مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)13%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243915 / تحميل: 10025
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٨١٦٣-٧٠-٧
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وطفق يقول:(قد ولد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم، قدّست أم ولدته..) (١) .

٤ ـ كنيته: أبو جعفر، وهي كنية جده الباقرعليه‌السلام وللتمييز بينهما يكنّى بأبي جعفر الثاني، وأضاف فيدلائل الإمامة كنية ثانية له هي: أبو علي الخاص، وفسّر المتأخرون هذه العبارة بأنّ له كنية خاصة هي: (أبو علي)، وليست كنيته هي (أبو علي الخاص) كما يبدو للناظر في عبارة دلائل الإمامة.

٥ ـ ألقابه: أمّا ألقابه الكريمة فهي تدل على معالم شخصيته العظيمة وسمو ذاته وهي:

١ ـ الجواد: لُقب به لكثرة ما أسداه من الخير والبر والإحسان إلى الناس.

٢ ـ التقي: لقب به لأنه اتّقى الله وأناب إليه، واعتصم به ولم يستجب لأي داع من دواعي الهوى.

٣ ـ المرتضى.

٤ ـ القانع.

٥ ـ الرضي.

٦ ـ المختار.

٧ ـ باب المراد (٢) .

نقش خاتمه: يدل نقش خاتمهعليه‌السلام على شدة انقطاعهعليه‌السلام إلى الله سبحانه، فقد كان (العزّة لله)(٣) .

ـــــــــ

(١) حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٢.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧ ـ ٢٩.

(٣) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٣١.

٤١

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

ولد الإمام محمّد بن علي الجواد عام (١٩٥ هـ) أي في السنة التي بويع فيها للمأمون العباسي، وعاش في ظلّ أبيه الرضاعليه‌السلام حوالي سبع سنين، وعاصر أحداث البيعة بولاية العهد لأبيه الرضاعليه‌السلام وما صاحبها وتلاها من حوادث ومحن حتى تجلّت آخر محن أبيهعليه‌السلام في اغتيال المأمون للرضاعليه‌السلام .

وبقي الإمام محمد الجوادعليه‌السلام بعد حادث استشهاد أبيهعليه‌السلام في منعة من كيد المأمون الذي قتل الإمام الرضاعليه‌السلام وبقي عند الناس متّهماً بذلك. لكنه لم ينج من محاولات التسقيط لشخصيّته ومكانته المرموقة والسامية في القلوب. وقد تحدّى كل تلك المحاولات إعلاءً لمنهج أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم في عقيدة الإمامة والزعامة وما يترتب عليها من الآثار السياسية والاجتماعية.

وينتهي عهد المأمون العباسي في سنة (٢١٨ هـ) ويتربّع أخوه المعتصم على كرسي الخلافة حتى سنة (٢٢٧ هـ) ولم يسمح للإمام الجوادعليه‌السلام بالتحرّك ويراقب ـ بكل دقّة ـ النشاط الاجتماعي والسياسي للإمامعليه‌السلام ثمّ يغتاله على يد ابنة أخيه المأمون، المعروفة بأم الفضل والتي زوّجها المأمون من الإمام الجوادعليه‌السلام ولم تنجب له من الأولاد شيئاً، وذلك في سنة (٢٢٠ هـ)، وهكذا قضى المعتصم على رمز الخط الهاشمي وعميده، الإمام محمّد التقي أبي جعفر الجوادعليه‌السلام .

إذن تنقسم الحياة القصيرة لهذا الإمام المظلوم إلى قسمين وثلاث مراحل:

القسم الأول: حياته في عهد أبيه ، وهي المرحلة الأولى من حياته القصيرة والمباركة وتبلغ سبع سنوات تقريباً.

و القسم الثاني: حياته بعد استشهاد أبيه حتى شهادته. وتبلغ حوالي سبع عشرة سنة.

وينقسم هذا القسم بدوره إلى مرحلتين متميّزتين:

المرحلة الأولى: حياته في عهد المأمون ، وهي المرحلة الثانية من حياته وتبلغ حوالي خمس عشرة سنة ، وهي أطول مرحلة من مراحل حياته القصيرة.

والمرحلة الثانية: وهي مدة حياته في عهد المعتصم العباسي وتبلغ حوالي سنتين وتمثّل المرحلة الثالثة من حياته الشريفة.

٤٢

وهكذا تتلخص مراحل حياتهعليه‌السلام كما يلي:

المرحلة الأولى: سبع سنوات وهي حياته في عهد أبيه الرضاعليه‌السلام حيث ولد سنة (١٩٥ هـ) ـ وفي حكم محمد الأمين العبّاسي ـ واستشهد الإمام الرضاعليه‌السلام في صفر من سنة (٢٠٣ هـ).

المرحلة الثانية: خمس عشرة سنة وهي حياته بقية حكم المأمون من سنة (٢٠٣ هـ) إلى سنة (٢١٨هـ).

المرحلة الثالثة: حياته بعد حكم المأمون وقد بلغت حوالي سنتين من أيّام حكم المعتصم أي من سنة (٢١٨ ـ ٢٢٠ هـ).

الفصل الثالث: الإمام الجواد في ظل أبيهعليهما‌السلام

قامت الدولة العباسية ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة إلى العلويين خاصة، ثم لأهل البيتعليهم‌السلام ، ثم إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان سرّ نجاحها في ربطها بأهل البيتعليهم‌السلام ، حيث تحكّم العباسيون وتسلّطوا على الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن هنا فإنّ من الطبيعي، أن يكون الخطر الحقيقي الذي يتهدد العباسيين وخلافتهم، هو من جهة أبناء عمّهم العلويين، الذين كانوا أقوى منهم حجة وأقرب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم نسباً ووشيجة.

فادّعاء العلويين الخلافة له مبرراته الكاملة، ولا سيَّما وأن من بينهم من له الجدارة والأهلية، ويتمتع بأفضل الصفات والمؤهلات لهذا المنصب من العلم والعقل والحكمة وبعد النظر في الدين والسياسة، علاوة على ما كان يكنه الناس لهم من الاحترام والتقدير.

أضف إلى ذلك كله أن رجالات الإسلام وأبطاله، كانوا هم آل أبي طالب (رضوان الله تعالى عليه) ؛ فأبو طالب مربي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفيله، وعليعليه‌السلام وصيه وظهيره، وكذلك الحسن والحسين وعلي زين العابدين وبقية الائمةعليهم‌السلام .

٤٣

وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار نفوذ العلويين، ويتخوَّفون منه، منذ أيامهم الأولى في السلطة. فمثلاً وضع السفاح من أول عهده الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: قم بإنزالهم ولا تأل في ألطافهم، وكلما خلوت معهم فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا وعلى ناحيتنا وأنهم أحق بالأمر منّا، واحص لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومَقدمهم)(١) .

أجل لقد أدرك العباسيون أن الخطر الحقيقي الذي يتهدّدهم إنّما هو من قبل العلويين وعليه كان عليهم أن يتحركوا لمواجهة الخطر المحدق بهم بكل وسيلة، وبأي أسلوب كان، سيَّما وهم يشهدون عن كثب سرعة استجابة الناس للعلويين، وتأييدهم ومساندتهم لكل دعوة من قبلهم.

سياسة العباسيين مع الرعية:

لا نريد أن نعرض لأنواع الظلامات التي كان العباسيون يمارسونها، فإن ذلك مما لا يمكن الإلمام به ولا استقصاؤه في هذه العجالة.

وإنما نريد فقط أن نعطي لمحة سريعة عن سيرتهم السيئة في الناس، ومدى اضطهادهم وظلمهم لهم، وجورهم عليهم، الأمر الذي أسهم إسهاماً كبيراً في كشف حقيقتهم أمام الملأ، حتى لقد قال أبو عطاء السندي المتوفّى سنة (١٨٠ هـ):

يا ليت جور بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار(٢)

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ٦٦.

(٢) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٠٨.

٤٤

إنّ المثل الأعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين، قد أصبح وهماً من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم بأموال المسلمين، يذكّرنا بالحجّاج وهشام ويوسف بن عمرو الثقفي، ولقد عمّ الاستياء أفراد الشعب بعد أن استفتح أبو عبد الله المعروف بـ (السفّاح) وكذلك (المنصور)، بالإسراف في سفك الدماء، على نحو لم يعرف من قبل(١) .

ويقول المؤرخون أيضاً عن أبي العباس السفاح أنّه كان سريعاً إلى سفك الدماء، فاتبعه عمّاله في ذلك، في المشرق والمغرب، واستنوا بسيرته، مثل: محمد بن الأشعث بالمغرب، وصالح بن علي بمصر، وخازم بن خزيمة، وحميد بن قحطبة، وغيرهم..(٢) .

لقد كان أبو جعفر المنصور يعلق الناس من أرجلهم حتى يؤدّوا ما عليهم..(٣) . ووصفه آخرون بأنه كان غادراً خدّاعاً، لا يتردد البتة في سفك الدماء... كان سادراً في بطشه، مستهتراً في فتكه، وتُعتبر معاملته لأولاد عليّ من أسوأ صفحات التاريخ العباسي(٤) .

وأما الهادي فقد كان يتناول المسكر ويحب اللهو والطرب وكان ذا ظلم وجبروت. وكان سيئ الأخلاق، قاسي القلب، جبّاراً، يتناول المسكر، ويلعب(٥) .

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٢) مروج الذهب: ٣/٢٢٢.

(٣) المحاسن والمساوئ: ٣٣٩.

(٤) مختصر تاريخ العرب و التمدن الإسلامي: ١٨٤.

(٥) تاريخ الخميس: ٢ / ٣٣١.

٤٥

وأما الرشيد، فيكفيه أنه ـ كما ينص المؤرخون ـ يشبه المنصور في كل شيء إلاّ في بذل المال حيث يقولون إن المنصور كان بخيلاً.

وهكذا لم يكن بقية الخلفاء العباسيين أفضل من الذين أشرنا إليهم، ولا كانت أيامهم بدعاً من تلك الأيام.

