مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)13%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243914 / تحميل: 10025
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٨١٦٣-٧٠-٧
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وطفق يقول:(قد ولد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم، قدّست أم ولدته..) (١) .

٤ ـ كنيته: أبو جعفر، وهي كنية جده الباقرعليه‌السلام وللتمييز بينهما يكنّى بأبي جعفر الثاني، وأضاف فيدلائل الإمامة كنية ثانية له هي: أبو علي الخاص، وفسّر المتأخرون هذه العبارة بأنّ له كنية خاصة هي: (أبو علي)، وليست كنيته هي (أبو علي الخاص) كما يبدو للناظر في عبارة دلائل الإمامة.

٥ ـ ألقابه: أمّا ألقابه الكريمة فهي تدل على معالم شخصيته العظيمة وسمو ذاته وهي:

١ ـ الجواد: لُقب به لكثرة ما أسداه من الخير والبر والإحسان إلى الناس.

٢ ـ التقي: لقب به لأنه اتّقى الله وأناب إليه، واعتصم به ولم يستجب لأي داع من دواعي الهوى.

٣ ـ المرتضى.

٤ ـ القانع.

٥ ـ الرضي.

٦ ـ المختار.

٧ ـ باب المراد (٢) .

نقش خاتمه: يدل نقش خاتمهعليه‌السلام على شدة انقطاعهعليه‌السلام إلى الله سبحانه، فقد كان (العزّة لله)(٣) .

ـــــــــ

(١) حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٢.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧ ـ ٢٩.

(٣) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٣١.

٤١

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

ولد الإمام محمّد بن علي الجواد عام (١٩٥ هـ) أي في السنة التي بويع فيها للمأمون العباسي، وعاش في ظلّ أبيه الرضاعليه‌السلام حوالي سبع سنين، وعاصر أحداث البيعة بولاية العهد لأبيه الرضاعليه‌السلام وما صاحبها وتلاها من حوادث ومحن حتى تجلّت آخر محن أبيهعليه‌السلام في اغتيال المأمون للرضاعليه‌السلام .

وبقي الإمام محمد الجوادعليه‌السلام بعد حادث استشهاد أبيهعليه‌السلام في منعة من كيد المأمون الذي قتل الإمام الرضاعليه‌السلام وبقي عند الناس متّهماً بذلك. لكنه لم ينج من محاولات التسقيط لشخصيّته ومكانته المرموقة والسامية في القلوب. وقد تحدّى كل تلك المحاولات إعلاءً لمنهج أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم في عقيدة الإمامة والزعامة وما يترتب عليها من الآثار السياسية والاجتماعية.

وينتهي عهد المأمون العباسي في سنة (٢١٨ هـ) ويتربّع أخوه المعتصم على كرسي الخلافة حتى سنة (٢٢٧ هـ) ولم يسمح للإمام الجوادعليه‌السلام بالتحرّك ويراقب ـ بكل دقّة ـ النشاط الاجتماعي والسياسي للإمامعليه‌السلام ثمّ يغتاله على يد ابنة أخيه المأمون، المعروفة بأم الفضل والتي زوّجها المأمون من الإمام الجوادعليه‌السلام ولم تنجب له من الأولاد شيئاً، وذلك في سنة (٢٢٠ هـ)، وهكذا قضى المعتصم على رمز الخط الهاشمي وعميده، الإمام محمّد التقي أبي جعفر الجوادعليه‌السلام .

إذن تنقسم الحياة القصيرة لهذا الإمام المظلوم إلى قسمين وثلاث مراحل:

القسم الأول: حياته في عهد أبيه ، وهي المرحلة الأولى من حياته القصيرة والمباركة وتبلغ سبع سنوات تقريباً.

و القسم الثاني: حياته بعد استشهاد أبيه حتى شهادته. وتبلغ حوالي سبع عشرة سنة.

وينقسم هذا القسم بدوره إلى مرحلتين متميّزتين:

المرحلة الأولى: حياته في عهد المأمون ، وهي المرحلة الثانية من حياته وتبلغ حوالي خمس عشرة سنة ، وهي أطول مرحلة من مراحل حياته القصيرة.

والمرحلة الثانية: وهي مدة حياته في عهد المعتصم العباسي وتبلغ حوالي سنتين وتمثّل المرحلة الثالثة من حياته الشريفة.

٤٢

وهكذا تتلخص مراحل حياتهعليه‌السلام كما يلي:

المرحلة الأولى: سبع سنوات وهي حياته في عهد أبيه الرضاعليه‌السلام حيث ولد سنة (١٩٥ هـ) ـ وفي حكم محمد الأمين العبّاسي ـ واستشهد الإمام الرضاعليه‌السلام في صفر من سنة (٢٠٣ هـ).

المرحلة الثانية: خمس عشرة سنة وهي حياته بقية حكم المأمون من سنة (٢٠٣ هـ) إلى سنة (٢١٨هـ).

المرحلة الثالثة: حياته بعد حكم المأمون وقد بلغت حوالي سنتين من أيّام حكم المعتصم أي من سنة (٢١٨ ـ ٢٢٠ هـ).

الفصل الثالث: الإمام الجواد في ظل أبيهعليهما‌السلام

قامت الدولة العباسية ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة إلى العلويين خاصة، ثم لأهل البيتعليهم‌السلام ، ثم إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان سرّ نجاحها في ربطها بأهل البيتعليهم‌السلام ، حيث تحكّم العباسيون وتسلّطوا على الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن هنا فإنّ من الطبيعي، أن يكون الخطر الحقيقي الذي يتهدد العباسيين وخلافتهم، هو من جهة أبناء عمّهم العلويين، الذين كانوا أقوى منهم حجة وأقرب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم نسباً ووشيجة.

فادّعاء العلويين الخلافة له مبرراته الكاملة، ولا سيَّما وأن من بينهم من له الجدارة والأهلية، ويتمتع بأفضل الصفات والمؤهلات لهذا المنصب من العلم والعقل والحكمة وبعد النظر في الدين والسياسة، علاوة على ما كان يكنه الناس لهم من الاحترام والتقدير.

أضف إلى ذلك كله أن رجالات الإسلام وأبطاله، كانوا هم آل أبي طالب (رضوان الله تعالى عليه) ؛ فأبو طالب مربي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفيله، وعليعليه‌السلام وصيه وظهيره، وكذلك الحسن والحسين وعلي زين العابدين وبقية الائمةعليهم‌السلام .

٤٣

وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار نفوذ العلويين، ويتخوَّفون منه، منذ أيامهم الأولى في السلطة. فمثلاً وضع السفاح من أول عهده الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: قم بإنزالهم ولا تأل في ألطافهم، وكلما خلوت معهم فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا وعلى ناحيتنا وأنهم أحق بالأمر منّا، واحص لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومَقدمهم)(١) .

أجل لقد أدرك العباسيون أن الخطر الحقيقي الذي يتهدّدهم إنّما هو من قبل العلويين وعليه كان عليهم أن يتحركوا لمواجهة الخطر المحدق بهم بكل وسيلة، وبأي أسلوب كان، سيَّما وهم يشهدون عن كثب سرعة استجابة الناس للعلويين، وتأييدهم ومساندتهم لكل دعوة من قبلهم.

سياسة العباسيين مع الرعية:

لا نريد أن نعرض لأنواع الظلامات التي كان العباسيون يمارسونها، فإن ذلك مما لا يمكن الإلمام به ولا استقصاؤه في هذه العجالة.

وإنما نريد فقط أن نعطي لمحة سريعة عن سيرتهم السيئة في الناس، ومدى اضطهادهم وظلمهم لهم، وجورهم عليهم، الأمر الذي أسهم إسهاماً كبيراً في كشف حقيقتهم أمام الملأ، حتى لقد قال أبو عطاء السندي المتوفّى سنة (١٨٠ هـ):

يا ليت جور بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار(٢)

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ٦٦.

(٢) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٠٨.

٤٤

إنّ المثل الأعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين، قد أصبح وهماً من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم بأموال المسلمين، يذكّرنا بالحجّاج وهشام ويوسف بن عمرو الثقفي، ولقد عمّ الاستياء أفراد الشعب بعد أن استفتح أبو عبد الله المعروف بـ (السفّاح) وكذلك (المنصور)، بالإسراف في سفك الدماء، على نحو لم يعرف من قبل(١) .

ويقول المؤرخون أيضاً عن أبي العباس السفاح أنّه كان سريعاً إلى سفك الدماء، فاتبعه عمّاله في ذلك، في المشرق والمغرب، واستنوا بسيرته، مثل: محمد بن الأشعث بالمغرب، وصالح بن علي بمصر، وخازم بن خزيمة، وحميد بن قحطبة، وغيرهم..(٢) .

لقد كان أبو جعفر المنصور يعلق الناس من أرجلهم حتى يؤدّوا ما عليهم..(٣) . ووصفه آخرون بأنه كان غادراً خدّاعاً، لا يتردد البتة في سفك الدماء... كان سادراً في بطشه، مستهتراً في فتكه، وتُعتبر معاملته لأولاد عليّ من أسوأ صفحات التاريخ العباسي(٤) .

وأما الهادي فقد كان يتناول المسكر ويحب اللهو والطرب وكان ذا ظلم وجبروت. وكان سيئ الأخلاق، قاسي القلب، جبّاراً، يتناول المسكر، ويلعب(٥) .

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٢) مروج الذهب: ٣/٢٢٢.

(٣) المحاسن والمساوئ: ٣٣٩.

(٤) مختصر تاريخ العرب و التمدن الإسلامي: ١٨٤.

(٥) تاريخ الخميس: ٢ / ٣٣١.

٤٥

وأما الرشيد، فيكفيه أنه ـ كما ينص المؤرخون ـ يشبه المنصور في كل شيء إلاّ في بذل المال حيث يقولون إن المنصور كان بخيلاً.

وهكذا لم يكن بقية الخلفاء العباسيين أفضل من الذين أشرنا إليهم، ولا كانت أيامهم بدعاً من تلك الأيام.

ولعل الكلمة التي تجمع صفات بني العباس الخلقيّة، هي الكلمة التي كتبها المأمون، وهو في مرو في رسالة منه للعباسيين، بني أبيه في بغداد، والمأمون هو من أهل ذلك البيت، الذين هم أدرى من غيرهم بما فيه، لأنهم عاشوا في خضمّ الأحداث، وشاهدوا كل شيء عن كثب، يقول المأمون في تلك الرسالة: (... وليس منكم إلاّ لاعب بنفسه، مأفون في عقله وتدبيره، إما مغنّ، أو ضارب دفّ، أو زامر، والله لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نُشِروا، فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها، لما زادوا على ما صيّرتموه لكم شعاراً ودثاراً، وصناعة وأخلاقاً. ليس منكم إلاّ من إذا مسّه الشر جزع، وإذا مسّه الخير منع. ولا تأنفون، ولا ترجعون إلاّ خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوباً، ويصبح بإثمه معجباً كأنه قد اكتسب حمداً، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرب، أحب الناس إليه مَن زيّن له معصية، أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة..)(١) .

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ٤٦٣ ـ ٤٦٤.

٤٦

الحالة السياسية في هذه المرحلة:

لا يمكن من الناحية التاريخية أن يفصل دور أي إمام من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام عن دور مَن سبقه من الائمة أو دَور مَن يليه منهم، بالنظر إلى تنوع الأدوار والأعمال والمهمّات التي ينهضون بها مع اتحاد الهدف والغاية والمقصد.

