مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)13%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 244136 / تحميل: 10028
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٨١٦٣-٧٠-٧
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه ، إذ بحثه يستلزم النظر فى الأدلة الكونية ، والبراهين العقلية ، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدى إلى تأويله.

(3) إن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد ، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيتها ، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة ، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله ، والوقوف عند فهم المحكم ، ليكون لكلّ نصيبه على قدر استعداده ، فإطلاق كلمة الله وروح من الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة ، ومن ثم فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله :إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ».

( وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة ، والعقول الراجحة التي امتازت بالتدبر والتفكر في جميع الآيات المحكمة التي هى الأصول ، حتى إذا عرض لهم المتشابه بعد ذلك سهل عليهم أن يتذكروها ويردّوا المتشابه إليها ، ويقولوا في المتشابه الذي هو نبأ عالم الغيب : إن قياس الغائب على الشاهد قياس مع الفارق لا ينبغى للعقلاء أن يعتبروه.

ثم ذكر ما يدعون به ليهبهم الثبات على فهم المتشابه فقال :

( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) أي إن أولئك الراسخين في العلم مع اعترافهم بالإيمان بالمتشابه يطلبون إلى الله أن يحفظهم من الزيغ بعد الهداية ، ويهبهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة فهم يعرفون ضعف البشر ، وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول ، فيخافون أن يقعوا فى الخطأ ، والخطأ قرين الخطر.

وقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلّب القلوب ثبت قلبى على دينك» قلت : يا رسول الله

١٠١

ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال : «ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه».

( رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه وإنا موقنون به ، لأنك أخبرت به وقولك الحق ، ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه ، وأنت لا تخلف وعدك.

وقد جاءوا بهذا الدعاء بعد الإيمان بالمتشابه ، ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلبهم الرحمة في ذلك اليوم ، وهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي منه.

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) )

تفسير المفردات

تغنى : أي تنفع ، وقود (بفتح الواو) أي حطب ونحوه ، والدأب : العادة ؛ من دأب على العمل إذا جدّ فيه وتعب ، ثم غلب في العادة ، والمهاد : الفراش ، يقال مهدّ الرجل المهاد إذا بسطه ، والآية : العلامة على صدق ما يقول الرسول.

١٠٢

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد ، وذكر الكتب الناطقة به ، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به ـ شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود ، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه ، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد ، وأرشد إلى أنها لا تغنى عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا ، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة ، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم ، فيتوهمون الاستغناء عن الحق ، ويتبعون الهوى.

وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق ، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل ؛ فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون ، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم ، فالله لا يحابى ولا يظلم وهو شديد العقاب.

الإيضاح

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ) أي إن الذين جحدوا ما قد عرفوه من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من بنى إسرائيل أم من كفار العرب ـ لن تنجيهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار ، ولا أولادهم الذين يتناصرون بهم في مهامّ أمورهم ويعوّلون عليهم فى الخطوب النازلة من عذاب الله شيئا ، وقد كانوا يقولون نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ، فردّ الله عليهم بقوله : «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً » وسيكونون يوم القيامة حطبا لجهنم التي تسعر بهم.

١٠٣

ثم ضرب لهم مثلا لينبههم إلى ما حلّ بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم جندا وأكثر عددا لعلهم يتعظون فقال :

( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ) أي إن صنيع هؤلاء في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم بشريعته ، كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام ، ودأب من قبلهم من الأمم ، كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم ، فأهلكهم ونصر الرسل ومن آمن معهم ، ولم يجدوا من بأس الله محيصا ولا مهربا ، إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات.

ثم تهددهم وتوعدهم بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة فقال :

( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ ) المراد بالكافرين هنا اليهود لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين يوم بدر قالوا والله إنه النبي الأمى الذي بشرنا به موسى ، وفي التوراة نعته وهمّوا باتباعه ، فقال بعضهم : لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى ، فلما كان يوم أحد شكّوا ، وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوه ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش ، فقالوا له : لا يغرنّك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس فنزلت.

أي قل لأولئك اليهود إنكم ستغلبون في الدنيا وسينفذ فيكم وعيدي ، وتساقون فى الآخرة إلى جهنم سوقا ، وبئس المهاد ما مهدتموه لأنفسكم.

وقد صدق الله وعده فقتل المسلمون بنى قريظة الخائنين ، وأجلوا بنى النّضير المنافقين ، وفتحوا خيبر وضربوا الجزية على من عداهم.

١٠٤

ثم حذرهم وأنذرهم بألا يغتروا بكثرة العدد والعدد فلهم مما يشاهدون عبرة فقال :

( قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أي قل لأولئك اليهود الذين غرتهم أموالهم واعتروا بأولادهم وأنصارهم : لا تغرنكم كثرة العدد ، ولا المال والولد ، فليس هذا سبيل النصر والغلب ، فالحوادث التي تجرى في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدّعون.

انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر ، فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين.

وفي هذا عبرة أيّما عبرة لذوى البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها ، لا لمثل من نعتهم الله بقوله : «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ».

ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى ، وقوله( تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ترشد إلى السر في هذا الفوز ، لأنه متى كان القتال في هذا السبيل أي لحماية الحق والدفاع عن الدين وأهله ، فإن النفس تقبل عليه بكل ما أوتيت من قوة ، وما أمكنها من تدبير واستعداد ، علما منها بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده ، يرشد إلى هذا قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ » فها أنت ذا ترى أن الله أمر المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره لشدّ العزائم والنهوض بالهمم ، وبالطاعة لرسوله ، وكان هو القائد في تلك الواقعة ـ واقعة بدر ـ وطاعة القائد من أهم أسباب الظفر والنجاح في ميدان القتال.

وقد امتثل المؤمنون ما أوصاهم به ربهم بقدر طاقتهم ، فوجد لديهم الاستعداد والعزيمة الصادقة ، فقاتلوا ثابتين واثقين بنصر الله ، فنصرهم وفاء بوعده «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ».

١٠٥

وغزوات الرسول وأصحابه تفسر ما ورد في هذه الآيات ، ولما خالفوا ما أمروا به غزوة أحد نزل بهم ما نزل ، وفي هذا أكبر عبرة لمن تذكر واعتبر.

وقد روى أرباب السير أن جيش المسلمين كان ثلاثمائة وثلاثة وعشرين رجلا ، سبعة وسبعون منهم من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين على بن أبي طالب ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو ، والآخر لمرثد بن أبي مرثد ، وكان معهم ست دروع وثمانية سيوف ، وجميع من قتل منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.

وأن جيش المشركين كان تسعمائة وخمسين مقاتلا ، رأسهم عقبة بن ربيعة ، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل ، وكان في معسكرهم من الخيل مائة فرس وسبعمائة بعير ، ومن الأسلحة ما لا يحصى عدّا.

ومعنى قوله( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أن المشركين رأوا المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين ـ وكانوا نحو ثلاثمائة ـ أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم ، وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم الله بالملائكة ، بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجهوا إليهم كما جاء في خطاب أهل بدر «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ».

