك في منهج الوفاء، أو يجوز لك دافع المروءة أنْ تتقاعس عن مواساة آل الرسالة بإيثارهم على نفسك وأهلك في كلّ غالٍ ورخيص، إلا أنّ تسف إلى هوة الضِعة، وتدعها رمية لنبال اللوم من ناحية العقل مرّة، ومن صوب الشريعة اُخرى، ومن جهة الشهامة ثالثة.

ولا ريب في رغبة الإمام الصادقعليه‌السلام بالإيثار؛ لإحياء أمرهم أجمع. نعرف ذلك من الالتفات الذي استعمله الإمام في الدعاء، فإنّه بعد أنْ دعا لزوّار الحسينعليه‌السلام بعطاء أفضل ما يأملونه، قالعليه‌السلام :«وما آثرونا به» . فلو أراد الإيثار في خصوص زيارة سيّد الشهداء، لقال: وما آثروه، فحيث عدل عن المفرد إلى الجمع، عُلم أنّ مراده بيان محبوبيّة الإيثار فيما يعود إليهم أجمع وإنْ كان الإيثار لزيارة قبر المظلومعليه‌السلام أشمل؛ لِما فيه من التذكير بهاتيك النّهضة المقدّسة. فكأنّ الماثل أمام الضريح الأطهر يشاهد نفسه واقعاً بين الصفّين؛

____________________________

= ولا غرابة فيه بعد أن حمّل الله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذنوب شيعة عليعليه‌السلام ، ثمّ غفرها لهم، كما في معاني الاخبار للصدوق / ١٠٠، وبحار الانوار٦ / ٢٥٠، باب المصافحة. وفي الروضة / ١٣٥ (ملحقة بعلل الشرايع): لم يزل أمير المؤمنينعليه‌السلام يدعو الله في غفران ذنوب شيعته. وفي بشارة المصطفى / ٢٧٤: كان الامام الصادقعليه‌السلام يقول:«إنّ حقوق شيعتنا علينا كثيرة» . وفي كامل الزيارات:«نحن نترحّم عليهم كلّ صباح ومساء» . وفي عيون المعجزات / ٧٦: قال الامام السجادعليه‌السلام لام فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر:«إنّي لأدعو لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة مئة مرّة؛ لأنّا نصبر على ما نعلم، ويصبرون على مالا يعلمون».

(١) جنة المأوى للنوري / ٢٨١، ملحق بالجزء الثاني عشر من البحار.

١٠٩

جحفل القداسة (حسين الهداية ورهطه)، وخميس الظلال (يزيد وأشياعه)، فيبصر موقف هؤلاء من الحقّ والنّزاهة، ومبوأ اُولئك من الباطل والرجاسة، فتحتدم بين أضالعه الخصلتان: الولاية والبراءة.

وغير خافٍ على البصير النيقد المراد من قول أبي عبد الله في دعائه المتقدم:«اللهمّ، إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم إلينا، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا؛ خلافاً منهم على مَن خالفنا» . فإنّهعليه‌السلام أراد تنشيط الشيعة في الدأب على مواساتهم؛ بتعظيم شعائرهم، وإقامة آثارهم، ونشر مآثرهم. وإنّ ما يقاسونه في هذا السّبيل من الأرزاء كلّه بعين الله تعالى، ورضا أوليائه الأطهار، وما يضرّهم - وهم على الحقّ - هزء المستهزئين. ولقد سخر اليهود بالأذان، كما سخر المشركون بالسّجود، فلم يثن من عزم المسلمين شيئاً، فمشوا على ذلك النّهج القويم، غير مبالين بعثرات غيرهم.

وما يضر المزدلفين إلى قبر أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، والمتزاحمين على إقامة الشعائر الحسينيّة سخريّة الجاهلين، الذين يقول فيهم الإمام الصادقعليه‌السلام :«والله، لحظهم أخطؤوا، وعن ثواب الله زاغوا، وعن جوار محمّد تباعدوا» .