ولعل الكلمة التي تجمع صفات بني العباس الخلقيّة، هي الكلمة التي كتبها المأمون، وهو في مرو في رسالة منه للعباسيين، بني أبيه في بغداد، والمأمون هو من أهل ذلك البيت، الذين هم أدرى من غيرهم بما فيه، لأنهم عاشوا في خضمّ الأحداث، وشاهدوا كل شيء عن كثب، يقول المأمون في تلك الرسالة: (... وليس منكم إلاّ لاعب بنفسه، مأفون في عقله وتدبيره، إما مغنّ، أو ضارب دفّ، أو زامر، والله لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نُشِروا، فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها، لما زادوا على ما صيّرتموه لكم شعاراً ودثاراً، وصناعة وأخلاقاً. ليس منكم إلاّ من إذا مسّه الشر جزع، وإذا مسّه الخير منع. ولا تأنفون، ولا ترجعون إلاّ خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوباً، ويصبح بإثمه معجباً كأنه قد اكتسب حمداً، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرب، أحب الناس إليه مَن زيّن له معصية، أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة..)(١) .

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ٤٦٣ ـ ٤٦٤.

٤٦

الحالة السياسية في هذه المرحلة:

لا يمكن من الناحية التاريخية أن يفصل دور أي إمام من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام عن دور مَن سبقه من الائمة أو دَور مَن يليه منهم، بالنظر إلى تنوع الأدوار والأعمال والمهمّات التي ينهضون بها مع اتحاد الهدف والغاية والمقصد.

كما إن من العناصر المهمّة في فهم دور الإمام الجوادعليه‌السلام في تحريك الأوضاع في الاتجاه الذي يخدم المصالح العليا للإسلام والمسلمين، إلمامنا بالخطوط العامة للوضع السياسي في مرحلتي تصديه للقيادة بعد شهادة أبيه الإمام الرضاعليه‌السلام وقبل التصدي عندما كان في ظل أبيهعليه‌السلام وقد عاصر الإمام في هاتين المرحلتين خليفتين متميّزين بأسلوب الحكم وإن اشتركا بغصبهما لمنصب القيادة الشرعية والكيد لها وكانت إمامة الجوادعليه‌السلام واقعة في ملك ولدَي هارون الرشيد المأمون والمعتصم. وقبل تصديه للإمامة كان قد عاصر الأمين والمأمون معاً.

ولأجل أن نقف على أهم ملامح المرحلة الأولى من حياة هذا الإمام العظيم فلابد لنا أن نقف على أهم الأحداث السياسية لهذه المرحلة ونلمّ بأهم أسبابها وما خلّفته من آثار سلبية اجتماعية ودينية واقتصادية على الأمة الإسلامية عامة وعلى الدولة الإسلامية بشكل خاص.

ومن هنا لزم الوقوف عند ما يلي:

١ ـ الفتنة بين الأمين والمأمون.

٢ ـ الأمين ونزعاته واتجاهاته وسياسته.

٣ ـ المأمون ونزعاته واتجاهاته وسياسته.

إن الفتنة بين محمد الأمين وعبد الله المأمون ولدَي هارون الرشيد تعتبر أهمّ حدث سياسي قد وقع في هذه الرحلة التي نتكلم عن ملامحها، وقد عُبّر عنها بالفتنة الكبرى التي أدّت إلى إشعال نار الحرب بينهما وكلّفت المسلمين ثمناً باهضاً بذلوه من دماء وأموال وطاقات في سبيل استقرار الملك والسلطان لكل منهما.

وللوقوف على أسباب هذه الفتنة لابد أن نقف على شخصية كل واحد من هذين الأخوين بالإضافة إلى ما قام به الرشيد شخصياً لزرع بذور هذه الفتنة حيث عهد لأبنائه الثلاثة: الأمين ثم المأمون ثم المؤتمن وبذلك قد مهّد لهم سبيل التنافس على المُلك مع ما منحهم من إمكانيات وقدرات مادّية يتنافسون بسببها ويأمل كل منهم حذف من سواه، وسوق منصب الخلافة لأبنائه دون إخوته.

٤٧

محمّد الأمين: نزعاته وسياسته

لم تكن في الأمين أيّة صفة كريمة يستحق بها هذا المنصب الخطير في الإسلام، فقد أجمع المترجمون له على أنّه لم يتّصف بأيّة نزعة شريفة، وإنما قلّده الرشيد منصب الخلافة نظراً لتأثير زوجته السيدة زبيدة عليه وفيما يلي بعض صفاته:

١ ـ كراهيته للعلم: كان الأمين ينفر من العلم، ويحتقر العلماء، وكان أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب(١) وإذا كان بهذه الصفة كيف قلّده الرشيد الخلافة الإسلامية؟

٢ ـ ضعف الرأي: وكان الأمين ضعيف الرأي، وقد أعطي المُلك العريض ولم يحسن سياسته، وقد وصفه المسعودي بقوله: كان قبيح السيرة ضعيف الرأي

ـــــــــ

(١) السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي: ١ / ١٦.

٤٨

يركب هواه، ويهمل أمره، ويتّكل في جليلات الخطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه (١) .

ووصفه الكتبي بقوله: وكان قد هانَ عليه القبيح فاتّبع هواه، ولم ينظر في شيء من عقباه. وكان من أبخل الناس على الطعام، وكان لا يبالي أين قعد، ولا مع من شرب(٢) .

وممّا لا شبهة فيه أنّ أصالة الفكر والرأي من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يلي أمور المسلمين.

٣ ـ احتجابه عن الرعيّة: واحتجب الأمين عن الرعية كما احتجب عن أهل بيته وأمرائه وعمّاله واستخفّ بهم(٣) وانصرف إلى اللهو والطرب، وقد عهد إلى الفضل بن الربيع أمور دولته، فجعل يتصرف فيها حسب رغباته وميوله، وقد خفّ إلى الأمين إسماعيل بن صبيح، وكان أثيراً عنده، فقال له: يا أمير المؤمنين أنّ قوّادك وجُندك وعامة رعيتك، قد خبثت نفوسهم، وساءت ظنونهم وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم، ومراجعة لآمالهم.

واستجاب له الأمين فجلس في بلاطه ودخل عليه الشعراء فأنشدوه قصائدهم، ثمّ انصرف فركب الحرّاقة إلى الشماسية، واصطفّت له الخيل وعليها الرجال، وقد اصطفّوا على ضفاف دجلة، وحملت معه المطابخ والخزائن. أمّا الحرّاقة التي ركبها فكانت سفينة على مثال أسد وما رأى الناس منظراً كان أبهى من ذلك المنظر.

لقد كان الأمين إنساناً تافهاً قد اتجه إلى ملذّاته وشهواته ولم يُعنَ بأيّ شأن من شؤون الدولة الإسلامية.

ـــــــــ

(١) التنبيه والأشراف: ٣٠٢.

(٢) عيون التواريخ: ٣، ورقة: ٢١٢.

(٣) سمط النجوم: ٣ / ٣٠٦.

٤٩

٤ ـ خلعه للمأمون: وتقلّد الأمين الخلافة يوم توفّي الرشيد، وقد ورد عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب التي يتسلّمها كلّ من يتقلّد الخلافة من ملوك العباسيين وحينما استقرت له الأُمور خلع أخاه المأمون، وجعل العهد لولده موسى وهو طفل صغير في المهد وسمّاه الناطق بالحق، وأرسل إلى الكعبة من جاءه بكتاب العهد الذي علّقه فيها الرشيد، وقد جعل فيه ولاية العهد للمأمون بعد الأمين، وحينما أتى به مزّقه.

الحروب الطاحنة:

وبعد ما خلع الأمين أخاه المأمون عن ولاية العهد، وأبلغه ذلك رسمياً ندب إلى حربه علي بن عيسى، ودفع إليه قيداً من ذهب، وقال له: أوثق المأمون، ولا تقتله حتى تقدم به إلَيَّ وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع، ولمّا علم المأمون ذلك سمّى نفسه أمير المؤمنين، وقطع عنه الخراج، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير، وأعلن الخروج عن طاعته، وندب طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين إلى حربه، والتقى الجيشان بالري، وقد التحما في معركة رهيبة جرت فيها أنهار من الدماء وأخيراً انتصر جيش المأمون على جيش الأمين، وقتل القائد العام للقوات المسلحة في جيش الأمين، وانتهبت جميع أمتعته وأسلحته، وكتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الباهر وقد جاء في رسالته: (كتبت إليك، ورأس علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين) ودخل الفضل على المأمون فسلّم عليه بالخلافة، وأخبره بالأمر، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى طاهر القائد العام في جيشه بالهدايا والأموال، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك، وقد سمّاه ذا اليمينين، وصاحب خيل اليدين، وأمره بالتوجه إلى احتلال العراق والقضاء على أخيه الأمين.

٥٠

وخفّت جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، فحاصرت بغداد، وقد دام الحصار مدة طويلة تخرّبت فيها معالم الحضارة في بغداد، وعمّ الفقر والبؤس جميع سكانها وكثر العابثون، والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء، ونهبوا الأموال وطاردوا النساء حتى تهيأت جماعة من خيار الناس تحت قيادة رجل يقال له سهل بن سلامة فمنعوا العابثين وتصدوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد(١) .

وقد زحفت جيوش المأمون إلى قصر الأمين وطوّقته وألحقت الهزائم بجيشه، فلم تتمكّن قوّات الأمين من الصمود أمام جيش المأمون الذي كان يتمتّع بروح معنوية عالية بالإضافة إلى ما كان يملكه من العتاد والسلاح.

قتل الأمين:

وكان الأمين في تلك المحنة مشغولاً بلهوه، إذ كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم وكان فيهم (كوثر) الذي كان مغرماً به فكان يوافيه الأنباء بهزيمة جنوده، ومحاصرة قصره فلم يعن بذلك، وكان يقول: اصطاد كوثر ثلاث سمكات وما اصطدت إلاّ سمكتين!! وهجمت عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح وتلا قوله تعالى:( اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) (٢) .