ومعنى قوله (رأى العين) أنها رؤية مكشوفة لا لبس معها ولا خفاء كسائر المرئيات والمشاهدات.

( وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ) أي والله يقوّى بمعونته من يشاء كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو.

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ) أي إن في هذا النصر مع قلة عددهم وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر فعرف الحق وثلج قلبه ببرد اليقين.

١٠٦

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) )

تفسير المفردات

الشهوات : واحدة شهوة وهى رغبة النفس في الحصول ، والمراد بها المشتهيات كما يقال هذا الطعام شهوة فلان أي ما يشتهيه ، والأنعام واحدها نعم وهى الإبل والبقر والغنم ولا تطلق النعم إلا على الإبل خاصة ، والمسوّمة : هى التي ترعى في الأودية والقيعان ، والحرث : الزرع والنبات.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه قبل هذا اشتغال الكافرين بالأموال والأولاد وإعراضهم عن الحق وانهماكهم في اللذات ، ذكر هنا وجه غرورهم بذلك تحذيرا لهم من جعلها مطية لشهواتهم ، وتذكيرا لهم بأنه لا ينبغى أن تجعل هى غاية الحياة ، فتشغلهم عن أعمال الآخرة التي جعلت الدنيا مزرعتها ، والوسيلة لكسب السعادة فيها.

الإيضاح

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ) معنى تزيين حب الشهوات للناس ، أن حبها مستحسن لديهم لا يرون فيه قبحا ولا غضاضة ، ومن ثم لا يكادون يرجعون عنه ، وهذا أقصى مراتب الحب ، وصاحبه قلما يفطن لقبحه أو ضرره إن كان قبيحا أو ضارّا ، ولا يحب أن يرجع عنه وإن تأذى به ، وقد يحب الإنسان شيئا وهو يراه شيئا لا زينا ، وضارّا لا نافعا ، ويود لذلك لو لم يحبه كما يحب بعض الناس شرب الدخان على تأذيهم منه ، ومن أحب شيئا ولم يزيّن له يوشك أن يرجع عنه يوما ما ، ومن زين له حبه فلا يكاد يرجع عنه.

١٠٧

المعنى ـ إن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات المبينة بعد كما قال : «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » وقال : «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ».

وقد يسند التزيين إلى الشيطان بالوسوسة في قبيح الأعمال كما قال تعالى : «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ».

ثم فصل هذه المشتهيات الستة التي ملأت قلوب الناس حبا فقال :

( مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ) .

(فأولها) النساء وهن موضع الرغبة ومطمح الأنظار ، وإليهن تسكن النفوس كما قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال بكدّهم وجدّهم ، فهم القوامون عليهن لقوتهم وقدرتهم على حمايتهن ، فإسرافهم في حبهنّ له الأثر العظيم فى شئون الأمة وفي إضاعة الحقوق أو حفظها.

وقدم حب النساء على حب الأولاد مع أن حبهنّ قد يزول وحب الأولاد لا يزول لأن حب الولد لا يعظم فيه الغلوّ والإسراف كحب المرأة ، فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده ، فكثير ممن تزوجوا بما فوق الواحدة وأفرطوا في حب واحدة وملّوا أخرى أهملوا تربية أولاد المبغوضة وحرموهم سعة الرزق وقد وسعوه على أولاد المحبوبة ، وكم من غنىّ عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر ، وليس لهذا من سبب إلا حب والدهم لغير أمهم ، فهو يفعل ذلك للتقرب وابتغاء الزلفى إليها.

(وثانيها) البنون والمراد بهم الأولاد مطلقا كما قال تعالى : «أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ » وفي الحديث «الولد مجبنة مبخلة».

والعلة في حب الزوجة وحب الولد واحدة وهى تسلسل النسل وبقاء النوع ، وهى حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى.

١٠٨

وحب البنين أقوى من حب البنات لأسباب كثيرة منها :

(1) أنهم عمود النسب الذي به تتصل سلسلة النسل ، وبه يبقى ما يحرص عليه الإنسان من بقاء الذكر وحسن الأحدوثة بين الناس.

(2) أمل الوالد في كفالتهم له حين الحاجة إليه لضعف أو كبر.

(3) أنه يرجى بهم من الشرف ما لا يرجى من الإناث كنبوغ في علم أو عمل أو رياسة أو قيادة جيش للدفاع عن الوطن وحفظ كيان الأمة.

(4) الشعور بأن الأنثى حين الكبر تنفصل من عشيرتها وتتصل بعشيرة أخرى.

(وثالثها) القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد ، وقد جرت عادتهم بأن يصفوا الشيء بما يشتق منه مبالغة كما قالوا ألوف مؤلفة وظل ظليل ، وقيل المقنطرة المضروبة من دنانير ودراهم ، وقيل هى المنضدة في وضعها.

وهذا التعبير يشعر بالكثرة التي تكون مظنة الافتتان ، والتي تشغل القلب للتمتع بها ، وتستغرق في تدبيرها الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق والاستعداد لأعمال الآخرة.

ومن ثم كان الأغنياء في كل الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافرين بهم المستكبرين عن تلبية دعوتهم ، وإن أجابوها وآمنوا فهم أقل الناس عملا وأكثرهم بعدا عن هدى الدين ، انظر إلى قوله تعالى : «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ».

وحب المال مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم ، وسر هذا أنه وسيلة إلى جلب الرغائب ، وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات ، ورغبات الإنسان غير محدودة ، ولذاته لا عدّ لها ولا حصر ، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها ، وما وصل إلى غاية فى جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها ، حتى لقد يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن

١٠٩

المال وسيلة لا مقصد فيفتنّ في الوصول إليه الفنون المختلفة ، والطرق التي تعنّ له ، ولا يبالى أمن حلال كسب أم من حرام؟

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب».

ولقد أعمت فتنة المال كثيرا من الناس فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن ، بل عن حقوق من يعاملهم ، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم ، بل عن أنفسهم ، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزرى بمروءته ، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه ، ومنهم من يثلم شرفه ويفتح ثغرة للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل لأجل المال. ومن ثم قالوا : المال ميّال.

(ورابعها) الخيل المسوّمة التي ترعى في الأودية ، يقال سام الدابة : رعاها ، وأسامها : أخرجها إلى المرعى ، كما قال تعالى : «وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ».

وقال ابن جرير : المسوّمة : المعلّمة من السّومة وهى العلامة. قال النابغة :

بسمر كالقداح مسوّمات

عليها معشر أشباه جنّ

وكل من الخيل الراعية التي تقتنى للتجارة ، والمعلمة المطهّمة التي يقتنيها العظماء والأغنياء ـ من المتاع الذي يتنافس فيه الناس ويتفاخرون ، حتى لقد يتغالى بعضهم فى ذلك إلى حد هو أشبه بالجنون.

(وخامسها) الأنعام وهى مال أهل البادية ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم ، وبها تفاخرهم وتكاثرهم ، وقد امتنّ الله بها على عباده بقوله : «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ».

١١٠

(وسادسها) الحرث وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر ، والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة ، والانتفاع به أتمّ منها لكنه أخر عنها ، لأنه لما عمّ الارتفاق به كانت زينته في القلوب أقل ، وقلما يكون الانتفاع به صادّا عن الاستعداد لأعمال الآخرة أو مانعا من نصرة الحق.

