مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)13%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243942 / تحميل: 10026
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٨١٦٣-٧٠-٧
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو الباهلي(١) : لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم، قال مسلمعليه‌السلام : من أنت؟ قال: أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، فقال له ابن عقيل: لاُمّك الثكل، ما أقساك وأفظّك، أنت ابن باهلة أولى بالحميم، ثمّ جلس وتساند إلى حائط القصر(٢) .

فبعث عمارة بن عقبة بن أبي معيط غلاماً له يُدعى قيساً(٣) فأتاه بالماء، وكلّما أراد أنْ يشرب، امتلأ القدح دماً، وفي الثالثة ذهب ليشرب فامتلأ القدح دماً وسقطت فيه ثناياه فتركه وقال: لو كان من الرّزق المقسوم لشربتُه.

وخرج غلام ابن زياد فأدخله عليه، فلم يسلِّم، فقال له الحرسي: ألا تسلِّم على الأمير؟ قال له: اسكت إنّه ليس لي بأمير(٤) ، ويقال أنّه قال: السّلام على من اتبع الهدى وخَشِي عواقب الردى وأطاع الملك الأعلى، فضحك ابن زياد وقال: سلَّمت أو لَمْ تسلِّم إنّك مقتول(٥) ، فقال مسلم: إنْ قتلتني فلقد قَتَل مَنْ هو شرّ منك مَنْ هو خيراً منّي، وبعد فإنّك لا تدع سوء القتلة ولا قبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك.

فقال ابن زياد: لقد خرجتَ على إمامك، وشققتَ عصا المسلمين، والقحت الفتنة، قال مسلم: كذبت إنّما شقّ العصا معاوية وابنه يزيد، والفتنة ألقحها أبوك، وأنا أرجوا أنْ يرزقني الله الشهادة على يد شرّ بريّته(٦) .

ثمّ طلب مسلم أنْ يوصي إلى بعض قومه فأذِن له ونظر إلى الجلساء فرأى عمر بن سعد، فقال له: إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، ويجب عليك نجح حاجتي وهي سرّ. فأبى أن يمكّنه من ذكرها، فقال ابن زياد: لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك، فقام معه بحيث يراهما ابن زياد، فأوصاه مسلم أنْ

____________________________

(١) في كامل ابن الأثير ٤ / ١٢٦ حوادث سنة (٧١ﻫـ): مسلم بن عمرو الباهلي، والد قتيبة، وفي تاريخ الطبري ٧ / ١٨٥ الطبعة الاُولى حوادث سنة (٧١ﻫـ): قتل مسلم بن عمرو الباهلي (بدير الجاثليق) وكان مع مصعب بن الزبير لمّا التقى مع جيش عبد الملك..

(٢) الارشاد للشيخ المفيد.

(٣) الطبري ٦ / ٢١٢: وعند المفيد: أنّ عمرو بن حريث بعث غلامه سليما فأتاه بالماء.

(٤) اللهوف / ٣٠، وتاريخ الطبري ٦ / ٢١٢.

(٥) المنتخب / ٣٠٠.

(٦) ابن نما / ١٧، ومقتل الحوارزمي ١ / ٢١١ الفصل العاشر.

١٦١

يقضي من ثمن سيفه ودرعه ديناً استدانه منذ دخل الكوفة يبلغ ستمئة درهم(١) ، وأنْ يستوهب جثّته من ابن زياد ويدفنها، وأنْ يكتب إلى الحسين بخبره. فقام عمر بن سعد إلى ابن زياد وأفشى كلّ ما أسرّه إليه فقال ابن زياد: لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن(٢) .

ثمّ التفت ابن زياد إلى مسلم وقال: أيهاً يابن عقيل، أتيت النّاس وهم جمع ففرّقتهم، قال: كلاّ، لستُ أتيتُ لذلك، ولكن أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعوا إلى حكم الكتاب.

قال ابن زياد: ما أنت وذاك أوَ لَمْ نكن نعمل فيهم بالعدل؟ فقال مسلم: إنّ الله لَيعلم إنّك غير صادق، وإنّك لتقتل على الغضب والعداوة وسوء الظنّ، فشمته

____________________________

(١) في الأخبار الطوال / ٢٤١: يبلغ ألف درهم.

(٢) الارشاد وتاريخ الطبري ج ٦ ص ٢١٢ وهذه الجملة التي هي كالمثل وردت في لسان أهل البيتعليهم‌السلام ، ففي الوسائل للحر العاملي ج ٢ ص ٦٤٣ باب ٩ عدم جواز ائتمان الخائن، روى الكليني مسنداً عن معمر بن خلاد قال سمعت أبا الحسنعليه‌السلام يقول كان أبو جعفرعليه‌السلام يقول: لم يخنك الأمين ولكن ائتمنت الخائن.

ثم انه لم تخف على شهيد القصر مسلمعليه‌السلام نفسية عمر بن سعد ولم يجهل دنس أصله ولكنه أراد ان يعرف الكوفيين مبلغه من المروءة والحفاظ كي لا يغتر به احد، وهناك سر آخر وهو ارشاد الملأ الكوفي إلى أن أهل البيتعليهم‌السلام وولاتهم لم يقصدوا الا الاصلاح ونشر الدعوة الإلهيّة وهذا الوالي من قبلهم لم يمد يده الى بيت المال وكان له ان يتصرف فيه كيف شاء غير انه قضى أيامه البالغة أربعاً وستين بالاستدانة وهكذا ينبغي أن تسير الولاة فلا يتخذون مال الفقراء مغنما... ولقد ذكرني هذا (الخائن) بقصة خالد القسري على كتمان السر لأنه من شيم العرب واخلاق الاسلام مع ما يحمله من المباينة لنبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وشتم سيد الأوصياء على المنابر وقوله فيه ما لا يسوغ لليراع ان يذكره وذلك أن الوليد بن عبد الملك أراد الحج فعزم جماعة على اغتياله وطلبوا من خالد المشاركة معه فأبى، فقالوا له اكتم علينا، فأتى خالد الوليد وقال له دع الحج هذا العام فاني خائف عليك قال الوليد من الذين تخافهم علي؟ سمّهم لي، فامتنع أن يسمهم وقال: اني نصحتك ولن اسمهم لك فقال اني ابعث بك الى عدوك يوسف بن عمر قال: وان فعلت فلن اسمهم فبعث به الى يوسف فعذبه ولم يسمهم فسجنه ثم وضع على صدره المضرسة فقتل سنة ١٢٦ هـ عن ستين سنة ودفن بناحية، وعقر عامر بن سهل الأشعري فرسه على قبره فضربه يوسف سبعمائة سوط ولم يرثه احد من العرب على كثرة أياديه عندهم الا ابا الشغب العبسي قال:

ألا ان خـير الـناس حـياً وهالكا

أسـير سـقيف عندهم في السلاسل

لـعمري لـقد عمرتم السجن خالداً

وأوطـأتـموه وطــأة الـمتثاقل

فان تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه

ولا تـسجنوا مـعروفه في القبائل

تهذيب ابن عساكر ج ٥ ص ٧٩.

١٦٢

ابن زياد وشتم علياً وعقيلاً والحسين(١) ، فقال مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتم، فاقض ما أنت قاض يا عدوّ الله(٢) .

فأمر ابن زياد رجلاً شامياً(٣) أنْ يصعد به إلى أعلى القصر ويضرب عنقه، ويرمي رأسه وجسده إلى الأرض، فأصعده إلى أعلى القصر، وهو يسبّح الله ويهلّله ويكبّره(٤) ويقول: اللهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا وكذبونا، وتوجه نحو المدينة وسلّم على الحسين(٥) .

وأشرف به الشامي على موضع الحذائين وضرب عنقه ورمى برأسه وجسده إلى الأرض(٦) ، ونزل مذعوراً، فقال له ابن زياد: ما شأنك؟ قال: رأيت ساعة قتله رجلاً أسود سَيِّء الوجه حذائي عاضّاً على إصبعه، ففزعتُ منه فقال ابن زياد: لعلّك دُهشت(٧) .

ثمّ أخرج هاني إلى مكان من السوق يُباع فيه الغنم وهو مكتوف، فجعل يصيح وآمذحجاه! ولا مذحج لي اليوم، وآمذحجاه! وأين منّي مذحج؟ فلمّا رأى أنّ أحداً لا ينصره جذب يده ونزعها من الكتاف وقال: أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يدافع رجل عن نفسه؟ ووثبوا عليه وأوثقوه كتافاً وقيل له: مدّ عنقك، فقال: ما أنا بها سخي، وما أنا بمعينكم على نفسي، فضربه بالسّيف مولى لعبيد الله ابن زياد تركي يُقال له رشيد، فلم يصنع فيه شيئاً فقال هاني: إلى الله المعاد اللهمّ إلى رحمتك ورضوانك، ثمّ ضربه اُخرى فقتله. وهذا العبد قتله عبد الرحمن بن الحصين المرادي رآه مع عبيد الله بـ (الخازر)(٨) .

وأمر ابن زياد بسحب مسلم وهاني بالحبال من أرجلهما في الأسواق(٩)

____________________________

(١) كامل ابن الأثير ٤ / ١٤ والطبري ٦ / ٢١٣.

(٢) اللهوف / ٣١.

(٣) مقتل الخوارزمي ١ / ٢١٣.

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٢١٣.

(٥) أسرار الشهادة / ٢٥٩.

(٦) ميثر الأحزان / ١٨.

(٧) مقتل الخوارزمي / ١ / ٣١٢، والملهوف.

(٨) تاريخ الطبري ٦ / ٢١٤.

(٩) المنتخب / ٣٠١، وفي تاريخ الخميس ٢ / ٢٦٦ عند ذكر أولاد أبي بكر: أمر معاوية ابن خديج بسحب محمّد بن أبي بكر في الطريق ويمرّوا على دار عمرو بن العاص؛ لعلمه بكراهيته لقتله، ثمّ أمر بإحراقه، فاُحرقت جثته بعد ان وضع في جوف حمار. =

١٦٣

وصلبهما بالكناسة منكوسين(١) ، وأنفذ الرأسين إلى يزيد، فنصبهما في درب من دمشق(٢) .

وكتب إلى يزيد: أمّا بعد، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه وكفاه مؤنة عدوّه، أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هاني بن عروة المرادي، وإنّي جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتّى استخرجتهما، وأمكن الله منهما فضربتُ أعناقهما، وبعثتُ إليك برأسيهما مع هاني بن أبي حيّة الوادعي الهمداني، والزبير بن الاروح التميمي، وهما من أهل السّمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ، فإنّ عندهما علماً وصدقاً وفهماً وورعاً، والسّلام.

وكتب يزيد إلى ابن زياد: أمّا بعد، فإنّك لَم تعد أنْ كنتَ كما اُحبّ، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت وصدقت ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرتَ فاستوص بهما خيراً، وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن علي قد توجّه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس على الظن، وخذ على التهمة(٣) ، وهذا الحسين قد ابتلي به زمانك من بين الأزمان وبلادك من بين البلدان، وابتليت

____________________________

= وفي كامل ابن الأثير ١١ / ١٥٣ حوادث سنة ٥٥٥، عليه مروج الذهب: لمّا قتل ظهير الدين ابن العطار أمر فوضعوا حبلاً في مذاكيره وسحبوه في الشوارع، و وضعوا في يده مغرفة فيها عذرة وفي يده الاُخرى وضعوا قلماً وهم يصيحون: وقّع لنا يا مولانا.

وفي مضمار الحقائق لصاحب حماة محمّد بن تقي الدين الأيوبي / ١٢: أنّ بعضهم قطع اُذنه وذلك في ١٥ ذي القعدة سنة (٥٧٥ﻫـ).

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢١، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢١٥: وهذه الفعلة لا يأتي بها إلاّ من خرج عن ربقة الإسلام، ولم يحمل أقلّ شيء من العطف والرقّة، وبمثلها صنع الحَجّاج بعبد الله بن الزبير، كما في أنساب الأشراف للبلاذري ٥ / ٢٦٨، وابن حبيب في المحبر / ٤٨١.

وفي مختصر تاريخ الدول لابن العبري / ١١٦: إن الملك نارون صلب فطرسا وبولسا منكوسين بعد أن قتلهما.

وفي حياة الحيوان مادة الكلب: إنّ ابراهيم الفزاري ضبطت عليه اُمور منكرة من الاستهزاء بالله والأنبياء فأفتى فقهاء القيروان بقتله وصلب منكساً ثم اُنزل واُحرق بالنّار.

وفي المحبر لمحمد بن حبيب / ٤٨١ طبعة حيدر آباد: صلب الحَجّاج بن يوسف عبدَ الله بن الزبير بمكة منكساً.

(٢) تاريخ أبي الفدا ١ / ١٩٠، والبداية لابن كثير ٨ / ١٥٧.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢١٤.

١٦٤

به من بين العمّال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعبد العبيد(١) فأمّا أنْ تحاربه أو تحمله إليَّ(٢) .

سقتك دماً يا ابن عم الحسين

مـدامع شـيعتك الـسافحة

ولا برحت هاطلات العيون

تـحـييك غـادية رائـحة

لانـك لـم تـروِ من شربة

ثـناياك فـيها غدت طائحة

رموك من القصر إذ اوثقوك

فهل سَلِمَت فيك من جارحة

وسـحـباً تُـجَرُّ بـأسواقهم

ألـست أمـيرهُمُ الـبارحة

أتـقضي ولم تبكك الباكيات

أمـالك في المصر من نائحة

لئنْ تقضِ نحباً فكم في زرود

عليك العشية من صائحة(٣)

السّفر إلى العراق

لمّا بلغ الحسين إنّ يزيد انفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمَّره على الحاج، و ولاّه أمر المَوسم، وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجد(٤) ، عزم على الخروج من مكّة قبل إتمام الحج، واقتصر على العمرة؛ كراهية أنْ تستباح به حرمة البيت(٥) .