ولما قال له ذريح المحاربي: إنّي إذا ذكرت فضل زيارة أبي عبد اللهعليه‌السلام ، هزأ بي ولدي وأقاربي. قالعليه‌السلام :«يا ذريح، دع النّاس يذهبون حيث شاؤوا، وكن معنا» (١) .

وقالعليه‌السلام لحمّاد:«بلغني أنّ اُناساً من أهل الكوفة، وقوماً آخرين من نواحيها يأتون قبر أبي عبد الله في النّصف من شعبان، فبين قارئ يقرأ القرآن، وقاصٍّ يقص، ومادح لنا، ونساء يندبنه» .

فقال حمّاد: قد شهدتُ بعض ما تصف.

فقالعليه‌السلام :«الحمد لله الذي جعل في النّاس مَن يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا يطعن عليهم، ويقبّحون ما يصنعون» (٢) .

إذاً فسخريّة المتباعدين عن أهل البيتعليه‌السلام ، المائلين عن إقامة هذه الشعائر لا

____________________________

(١) كامل الزيارات ص ١٤٣، الباب ٥١.

(٢) مزار البحار ص ١٢٤، كامل الزيارات ص ٣٢٥، الباب ١٠٨ الطبعة الأولى.

١١٠

يحطُّ من كرامة الآثار الموجبة لإحياء أمر الأئمةعليه‌السلام ، المحبوبة لهم. وقد استفادت منها الاُمّة آثاراً دنيويّة واُخرويّة.

وفي الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال لأمير المؤمنينعليه‌السلام :«إنّ حثالة من الناس يعيِّرون زوار قبوركم كما تُعيّر الزانية بزناها، اُولئك شرار اُمّتي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة» (١) .

قول الشعر فيهم

من الواضح الذي لا يرتاب فيه، إنّ نظم الشعر في أيّ أحدٍ تعريف به، وإحياء لذكره، وإقامة لأمره. فإنّ آثار الرجال مهما كبرت في النّفوس، وعظم أمرها قد يخمل ذكرها بمرور الزمن وتباعد العهد؛ فيغفل عن تلك المآثر، ويتناسى ما لها من أهميّة كبرى. ولمّا كان القول المنظوم أسرع تأثيراً في الإصاخة؛ لرغبة الطباع إليه، فتسير به الناس، وتلوكه الألسنة، وتتحفّظ به القلوب، وتتلقاه جيلاً بعد جيل، وتأخذه اُمّة بعد اُمّة، حفظ الأدب العربي كثيراً من قضايا الاُمم وسيرها وحروبها في الجاهليّة والإسلام.

فممّا قاله دعبل الخزاعي في بقاء الشعر مدى الأزمان:

إنّي إذا قلت بيتاً مات قائلُهُ

ومَن يُقال له والبيت لم يمتِ

وقال عروة بن اُذينة:

نُبّئْتُ أنَّ رجالاً خاف بعضهُم

شتمي وما كنت للأقوام شتّاما

فإن يكونوا براءً لا تطفْ بهم

مـنـه شكاةٌ ولا أسمعْهمُ ذاما

وإن يـجيئوا أقل قولاً له أثرٌ

باقٍ يعنّى قراطيساً وأقلاما(٢)

وبما أنّ ذكرى أهل البيتعليهم‌السلام قوام الدِّين، وروح الإصلاح، وبها تُدرس تعاليمهم، ويقتفى أثرهم، طفق الأئمّة المعصومونعليه‌السلام يحثّون مواليهم بنشر ما لهم

____________________________

(١) فرحة الغري لابن طاووس ص ٣١.

(٢) الموشح للمرزباني ص ٢٨٠ - ٢٨١.

١١١

من فضل كثير، وما جرى عليهم من المصائب، ولا قوه في سبيل إحياء الدِّين من كوارث ومحن؛ لأنَّ فيه حياة أمرهم. ورحم الله من أحيا أمرهم، ودعا إلى ذكرهم.