كما إن من العناصر المهمّة في فهم دور الإمام الجوادعليه‌السلام في تحريك الأوضاع في الاتجاه الذي يخدم المصالح العليا للإسلام والمسلمين، إلمامنا بالخطوط العامة للوضع السياسي في مرحلتي تصديه للقيادة بعد شهادة أبيه الإمام الرضاعليه‌السلام وقبل التصدي عندما كان في ظل أبيهعليه‌السلام وقد عاصر الإمام في هاتين المرحلتين خليفتين متميّزين بأسلوب الحكم وإن اشتركا بغصبهما لمنصب القيادة الشرعية والكيد لها وكانت إمامة الجوادعليه‌السلام واقعة في ملك ولدَي هارون الرشيد المأمون والمعتصم. وقبل تصديه للإمامة كان قد عاصر الأمين والمأمون معاً.

ولأجل أن نقف على أهم ملامح المرحلة الأولى من حياة هذا الإمام العظيم فلابد لنا أن نقف على أهم الأحداث السياسية لهذه المرحلة ونلمّ بأهم أسبابها وما خلّفته من آثار سلبية اجتماعية ودينية واقتصادية على الأمة الإسلامية عامة وعلى الدولة الإسلامية بشكل خاص.

ومن هنا لزم الوقوف عند ما يلي:

١ ـ الفتنة بين الأمين والمأمون.

٢ ـ الأمين ونزعاته واتجاهاته وسياسته.

٣ ـ المأمون ونزعاته واتجاهاته وسياسته.

إن الفتنة بين محمد الأمين وعبد الله المأمون ولدَي هارون الرشيد تعتبر أهمّ حدث سياسي قد وقع في هذه الرحلة التي نتكلم عن ملامحها، وقد عُبّر عنها بالفتنة الكبرى التي أدّت إلى إشعال نار الحرب بينهما وكلّفت المسلمين ثمناً باهضاً بذلوه من دماء وأموال وطاقات في سبيل استقرار الملك والسلطان لكل منهما.

وللوقوف على أسباب هذه الفتنة لابد أن نقف على شخصية كل واحد من هذين الأخوين بالإضافة إلى ما قام به الرشيد شخصياً لزرع بذور هذه الفتنة حيث عهد لأبنائه الثلاثة: الأمين ثم المأمون ثم المؤتمن وبذلك قد مهّد لهم سبيل التنافس على المُلك مع ما منحهم من إمكانيات وقدرات مادّية يتنافسون بسببها ويأمل كل منهم حذف من سواه، وسوق منصب الخلافة لأبنائه دون إخوته.

٤٧

محمّد الأمين: نزعاته وسياسته

لم تكن في الأمين أيّة صفة كريمة يستحق بها هذا المنصب الخطير في الإسلام، فقد أجمع المترجمون له على أنّه لم يتّصف بأيّة نزعة شريفة، وإنما قلّده الرشيد منصب الخلافة نظراً لتأثير زوجته السيدة زبيدة عليه وفيما يلي بعض صفاته:

١ ـ كراهيته للعلم: كان الأمين ينفر من العلم، ويحتقر العلماء، وكان أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب(١) وإذا كان بهذه الصفة كيف قلّده الرشيد الخلافة الإسلامية؟

٢ ـ ضعف الرأي: وكان الأمين ضعيف الرأي، وقد أعطي المُلك العريض ولم يحسن سياسته، وقد وصفه المسعودي بقوله: كان قبيح السيرة ضعيف الرأي

ـــــــــ

(١) السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي: ١ / ١٦.

٤٨

يركب هواه، ويهمل أمره، ويتّكل في جليلات الخطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه (١) .

ووصفه الكتبي بقوله: وكان قد هانَ عليه القبيح فاتّبع هواه، ولم ينظر في شيء من عقباه. وكان من أبخل الناس على الطعام، وكان لا يبالي أين قعد، ولا مع من شرب(٢) .

وممّا لا شبهة فيه أنّ أصالة الفكر والرأي من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يلي أمور المسلمين.

٣ ـ احتجابه عن الرعيّة: واحتجب الأمين عن الرعية كما احتجب عن أهل بيته وأمرائه وعمّاله واستخفّ بهم(٣) وانصرف إلى اللهو والطرب، وقد عهد إلى الفضل بن الربيع أمور دولته، فجعل يتصرف فيها حسب رغباته وميوله، وقد خفّ إلى الأمين إسماعيل بن صبيح، وكان أثيراً عنده، فقال له: يا أمير المؤمنين أنّ قوّادك وجُندك وعامة رعيتك، قد خبثت نفوسهم، وساءت ظنونهم وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم، ومراجعة لآمالهم.

واستجاب له الأمين فجلس في بلاطه ودخل عليه الشعراء فأنشدوه قصائدهم، ثمّ انصرف فركب الحرّاقة إلى الشماسية، واصطفّت له الخيل وعليها الرجال، وقد اصطفّوا على ضفاف دجلة، وحملت معه المطابخ والخزائن. أمّا الحرّاقة التي ركبها فكانت سفينة على مثال أسد وما رأى الناس منظراً كان أبهى من ذلك المنظر.

لقد كان الأمين إنساناً تافهاً قد اتجه إلى ملذّاته وشهواته ولم يُعنَ بأيّ شأن من شؤون الدولة الإسلامية.

ـــــــــ

(١) التنبيه والأشراف: ٣٠٢.

(٢) عيون التواريخ: ٣، ورقة: ٢١٢.

(٣) سمط النجوم: ٣ / ٣٠٦.

٤٩

٤ ـ خلعه للمأمون: وتقلّد الأمين الخلافة يوم توفّي الرشيد، وقد ورد عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب التي يتسلّمها كلّ من يتقلّد الخلافة من ملوك العباسيين وحينما استقرت له الأُمور خلع أخاه المأمون، وجعل العهد لولده موسى وهو طفل صغير في المهد وسمّاه الناطق بالحق، وأرسل إلى الكعبة من جاءه بكتاب العهد الذي علّقه فيها الرشيد، وقد جعل فيه ولاية العهد للمأمون بعد الأمين، وحينما أتى به مزّقه.

الحروب الطاحنة:

وبعد ما خلع الأمين أخاه المأمون عن ولاية العهد، وأبلغه ذلك رسمياً ندب إلى حربه علي بن عيسى، ودفع إليه قيداً من ذهب، وقال له: أوثق المأمون، ولا تقتله حتى تقدم به إلَيَّ وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع، ولمّا علم المأمون ذلك سمّى نفسه أمير المؤمنين، وقطع عنه الخراج، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير، وأعلن الخروج عن طاعته، وندب طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين إلى حربه، والتقى الجيشان بالري، وقد التحما في معركة رهيبة جرت فيها أنهار من الدماء وأخيراً انتصر جيش المأمون على جيش الأمين، وقتل القائد العام للقوات المسلحة في جيش الأمين، وانتهبت جميع أمتعته وأسلحته، وكتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الباهر وقد جاء في رسالته: (كتبت إليك، ورأس علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين) ودخل الفضل على المأمون فسلّم عليه بالخلافة، وأخبره بالأمر، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى طاهر القائد العام في جيشه بالهدايا والأموال، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك، وقد سمّاه ذا اليمينين، وصاحب خيل اليدين، وأمره بالتوجه إلى احتلال العراق والقضاء على أخيه الأمين.

٥٠

وخفّت جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، فحاصرت بغداد، وقد دام الحصار مدة طويلة تخرّبت فيها معالم الحضارة في بغداد، وعمّ الفقر والبؤس جميع سكانها وكثر العابثون، والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء، ونهبوا الأموال وطاردوا النساء حتى تهيأت جماعة من خيار الناس تحت قيادة رجل يقال له سهل بن سلامة فمنعوا العابثين وتصدوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد(١) .

وقد زحفت جيوش المأمون إلى قصر الأمين وطوّقته وألحقت الهزائم بجيشه، فلم تتمكّن قوّات الأمين من الصمود أمام جيش المأمون الذي كان يتمتّع بروح معنوية عالية بالإضافة إلى ما كان يملكه من العتاد والسلاح.

قتل الأمين:

وكان الأمين في تلك المحنة مشغولاً بلهوه، إذ كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم وكان فيهم (كوثر) الذي كان مغرماً به فكان يوافيه الأنباء بهزيمة جنوده، ومحاصرة قصره فلم يعن بذلك، وكان يقول: اصطاد كوثر ثلاث سمكات وما اصطدت إلاّ سمكتين!! وهجمت عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح وتلا قوله تعالى:( اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) (٢) .

ـــــــــ

(١) اتّجاهات الشعر العربي: ٧٣.

(٢) عيون التواريخ: ٣، ورقة: ٢١١ / حياة الإمام محمد الجواد عليه‌السلام : ١٩٣ ـ ١٩٧.

٥١

خلافة إبراهيم الخليع:

سمّي إبراهيم بالخليع لأنه لم يترك لوناً من ألوان المجون إلاّ ارتكبه، وكان مدمناً على الخمر في أكثر أوقاته، وقد نصّبه العبّاسيون خليفة عليهم، وذلك لحقدهم على المأمون وكراهيّتهم له، وقد بايعه الغوغاء، وأهل الطرب من الناس، ومن الطريف أنّ الغوغاء أرادوا منه المال فجعل يسوّفهم، وطال عليهم الأمر فأحاطوا بقصره فخرج إليهم رسوله فأخبرهم أنّه لا مال عنده، فقام بعض ظرفاء بغداد فنادى: (أخرجوا إلينا خليفتنا ليغنّي لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءً لهم...)(١) .

وزحف المأمون بجيوشه نحو بغداد للقضاء على تمرّد إبراهيم، فلمّا علم ذلك هرب، وهرب من كان يعتمد على نصرته، وظلّ إبراهيم مختفياً في بغداد يطارده الرعب والخوف، وقد ظفر به المأمون فعفا عنه لأنّه لم يكن له أي وزن سياسي حتى يخشى منه.

ثورة أبي السرايا:

من أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام أبي جعفرعليه‌السلام ثورة أبي السرايا التي استهدفت القضايا المصيرية لجميع الشعوب الإسلامية، فقد رفعت شعار الدعوة إلى (الرضا من آل محمّدعليه‌السلام ) الذين كانوا هم الأمل الكبير للمضطهدين والمحرومين، وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة العبّاسية، فقد استجاب لها معظم الأقطار الإسلامية، فقد كان قائدها الملهم أبو السرايا ممّن هذّبته الأيام، وحنّكته التجارب، وقام على تكوينه عقل كبير، فقد استطاع

ـــــــــ

(١) حياة الإمام محمّد الجوادعليه‌السلام : ١٩٨.

٥٢

بمهارته أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ويجعلهم قادة في جيشه، ممّا أوجب اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى تأييد ثورته والانضمام إليها إلاّ أنّ المأمون قد استطاع بمهارة سياسية فائقة أن يقضي على هذه الحركة، ويقبرها في مهدها، فقد جلب الإمام الرضاعليه‌السلام إلى خراسان، وأرغمه على قبول ولاية العهد، وأظهر للمجتمع الإسلامي أنّه علوي الرأي، فقد رفق بالعلويّين، وأوعز إلى جميع أجهزة حكومته بانتقاص معاوية والحطّ من شأنه، وتفضيل الإمام أمير المؤمنين على جميع صحابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعتقد الجمهور أنّه من الشيعة واستطاع بهذا الأسلوب الماكر أن يتغلّب على الأحداث ويخمد نار الثورة(١)

لقد عاش الإمام أبو جعفر محمّد الجوادعليه‌السلام معظم حياته في عهد المأمون، ولم يلبث بعده إلاّ قليلاً حتى وافاه الأجل المحتوم.. ويرى بعض المؤرّخين أنّ المأمون كان يكنّ له أعظم الودّ وخالص الحبّ، فزوّجه من ابنته أم الفضل، ووفّر له العطاء الجزيل، وكان يحوطه، ويحميه ويخشى عليه عوادي الدهر، ويضنّ به على المكروه، وكان يصرّح أنّه يبغي بذلك الأجر من الله، وصلة الرحم التي قطعها آباؤه، وفيما أحسب أنّ ذلك التكريم لم يكن عن إيمان بالإمام أو إخلاص له، وإنّما كان لدوافع سياسية نعرض لها في المباحث الآتية.