____________________________

(١) مقتل العوالم / ٦٦، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٢.

(٢) مقتل الخوارزمي ١ / ٢١٥.

(٣) للسيّد باقر الهنديرحمه‌الله . لا يخفى أنّ الأقوال في يوم شهادة مسلم ثلاثة؛ الأول: يوم الثالث من ذي الحِجَّة ذكره في (الأخبار الطوال)، ويظهر من ابن طاووس في (اللهوف) موافقته فإنّه قال: توجّه الحسين من مكّة لثلاث مضين من ذي الحِجَّة ثمّ قال بعد ذلك، وكان خروجه من مكّة في اليوم الذي قتل فيه مسلم. الثاني: يوم الثامن من ذي الحِجَّة، ذكره الوطواط في (غرر الخصائص / ٢١٠) وهو الظاهر من (تاريخ أبي الفدا ٢ / ١٩)، و (تذكرة الخواص / ١٣٩) قالا: قتل مسلم لثمان مضين من ذي الحِجَّة (وتذكير العدد يراد منه الليلة). الثالث: يوم عرفة، نصّ عيه المفيد في (الارشاد)، والكفعمي في (المصباح)، وهو الظاهر من ابن نما في (مثير الأحزان)، و (تاريخ الطبري ٦ / ٢١٥)، و (مروج الذهب ٢ / ٩٠) قالوا: وكان ظهور مسلم بالكوفة يوم الثامن من ذي الحِجَّة، وقد قتل ثاني يوم خروجه. ويحكي المسعودي في (مروج الذهب) قولاً بخروجه يوم التاسع من ذي الحِجَّة، واذا كان قتله ثاني يوم خروجه تكون شهادته يوم الأضحى.

(٤) المنتخب / ٣٠٤ الليلة العاشرة.

(٥) ابن نما / ٨٩، وتاريخ الطبري ٦ / ١٧٧.

١٦٥

خطبتهعليه‌السلام في مكّة

وقبل أنْ يخرج قام خطيباً فقال:«الحمد لله وما شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله وصلّى الله على رسوله، خُطَّ الموت على ولد آدم مَخَطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيِّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلاة بين النّواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا اُجور الصابرين. لنْ تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده. ألا مَن كان فينا باذلاً مهجته موطِّناً على لقاء الله نفسَه فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إنْ شاء الله تعالى» (١) .

وكان خروجهعليه‌السلام من مكّة لثمان مضَين من ذي الحِجَّة، ومعه أهل بيته ومواليه وشيعته من أهل الحجاز والبصرة والكوفة الذين انضمّوا إليه أيام إقامته بمكّة وأعطى كلّ واحد منهم عشرة دنانير وجملاً يحمل عليه زاده(٢) .

محاولات لصرفه عن السّفر

وسأله جماعة من أهل بيته وغيرهم التريّث عن هذا السّفر حتّى يستبين له حال النّاس؛ خوفاً من غدر الكوفيّين وانقلاب الأمر عليه، ولكنّ (أبي الضيم) لمْ تسعه المصارحة بما عنده من العلم بمصير أمره لكلّ من قابله؛ لأنّ الحقائق كما هي لا تفاض لأيّ متطلب بعد تفاوت المراتب واختلاف الأوعية سعةً وضيقاً، فكانعليه‌السلام يُجيب كلّ واحدٍ بما يسعه ظرفه وتتحمّله معرفته.

فيقول لابن الزبير:«إنّ أبي حدّثني أنّ بمكّة كبشاً به تستحلّ حرمتها، فما اُحبّ أنْ أكون ذلك الكبش، ولَئن اُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أنْ اُقتل فيها (٣) ، وأيمَ الله لَو كنتُ في ثقب هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم، والله ليعتدنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت» .

____________________________

(١) اللهوف / ٣٣، وابن نما / ٢٠.

(٢) نفس المهموم / ٩١.

(٣) في تاريخ مكة للازرقي ٢ / ١٥٠: قال ذلك لابن عبّاس.

١٦٦

ولما خرج من عنده ابن الزبير قال الحسينعليه‌السلام لمَن حضر عنده:«إنّ هذا ليس شيء من الدنيا أحبّ إليه من أنْ أخرج من الحجاز، وقد عَلِمَ أنّ النّاس لا يعدلونه بي، فودّ أنّي خرجتُ حتّى يخلو له» (١) .

وأتاه محمّد بن الحنفيّة في الليلة التي سار الحسين في صبيحتها إلى العراق وقال: عرفتَ غدر أهل الكوفة بأبيك وأخيك، وإنّي أخاف أنْ يكون حالك حال من مضى، فأقم هنا فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه فقال الحسينعليه‌السلام :«أخافُ أنْ يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي تُستباح به حرمة هذا البيت» ، فأشار عليه ابن الحنفيّة بالذهاب إلى اليمن أو بعض نواحي البر، فوعده أبو عبد الله في النّظر في هذا الرأي.

وفي سَحَر تلك الليلة ارتحل الحسينعليه‌السلام ، فأتاه ابن الحنفيّة وأخذ بزمام ناقته وقد ركبها وقال: ألمْ تعدني النّظر فيما سألتك؟ قال:«بلى، ولكن بعد ما فارقتك أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: يا حسين اخرج، فإنّ الله تعالى شاء أنْ يراك قتيلاً»، فاسترجع محمّد، وحينما لَمْ يعرف الوجه في حمل العيال معه، وهو على مثل هذا الحال قال له الحسينعليه‌السلام :«قد شاء الله تعالى أنْ يراهنَّ سبايا» (٢) .

وكتب إليه عبد الله بن جعفر الطيّار مع ابنَيه عون ومحمّد: أمّا بعد، فإنّي أسألك الله لمّا انصرفت حين تقرأ كتابي هذا، فإنّي مُشفق عليك من هذا الوجه أنْ يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إنْ هلكتَ اليوم، اُطفئ نور الأرض، فإنّك عَلَمُ المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسّير، فإنّي في أثر كتابي، والسّلام.

ثم أخذ عبد الله كتاباً من عامل يزيد على مكّة عمرو بن سعيد بن العاص فيه أمان للحسين وجاء به إلى الحسين ومعه يحيى بن سعيد بن العاص وجهد أنْ يصرف الحسين عن الوجه الذي أراده فلَم يقبل أبو عبد اللهعليه‌السلام وعرَّفه أنّه رأى رسول الله في المنام وأمره بأمر لابدّ من انفاذه، فسأله عن الرؤيا، فقال:«ما حدّثتُ بها أحداً، وما أنا محدّث بها حتّى ألقى ربّي عزّ وجلّ» (٣) .

____________________________

(١) كامل ابن الأثير ٤ / ١٦.

(٢) البحار ١٠ / ١٨٤.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢١٩، وكامل ابن الأثير ٤ / ١٧، والبداية لابن كثير ٦ / ١٦٣.

١٦٧

وقال له ابن عبّاس: يابن العم، إنّي أتصبَّر وما أصبرُ، وأتخوَّفُ عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال. إنّ أهل العراق قوم غَدرٍ فلا تقربنَّهم. أقم في هذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز، وأهل العراق إنْ كانوا يريدونك - كما زعموا - فلينفوا عاملهم وعدوّهم ثمّ اقدم عليهم، فإنْ أبيتَ إلاّ أنْ تخرج، فسِر إلى اليمن، فإنّ بها حصوناً وشعاباً وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك فيها شيعة وأنتَ عن النّاس في عزلة، فتكتب إلى النّاس وترسل وتبثّ دعاتك، فإنّي أرجو أنْ يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية.

فقال الحسينعليه‌السلام :«يابن العم، إنّي والله لأعلم أنّك ناصح مشفق، وقد أزمعتُ على المسير» .

فقال ابن عبّاس: إنْ كنتَ سائراً فلا تسِر بنسائك وصبيتك، فإنّي لخائف أنْ تُقتل وهم ينظرون إليك، فقال الحسين:«والله، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرام المرأة» (١) .

توجيه لدواعي السّفر

هذه غاية ما وصل إليه إدراك من رغب في تريّث الحسينعليه‌السلام عن السّفر إلى العراق، وأبو عبد الله لَمْ تخفَ عليه نفسيّات الكوفيّين وما شيبت به من الغدر والنّفاق، ولكن ماذا يصنع بعد إظهارهم الولاء والانقياد له والطاعة لأمره؟ وهل يعذر أمام الاُمّة في ترك ما يطلبونه من الإرشاد والإنقاذ من مخالب الضلال وتوجيههم إلى الأصلح المرضي لربّ العالمين؟ مع أنّه لَمْ يظهر منهم الشقاق

____________________________

(١) كامل ابن الأثير ٤ / ١٦، وفي القاموس وتاج العروس: الفرام ككتاب دواء تضيق به المرأة المسلك او حب الزبيب تحتشي به لذلك، وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج لما شكا منه أنس بن مالك: يابن المستفرمة بعجم الزبيب. وكانت في احراح ثقيف سعة يتضيقن بعجم الزبيب.

والفرامة (ككتابة): هي الخرقة تحتشي بها المرأة عند الحيض كالفرام. وفيها يقول الشاعر:

وجدتك فيها كاُمّ الغلام   متى ما تجد فارماً تفترم

وفي مقاييس اللغة لابن فارس ٤ / ٤٩٦: أظنها غير عربية، وقال الخليل: ليست من كلام أهل البادية.

١٦٨

والخلاف، واعتذارهعليه‌السلام عن المصير إليهم بما جبلوا عليه من الخيانة كما فعلوا مع أبيه وأخيه يُسبّب إثارة اللوم من كلّ مَن يبصر ظواهر الأشياء، والإمام المقيض لهداية البشر أجلّ من أنْ يعمل عملاً يكون للاُمّة الحُجّة عليه، والبلاد التي أشار بها ابن عباس(١) وغيره لا منعة فيها، وما جرى من بسر بن أرطاة مع أهل اليمن تؤكّد وهنهم في المقاومة والضعف عن ردّ الباغي.

____________________________

(١) هذا شيء يجب أن ننبه له وهو أن ابن عباس لم يكن بالمنزلة العالية ليكون محلاً لتقي العلوم الغريبة كحبيب بن مظاهر ورشيد الهجري وعمر وبن الحمق وحجر بن عدي وكميل بن زياد وميثم التمار، فانهم كانوا على جانب كبير من التبصر في الامور ووصلوا الى حق اليقين، فلم يعبأوا بكل ما يجري عليهم من الفوادح والتنكيل لذلك لم يعدموا من امير المؤمنينعليه‌السلام الحبوة بايقافهم على الحوادث والملاحم وما تملكه الجبابرة والعلوم الغريبة!! نلمس ذلك من المحاورة الدائرة بين حبيب بن مظاهر وميثم التمار من اخبار كل منهما الآخر بما يجري عليه من القتل ونصرة أهل البيتعليهم‌السلام ، فكذبهما من لم يفقه الأسرار الالهية من بني اسد ولما جاء رشيد الهجري يسأل عنهما قيل له افترقا وكان من امرهما كذا وكذا فقال رحم الله ميثما لقد نسي انه يزداد في عطاء الذي يأتي برأس حبيب مئة درهم ثم ادبر! فقال القوم هذا والله اكذبهم، ولم تذهب الأيام حتى وقع كل ذلك! صلب ميثم بالقرب من دار عمرو بن حريث وقتل حبيب مع الحسينعليه‌السلام وقطع ابن زياد يدي رشيد الهجري ورجليه ولسانه كما أخبره أمير المؤمنينعليه‌السلام (راجع رجال الكشتئـ ص٥١ وما بعدها طبع الهند). وعلى هذا فابن عباس وغيره أقل رتبة من هؤلاء الافذاذ ومن شهداء الطف، مهما نعترف له بالموالاة الصادقة لأمير المؤمنين وولده الاطهار. فان حديثه مع ميثم التمار يرشدنا الى عدم بلوغه تلكم المنازل العالية التي حواها ميثم وأمثاله... ففي رجال الكشي ص ٥٤أن ابن عباس اجتمع مع ميثم بالمدنية، فقال ميثم سل يا ابن عباس ما شئت من تفسير القرآن فلقد قرأت تنزيله على امير المؤمنينعليه‌السلام فعلمني تأويله، فاخذ ابن عباس القرطاس ليكتب فقال له ميثم كيف بك لو رأيتني مصلوباً على خشبة تاسع تسعة أقربهم من المطهرة فتعجب ابن عباس من هذا العبد الاسدود المخبر عن الغيب، فرمى القرطاس وقال انك تكهن عليّ، فقال ميثم يا ابن عباس احتفظ بما سمعت مني فان يكن حقاً امسكته وان يكن باطلاً خرقته فكتب ابن عباس عن ميثم ما وعاه عن أمير المؤمنين من تفسير القرآن.

وعلى هذا فما يتحدث بن ابن الابار في تكملة الصلة ج٢ص٦٠٠طبع ثاني من أن ابن عباس كان يقول له فسرت (الحمد الله رب العالمين) على كنهم ما حملت ابل الأرض كتب تفسيرها لا نصيب له من الصحة وهو من موضوعات دعاة بني العباس، أرادوا به المقابلة لقول سيد الاوصياء المروي في احياء العلوم للغزالي ج١ ص ٢٦٠ (فصل القرآن الباب الرابع) في التفسير بالرأي، وعلم القلوب لابي طالب المكي ص٧٢ والاتقان للسيوطي ج٢ ص١٨٦ النوع ٢٨ فيما يرجع الى تفسير القرآن، والمحجة البيضاء للفيض الكاشاني ج١ ص٢٥١ في التفسير بالرأي: أن أمير المؤمنين قال لو شئت لا وقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب.