وهناك ما هو أعم نفعا وأعظم فائدة في الحياة وهو الضوء والهواء ، فلا يستغنى عنهما حىّ من الأحياء ، ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما ولا يفكر في غبطته بهما.

( ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) المتاع ما يتمتع به ، والمآب المرجع من آب يئوب إذا رجع ، أي هذا الذي ذكر من الأصناف الستة المتقدمة هو ما يتمتع به الناس قليلا في هذه الحياة الفانية ، ويجعلونه وسيلة في معايشهم ، وسببا لقضاء شهواتهم وقد زيّن لهم حبها في عاجل دنياهم ، والله عنده حسن المآب في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم فلا ينبغى لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الآجل.

فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه ، والشغل الشاغل له عن آخرته ، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين ووفق لخير الحياتين كما قال : «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ».

( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا

١١١

وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17))

تفسير المفردات

النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له شأن عظيم كما قاله أبو البقاء في الكليات ، والتقوى : هى الإخبات إلى الله والإعراض عما سواه ، والمطهرة : الخالية من الشوائب الجسمية والنفسية والرضوان (بضم الراء وكسرها) الرضا ، والصبر : حبس النفس عند كل مكروه يشقّ عليها احتماله ، والصدق يكون في القول والعمل والوصف ؛ يقال فلان صادق في قوله ، وصادق في عمله ، وصادق في حبه ، والقانتين : أي المداومين على الطاعة والعبادة ، والمستغفرين بالأسحار : أي المصلّين وقت السحر.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها ، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا ـ أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.

الإيضاح

( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ) أي قل لقومك وغيرهم : أأخبركم بخير من جميع ما تقدم ذكره من النساء والبنين إلى آخره ، وجىء بالكلام على صورة الاستفهام لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه.

وقوله خير يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها ، ولا شك في ذلك إذ هى من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الناس ، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها ، فما مثل المسرف في حب النساء حتى

١١٢

يعطى امرأته حق غيرها ، أو يهمل لأجلها تربية ولده إلا مثل من يستعمل عقله فى استنباط الحيل ليبتز حقوق الناس ويؤذيهم ، فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هى في ذاتها شر ولا كون حبها شرا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة.

ثم أجاب عن هذا الاستفهام على طريق قولك هل أدلك على تاجر عظيم في السوق يصدق في المعاملة ، ويرخص السعر ويفى بالوعد؟ هو فلان فقال :

( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) أي للذين أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه نوعان من الجزاء.

أحدهما جسمانى وهو الجنات وما فيها من النعيم والخيرات ، والأزواج المبرأة من العيوب التي في نساء الدنيا خلقا وخلقا.

وثانيهما روحاني عقلى وهو رضوان الله الذي لا يشوبه سخط ولا يعقبه غضب ، وهو أعظم اللذات كلها في الآخرة عند المتقين.

وفي الآية إيماء إلى أن أهل الجنة مراتب وطبقات كما نرى ذلك في الدنيا.

فمنهم من لا يفقه لرضوان الله معنى ولا يكون ذلك باعثا له على فعل الخير وترك الشر ، وإنما يفقه اللذات الحسية التي جرّ بها في الدنيا ، ففى مثلها يرغب.

ومنهم من ارتقى إدراكه ، وعظم قربه من ربه ، فيتمنى رضاه ويجعله الغاية القصوى والسعادة التي ليس وراءها سعادة.

وجاء في معنى هذه الآية قوله تعالى : «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » وقوله : «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ (الزراع)نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ».

١١٣

( وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ) أي إنه تعالى هو البصير بعباده ، الخبير بقرارة نفوسهم ودخائل أحوالهم ، العليم بسرهم ونجواهم ، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم ، وهو المجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.

وقد ختم سبحانه هذه الآية بتلك الجملة ليحاسب الإنسان نفسه على التقوى ، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعدّ متقيا ، وإنما المتقى من يعلم منه ربه التقوى.

ثم وصف المتقين الذين تتأثر قلوبهم بثمرات إيمانهم ، فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال فقال :

( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) أي إن الذين اتقوا معاصى الله وتضرعوا إليه خاشعين يقولون مبتهلين متبتلين : ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا يقينيا راسخا في القلب مهيمنا على العقل له السلطان على أعمالنا البدنية التي لا تتحول عن طاعتك إلا لنسيان أو جهالة كغلبة انفعال يعرض ثم لا يلبث أن يزول ، ثم تقفو التوبة إثره لتمحوه كما أرشدت إلى ذلك بقولك : «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » وقولك «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى » فاستر اللهم ذنوبنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها ، وادفع عنا عذاب النار إنك أنت الغفور الرّحيم.

وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة ، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة وحسن المآب.

والخلاصة ـ إن مرادهم بالإيمان الذي أقروا به ـ هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات ، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف ، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.

١١٤

ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به من غيرهم ، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال :

( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ ) أي إن المتقين جمعوا هذه الصفات التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة وبها نالوا هذا الوعد وهى :

(1) الصبر وأكمل أنواعه : الصبر على أداء الطاعات وترك المحرمات ، فإذا هبت أعاصير الشهوات وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي فلا سبيل لردعها إلا بالصبر ، فهو الذي يثبّت الإيمان ويقف بها عند الحدود المشروعة ، وهو الحافظ لشرف الإنسان فى الدنيا عند المكاره ، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدى المطامع.

وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار.

(2) الصدق وهو منتهى الكمال ، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى : «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ».

(3) القنوت وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لبّ العبادة وروحها ، وبدونه تكون العبادة بلا روح وشجرة بلا ثمرة.

(4) الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين ، سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة ، فالإنفاق في أعمال البر جميعا مما حث عليه الشارع وندب إليه.

(5) الاستغفار بالأسحار : أي التهجد في آخر الليل وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشقّ القيام ، وتكون النفس فيه أصفى ، والقلب أفرغ من الشواغل.

والاستغفار المطلوب ما يقرن بالتوبة النصوح ، والعمل وفق حدود الدين ، ولا يكفى الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر ، فإن المستغفر من الذنب وهو مصرّ عليه كالمستهزئ بربه ، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه ، أو غرّ في معاملته لربه ، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية قوله : إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

١١٥

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) )

تفسير المفردات

يقال شهد الشيء وشاهذه إذا حضره كما قال : «ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ » وقال «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ » والشهادة بالشيء الإخبار به عن علم إما بالمشاهدة الحسية ، وإما بالمشاهدة المعنوية وهى الحجة والبرهان ، وأولو العلم هم أهل البرهان القادرون على الإقناع ، وهم يوجدون في هذه الأمة وفي جميع الأمم السالفة ، بالقسط : أي بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة. والدين له في اللغة عدة معان : منها الجزاء ، والطاعة والخضوع ، ومجموعة التكاليف التي بها يدين العباد لله ـ وما يكلف به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه للناس ، ودينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع ، وملة باعتبار أنها أملّت وكتبت ـ والإسلام يأتي بمعنى الخضوع والاستسلام ، وبمعنى الأداء تقول أسلمت الشيء إلى فلان إذا أديته إليه ، وبمعنى الدخول في السلم أي الصلح والسلامة ، وتسمية الدين الحق إسلاما يناسب كل هذه المعاني وأولها أوفقها بالتسمية ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ

١١٦

أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً » وحاجوك : جادلوك ، وأسلمت : أي أخلصت ، والأميون مشركو العرب واحدهم أمي نسبوا إلى الأم لجهلهم كأنهم على الفطرة ، البلاغ : أي التبليغ للناس.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه جزاء المتقين ، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء ـ ذكر هنا أصول الإيمان وأسسه.