ـــــــــ

(١) اتّجاهات الشعر العربي: ٧٣.

(٢) عيون التواريخ: ٣، ورقة: ٢١١ / حياة الإمام محمد الجواد عليه‌السلام : ١٩٣ ـ ١٩٧.

٥١

خلافة إبراهيم الخليع:

سمّي إبراهيم بالخليع لأنه لم يترك لوناً من ألوان المجون إلاّ ارتكبه، وكان مدمناً على الخمر في أكثر أوقاته، وقد نصّبه العبّاسيون خليفة عليهم، وذلك لحقدهم على المأمون وكراهيّتهم له، وقد بايعه الغوغاء، وأهل الطرب من الناس، ومن الطريف أنّ الغوغاء أرادوا منه المال فجعل يسوّفهم، وطال عليهم الأمر فأحاطوا بقصره فخرج إليهم رسوله فأخبرهم أنّه لا مال عنده، فقام بعض ظرفاء بغداد فنادى: (أخرجوا إلينا خليفتنا ليغنّي لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءً لهم...)(١) .

وزحف المأمون بجيوشه نحو بغداد للقضاء على تمرّد إبراهيم، فلمّا علم ذلك هرب، وهرب من كان يعتمد على نصرته، وظلّ إبراهيم مختفياً في بغداد يطارده الرعب والخوف، وقد ظفر به المأمون فعفا عنه لأنّه لم يكن له أي وزن سياسي حتى يخشى منه.

ثورة أبي السرايا:

من أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام أبي جعفرعليه‌السلام ثورة أبي السرايا التي استهدفت القضايا المصيرية لجميع الشعوب الإسلامية، فقد رفعت شعار الدعوة إلى (الرضا من آل محمّدعليه‌السلام ) الذين كانوا هم الأمل الكبير للمضطهدين والمحرومين، وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة العبّاسية، فقد استجاب لها معظم الأقطار الإسلامية، فقد كان قائدها الملهم أبو السرايا ممّن هذّبته الأيام، وحنّكته التجارب، وقام على تكوينه عقل كبير، فقد استطاع

ـــــــــ

(١) حياة الإمام محمّد الجوادعليه‌السلام : ١٩٨.

٥٢

بمهارته أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ويجعلهم قادة في جيشه، ممّا أوجب اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى تأييد ثورته والانضمام إليها إلاّ أنّ المأمون قد استطاع بمهارة سياسية فائقة أن يقضي على هذه الحركة، ويقبرها في مهدها، فقد جلب الإمام الرضاعليه‌السلام إلى خراسان، وأرغمه على قبول ولاية العهد، وأظهر للمجتمع الإسلامي أنّه علوي الرأي، فقد رفق بالعلويّين، وأوعز إلى جميع أجهزة حكومته بانتقاص معاوية والحطّ من شأنه، وتفضيل الإمام أمير المؤمنين على جميع صحابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعتقد الجمهور أنّه من الشيعة واستطاع بهذا الأسلوب الماكر أن يتغلّب على الأحداث ويخمد نار الثورة(١)

لقد عاش الإمام أبو جعفر محمّد الجوادعليه‌السلام معظم حياته في عهد المأمون، ولم يلبث بعده إلاّ قليلاً حتى وافاه الأجل المحتوم.. ويرى بعض المؤرّخين أنّ المأمون كان يكنّ له أعظم الودّ وخالص الحبّ، فزوّجه من ابنته أم الفضل، ووفّر له العطاء الجزيل، وكان يحوطه، ويحميه ويخشى عليه عوادي الدهر، ويضنّ به على المكروه، وكان يصرّح أنّه يبغي بذلك الأجر من الله، وصلة الرحم التي قطعها آباؤه، وفيما أحسب أنّ ذلك التكريم لم يكن عن إيمان بالإمام أو إخلاص له، وإنّما كان لدوافع سياسية نعرض لها في المباحث الآتية.

وعلى أيّة حال فلابدّ لنا من وقفة قصيرة لدراسة حياة المأمون، والوقوف على اتّجاهاته الفكرية والعقائدية، والنظر فيما صدر منه من تكريم للإمامعليه‌السلام فإنّ ذلك ممّا يرتبط ارتباطاً موضوعيّاً بالبحث عن حياة الإمام أبي جعفرعليه‌السلام .

ـــــــــ

(١) راجع حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٥٣

عبد الله المأمون: نزعاته وسياسته

عبد الله المأمون هو أبو العباس بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ولد بالياسرية في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول سنة (١٧٠ هـ) وبويع له بمرو فتوجه إلى بغداد وقدمها وعمره إذ ذاك تسع وعشرون سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام.

وأمه أم ولد تسمّى مراجِل.

من أبرز نزعات المأمون وصفاته:

١ ـ الدهاء: لم يعرف العصر العبّاسي من هو أذكى من المأمون، ولا من هو أدرى منه في الشؤون السياسية العامّة ، فقد كان سياسياً من الطراز الأوّل، حتّى استطاع بحدّة ذكائه، وقدراته السياسية أن يتغلّب على كثير من الأحداث الرهيبة التي ألمّت به، وكادت تطوي حياته، وتقضي على سلطانه، فقد استطاع أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتّع بتأييد مكثّف من قِبل الأسرة العبّاسيّة، والسلطات العسكرية، كما استطاع أن يقضي على أعظم حركة عسكرية مضادّة له، تلك ثورة أبي السرايا التي اتّسع نطاقها فشملت الأقاليم الإسلامية حتى سقط بعضها بأيدي الثوار، وكان شعار تلك الثورة الدعوة إلى الرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمل الإمام الرضاعليه‌السلام إلى خراسان، وكانعليه‌السلام زعيم الأسرة العلويّة وعميدها، فأرغمه على قبول ولاية العهد، وعهد إلى جميع أجهزة حكومته بإذاعة فضائله ومآثره، كما ضرب السكّة باسمه، فأوهم بذلك على الثوار والقوى الشعبية المؤيّدة لهم أنّه جادّ فيما فعله، حتى أيقنوا أنّه لا حاجة إلى الثورة وإراقة الدماء بعد أن حصل الإمامعليه‌السلام على ولاية العهد، وقضى بذلك على الثورة، وطوى معالمها، وهذا التخطيط كان من أروع المخطّطات السياسية التي عرفها العالم في جميع مراحل التاريخ.

٢ ـ القسوة: وانعدام الرحمة والرأفة من آفاق نفسه هي صفة أخرى له، والذي يدعم ذلك فهو قتله لأخيه حينما استولت عليه قوّاته العسكرية، ولو كان يملك شيئاً من الرحمة لما قتل أخاه. كما أنّه قابل العلويّين بعد قتله للإمام الرضاعليه‌السلام بمنتهى الشدّة والقسوة، فعهد إلى جلاّديه بقتلهم والتنكيل بهم أينما وجِدوا.

٥٤

٣ ـ الغدر: فقد بايع للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وبعد ما تحققت مآربه السياسية دسّ إليه السمّ فقتله ليتخلّص منه.

٤ ـ ميله إلى اللهو: أمّا الميل إلى اللهو فقد أقبل عليه بنهم وفيما يلي بعض ما أثر عنه:

لعبه بالشطرنج:

ولم يكن شيء من الملاهي أحبّ إلى المأمون من الشطرنج(١) فقد هام في هذه اللعبة وقد وصفها بهذه الأبيات:

أرض مربّعة حمراء من أدم

ما بين ألفين موصوفين بالكرم

تذاكرا الحرب فاحتلالها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دم

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنم

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركة

في عسكرين بلا طبل ولا علم(٢)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، ولعلّه أسبق من نظم فيه الشعر الذي أحاط بأوصافه، وكان أبوه الرشيد مولعاً بالشطرنج، وقد أهدى إلى ملك فرنسا أدواته، وتوجد حالياً في بعض متاحف فرنسا.

ـــــــــ

(١) العقد الفريد: ٣ / ٢٥٤.

(٢) المستطرف: ٢ / ٣٠٦.

٥٥

ولعبه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، وكان له هوى شديد في ذلك وكان معجباً كأشدّ ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي، الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي، وقد قال فيه: كان لا يغنّي أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان(١) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود، ولم يمرّ اسم الله ولا ذكره في قصوره ولياليه.

٥ ـ تظاهره بالتشيّع:

لقد تظاهر المأمون بالتشيّع، حتى اعتقد الكثيرون أنّه من الشيعة ; لأنّه قام بما يلي:

أ ـ ردّ فدك للعلويّين: بعد أن صادرتها الحكومات السابقة عليه وكان قصدها إشاعة الفقر بين العلويّين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم حتى يشغلهم الفقر والبؤس عن مناهضة أولئك الحكّام، وقد أنعش المأمون العلويّين، ورفع عنهم تلك الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، واعتبر البعض هذا الإجراء دليلاً على تشيّعه.

ب ـ تفضيل الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام على الصحابة: وقام المأمون بإجراء خطير فقد أعلن رسمياً فضل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام على عموم الصحابة كما أعلن الحطّ من معاوية بن أبي سفيان.

وكان هذا الإجراء من أهمّ المخطّطات التي تُلفت النظر إلى تشيّعه، فقد جرى سلفه على انتقاص الإمامعليه‌السلام ، والحطّ من شأنه، وتقديم سائر الصحابة عليه.

ـــــــــ

(١) الحضارة العربية لجاك س. ريلر: ١٠٨.

٥٦

ج ـ ولاية العهد للإمام الرضا عليه‌السلام : حيث قيل إنّ معناها أنه قد أخرج بذلك الخلافة من العبّاسيّين إلى العلويّين.

ويلاحظ على كل هذه الظواهر أنه إنّما صنع الأُمور المتقدّمة تدعيماً لسياسته وأغراضه، ويدلّ على ذلك ما يلي:

أوّلاً: إنّه كان مختلفاً كأشدّ ما يكون الاختلاف مع الأسرة العبّاسية الذين كانت ميولهم مع أخيه الأمين لأنّ أُمّه زبيدة كانت من أندى الناس كفّاً، ومن صميم العبّاسيّين، أمّا أُمّ المأمون فهي مراجل، وكانت من إماء القصر العبّاسي، وكان العبّاسيّيون ينظرون إليه نظرة احتقار باعتبار أمه، فأراد المأمون بما أظهره من التشيّع إرغام أسرته الذين كانوا من ألدّ الأعداء لآل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشيعتهم.