وفي سعد السعود لابن طاووس ص ٢٨٦ نقلا عن العلم اللدني للغزالي: انهعليه‌السلام قال: لو اذن الله لي ورسوله لشرحت ألف الفاتحة حتى يبلغ أربعين جملاً! وحكاه في البحار ج٩ ص٢٧٧ وص٤٦٣ طبع كمبني ولا غرابة ممن هو النقطة تحت باء البسملة! ففي مقدمة تفسير القرآن للشيخ محمد حسين الاصفهاني روى عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال: كل ما في القرآن في الحمد وكل ما في الحمد في البسملة وما في البسملة في الباء وما في الباء في النقطة، وانا النقطة تحتها.. وفي العنايات الرضوية تكلم في شرحه ص١١٩..

١٦٩

وبهذا يصرّح الشيخ الشوشتري أعلى الله مقامه فإنّه قال: كان للحسين تكليفان واقعي وظاهري:

أ - أمّا الواقعي الذي دعاه للإقدام على الموت وتعريض عياله للأسر وأطفاله للذبح مع علمه بذلك، فالوجه فيه: أنّ عتاة بني اُميّة قد اعتقدوا أنّهم على الحقّ وأنّ علياً وأولاده وشيعتهم على الباطل حتّى جعلوا سبّه من أجزاء صلاة الجمعة، وبلغ الحال ببعضهم أنّه نَسِي اللعن في خطبة الجمعة فذكره وهو في السّفر فقضاه. وبنوا مسجداً سمّوه (مسجد الذكر)، فلو بايع الحسين يزيد وسلّم الأمر إليه، لمْ يبقَ من الحقّ أثر، فإنّ كثيراً من النّاس يعتقد بأنّ المحالفة لبني اُميّة دليل استصواب رأيهم وحُسن سيرتهم، وأمّا بعد محاربة الحسين لهم وتعريض نفسه المقدّسة وعياله وأطفاله للفوادح التي جرت عليهم، فقد تبيّن لأهل زمانه والأجيال المتعاقبة أحقّيته بالأمر وضلال مَن بغى عليه.

ب - وأمّا التكليف الظاهري: فلأنّهعليه‌السلام سعى في حفظ نفسه وعياله بكلّ وجه، فلم يتيسّر له وقد ضيّقوا عليه الأقطار حتّى كتب يزيد إلى عامله على المدينة أنْ يقتله فيها، فخرج منها خائفاً يترقّب فلاذ بحرم الله الذي هو اَمنُ الخائف وكهف المستجير، فجدّوا في إلقاء القبض عليه أو قتله غيلةً ولو وُجِد متعلِّقاً بأستار الكعبة، فالتزم بأنْ يجعل احرامه عمرةً مفردةً وترك التمتّع بالحج، فتوجّه إلى الكوفة؛ لأنّهم كاتبوه وبايعوه وأكّدوا المصير إليهم؛ لإنقاذهم من شرور الاُمويّين، فألزمه التكليف بحسب ظاهر الحال إلى موافقتهم إتماماً للحُجّة عليهم؛ لئلاّ يعتذروا يوم الحساب بأنّهم لجأوا إليه واستغاثوا به من ظلم الجائرين، فاتّهمهم بالشقاق ولم يغثهم، مع أنّه لَو لَم يرجع إليهم فإلى أينَ يتوجه وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت؟ وهو معنى قولهعليه‌السلام لابن الحنفيّة:«لَو دخلتُ في جُحر هامة من هذه الهوام، لاستخرجوني حتّى يقتلوني» .

وقالعليه‌السلام لأبي هرّة الأسدي:«إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت» (١) .

____________________________

(١) الخصائص الحسينية / ٣٢ ط تبريز.

١٧٠

ولمْ يبق بمكّة أحد إلاّ حزن لمسيره، ولمّا أكثروا القول عليه أنشد أبيات أخي الأوس لمّا حذره ابن عمّه من الجهاد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

سأمضي فما بالموت عار على الفتى

إذا مـا نـوى حـقاً وجاهد مسلما

وواسـى الـرجال الصالحين بنفسه

وفـارق مـثبوراً وخـالف مجرما

ثم قرأ:( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ) (١)(٢) .

وسـامته أن يـنقاد لـلسلم ضارعا

لـديها ويـأبى العّز أن يضرع الحرُّ

فـقال ردي يا نفس من سورة الرَّدى

فـعند ورود الـضَّيم يـستعذب المرُّ

وحـفت بـه مـن آلـه خـير فتية

لـها يـنتمي الـمجد المؤثل والفخر

إذا هي سارت في دجي الليل أزهرت

وباهت سواري النجم اوجهها الزهر

بـكل كـميٍّ فـوق اجـردَ سـابح

يـتيه بـه فـي مـشيه الدلُّ والكبر

إذا خـفَّ فـي الـهيجاء وقْر بمتنه

بـنجدة بـأس فـاطمأنَّ لـه ظـهر

ويـلطم خـدَّ الأرض لـكنّ وجهها

بـنضح دم الأعـداء لا اللطم يحمرُّ

هـمُ الـقوم مـن عليا لويِّ وغالب

بـهم تـكشف الجلى ويستدفع الضرُّ

يـحيون هـنديَّ الـسيوف بـاوجه

وحـدُّ الـمواضي بـاسم الغر يفتر

يـلـفون آحــاد الالـوف بـمثلها

تـهلِّل مـن لـئلاء طـلعتها البشر

بـيومٍ بـه وجـه الـمنون مُـقطَّبٌ

إذا حـل مـن مـعقود راياتها نشر

إذا اسـودَّ يـوم الـنقع اشرقنَ بابها

لـهم اوجـه والـشوس ألوانها صفر

ومـا وقـفوا في الحرب إلا ليعبروا

إلى الموت والخطيِّ من دونه جسر

يـكرون والأبـطال نكصاً تقاعست

مـن الـخوف والآسـاد شيمتها الكرُّ

الـى أن ثَـووْا تحت العجاج بمعرك

هـو الحشر لا بل دون موقفه الحشر

ومـاتوا كـراماً تـشهد الحرب انَّهم

أُبـاة إذا ألـوى بـهم حـادث نكر

عـلهيم مـن الهنديِّ بيض عصائب

تـروق ومـن وشي الدّما حلل حمر

وعـاد أبـيُّ الـضَّيم بـين عـداته

ونـاصـره الـبتّار والارن الـمهر

فـغبَّر فـي يـوم الـكفاح بـاوجه

الـكتائب والآفـاق شـاحبة غـبر

____________________________

(١) سورة الأحزاب / ٣٨

(٢) تذكرة الخواص / ١٣٧: وأنشدها لمّا حذّره الحر من مخالفة بني اُمية.

١٧١

إذا نـظـمت حَــبَّ الـقـلوب قـناتهُ

فـلـلسيف فـي أعـناق أعـدائه نـثر

فـلا الـوتر وتـر حـين تقترع الظبى

ولا الـشفع شـفع حـين تـشتبك السمر

ولـو شـاء أن يـفني الاعـادي لزلزل

الـوجـود بـهم لـكنما قـضي الأمـر

وآثـر أن يـسعى إلى الـموت صابرا

ونـفس أبـيِّ الـضيم شـيمتها الـصبر

فـأضحى عـلى الرمضاء شلواً تناهبت

حـشـاه الـعـوالي والـمـهندة الـبتر

قـضى بـين أطـراف الأسَّـنة ظـامياً

بِـحَرِّ حـشى مـن دون غـلتها الـجمر

فـلـهفي عـليه فـوق صـالية الـثرى

عـلى جـسمه تـجري المسومة الضمر

أبــا حـسـن شـكوى الـيك وانـها

لـواعجُ أشـجان يـجيش بـها الـصدر

أتـدري بـما لاقـت مـن الكرب والبلا

ومـا واجـهت بـالطفَّ أبـناؤك الـغر

أُعـزيـك فـيـهم انـهم وردوا الـردى

بـأفـئدة مــا بــل غـلَّـتها قـطر

وثـاويـنَ فـي حـر الـهجيرة بـالعرا

عـليهم سـوافي الـريح بـالترب تنجرُّ

مـتـى أيـها الـموتور تـبعث غـارة

تـعيد الـعدى والـبر مـن دمـهم بحر

أتـغضي وأنـت الـمدرك الثار عن دم

بـرغم الـهدى أضـحى ولـيس له وتر

وتـلـك بـجنب الـطَّف فـتيان هـاشم

ثَـوَتْ تـحت أطـراف الـقنا دمها هدر

فــلا صـبر حتّى تـرفعوها ذوابـلا

مـن الـخطِّ لا يـلوي بـخرصانها كسر

وتـقـتـدحوها بـالـصوارم جــذوة

من الحرب يصلى جمرها الجحفحل المجر

وتـبـتعثوها فــي الـمغار صـوأهلا

مـن الـخيل مـقروناً بـأعرافها النصر

فـكـم نـكـأت مـنـكم أمـية قـرحة

إلى الـحشر لا يأتي على جرحها السبر

فـمِـنْ صـبـية قـد ارضـعتها أمـية

ضــروع الـمـنايا والـدماء لـها درُّ

فـها هـي صـرعى والـسهام عواطف

حـنـواً عـليها والـرمال لـها حـجر

ومـن حُـرَّة بـعد الـمقاصير أصبحت

بـمـقفرة كـالـجمر يـوقـدها الـحرُّ

وزاكـية لـم تـلف فـي الـنوح مسعداً

سـوى انـها بـالسوط يـزجرها زجـر

ومـذعـورة أضـحـت وخـفاق قـلبها

تـكـاد شـظـاياه يـطير بـها الـذعر

ومـذهولة مـن دهـشة الـخيل ابرزت

عـشـيَّة لا كـهـف لـديها ولا خـدر

تـجـاذبها أيــدي الـعـدو خـمارها

فـتـستر بـالايـدي اذا أعـوز الـسِّتر

ســرت تـتـراماها الـعداة سـوافراً

يـروح بـها مـصر ويـغدو بها مصر

ربـيـبات خـدر أيـن مـنهنَّ خـطّة

الـموامي ولا يـدرينَ ما السهل والوعر

١٧٢

تـطوف بـها الأعـداء فـي كـل مَهمَهٍ

فـيـجذبها قـفـر ويـقـذفها قـفر(١)

التنعيم

وسار الحسين من مكّة ومرّ بالتنعيم(٢) ، فلقى عيراً عليها وَرَس وحلل أرسلها إلى يزيد بن معاوية واليه على اليمن، بحير بن يسار الحميري، فأخذها الحسينعليه‌السلام وقال لأصحاب الإبل:«مَن أحبّ منكم أنْ ينصرف معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنّا صحبته، ومَن أحبّ المفارقة أعطيناه من الكراء على ما قطع من الأرض»، ففارقه بعضهم ومضى مَن أحبّ صحبته(٣) .

وكان الحسينعليه‌السلام يرى أنّ هذا ماله الذي جعله الله تعالى له يتصرّف فيه كيف شاء؛ لأنّه إمام على الاُمّة منصوب من المهيمن سبحانه، وقد اغتصب يزيد وأبوه حقّه وحقّ المسلمين، فكان من الواجب عليه أنْ يحتوي على فَيء المسلمين لينعش المحاويج منهم، وقد أفاض على الأعراب الذين صحبوه في الطريق ورفعوا إليه ما مسّهم من مضض الفقر، غير أنّ محتوم القضاء لَم يمكّن سيّد شباب أهل الجنّة من استرداد ما اغتصبه الجائرون من أموال اُمّة النّبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنْ ارتفعت بتضحيته المقدّسة عن البصائر حجب التمويه، وعرفوا ضلال المستعدين على الخلافة الإلهيّة.

____________________________

(١) للحجة السيد محمّد حسين الكيشوان، طبِعت في مثير الأحزان للعلامة الشيخ شريف الجواهري.

(٢) في معجم البلدان ٢ / ٤١٦: التنعيم (بالفتح ثم السكون وكسر العين المهملة وياء ساكنة وميم موضع): بمكة في الحل على فرسخين من مكة؛ وسمى به لأنّ عن يمينه جبل اسمه نعيم، وآخر عن شماله اسمه ناعم، والوادي نعيمان وبه مساجد.

وفي العقد الثمين في فضائل البلد الأمين لأحمد بن محمّد الخضراوي /٦٠، الفصل الثالث، الطبعة الثانية: التنعيم يبعد عن مكة ثلاثة أو أربعة أميال.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢١٨، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٢٠، والبداية ٨ / ١٦٦، والارشاد للشيخ المفيد، ومثير الاحزان لابن نما / ٢١.

وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤ / ٣٢٧ الطبعة الاُولى بمصر: وإنّ هذا المال الذي أخذه الحسين حمل إلى معاوية بن أبي سفيان وإنّ الحسين كتب إلى معاوية:«أنّ عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحللاً وعنبراً إليك لتودعه في خزائن دمشق وتعل بها بعد النهل بني أبيك، وإنّي احتجت إليها فأخذتها» . فكتب إليه معاوية وفيه: إنّك أخذت المال ولَم تكن جديراً به بعد أن نسبته إليّ؛ لأنّ الوالي أحق بالمال، ثمّ عليه الخرج. وأيم الله لو ترك ذلك حتّى صار إليّ لم أبخسك حظّك منه، ولكن في رأسك نزوة، وبودّي أن يكون ذلك في زماني فأعرف قدرك وأتجاوز عنك، ولكنّي والله لأتخوّف أن تبلى بمن لا ينظرك فواق ناقة.

١٧٣

الصفاح

وفي الصفاح لَقِي الحسينعليه‌السلام الفرزدق بن غالب الشاعر، فسأله عن خبر النّاس خلفه، فقال الفرزدق: قلوبهم معك والسيوف مع بني اُميّة، والقضاء ينزل من السماء. فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :«صدقت لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا في شأن، إنْ نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وان حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته» ، ثمّ سأله الفرزدق عن نذور ومناسك، وافترقا(١) .