وعلى أيّة حال فلابدّ لنا من وقفة قصيرة لدراسة حياة المأمون، والوقوف على اتّجاهاته الفكرية والعقائدية، والنظر فيما صدر منه من تكريم للإمامعليه‌السلام فإنّ ذلك ممّا يرتبط ارتباطاً موضوعيّاً بالبحث عن حياة الإمام أبي جعفرعليه‌السلام .

ـــــــــ

(١) راجع حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٥٣

عبد الله المأمون: نزعاته وسياسته

عبد الله المأمون هو أبو العباس بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ولد بالياسرية في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول سنة (١٧٠ هـ) وبويع له بمرو فتوجه إلى بغداد وقدمها وعمره إذ ذاك تسع وعشرون سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام.

وأمه أم ولد تسمّى مراجِل.

من أبرز نزعات المأمون وصفاته:

١ ـ الدهاء: لم يعرف العصر العبّاسي من هو أذكى من المأمون، ولا من هو أدرى منه في الشؤون السياسية العامّة ، فقد كان سياسياً من الطراز الأوّل، حتّى استطاع بحدّة ذكائه، وقدراته السياسية أن يتغلّب على كثير من الأحداث الرهيبة التي ألمّت به، وكادت تطوي حياته، وتقضي على سلطانه، فقد استطاع أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتّع بتأييد مكثّف من قِبل الأسرة العبّاسيّة، والسلطات العسكرية، كما استطاع أن يقضي على أعظم حركة عسكرية مضادّة له، تلك ثورة أبي السرايا التي اتّسع نطاقها فشملت الأقاليم الإسلامية حتى سقط بعضها بأيدي الثوار، وكان شعار تلك الثورة الدعوة إلى الرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمل الإمام الرضاعليه‌السلام إلى خراسان، وكانعليه‌السلام زعيم الأسرة العلويّة وعميدها، فأرغمه على قبول ولاية العهد، وعهد إلى جميع أجهزة حكومته بإذاعة فضائله ومآثره، كما ضرب السكّة باسمه، فأوهم بذلك على الثوار والقوى الشعبية المؤيّدة لهم أنّه جادّ فيما فعله، حتى أيقنوا أنّه لا حاجة إلى الثورة وإراقة الدماء بعد أن حصل الإمامعليه‌السلام على ولاية العهد، وقضى بذلك على الثورة، وطوى معالمها، وهذا التخطيط كان من أروع المخطّطات السياسية التي عرفها العالم في جميع مراحل التاريخ.

٢ ـ القسوة: وانعدام الرحمة والرأفة من آفاق نفسه هي صفة أخرى له، والذي يدعم ذلك فهو قتله لأخيه حينما استولت عليه قوّاته العسكرية، ولو كان يملك شيئاً من الرحمة لما قتل أخاه. كما أنّه قابل العلويّين بعد قتله للإمام الرضاعليه‌السلام بمنتهى الشدّة والقسوة، فعهد إلى جلاّديه بقتلهم والتنكيل بهم أينما وجِدوا.

٥٤

٣ ـ الغدر: فقد بايع للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وبعد ما تحققت مآربه السياسية دسّ إليه السمّ فقتله ليتخلّص منه.

٤ ـ ميله إلى اللهو: أمّا الميل إلى اللهو فقد أقبل عليه بنهم وفيما يلي بعض ما أثر عنه:

لعبه بالشطرنج:

ولم يكن شيء من الملاهي أحبّ إلى المأمون من الشطرنج(١) فقد هام في هذه اللعبة وقد وصفها بهذه الأبيات:

أرض مربّعة حمراء من أدم

ما بين ألفين موصوفين بالكرم

تذاكرا الحرب فاحتلالها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دم

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنم

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركة

في عسكرين بلا طبل ولا علم(٢)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، ولعلّه أسبق من نظم فيه الشعر الذي أحاط بأوصافه، وكان أبوه الرشيد مولعاً بالشطرنج، وقد أهدى إلى ملك فرنسا أدواته، وتوجد حالياً في بعض متاحف فرنسا.

ـــــــــ

(١) العقد الفريد: ٣ / ٢٥٤.

(٢) المستطرف: ٢ / ٣٠٦.

٥٥

ولعبه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، وكان له هوى شديد في ذلك وكان معجباً كأشدّ ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي، الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي، وقد قال فيه: كان لا يغنّي أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان(١) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود، ولم يمرّ اسم الله ولا ذكره في قصوره ولياليه.

٥ ـ تظاهره بالتشيّع:

لقد تظاهر المأمون بالتشيّع، حتى اعتقد الكثيرون أنّه من الشيعة ; لأنّه قام بما يلي:

أ ـ ردّ فدك للعلويّين: بعد أن صادرتها الحكومات السابقة عليه وكان قصدها إشاعة الفقر بين العلويّين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم حتى يشغلهم الفقر والبؤس عن مناهضة أولئك الحكّام، وقد أنعش المأمون العلويّين، ورفع عنهم تلك الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، واعتبر البعض هذا الإجراء دليلاً على تشيّعه.

ب ـ تفضيل الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام على الصحابة: وقام المأمون بإجراء خطير فقد أعلن رسمياً فضل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام على عموم الصحابة كما أعلن الحطّ من معاوية بن أبي سفيان.

وكان هذا الإجراء من أهمّ المخطّطات التي تُلفت النظر إلى تشيّعه، فقد جرى سلفه على انتقاص الإمامعليه‌السلام ، والحطّ من شأنه، وتقديم سائر الصحابة عليه.

ـــــــــ

(١) الحضارة العربية لجاك س. ريلر: ١٠٨.

٥٦

ج ـ ولاية العهد للإمام الرضا عليه‌السلام : حيث قيل إنّ معناها أنه قد أخرج بذلك الخلافة من العبّاسيّين إلى العلويّين.

ويلاحظ على كل هذه الظواهر أنه إنّما صنع الأُمور المتقدّمة تدعيماً لسياسته وأغراضه، ويدلّ على ذلك ما يلي:

أوّلاً: إنّه كان مختلفاً كأشدّ ما يكون الاختلاف مع الأسرة العبّاسية الذين كانت ميولهم مع أخيه الأمين لأنّ أُمّه زبيدة كانت من أندى الناس كفّاً، ومن صميم العبّاسيّين، أمّا أُمّ المأمون فهي مراجل، وكانت من إماء القصر العبّاسي، وكان العبّاسيّيون ينظرون إليه نظرة احتقار باعتبار أمه، فأراد المأمون بما أظهره من التشيّع إرغام أسرته الذين كانوا من ألدّ الأعداء لآل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشيعتهم.

ثانياً: إنّه أراد كشف الشيعة، ومعرفة السلطة بهم بعدما كانوا في الخفاء، ولم تستطع الحكومات العبّاسية معرفتهم والوقوف على أسمائهم وخلاياهم، فأراد المأمون بما صدر منه من إحسان لهم أن يكشفهم، وقد دلّت على ذلك بعض الوثائق الرسمية التي صدرت منه.

ثالثاً: إنّه أراد القضاء على الحركة الثورية التي فجّرتها الشيعة بقيادة الزعيم الكبير أبي السرايا، فرأى المأمون أن خير وسيلة للقضاء عليها وشلّ فعّاليّاتها هو الإحسان إلى الشيعة(١) .

ـــــــــ

(١) راجع حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٢١ ـ ٢٢٥.

٥٧

وقفة عند سلوك المأمون ونزعاته:

كانت حياة المأمون ـ قبل توليه الخلافة ـ حياة جد ونشاط وتقشف، على العكس من أخيه الأمين، الذي كان يميل إلى اللعب والبطالة أكثر منه إلى الجد والحزم.

ولعل سرّ ذلك يعود إلى أن المأمون لم يكن كأخيه، يشعر بأصالة محتده، ولا كان مطمئناً إلى مستقبله، والى رضا العبّاسيين به، بل كان يقطع بعدم رضاهم به خليفةً وحاكماً، ولهذا فقد وجد انه ليس لديه أي رصيد يعتمد عليه غير نفسه، فشمر عن ساعد الجد وبدأ يخطط لمستقبله منذ أن أدرك واقعه، والمميزات التي كان يتمتع بها أخوه الأمين عليه.

ويُلاحظ أنه كان يستفيد من أخطاء أخيه الأمين وأن الفضل عندما رأى اشتغال الأمين باللهو واللعب، أشار على المأمون بإظهار الورع والدين، وحسن السيرة، فأظهر المأمون ذلك وكان كلما اعتمد الأمين حركة ناقصة اعتمد المأمون حركة شديدة.

ومن هنا يتبيّن السرّ فيما يبدو من رسالته للعبّاسيين، حيث نصب فيها نفسه واعظاً تقيّاً، وأضفى عليها هالة من الورع والزهد في الدنيا والالتزام بأحكام الشريعة، ليروه ويراه الناس نوعية أخرى تفضل على نوعية أخيه الأمين.

وقد برع المأمون في العلوم والفنون حتى فاق أقرانه، بل فاق جميع خلفاء بني العباس، فإنه لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون(١) .

وهو أعلم الخلفاء بالفقه والكلام(٢) .

وكل مَن تعرّض من المؤرخين وغيرهم، لشرح حال المأمون، قد شهد له

ـــــــــ

(١) حياة الحيوان: ١ / ٧٢.

(٢) الفهرست: ١٧٤، ابن النديم.

٥٨

بالتقدم، وبأنه رجل خلفاء بني العباس وواحدهم (١) .

وما يهمنا هنا، هو مجرد الإشارة إلى حال المأمون، وما كان عليه من الدهاء والسياسة وحسن التدبير.

وبالرغم من جدارة المأمون فيما إذا قورن إلى أخيه الأمين باعتراف أبيه الرشيد بذلك، لكن الرشيد قد اعتذر عن إسناده الأمر إلى الأمين بأن العبّاسيين لا يرضون بالمأمون خليفة(٢) .

ويرى بعض المؤرخين أنّ السرّ في عدم رضا العبّاسيين بالمأمون يرجع إلى أن الأمين كان عبّاسيّاً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى فأبوه: هارون، وأمه زبيدة حفيدة المنصور... وكان في كنف الفضل بن يحيى البرمكي أخي الرشيد من الرضاعة وأعظم رجل نفوذاً في بلاط الرشيد، وكان يشرف على مصالحه الفضل بن الربيع، العربي الذي لم يكن ثمّة من شك في ولائه للعبّاسيين.

أمّا المأمون فقد كان في كنف جعفر بن يحيى، الذي كان أقل نفوذاً من أخيه الفضل. وكان مؤدبه والذي يشرف على مصالحه ذلك الرجل الذي لم يكن العباسيون يرتاحون إليه لأنه كان متهماً بالميل إلى العلويين... أما أم المأمون فخراسانية غير عربية...(٣) .

التحدّيات التي واجهت حكم المأمون وموقفه منها

لقد جابه حكم المأمون تحديات خطيرة كانت تهدد كيانه وكادت تعصف به، وكان بقاؤه في السلطة يحتاج إلى الكثير من الدهاء.

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٤.