ثانياً: إنّه أراد كشف الشيعة، ومعرفة السلطة بهم بعدما كانوا في الخفاء، ولم تستطع الحكومات العبّاسية معرفتهم والوقوف على أسمائهم وخلاياهم، فأراد المأمون بما صدر منه من إحسان لهم أن يكشفهم، وقد دلّت على ذلك بعض الوثائق الرسمية التي صدرت منه.

ثالثاً: إنّه أراد القضاء على الحركة الثورية التي فجّرتها الشيعة بقيادة الزعيم الكبير أبي السرايا، فرأى المأمون أن خير وسيلة للقضاء عليها وشلّ فعّاليّاتها هو الإحسان إلى الشيعة(١) .

ـــــــــ

(١) راجع حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٢١ ـ ٢٢٥.

٥٧

وقفة عند سلوك المأمون ونزعاته:

كانت حياة المأمون ـ قبل توليه الخلافة ـ حياة جد ونشاط وتقشف، على العكس من أخيه الأمين، الذي كان يميل إلى اللعب والبطالة أكثر منه إلى الجد والحزم.

ولعل سرّ ذلك يعود إلى أن المأمون لم يكن كأخيه، يشعر بأصالة محتده، ولا كان مطمئناً إلى مستقبله، والى رضا العبّاسيين به، بل كان يقطع بعدم رضاهم به خليفةً وحاكماً، ولهذا فقد وجد انه ليس لديه أي رصيد يعتمد عليه غير نفسه، فشمر عن ساعد الجد وبدأ يخطط لمستقبله منذ أن أدرك واقعه، والمميزات التي كان يتمتع بها أخوه الأمين عليه.

ويُلاحظ أنه كان يستفيد من أخطاء أخيه الأمين وأن الفضل عندما رأى اشتغال الأمين باللهو واللعب، أشار على المأمون بإظهار الورع والدين، وحسن السيرة، فأظهر المأمون ذلك وكان كلما اعتمد الأمين حركة ناقصة اعتمد المأمون حركة شديدة.

ومن هنا يتبيّن السرّ فيما يبدو من رسالته للعبّاسيين، حيث نصب فيها نفسه واعظاً تقيّاً، وأضفى عليها هالة من الورع والزهد في الدنيا والالتزام بأحكام الشريعة، ليروه ويراه الناس نوعية أخرى تفضل على نوعية أخيه الأمين.

وقد برع المأمون في العلوم والفنون حتى فاق أقرانه، بل فاق جميع خلفاء بني العباس، فإنه لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون(١) .

وهو أعلم الخلفاء بالفقه والكلام(٢) .

وكل مَن تعرّض من المؤرخين وغيرهم، لشرح حال المأمون، قد شهد له

ـــــــــ

(١) حياة الحيوان: ١ / ٧٢.

(٢) الفهرست: ١٧٤، ابن النديم.

٥٨

بالتقدم، وبأنه رجل خلفاء بني العباس وواحدهم (١) .

وما يهمنا هنا، هو مجرد الإشارة إلى حال المأمون، وما كان عليه من الدهاء والسياسة وحسن التدبير.

وبالرغم من جدارة المأمون فيما إذا قورن إلى أخيه الأمين باعتراف أبيه الرشيد بذلك، لكن الرشيد قد اعتذر عن إسناده الأمر إلى الأمين بأن العبّاسيين لا يرضون بالمأمون خليفة(٢) .

ويرى بعض المؤرخين أنّ السرّ في عدم رضا العبّاسيين بالمأمون يرجع إلى أن الأمين كان عبّاسيّاً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى فأبوه: هارون، وأمه زبيدة حفيدة المنصور... وكان في كنف الفضل بن يحيى البرمكي أخي الرشيد من الرضاعة وأعظم رجل نفوذاً في بلاط الرشيد، وكان يشرف على مصالحه الفضل بن الربيع، العربي الذي لم يكن ثمّة من شك في ولائه للعبّاسيين.

أمّا المأمون فقد كان في كنف جعفر بن يحيى، الذي كان أقل نفوذاً من أخيه الفضل. وكان مؤدبه والذي يشرف على مصالحه ذلك الرجل الذي لم يكن العباسيون يرتاحون إليه لأنه كان متهماً بالميل إلى العلويين... أما أم المأمون فخراسانية غير عربية...(٣) .

التحدّيات التي واجهت حكم المأمون وموقفه منها

لقد جابه حكم المأمون تحديات خطيرة كانت تهدد كيانه وكادت تعصف به، وكان بقاؤه في السلطة يحتاج إلى الكثير من الدهاء.

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٤.

(٢) راجع الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٢.

(٣) راجع الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٦ ـ ١٥٧.

٥٩

وأهمّ ما كان يواجه المأمون ما يلي:

١ ـ تحرك الشيعة ضده وكان تحركاً عنيفاً، وكانت ثورة أبي السرايا التي عمّت الكثير من الحواضر الإسلامية آنذاك نموذجاً له.

٢ ـ تكتل العائلة العباسية ضد المأمون ووقوفها إلى جانب الأمين أولاً، ثم عزلها له وتعيين عمه إبراهيم بن المهدي بعد ذلك.

٣ ـ تحركات الخوارج والفئات المناوئة الأخرى.

٤ ـ وجود المخاطر الخارجية من جانب الدول المتربصة بالدولة الإسلامية، خصوصاً الدولة البيزنطية.

وأمام هذه التحديات قام المأمون بما يلي:

أولاً ـ تصفيته لتحرك أخيه الأمين والقوى المتحركة القوية ضده.

ثانياً ـ القيام بلعبة تولية الإمام الرضاعليه‌السلام لولاية العهد بالإكراه ليصوّر للأمة أنه مع القيادة الشرعية وأنه نقل الحكم إليها وهذا من شأنه أن يقلل من الروح الثورية للأمة باتجاه إقامة الحكم بقيادة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثالثاً ـ محاربة وتصفية ثورات العلويين.

رابعاً ـ التصفية الجسدية للإمام الرضاعليه‌السلام بعد انتهائه من تصفية الثورات الخطيرة.

خامساً ـ التوجّه إلى بغداد للقضاء على معارضة البيت العباسي.

سادساً ـ تصفية مراكز القوى في الدولة باتجاه تعزيز قوته ووضعه.

سابعاً ـ إشاعة فتنة خلق القرآن لإشغال الناس بها عمّا يهمّهم.

ثامناً ـ تصفية قوى المعارضة من قبيل الخوارج.

تاسعاً ـ التوجه لمحاربة الدولة البيزنطية ودفع خطرها.

العلاقة بين الإمام الرضاعليه‌السلام والمأمون

وصلت المسيرة الإسلامية إثناء إمامة الرضاعليه‌السلام إلى مرحلة متقدمة نتيجة الجهود العظيمة التي بذلها الأئمة السابقون على الإمام الرضاعليه‌السلام مما جعل السلطة العباسية مضطرة للدخول فيما دخلت فيه من تولية الإمام الرضاعليه‌السلام لولاية العهد والإيحاء بتحويل الخلافة من العباسيين لأهل البيتعليهم‌السلام . ولإيضاح هذا الأمر نذكر الأُمور التالية:

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

يوم عاشوراء

«إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما»

أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام

٢٢١

يوم عاشوراء

لَو كان يدري يوم عاشوراء

مـا كان يجري فيه من بلاء

مـا لاح فـجره ولا استنارا

ولا أضـاءت شمسه نهارا

سـوّد حـزناً أوجـه الأيام

وأوجـه الـشهور والأعوام

الله مـا أعـظمه مـن يوم

أزال صـبري وأطار نومي

الـيوم أهـل آيـة التطهير

بـين صـريع فيه أو عفير

اليوم قد مات الحفاظ واُلوفا

اليوم كاد الدّين يقضي أسفا

الـيوم نامت أعين الأعداء

وسـهدِّت عيون ذي الولاء

وَيلي وهل يجدي حزيناً ويل

لأضـلع تـدوسهنَّ الـخيل

وارؤس عـلى الرماح ترفع

وجثث على الصعيد تُوضَع

وثـاكل تـبدو من الخدور

تـعـجُّ بـالويل وبـالثبور

ومـرضع ترنو إلى رضيع

على التراب فاحص صريع

ونـسوة تـسبى على النياق

حـسرى تـعاني ألم الفراق

أهـمّ شـيء لـذوي الولاء

أن يـجلسوا للنوح و العزاء

فـيه تـقام سـنن المصاب

والترك للطعام والشراب(١)

لقد مرّ هذا اليوم على آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّه شجاء مترامي الأطراف، أثّرت فجائعه في القلوب فأذابتها وفي المدامع فأدمتها، فلا تسمع فيه إلاّ صرخة فاقد وزفرة ثاكل وحنة محزون، ولا تبصر إلاّ كلّ أشعث قد أنهكه ألم المصاب، و مغبر يذري على رأسه التراب، إلى لادم صدراً وصاك جبهته وقابض على فؤاد وصافق بيده الاُخرى، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى؛ لكن لوعة المصاب أليمة وكوارثه عظيمة. ولَو يكشف لك عن الملأ الأعلى لسمعت لعالم الملكوت صرخة وحنة، وللحور في غرف الجنان نشيجاً ونحيباً ولأئمّة الهدى بكاءاً وعويلاً.

ولا بدع؛ فالفقيد فيه عبق الرسالة وألق الخلافة وإكليل تاج الإمامة، وهو سبط المصطفى وبضعة فاطمة الزهراء وفلذة كبد الوصي المرتضى وشقيق السّبط

____________________________

(١) المقبولة الحسينية / ٦٢، لحجة الإسلام آية الله الشيخ هادي آل كاشف الغطاء قدس الله سره.