ويروى عن الفرزدق أنّه قال: خرجت من البصرة اُريد العمرة فرأيتُ عسكراً في البرية، فقلتُ: عسكر من؟ قالوا عسكر حسين بن علي، فقلتُ: لأقضينّ حقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأتيته وسلّمت عليه، فقال:«مَن الرجل؟» قلت: الفرزدق بن غالب، فقال: هذا نسب قصير، قلت: أنت أقصر منّي نسباً أنت ابن بنت رسول الله(٢) .

ذات عرق

وسار أبو عبد اللهعليه‌السلام لا يلوي على أحد، فلقي في ذات عرق(٣) بُشْرَ

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢١٨، وكامل ابن الأثير ٤ / ١٦، والارشاد للمفيد.

وفي تذكرة الحفاظ للذهبي ١ / ٣٣٨: كانت ملاقاة الفرزدق معه بذات عرق.

وفي معجم البلدان: الصفاح: بين حنين وانصاب الحرم بسرة الداخل إلى مكة.

(٢) أنوار الربيع للسيد علي خان، باب التكرار / ٧٠٣.

(٣) في البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ٢ / ٣١٧: بين ذات عرق ومكة مرحلتان.

وفي الفروع لابن مفلح ٢ / ٢١٦: بينهما ليلتان، وسمي بجبل صغير فيه، كما في تاج العروس ٧ / ٨، وذات عرق عند أهل السنة ميقات أهل الشرق ومنه العراق وخراسان، و روايات الإمامية تحكي توقيت رسول الله للعراقيين العقيق، واستحسنه الشافعي في الام ٢ / ١١٨؛ لاعتقاده أنّ ذات عرق غير منصوص عليه، وإنّما وقّته عمر، كما في البخاري عن ابن عمر، وفي المغني لابن قدامة ٣ / ٢٥٧: عن ابن عبد البر الاحرام من العقيق أولى، وإنْ كان ذات عرق ميقات أهل الشرق أجمع، وفي فتح الباري ٣ / ٢٥٠: قطع الغزالي والرافعي والنووي والمدونة لمالك: أنّ ذات عرق غير منصوص، وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية أنّه منصوص.

وفي معجم البلدان ٦ / ١٩٩: يقع العقيق ببطن وادي ذي الحليفة، وهو أقرب منها إلى مكّة، واحتاط فقهاء الإماميّة بترك الاحرام من ذات عرق، وهو آخر العقيق.

١٧٤

ابن غالب وسأله عن أهل الكوفة قال: السيوف مع بني اُميّة والقلوب معك قالعليه‌السلام :«صدقت» (١) .

وحدّث الرياشي عمَّن اجتمع مع الحسينعليه‌السلام في أثناء الطريق إلى الكوفة يقول الراوي: بعد أنْ حججتُ انطلقتُ أتعسّف الطريق وحدي، فبينا أسير إذ رفعتُ طرفي إلى أخبية وفساطيط فانطلقتُ نحوها فقلتُ: لِمَن هذه الأخبية؟ قالوا: للحسين بن علي، وابن فاطمةعليهم‌السلام وانطلقتُ نحوه فإذا هو متّكئ على باب الفسطاط يقرأ كتاباً بين يدَيه فقلتُ: يابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأبي أنت واُمّي، ما أنزلك في هذه الأرض القفراء التي ليس فيها ريف ولا منعة؟ قالعليه‌السلام :«إنّ هؤلاء أخافوني، وهذه كتب أهل الكوفة وهم قاتلي، فإذا فعلوا ذلك ولَم يدعوا لله محرماً إلاّ انتهكوه، بعث الله إليهم من يقتلهم حتّى يكونوا أذلّ من فرام الأمة» (٢) .

الحاجر

ولما بلغ الحاجر(٣) من بطن الرمة كتب إلى أهل الكوفة جواب كتاب مسلم ابن عقيل وبعثه مع قيس بن مسهّر الصيداوي(٤) وفيه:«أمّا بعد، فقد ورد عليَّ

____________________________

(١) مثير الأحزان لابن نما / ٢١.

(٢) وفي البداية ٨ / ١٦٩:«حتّى يكونوا أذلّ من قرم الأمة» وفسّر القرم بالمقنعة، ولم أجد هذا التفسير في اللغة، والصحيح كما تقدّم (فرام الأمة) بالفاء الموحّدة: وهو عجم الزبيب، تضيّق به المرآة مسلكها.

(٣) في معجم البلدان: الحاجز ما يمسك الماء من شفة الوادي وفيه ٤ / ٢٩٠: بطن الرمة منزل لأهل البصرة إذا أرادوا المدينة، وفيه تجتمع أهل الكوفة والبصرة، وفي تاج العروس ٣ / ١٣٦: الحاجر مكان بطريق مكّة، وفي تاريخ الأدب العربي لعمر فروخ ١ / ١٩٥، بترجمة زهير بن أبي سلمى قال: الحاجر جنوب الرياض اليوم من أرض نجد. وفي معجم البلدان ٢ / ٢١٩: بطن الرمة (بتشديد الميم والراء) وادٍ معروف بعالية نجد. ونقل رضا كحالة في هامش كتاب جغرافية شبه جزيرة العرب ص٢٧٤ عن ابن دريد ان الرمة قاع عظيم بنجد تنصب فيه أوديه وعن ابن الاعرابي: الرمة طويلة عريضة تكون مسيرة يوم تنزل أعاليها بنو كلاب ثم تنحدر فتنزل عبس وغيرهم من غطفان ثم تنحدر فتنزل بنو اسد. وقال الاصمعي بطن الرمة واد عظيم يدفع عن يمين فلجع والدثينة حتى يمر بين أبانين الابيض والاسود وبينهما ثلاثة أميال ثم قال: الرمة تحييء من الغور والحجاز فأعلى الرمة لاهل المدينة وبني سليم ووسطها لبني كلاب وغطفان واسفلها لبني أسد وعبس ثم يقع في رمل العيون..

(٤) في روضة الواعظين لعلي بن محمّد الفتال النيسابوري / ١٥٢: يقال بعثه مع عبد الله بن يقطر، ويجوز أنّه أرسل اليهم كتابين أحدهما مع عبد الله بن يقطر والآخر مع قيس بن مسهر. وفي الاصابة ٣ / ٤٩٢ بعد أنْ ذكر نسب قيس قال: وكان مع الحسين لمّا قتل بالطف، وهو اشتباه؛ فإنّ ابن زياد قتله بالكوفة.

١٧٥

كتاب مسلم بن عقيل يخبرني باجتماعكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألتُ الله أنْ يُحسن لنا الصنع ويثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحِجّة، فإذا قدم عليكم رسولي، فانكمشوا في أمركم، فإنّي قادم في أيّامي هذه».

بعض العيون

وسار من الحاجر، وكان لا يمرّ بماء من مياه العرب إلاّ اتبعوه(١) ، فانتهى إلى ماء من مياه العرب عليه عبد الله بن مطيع العدوي، ولمّا عرف أنّ الحسين قاصد للعراق قال له: اُذكّرك الله يابن رسول الله وحرمة الإسلام أنْ تنتهك، اُنشدك الله في حرمة العرب، فوالله لئن طلبتَ ما في أيدي بني اُميّة ليقتلوك، ولئن قتلوك لا يهابوا أحداً بعدك. فأبى الحسين إلاّ أنْ يمضي(٢) .

الخزيمية

وأقامعليه‌السلام في الخزيمية(٣) يوماً وليلة فلمّا أصبح أقبلتْ إليه اُخته زينبعليها‌السلام وقالت: إنّي سمعتُ هاتفاً يقول:

ألا يـا عـينُ فاحتفلي بجهد

فمن يبكي على الشهداء بعدي

عـلى قـوم تـسوقهُمُ المنايا

بـمقدارٍ إلى انـجاز وعدِ

____________________________

(١) البداية لابن كثير ج٨ ص١٦٨.

(٢) ارشاد المفيد.

(٣) بضم اوله وفتح ثانيه نسبة إلى خزيمة بن حازم تقع بعد زرود للذاهب من الكوفة إلى مكة وما نذكره من ترتيب المنازل اخذناه من «معجم البلدان».

(٤) ابن نما ص٢٣.

١٧٦

زرود

ولما نزل الحسين في زرود(١) نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي(٢) ، وكان غير مشايع له، ويكره النّزول معه، لكنّ الماء جمعهم في المكان. وبينا زهير وجماعة على طعام صنع لهم إذ أقبل رسول الحسين يدعو زهيراً إلى سيّده أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فتوقّف زهير عن الإجابة غير أنّ امرأته دلهم بنت عمرو حثّته على المسير إليه وسماع كلامه(٣) .

فمشى زهير إلى الحسينعليه‌السلام ، وما أسرع أن عاد إلى أصحابه فرحاً قد أسفر وجهه وأمر بفسطاطه وثقله فحوِّل إلى جهة سيّد شباب أهل الجنّة، وقال لامرأته: الحقي بأهلك، فإنّي لا اُحبّ أنْ يصيبك بسببي إلاّ خير. ثمّ قال لمَن معه: مَن أحبّ منكم نصرة ابن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلاّ فهو آخر العهد.

ثمّ حدّثهم بما أوعز به سلمان الفارسي من هذه الواقعة فقال: غزونا بَلَنجَر(٤) ففتحنا وأصبنا الغنائم، وفرحنا بذلك، ولمّا رأى سلمان الفارسي(٥) ما نحن فيه من السرور قال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكونوا

____________________________

(١) في المعجم ممّا استعجم ٢ / ٦٩٦: (بفتح أوله وبالدال المهملة في آخره) وفي معجم البلدان ٤ / ٣٢٧: إنها رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة، وهي دون الخزيمية بميل وفيها بركة وحوض، وفيها وقعة يقال لها يوم زرود.

(٢) وفي جمهرة أنساب العرب لابن حزم / ٣٦٥، عند ذكر قبائل بجيلة قال: زهير بن القين بن الحارث بن عامر بن سعد بن مالك بن زهير بن عمرو بن يشكر بن علي بن مالك بن سعد بن تُزَين بن قسر بن عبقر بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. وفي صفحة ٣١٠ قال: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

(٣) اللهوف / ٤٠.

(٤) في معجم البلدان والمعجم ممّا استعجم: (بالباء واللام المفتوحتين والنون الساكنة والجيم المفتوحة والراء المهملة) مدينة الخزر عند باب الأبواب فتحت سنة ٣٣ على يد سلمان بن ربيعة الباهلي، ولم أجد فيهما ولا في غيرهما مدينة اُخرى تسمّى بلنجر إلاّ أنّ ابن حجر في الاصابة ٣ / ٢٧٤، القسم الثالث، ترجمة قيس بن فروة بن زرارة بن الأرقم قال: شهد فتوح العراق واستشهد في بلنجر من أرض العراق - ثمّ ذكر ضبطها كما تقدّم - قال: وكان أمير الوقعة سلمان بن ربيعة.

(٥) نصّ عليه الشيخ المفيد في الارشاد، والفتال في روضة الواعظين / ١٥٣، وابن نما في مثير الأحزان / ٢٣، والخوارزمي في المقتل ١ / ٢٢٥ الفصل الحادي عشر، وابن الأثير في الكامل ٤ / ١٧، والبكري في المعجم ممّا استعجم ١ / ٣٧٦، ويؤيّده ما في تاريخ الطبري ٥ / ٧٧، وابن الأثير في الكامل ٣ / ٥٠ من وجود سلمان الفارسي في هذه الغزوة.

١٧٧

أشدّ فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم من الغنائم. فأمّا أنا فأستودعكم الله(١) .

فقالت زوجته: خار الله لك وأسألك أنْ تذكرني يوم القيامة عند جدّ الحسينعليه‌السلام (٢) .

وفي زرود اُخبر بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، فاسترجع كثيراً وترحم عليهما مراراً(٣) وبكى، وبكى معه الهاشميّون وكثر صراخ النّساء حتّى ارتجّ الموضع لقتل مسلم بن عقيل وسالت الدموع كلّ مسيل(٤) .

فقال له عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل الأسديّان: ننشدك الله يابن رسول الله ألاّ انصرفت من مكانك هذا؛ فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر.

فقام آل عقيل وقالوا: لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا، فنظر إليهم الحسين وقال:«لا خير في العيش بعد هؤلاء» (٥) .

فـيا ابن عقيل فدتك النفو

س لـعظم رزيتك الفادحة

لِـنَبْكِ لـها بـمذاب القلو

ب فما قدر ادمعنا المالحة

وكـم طفلة لك قد اعولت

وجمرتها في الحشا قادحة

يـعززها السبط في حجره

لتغدو في قربه فارحة(٦)

تقول: مضى عمُّ مني أبي

فـمن لـيتيمته النائحة(٧)

ثـكول تبيت بليل اللسيع

تـعجُّ وعن دارها نازحة

وكـم مـن كميٍّ بأحشائه

تـركت زناد الاسى قادحه

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٢٤، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٢٢.

(٢) مثير الأحزان لابن نما / ٢٣، واللهوف / ٤٠، و ورد في تاريخ الطبري ٦ / ٢٢٤ الطبعة الاُولى: إنّ زهيراً قال لزوجته: أنت طالق، ألحقي بأهلك، فإنّي لا اُحبّ أنْ يلحقك بسببي إلا خيرا هـ. ولا أعرف الغاية المقصودة له من هذا الطلاق؟ هل أراد طردها من الميراث؟ أو أنّه أباح لها التزويج بعد انتهاء ثلاثة أشهر؟ أو أنّه لا يرغب في أن تكون زوجة له في الآخرة؟ كما طلّق أمير المؤمنينعليه‌السلام بعض نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وطلّق الإمام الرضاعليه‌السلام اُم فروة: زوجة الكاظمعليه‌السلام ؟ مع إنّ هذه الحرّة لها فضل عليه بإرشاده إلى طريق السّعادة بالشهادة، والذي يهون الأمر أن مصدر الحديث (السّدي).