وقد تواتر الحثّ من الأئمّةعليه‌السلام على نظم الشعر فيهم، مدحاً ورثاء؛ بحيث عُدّ من أفضل الطاعات. وفي ذلك قالواعليهم‌السلام :«مَن قال فينا بيتاً من الشعر، بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة» . وفي آخر:«حتّى يؤيد بروح القُدُس» . وفي ثالث:«بنى الله له في الجنة مدينة، يزوره فيها كلُّ ملك مقرب، ونبيّ مرسل» (١) .

وقال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام للكميت لمّا أنشده قصيدته: (مَن لقلب متيم مستهام):«لا تزال مؤيداً بروح القُدُس» (٢) .

واستأذن الكميت على الامام الصادقعليه‌السلام في أيام التشريق ينشده قصيدته، فكبر على الإمام أنْ يتذاكروا الشعر في الأيام العظام، ولمّا قال له الكميت: إنّها فيكم، أنس أبو عبد اللهعليه‌السلام ، حيث إنّه من الذكر اللازم؛ لأنّ فيه إحياء أمرهم. ثمّ دعا بعض أهله فقرب، ثمّ أنشده الكميت فكثر البكاء، ولمّا أتى على قوله:

يُصيب به الرامون عن قوس غيرهم   فيا آخراً أسدى له الغيّ أولُ

رفع الإمام الصادقعليه‌السلام يديه، وقال:«اللهمّ، اغفر للكميت ما قدّم وأخّر، وما أسرّ وأعلن، واعطه حتّى يرضى» (٣) .

وأذن أبو جعفر الجوادعليه‌السلام لعبد الله بن الصلت أنْ يندبه، ويندب أباه الرضاعليه‌السلام .

وكتب إليه أبو طالب أبياتاً يستأذنه فيها في رثاء أبيه الرضاعليه‌السلام ، فقطع أبو جعفرعليه‌السلام الأبيات عنده، وكتب إليه:«أحسنت، وجزاك الله خيراً» (٤) . وقال أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام لسفيان بن مصعب:«أنشدني في الحسين» . وأمر بتقريب اُمّ فروة وعياله، فلمّا حضرن، قال سفيان: (فرو جودي بدمعك المسكوب)

____________________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام / ٥.

(٢) رجال الكشي / ١٣٦.

(٣) الأغاني ١٥ / ١١٨، معاهد التنصيص ٢ / ٢٧.

(٤) رجال الكشي / ٣٥٠.

١١٢

فصاحت اُمّ فروة وصِحنَ النساء. فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :«الباب الباب» . واجتمع أهل المدينة، فأرسل إليهم أبو عبد الله صبياً غشي عليه!(١) . وهذا من محاسن التورية، فلقد غشي على أطفالهم يوم الطفّ، وما أدري مَن عنى بالصبي!؟ أهو عبد الله الرضيع؟ أم عبد الله الأصغر ابن الإمام الحسينعليه‌السلام ، المذبوح بالسهم في حجر الحسينعليه‌السلام ؟ أم محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب؟.

ودخل جعفر بن عفان(٢) على الامام الصادقعليه‌السلام ، فقال له:«إنك تقول الشعر في الحسين وتجيده؟» . قال: «نعم». فاستنشده، فلمّا قرأ عليه، بكى حتّى جرت دموعه على خديه ولحيته، وقال له:«لقد شهدت ملائكة الله المقربون قولك في الحسين، وإنهم بكوا كما بكينا، ولقد اوجب الله لك الجنة» . ثمّ قالعليه‌السلام :«مَن قال في الحسين شعراً، فبكى وأبكى غفر الله له، ووجبت له الجنة» (٣) .