٢٢٢

المجتبى و حجّة الله على الورى، نعم هو الآية المخزونة والرحمة الموصولة والأمانة المحفوظه والباب المبتلى به النّاس.

فمصابه يقلّ فيه البكاء، ويعز عنه العزاء. فلو تطايرت شظايا القلوب وزهقت النّفوس جزعاً لذلك الحادث الجلل لكان دون واجبه. أو ترى للحياة قيمة والمؤدّى به هو ذلك العنصر الحيوي الزاكي. وما قدر الدمع المراق والموتور ثار الله في الأرض؟ أو يهدأ الكون والذاهب مرساه ومنجاه في مسراه؟ وهل ترقأ العين وهي ترنو بالبصيرة إلى ضحايا آل محمّد مجزّرين على وجه الصعيد مبضعة أجسادهم بين ضريبة للسيوف ودرية للرماح ورمية للنبال؟ وقد قضوا وهم رواء الكون ظماء على ضفة الفرات الجاري، تلغ فيه الكلاب وتشرب منه وحش الفلا، غير أنّ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله محلأون عنه؟ وللمذاكي عقرن فلا يلوى لهنّ لجام، تجوال على تلك الصدور الزواكي ولصدر الحسين حديثه الشجي:

وأعـظم خـطب أنّ شمراً له على

جـناجن صـدر ابْـن النبيّ مقاعد

فـشُلَّت يـداه حـين يفري بسيفه

مـقلّد مـن تـلقى إلـيه الـمقالد

وأىّ فـتى أضـحت خـيول اُميّة

تـعادى عـلى جـثمانه وتـطارد

فـلهفي لـه والـخيل منهنَّ صادر

خضيب الحوافي في دماه ووارد(١)

فاللازم على الموالي المتأسّي بالنّبي الأعظم الباكي على ولده بمجرّد تذكّر مصابه(٢) أنْ يقيم المأتم على سيّد الشهداء، و يأمر مَن في داره بالبكاء عليه، و ليعزّ بعضهم بعضاً بالحسين، فيقول كما في حديث الباقرعليه‌السلام :

«عظّم الله اُجورنا و اُجوركم بمصابنا بالحسين، و جعلنا و إيّاكم من الطالبين بثأره مع وليّه المهدي من آل محمّد عليهم‌السلام » (٣) .

دخل عبد الله بن سنان على أبي عبد الله الصادقعليهم‌السلام في يوم عاشوراء، فرآه كاسف اللون ظاهر الحزن و دموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ فقال له: مِمَّ بكاؤك يابن رسول الله؟ قالعليه‌السلام :«أوَفي غفلة أنت؟! أما علمت أنّ الحسين اُصيب في هذا اليوم؟» ، ثمّ أمره أنْ يكون كهيئة أرباب المصائب، يحلل

____________________________

(١) للشيخ جعفر الخطي، كما في الدر النضيد / ٩٣.

(٢) الخصائص للسيوطي ٢ / ١٢٥، وأعلام النبوّة للماوردي / ٨٣.

(٣) كامل الزيارات / ١٧٥، ومصباح المتهجّد للشيخ الطوسي / ٣٩.

٢٢٣

أزراره ويكشف عن ذراعَيه ويكون حاسراً، ولا يصوم يوماً كاملاً، وليكن الافطار بعد العصر بساعة على شربة من ماء؛ ففي ذلك الوقت تجلّت الهيجاء عن آل محمّد. ثم قالعليه‌السلام :«لَو كان رسول الله حيّاً لكان هو المعزّى به» (١) .

وأمّا الإمام الكاظمعليه‌السلام فلَم يرَ ضاحكاً أيّام العشرة وكانت الكآبه غالبة عليه، ويوم العاشر يوم حزنه ومصيبته.

ويقول الرضاعليه‌السلام :«فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء» .

وفي زيارة النّاحية يقول حجّة آل محمّد عجّل الله فرجه:«فلأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً» .

وبعد هذا فهلاّ يجب علينا أن نخرق ثوب الاُنس ونتجلبب بجلباب الحزن والبكاء ونعرف كيف يجب أن نعظّم شعائر الله بإقامة المأتم للشهيد العطشان في العاشر من المحرّم؟!

الـيوم ديـنُ الهدى خرَّت دعائمُه

ومـلّة الـحقّ جـدّت في تداعيها

الـيوم ضلّ طريق العرف طالبه

وسُـدّ باب الرجا في وجه راجيها

الـيوم عـادت بنو الآمال متربةً

الـيوم بـان العفا في وجه عافيها

الـيوم شـقّ عـليه الـمجد حلّته

الـيوم جـزَّت له العليا نواصيها

اليوم عقد المعالي أرفض جوهره

الـيوم قد أصبحت عطْلٌ معاليها

الـيوم أظلم نادي العزّ من مضر

اليوم صرْفُ الردى أرسى بواديها

الـيوم قامت به الزهراء نادبةً

الـيوم آسـية وافـت تواسيها

الـيوم عـادت لدين الكفر دولتُه

الـيوم نـالت بـنو هـند أمانيها

مـا عذر ارجاس هند يوم موقفه

والمصطفى خصمهم والله قاضيها

مـا عـذرها ودِمـا ابنائه جعلت

خضاب أعيادها في راح ناديها(٢)

****

____________________________

(١) مزار ابن المشهدي من أعلام القرن السادس.

(٢) في شعراء الحلّة ٥ / ٥٤٠، إنّها للشيخ هادي النّحوي المتوفى سنة ١٢٢٥ ﻫ.

٢٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء

قال ابن قَولويه و المسعودي(١) : لما أصبح الحسين يوم عاشوراء وصلّى بأصحابه صلاة الصبح، قام خطيباً فيهم حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:«إنّ الله تعالى أذِن في قتلكم و قتلي في هذا اليوم، فعليكم بالصبر والقتال» .

ثمّ صفّهم للحرب وكانوا اثنين وثمانين فارساً وراجلاً، فجعل زهير بن القين في المَيمنة، وحبيب بن مظاهر في المَيسرة، وثبت هوعليه‌السلام وأهل بيته في القلب(٢) ، وأعطى رايته أخاه العباس(٣) ؛ لأنّه وجد قمر الهاشميين أكفأ ممَّن معه لحملها، وأحفظهم لذمامه وأرأفهم به، وأدعاهم إلى مبدئه وأوصلهم لرحمه، وأحماهم لجواره وأثبتهم للطعان، وأربطهم جأشاً وأشدّهم مراساً(٤) .

وأقبل عمر بن سعد نحو الحسينعليه‌السلام في ثلاثين ألفاً وكان رؤساء

____________________________

(١) كامل الزيارات / ٧٣، وإثبات الوصيّة / ١٣٩، المطبعة الحيدرية.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ / ٤.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١، وتذكرة الخواص / ١٤٣ الطبعة الحجريّة.

(٤) اختلف المؤرّخون في عدد أصحاب الحسين؛

الأول: أنّهم اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد، والطبرسي في إعلام الورى / ١٤٢، والفتال في روضة الواعظين / ١٥٨، وابن جرير في التأريخ ٦ / ٢٤١، وابن الأثير في الكامل ٤ / ٢٤، والقرماني في أخبار الدول / ١٠٨، والدينوري في الأخبار الطوال / ٣٥٤.

الثاني: إنّهم إثنان وثمانون راجلاً، نسبه في الدمعة الساكبة / ٣٢٧ إلى الرواية وهو المختار.

الثالث: ستون راجلاً، ذكره الدميري في حياة الحيوان في خلافة يزيد ١ / ٧٣.

الرابع: ثلاثة وسبعون رجلاً، ذكره الشريشي في شرح مقامات الحريري ١ / ١٩٣.

الخامس: خمسة وأربعون فارساً ونحو مئة راجل ذكره ابن عساكر كما في تهذيب تاريخ الشام ٤ / ٣٣٧.

السادس: إثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، ذكره الخوارزمي في المقتل ٢ / ٤.

السابع: واحد وستّون رجلاً، ذكره المسعودي في إثبات الوصيّة / ٣٥، طبع المطبعة الحيدرية.

الثامن: خمسة وأربعون فارساً ومئة راجل ذكره ابن نما في مثير الأحزان / ٢٨، وفي اللهوف / ٥٦: أنّه المروي عن الباقرعليه‌السلام .

التاسع: إثنان وسبعون رجلاً، ذكره الشبراوي في الإتحاف بحبِّ الأشراف / ١٧.

العاشر: ما في مختصر تاريخ دول الإسلام للذهبي ١ / ٣١: أنّهعليه‌السلام سار في سبعين فارساً من المدينة.

٢٢٥

الأرباع بالكوفة يومئذ: عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي على ربع أهل المدينة، وعبد الرحمن بن أبي سبرة الحنفي على ربع مذحج وأسد، وقيس بن الأشعث على ربع ربيعة وكندة، والحرّ بن يزيد الرياحي على ربع تميم وهمدان(١) ، وكلّهم اشتركوا في حرب الحسين إلاّ الحرّ الرياحي.

وجعل ابنُ سعد على المَيمنة عمرو بن الحَجّاج الزبيدي، وعلى المَيسرة شمر بن ذي الجوشن العامري، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي، والراية مع مولاه ذويد(٢) .

وأقبلوا يجولون حول البيوت فيرون النّار تضطرم في الخندق، فنادى شمر بأعلى صوته: يا حسين، تعجّلت بالنّار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسينعليه‌السلام :«مَن هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن»، قيل نعم فقالعليه‌السلام :«يابن راعية المعزى، أنت أولى بها منّي صِليّا». ورام مسلم بن عوسجة أنْ يرميه بسهم، فمنعه الحسين و قال:«أكره أنْ أبدأهم بقتال» (٣) .

دعاء الحسين

ولما نظر الحسينعليه‌السلام إلى جمعهم كأنّه السيل، رفع يدَيه بالدعاء وقال:«اللهمّ، أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبةً منّي إليك عمَّن سواك فكشفته وفرّجته، فأنت ولي كلّ نعمة ومنتهى كلّ رغبة» (٤) .