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٩٩٥، وفي البداية لابن كثير ٨ / ١٦٨: استرجع مراراً

(٤) اللهوف / ٤١: ولمْ أقف على مصدر وثيق ينصّ على أنّ الحسين أخذ بنت مسلم المسمّاة حميدة ومسح على رأسها فأحسّت بالشرّ، إلى آخره.

(٥) كامل ابن الأثير ٤ / ١٧، وسِيَر أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٢٠٨.

(٦) من أبيات للشيخ قاسم الملا الحلّي ذُكرت في كتاب الشهيد مسلم / ٢١٠.

١٧٨

دربت ابن عمك يوم الطفو

ف نـعاك باسرته الناصحة

تـحفُّ بـه مـنهُمُ فـتية

صـباح واحسابهم واضحة

بكاك بماضي الشّبا والوغى

وجـوه الـمنايا بها كالحة

أقـام بضرب الطلى مأتماً

عليك وبيض الظبى نائحة

ونـادى عشيرتك الاقربين

خذي الثأر يا اسرة الفاتحة

وخاض بهم في غمار الحتو

ف ولـكنَّها بالظبى طائحة

وقـال لها: يا نزار النزال

فحربك في جِدِّها مازحة(١)

الثعلبية

وفي الثعلبيّة أتاه رجل وسأله عن قوله تعالى:( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (٢) فقالعليه‌السلام :« إمام دعا إلى هدى فأجابوا إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوا إليها، هؤلاء في الجنّة وهؤلاء في النّار، وهو قوله تعالى: ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) (٣)(٤) ».

وفي هذا المكان اجتمع به رجل من أهل الكوفة فقال له الحسين:«أما والله، لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل في دارنا ونزوله بالوحي على جدّي. يا أخا أهل الكوفة، من عندنا مستقى العلم، أفَعَلِموا وجهلنا؟! هذا ممّا لا يكون» (٤) .

وحديث بجير من أهل الثعلبية، قال مرّ الحسين بنا وأنا غلام فقال له أخي: يابن بنت رسول الله أراك في قلّة من النّاس، فأشار بالسّوط إلى حقيبة لرجل وقال:«هذه مملوءة كتباً» (٥) .

____________________________

(١) للشيخ محمّد رضا الخزاعي، راجع كتابنا الشهيد مسلم.

(٢) سورة الاسراء / ٧١.

(٣) سورة الشورى / ٧.

(٤) أمالي الصدوق / ٩٣: الثعلبية (بفتح أوله) سمي باسم رجل اسمه ثعلبة من بني أسد نزل الموضع واستنبط عيناً، وهي بعد الشقوق للذاهب من الكوفة إلى مكة، معجم البلدان.

وفي وفاء الوفاء للسمهودي ٢ / ٣٥: حمّى فيه ماء يقال له الثعلبية. وفي البلدان لليعقوبي / ٣١١ ملحق بالاعلاق النفسيّة لابن رسته، بالافست: الثعلبية مدينة عليها سور.

(٥) بصائر الدرجات للصفار / ٣، واُصول الكافي باب مستقى العلم من بيت آل محمّد.

(٦) سِيَر أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢٠٥.

١٧٩

الشقوق

وفي الشقوق(١) رأى الحسين رجلاً(٢) مقبلاً من الكوفة فسأله عن أهل العراق فأخبره أنّهم مجتمعون عليه فقالعليه‌السلام :«إنّ الأمر لله، يفعل ما يشاء، وربّنا تبارك هو كلّ يوم في شأن» ، ثمّ أنشد.

فـإنْ تـكن الـدنيا تُـعَدُّ نـفيسة

فـدار ثـواب اللـه أعـلى وانبل

وإنْ تـكن الأمـوال للترك جمعها

فـما بـال متروك به المرء يبخل

وإنْ تـكن الأرزاق قَـسْماً مـقدّراً

فقلّة حرص المرء في الكسب أجمل

وإنْ تـكن الأبـدان للموت أُنشئت

فقتل امرىء بالسيف في الله أفضل

عـليكم سـلام الله يـا آل أحـمد

فانِّي أراني عنكُمُ سوف أرحل(٣)

زُبالة

وفي زبالة اُخبر بقتل عبد الله بن يقطر الذي أرسله الحسين من الطريق إلى مسلم بن عقيل، فقبض عليه الحصين بن نمير في القادسيّة وسرّحه إلى عبيد الله بن زياد، فأمره أنْ يصعد المنبر ويلعن الكذّاب ابن الكذّاب، ولمّا أشرف على النّاس قال: أيّها النّاس أنا رسول الحسين بن فاطمة؛ لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة، فأمر به عبيد الله فاُلقي من فوق القصر، فتكسّرت عظامه وبقي به رَمَق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فلمّا عيب عليه قال: إنّما أردت أنْ اُريحه، وقيل الذي ذبحه رجل طوال يشبه عبد الملك بن عمير..

فأعلم بذلك النّاس وأذِنَ لهم بالانصراف، فتفرّقوا عنه يميناً وشمالاً، وبقي في أصحابه الذين جاؤا معه من مكّة وإنّما تبعه خلق كثير من الأعراب؛ لظنّهم أنّه يأتي بلداً أطاعه أهله، فكرهعليه‌السلام أن يسيروا معه إلاّ على عِلمٍ بما يقدمون

____________________________

(١) ابن شهر آشوب ٢ / ٢١٣: الشقوق (بالضم): منزل بعد زبالة للذاهب من الكوفة إلى مكة، هو لبني أسد فيه قبر العبادي (معجم البلدان).

(٢) سمّاه الخوارزمي في المقتل ١ / ٢٣٣: الفرزدق. وهو اشتباه.

(٣) لم يذكر الخوارزمي في المقتل ١ / ٢٢٣ البيت الخامس، وجعلها من إنشائهعليه‌السلام .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

روى أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام :«إنّ الحسين دخل على أخيه الحسن في مرضه الذي استشهد فيه فلمّا رأى ما به بكى، فقال له الحسن: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: أبكي لما صنع بك، فقال الحسن عليه‌السلام : إنّ الذي اُوتي إليَّ سمّ اُقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد ازدلف إليك ثلاثون ألفاً يدَّعون أنّهم من اُمّة جدّنا محمّد وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني اُميّة اللعنة، وتمطر السّماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار» (١) .

وكتب ابن زياد إلى ابن سعد: إنّي لَم أجعل لك علّة في كثرة الخيل والرجال، فانظر لا تمسي ولا تصبح إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشية. وكان يستحثّه على الحرب لست خلون من المحرم(٢) .

حشدت كتائبها على ابن محمّد

بـالطَّف حيث تذكَّرت آباءها

الله أكـبر يـا رواسي هذه الأ

رض البسيطة زايلي ارجاءها

يلقى ابن منتجع الصلاح كتائباً

عقد ابن منتجع السّفاح لواءها

ما كان أوقحها صبيحة قابلت

بـالبيض جبهته تريق دماءها

المشرعة

مـا بـلَّ أوجـهها الحيا ولو أنّه

قـطع الـصفا بلَّ الحيا ملساءها

مـن أيـن تـنجل أوجـهٌ اُمويّةٌ

سـكبت بـلذّات الفجور حياءها

قهرت بني الزهراء في سلطانها

واسـتأصلت بـصفاحها امراءها

مـلكت عليها الأمر حتّى حرَّمت

في الأرض مطرح جنبها وثواءها

____________________________

(١) أمالي الصدوق / ٧١ المجلس الثلاثون، وفي مطالب السؤول: إنّهم عشرون ألفاً. وفي هامش تذكرة الخواص: أنّهم مئة ألف. وفي تحفة الأزهار لابن شدقم: ثمانون ألفاً. وفي أسرار الشهادة / ٢٣٧: سنة آلاف فارس وألف ألف راجل. ولم يذكر أبو الفدا في تأريخه ٢ / ١٩٠: غير خروج ابن سعد في أربعة آلاف والحر في ألفين. وفي عمدة القارئ للعيني ٧ / ٦٥٦: كتاب المناقب كان جيش ابن زياد ألف فارس رئيسهم الحر، وعلى مقدمتهم الحصين بن نمير.

(٢) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠١، ومقتل محمّد بن أبي طالب.

٢٠١

ضـاقت بـها الدنيا فحيث توجَّهت

رأت الـحتوف امـامها ووراءهـا

فـاستوطأت ظـهر الحِمام وحوَّلت

لـلعزِّ عـن ظـهر الهوان وطاءها

طـلعت ثـنيّات الـحتوف بعصبة

كـان الـسيوف قضاءها ومضاءها

لـقلبوبها امـتحن الإلـه بـموقف

مـحضته فـيهِ صـبرها وبـلاءها

كـانت سـواعد آل بـيت محمّد

وسـيوف نـجدتها على من ساءها

كـره الـحمام لـقاءها فـي ضنكه

لـكـنْ أحــبَّ الله فـيه لـقاءها

فـثوت بـأفئدة صـواد لـم تـجد

ريـاً يـبلُّ سـوى الردى أحشاءها

وأراك تـنشىء يا غمام على الورى

ظـلا وتـروي مـن حياك ظماءها

وقـلـوب أبـناء الـنبي تـفطَّرت

عـطشاً بـقفر ارمـضت أشلاءها

وامضّ ما جرعت من الغصص التي

قـدحت بـجانحة الـهدى ايراءها

هـتك الـطغاة عـلى بـنات محمّد

حـجب الـنبوة خـدرها وخـباءها

فـتنازعت احـشاءها حرق الجوى

وتـجاذبت أيـدي الـعدوُّ رداءهـا

عـجـباً لـحلم الله وهـي بـعينه

بـرزت تـطيل عـويلها وبـكاءها

ويـرى مـن الـزفرات تجمع قلبها

بـيـد وتـدفع فـي يـد اعـداءها

مـا كـان اوجـعها لمهجة (أحمد)

وامـضَّ في كبد (البتولة) داءها(١)

وأنزل ابن سعد الخيل على الفرات فحموا الماء وحالوا بينه وبين سيّد الشهداء، ولَم يجد أصحاب الحسين طريقاً إلى الماء حتّى أضرّ بهم العطش، فأخذ الحسين فأساً وخطا وراء خيمة النّساء تسع عشرة خطوة نحو القبلة وحفر فنبعت له عين ماء عذب، فشربوا ثمّ غارت العين ولَم يرَ لها أثر، فأرسل ابن زياد إلى ابن سعد: بلغني أنّ الحسين يحفر الآبار ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه فانظر إذا ورد عليك كتابي، فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت وضيّق عليهم غاية التضيّيق. فبعث في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس ونزلوا على الشريعة(٢) ، وذلك قبل مقتل الحسين بثلاثة أيّام(٣) .

____________________________

(١) من قصيدة للسيّد حيدر الحلّي رضوان الله عليه.

(٢) نفس المهموم للمحدث القمي / ١١٦، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٤، ومقتل العوالم / ٧٨.

(٣) الطبري ٦ / ٢٣٤، وإرشاد المفيد، ومقتل الخوارزمي الجزء الأول، وكامل ابن الأثير ٤ / ٢٢.

٢٠٢

اليوم السّابع

وفي اليوم السّابع اشتدّ الحصار على سيّد الشهداء ومَن معه، وسُدّ عنهم باب الورود ونفد ما عندهم من الماء، فعاد كلّ واحد يعالج لهب العطش. وبطبع الحال كان العيال بين أنة وحنة وتضور ونشيج ومتطلّب للماء إلى متحر له بما يبلّ غلّته وكلّ ذلك بعين أبي علي والغيارى من آله والأكارم من صحبه، وماعسى أنْ يجدوا لهم شيئاً وبينهم وبين الماء رماح مشرعة وسيوف مرهفة، لكن ساقي العطاشى لَم يتطامن على تحملّ تلك الحالة.

أو تشتكي العطش الفواطم عنده

وبـصدر صعدته الفرات المفعم

ولَـو استقى نهر المجرّة لارتقى

وطـويـل ذابـله إلـيها سُـلَّم

لَـو سدَّ ذو القرنين دون وروده

نـسَفَته هـمَّته بـما هو أعظم

فـي كـفِّه اليسرى السّقاء يقلّه

وبـكفّه الـيُمنى الحسام المخذم

مـثل الـسّحابة للفواطم صوبه

فيصيب حاصبه العدو فيرجم(١)

هنا قيض أخاه العبّاس لهذه المهمّة، في حين أنّ نفسه الكريمة تنازعه إليه قبل المطلب، فأمره أنْ يستقي للحرائر والصبية، وضمّ إليه عشرين راجلاً مع عشرين قربة، وقصدوا الفرات بالليل غير مبالين بمَن وُكِّل بحفظ الشريعة؛ لأنّهم محتفون بأسد آل محمّد وتقدّم نافع بن هلال الجملي باللواء، فصاح عمرو بن الحَجّاج: مَن الرجل؟ قال: جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. فقال: اشرب هنيئاً ولا تحمل إلى الحسين منه. قال نافع: لا والله، لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن معه من آله وصحبه عطاشى.

وصاح نافع بأصحابه: املأوا أسقيتكم. فشدّ عليهم أصحاب ابن الحَجّاج فكان بعض القوم يملأ القرب وبعض يقاتل وحاميهم ابن بجدتها المتربّي في حجر البسالة الحيدريّة أبو الفضل، فجاؤا بالماء. وليس في أعدائهم من تحدثه

____________________________

(١) من قصيدة للسيّد جعفر الحلّي نوّر الله ضريحه.

٢٠٣

نفسه بالدنوّ منهم فرقاً من ذلك البطل المغوار، فبلت غلة الحرائر والصبية الطيّبة من ذلك الماء(١) .