الإيضاح

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) أي بيّن سبحانه وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس ، وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك ، والملائكة أخبروا الرسل بهذا وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم ضرورى وهو عند الأنبياء أقوى من جميع اليقينيات ، وأولو العلم أخبروا بذلك وبيّنوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدلائل والحجج ، لأن العالم بالشيء لا تعوزه الحجة عليه.

وقوله بالقسط أي بالعدل في الاعتقاد ، فالتوحيد هو الوسط بين إنكار الإله والشرك به ، والعدل في العبادات والآداب والأعمال ، فعدل بين القوى الروحية والبدنية ، فأمر بشكره في الصلاة وغيرها لترقية الروح وتزكية النفس ، وأباح كثيرا من الطيبات لحفظ البدن وتربيته ، ونهى عن الغلوّ في الدين والإسراف في حب الدنيا وبالعدل في الأحكام في نحو قوله : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ » وقوله «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ».

كما جعل سنن الخليقة قائمة على أساس العدل ، فمن نظر في هذه السنن ونظمها الدقيقة تجلى له عدل الله فيها على أتم ما يكون وأوضحه.

١١٧

فقيامه تعالى بالقسط في كل هذا برهان على صدق شهادته تعالى ، فإن وحدة النظام في هذا العالم تدل على وحدة واضعه.

ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله :

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإن العزة إشارة إلى كمال القدرة ، والحكمة إيماء إلى كمال العلم ، والقدرة لا تتم إلا بالتفرد والاستقلال ، والعدالة لا تكمل إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال ، ومن كان كذلك فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط ، ولا يخرج من الخليقة شىء عن حكمته البالغة.

ثم ذكر الدستور العام الذي عليه المعوّل في كل دين فقال :

( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) أي إن جميع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء روحها الإسلام والانقياد والخضوع ، وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال ، وبه كان الأنبياء يوصون. فالمسلم الحقيقي من كان خالصا من شوائب الشرك ، مخلصا فى أعماله مع الإيمان من أىّ ملة كان ، وفي أي زمان وجد ، وهذا هو المراد بقوله عز اسمه «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ».

ذاك أن الله شرع الدين لأمرين :

(1) تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بسلطة غيبية للمخلوقات بها تستطيع التصرف في الكائنات لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها.

(2) إصلاح القلوب بحسن العمل وإخلاص النية لله وللناس.

وأما العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الخلقي ليسهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الدينية.

أخرج ابن جرير عن قتادة قال : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ، ودلّ عليه أولياءه لا يقبل غيره ، ولا يجزى إلا به.

١١٨

وخطب على كرم الله وجهه قال : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ، ثم قال : إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ، ولم يأخذه عن رأيه ، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله ، والكافر يعرف كفره بإنكاره ، أيها الناس دينكم دينكم ، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره ، إن السيئة فيه تغفر ، وإن الحسنة في غيره لا تقبل.

( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) أي وما خرج أهل الكتاب من الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على نحو ما فصلناه آنفا ، وصاروا مذاهب وشيعا يقتتلون في الدين ـ والدين واحد لا مجال فيه للاختلاف والاقتتال إلا بسبب البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء ، ولو لا بغيهم ونصرهم مذهبا على مذهب وتضليلهم من خالفهم بتفسيرهم نصوص الدين بالرأى والهوى وتأويل بعضه أو تحريفه لما حدث هذا الاختلاف.

والتاريخ شهيد بأن الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب ينقض بعضها بعضا ، وجعلوا أهله شيعا يفتك بعضهم ببعض. فآريوس وأتباعه الذين دعوا إلى التوحيد بعد فشوّ الشرك ، قد حكم عليهم المجمع الذي ألفه الملك قسطنطين سنة 325 م بالإلحاد وإحراق كتبهم وتحريم اقتنائها ، ولما انتشرت تعاليمه فيما بعد حكم تيودوسيوس الثاني بإبادة الآريوسية بقانون رومانى صدر سنة 628 م ، وبقيت مذاهب التثليث تتطاحن ويغالب بعضها بعضا.

والعبرة من هذا القصص أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب كما فعل من قبلنا ، ولكن وا أسفا وقعنا فيما وقع فيه السالفون ، وتفرقنا طرائق قددا ، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نزال نئنّ منه ، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته ، ويمدنا بروح من عنده ؛ فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق ، والعودة إلى الوحدة والاتفاق ، حتى يعود

١١٩

المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، ومن تبعهم بإحسان.

( وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) أي ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه ، ويترك الإذعان لها ـ فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات ، والله سريع الحساب.

والمراد بآيات الله هنا هى آياته التكوينية في الأنفس والآفاق ، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفها عن وجهها لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد وآياته التشريعية التي أنزلها على رسله.

( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) أي فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم ـ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه فى دينهم وتعودوه من التحريف والتأويل والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله والإخلاص له ـ بعد أن أقمت لهم البراهين والبينات ، وجئتهم بالحق ـ فقل لهم : أقبلت بعبادتي على ربى مخلصا له ، معرضا عما سواه ، أنا ومن اتبعنى من المؤمنين.

والخلاصة ـ إنه لا فائدة من الجدل مع مثل هؤلاء لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة ، وبطلت شبهات الضالين فهو مكابرة وعناد ، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى.

( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟ ) أي وقل لليهود والنصارى ومشركى العرب ـ وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة ، لأنهم هم الذين خوطبوا أولا بالدعوة ـ أأسلمتم كما أسلمت بعد أن وضحت لكم الحجة ، وجاءكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه ، أم تصرّون على كفركم وعدم ترككم للعناد؟

ومثل هذا مثل من يلخص مسألة لسائل ، ولا يدع طريقا من طرق البيان إلا سلكه ، ثم يقول له : أفهمتها؟

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الدِّين وأنت تقيم عليه؟! ستعلمون إذا فارقت أرواحنا أجسادنا مَن أولى بصليّ النّار» (١) .