____________________________

(١) في شرح النّهج لابن أبي الحديد ١ / ٨١، الطبعة المصرية: كانت الكوفة اسباعاً.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

(٣) الإرشاد للشيخ المفيد، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٤٢.

(٤) ابن الاثير في الكامل ٤ / ٢٥، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٢٣٣، وذكر الكفعمي في المصباح / ١٥٨، طبعة الهند: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا به يوم بدر. واختصره الذهبي في سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠٢.

٢٢٦

الخطبة الاُولى

ثمّ دعا براحلته فركبها، و نادى بصوت عال يسمعه جلّهم:

«أيّها النّاس اسمعوا قَولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حقّ لكم عليَّ، وحتّى أعتذر إليكم من مَقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النّصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيل. وإنْ لَم تقبلوا مِنّي العذر ولَم تعطوا النّصف من أنفسكم، فأجمعوا أمركم و شركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة. ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون. إنّ ولييّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين» .

فلمّا سمعنَ النّساء هذا منه صحنَ وبكينَ وارتفعت أصواتهنَّ، فأرسل إليهنَّ أخاه العبّاس وابنه علياً الأكبر وقال لهما:«سكّتاهنَّ فلعمري ليكثر بكاؤهنَّ» .

ولما سكتنَ، حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره ولَم يُسمع متكلّم قبله ولا بعده أبلغ منه في منطقه(١) ، ثمّ قال:«عباد الله، اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر؛ فإنّ الدنيا لَو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء وأولى بالرضا وأرضى بالقضاء، غير أنّ الله خلق الدنيا للفناء، فجديدها بالٍ ونعيمها مضمحل وسرورها مكفهر، والمنزل تلعة والدار قلعة، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى، واتقوا الله لعلّكم تفلحون (٢) .

أيّها النّاس إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتُخيّب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحلَّ بكم نقمته، فنِعمَ الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم؛ أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٢.

(٢) زهر الآداب للحصري ١ / ٦٢، طبعة دار الكتب العربية، سنة ١٣٧٢.

٢٢٧

الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولِما تريدون. إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين (١) .

أيّها النّاس أنسبوني مَن أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار عمّي، أوَ لَم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ - والله ما تعمدتُ الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه - وإنْ كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!»

فقال الشمر: هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال الحسينعليه‌السلام :«فإنْ كنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم اتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟! أو مال لكم استهلكته؟! أو بقصاص جراحة؟!»، فأخذوا لا يكلّمونه!

فنادى:«يا شبث بن ربعي، ويا حَجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحارث ألم تكتبوا إليَّ أنْ اقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة؟»

فقالو: لَم نفعل.

قال:«سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم». ثمّ قال:«أيّها النّاس، إذا كرهتموني

____________________________

(١) مقتل محمّد بن أبي طالب الحايري.

٢٢٨

فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض». فقال له قَيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمّك؟ فإنّهم لَن يروك إلاّ ما تُحبّ ولَن يصل إليك منهم مكروه.

فقال الحسينعليه‌السلام :«أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد (١) ، عباد الله إنّي عذتُ بربّي وربّكم أنْ ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبِّر لا يؤمن بيوم الحساب» .

ثمّ أناخ وأمر عقبة بن سمعان فعقلها(٢) .

وقـام لـسان الله يـخطب واعـظاً

فـصمّوا لـما عن قدس أنواره عموا

وقال انسبوني مَن أنا اليوم وانظروا

حـلالٌ لـكم مـنّي دمـي أم محرّم

فـمـا وجـدوا إلاّ الـسِّهام بـنحره

تــراش جـواباً والـعوالي تـقَّوم

ومـذ أيـقن السّبط انمحى دين جَدّه

ولَم يبقَ بين النّاس في الأرض مسلم

فـدى نـفسه في نصرة الدين خائضاً

عـن الـمسلمين الـغامرات ليسلموا

وقـال خـذيني يا حتوف وهاك يا

سـيوف فـأوصالي لـك اليوم مغنم

وهـيهات أن أغدو على الضّيم جاثماً

ولـو لا عـلى جـمر الأسـنَّة مجثم

وكـرّ وقد ضاق الفضا وجرى القضا

وسـال بـوادي الـكفر سيل عرمرم

ومـذ خـرّ بـالتعظيم لله سـاجداً

لـه كـبّروا بـين السّيوف وعظموا

وجـاء إلـيه الـشّمر يـرفع رأسه

فـقـام بـه عـنه الـسّنان الـمقوّم

وزُعْـزع عـرش الله وانـحطَّ نوره

فـأشرق وجه الأرض والكون مظلم

____________________________

(١) (بالفاء الموحّدة فيهما)، رواه ابن نما في مثير الأحزان / ٢٦، وهو أصح ممّا يمضي على الألسن، ويوجد في بعض المقاتل (بالقاف) من الإقرار؛ لأنّه على هذا تكون الجملة الثانية غير مفيدة، إلاّ ما أفادته التي قبلها بخلافه على قراءة الفرار، فإنّ الجملة الثانية تفيد أنّه لا يفرّ من الشدة والقتل، كما يصنعه العبيد. وهو معنى غير ما تؤدي إليه الجملة التي قبلها، على أنّه يوجد في كلام أمير المؤمنين ما يشهد له، ففي تاريخ الطبري ٦ / ٧٦ الطبعة الاُولى وكامل ابن الأثير ٣ / ١٤٨، ونهج البلاغة ١ / ١٠٤، المطبعة الأميريّة: إنّ أمير المؤمنين قال في مصقلة بن هبيرة لمّا فرّ إلى معاوية:«ما لَه فعل فعل السيّد، وفرّ فرار العبد، وخان خيانة الفاجر؟!»، وقصّته على ما ذكرها ابن حزم في جمهرة أنساب العرب / ١٦٤: إنّ أصحاب الحريث بن راشد من بني عبد البيت بن الحارث ارتدّوا أيام عليعليه‌السلام فحاربهم وقتلهم وسبى نساءهم وأبناءهم، فابتاعهم مصقلة الشيباني وأعتقهم ثمّ هرب إلى معاوية، فأمضى عليعليه‌السلام عتقه لهم.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٣.

٢٢٩

ومذ مال قطب الكون مال وأوشك

انـقلاباً يـميل الـكائنات ويـعدم

وحين ثوى في الأرض قرَّ قرارها

وعادت ومن أوج السّما وهي أعظم

فـلهفي لـه فـرداً عليه تزاحمت

جـموع الـعدى تزداد جهلاً فيحلم

ولـهفي لـه ظـامٍ يـجود وحوله

الـفرات جـرى طامٍ وعنه يحرَّم

ولـهفي لـه مـلقىً وللخيل حافر

يـجول عـلى تلك الضلوع وينسم

ولـهفي على أعضاك يابن محمد

تُــوزّع فـي أسـيافهم وتـسهم

فـجسمك مـا بين السّيوف موزَّع

ورحـلك مـا بـين الأعادي مقسّم

فـلهفي عـلى ريحانة الطُّر جسمه

لـكلّ رجـيم بـالحجارة يرجم(١)

كرامة وهداية

وأقبل القوم يزحفون نحوه، وكان فيهم عبد الله بن حوزة التميمي(٢) فصاح: أفيكم حسين؟ وفي الثالثة قال أصحاب الحسين: هذا الحسين فما تريد منه؟ قال: يا حسين، أبشر بالنّار، قال الحسين:«كذبت، بل أقدم على ربّ غفور كريم مطاع شفيع. فمَن أنت؟» قال: أنا ابن حوزة. فرفع الحسين يدَيه حتّى بانَ بياض ابطَيه وقال: «اللهمّ، حزه إلى النّار، فغضب ابن حوزة وأقحم الفرس إليه وكان بينهما نهر فسقط عنها وعلقت قدمه بالركاب، وجالت به الفرس وانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر معلّقاً بالركاب، وأخذت الفرس تضرب به كلّ حجر وشجر(٣) ، وألقته في النّار المشتعلة في الخندق فاحترق بها ومات. فخرّ الحسينعليه‌السلام ساجداً شاكراً حامداً على إجابة دعائه، ثمّ إنّه رفع صوته يقول:«اللهمّ، إنّا أهل بيت نبيّك وذريّته وقرابته، فاقصم مَن ظلمنا وغصبنا حقّنا إنّك سميع قريب» فقال له: محمّد بن الأشعث أيّ قرابة بينك وبين محمّد؟ فقال الحسين:«اللهمّ إنّ

____________________________

(١) من قصيدة لآية الله الحجّة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، ذُكرت بتمامها في كتابنا (قمر بن هاشم).

(٢) في مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٩٣: ابن جويرة أو جويزة.

وفي مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ٢٤٨: مالك بن جريرة.

وفي روضة الواعظين للفتال / ١٥٩ الطبعة الاُولى: يقال له: ابن أبي جويرة المزني، وإنّ فرسه نفرت به وألقته في النّار التي في الخندق.

(٣) كامل ابن الأثير ٤ / ٢٧.

٢٣٠

محمد بن الأشعث يقول: ليس بيني و بين محمّد قرابة. اللهمّ أرني فيه هذا اليوم ذلاً عاجلاً» ، فاستجاب الله دعاءه، فخرج محمّد بن الأشعث من العسكر، ونزل عن فرسه لحاجته، وإذا بعقرب أسود يضربه ضربة تركته متلوّثاً في ثيابه ممّا به(١) ومات باديَ العورة(٢) .

قال مسروق بن وائل الحضرمي: كنتُ في أوّل الخيل التي تقدّمت لحرب الحسين؛ لعلّي أنْ اُصيب رأس الحسين فأحظى به عند ابن زياد، فلمّا رأيت ما صُنع بابن حوزة عرفت أنّ لأهل هذا البيت حرمة ومنزلة عند الله، وتركت النّاس وقلت: لا اُقاتلهم فأكون في النّار(٣) .