(٢) راجع الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٢.

(٣) راجع الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٦ ـ ١٥٧.

٥٩

وأهمّ ما كان يواجه المأمون ما يلي:

١ ـ تحرك الشيعة ضده وكان تحركاً عنيفاً، وكانت ثورة أبي السرايا التي عمّت الكثير من الحواضر الإسلامية آنذاك نموذجاً له.

٢ ـ تكتل العائلة العباسية ضد المأمون ووقوفها إلى جانب الأمين أولاً، ثم عزلها له وتعيين عمه إبراهيم بن المهدي بعد ذلك.

٣ ـ تحركات الخوارج والفئات المناوئة الأخرى.

٤ ـ وجود المخاطر الخارجية من جانب الدول المتربصة بالدولة الإسلامية، خصوصاً الدولة البيزنطية.

وأمام هذه التحديات قام المأمون بما يلي:

أولاً ـ تصفيته لتحرك أخيه الأمين والقوى المتحركة القوية ضده.

ثانياً ـ القيام بلعبة تولية الإمام الرضاعليه‌السلام لولاية العهد بالإكراه ليصوّر للأمة أنه مع القيادة الشرعية وأنه نقل الحكم إليها وهذا من شأنه أن يقلل من الروح الثورية للأمة باتجاه إقامة الحكم بقيادة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثالثاً ـ محاربة وتصفية ثورات العلويين.

رابعاً ـ التصفية الجسدية للإمام الرضاعليه‌السلام بعد انتهائه من تصفية الثورات الخطيرة.

خامساً ـ التوجّه إلى بغداد للقضاء على معارضة البيت العباسي.

سادساً ـ تصفية مراكز القوى في الدولة باتجاه تعزيز قوته ووضعه.

سابعاً ـ إشاعة فتنة خلق القرآن لإشغال الناس بها عمّا يهمّهم.

ثامناً ـ تصفية قوى المعارضة من قبيل الخوارج.

تاسعاً ـ التوجه لمحاربة الدولة البيزنطية ودفع خطرها.

العلاقة بين الإمام الرضاعليه‌السلام والمأمون

وصلت المسيرة الإسلامية إثناء إمامة الرضاعليه‌السلام إلى مرحلة متقدمة نتيجة الجهود العظيمة التي بذلها الأئمة السابقون على الإمام الرضاعليه‌السلام مما جعل السلطة العباسية مضطرة للدخول فيما دخلت فيه من تولية الإمام الرضاعليه‌السلام لولاية العهد والإيحاء بتحويل الخلافة من العباسيين لأهل البيتعليهم‌السلام . ولإيضاح هذا الأمر نذكر الأُمور التالية:

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

مارس كلامهم، ودرس مقتضيات الأحوال، فإنّهم لمْ يزالوا يتحرّون الوسائل الدقيقة لتوجيه النّفوس نحوهم، وتعريف ما لهم من حقّ مغصوب.

فمن ذلك ما أوصى به الإمام الباقرعليه‌السلام باعطاء ثمانمئة درهم لنوّادب يندبنه بمنى أيّام الموسم(١) .

فإنّك إذا عرفت أنّ النّاس من مختلف الأقطار والمذاهب يجتمعون في منى أيّام الحجّ، وقد أحلّوا من كلِّ ما حُرّم عليهم إلا النّساء، وأنّها أيّام عيد وتزاور، فتعقد هنالك حفلات المسرّة ونوادي التهاني، تعرف النكتة الدقيقة التي لاحظها الإمامعليه‌السلام باختياره أيام منى على عرفات والمشعر؛ لاشتغال النّاس بالعبادة والإبتهال إلى المولى سبحانه في هذين الموقفين مع قصر الزمان.

نعم، في أيام منى حيث إنّها ثلاثة: وهي أيام عيد وفرح وسرور، لا حزن وبكاء، وطبعاً أنّ السامع للبكاء في أيام المسرّات، يستفزّ إلى الأسباب الموجبة له، ويتساءل عمّن يندبنه، وما هي دعوته وأعماله، ويسأل عمّن ناوأه ودافعه عن حقّه، وبهذا الفحص يتجلّى له الحقُّ والطريقة المثلى؛ لأنّ نور الله لا يطفى، والدعوة إليه جليّة البرهان. وهذا النبأ يتناقله النّاس إلى مَن كان نائياً عن هذه المواقف عند الإياب إلى مقرّهم، فيصل إلى الغائبين بهذا الطريق، وبه تتم الحُجّة، فلا يسع كلّ أحد أن يتذرّع بعذر عدم الوصول إلى المدينة، التي هي موطن (حُجّة اللهعليه‌السلام )، ولا من أبلغه خبره، ولا عرفت دعوة الإمام وضلال مناوئه، فلا يبقى حينئد جاهل قاصر على الأغلب.

ومن هنا نفهم السّبب في إعراض الإمامعليه‌السلام عن الوصيّة للنوادب يندبنه بمكّة، أو في المدينة أيام الحجّ؛ فإنّه في البلدين لا تكون الندبة إلا في الدور، فمن أين يقف الرجال عليهن؟ وكيف يكون هذا البكاء مشعراً بالغرض المطلوب؟.

____________________________

(١) التهذيب للشيخ الطوسي ٢ / ١٠٨ كتاب المكاسب، والمنتهى للعلامة الحلي ٢ / ١١٢، والذكرى للشهيد الأول - المبحث الرابع من أحكام الاموات. وفي كتاب من لا يحضره الفقيه / ٣٦: أنهعليه‌السلام أوصى بثمانمئة درهم لمأتمه، وأن يندب في المواسم عشر سنين.

١٠١

ودعوى كون صوت المرأة عورة، ويحرم على الأجانب سماعه مردودة، بما رواه الكليني في الكافي: أنّ اُمّ خالد دخلت على الإمام الصادقعليه‌السلام ، وكانت عاقلة عارفة، وعنده أبو بصير. فقالعليه‌السلام لأبي بصير:«أتحبّ أنْ تسمع كلامها؟» ، ثمّ أجلسها معه على الطنفسة، وتكلّمت اُمّ خالد فإذا هي امرأة بليغة عاقلة(١) ، فلو كان سماع صوت المرأة محرماً على الأجانب، لَما أجاز الإمام ذلك لأبي بصير.

على أنّ وصيّة الإمام الباقرعليه‌السلام بالمال للنوادب بمنى تفيد الجواز؛ لأنّ سماع الرجال أصواتهن لا ينكر، وإلا لأمر بالبكاء عليه في دور المدينة ومكّة، بل النكتة الملحوظة للإمامعليه‌السلام لا تحصل إلا بسماع الرجال أصواتهن، وما يدعونَّ إليه.

وفي حديث حمّاد الكوفي، أن الصادقعليه‌السلام قال له:«بلغني أن اُناساً من أهل الكوفة يأتون قبر أبي عبد الله عليه‌السلام في النصف من شعبان» ، فبيّن مَن يقرأ ويقص إلى أنْ قال:«ونساء يندبنه» ، قال حمّاد: قد شهدت بعض ما تصف، فقال:«الحمد لله الذي جعل في شيعتنا مَن يفد إلينا، ويمدحنا ويرثي لنا» (٢) . ولا ينكر أن ندبة النّساء عند القبر يلزمها سماع الأجانب أصواتهن، ولو كان محرماً، لما استحسنه الإمام الحُجّة، ودعا لهم بالرحمة.

وأمّا كون صوت المرأة عورة، فلم تشهد به رواية. وما ورد من منع الرجال محادثة الأجنبية، أو المبيت معها في بيت واحد، فليس من جهة كون صوتها عورة؛ بل للحذر عن الوقوع فيما لا يُحمد عقباه. وما ذكره العلامة الحلّي في كتابه التحرير، أول النّكاح، المسألة التاسعة: لا يجوز للأعمى سماع صوت الأجنبيّة، فلعلّه لذلك، لا لأنّه عورة. نعم، صرَّح في كتابه التذكرة، أول النكاح: إنّ صوتها عورة، يحرم استماعه مع خوف الفتنة لا بدونه. وللشافعيّة قولان، في كونه عورة أو لا. وردّ صاحب الجواهر على المحقق بالسيرة المتواترة في الأعصار، فقد كانت النّساء تخاطب الأئمّةعليهم‌السلام ، وخطبة الزهراءعليها‌السلام وبناتها معلومة.

والفقه السنّي لم يمنع منه، ففي الفقه على المذاهب الأربعة ١ / ١٦٧، صوت المرأة ليس بعورة، لأنّ نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كنّ يتكلّمن مع الصحابة

____________________________

(١) الوسائل للحر العاملي ٣ / ٢٥ باب ١٠٦، حكم سماع صوت الأجنبية، وكذلك في روضة الكافي - الحديث ٣١٩.

(٢) كامل الزيارات / ٣٢٥ باب ١٠٨، اول النوادر.

١٠٢

ويستمعون منهنّ أحكام الدِّين. وقال الشيباني الحنبلي: صوت المرأة لم يكن عورة ولكن يحرم التلذذ بصوتها(١) . وهو مختار ابن حجر في كف الرعاع على هامش الزواجر ١ / ٢٧. نعم، ذهب بعض أهل السنّة إلى كونه عورة، ولم يستصحّه ابن حجر. وفي البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ١ / ٢٧٠، ذكر المصنّف في الكافي: إنّ المرأة لا تلبّي جهراً؛ لأنّ صوتها عورة. وعليه صاحب المحيط في باب الأذان. وفي فتح القدير على هذا، لو قيل: إذا جهرتْ في الصلاة، فسدت كان متّجهاً. وفي شرح المنية: الأشبه أنّ صوتها ليس بعورة، وإنّما يؤدّي إلى الفتنة. كما علّل به صاحب الهداية وغيره في مسألة التلبية. وفي النّوازل: نغمة المرأة عورة. وبنى عليه تعلّمها القرآن من المرأة أحبّ من تعلّمها من الأعمى. انتهى البحر الرائق. وقال ابن نجيم في أحكام الخنثى: صوتها عورة في قول(٢) . وفي الفروع لابن مفلح الحنبلي ٣ / ١٢، قال: لا يحرم سماع صوتها على الأصحّ؛ لأنّه ليس بعورة. وفي عمدة القاري للعيني على شرح البخاري ٤ / ١٢، آخر باب الأمر باتباع الجنائز: يجب على المرأة ردّ سلام الرجل، ولا ترفع صوتها؛ لأنّه عورة. وفي طرح التثريب لزين الدِّين العراقي ١ / ٢٥٠: عند ابن عبد البر في الاستذكار عدم كونه عورة، وهو الصحيح عند الشافعيّة. وفي المصدر نفسه ٧ / ٤٥ في النّكاح: صوتها ليس بعورة. وفي شرح المجموع للنووي ٧ / ٢٤٩ ط ٢، صرح الدارمي والقاضي أبو الطيب: إنّ رفع صوتها بالتلبية غير حرام. وفي نيل الأوطار للشوكاني ٤ / ٢٧٤ باب التلبية: عند الروياني وابن الرفعة: لا يحرم رفع صوتها بالتلبية؛ لأنّه ليس بعورة.

السّجود على التربة

من الأساليب التي اتخذها الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام للتعريف بمظلوميّة الحسينعليه‌السلام ، وابتعاد من ناوأه عن سنن الحقِّ، وأنّ نهضته أحكمت دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعبّدت الطريق إليها، أمرهم بالسّجود على التربة. فإنّ من أهمّ أسرارها تذكّر المصلّي في أوقاته الخمسة حينما يضع جبهته عليها، تضحية (روح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله )، وأهل بيته البهاليل، وصحبه المناجيد في سبيل تركيز المبدأ الصحيح، وما قاساه سيّد الشهداءعليه‌السلام من فجائع الصخر الأصم، وقابلها بالصبر الذي تعجّبت منه

____________________________

(١) نيل المآرب ٢ / ١٢٧.