ولكن لا يفوتنا أنّ تلك الكميّة القليلة من الماء ما عسى أن تجدي اُولئك الجمع الذي هو أكثر من مئة وخمسين رجالاً ونساءً وأطفالاً أو أنّهم ينيفون على المئتين، ومن المقطوع به أنّه لَم ترو أكبادهم إلاّ مرّة واحدة فسرعان أنْ عاد إليهم الظما، وإلى الله ورسوله المشتكى.

إذا كان ساقي الحوض في الحشر حيدر

فـساقي عـطاشي كربلاء أبو الفضل

عـلى أنّ الـناس فـي الـحشر قلبه

مـريع وهـذا بـالظلما قـلبه يـغلي

وقـفتُ عـلى مـاء الفرات ولَم أزل

أقـول لـه والـقول يـحسنه مـثلي

عـلامك تـجري لا جـريت لـوارد

وأدركـت يـوماً بعض عارك بالغسل

أمــا نـشـفت أكـبـاد آل محمّد

لـهـيباً ولا ابـتلَّت بـعلٍّ ولا نـهل

مـن الـحقّ أنْ تـذوي غصونك ذبّلا

أسـىً وحـياء مـن شـفاههِمُ الـذُبل

فـقال اسـتمع للقول إنْ كنت سامعاً

وكـنْ قـابلا عذري ولا تكثرنْ عذلي

ألا إنّ ذا دمـعي الـذي أنـت نـاظر

غـداى جـعلت الـنوح بعدهُمُ شغلي

بـرغـمي أرى مـائي يـلذ سـواهمُ

بـه وهـم صرعي على عطش حولي

جـزى الله عـنهم في المواساة عمَّهم

أبـا الفضل خيراً لو شهدت أبا الفضل

لـقـد كـان سـيفاً صـاغه بـيمينه

عـليّ فـلم يـحتج شباه إلى الصقل

إذا عــدَّ ابـنـاء الـنـبيِّ محـمّد

رآه أخـاهـم مـن رآه بـلا فـضل

ولـم أرَ ظـامٍ(٢) حـوله الـماء قبله

ولَـم يـرو مـنه وهو ذو مهجة تغلي

ومـا خـطبه إلاّ الـوفاء وقـلَّ مـا

يـرى هـكذا خـلا وفـيّاً مـع الخلِّ

يـمـيناً بـيـمناك الـقطيعة والـتي

تـسمى شـمالاً وهـي جامعة الشمل

بـصبرك دون ابـن الـنبيِّ بـكربلا

عـلى الـهَول امر لا يحيط به عقلي

و وافــاك لا يـدري افـقدك راعـه

أم الـعرش غـالته الـمقادير بـالثل

____________________________

(١) مقتل محمّد بن أبي طالب. وعلى هذه الرواية يكون طلبهم للماء في السابع، ولعلّه هو المنشأ في تخصيص ذكر العبّاس بيوم السابع. وفي أمالي الصدوق / ٩٥، المجلس الثالث: أرسل الحسين بن علي ولده علياً الأكبر في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليستقوا الماء.

(٢) كذا ورد في ديوان الشاعر أبي الحب.

٢٠٤

أخي كنتَ لي درعاً ونصلا كلاهما

فقدتُ فلا درعي لديَّ ولا نصلي(١)

غرور ابن سعد

وأرسل الحسين عمرو بن قرظة الأنصاري إلى ابن سعد يطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين، فخرج كلّ منهما في عشرين فارساً، وأمر الحسين مَن معه أنْ يتأخّر إلاّ العبّاس وابنه علياً الأكبر، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه.

فقال الحسين:«يابن سعد أتقاتلني؟ أما تتقي الله الذي إليه معادك؟! فأنا ابن مَن قد علمتَ! ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى؟» قال عمر: أخاف أنْ تهدم داري. قال الحسين:«أنا أبنيها لك». فقال: أخاف أنْ تؤخذ ضيعتي. قالعليه‌السلام :«أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز» (٢) ، ويروى أنّه قال لعمر:«أعطيك البغيبغة» ، وكانت عظيمة فيها نخل وزرع كثير، دفع معاوية فيها ألف ألف دينار فلَم يبعها منه(٣) . فقال ابن سعد: إنّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم من ابن زياد القتل. ولما أيس منه الحسين قام وهو يقول:«مالك، ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إنّي لأرجو أنْ لا تأكل من بَرّ العراق إلا يسيراً». قال ابن سعد مستهزءاً: في الشعير كفاية(٤) .

وأول ما شاهده من غضب الله عليه ذهاب ولاية الري، فإنّه لمّا رجع من كربلاء طالبه ابن زياد بالكتاب الذي كتبه بولاية الري، فادّعى ابن سعد ضياعه، فشدّد عليه باحضاره، فقال له ابن سعد: تركته يقرأ على عجائز قريش اعتذاراً منهن، أما والله لقد نصحتك بالحسين نصيحة لَو نصحتها أبي سعداً كنت قد أديت حقّه. فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله: صدق، وددتُ أنّ في أنف كلّ

____________________________

(١) للشيخ محسن أبو الحب الحائريرحمه‌الله .

(٢) مقتل العوالم / ٧٨.

(٣) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠٣.

(٤) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠٣، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٥.

٢٠٥

رجل من بني زياد خزامة إلى يوم القيامة وإنّ الحسين لَم يُقتل(١) .

وكان من صنع المختار معه أنّه لمّا أعطاه الأمان، استأجر نساء يبكين على الحسين ويجلسن على باب دار عمر بن سعد، وكان هذا الفعل يلفت نظر المارّة إلى أنّ صاحب هذا الدار قاتل سيّد شباب أهل الجنّة، فضجر ابن سعد من ذلك وكلّم المختار في رفعهن عن باب داره، فقال المختار: ألا يستحقّ الحسين البكاء عليه(٢) .

ولمّا أراد أهل الكوفة أنْ يؤمّروا عليهم عمر بن سعد بعد موت يزيد بن معاوية؛ لينظروا في أمرهم، جاءت نساء همدان وربيعة، إلى الجامع الأعظم صارخات يقلن: ما رضي ابن سعد بقتل الحسين حتّى أراد أنْ يتأمّر. فبكى النّاس وأعرضوا عنه(٣) .

افتراء ابن سعد

وافتعل ابن سعد علي أبي الضيم ما لَم يقله، وكتب إلى ابن زياد زعماً منه أنّ فيه صلاح الاُمّة وجمال النظام فقال في كتابه:

أمّا بعد فإنّ الله أطفأ النّائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الاُمّة، وهذا حسين أعطاني أنْ يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أنْ يسير إلى ثغر من الثغور، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أنْ يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا رضىً لكم وللاُمّة صلاح(٤) .

وهيهات أنْ يكون ذلك الأبي ومَن علَّم النّاس الصبر على المكاره وملاقاة الحتوف - طوع ابن مرجانة ومنقاداً لابن آكلة الأكباد! أليس هو القائل لأخيه الأطرف:«والله لا أعطي الدنيّة من نفسي» . ويقول لابن الحنفيّة:«لَو لَم يكن ملجأ لما بايعت يزيد» . وقال لزرارة بن صالح:«إنّي أعلم علماً يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصارع أصحابي، ولا ينجو منهم إلاّ ولدي علي». وقال لجعفر بن

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٨.

(٢) العقد الفريد، باب نهضة المختار.

(٣) مروج الذهب ٢ / ١٠٥، في أخبار يزيد.

(٤) الاتحاف بحبّ الأشراف / ١٥، وتهذيب التهذيب ٢ / ٢٥٣.

٢٠٦

سليمان الضبعي:«إنّهم لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي» .

وآخر قوله يوم الطف:«ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة من أنْ تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

وإنّ حديث عقبة بن سمعان يفسّر الحال التي كان عليها أبو عبد اللهعليه‌السلام ، قال: صحبت الحسين من المدينة إلى مكّة ومنها إلى مكّة ومنها إلى العراق ولَم اُفارقه حتّى قُتل، وقد سمعت جميع كلامه فما سمعتُ منه ما يتذاكر فيه النّاس من أنْ يضع يده في يد يزيد ولا أنْ يسيره إلى ثغر من الثغور لا في المدينة ولا في مكّة ولا في الطريق ولا في العراق ولا في عسكره إلى حين قتله، نعم سمعته يقول:«دعوني أذهب إلى هذه الأرض العريضة» (١) .

طغيان الشمر

ولمّا قرأ ابن زياد كتاب ابن سعد قال: هذا كتاب ناصح مشفق على قومه. وأراد أن يجيبه، فقام الشمر(٢) ، وقال: أتقبل هذا منه بعد أنْ نزل بأرضك؟ والله،

____________________________

(١) الطبري ٦ / ٢٣٥.

(٢) في البداية لابن كثير ج ٨ ص ١٨٨ كان الحسين يحدث أصحابه في كربلا بما قاله جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كأني انظر إلى كلب ابقع يلغ في دماء أهل بيتي ولما رأى الشمر ابرص قال هو الذي يتولى قتلي! وفي الاعلاق النفيسة لابن رسته ص ٢٢٢ كان الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين ابرص. وفي ميزان الاعتدال للذهبي ج ١ ص ٤٤٩ كان شمر بن ذي الجوشن احد قتلة الحسينعليه‌السلام فليس للرواية بأصل ولما قيل له كيف اعنت على ابن فاطمة قال: ان امراءنا امرونا فلو خالفناهم كنا أشد من الحمر الشقاء قال الذهبي وهذا عذر قبيح فانما الطاعة في المعروف. وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٠٣ وما بعدها. طبع مصر: كان شمر بن ذي الجوشن مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في صفين، وخرج من أصحاب معاوية (أدهم بن محرز) يطلب المبارزة فخرج اليه شمر بن ذي الجوشن واختلفا بضربتين، ضربه أدهم على جبينه فاسرع السيف حتى خالط العظم وضربه شمر فلم يصنع فيه شيئاً، فرجع الشمر الى عسكره يشرب الماء واخذ رمحاً وقال:

(إني زعيم لاخي بأهلة

بطعنة ان لم امت عاجلة

وضربة تحت الوغى فاصلة

شبيهة بالقتل أو قاتله)

فحمل على أدهم وهو ثابت فطعنه فوقع عن فرسه وحمله أصحابه فانصرف شمر...

وفي نفح الطيب للمقريزي ج ٢ ص ١٤٣ مطبعة ١ عيسى البابي مطبوعات دار المأمون ان الصميل بن حاتم بن الشمر بن ذي الجوشن كان رأس المضرية متحاملاً على اليمانية (وهذه العبارة واردة في طبعة بيروت ج ١ ص ٢٢٢ تحقيق محمد محيي الدين).

٢٠٧

لئن رحل من بلادك ولَم يضع يده في يدك ليكونّن أولى بالقوّة وتكون أولى بالضعف والوهن، فاستصوب رأيه وكتب إلى ابن سعد: أمّا بعد، إنّي لَم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السّلامة ولا لتكون له عندي شفيعاً، اُنظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على حكمي، فابعث بهم إليَّ سِلماً. وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون، فإنْ قُتل حسين فاوطىء الخيل صدره وظهره، ولستُ أرى أنّه يُضرّ بعد الموت، ولكن على قول قلته: لَو قتلتُه لفعلتُ هذا به. فإنْ أنت مضيتَ لأمرنا فيه جزيناك جزاء السّامع المطيع، وإنْ أبيتَ فاعتزل عملنا وجندنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنّا قد أمرناه بذلك(١) .

فلمّا جاء الشمر بالكتاب، قال له ابن سعد: ويلك لا قرب الله دارك، وقبّح الله ما جئت به، وإنّي لأظنّ أنّك الذي نهيته وافسدت علينا أمراً رجونا أنْ يصلح، والله لا يستسلم حسين فانّ نفس أبيه بين جنبَيه.

فقال الشمر: أخبرني ما أنت صانع، أتمضي لأمر أميرك؟ وإلاّ فخلّ بيني وبين العسكر. قال له عمر: أنا أتولّي ذلك، ولا كرامة لك، ولكن كن أنت على الرجّالة(٢) .

____________________________

= وفي حاشية الكتاب، كان حاتم بن الشمر مع أبيه في الكوفة ولما قتل المختار شمر بن ذي الجوشن هرب ابنه الى قنسرين. وفي ص ١٤٥ ذكر ان الصميل كان والياً على سر قسطة ثم فارقها وتولى على طليطلة. وفي كتاب الحلة السيراء لابن الأبار ج ١ ص ٦٧ لما ظهر المختار بالكوفة فر الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين بن علي الى الشام بأهله وولده، فاقام بها في عز ومنعة، وقيل قتله المختار وفر ولده إلى ان خرج كلثوم بن عياض القشيري غازياً الى المغرب، فكان الصميل ممن ضرب عليه البعث في اشراف أهل الشام ودخل الأندلس في طاعة بلج بن بشر وهو الذي قام بأمر المضرية في الاندلس عندما أظهر أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي العصبية لليمانية ومات الصميل في سجن عبد الرحمن بن معاوية سنة ١٤٢ وكان شاعراً. وفي تاريخ علماء الاندلس لابن الفوطي ج ١ ص ٢٣٤ باب الشين، شمر بن ذي الجوشن الكلاعي من أهل الكوفة هو الذي قدم برأس الحسينعليه‌السلام على يزيد بن معاوية ولما ظهر المختار هرب بعياله منه ثم خرج كلثوم بن عياض غازياً المغرب ودخل الى الاندلس في طالعة بلج، وهو جد الصميل بن حاتم بن شمر القيسي صاحب الفهرى ا هـ والاصح ما ذكره الدينوري في الأخبار الطوال ٢٩٦ ان شمر بن ذي الجوشن قتله أصحاب المختار بالمذار وبعث برأسه الى محمد ابن الحنفية وفي الاعلاق النفيسة لابن رسته ص ٢٢٢ كان الشمر بن ذي الجوشن ابرص وفي تاريخ الطبري ج ٧ ص ١٢٢ وكامل ابن الاثير ج ٤ ص ٩٢ حوادث سنة ٦٥ كان الشمر ابرص يرى بياض برصه على كشحه.