خطبة زهير بن القين

وخرج إليهم زهير بن القين على فرس ذنوب وهو شاك في السّلاح فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله إنَّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد، ما لَم يقع بيننا وبينكم السّيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السّيف انقطعت العصمة، وكنّا اُمّة وأنتم اُمّة، إنّ الله ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون. إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عمر سلطانهما، يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النّخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حِجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه. فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا: لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلماً.

فقال زهير: عباد الله إنّ ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنّصر من ابن سميّة، فإنْ لم

____________________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ج١ ص٢٤٩ فصل ١١: واقتصر الصدوق في الأمالي على دعائه على محمّد بن الأشعث.

(٢) روضة الواعظين للفتال ص١٥٩ طبع أول.

(٣) الكامل لابن الأثير ج٤ ص٢٧.

٢٣١

تنصروهم، فاُعيذكم بالله أنْ تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد، فلَعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسينعليه‌السلام .

فرماه الشمر بسهم وقال: اسكت أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال زهير: يابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك اُخاطب، إنّما أنت بهيمة والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتَين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال الشمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.

فقال زهير: أفبالموت تخوّفني؟ فوالله لَلموت معه أحبّ إليَّ من الخلد معكم. ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال:

عباد الله، لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قوماً هرقوا دماء ذريّته وأهل بيته، وقتلوا مَن نصرهم وذبَّ عن حريمهم.

فناداه رجل من أصحابه، إنّ أبا عبد الله يقول لك:«أقبِل، فلَعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء، فلقد نصحتَ هؤلاء وأبلغت لَو نفع النّصح والإبلاغ» (١) .

خطبة بُرير

واستأذن الحسينَ برير بن خضير(٢) في أنْ يكلّم القوم، فأذن له وكان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن ومن شيوخ القرّاء في جامع الكوفة، وله في الهمدانيّين شرف وقدر.

فوقف قريباً منهم ونادى: يا معشر النّاس، إنّ الله بعث محمداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السّواد وكلابه

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٣.

(٢) قال ابن الأثير في الكامل ٤ / ٣٧: برير (بالباء الموحّدة، وفتح الراء المهملة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وآخره راء). وخضير (بالخاء والضاد المعجمتين).

٢٣٢

وقد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله، أفجزاء محمّد هذا؟!(١) .

فقالوا: يا بُرير، قد أكثرت الكلام، فاكفف عنّا، فوالله ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله.

قال: يا قوم، إنّ ثقل محمّد قد أصبح بين أظهركم، وهؤلاء ذرّيته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أنْ تصنعوه بهم؟ فقالوا: نريد أنْ نمكنّ منهم الأمير عبيد الله بن زياد، فيرى فيهم رأيه.

قال: أفلا تقبلون منهم أنْ يرجعوا إلى المكان الذي جاؤا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة، أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها وعليكم؟! أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات؟ بئسما خلفتم نبيّكم في ذريّته! ما لكم؟ لا سقاكم الله يوم القيامة فبئس القوم أنتم!

فقال له نفر منهم: يا هذا، ما ندري ما تقول!

قال: الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة، اللهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم، اللهمّ القِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان.

فجعل القوم يرمونه بالسّهام، فتقهقر(٢) .

خطبة الحسين الثانية

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام ركب فرسه، وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه، ووقف بإزاء القوم وقال:«يا قوم، إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) .

ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة وما عليه من سيف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولامته

____________________________

(١) في أمالي الصدوق / ٩٦، المجلس الثلاثون، الطبعة الاُولى: لمّا بلغ العطش من الحسين وأصحابه، استأذن برير أن يكلّم القوم فأذِن له.

(٢) البحار ج١٠: عن محمّد بن أبي طالب. [ بحار الأنوار ٤٥ / ٥ ].

(٣) تذكرة الخواص / ١٤٣.

٢٣٣

وعمامته فأجأبوه بالتصديق. فسألهم عمّا أخذهم على قتله؟ قالوا: طاعةً للأمير عبيد الله بن زياد، فقالعليه‌السلام :

«تبّاً لكم أيّتها الجماعة و ترحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم. فهلاّ - لكم الويلات! - تركتمونا والسّيف مشيم والجأش طامن والرأي لَما يستحصف، ولكنْ أسرعتم إليها كطيرة(١) الدبا وتداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثمّ نقضتموها، فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ومحرّفي الكلِم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئيّ السّنَن! ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون! أجل والله غدر فيكم قديم وشجت عليه اُصولكم وتأزّرت فروعكم فكنتم أخبث ثمرة، شجى للناظر وأكلة للغاصب!

ألا وإنّ الدّعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتَين؛ بين السّلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام من مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد وخذلان النّاصر». ثمّ أنشد أبيات فروة بن مُسيك المرادي(٢) .

____________________________

(١) بالكسر فالفتح، تاج العروس.

(٢) نقلناها من اللهوف / ٥٤، ورواها ابن عساكر في تاريخ الشام ٤ / ٣٣٣، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٦، وفي نقليهما خلاف لما هنا.

وقال ابن حجر في الإصابة ٣ / ٢٠٥: وفد فروة بن مسيك (بالتصغير) على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سنة تسع مع مذحج، واستعمله النبي على مراد ومذحج وزبيد.

وفي الاستيعاب: سكن الكوفة أيام عمر. وذكر ابن هشام في السيرة بهامش الروض الانف ٢ / ٣٤٤: لمّا كانت الوقعة بين مراد وهمدان، أنشأ أبياتاً تسعة ولَم يكن فيها البيت الثالث والرابع. وفي اللهوف ذكر سبعة مع البيتين. وفي الأغاني ١٩ / ٤٩: نسب الفرزدق إلى خاله العلاء بن قرظة قوله:

إذا ما الدهر جر على اناس

بكلكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين الخ.

وذكر ابن عساكر في تاريخ الشام ٤ / ٣٣٤، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٧، الأول والثاني ولَم ينسباهما إلى أحد.

ونسبهما المرتضى في الأمالي ١ / ١٨١ إلى ذي الإصبع العدواني. وفي عيون الأخبار لابن قتيبة ٣ / ١١٤، وشرح الحماسة للتبريزي ٣ / ١٩١: أنّها للفرزدق.

وفي الحماسة البصريّة / ٣٠: أنّهما من قصيدة فروة بن مسيك، ويرويان لعمر بن قعاس.

٢٣٤

فـإن نـهزم فـهزّامون قدماً

وإن نـهْزَم فـغير مُـهزَّمينا

ومـا أن طبنا(١) جبن ولكن

مـنـايانا ودولــة آخـرينا

فـقل لـلشامتين بـنا أفيقوا

سـيلقى الـشامتون كما لقينا

إذا مات الموت رفَّع عن اُناس

بـكـلكله أنــاخ بـآخرينا

أما والله، لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عَهَده إليَّ أبي عن جدّي رسول الله، فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون، إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم، ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط المستقيم» (٢) .

ثمّ رفع يدَيه نحو السّماء وقال:«اللهمّ، احبس عنهم قطر السّماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة، فإنّهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير (٣) .

والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه، قتلةً بقتلة وضربةً بضربة، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي» (٤) .

ضلال ابن سعد

واستدعى الحسينعليه‌السلام عمر بن سعد، فدُعي له - وكان كارهاً لا يحبّ أن يأتيه - فقالعليه‌السلام :«أي عمر، أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدعيّ بلاد الري وجرجان؟ والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتّخذونه غرضاً بينهم»، فصرف بوجهه عنه مغضباً(٥) .

____________________________

(١) الطب (بالكسر): الإرادة والعادة.

(٢) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٤، والمقتل للخوارزمي ٢ / ٧، واللهوف / ٥٤.

(٣) اللهوف / ٥٦، طبعة صيدا، والمقتل للخوارزمي ٣ / ٧.

(٤) مقتل العوالم / ٨٤.

(٥) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١١٠، ومقتل العوالم / ٨٤، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٨.

٢٣٥

توبة الحرّ

ولمّا سمع الحرّ بن يزيد الرياحي كلامه واستغاثته، أقبل على عمر بن سعد وقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال؟ فقال: لَو كان الأمر إليَّ لقبلت، ولكن أميرك أبى ذلك. فتركه ووقف مع النّاس، وكان إلى جنبه قرّة بن قيس فقال لقرّة: هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: فهل تريد أن تسقيه؟ فظنّ قرّة من ذلك أنّه يريد الاعتزال ويكره أن يشاهده، فتركه فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذته الرعدة، فارتاب المهاجر من هذا الحال وقال له: لَو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة؟ لَما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟ فقال الحرّ: إنّي اُخيِّر نفسي بين الجنّة والنّار، والله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو اُحرقت. ثمّ ضرب جواده نحو الحسين(١) منكّساً رمحه قالباً ترسه(٢) وقد طأطأ برأسه؛ حياءً من آل الرسول بما أتى إليهم وجعجع بهم في هذا المكان على غير ماء ولا كلأ، رافعاً صوته:

اللهمّ إليك اُنيب فتب عليَّ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك. يا أبا عبدالله إنّي تائب، فهل لي من توبة؟

فقال الحسينعليه‌السلام :«نعم يتوب الله عليك» (٣) . فسرّه قوله وتيقّن الحياة الأبديّة والنّعيم الدائم، ووضح له قول الهاتف لمّا خرج من الكوفة، فحدّث الحسينعليه‌السلام بحديث قال فيه: لمّا خرجت من الكوفة نُوديت: أبشر يا حرّ بالجنّة. فقلت: ويلٌ للحر

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٤.

(٢) في البداية لابن كثير ٧ / ٦٣: في واقعة اليرموك قال جرجه، وهو من النصارى لخالد بن الوليد: ما منزلة مَن يدخل منّا في هذا الأمر؟ قال خالد: له من الأجر أفضل ممّا لنا؛ لأنا صدقنا نبينا وهو حي بين أظهرنا يأتيه وحي السّماء ونرى الآيات، ومَن يسلم منكم وهو لَم يسمع ما سمعنا ولَم يرَ ما رأينا من العجائب والحجج وكان دخوله في هذا الأمر بيّنة صادقة، كان أفضل منّا. فعند ذلك قلب جرجه الترس ومال مع خالد وقال: علِّمني الإسلام....