(٢) الاشباه والنظائر / ٢٠٠.

١٠٣

ملائكة السّماوات كما جاء في زيارته، ثمّ يتذكّر أنّ هذه التربة امتزج بها (دم المظلومعليه‌السلام )، ودماء الأزكياء من أهل بيته وصحبهعليهم‌السلام ، الذين وصفهم أمير المؤمنينعليه‌السلام بـ«أنّهم سادة الشهداء، لا يسبقهم سابق، ولا يلحقهم لاحق» (١) .

وبالطبع يحتدم قلب الموالي لهم، وتهمل عينه، ويحترق فؤاده، ويتباعد عن كلّ من أورد عليهم العدوان، ومَن سار على إثره ومَن أسس له. ويتجلّى له أنّ هذه النّهضة الجبّارة حطّمت هياكل الجور. كما عرّفت الأجيال المتعاقبة استهانة أهمّ الذخائر، وأعزّ الأنفس في تأييد العقيدة. ومثل الأمر بالسّجود على التربة الحسينيّة أمرهمعليهم‌السلام بالتسبيح في خرز معمولة منها؛ تحقيقاً لتلك الغاية الثمينة، وهذه الغايات ألمع إليها أهل البيتعليه‌السلام وإنْ لم تفهم الاُمّة أسرارها الدقيقة.

وتجاهلُ غيرنا علينا بالابتداع والضلال ناشئ عن الجهل بهذه الأسرار الحكيمة، وعدم فهم حديث وحي السّماء«جُعلتْ ليَ الأرضُ مَسجداً وطهُورا». وهذه القطعة المُعدّة للسجود عليها ترابٌ مزج بالماء فجمد، فهي من مصاديق الحديث المتّفق عليه.

تشريع الزيارة

إنّ مجتمعات الزيارة كمواسم جاء الحثّ عليها؛ حيث إنّ المَزور دعامة من دعائم الدِّين ومنار هداه، ومنه تؤخذ التعاليم، وتُدرس المعارف. فإذا ازدلف الزائرون إلى قبره من شتّى النّواحي، وتعرّف كلٌّ بالآخر، وشاهد كلٌّ منهم ذلك الزحام المعجب، والتهافت المتواصل، والتهالك دون ذلك المقصد الشريف بما أنّ صاحب المشهد صاحب دعوة إلهيّة، وداعية إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحَسنة.

عظم في عينه الشخص المزور ونزعته ودعوته، وثلج صدره بذلك المنظر المبهج، ورقّ له قلبه، وثبت به يقينه. وبطبع الحال ينجذب إلى تتبع تعاليمه، ودرس أحواله، واقتصاص أثره، وتعرّف مظلوميّته، إلى ما هنالك من فوائد لا تحصى. وهناك معنى آخر، وهو أنّ الزيارة تحكم رابطة الاخوّة بين المؤمنين، التي دعا إليها الكتاب المجيد ( إِنّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ ) (٢) ، فإنّ الزائرين باجتماعهم عند القبر، وفي الطريق إليه يتبادلون المعروف والمكافاة عليه، ويتفاهمون في التوجيه نحو الدِّين الصحيح؛

____________________________

(١) كامل الزيارات / ٢٧٠ الباب ٨٨.

(٢) سورة الحُجُرات / من الآية ١٠.

١٠٤

فينكشف الخطأ في اعتقاد الطوائف الاُخرى وشذوذها، وتصبح الرابطة بينهما حكيمة الأساس.

هذه هي الحقيقة في زيارة أئمّة الهدى أجمع، فإنّهم الطريق المهيع، والسّبيل الجديد إلى كلّ هدى متبع، وناموس مصلح، وطقس مهذّب، ورشد هاد، ومعرفة كاملة. كما أنّه يجب أنْ يعتقد فيهم ذلك بعد الوقوف على فضلهم الظاهر، وعلومهم الجمّة، وورعهم الموصوف، ومعاجزهم الخارجة عن حدِّ الاحصاء. ولا شكّ أنّ في المثول حول مشاهدهم المقدّسة بداعي الزلفى للمولى سبحانه، مزيداً لهاتيك العقيدة ورسوخها. هذا هو السّبب الوحيد لتشريع الزيارة.

أمّا تخصيص سيّد الشهداء بزيارات خاصّة في أيّام السّنة - زائداً على ما جاء في الحثّ المتأكد على زيارته المطلقة دون سائر الأئمة، بل لم يخصّص سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله بزيارة خاصّة - فيتصور لذلك علل وأسباب:

أهمّها: إنّ النّزعة الاُمويّة لم تزل تنجم وتخبو في الفينة بعد الفينة، تتعاوى بها ذوو أغراض مستهدفة وإن أصبح الاُمويون رمماً بالية، ولم يبقَ منهم إلا شية العار، وسبّة عند كل ذكر. لكن بما أنها إلحادية يتحراها لفيفهم، ومن انضوى إليهم من كل الأجيال، فكان همُّ أهل البيتعليه‌السلام إخمادها، ولفت الأنظار إلى ما فيها من المروق عمّا جاء به المنقذ الأكبرصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي لاقى المتاعب في سبيل نشر دعوته واحيائها. ومن الطرق الموجبة لتوجيه النّفوس نحوها، وتعريف مظلوميّتهم، ودفعهم عن الحقّ الإلهي المجعول لهم من المشرّع الأعظم ذِكرُ قضيّة سيّد الشهداءعليه‌السلام ؛ لاحتفافها بمصائب يرقّ لها قلب العدوّ الألد، فضلاً عن الموالي المشايع لهم، المعترف بما لهم من خلافة مغتصبة.

فأراد الأئمّةعليهم‌السلام أن تكون شيعتهم على طول السّنة، ومرّ الأيام غير غافلين عمّا عليه السّلطة الغاشمة من الإبتعاد عن النّهج القويم؛ فحمّلوهم على المثول حول مرقد سيّد شباب أهل الجنةعليه‌السلام في مواسم خاصّة وغيرها، فإنّ طبع الحال قاضٍ بأنّهم في هذا المجتمع يتذاكرون تلك القساوة التي استعملها الاُمويّون؛ من ذبح الأطفال، وتسفير حرم الرسالة من بلد لآخر:

١٠٥

مـغلولة الأيدي إلى الأعناقِ

تُسبى على عجف من النياقِ

حـاسرة الـوجه بغير برقعِ

لا سترَ غير ساعدٍ وأذرعِ (١)

وإنّ الحميّة والشهامة تأبى لكلّ أحد أن يخضع لمن أتى بهذا الفعل الشنيع مع كلّ أحد، فضلاً عن آل الرسول الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فتحتدم إذ ذاك النّفوس، وتثور العاطفة، ويحكم على هؤلاء الأرجاس بالمروق عن دين الإسلام. وطبعاً هذا الداعي في سيّد الشهداءعليه‌السلام ألزم من غيره من الأئمّةعليهم‌السلام ؛ لاشتمال قضيّته على ما يرقق القلوب، ومن هنا اتخذه المعصومونعليه‌السلام حُجّة يصولون بها على أعدائهم، فأمروا شيعتهم بالبكاء تارة، والإحتفال بأمره - بأيّ نوع كان - تارة اُخرى، وزيارته ثالثة، إلى غير ذلك؛ ممّا ترك الاُمّة حسينيّة الذكر كما أنّها حسينيّة المبدأ، ولا تلفظ نفسها الأخير إلا وهي حسينيّة المنتهى.

وإنّ دعاء الإمام الصادقعليه‌السلام في سجوده، الذي يرويه معاوية بن وهب ممّا يبعث إلى القلوب نوراً، وللعقيدة رسوخاً، وللنفوس ارتياحاً، ويوقفنا على أسرار غامضة ممّا تأتي بها الاُمّة من هذه الأعمال.

قالعليه‌السلام وهو ساجد:

«اللهمّ، يا من خصَّنا بالكرامة، ووعدنا بالشفاعة، وخصّنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر جدّي الحسين، الذين أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم رغبةً في بِرنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيّك، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا؛ أرادوا بذلك رضاك فكافئهم عنّا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنّهار، وأخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف، وأصحبهم، واكفِهم شرَّ كلِّ جبّار عنيد، وكلّ ضعيف من خلقك وشديد، وشرّ شياطين الإنس والجنّ.

وأعطهم أفضل ما أملوه في غربتهم عن أوطانهم.

وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.

____________________________

(١) من اُرجوزة للحُجّة الشيخ هادي كاشف الغطاءقدس‌سره .

١٠٦

اللهمّ، إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم إلينا، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا؛ خلافاً منهم على ما خالفنا.

اللهم، ارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس.

وارحم تلك الخدود التي تقلّبت على حفرة أبي عبد الله الحسين.

وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا.

وارحم تلك القلوب التي جزعت، واحترقت لنا.

وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا.

اللهمّ، إنّي استودعك تلك الأنفس والأبدان حتّى توفيهم على الحوض يوم العطش الأكبر» .

ولما استكثر معاوية بن وهب هذا لزوّار الحسين، قال له الإمام الصادقعليه‌السلام :«إنّ مَن يدعو لزوّار الحسين في السّماء، أكثر ممّن يدعو لهم في الأرض» (١) .

وهذا الدعاء من إمام الاُمّة اشتمل على أحكام جليلة، ومزايا لا يقف عليها إلا من استضاء بنورهم، واعتصم بحبل ولايتهم. فمن ذلك؛ رجحان البكاء، والجزع والصراخ لِما أصاب المعصومين من أهل البيتعليهم‌السلام . والصرخة كما نص عليها علماء اللغة: هي الصيحة الشديدة عند الفزع والمصيبة(٢) . وحيث لم تخص في الدعاء بما إذا وقعت في الدور، كان الاطلاق شاملاً لمحبوبيتها في كلّ حال؛ سواء وقعت في الشوارع، أو المشاهد، أو غيرهما من رجال أو نساء.

ومنها مسح الخدود على القبر الأطهر، ولا يقتضي التخصيص بقبر الحسينعليه‌السلام ، فإن رواية الشيخ الطوسي في التهذيب ج ١ ص ٢٠٠ في الصلاة على القبور، عن محمّد بن عبد الله الحميري قال: كتبت إلى الفقيه أسأله عن الرجل يزور القبور، إلى أن قال في التوقيع: أمّا السّجود على القبر، فلا يجوز في نافلة ولا فريضة، بل يضع خدّه الأيمن على القبر(٣) . وعمومه شامل لرجحان وضع الخدّ عند كل قبر من قبور المعصومينعليهم‌السلام .

____________________________

(١) رواه الكليني في الكافي ٤ / ٥٨٢ - ٥٨٣، وابن قولويه في كامل الزيارات / ١١٦، والصدوق في ثواب الأعمال / ٥٤.

(٢) تاج العروس ٣ / ٦٦، مادة صرخ.

١٠٧

إيثارهمعليهم‌السلام

وممّا أرشدنا إليه هذا الدعاء، محبوبيّة ما تفعله الشيعة من بذل الأموال؛ لإحياء أمر أئمّتهمعليهم‌السلام في العزاء والمواليد وغيرهما، وإيثارهم بذلك على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.

وغير بعيد عنك معنى الإيثار، فإنّه: ترجيح الغير على النّفس، إمّا بسد خلّته، أو لتأييده في بلوغ اُمنيته، أو لتكريمه. وهو من الخصال الحميدة المنبعثة عن كرم الطباع، ودماثة الأخلاق، وطيب العنصر. وقد مدح سبحانه وتعالى المتّصفين به، فقال: ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (١) ، وهي الحاجة والفقر وسوء الحال(٢) .