وجعفر هذا من رجال الشيعة المخلصين، أطراه علماء الرجال ووثقوه، وهو الذي ردّ على مروان بن أبي حفصة، القائل:

خلّوا الطريق لمعشر عاداتُهم

حـطم المناكب كلَّ يوم زحامِ

اُرضـوا بما قسم الأله لكم به

ودعـوا وراثة كلَّ أصيد حامِ

أنّـى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمامِ(٤)

فقال جعفر بن عفان:

لـم لا يـكـون وأنّ ذاك لكائنٌ

لـبـنـي البنات وراثة الأعمامِ

لـلـبـنت نصفٌ كاملٌ من ماله

والـعـمُّ مـتـروكٌ بـغير سهام

مـا لـلـطـليق وللتراث وإنما

صلّى الطليقُ مخافة الصمصامِ(٥)

ودخل جماعة على الإمام الرضاعليه‌السلام فرأوه متغيّراً، فسألوه عن ذلك. قال:«بتّ ليلتي ساهراً متفكّراً في قول مروان بن أبي حفصة» ، وذكر البيت المتقدّم.

____________________________

(١) روضة الكافي - الحديث ٢٦٣.

(٢) في الأغاني ٧ / ٨، وكذلك أيضاً في ٩ / ٤٥ أنه طائي.

(٣) رجال الكشي ص ١٨٧، وذكر له الخوارزمي في المقتل ٢ / ١٤٤ فصل ١٣ مقطوعتين في رثاء الحسين.

(٤) الأغاني ١٢ / ١٧.

(٥) الأغاني ٩ / ٤٥ طبعة ساسي.

١١٣

قال:«ثمّ نمتُ فإذا أنا بقائل قد أخذ بعضادة الباب وهو يقول» :

أنّـى يكون وليس ذاك بكائنٍ

لـلـمـشركين دعائمُ الإسلامِ

لبني البنات نصيبهم من جَدِّهمْ

والـعـمُّ مـتروكُ بغير سهامِ

مـا لـلطليق وللتراث وإنما

سجد الطليقُ مخالفة الصمصامِ

قـد كان أخبرك القرانُ بفضلهِ

فمضى القضاءُ به من الحكّامِ

إنَّ ابـنَ فـاطمة المنوَّهُ باسمهِ

حـاز الوراثةَ عن بني الأعمامِ

وبـقـى ابنُ نثلة واقفاً متردِّدا

يبكي ويُسعده ذوو الأرحامِ(١)

ومروان سرق المعنى ممّا قاله مولى لتمّام بن معبد بن العبّاس بن عبد المطّلب، معرّضاً بعبيد الله بن أبي رافع مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه أتى الحسن بن عليعليه‌السلام ، وقال: أنا مولاك. وكان قديماً يكتب لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال مولى تمّام:

جـحـدت بني العبّاس حقَّ أبيهمُ

فما كنت في الدعوى كريمَ العواقبِ

مـتـى كـان أولاد النّبي كوارثٍ

يحوز ويُدعى والداً في المناسبِ(٢)

ومروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة كان يهودياً، أسلم على يد مروان بن الحكم. وقيل: من سبي اصطخر، اشتراه عثمان بن عفان، وولاؤه لمروان. شهد يوم الدار مع مروان، ولمّا اُصيب مروان بن الحكم، حمله مولاه ابن أبي حفصة على عاتقه، وهو يجره ومروان يتأوه، فيقول له: اسكت، إن علموا بك قتلت. فأدخله بيت امرأة من عنزة، وداواه حتّى برئ، فأعتقه مروان، وشهد معه يوم الجمل، ومَرج راهط(٣) .

وغضب صالح بن عطية الأضجم من بيت مروان (أنّى يكون وليس ذاك بكائن)، فاتصل به يخدمه مدّة حتّى أنس به هو وأهله. حتّى إذا مرض ابن أبي حفصة، كان صالح ممرّضاً له، فلمّا خفّ مَن عنده، وبقي صالح وحده، وضع يده على حلقه فخنقه حتّى مات ومضى عنه، ولم يشكّ أهله به(٤) .

____________________________

(١) عيون أخبار الرضا / ٣٠٥، وذكر الطبرسي في الاحتجاج / ٢١٤ في أحوال موسى بن جعفرعليه‌السلام : أنه الذي سمع الهاتف.

(٢) طبقات الشعراء لابن المعتز / ١٥ نسخة التصوير.

(٣) الاغاني ٩ / ٣٤.

(٤) المصدر نفسه / ٤٦.