وفي أنساب الأشراف للبلاذري ١ / ٤٢، طبعة دار المعارف، مصر: كان العرب إذا خافوا ووردوا على من يستجيرون به وجاؤا للصلح نكسوا رماحهم. وقال في صفحة ٤٣: وفد الحارث بن ظالم على عبد الله بن جدعان بـ (عكاظ) وهم يرون حرب قيس، فكذلك نكّس رمحه ثمّ رفعه حين عرفوه وأمن.

(٣) اللهوف / ٥٨، وأمالي الصدوق / ٩٧ المجلس الثلاثون، وروضة الواعظين / ١٥٩.

٢٣٦

يُبشّر بالجنّة وهو يسير إلى حرب ابن بنت رسول الله؟!(١) .

فقال له الحسينعليه‌السلام :«لقد أصبت خيراً وأجراً» (٢) . وكان معه غلام تركي(٣) .

نصيحة الحر لأهل الكوفة

ثمّ استأذن الحسينَعليه‌السلام في أنْ يكلّم القوم فأذن له، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الكوفة لاُمّكم الهبل والعبر؛ إذ دعوتموه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كلّ جانب فمنعتموه التوجّه إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمن وأهل بيته، وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنّصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه. وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمداً في ذريّته! لا سقاكم الله يوم الظمأ! فحملت عليه رجّالة ترميه بالنّبل، فتقهقر حتّى وقف أمام الحسين(١) .

الحملة الاُولى

وتقدّم عمر بن سعد نحو عسكر الحسين ورمى بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير إنّي أول من رمى. ثمّ رمى النّاس(٢) ، فلَم يبقَ من أصحاب الحسين أحد إلاّ أصابه من سهامهم(٣) ، فقالعليه‌السلام لأصحابه:«قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه، فإنَّ هذه السّهام رسل القوم إليكم» . فحمل أصحابه حملةً واحدةً(٤) واقتتلوا ساعة، فما انجلت الغبرة إلاّ عن خمسين صريعاً(٥) .

____________________________

(١) أمالي الصدوق / ٩٣، المجس الثلاثون.

(٢) مثير الأحزان لابن نما / ٣١، وفي مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٩: كان معه غلام له تركي.

(٣) الهبل (بالتحريك): الثكل. والعبر (بالفتح): الحزن، وجريان الدمعة كاستعبر، تاج العروس.

(٤) ابن الأثير ٤ / ٢٧.

(٥) الخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٧.

(٦) مقتل العوالم / ٨٤.

(٧) اللهوف / ٥٦.

(٨) البحار عن محمّد بن أبي طالب.

٢٣٧

سـطت ورحى الهيجاء تطحن شوسها

ووجـه الـضحى فـي نقعها متنقِّب

تـهـلّل بـشراً بـالقراع وجـوهها

وكـم وجـه ضـرغام هناك مقطّب

وتـلتذّ أن جـاءت لـها السمر تلتوي

وللبيض ان سُلّت لدى الضرب تطرب

أعـزّاء لا تـلوي الـرقاب لـفادح

ولا مـن اُلـوف في الكريهة ترهب

فـما لـسوى الـعلياء تـاقت نفوسهم

ولَـم تك في شيء سوى العزّ ترغب

فـلَـو أنَّ مـجداً في الـثرّيا لـحلقت

إلـيه وشـأن الـشّهم لـلمجد يطلب

فـأسيافهم يـوم الـوغى تمطر الدّما

وأيـديهم مـن جودها الدهر مخضب

ومـا برحت تقري المواضي لحومها

ومـن دمـها السّمر العواسل تشرب

إلـى أنْ تهاوت كالكواكب في الثرى

ومـا بعدهم يا ليت لا لاح كوكب(١)

تـهاووا فـقل زهـر النّجوم تهافتت

وأهـووا فـقل شـمّ الجبال تهدّم(٢)

وخرج يسار مولى زياد وسالم مولى عبيد الله بن زياد فطلبا البراز، فوثب حبيب وبرير، فلم يأذن لهما الحسينعليه‌السلام . فقام عبد الله بن عمير الكلبي، من بني عليم، وكنيته أبو وهب، وكان طويلاً شديد السّاعدين بعيد ما بين المنكبين، شريفاً في قومه شجاعاً مجرّباً، فأذن له وقال:«أحسبه للأقران قتّالاً». فقالا له: مَن أنت؟ فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك ليخرج إلينا زهير أو حبيب أو برير، وكان يسار قريباً منه فقال له: يابن الزانية أوَبك رغبةً عن مبارزتي؟ ثمّ شدّ عليه بسيفه يضربه، وبينا هو مشتغل به إذ شدّ عليه سالم، فصاح أصحابه قد رهقك العبد فلم يعبأ به، فضربه سالم بالسّيف فاتقاها عبد الله بيده اليسرى فأطار أصابعه، ومال عليه عبد الله فقتله. وأقبل إلى الحسين يرتجز وقد قتلهما.

وأخذت زوجته اُمّ وهب بنت عبد الله بن النمر بن قاسط، عموداً، وأقبلت نحوه تقول له: فداك أبي واُمّي قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فأراد أنْ يردّها إلى الخيمة، فلَم تطاوعه وأخذت تجاذبه ثوبه وتقول: لن أدعك دون أنْ أموت معك. فناداها الحسينعليه‌السلام :«جزيتم عن أهل بيت نبيكم خيراً،

____________________________

(١) من قصيدة للشيخ حسون الحلي، شعراء الحلة ٢ / ١٠٤.

(٢) من قصيدة للحجة للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاءقدس‌سره ، طبعت في كتابنا (قمر بني هاشم).

٢٣٨

ارجعي إلى الخيمة، فإنّه ليس على النّساء قتال». فرجعت(١) .

مبارزة الاثنين والاربعة

ولمّا نظر مَن بقي من أصحاب الحسين إلى كثرة مَن قُتل منهم، أخذ الرجلان والثلاثة و الأربعة يستأذنون الحسين في الذبّ عنه والدفع عن حرمه، وكلّ يحمي الآخر من كيد عدوّه. فخرج الجابريّان وهما: سيف بن الحارث بن سريع، ومالك بن عبد بن سريع، وهما ابنا عمّ وأخوان لاُمّ، وهما يبكيان قال الحسينعليه‌السلام :«ما يبكيكما؟ إنّي لأرجو أنْ تكونا بعد ساعة قريرَي العين» . قالا: جعلنا الله فداك، ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك؛ نراك قد اُحيط بك ولا نقدر أنْ ننفعك. فجزاهما الحسين خيراً. فقاتلا قريباً منه حتّى قُتلا(٢) .

وجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاريّان فقالا: قد حازنا النّاس إليك. فجعلا يقاتلان بين يدَيه حتّى قُتلا.

وخرج عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه وجابر بن الحارث السلماني ومجمع بن عبد الله العائذي(٣) ، وشدّوا جميعاً على أهل الكوفة فلمّا أوغلوا فيهم، عطف عليهم النّاس وقطعوهم عن أصحابهم، فندب إليهم الحسين أخاه العبّاس فاستنقذهم بسيفه، وقد جُرحوا بأجمعهم، و في أثناء الطريق اقترب منهم العدوّ فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح، و قاتلوا حتّى قتلوا في مكان واحد(٤) .

استغاثة و هداية

ولمّا نظر الحسين إلى كثرة مَن قُتل من أصحابه، قبض على شيبته المقدّسة وقال:«اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضبه على النّصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٥، وابن الأثير ٤ / ٣٧.

(٢) ابن الأثير ٤ / ٢٩.

(٣) في الإصابة ٣ / ٩٤ القسم الثالث: مجمع بن عبد الله بن مجمع بن مالك بن أياس بن عبد مناة بن سعد، قُتل مع الحسين بن عليعليه‌السلام بالطفّ، ولأبيه إدراك.

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٥.

٢٣٩

والقمر دونه، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم. أما والله، لا اُجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي، ثمّ صاح: أما من مغيث يغيثنا! أما من ذابّ يذبُّ عن حرم رسول الله!» (١) فبكت النّساء وكثر صراخهن.

وسمع الأنصاريّان سعد بن الحارث وأخوه أبو الحتوف استنصار الحسينعليه‌السلام واستغاثته وبكاء عياله - وكانا مع ابن سعد - فمالا بسيفيهما على أعداء الحسينعليه‌السلام وقاتلا حتّى قُتلا(٢) .

ثبات الميمنة

وأخذ أصحاب الحسينعليه‌السلام - بعد أن قلّ عددهم وبان النّقص فيهم - يبرز الرجل بعد الرجل فأكثروا القتل في أهل الكوفة. فصاح عمرو بن الحَجّاج لأصحابه: أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين، لا يبرز إليهم أحد منكم إلاّ قتلوه على قلّتهم، والله لَو لَم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم. فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت، ارسِل في النّاس مَن يعزم عليهم أنْ لا يبارزهم رجل منهم، ولَو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم(٣) .

ثمّ حمل عمرو بن الحَجّاج على مَيمنة الحسينعليه‌السلام ، فثبتوا له وجثوا على الركب وأشرعوا الرماح، فلَم تقدم الخيل. فلمّا ذهبت الخيل لترجع، رشقهم أصحاب الحسينعليه‌السلام بالنّبل فصرعوا رجالاً وجرحوا آخرين(٤) .

وكان عمرو بن الحَجّاج يقول لأصحابه: قاتِلوا مَن مَرق عن الدِّين وفارق الجماعة. فصاح الحسينعليه‌السلام :«ويحك يا عمرو! أعليَّ تحرّض النّاس؟ أنحن مرقنا من

____________________________

(١) اللهوف / ٥٧.

(٢) الحدايق الورديّة مخطوط.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٩.

(٤) كامل ابن الأثير ٤ / ٢٧.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437