ولا إشكال في أنّ مَن اُريد إيثاره، إذا كان جامعاً لموجباته يكون الإيثار فيه آكد، وأنت إذا أمعنت البصيرة في ذوي الفضائل، لا تجد من هو أحقّ بالإيثار من (عترة الوحي)؛ لِما منحهم الباري سبحانه من المرتبة الفاضلة، ومبوَّءاً من الرفعة لا يسامى، وأيادٍ على الاُمّة لابدّ أن تكافأ، وحقوقاً واجبة لا محيص عن أدائها.

فأيّ مُوالٍ لهم لا يؤثرهم على نفسه وأهله وقرباه، وهو يذعن بأنّ الأئمّة أسباب الفيوض الإلهيّة، وهم المعلّمون بالشريعة، وكلّ ما في السّعادة للإنسان، وفوزه بالرقي من أخلاق فاضلة، وسياسة حقّه، وأحكام اجتماعيّة، وتعاليم كافلة للنجاح، مع ما لأئمّة الدِّين من جهود جبّارة، دون انتشال الاُمّة إلى ساحل النّجاة، وإنقاذها من غمرات الهلكة حتّى أنّهمعليهم‌السلام آثروا ذلك بالحياة السّعيدة، فضحّوا بنفوسهم؛ لتقف الاُمّة على المحجّة، أو ليدرأ عنها العذاب.

كما في حديث الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام أنّه وقى بنفسه دون شيعته(٣) مع

____________________________

(١) سورة الحشر / ٩.

(٢) تاج العروس ٤ / ٣٨٧.

(٣) الحديث في أصول الكافي بهامش مرآة العقول ١ / ١٨٩، ونصه:«قال موسى بن جعفر عليه‌السلام : إنّ الله غضب على الشيعة فخيّرني نفسي أو هم، فوقيتهم والله بنفسي» . قال المجلسيرحمه‌الله : «لعل الغضب إنما هو لأجل تركهم التقية حتّى انتشر أمر إمامته، فتردد الامر بين أن يقتلهم الرشيد، أو يحبس الإمام ويقتله، فاختار البلاء لنفسه، ووقى بذلك شيعته». =

١٠٨

حبّهم المتواصل لشيعتهم حتّى كانوا يترحمون عليهم كلّ صباح ومساء، ويفرحون عند فرحهم، كما يحزنون عند حزنهم، لأنّهم من فاضل طينتهم، وهم أوراق تلك الدوحة الطيبة، التي أصلها ثابت وفرعها في السّماء.

وقد ورد في دعاء الحُجّة عجّل الله فرجه:«اللهمّ، إنّ شيعتنا خلقوا من شعاع أنوارنا، وبقيّة طينتنا، وقد فعلوا ذنوباً كثيرة؛ إتكالاً على حبّنا وولايتنا. فإنْ كانت ذنوبهم فيما بينك وبينهم، فاصفح عنهم، فقد رضينا. وما كان منها فيما بينهم، فاصلح بينهم، وقاص بها عن خمسنا، وأدخلهم الجنة، وزحزحهم عن النّار، ولا تجمع بينهم وبين أعدائنا في سخطك» (١) .

وإني لا أراك - والحالة هذه - تجد في شريعة الحقوق، أو يلتاح لك في منهج الوفاء، أو يجوز لك دافع المروءة أنْ تتقاعس عن مواساة آل الرسالة بإيثارهم على نفسك وأهلك في كلّ غالٍ ورخيص، إلا أنّ تسف إلى هوة الضِعة، وتدعها رمية لنبال اللوم من ناحية العقل مرّة، ومن صوب الشريعة اُخرى، ومن جهة الشهامة ثالثة.

ولا ريب في رغبة الإمام الصادقعليه‌السلام بالإيثار؛ لإحياء أمرهم أجمع. نعرف ذلك من الالتفات الذي استعمله الإمام في الدعاء، فإنّه بعد أنْ دعا لزوّار الحسينعليه‌السلام بعطاء أفضل ما يأملونه، قالعليه‌السلام :«وما آثرونا به» . فلو أراد الإيثار في خصوص زيارة سيّد الشهداء، لقال: وما آثروه، فحيث عدل عن المفرد إلى الجمع، عُلم أنّ مراده بيان محبوبيّة الإيثار فيما يعود إليهم أجمع وإنْ كان الإيثار لزيارة قبر المظلومعليه‌السلام أشمل؛ لِما فيه من التذكير بهاتيك النّهضة المقدّسة. فكأنّ الماثل أمام الضريح الأطهر يشاهد نفسه واقعاً بين الصفّين؛

____________________________

= ولا غرابة فيه بعد أن حمّل الله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذنوب شيعة عليعليه‌السلام ، ثمّ غفرها لهم، كما في معاني الاخبار للصدوق / ١٠٠، وبحار الانوار٦ / ٢٥٠، باب المصافحة. وفي الروضة / ١٣٥ (ملحقة بعلل الشرايع): لم يزل أمير المؤمنينعليه‌السلام يدعو الله في غفران ذنوب شيعته. وفي بشارة المصطفى / ٢٧٤: كان الامام الصادقعليه‌السلام يقول:«إنّ حقوق شيعتنا علينا كثيرة» . وفي كامل الزيارات:«نحن نترحّم عليهم كلّ صباح ومساء» . وفي عيون المعجزات / ٧٦: قال الامام السجادعليه‌السلام لام فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر:«إنّي لأدعو لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة مئة مرّة؛ لأنّا نصبر على ما نعلم، ويصبرون على مالا يعلمون».

(١) جنة المأوى للنوري / ٢٨١، ملحق بالجزء الثاني عشر من البحار.

١٠٩

جحفل القداسة (حسين الهداية ورهطه)، وخميس الظلال (يزيد وأشياعه)، فيبصر موقف هؤلاء من الحقّ والنّزاهة، ومبوأ اُولئك من الباطل والرجاسة، فتحتدم بين أضالعه الخصلتان: الولاية والبراءة.

وغير خافٍ على البصير النيقد المراد من قول أبي عبد الله في دعائه المتقدم:«اللهمّ، إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم إلينا، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا؛ خلافاً منهم على مَن خالفنا» . فإنّهعليه‌السلام أراد تنشيط الشيعة في الدأب على مواساتهم؛ بتعظيم شعائرهم، وإقامة آثارهم، ونشر مآثرهم. وإنّ ما يقاسونه في هذا السّبيل من الأرزاء كلّه بعين الله تعالى، ورضا أوليائه الأطهار، وما يضرّهم - وهم على الحقّ - هزء المستهزئين. ولقد سخر اليهود بالأذان، كما سخر المشركون بالسّجود، فلم يثن من عزم المسلمين شيئاً، فمشوا على ذلك النّهج القويم، غير مبالين بعثرات غيرهم.

وما يضر المزدلفين إلى قبر أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، والمتزاحمين على إقامة الشعائر الحسينيّة سخريّة الجاهلين، الذين يقول فيهم الإمام الصادقعليه‌السلام :«والله، لحظهم أخطؤوا، وعن ثواب الله زاغوا، وعن جوار محمّد تباعدوا» .

ولما قال له ذريح المحاربي: إنّي إذا ذكرت فضل زيارة أبي عبد اللهعليه‌السلام ، هزأ بي ولدي وأقاربي. قالعليه‌السلام :«يا ذريح، دع النّاس يذهبون حيث شاؤوا، وكن معنا» (١) .

وقالعليه‌السلام لحمّاد:«بلغني أنّ اُناساً من أهل الكوفة، وقوماً آخرين من نواحيها يأتون قبر أبي عبد الله في النّصف من شعبان، فبين قارئ يقرأ القرآن، وقاصٍّ يقص، ومادح لنا، ونساء يندبنه» .

فقال حمّاد: قد شهدتُ بعض ما تصف.

فقالعليه‌السلام :«الحمد لله الذي جعل في النّاس مَن يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا يطعن عليهم، ويقبّحون ما يصنعون» (٢) .

إذاً فسخريّة المتباعدين عن أهل البيتعليه‌السلام ، المائلين عن إقامة هذه الشعائر لا

____________________________

(١) كامل الزيارات ص ١٤٣، الباب ٥١.

(٢) مزار البحار ص ١٢٤، كامل الزيارات ص ٣٢٥، الباب ١٠٨ الطبعة الأولى.

١١٠

يحطُّ من كرامة الآثار الموجبة لإحياء أمر الأئمةعليه‌السلام ، المحبوبة لهم. وقد استفادت منها الاُمّة آثاراً دنيويّة واُخرويّة.

وفي الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال لأمير المؤمنينعليه‌السلام :«إنّ حثالة من الناس يعيِّرون زوار قبوركم كما تُعيّر الزانية بزناها، اُولئك شرار اُمّتي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة» (١) .

قول الشعر فيهم

من الواضح الذي لا يرتاب فيه، إنّ نظم الشعر في أيّ أحدٍ تعريف به، وإحياء لذكره، وإقامة لأمره. فإنّ آثار الرجال مهما كبرت في النّفوس، وعظم أمرها قد يخمل ذكرها بمرور الزمن وتباعد العهد؛ فيغفل عن تلك المآثر، ويتناسى ما لها من أهميّة كبرى. ولمّا كان القول المنظوم أسرع تأثيراً في الإصاخة؛ لرغبة الطباع إليه، فتسير به الناس، وتلوكه الألسنة، وتتحفّظ به القلوب، وتتلقاه جيلاً بعد جيل، وتأخذه اُمّة بعد اُمّة، حفظ الأدب العربي كثيراً من قضايا الاُمم وسيرها وحروبها في الجاهليّة والإسلام.

فممّا قاله دعبل الخزاعي في بقاء الشعر مدى الأزمان:

إنّي إذا قلت بيتاً مات قائلُهُ

ومَن يُقال له والبيت لم يمتِ

وقال عروة بن اُذينة:

نُبّئْتُ أنَّ رجالاً خاف بعضهُم

شتمي وما كنت للأقوام شتّاما

فإن يكونوا براءً لا تطفْ بهم

مـنـه شكاةٌ ولا أسمعْهمُ ذاما

وإن يـجيئوا أقل قولاً له أثرٌ

باقٍ يعنّى قراطيساً وأقلاما(٢)

وبما أنّ ذكرى أهل البيتعليهم‌السلام قوام الدِّين، وروح الإصلاح، وبها تُدرس تعاليمهم، ويقتفى أثرهم، طفق الأئمّة المعصومونعليه‌السلام يحثّون مواليهم بنشر ما لهم

____________________________

(١) فرحة الغري لابن طاووس ص ٣١.

(٢) الموشح للمرزباني ص ٢٨٠ - ٢٨١.

١١١

من فضل كثير، وما جرى عليهم من المصائب، ولا قوه في سبيل إحياء الدِّين من كوارث ومحن؛ لأنَّ فيه حياة أمرهم. ورحم الله من أحيا أمرهم، ودعا إلى ذكرهم.

وقد تواتر الحثّ من الأئمّةعليه‌السلام على نظم الشعر فيهم، مدحاً ورثاء؛ بحيث عُدّ من أفضل الطاعات. وفي ذلك قالواعليهم‌السلام :«مَن قال فينا بيتاً من الشعر، بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة» . وفي آخر:«حتّى يؤيد بروح القُدُس» . وفي ثالث:«بنى الله له في الجنة مدينة، يزوره فيها كلُّ ملك مقرب، ونبيّ مرسل» (١) .