مسلم بن عوسجة

ثمّ حمل عمرو بن الحَجّاج من نحو الفرات فاقتتلوا ساعة، وفيها قاتل مسلم بن عوسجة، فشدّ عليه مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الله بن خشكارة البجلي، وثارت لشدّة الجلاد غبرة شديدة وما انجلت الغبرة إلاّ ومسلم صريع وبه رمق. فمشى إليه الحسينعليه‌السلام ومعه حبيب بن مظاهر فقال له الحسينعليه‌السلام :«رحمك الله يا مسلم! ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (٢) » . ودنا منه حبيب وقال: عزّ عليّ مصرعك يا مسلم، أبشِر بالجنّة. فقال بصوت ضعيف: بشّرك الله بخير. قال حبيب: لَو لَم أعلم أنّي في الأثر لأحببت أنْ توصي إليَّ بما أهمّك. فقال مسلم: اُوصيك بهذا وأشار إلى الحسينعليه‌السلام أنْ تموت دونه. قال: أفعل وربِّ الكعبة. وفاضت روحه بينهما. وصاحت جارية له: وآ مسلماه! يا سيّداه! يابن عوسجتاه! فتنادى أصحاب ابن الحجاج: قتلنا مسلماً.

فقال شبث بن ربعي لمَن حوله: ثكلتكم اُمّهاتكم! أيقتل مثل مسلم وتفرحون! لَربَّ موقف له كريم في المسلمين رأيته يوم آذربيجان، وقد قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين(٣) .

الميسرة

وحمل الشمر في جماعة من أصحابه على ميسرة الحسينعليه‌السلام فثبتوا لهم حتّى كشفوهم، وفيها قاتل عبد الله بن عمير الكلبي فقتل تسعة عشر فارساً واثني عشر راجلاً، وشدّ عليه هاني بن ثبيت الحضرمي فقطع يده اليمنى(٤) ، وقطع بكر بن حي ساقه.

____________________________

(١) البداية لابن كثير ٨ / ١٨٢.

(٢) سورة الأحزاب / ٢٣.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٩.

(٤) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢١٧.

٢٤١

فاُخذ أسيراً وقُتل صبراً(١) ، فمشت إليه زوجته اُمّ وهب وجلست عند رأسه تمسح الدم عنه وتقول: هنيئاً لك الجنّة أسأل الله الذي رزقك الجنّة أنْ يصحبني معك. فقال الشمر لغلامه رستم: اضرب رأسها بالعمود، فشدخه وماتت مكانها، وهي أول امرأة قُتلت من أصحاب الحسين عليه‌السلام (٢) .

وقطع رأسه ورمى به إلى جهة الحسين فأخذته اُمّه ومسحت الدم عنه، ثمّ أخذت عمود خيمة وبرزت إلى الأعداء فردّها الحسينعليه‌السلام وقال:«ارجعي رحمك الله فقد وضِع عنك الجهاد». فرجعت وهي تقول: اللهمّ، لا تقطع رجائي. فقال الحسينعليه‌السلام :«لا يقطع الله رجاءك» (٣) .

وحمل الشمر حتّى طعن فسطاط الحسينعليه‌السلام بالرمح وقال: عليَّ بالنّار لاُحرقه على أهله. فتصايحت النّساء وخرجن من الفسطاط، وناداه الحسينعليه‌السلام :«يابن ذي الجوشن، أنت تدعو بالنّار لتحرق بيتي على أهلي؟! أحرقك الله بالنّار». وقال له شبث بن ربعي: أمرعباً للنّساء صرت؟ ما رأيت مقالاً أسوأ من مقالك، وموقفاً أقبح من موقفك. فاستحى وانصرف. وحمل على جماعته زهير بن القين في عشرة من أصحابه حتّى كشفوهم عن البيوت(٤) .

عزرة يستمد الرجال

ولمّا رأى عزرة بن قيس - وهو على الخيل - الوهن في أصحابه والفشل كلّما يحملون، بعث إلى عمر بن سعد يستمدّه الرجال، فقال ابن سعد لشبث بن ربعي: ألا تقدم إليهم؟ قال: يا سبحان الله! تكلّف شيخ المصر، وعندك مَن يجزي عنه. ولَم يزل شبث بن ربعي كارهاً لقتال الحسين، وقد سُمع يقول: قاتلنا مع علي بن

____________________________

(١) حكى هذا ابن الأثير، وفي مقتل الخوارزمي ٢ / ١٣: إنّ شماله قُطعت بعد أن قُطعت يمينه.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥١، وفي مسند أحمد ٢ / ١٠٠، الطبعة الاُولى عن أبي عمر: مرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزاة غزاها بامرأة مقتولة، فنهى عن قتل النّساء والصبيان.

(٣) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١١٣.

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥١، واختصره الخوارزمي في المقتل ٢ / ١٦.

٢٤٢

أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثمّ عدونا على ولده وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سميّة الزانية، ضلال يا لك من ضلال! والله لا يعطي الله أهل هذا المصر خيراً أبداً، ولا يسدّدهم لرشد(١) .

فمدّه بالحصين بن نُمير في خمسمئة من الرماة، واشتدّ القتال، وأكثر أصحاب الحسينعليه‌السلام فيهم الجراح حتّى عقروا خيولهم وأرجلوهم(٢) ، ولَم يقدروا أنْ يأتوهم من وجه واحد؛ لتقارب أبنيتهم. فأرسل ابن سعد الرجال ليقوضوها عن أيمانهم وعن شمائلهم؛ ليحيطوا بهم. فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسينعليه‌السلام يتخلّلون البيوت فيشدّون على الرجل وهو ينهب فيقتلونه ويرمونه من قريب فيعقرونه.

فقال ابن سعد: احرقوها بالنّار فأضرموا فيها النّار. فصاحت النّساء ودُهشت الأطفال، فقال الحسينعليه‌السلام :«دعوهم يحرقونها، فإنّهم إذا فعلوا ذلك لَم يجوزوا إليكم». فكان كما قال(٣) .

أبو الشعثاء

وكان أبو الشعثاء الكندي - وهو يزيد بن زياد - مع ابن سعد، فلمّا ردّوا الشروط على الحسينعليه‌السلام صار معه، وكان رامياً فجثا على ركبتَيه بين يدَي الحسين ورمى بمئة سهم و الحسينعليه‌السلام يقول:«اللهمّ سدّد رميته، واجعل ثوابه الجنّة». فلمّا نفدت سهامه قام وهو يقول: لقد تبيّن لي أنّي قتلت منهم خمسة(٥) . ثمّ حمل على القوم فقتل تسعة نفر وقُتل(٤) .

الزوال

والتفت أبو ثمامة الصائدي(٦) إلى الشمس قد زالت، فقال للحسينعليه‌السلام : نفسي

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥١.

(٢) إعلام الورى / ١٤٥، وابن الأثير ٤ / ٢٨.

(٣) ابن الأثير ٤ / ٢٨، ومقتل الخوارزمي ٢ / ١٦.

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٥.

(٥) أمالي الصدوق / ١٧ المجلس الثلاثون، وفي ذخيرة الدارين: قتل تسعة عشر رجلاً.

(٦) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم / ٣٧٣، والإكليل للهمداني ١٠ / ٩٧: أبو ثمامة: هو زياد بن عمرو بن عريب بن حنظلة بن دارم الصائدي، قُتل مع الحسين.

وفي تاريخ الطبري ٦ / ١٥١، وزيارة النّاحية المقدسة أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي.

وفي اللباب لابن الأثير ٢ / ٤٦: الصائدي: نسبةً إلى صائد، بطن من همدان، واسم صايد كعب بن شرحبيل... الخ.