١١٤

وحسب الشاعر أنّ تترتّب على عمله البار هاتيك المثوبات الجزيلة، التي تشفُّ عن أنّ ما يصفه بعين الله سبحانه حتّى يبوئه لجليل سبحانه من الخلد حيث يشاء، وتزدان به غرف الجنان، ولا بُدعَ، فإنّه بهتافه هذا معدود من أهل الدعوة الإلهيّة، المعلنين بكلمة الحقّ وتأييد الدِّين؛ فهو بقوله الحقّ يرفع دعامة الأصلاح، وتُشيّد مبانيه، ويطأ نزعة الباطل بأخمص الهدى، ويقلع أشواكه المتكدّسة أمام سير المذهب، ويُلحِب طريقه الواضح.

ولم يعهد من الأئمّةعليهم‌السلام - مع تحفّظهم على التقيّة، وإلزام شيعتهم بها - تثبيط الشعراء عن المكاشفة في حقّهم، وإظهار باطل المناوئين مع أنّ في الشعراء مَن لا يقرّ له قرار، ولا يؤويه مكان؛ فرقاً من أعداء أهل البيتعليهم‌السلام لمحض مجاهرتهم بالولاء، والدعوة إلى طريقة آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ كالكميت ودعبل الخزاعي ونظرائهما، بل كانواعليهم‌السلام يؤكّدون ذلك بالتحبيذ، وإدرار المال عليهم، وإجزال الهبات لهم، وذكر المثوبات على عملهم هذا. وليس ذاك؛ إلا لعلمهم بأنّ المكاشفة في أمرهم أدخل في توطيد اُسس الولاية، وعامل قوي لنشر الخلافة الإلهيّة حتّى لا يبقى سمع إلا وقد طرقه الحقّ الصراح، ثمّ تتلقاه الأجيال الآتية، كلّ ذلك؛ حفظاً للدين عن الإندراس؛ ولئلا تذهب تضحية اُمناء الوحي في سبيله إدراج التمويهات.

ولولا نهضة اُولئك الأفذاذ من رجالات الشيعة للذبّ عن قدس الدِّين بتعريض أنفسهم للقتل؛ كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق، وميثم التمّار، وأمثالهم بما نال أهل البيت من أعدائهم، لَما عرفت الأجيال المتعاقبة موقف الأئمّةعليهم‌السلام من الدِّين، ولا ما قصده أعداؤهم من نشر الجور والضلال.

( أَفَمَن يَهْدِي إلى الحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدّي إِلا أَن يُهْدَى‏ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (١) .

مشكلة الخروج بالعيال

إنّ الكلمة الناضجة في وجه حمل الحسينعليه‌السلام عياله إلى العراق، مع علمه بما يقدم عليه ومَن معه على القتل، هي: أنّهعليه‌السلام لمّا علم بأنّ قتلتَه سوف تذهب ضياعاً لو لم

____________________________

(١) سورة يونس / ٣٥.

١١٥

يتعقبها لسان ذرب، وجنان ثابت يعرِّفان الاُمّة ضلال ابن ميسون، وطغيان ابن مرجانة باعتدائهما على الذريّة الطاهرة، الثائرة في وجه المنكر، ودحض ما ابتدعوه في الشريعة المقدّسة.

كما عرف (أبيّ الضيم) خوف رجال الدِّين من التظاهر بالإنكار، وخضوع الكلِّ للسلطة الغاشمة، ورسوف الكثير منهم بقيود الجور؛ بحيث لا يمكن لأكبر رجل الإعلان بفظاعة أعمالهم. وما جرى على ابن عفيف الأزدي، يؤكّد هذه الدعوى المدعومة بالوجدان الصحيح.