(١) ابن الأثير ٤ / ٢٣.

(٢) الطبري ٦ / ٢٣٦.

٢٠٨

الأمان

وصاح الشمر بأعلى صوته: أين بنو اُختنا(١) ؟ أين العبّاس وإخوته؟، فأعرضوا عنه، فقال الحسين:«أجيبوه ولَو كان فاسقاً» ، قالوا: ما شأنك وما تريد؟ قال: يا بني اُختي أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد. فقال العبّاس: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له(٢) ، وتأمرنا أنْ ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء(٣) .

أيظنّ هذا الجلف الجافي أن يستهوي رجل الغيرة والحميّة إلى الخسف والهوان، فيستبدل أبو الفضل الظلمة بالنور، ويدع عَلَم النبوّة وينضوي إلى راية ابن ميسون؟! كلاّ.

ولمّا رجع العبّاس، قام إليه زهير بن القين وقال: اُحدّثك بحديث وعيته؟ قال: بلى، فقال: لمّا أراد أبوك أن يتزوّج، طلب من أخيه عقيل - وكان عارفاً بأنساب العرب - أنْ يختار له امرأةً ولدتها الفحولة من العرب؛ ليتزوّجها فتلد غلاماً شجاعاً ينصر الحسين بكربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصّر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك. فقال العبّاس: أتشجّعني يا زهير في مثل هذا اليوم؟! والله لأرينّك شيئاً ما رأيتَه(٤) ، فجدّل أبطالاً ونكس رايات في حالة لَم يكن من همّه القتال ولا مجالدة الأبطال، بل همّه إيصال الماء إلى عيال أخيه.

____________________________

(١) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم / ٢٦١ و ٢٦٥ قال: أولاد كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر، أحد عشر ولداً منهم؛ كعب، والضباب. فمن ولد كعب بنو الوحيد الذين منهم اُمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد كانت تحت علي بن أبي طالب فولدت له محمداً الأصغر وعثمان وجعفر والعبّاس، وفي صفحة٢٧٠ ذكر بني الضباب فقال: منهم الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين واسم ذي الجوشن جميل بن الأعور عمرو بن معاوية وهو الضاب. ومن ولده الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ساد بالاندس وله بها عقب ونزالتهم بالخشيل من شوذر من عمل جيّان.

وفي العقد الفريد ٢ / ٨٣ عند ذكر مذحج قال: الضباب في بني الحارث بن كعب مفتوحة الضاد وفي بني عامر بن صعصعة مسكورة وحيث أنّ الشمر من بني عامر بن صعصعة يكون الضباب بكسر الضاد.

(٢) تذكرة الخواص / ١٤٢: حكاه عن جده أبي الفرج في المنتظم وإعلام الورى / ٢٨.

(٣) ابن نما / ٢٨.

(٤) أسرار الشهادة / ٣٨٧.

٢٠٩

يـمثل الـكرّار فـي كـرّاته

بل في المعاني الغرّ من صفاته

لـيس يـد الله سـوى أبـيه

وقــدرة الله تـجـلَّت فـيه

فـهو يـد الله وهـذا سـاعده

تـغنيك عـن إثـباته مشاهده

صـولته عـند النزال صولته

لولا الغلوُّ قلت جلت قدرته(١)

بنو أسد

واستأذن حبيب بن مظاهر من الحسين أنْ يأتي بني أسد وكانوا نزولاً بالقرب منهم فأذِن له، ولمّا أتاهم وانتسب لهم عرفوه، فطلب منهم نصرة ابن بنت رسول الله فإنّ معه شرف الدنيا والآخرة، فأجابه تسعون رجلاً، وخرج من الحي رجل أخبر ابن سعد بما صاروا إليه، فضمّ إلى الأزرق أربعمئة رجل وعارضوا النّفر في الطريق واقتتلوا، فقُتل جماعة من بني أسد وفرّ مَن سلِم منهم إلى الحي فارتحلوا جميعاً في جَوف الليل خوفاً من ابن سعد أنْ يبغتهم، ورجع حبيب إلى الحسين وأخبره، فقال:«لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم» (٢) .

اليوم التاسع

ونهض ابن سعد عشيّة الخميس لتسع خلون من المحرّم، ونادى في عسكره بالزحف نحو الحسين، وكانعليه‌السلام جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه، وخفق برأسه فرأى رسول الله يقول: انّك صائر إلينا عن قريب. وسمعت زينب أصوات الرجال وقالت لأخيها: قد اقترب العدوّ منّا.

فقال لأخيه العبّاس:«اركب بنفسي أنت (٣) حتّى تلقاهم، واسألهم عمّا

____________________________

(١) للحجّة آية الله الشيخ محمّد حسين الاصفهانيقدس‌سره .

(٢) البحار عن مقتل محمّد بن أبي طالب الحائري، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٣.

(٣) الطبري ٦ / ١٣٧، وروضة الواعظين / ١٥٧، والارشاد للمفيد، والبداية لابن كثير ٨ / ١٧٦.

غير خاف ما في هذه الكلمة الذهبية من مغزى دقيق، ترى الفكر يسف عن مداه وأنّى له أن يحلق إلى ذروة الحقيقة من ذات طاهرة تُفتدى بنفس الإمام علّة الكائنات والفيض الأقدس للممكنات. نعم، عرفها البصير الناقد بعد أنْ جربها بمحك النزاهة فوجدها مشبوبة بجنسها ثمّ أطلق عليها تلك الكلمة الغالية، ولا يعرف الفضل إلاّ أهله. ولا يذهب بك الوهم أيّها القارئ إلى القول بعدم الأهميّة في هذه الكلمة بعد قول الإمامعليه‌السلام في زيارة الشهداء من زيارة وارث: «بأبي أنتم واُمّي، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم»؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام في هذه الزيارة لَم يكن هو المخاطب لهم وانّما هوعليه‌السلام في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم أنْ يخاطبهم بذلك، فإنّ الرواية تنصّ كما في مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي أنّ صفوان استأذن الصادق في زيارة الحسين وأنْ يعرّفه ما يقوله ويعمل عليه فقال له: «يا صفوان، صم قبل خروجك ثلاثة أيّام - إلى أنْ قال -: ثمّ إذا أتيت الحائر فقُل: الله أكبر - ثمّ ساق الزيارة إلى أنْ قال -: ثمّ اخرج من الباب الذي يلي رجلَي علي بن الحسين وتوجّه إلى الشهداء وقُل: السّلام عليكم يا أولياء الله...» إلى آخرها. فالإمام الصادقعليه‌السلام في مقام تعليم صفوان أنْ يقول في السّلام على الشهداء ذلك، وليس في الرواية ما يدلّ على أنّهعليه‌السلام كيف يقول لو أراد السّلام على الشهداء.

٢١٠

جاءهم وما الذي يريدون؟» ، فركب العبّاس في عشرين فارساً فيهم زهير وحبيب، وسألهم عن ذلك قالوا: جاء أمر الأمير أنْ نعرض عليكم النّزول على حكمه، أو ننازلكم الحرب.

فانصرف العبّاسعليه‌السلام يُخبر الحسين بذلك، ووقف أصحابه يعظون القوم. فقال لهم حبيب بن مظاهر: أما والله لبئس القوم عند الله غداً، قوم يقدمون عليه وقد قتلوا ذريّة نبيّه وعترته وأهل بيته وعبّاد أهل هذا المصر المتهجدين بالأسحار الذاكرين الله كثيراً. فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت. فقال زهير: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها وهداها فاتّق الله يا عزرة، فإنّي لك من النّاصحين، اُنشدك الله يا عزرة أنْ لا تكون ممَّن يعين أهل الضلالة على قتل النّفوس الزكيّة. ثمّ قال عزرة: يا زهير ما كنتَ عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنتَ على غير رأيهم. قال زهير: أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم، أما والله ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلت إليه رسولاً، ولا وعدته نصرتي ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول الله ومكانه منه، وعرفتُ ما يقدم عليه عدوّه، فرأيت أنْ أنصره وأن أكون من حزبه وأجعل نفسي دون نفسه؛ لما ضيّعتم من حقّ رسوله.

وأعلم العبّاس أخاه أباعبد الله بما عليه القوم فقالعليه‌السلام :«ارجع إليهم، واستمهلهم هذه العشيّة إلى غد، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو

٢١١

يعلم أنّي اُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار».

فرجع العبّاس واستمهلهم العشيّة. فتوقّف ابن سعد وسأل من النّاس فقال عمرو بن الحَجّاج: سبحان الله! لو كانوا من الديلم وسألوك هذا لكان ينبغي لك أنْ تجيبهم إليه. وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلَعمري ليستقبلك بالقتال غدوة. فقال ابن سعد: والله لو أعلم أنّه يفعل ما أخّرتهم العشية. ثمّ بعث إلى الحسين: إنّا أجّلناكم إلى غد، فإنْ استسلمتم سرحنا بكم إلى الأمير ابن زياد، وإنْ أبيتم فلسنا تاركيكم(١) .

ضـلّـت اُمـيّـة مـاتر

يـد غـداة مقترع النصول

رامـت تـسوق المصعب

الـهـدار مـستاق الـذليل

ويــروح طـوع يـمينها

قـود الـجنيب أبو الشبول

رامـت لـعمرو ابْن النبي

الـطُّهر مـمتنع الحصول

وتـيمَّمت قـصد الـمحال

فـما رعـت غير المحول

ورنـت على السغب السرا

ب بـأعين في المجد حول

وغـوى بـها جـهل بـها

والبغي من خلق الجهول(٢)

الضمائر الحرّة

وجمع الحسين أصحابه قرب المساء قبل مقتله بليلة(٣) فقال:«اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهمّ إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً، ولَم تجعلنا من المشركين. أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً (٤) .

____________________________

(١) الطبري ٦ / ٣٣٧.

(٢) للكعبيرحمه‌الله .

(٣) اثبات الرجعة للفضل بن شاذان، هكذا عرفه وهو بالغيبة أنسب فانّه لو يوجد فيه من أخبار الرجعة إلا حديث واحد.

(٤) الطبري ٦ / ٢٣٨ - ٢٣٩، وكامل ابن الأثير ٤ / ٣٤.

٢١٢

وقد أخبرني جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّي ساُساق إلى العراق فأنزلُ أرضاً يقال لها عمورا وكربلاء، وفيها اُستشهد. وقد قرب الموعد.

ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً. وإنّي قد أذِنت لكم فأنطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً! وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولَو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري» (١) .

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن علي وتابعه الهاشميّون.

والتفت الحسين إلى بني عقيل وقال:«حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذِنت لكم» . فقالوا: إذاً ما يقول النّاس، وما نقول لهم؟ أنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام؟! ولَمْ نرمِ معهم بسهم ولَمْ نطعن برمح ولَمْ نضرب بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟! لا والله لا نفعل، ولكن نفيدك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، نقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك(٢) .

نـفوس أبـت إلاّ تراب أبيهم

فـهم بـين موتور لذاك وواتر

لقد ألفت أرواحهم حومة الوغى

كما أنست أقدامهم بالمنابر(٣)

وقال مسلم بن عوسجة: أنحن نخلّي عنك؟ وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله، لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لَمْ يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك.

وقال سعيد بن عبدالله الحنفي: والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد

____________________________

(١) إثبات الرجعة.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٣٨، والكامل ٤ / ٢٤، والإرشاد للمفيد، وإعلام الورى / ١٤١، وسِير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢٠٢.

(٣) مثير الأحزان لابن نما / ١٧.

٢١٣

حفظنا غيبة رسوله فيك، أما و الله لو علمتُ أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرّى، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة، لَما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!

وقال زهير بن القين: و الله وددتُ أنّي قُتلتُ ثمّ قُتلت حتّى اُقتل كذا ألف مرّة، و إنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.

وتكلّم باقي الأصحاب بما يشبه بعضه بعضاً فجزّاهم الحسين خيراً(١) .

وفي هذا الحال قيل لمحمد بن بشير الحضرمي قد اُسِر ابنك بثغر الري فقال: ما اُحبّ أنْ يؤسر و أنا أبقى بعده حيّاً فقال له الحسين:«أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ولدك»، قال: لا والله لا أفعل ذلك، أكلتني السّباع حيّاً إنْ فارقتك. فقالعليه‌السلام :«إذاً اعط ابنك هذه الأثواب الخمسة ليعمل في فكاك أخيه» - وكان قيمتها ألف دينارـ(٢) .

وتـناديت لـلذبّ عنه عصبة

ورثـوا الـمعالي اشيباً وشبابا

مـن يـنتدبهم للكريهة ينتدب

مـنهم ضراغمة الاسود غضابا

خفّوا لداعي الحرب حين دعاهم

ورسوا بعرصة كربلاء هضابا

اسـد قد اتخذوا الصوارم حلية

وتـسربلوا حـلق الدروع ثيابا

تـخذت عيونهم القساطل كحلها

واكـفُّهم فـيض النجيع خضابا

يـتمايلون كـأنّما غـنى لـهم

وقـع الـظّبي وسـقاهم اكوابا

برقت سيوفهم فأمطرت الطّلي

بـدمائها والـنقع ثـار سحابا

وكـأنّهم مـستقبلون كـواعباً

مـسـتقبلين أسـنّـة وكـعابا

وجدوا الردى من دون آل محمّد

عـذباً وبعدهم الحياة عذابا(٣)

ولما عرف الحسين منهم صدق النيّة والإخلاص في المفاداة دونه، أوقفهم على غامض القضاء فقال:«إنّي غداً اُقتل وكلّكم تقتلون معي ولا يبقى منكم أحد (٤)

____________________________

(١) إرشاد المفيد وتاريخ الطبري ج٦ ص٢٣٩.