٢٤٣

لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، لا و الله لا تُقتل حتّى اُقتل دونك، و اُحبّ أنْ ألقى الله وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها. فرفع الحسينعليه‌السلام رأسه إلى السّماء وقال:«ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها، سلوهم أنْ يكفّوا عنّا حتّى نصلّي». فقال الحصين: إنّها لا تُقبل(١) .

حبيب بن مظاهر

فقال حبيب بن مظاهر: زعمت أنّها لا تُقبل من آل الرسول وتُقبل منك يا حمار؟! فحمل عليه الحصين فضرب حبيبُ وجه فرسه بالسّيف، فشبّت به ووقع عنه واستنقذه أصحابه فحملوه(٢) ، وقاتلهم حبيب قتالاً شديداً، فقتل على كبره اثنين وستّين رجلاً، وحمل عليه بديل بن صريم فضربه بسيفه، وطعنه آخر من تميم برمحه فسقط إلى الأرض، فذهب ليقوم وإذا الحصين يضربه بالسّيف على رأسه فسقط لوجهه، ونزل إليه التميمي واحتزّ رأسه فهدّ مقتلُه الحسينعليه‌السلام فقال:«عند الله احتسب نفسي وحماة أصحابي» (٣) ، واسترجع كثيراً.

الحرّ الرياحي

وخرج من بعده الحرّ بن يزيد الرياحي ومعه زهير بن القين - يحمي ظهره - فكان إذا شدّ أحدهما واستلحم شدّ الآخر واستنقذه، ففعلا ساعة(٤) وإنّ فرس الحرّ لمضروب على اُذنَيه وحاجبَيه و الدماء تسيل منه، وهو يتمثّل بقول عنترة:

____________________________

(١) في الوسائل ١ / ٢٤٧، الباب الواحد والأربعون، في مواقيت الصلاة، طبعة عين الدولة: كان أمير المؤمنينعليه‌السلام مشتغلاً بالحرب ويراقب وقت الصلاة، فقال له ابن عبّاس ما هذا الفعل يا أمير المؤمنين قال:«اُراقب الشمس» . فقال له: إنّ عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة. فقالعليه‌السلام :«إنّما قاتلناهم على الصلاة». ولَم يترك صلاة الليل حتّى ليلة الهرير.

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ١٧.

(٣) ابن الأثير ٤ / ٢٩، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٥١، وفي مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ١٩: قطع التميمي رأس حبيب، ويقال بديل بن صريم، وعلّق الرأس في عنق الفرس، فلمّا دخل الكوفة رآه ابن حبيب ابن مظاهر - وهو غلام غير مراهق - فوثب عليه وقتله وأخذ رأسه.

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٢، والبداية ٨ / ١٨٣.

٢٤٤

ما زلت ارميهم بثغرة نحره

ولبانه حتّى تسربل بالدم

فقال الحصين ليزيد بن سفيان: هذا الحرّ الذي كنت تتمنى قتله؟ قال: نعم. وخرج إليه يطلب المبارزة فما أسرع أنْ قتله الحرّ، ثمّ رمى أيّوب بن مشرح الخيواني فرس الحرّ بسهم فعقره، وشبّ به الفرس فوثب عنه كأنّه ليث(١) وبيده السّيف، وجعل يقاتل راجلاً حتّى قتل نيفاً وأربعين(٢) ، ثمّ شدّت عليه الرجّالة فصرعته. وحمله أصحاب الحسينعليه‌السلام ووضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلون دونه - وهكذا يؤتى بكلّ قتيل إلى هذا الفسطاط - و الحسينعليه‌السلام يقول:«قتلة مثل قتلة النبيين وآل النبيّين» (٣) ثمّ التفت إلى الحرّ - وكان به رمق - فقال له، وهو يمسح الدم عنه:«أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك، وأنت الحرّ في الدنيا والآخرة» . ورثاه رجل من أصحاب الحسين، وقيل: علي بن الحسين(٤) وقيل: إنّها من إنشاء الحسين خاصّة(٥)

لَـنعم الحرُّ حرُ بني رياح

صبور عند مشتبك الرماح

ونعم الحرُّ إذ فادى حسيناً

وجاد بنفسه عند الصباح

الصلاة

وقام الحسين إلى الصلاة، فقيل إنّه صلّى بمَن بقي من أصحابه صلاة الخَوف، وتقدّم أمامه زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي في نصف من أصحابه(٦) ، ويقال إنّه صلّى، وأصحابه فرادى بالإيماء(٧) :

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٨ - ٢٥٠.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢١٧، طبعة ايران.

(٣) هذا في تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١١٨، والبحار ١٠ / ١١٧، و١٣ / ١٣٥، عن الغيبة للنعماني / ١١٣، الطبع الحجرية، باب ما يلحق الشيعة من التمحيص.

وفي تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٦، وابن الأثير ٤ / ٣٠، وإرشاد المفيد: إنّه وضع فسطاطاً في الميدان. ولَم يذكروا كلمة الحسينعليه‌السلام المعربة عن قداسة الموقف.

(٤) مقتل العوالم / ٨٥، ومقتل الخوارزمي ٢ / ١١.

(٥) روضة الواعظين / ١٦٠، وأمالي الصدوق / ٩٧، المجلس الثلاثون.

(٦) مقتل العوالم / ٨٨، ومقتل الخوارزمي ٢ / ١٧: والذي أراه صلاة الحسين كانت قصراً؛ لأنّه نزل كربلاء في الثاني من المحرم، ومن أخبار جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافاً إلى علمه بأنّه يُقتل يوم عاشوراء لَم يستطع أن ينوي الإقامة إذا لَم تكمل له عشرة أيّام وتخيّل مَن لا معرفة له بذلك أنّه صلّى صلاة الخوف.

(٧) مثير الأحزان لابن نما / ٤٤.

٢٤٥

وصـلاة الخوف حاشاها فما

روعت والموت منها كان قابا

مـا لواها الموقف الدّامي وما

صدَّها الجيش ابتعاداً واقترابا

زحـفت ظامئة والشمس من

حَـرَّها تلتهب الأرض التهابا

هزَّت الجيش وقد ضاقت به

عرصة الطَّف سهولا وهضابا

سـائل الـميدان عنها سترى

كـيف أرضته طعاناً وضرابا

كـيف حـامت حرم الله فما

خـدشت عزّاً ولا ولّت جنابا

كـيف دون الله راحت تَدّري

بـهواديها سـهاماً وكعابا(١)

ولما اُثخن سعيد بالجراح سقط إلى الأرض وهو يقول: اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود وابلغ نبيّك منّي السّلام وابلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإنّي أردت بذلك ثوابك في نصرة ذريّة نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، والتفت إلى الحسينعليه‌السلام قائلاً: أوفيت يابن رسول الله؟ قال:«نعم، أنت أمامي في الجنّة» (٣) ، وقضى نحبه فوُجد فيه ثلاثة عشر سهماً غير الضرب والطعن(٤) .

ولمّا فرغ الحسينعليه‌السلام من الصلاة قال لأصحابه:«يا كرام، هذه الجنّة قد فتحت أبوابها، واتصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومَكم ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيِّه، وذبّوا عن حرم الرسول». فقالوا: نفوسنا لنفسك الفداء، ودماؤنا لدمك الوقاء فوالله لا يصل إليك وإلى حرمك سوء وفينا عرق يضرب(٥) .