وقال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام للكميت لمّا أنشده قصيدته: (مَن لقلب متيم مستهام):«لا تزال مؤيداً بروح القُدُس» (٢) .

واستأذن الكميت على الامام الصادقعليه‌السلام في أيام التشريق ينشده قصيدته، فكبر على الإمام أنْ يتذاكروا الشعر في الأيام العظام، ولمّا قال له الكميت: إنّها فيكم، أنس أبو عبد اللهعليه‌السلام ، حيث إنّه من الذكر اللازم؛ لأنّ فيه إحياء أمرهم. ثمّ دعا بعض أهله فقرب، ثمّ أنشده الكميت فكثر البكاء، ولمّا أتى على قوله:

يُصيب به الرامون عن قوس غيرهم   فيا آخراً أسدى له الغيّ أولُ

رفع الإمام الصادقعليه‌السلام يديه، وقال:«اللهمّ، اغفر للكميت ما قدّم وأخّر، وما أسرّ وأعلن، واعطه حتّى يرضى» (٣) .

وأذن أبو جعفر الجوادعليه‌السلام لعبد الله بن الصلت أنْ يندبه، ويندب أباه الرضاعليه‌السلام .

وكتب إليه أبو طالب أبياتاً يستأذنه فيها في رثاء أبيه الرضاعليه‌السلام ، فقطع أبو جعفرعليه‌السلام الأبيات عنده، وكتب إليه:«أحسنت، وجزاك الله خيراً» (٤) . وقال أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام لسفيان بن مصعب:«أنشدني في الحسين» . وأمر بتقريب اُمّ فروة وعياله، فلمّا حضرن، قال سفيان: (فرو جودي بدمعك المسكوب)

____________________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام / ٥.

(٢) رجال الكشي / ١٣٦.

(٣) الأغاني ١٥ / ١١٨، معاهد التنصيص ٢ / ٢٧.

(٤) رجال الكشي / ٣٥٠.

١١٢

فصاحت اُمّ فروة وصِحنَ النساء. فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :«الباب الباب» . واجتمع أهل المدينة، فأرسل إليهم أبو عبد الله صبياً غشي عليه!(١) . وهذا من محاسن التورية، فلقد غشي على أطفالهم يوم الطفّ، وما أدري مَن عنى بالصبي!؟ أهو عبد الله الرضيع؟ أم عبد الله الأصغر ابن الإمام الحسينعليه‌السلام ، المذبوح بالسهم في حجر الحسينعليه‌السلام ؟ أم محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب؟.

ودخل جعفر بن عفان(٢) على الامام الصادقعليه‌السلام ، فقال له:«إنك تقول الشعر في الحسين وتجيده؟» . قال: «نعم». فاستنشده، فلمّا قرأ عليه، بكى حتّى جرت دموعه على خديه ولحيته، وقال له:«لقد شهدت ملائكة الله المقربون قولك في الحسين، وإنهم بكوا كما بكينا، ولقد اوجب الله لك الجنة» . ثمّ قالعليه‌السلام :«مَن قال في الحسين شعراً، فبكى وأبكى غفر الله له، ووجبت له الجنة» (٣) .

وجعفر هذا من رجال الشيعة المخلصين، أطراه علماء الرجال ووثقوه، وهو الذي ردّ على مروان بن أبي حفصة، القائل:

خلّوا الطريق لمعشر عاداتُهم

حـطم المناكب كلَّ يوم زحامِ

اُرضـوا بما قسم الأله لكم به

ودعـوا وراثة كلَّ أصيد حامِ

أنّـى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمامِ(٤)

فقال جعفر بن عفان:

لـم لا يـكـون وأنّ ذاك لكائنٌ

لـبـنـي البنات وراثة الأعمامِ

لـلـبـنت نصفٌ كاملٌ من ماله

والـعـمُّ مـتـروكٌ بـغير سهام

مـا لـلـطـليق وللتراث وإنما

صلّى الطليقُ مخافة الصمصامِ(٥)

ودخل جماعة على الإمام الرضاعليه‌السلام فرأوه متغيّراً، فسألوه عن ذلك. قال:«بتّ ليلتي ساهراً متفكّراً في قول مروان بن أبي حفصة» ، وذكر البيت المتقدّم.

____________________________

(١) روضة الكافي - الحديث ٢٦٣.

(٢) في الأغاني ٧ / ٨، وكذلك أيضاً في ٩ / ٤٥ أنه طائي.

(٣) رجال الكشي ص ١٨٧، وذكر له الخوارزمي في المقتل ٢ / ١٤٤ فصل ١٣ مقطوعتين في رثاء الحسين.

(٤) الأغاني ١٢ / ١٧.

(٥) الأغاني ٩ / ٤٥ طبعة ساسي.

١١٣

قال:«ثمّ نمتُ فإذا أنا بقائل قد أخذ بعضادة الباب وهو يقول» :

أنّـى يكون وليس ذاك بكائنٍ

لـلـمـشركين دعائمُ الإسلامِ

لبني البنات نصيبهم من جَدِّهمْ

والـعـمُّ مـتروكُ بغير سهامِ

مـا لـلطليق وللتراث وإنما

سجد الطليقُ مخالفة الصمصامِ

قـد كان أخبرك القرانُ بفضلهِ

فمضى القضاءُ به من الحكّامِ

إنَّ ابـنَ فـاطمة المنوَّهُ باسمهِ

حـاز الوراثةَ عن بني الأعمامِ

وبـقـى ابنُ نثلة واقفاً متردِّدا

يبكي ويُسعده ذوو الأرحامِ(١)

ومروان سرق المعنى ممّا قاله مولى لتمّام بن معبد بن العبّاس بن عبد المطّلب، معرّضاً بعبيد الله بن أبي رافع مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه أتى الحسن بن عليعليه‌السلام ، وقال: أنا مولاك. وكان قديماً يكتب لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال مولى تمّام:

جـحـدت بني العبّاس حقَّ أبيهمُ

فما كنت في الدعوى كريمَ العواقبِ

مـتـى كـان أولاد النّبي كوارثٍ

يحوز ويُدعى والداً في المناسبِ(٢)

ومروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة كان يهودياً، أسلم على يد مروان بن الحكم. وقيل: من سبي اصطخر، اشتراه عثمان بن عفان، وولاؤه لمروان. شهد يوم الدار مع مروان، ولمّا اُصيب مروان بن الحكم، حمله مولاه ابن أبي حفصة على عاتقه، وهو يجره ومروان يتأوه، فيقول له: اسكت، إن علموا بك قتلت. فأدخله بيت امرأة من عنزة، وداواه حتّى برئ، فأعتقه مروان، وشهد معه يوم الجمل، ومَرج راهط(٣) .

وغضب صالح بن عطية الأضجم من بيت مروان (أنّى يكون وليس ذاك بكائن)، فاتصل به يخدمه مدّة حتّى أنس به هو وأهله. حتّى إذا مرض ابن أبي حفصة، كان صالح ممرّضاً له، فلمّا خفّ مَن عنده، وبقي صالح وحده، وضع يده على حلقه فخنقه حتّى مات ومضى عنه، ولم يشكّ أهله به(٤) .

____________________________

(١) عيون أخبار الرضا / ٣٠٥، وذكر الطبرسي في الاحتجاج / ٢١٤ في أحوال موسى بن جعفرعليه‌السلام : أنه الذي سمع الهاتف.

(٢) طبقات الشعراء لابن المعتز / ١٥ نسخة التصوير.

(٣) الاغاني ٩ / ٣٤.

(٤) المصدر نفسه / ٤٦.

١١٤

وحسب الشاعر أنّ تترتّب على عمله البار هاتيك المثوبات الجزيلة، التي تشفُّ عن أنّ ما يصفه بعين الله سبحانه حتّى يبوئه لجليل سبحانه من الخلد حيث يشاء، وتزدان به غرف الجنان، ولا بُدعَ، فإنّه بهتافه هذا معدود من أهل الدعوة الإلهيّة، المعلنين بكلمة الحقّ وتأييد الدِّين؛ فهو بقوله الحقّ يرفع دعامة الأصلاح، وتُشيّد مبانيه، ويطأ نزعة الباطل بأخمص الهدى، ويقلع أشواكه المتكدّسة أمام سير المذهب، ويُلحِب طريقه الواضح.

ولم يعهد من الأئمّةعليهم‌السلام - مع تحفّظهم على التقيّة، وإلزام شيعتهم بها - تثبيط الشعراء عن المكاشفة في حقّهم، وإظهار باطل المناوئين مع أنّ في الشعراء مَن لا يقرّ له قرار، ولا يؤويه مكان؛ فرقاً من أعداء أهل البيتعليهم‌السلام لمحض مجاهرتهم بالولاء، والدعوة إلى طريقة آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ كالكميت ودعبل الخزاعي ونظرائهما، بل كانواعليهم‌السلام يؤكّدون ذلك بالتحبيذ، وإدرار المال عليهم، وإجزال الهبات لهم، وذكر المثوبات على عملهم هذا. وليس ذاك؛ إلا لعلمهم بأنّ المكاشفة في أمرهم أدخل في توطيد اُسس الولاية، وعامل قوي لنشر الخلافة الإلهيّة حتّى لا يبقى سمع إلا وقد طرقه الحقّ الصراح، ثمّ تتلقاه الأجيال الآتية، كلّ ذلك؛ حفظاً للدين عن الإندراس؛ ولئلا تذهب تضحية اُمناء الوحي في سبيله إدراج التمويهات.

ولولا نهضة اُولئك الأفذاذ من رجالات الشيعة للذبّ عن قدس الدِّين بتعريض أنفسهم للقتل؛ كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق، وميثم التمّار، وأمثالهم بما نال أهل البيت من أعدائهم، لَما عرفت الأجيال المتعاقبة موقف الأئمّةعليهم‌السلام من الدِّين، ولا ما قصده أعداؤهم من نشر الجور والضلال.

( أَفَمَن يَهْدِي إلى الحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدّي إِلا أَن يُهْدَى‏ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (١) .

مشكلة الخروج بالعيال

إنّ الكلمة الناضجة في وجه حمل الحسينعليه‌السلام عياله إلى العراق، مع علمه بما يقدم عليه ومَن معه على القتل، هي: أنّهعليه‌السلام لمّا علم بأنّ قتلتَه سوف تذهب ضياعاً لو لم

____________________________

(١) سورة يونس / ٣٥.

١١٥

يتعقبها لسان ذرب، وجنان ثابت يعرِّفان الاُمّة ضلال ابن ميسون، وطغيان ابن مرجانة باعتدائهما على الذريّة الطاهرة، الثائرة في وجه المنكر، ودحض ما ابتدعوه في الشريعة المقدّسة.

كما عرف (أبيّ الضيم) خوف رجال الدِّين من التظاهر بالإنكار، وخضوع الكلِّ للسلطة الغاشمة، ورسوف الكثير منهم بقيود الجور؛ بحيث لا يمكن لأكبر رجل الإعلان بفظاعة أعمالهم. وما جرى على ابن عفيف الأزدي، يؤكّد هذه الدعوى المدعومة بالوجدان الصحيح.

وعرف سيّد الشهداء من حرائر الرسالة الصبر على المكاره، وملاقاة الخطوب والدواهي بقلوب أرسى من الجبال؛ فلا يفوتهن تعريف الملأ، المغمور بالترهات والأضاليل نتائج أعمال هؤلاء المضلين، وما يقصدونه من هدم الدِّين، وأنّ الشهداء أرادوا بنهضتهم مع إمامهمعليه‌السلام - قتيل الحنيفيّة - إحياء شريعة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والعقائل من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنْ استعرت أكبادهن بنار المصاب، وتفاقم الخطب عليهن، وأشجاهنّ الأسى، لكنهنّ على جانب عظيم من الأخذ بالثأر، والدفاع عن قدس الدِّين.