وعرف سيّد الشهداء من حرائر الرسالة الصبر على المكاره، وملاقاة الخطوب والدواهي بقلوب أرسى من الجبال؛ فلا يفوتهن تعريف الملأ، المغمور بالترهات والأضاليل نتائج أعمال هؤلاء المضلين، وما يقصدونه من هدم الدِّين، وأنّ الشهداء أرادوا بنهضتهم مع إمامهمعليه‌السلام - قتيل الحنيفيّة - إحياء شريعة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والعقائل من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنْ استعرت أكبادهن بنار المصاب، وتفاقم الخطب عليهن، وأشجاهنّ الأسى، لكنهنّ على جانب عظيم من الأخذ بالثأر، والدفاع عن قدس الدِّين.

وفيهنّ (العقيلة) ابنة أمير المؤمنين سلام الله عليها، التي لم يرعها الأسر وذلّ المنفى، وفقد الأعزاء وشماتة العدوّ، وعويل الأيامى وصراخ الأطفال وأنين المريض، فكانت تلقي خواطرها بين تلك المحتشدات الرهيبة، أو فقل بين المخلب والنّاب غير متلعثمة، وتقذفها كالصواعق على مجتمع خصومها. فوقفت أمام ابن مرجانة، ذلك الألد، وهي امرأة عزلاء ليس معها من حماتها حمي، ولا من رجالها ولي غير الإمام الذي أنهكته العلّة، ونسوة مكتنفة بها، بين شاكية وباكية، وطفل كظّه العطش، إلى اُخرى أقلقها الوجل، وأمامها رأس علّة الكائنات ورؤوس صحبه وذويه، وقد تركت تلك الأشلاء المقطّعة في البيداء تصهرها الشمس، والواحدة من هذه تهدّ القوى، وتبلبل الفكر.

لكن (ابنة حيدرة) كانت على جانب عظيم من الثبات والطمأنينة، فأفرغت عن لسان أبيها بكلام أنفذ من السّهم، وألقمت ابن مرجانة حَجراً، إذ قالت له:«هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل؛ فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم، فانظر لِمَن الفلج. ثكلتك اُمّك يابن مرجانة!» .

١١٦

وأوضحت للملأ المتغافل خبثه ولؤمه، وأنّه لن يرحض عنه عارها وشنارها، كما أنّها أدهشت العقول وحيّرت الفكر في خطبتها بكُناسة الكوفة، والنّاس يومئذ حيارى يبكون، لا يدرون ما يصنعون، وأنّى يرحض عنهم العار بقتلهم سليل النبوة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنة؟ وقد خاب السّعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وباؤوا بغضب من الله وخزي في الآخرة، ولعذاب الله أكبر لو كانوا يعلمون.

وبعد أنْ فرغت من خطابها اندفعت فاطمة ابنة الحسينعليه‌السلام بالقول الجزل، مع ثبات جأش وهدوء بال، فكان خطابها كوخز السّنان في القلوب، ولم يتمالك النّاس دون أنْ ارتفعت أصواتهم بالبكاء، وعرفوا عظيم الجناية والشقاء، فقالوا لها: حسبك يا ابنة الطاهرين، فقد احرقت قلوبنا وانضجعت نحورنا.

وما سكتت حتّى ابتدرت اُمّ كلثوم، زينب بنت علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فعرّفت الحاضرين عظيم ما اقترفوه، فولول الجمع وكثر الصراخ، ولم يرَ إذ ذاك أكثر باك وباكية(١) .

فهل يا ترى يمكنك الجزم بأنّ أحداً يستطيع في ذلك الموقف الرهيب، الذي تحفّه سيوف الجور أن يتكلّم بكلمة واحدة مهما بلغ من المنعة في عشيرته؟ وهل يقدر أحد أنْ يعلن بموبقات ابن هند وابن مرجانة غير بنات أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟ كلا. إنّ على الألسن أوكية، والأيدي مغلولة، والقلوب مشفقة.

على أنّ هذا، إنّما يقبّح ويستهجن إذا لمْ يترتّب عليه إلا فوائد دنيويّة مثارها رغبات النّفس الأمّارة، وأمّا إذا ترتّبت عليه فوائد دينيّة، أهمّها: تنزيه دين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا ألصقوه بساحته من الباطل، فلا قبح فيه عقلاً، ولا يستهجنه العرف، ويساعد عليه الشرع.