الخيل تعقر

ثمّ إنّ عمر بن سعد وجّه عمرو بن سعيد في جماعة من الرماة فرموا أصحاب الحسين وعقروا خيولهم(٦) ولَم يبقَ مع الحسين فارس إلاّ الضحّاك بن

____________________________

(١) للعلامة السيّد محمّد ابن آية الله السيّد جمال الكلبايكاني.

(٢) مقتل العوالم / ٨٨.

(٣) ذخيرة الدارين / ١٧٨.

(٤) اللهوف / ٦٢.

(٥) أسرار الشهادة / ١٧٥.

(٦) مثير الأحزان لابن نما / ٣٤.

٢٤٦

عبد الله المشرقي يقول: لمّا رأيت خيل أصحابنا تُعقر أقبلتُ بفرسي وأدخلتها فسطاطاً لأصحابنا. واقتتلوا أشدّ القتال(١) . وكان كلّ مَن أراد الخروج ودّع الحسينعليه‌السلام بقوله: السّلام عليك يابن رسول الله. فيُجيبه الحسينعليه‌السلام :«وعليك السّلام، ونحن خلفك» ، ثمّ يقرأ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (٢) .

أبو ثمامة

وخرج أبو ثمامة الصائدي فقاتل حتّى اُثخن بالجراح، وكان مع عمر بن سعد ابن عمّ له، يقال له قيس بن عبد الله بينهما عداوة، فشدّ عليه وقتله.

زهير وابن مضارب

وخرج سلمان بن مضارب البجلي - وكان ابن عمّ زهير بن القين - فقاتل حتّى قُتل. وخرج بعده زهير بن القين فوضع يده على منكب الحسين وقال مستأذناً:

أقـدم هديت هادياً مهديّاً

فـاليوم القى جَدَّك النبيّا

وحـسناً والمرتضى عليّاً

وذا الجناحين الفتى الكميّا

وأسد الله الشهيد الحي

فقال الحسينعليه‌السلام :«وأنا ألقاهما على أثرك». وفي حملاته يقول:

أنا زهير وأنا ابن القين

أذودكم بالسّيف عن حسين

فقتل مئة وعشرين، ثمّ عطف عليه كثير بن عبد الله الصعبي والمهاجر بن أوس فقتلاه. فوقف الحسينعليه‌السلام وقال:«لا يبعدنّك الله يا زهير، ولعن قاتليك لعن الذين مُسخوا قردةً وخنازير» (٣) .

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٥.

(٢) مقتل العوالم / ٨٥، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٢٥.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٣، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٢٠.

٢٤٧

عمرو بن قرظة

وجاء عمرو بن قرظة الأنصاري(١) ووقف أمام الحسينعليه‌السلام يقيه من العدو ويتلقّى السّهام بصدره وجبهته فلم يصل إلى الحسينعليه‌السلام سوء، ولمّا كثر فيه الجراح التفت إلى أبي عبد الله وقال: أوفيت يابن رسول الله؟ قال:«نعم، أنت أمامي في الجنّة، فاقرأ رسول الله منّي السّلام، وأعلِمه أنّي في الأثر». وخرَّ ميّتاً(٢) .

فنادى أخوه علي وكان مع ابن سعد: يا حسين، يا كذّاب، غررت أخي حتّى قتلته؟ فقالعليه‌السلام :«إنّي لَم أغر أخاك، ولكنّ الله هداه وأضلّك» . فقال: قتلني الله إنْ لَم أقتلك. ثمّ حمل على الحسين ليطعنه، فاعترضه نافع بن هلال الجملي فطعنه حتّى صرعه، فحمله أصحابه وعالجوه وبرئ(٣) .

نافع الجملي

ورمى نافع بن هلال الجملي المذحجي بنبال مسمومة، كتب اسمه عليها(٤) وهو يقول(٥) .

أرمـي بها معلمة أفواقها

مسمومة تجري بها اخفاقها

لـيملأنَّ ارضـها رشاقها

والـنفس لا ينفعها اشفاقها

فقتل اثنى عشر رجلاً سوى من جرح، ولمّا فنيت نباله جرّد سيفه يضرب فيهم، فأحاطوا به يرمونه بالحجارة والنصال حتّى كسروا عضديه وأخذوه أسيراً(٦)

____________________________

(١) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم / ٣٤٥: من ولد عمرو بن عامر بن زيد مناة بن مالك الأغر، وهو الشاعر المعروف بابن الاطنابة قرظة بن كعب بن عمرو الشاعر، له صحبة. كان لقرظة بن عمرو ابنان؛ عمرو قُتل مع الحسينعليه‌السلام ، وآخر مع ابن سعد ولَم يسمّه.

(٢) مقتل العوالم / ٨٨.

(٣) ابن الأثير ٤ / ٢٧.

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٢، وكامل ابن الأثير ٤ / ٢٩، والبداية ٨ / ١٨٤.

(٥) مقتل العوالم / ٩٠، وذكر ابن كثير في البداية ٨ / ١٨٤: الشطر الأول والرابع، ومثله في رواية الصدوق في الأمالي، وسمّاه هلال بن حَجّاج.

(٦) مقتل الخوارزمي ٢ / ٢١.

٢٤٨

فأمسكه الشمر ومعه أصحابه يسوقونه، فقال له ابن سعد: ما حملك على ما صنعت بنفسك؟ قال: إنّ ربّي يعلم ما أردتُ. فقال له رجل وقد نظر إلى الدماء تسيل على وجهه ولحيته: أما ترى ما بك؟ فقال: والله لقد قَتلتُ منكم اثني عشر رجلاً سوى مَن جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد، ولَو بقيت لي عضد ما أسرتموني(١) . وجرّد الشمر سيفه فقال له نافع: والله يا شمر لَو كنتَ من المسلمين لعظم عليك أنْ تلقى الله بدمائنا، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدَي شرار خلقه. ثمّ قدّمه الشمر وضرب عنقه(٢) .

واضح وأسلم

ولما صُرع واضح التركي مولى الحرث المذحجي استغاث بالحسينعليه‌السلام ، فأتاه أبو عبد الله واعتنقه، فقال: مَن مثلي وابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واضع خدّه على خدّي! ثم فاضت نفسه الطاهرة(٣) .

ومشى الحسين إلى أسلم مولاه، واعتنقه وكان به رمق فتبسّم وافتخر بذلك ومات(٤) !

برير بن خضير

ونادى يزيد بن معقل(٥) : يا برير كيف ترى صنع الله بك؟ فقال: صنع الله بي خيراً، وصنع بك شرّاً. فقال يزيد: كذبت وقبل اليوم ما كنت كذّابا، أتذكر يوم كنت اُماشيك في بني لوذان(٦) وأنت تقول: كان معاوية ضالاً وإنّ إمام

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٣.

(٢) البداية لابن كثير ٨ / ٨٤، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٥٣.