(٢) اللهوف ص٥٣.

(٣) للعلامة السيد رضا الهنديرحمه‌الله .

(٤) نفس المهموم ص١٢٢.

٢١٤

حتّى القاسم وعبد الله الرضيع، إلاّ ولدي علياً زين العابدين؛ لأنّ الله لَمْ يقطع نسلي منه وهو أبو أئمّة ثمانية» (١) .

فقالوا بأجمعهم الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك، أولا نرضى أنْ نكون معك في درجتك يابن رسول الله؟، فدعا لهم بالخير(٢) ، وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان وعرّفهم منازلهم فيها(٣) ، وليس ذلك في القدرة الإلهيّة بعزيز، ولا في تصرّفات الإمام بغريب، فإنّ سحرة فرعون لمّا آمنوا بموسىعليه‌السلام وأراد فرعون قتلهم أراهم النّبي موسى منازلهم في الجنّة(٤) .

وفي حديث أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال لأصحابه:«أبشروا بالجنّة، فوالله إنّا نمكث ماشاء الله بعد ما يجري علينا ثمّ يخرجنا الله وإيّاكم حتّى يظهر قائمنا فينتقم من الظالمين، وأنا وأنتم نشاهدهم في السّلاسل والأغلال وأنواع العذاب» فقيل له: من قائمكم يابن رسول الله؟ قال:«السّابع من ولد ابني محمّد بن علي الباقر وهو الحُجّة ابن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي، ابني وهو الذي يغيب مدّة طويلة ثمّ يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً» (٥) .

ليلة عاشوراء

كانت ليلة عاشوراء أشدّ ليلة مرّت على أهل بيت الرسالة، حُفّت بالمكاره والمحن وأعقبت الشرّ وآذنت بالخطر وقد قطعت عنهم الحالة القاسية من بني اُميّة وأتباعهم كلّ الوسائل الحيويّة وهناك ولولة النساء وصارخ الاطفال من العطش المبرح والهم المدلهم.

إذاً فما حال رجال المجد من الأصحاب وسروات الشرف من بني هاشم

____________________________

(١) أسرار الشهادة.

(٢) نفس المهموم / ١٢٢.

(٣) الخرايج للراوندي.

(٤) أخبار الزمان للمسعودي / ٢٤٧.

(٥) إثبات الرجعة.

٢١٥

بين هذه الكوارث، فهل أبقت لهم مهجة ينهضون بها أو أنفساً تعالج الحياة والحرب في غد؟!

نعم كانت ضراغمة آل عبد المطّلب والصفوة من الأصحاب عندئذ في أبهج حالة وأثبت جأش، فرحين بما يلاقونه من نعيم وحبور، وكلّما اشتدّ المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحاً بين ابتسامة ومداعبة إلى فرح ونشاط.

ومذ أخذت في نينوى منهم النوى

ولاح بـها لـلغدر بعض العلائم

غـدا ضـاحكا هذا وذا متبسّماً

سـروراً وما ثغر المنون بباسم

هازل برير عبد الرحمن الأنصاري، فقال له عبد الرحمن: ما هذه ساعة باطل؟ فقال برير: لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لا قون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوددتُ أنّهم مالوا علينا السّاعة(١) .

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني: ما هذه ساعة ضحك. قال حبيب: وأي موضع أحقّ بالسرور من هذا؟ ما هو إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور(٢) .

تجري الطلاقة في بهاء وجوههم

أنْ قـطبت فـرقاً وجوه كماتها

وتـطلّعت بـدجى الـقتام أهلَّة

لـكن ظـهور الخيل من هالاتها

فتدافعت مشي النزيف إلى الردى

حتّى كـأنَّ الموت من نشواتها

وتـعانقت هي والسّيوف وبعد ذا

ملكت عناق الحور في جنّاتها(٣)

فكأنّهم نشطوا من عقال، بين مباشرة للعبادة، وتأهّب للقتال، لهم دوي كدويّ النّحل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد.

قال الضحّاك بن عبد الله المشرقي: مرّت علينا خيل ابن سعد فسمع رجل منهم الحسينعليه‌السلام يقرأ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ ) (٤) .

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

(٢) رجال الكشي / ٥٣، طبعة الهند.

(٣) للعلامة السيّد محمّد حسين الكيشوانرحمه‌الله .

(٤) سورة آل عمران / ١٧٨ - ١٧٩.

٢١٦

فقال الرجل نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم.

قال له برير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيّبين؟! هلمّ إلينا وتُب من ذنوبك العظام، فوالله لنحن الطيّبون وأنتم الخبيثون.

فقال الرجل مستهزئاً: وأنا على ذلك من الشاهدين(١) .

ويقال: أنّه في هذه الليلة انضاف إلى أصحاب الحسين من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً(٢) حين رأوهم متبتّلين متهجدين عليهم سيماء الطاعة والخضوع لله تعالى.

قال علي بن الحسين:«سمعتُ أبي في الليلة التي قُتل في صبيحتها يقول، وهو يصلح سيفه:

يا دهر اُفٍّ لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

مِنْ صاحب وطالب قتيل

والـدهر لا يقنع بالبديل

وانّـما الأمر إلى الجليل

وكـلّ حـيٍّ سالك سبيل

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً، ففهمتُها وعرفتُ ما أراد وخنقتني العبرة، ولزمتُ السكوت وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل.

وأمّا عمّتي زينب لمّا سمعتْ ذلك وثبتْ تجرّ ذيلها حتّى انتهت إليه وقالت: وآثكلاه! ليتَ الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي عليٌ وأخي الحسن (٣) ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي! فعزّاها الحسين وصبَّرها وفيما قال: يا اُختاه تعزّي بعزاء الله واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السّماء لا يبقون وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه، ولي ولكلّ مسلم برسول الله اُسوة حسنة.

فقالت عليها‌السلام : افتغصب نفسك اغتصاباً، فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي (٤) .

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٠، الطبعة الاُولى.

(٢) اللهوف، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٧، طبعة النجف، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢١٠.

(٣) تايخ الطبري ٤ / ٢٤٠، وكامل ابن الأثير ٤ / ٢٤، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٣٨، الفصل الحادي عشر، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج / ٤٥، طبعة ايران.

(٤) اللهوف.

٢١٧

وبكت النّسوة معها ولطمن الخدود، وصاحت اُمّ كلثوم: وآ محمداه! وآ علياه! وآ اُمّاه! وآ حسيناه! وآ ضيعتنا بعدك!

فقال الحسين: يا اُختاه يا اُمّ كلثوم، يا فاطمة، يا رباب، انظرْنَ اذا قُتلت فلا تشققن عليَّ جيباً ولا تخمشن وجهاً ولا تقلن هجراً» (١) ثمّ إنّ الحسين أوصى اُخته زينب بأخذ الأحكام من علي بن الحسينعليه‌السلام وإلقائها إلى الشيعة ستراً عليه. وبذلك يحدِّث أحمد بن إبراهيم قال: دخلتُ على حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا، اُخت أبي الحسن العسكريعليه‌السلام سنة ٢٨٢ بالمدينة، وكلّمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها، فسمّت من تأتمّ بهم، وقالت: فلان بن الحسن. قلت: معاينةً أو خبراً؟ قالت: خبر عن أبي محمّدعليه‌السلام كتب به إلى اُمّه. قلت لها: أقتدي بمَن وصيّته إلى امرأة؟! قالت: اقتداءً بالحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام فإنّه أوصى إلى اُخته زينب في الظاهر، فكان ما يخرج من علي بن الحسينعليه‌السلام من علم ينسب إلى زينب؛ ستراً على علي بن الحسينعليه‌السلام . ثمّ قالت: إنّكم قوم أخبار، أما رويتم أنّ التاسع من ولد الحسين يقسم ميراثه في الحياة « اكمال الدين للصدوق » ص ٢٧٥ باب ٤٩ طبع حجر أول.

ثمّ إنّهعليه‌السلام أمر أصحابه أنْ يقاربوا البيوت بعضها من بعض؛ ليستقبلوا القوم من وجه واحد. وأمر بحفر خندق من وراء البيوت يوضع فيه الحطب ويلقى عليه النّار إذا قاتلهم العدو؛ كيلا تقتحمه الخيل، فيكون القتال من وجه واحد(٢) .

وخرجعليه‌السلام في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الحسين عمّا أخرجه قال: يابن رسول الله أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي، فقال الحسين:«إنّي خرجت أتفقّد التلاع والروابي؛ مخافة أنْ تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون» . ثمّ رجععليه‌السلام وهو قابض على يد نافع ويقول:«هي هي والله، وعد لا خلف فيه».

ثمّ قال له:«ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟»

____________________________

(١) الإرشاد.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٠.

٢١٨

فوقع نافع على قدمَيه يقبّلهما ويقول: ثكلتني اُمّي، إنّ سيفي بألف وفرسي مثله، فوالله الذي مَنّ بك عليَّ، لا فارقتك حتّى يكلاّ عن فرّي وجرّي.

ثمّ دخل الحسينعليه‌السلام خيمة زينب، ووقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره فسمع زينب تقول له: هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى أنْ يسلّموك عند الوثبة.

فقال لها:«والله، لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب اُمّه» .

قال نافع: فلمّا سمعتُ هذا منه، بكيتُ وأتيت حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ومن اُخته زينب.

قال حبيب: والله، لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة. قلت: إنّي خلّفته عند اُخته وأظنّ النّساء أفقن وشاركنها في الحسرة، فهل لك أنْ تجمع أصحابك وتواجهوهنّ بكلام يطيّب قلوبهن؟ فقام حبيب ونادى: يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة. فتطالعوا من مضاربهم كالاُسود الضارية، فقال لبني هاشم: ارجعوا إلى مقرّكم لا سهرت عيونكم.

ثمّ التفت إلى أصحابه وحكى لهم ما شاهده وسمعه نافع، فقالوا بأجمعهم: والله الذي مَنّ علينا هذا الموقف، لو لا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا السّاعة، فطب نفساً وقر عيناً. فجزّاهم خيراً.

وقال هلمّوا معي لنواجه النّسوة ونطيّب خاطرهنّ، فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح: يا معشر حرائر رسول الله، هذه صوارم فتيانكم آلَوا ألاّ يغمدوها إلاّ في رقاب مَن يريد السّوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم أقسَموا ألاّ يركزوها إلاّ في صدور مَن يفرّق ناديكم.

فخرجن النّساء إليهم ببكاء وعويل وقلن: أيّها الطيّبون حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين.

فضجّ القوم بالبكاء حتّى كأنّ الأرض تميد بهم(١) .

____________________________

(١) الدمعة الساكبة / ٣٢٥، وتكرّر في كلامه (هلال بن نافع) وهو اشتباه فإنّ المضبوط (نافع بن هلال) كما في زيارة الناحية، وتاريخ الطبري، وكامل ابن الأثير.

٢١٩

وفي السّحر من هذه الليلة خفق الحسين خفقة ثمّ استيقظ وأخبر أصحابه بأنّه رأى في منامه كلاباً شدّت عليه تنهشه وأشدّها عليه كلب أبقع، وإنّ الذي يتولّى قتله من هؤلاء رجل أبرص.

وإنّه رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول له:«أنت شهيد هذه الاُمّة، وقد استبشر بك أهل السّماوات وأهل الصفيح الأعلى وليكن افطارك عندي الليلة عجّل ولا تؤخّر، فهذا ملك قد نزل من السّماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء» (١) .

وانـصاع حـامية الشريعة ظامئاً

مـا بـلَّ غـلَّته بـعذب فـراتها

أضـحى وقـد جـعلته آل اُمـيّة

شـبح الـسهام رمـيَّة لـرماتها

حتّى قضى عطشاً بمعترك الوغى

والـسمر تـصدر منه في نهلاتها

وجرت خيول الشرك فوق ضلوعه

عـدواً تـجول عـليه في حلباتها

ومـخدَّرات مـن عـقائل أحـمد

هـجمت عـليها الخيل في أبياتها

مـن ثـاكل حرّى الفؤاد مروعة

أضـحت تـجاذبها العدى حبراتها

ويـتمية فـزعت لـجسم كـفيلها

حـسرى القناع تعجُّ في أصواتها

أهـوت على جسم الحسين وقلبها

المصدوع كاد يذوب من حسراتها

وقـعت عـليه تشمُّ موضع نحره

وعـيونها تـنهلُّ فـي عـبراتها

تـرتاع من ضرب السّياط فتنثني

تـدعو سـرايا قـومها وحـماتها

أيـن الحفاظ وفي الطّفوف دماؤكم

سُـفكت بـسيف اُمـيّة وقـناتها

أيـن الـحفاظ وهـذه أشـلاؤكم

بـقيت ثـلاثاً فـي هجير فلاتها

أيــن الـحفاظ وهـذه أبـناؤكم

ذُبحت عطاشى في ثرى عرصاتها

أيــن الـحفاظ وهـذه فـتياتكم

حُـملت على الأقتاب بين عداتها

حـملت بـرغم الدين وهي ثواكل

عـبرى تـردّد بـالشّجى زفراتها

فـمَن الـمعزِّي بـعد أحمد فاطماً

فـي قـتل أبناها وسبي بناتها(٢)

____________________________

(١) نفس المهموم / ١٢٥، عن الصدوق.

(٢) للعلامة السيد محمّد حسين الكيشوان ترجمته في شعراء الغري ٨ / ٣.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437