والمرأة، وإنْ وضع الله عنها الجهاد ومكافحة الأعداء، وأمرها سبحانه وتعالى أنْ تقرّ في بيتها؛ فذاك فيما إذا قام بتلك المكافحة غيرها من الرجال. وأمّا إذا توقّف إقامة الحقّ عليها فقط؛ بحيث لولا قيامها لدرست اُسس الشريعة، وذهبت

____________________________

(١) إقرأ الخطب الثلاثة في الاُمور المتأخرة عن الشهادة من هذا الكتاب.

١١٧

تضحية اُولئك الصفوة دونه أدراج التمويهات، كان الواجب عليها القيام به.

ولذلك نهضت سيّدة نساء العالمين الزهراءعليها‌السلام للدفاع عن خلافة الله الكبرى؛ حين اُخذ العهد على سيّد الأوصياء بالقعود، فخطبت في مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الخطبة البليغة في محتشد من المهاجرين والأنصار.

على أنّ الحسينعليه‌السلام كان على علم بإخبار جدّه الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ بأنّ القوم وإنْ بلغوا الغاية، وتناهوا في الخروج عن سبيل الحميّة، لا يمدّون إلى النّساء يد السّوء، كما أنبأ عنه سلام الله عليه بقوله لهنّ ساعة الوداع الأخيرة:«البسوا أزركم، واستعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النّعم والكرامة. فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم» .

هذا كلّه لو لم نقل بالإمامة لسيّد الشهداءعليه‌السلام . وأمّا مع الخضوع لناموس علم الإمام الشامل لِما كان ويكون، وسيره حسب المصالح الواقعيّة، وعصمته في أقواله وأفعاله، كما هو الحقّ الذي لا محيص عنه، فكان المحتّم علينا الإذعان بأنّ ما صدر منه ناشئ عن حِكَمٍ ربانيّة، ومصالح إلهيّة لا يتطرّق إليها الشكّ، وليس الواجب علينا إلا التصديق بجميع أفعاله، من دون أن يلزمنا العقل بمعرفة المصالح الباعثة على تلك الأفعال الصادرة منه. وهكذا الحال في كلّ ما وجب على المكلّفين، فإنّه لمْ يجب على العباد إلا التسليم والخضوع للمولى، من دون أنْ تعرف الأغراض الباعثة عليها. وهكذا الحال في العبيد مع مواليهم، فإنّ العقل لا يلزم العبد بأكثر من طاعة سيّده ومولاه حينما يأمره وينهاه.

نهضات العلويِّين

لقد كان من نتائج تلك النّهضة المقدّسة ومن ولائد ذلك (الفتح المبين) تطوّر في نظر العلويين نسباً أو مذهباً أو مَن أخذ لدعوته لوناً من الانتماء إلى آل محمّد، وإنْ كان مضمراً غير ما يتظاهر به، وكلٌ من هؤلاء لمْ يعدم التشييد لدعوة الحقّ، والوهن في دولة الباطل، وتعريف الاُمّة بأنّ لآل محمّد حقّاً مغتصباً،

١١٨

والواجب عليهم النّهوض لقطع اليد العادية.

فكانت تلكم الثورات المتتابعة باعثة إلى الأفئدة دواعي تحفّزها إلى تحرّي الرشد حتّى تقف على صراح الحقيقة.

كانت الاُمّة تعتقد أنّه ليس من المستطاع النّهوض في وجه ا لمستحوذين على أمر الاُمّة وإمرة المسلمين لقوّة سلطانهم، وإنّ القيام أمام السّلطة القاسية لا يعقب إلا فشلا، بل إنّ المحظور في الشريعة القاء النّفس في التهلكة من غير ما جدوى هنالك.

لكن سيّد الإباء والحميّة وسيّد شباب أهل الجنة أوحى إلى الملأ الدِّيني بصرخته في مشهد الطفّ التي لم يزل دويّ صداها في مسامع القرون والأجيال: إنّ الواجب في الشريعة الثورة أمام كلّ باطل، إذا لمْ يكن ما يدحره غيرها.