وفيهنّ (العقيلة) ابنة أمير المؤمنين سلام الله عليها، التي لم يرعها الأسر وذلّ المنفى، وفقد الأعزاء وشماتة العدوّ، وعويل الأيامى وصراخ الأطفال وأنين المريض، فكانت تلقي خواطرها بين تلك المحتشدات الرهيبة، أو فقل بين المخلب والنّاب غير متلعثمة، وتقذفها كالصواعق على مجتمع خصومها. فوقفت أمام ابن مرجانة، ذلك الألد، وهي امرأة عزلاء ليس معها من حماتها حمي، ولا من رجالها ولي غير الإمام الذي أنهكته العلّة، ونسوة مكتنفة بها، بين شاكية وباكية، وطفل كظّه العطش، إلى اُخرى أقلقها الوجل، وأمامها رأس علّة الكائنات ورؤوس صحبه وذويه، وقد تركت تلك الأشلاء المقطّعة في البيداء تصهرها الشمس، والواحدة من هذه تهدّ القوى، وتبلبل الفكر.

لكن (ابنة حيدرة) كانت على جانب عظيم من الثبات والطمأنينة، فأفرغت عن لسان أبيها بكلام أنفذ من السّهم، وألقمت ابن مرجانة حَجراً، إذ قالت له:«هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل؛ فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم، فانظر لِمَن الفلج. ثكلتك اُمّك يابن مرجانة!» .

١١٦

وأوضحت للملأ المتغافل خبثه ولؤمه، وأنّه لن يرحض عنه عارها وشنارها، كما أنّها أدهشت العقول وحيّرت الفكر في خطبتها بكُناسة الكوفة، والنّاس يومئذ حيارى يبكون، لا يدرون ما يصنعون، وأنّى يرحض عنهم العار بقتلهم سليل النبوة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنة؟ وقد خاب السّعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وباؤوا بغضب من الله وخزي في الآخرة، ولعذاب الله أكبر لو كانوا يعلمون.

وبعد أنْ فرغت من خطابها اندفعت فاطمة ابنة الحسينعليه‌السلام بالقول الجزل، مع ثبات جأش وهدوء بال، فكان خطابها كوخز السّنان في القلوب، ولم يتمالك النّاس دون أنْ ارتفعت أصواتهم بالبكاء، وعرفوا عظيم الجناية والشقاء، فقالوا لها: حسبك يا ابنة الطاهرين، فقد احرقت قلوبنا وانضجعت نحورنا.

وما سكتت حتّى ابتدرت اُمّ كلثوم، زينب بنت علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فعرّفت الحاضرين عظيم ما اقترفوه، فولول الجمع وكثر الصراخ، ولم يرَ إذ ذاك أكثر باك وباكية(١) .

فهل يا ترى يمكنك الجزم بأنّ أحداً يستطيع في ذلك الموقف الرهيب، الذي تحفّه سيوف الجور أن يتكلّم بكلمة واحدة مهما بلغ من المنعة في عشيرته؟ وهل يقدر أحد أنْ يعلن بموبقات ابن هند وابن مرجانة غير بنات أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟ كلا. إنّ على الألسن أوكية، والأيدي مغلولة، والقلوب مشفقة.

على أنّ هذا، إنّما يقبّح ويستهجن إذا لمْ يترتّب عليه إلا فوائد دنيويّة مثارها رغبات النّفس الأمّارة، وأمّا إذا ترتّبت عليه فوائد دينيّة، أهمّها: تنزيه دين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا ألصقوه بساحته من الباطل، فلا قبح فيه عقلاً، ولا يستهجنه العرف، ويساعد عليه الشرع.

والمرأة، وإنْ وضع الله عنها الجهاد ومكافحة الأعداء، وأمرها سبحانه وتعالى أنْ تقرّ في بيتها؛ فذاك فيما إذا قام بتلك المكافحة غيرها من الرجال. وأمّا إذا توقّف إقامة الحقّ عليها فقط؛ بحيث لولا قيامها لدرست اُسس الشريعة، وذهبت

____________________________

(١) إقرأ الخطب الثلاثة في الاُمور المتأخرة عن الشهادة من هذا الكتاب.

١١٧

تضحية اُولئك الصفوة دونه أدراج التمويهات، كان الواجب عليها القيام به.

ولذلك نهضت سيّدة نساء العالمين الزهراءعليها‌السلام للدفاع عن خلافة الله الكبرى؛ حين اُخذ العهد على سيّد الأوصياء بالقعود، فخطبت في مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الخطبة البليغة في محتشد من المهاجرين والأنصار.

على أنّ الحسينعليه‌السلام كان على علم بإخبار جدّه الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ بأنّ القوم وإنْ بلغوا الغاية، وتناهوا في الخروج عن سبيل الحميّة، لا يمدّون إلى النّساء يد السّوء، كما أنبأ عنه سلام الله عليه بقوله لهنّ ساعة الوداع الأخيرة:«البسوا أزركم، واستعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النّعم والكرامة. فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم» .

هذا كلّه لو لم نقل بالإمامة لسيّد الشهداءعليه‌السلام . وأمّا مع الخضوع لناموس علم الإمام الشامل لِما كان ويكون، وسيره حسب المصالح الواقعيّة، وعصمته في أقواله وأفعاله، كما هو الحقّ الذي لا محيص عنه، فكان المحتّم علينا الإذعان بأنّ ما صدر منه ناشئ عن حِكَمٍ ربانيّة، ومصالح إلهيّة لا يتطرّق إليها الشكّ، وليس الواجب علينا إلا التصديق بجميع أفعاله، من دون أن يلزمنا العقل بمعرفة المصالح الباعثة على تلك الأفعال الصادرة منه. وهكذا الحال في كلّ ما وجب على المكلّفين، فإنّه لمْ يجب على العباد إلا التسليم والخضوع للمولى، من دون أنْ تعرف الأغراض الباعثة عليها. وهكذا الحال في العبيد مع مواليهم، فإنّ العقل لا يلزم العبد بأكثر من طاعة سيّده ومولاه حينما يأمره وينهاه.

نهضات العلويِّين

لقد كان من نتائج تلك النّهضة المقدّسة ومن ولائد ذلك (الفتح المبين) تطوّر في نظر العلويين نسباً أو مذهباً أو مَن أخذ لدعوته لوناً من الانتماء إلى آل محمّد، وإنْ كان مضمراً غير ما يتظاهر به، وكلٌ من هؤلاء لمْ يعدم التشييد لدعوة الحقّ، والوهن في دولة الباطل، وتعريف الاُمّة بأنّ لآل محمّد حقّاً مغتصباً،

١١٨

والواجب عليهم النّهوض لقطع اليد العادية.

فكانت تلكم الثورات المتتابعة باعثة إلى الأفئدة دواعي تحفّزها إلى تحرّي الرشد حتّى تقف على صراح الحقيقة.

كانت الاُمّة تعتقد أنّه ليس من المستطاع النّهوض في وجه ا لمستحوذين على أمر الاُمّة وإمرة المسلمين لقوّة سلطانهم، وإنّ القيام أمام السّلطة القاسية لا يعقب إلا فشلا، بل إنّ المحظور في الشريعة القاء النّفس في التهلكة من غير ما جدوى هنالك.

لكن سيّد الإباء والحميّة وسيّد شباب أهل الجنة أوحى إلى الملأ الدِّيني بصرخته في مشهد الطفّ التي لم يزل دويّ صداها في مسامع القرون والأجيال: إنّ الواجب في الشريعة الثورة أمام كلّ باطل، إذا لمْ يكن ما يدحره غيرها.

وإنّ في مستوى اليقين بلوغ الغاية المتوخّاة لِمَن يجعل طلب الحق عنوان نهضته، فإنّه إمّا أنْ يفوز النّاهض بالظفر أو مَن يتلوه في نهضته حتّى تتجسّد الأماني بالفتح المبين.

وهذا ما نراه من تعاقب النّهضات تجاه عبث الاُمويِّين بالشريعة المطهّرة، فكانت دعوة المختار هي ثارات لآل محمّد.

وقام زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام وولده يحيى داعيَين إلى الرضا من آل محمّد، وأظهر بقيّة الهاشميِّين التذمّر من خلفاء الجَور ووثبوا لسدّ سَيل الضلال الجارف.

وإنّ التأمّل في سِيَر المعصومين من آل الرسول، وما قيضهم المولى سبحانه له من كسح أشواك المنكر وإرشاد العباد إلى الطريقة المثلى تتجلّى له رغبتهمعليهم‌السلام في هاتيك المحتشدات الدامية، لأنّ الغاية المتوخّاة لهم إنّما هي تعريف الاُمّة أحقيّتهم بمنصب الرسول الأقدس، وإنّ الدافع لهم عن هذا الحق المجعول لهم من الباري عزّ اسمه مائل عن النّهج القويم، وهذا المعنى إنّما يتسرّب إلى الأدمغة وتلوكه الأشداق؛ بسبب هاتيك الثورات في مختلف الاصقاع لتتم الحُجّة على الاُمّة، فلا يسع أحداً الاعتذار بالجهل بالإمام المنصوص عليه من النّبي الأعظم.

١١٩

وإنّما نشاهد من بعض أئمّة الهدى الإنكار والتبرّي من العلويِّين وغيرهم الخارجين على خلفاء الجَور، فإنّما هو للتقيّة من السّلطة الغاشمة؛ كيلا تنسب إليهم الثورة فينالهم مالا يحمد عقباه.

نعم كان في الثائرين اُناس اتّخذوا مظلوميّة أهل البيت فخّاً يصطادون به البسطاء. فابن الزبير الذي كان يشيد بذكر الحسينعليه‌السلام والظلم الذي جرى عليه، لمّا حسب أنّه ملك الأمر تركه، فكان أشدّ المناوئين لأهل البيتعليهم‌السلام وأظهر ما انحنت عليه جوانحه.

فترك الصلاة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أربعين جمعة فقيل له في ذلك، قال: إنّ له أهل بيت سوء، إذا ذكرته، اشرأبت نفوسهم إليه وفرحوا بذلك، فلا اُحبّ أنْ اُقرّ أعينهم(١) .

ولقد جرّأه على ذلك معاوية بن أبي سفيان الذي يقول لمّا سمع المؤذّن يشهد بالرسالة: (... وإنّ أخا هاشم يصرخ باسمه في كلّ يوم خمس مرّات: أشهد أنَّ محمداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأيّ عمل يبقى مع هذا لا اُمّ لك، والله إلا دفناً دفنا)(٢) .

ولمّا سمع المأمون بهذا الحديث كتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر فأعظم النّاس ذلك وأكبروه واضطربت العامّة فاُشير عليه بالترك فأعرض عمّا كان عليه(٣) .

وأعطف عليه بني العبّاس الذين ملأوا الجَوّ هتافاً بالاستياء لِما أصاب آل محمّد يوم الطفّ، ولمّا حصلوا على الاُمنية، قلبوا لهم ظهر المجن وأبادوهم عن جديد الأرض، وكان موسى بن عيسى العباسي، صاحب الوقعة (بفخ) يقول: لو نازعنا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الأمر لضربنا خيشومه بالسّيف(٤) .

____________________________

(١) المقاتل لأبي الفرج ص١٦٥ ط ايران.

(٢) شرح النهج الحديدي ج٢ ص٥٣٧.

(٣) مروج الذهب ج٢ ص٣٤٣ آخر أخبار المأمون.

(٤) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج ص١٥٨ ط ايران.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437