وإنّ في مستوى اليقين بلوغ الغاية المتوخّاة لِمَن يجعل طلب الحق عنوان نهضته، فإنّه إمّا أنْ يفوز النّاهض بالظفر أو مَن يتلوه في نهضته حتّى تتجسّد الأماني بالفتح المبين.

وهذا ما نراه من تعاقب النّهضات تجاه عبث الاُمويِّين بالشريعة المطهّرة، فكانت دعوة المختار هي ثارات لآل محمّد.

وقام زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام وولده يحيى داعيَين إلى الرضا من آل محمّد، وأظهر بقيّة الهاشميِّين التذمّر من خلفاء الجَور ووثبوا لسدّ سَيل الضلال الجارف.

وإنّ التأمّل في سِيَر المعصومين من آل الرسول، وما قيضهم المولى سبحانه له من كسح أشواك المنكر وإرشاد العباد إلى الطريقة المثلى تتجلّى له رغبتهمعليهم‌السلام في هاتيك المحتشدات الدامية، لأنّ الغاية المتوخّاة لهم إنّما هي تعريف الاُمّة أحقيّتهم بمنصب الرسول الأقدس، وإنّ الدافع لهم عن هذا الحق المجعول لهم من الباري عزّ اسمه مائل عن النّهج القويم، وهذا المعنى إنّما يتسرّب إلى الأدمغة وتلوكه الأشداق؛ بسبب هاتيك الثورات في مختلف الاصقاع لتتم الحُجّة على الاُمّة، فلا يسع أحداً الاعتذار بالجهل بالإمام المنصوص عليه من النّبي الأعظم.

١١٩

وإنّما نشاهد من بعض أئمّة الهدى الإنكار والتبرّي من العلويِّين وغيرهم الخارجين على خلفاء الجَور، فإنّما هو للتقيّة من السّلطة الغاشمة؛ كيلا تنسب إليهم الثورة فينالهم مالا يحمد عقباه.

نعم كان في الثائرين اُناس اتّخذوا مظلوميّة أهل البيت فخّاً يصطادون به البسطاء. فابن الزبير الذي كان يشيد بذكر الحسينعليه‌السلام والظلم الذي جرى عليه، لمّا حسب أنّه ملك الأمر تركه، فكان أشدّ المناوئين لأهل البيتعليهم‌السلام وأظهر ما انحنت عليه جوانحه.

فترك الصلاة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أربعين جمعة فقيل له في ذلك، قال: إنّ له أهل بيت سوء، إذا ذكرته، اشرأبت نفوسهم إليه وفرحوا بذلك، فلا اُحبّ أنْ اُقرّ أعينهم(١) .

ولقد جرّأه على ذلك معاوية بن أبي سفيان الذي يقول لمّا سمع المؤذّن يشهد بالرسالة: (... وإنّ أخا هاشم يصرخ باسمه في كلّ يوم خمس مرّات: أشهد أنَّ محمداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأيّ عمل يبقى مع هذا لا اُمّ لك، والله إلا دفناً دفنا)(٢) .

ولمّا سمع المأمون بهذا الحديث كتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر فأعظم النّاس ذلك وأكبروه واضطربت العامّة فاُشير عليه بالترك فأعرض عمّا كان عليه(٣) .

وأعطف عليه بني العبّاس الذين ملأوا الجَوّ هتافاً بالاستياء لِما أصاب آل محمّد يوم الطفّ، ولمّا حصلوا على الاُمنية، قلبوا لهم ظهر المجن وأبادوهم عن جديد الأرض، وكان موسى بن عيسى العباسي، صاحب الوقعة (بفخ) يقول: لو نازعنا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الأمر لضربنا خيشومه بالسّيف(٤) .

____________________________

(١) المقاتل لأبي الفرج ص١٦٥ ط ايران.

(٢) شرح النهج الحديدي ج٢ ص٥٣٧.

(٣) مروج الذهب ج٢ ص٣٤٣ آخر أخبار المأمون.

(٤) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج ص١٥٨ ط ايران.

١٢٠