(٣) مقتل العوالم / ٩١، وأبصار العين / ٨٥. وفي مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٢٤: كان الغلام التركي من موالي الحسينعليه‌السلام ، قارئاً للقرآن، عارفاً بالعربية، وقد وضع الحسينعليه‌السلام خدّه على خدّه حين صُرع فتبسّم.

(٤) ذخيرة الدارين / ٣٦٦.

(٥) في تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٧: إنّه من بني عمير بن ربيعة وهو حليف لبني سليمة ابن بني عبد القيس.

(٦) في تاج العروس بمادة (لوذ)، لوذان بن عبد ودّ بن الحرث بن زيد بن جشم بن حاشد.

٢٤٩

الهدى علي بن أبي طالب؟ قال برير: بلى، أشهد إنّ هذا رأيي. فقال يزيد: وأنا أشهد إنّك من الضالّين. فدعاه برير إلى المباهلة فرفعا أيديهما إلى الله سبحانه يدعوانه أن يلعن الكاذب ويقتله، ثمّ تضاربا فضربه برير على رأسه قدّت المغفر والدماغ، فخرّ كأنّما هوى من شاهق، وسيف برير ثابت في رأسه. وبينا هو يريد أنْ يخرجه إذ حمل عليه رضي بن منقذ العبدي واعتنق بريراً واعتركا فصرعه برير وجلس على صدره، فاستغاث رضي بأصحابه، فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل على برير، فصاح به عفيف بن زهير بن أبي الأخنس: هذا برير بن خضير القارئ الذي كان يقرؤنا القرآن في جامع الكوفة، فلَم يلتفت إليه وطعن بريراً في ظهره، فبرك برير على رضي وعض وجهه وقطع طرف أنفه، وألقاه كعب برمحه عنه وضربه بسيفه فقتله.

وقام العبدي ينفض التراب عن قبائه وقال: لقد أنعمت عليَّ يا أخا الأزد نعمة لا أنساها أبداً.

ولمّا رجع كعب بن جابر إلى أهله عتبت عليه امرأته النوار وقالت: أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيّد القرّاء، لقد أتيت عظيماً من الأمر، والله لا اُكلّمك من رأسي كلمة أبداً. فقال:

سـلي تـخبري عنّي وانت ذميمة

غـداة حـسين والـرماح شوارع

ألم آت اقصى ما كرهت ولم يخل

عـليَّ غـداة الـروع ما أنا صانع

مـعي يـزني لـم تـخنه كعوبُه

وأبـيضُ مخشوب الغرارين قاطع

فـجردته فـي عصبة ليس دينهم

بـديني و إنـي بابن حرب لقانع

ولـم تـرَ عيني مثلهم في زمانهم

ولا قـبلهم فـي النّاس إذ أنا يافع

أشـدّ قراعا بالسيوف لدى الوغى

ألا كـل مـن يحمي الذمار مقارع

وقد صبروا للضرب والطعن حُسّراً

وقـد نـازلوا لـو أنَّ ذلـك نافع

فـأبـلغ عـبـيد الله أمـا لـقيته

بـأنّـي مـطيع لـلخليفة سـامع

قـتلت بـريراً ثـم حـملت نعمة

ابـا مـنقذ لـما دعـا من يماصع

فردّ عليه رضي بن منقذ العبدي بقوله:

ولـو شـاء ربي ما شهدت قتالهم

ولا جـعل النعماء عندي ابن جابر

لـقد كـان ذاك الـيوم عاراً وسبَّة

تـعـيره الابـناء بـعد الـمعاشر

٢٥٠

فـيا لـيت إنّي كنت من قبل قَتْلِه

ويوم حسين كنت في رمس قابر(١)

حنظلة الشبامي

ونادى حنظلة بن سعد الشبامي: يا قوم، إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، وما الله يريد ظلماً للعباد. يا قوم، إنّي أخاف عليكم يوم التناد يوم تولّون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد. يا قوم، لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم الله بعذاب وقد خاب من افترى. فجزاه الحسينعليه‌السلام خيراً وقال:«رحمك الله إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق، و نهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين». قال: صدقت يابن رسول الله أفلا نروح إلى الآخرة؟ فأذن له، فسلّم على الحسينعليه‌السلام وتقدّم حتّى قُتل(٢) .

عابس

وأقبل عابس بن شبيب الشاكري على شَوذب(٣) مولى شاكر - وكان شَوذب من الرجال المخلصين وداره مألف للشيعة يتحدثون فيها فضل أهل البيت - فقال: يا شَوذب، ما في نفسك أنْ تصنع؟ قال: اُقاتل معك حتّى اُقتل. فجزاه خيراً وقال له: تقدّم بين يدَي أبي عبد اللهعليه‌السلام حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك وحتّى أحتسبك فإنّ هذا يوم نطلب فيه الأجر بكلّ ما نقدر عليه. فسلّم شَوذب على الحسين، وقاتل حتّى قُتل.

فوقف عابس أمام أبي عبد اللهعليه‌السلام وقال: ما أمسى على ظهر الأرض

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٨.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٤.

(٣) في إعلام الورى / ١٤٥: سمّاه شودان، وفي ارشاد المفيد كما هنا.

٢٥١

قريب و لا بعيد أعزّ عليَّ منك، ولَو قدرت أنْ أدفع الضيم عنك بشيء أعزّ عليَّ من نفسي لفعلت، السّلام عليك، أشهد أنّي على هداك و هدى أبيك. ومشى نحو القوم مصلتاً سيفه و به ضربة على جبينه فنادى: ألا رجل؟ فأحجموا عنه؛ لأنّهم عرفوه أشجع النّاس. فصاح عمر بن سعد: أرضخوه بالحجارة. فرُمي بها، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وشدّ على النّاس وإنّه ليطرد أكثر من مئتين، ثمّ تعطّفوا عليه من كلّ جانب فقُتل. فتنازع ذووا عدة في رأسه، فقال ابن سعد: هذا لَم يقتله واحد. وفرّق بينهم بذلك(١) .

جون

ووقف جون(٢) مولى أبي ذرّ الغفاري أمام الحسين يستأذنه فقالعليه‌السلام :«يا جون إنّما تبعتنا طلباً للعافية، فأنت في إذن منّي» . فوقع على قدميه يقبّلهما ويقول: أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم، إنّ ريحي لنتن، وحسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفّس عليَّ بالجنّة؛ ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيّض لوني، لا والله لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم. فأذن له الحسين(٣) ، فقَتل خمساً وعشرين وقُتل. فوقف عليه الحسينعليه‌السلام وقال:«اللهمّ بيِّض وجهه وطيِّب ريحه، واحشره مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرِّف بينه وبين آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » .

فكان مَن يمرّ بالمعركة يشمّ منه رائحةً طيّبة أذكى من المسك(٤) .

أنس الكاهلي

وكان أنس بن الحارث بن نبيه الكاهلي شيخاًً كبيراً صحابياً، رأى النبي

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٤.

(٢) في تاريخ الطبري ٦ / ٢٣٩: بالحاء المهملة وبعدها واو ثمّ الياء (حوى). وفي مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢١٨: برز جوين ابن أبي مالك مولى أبي ذر الغفاري، وفي مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ٢٣٧: جون مولى أبي ذر الغفاري، وكان عبداً أسود.

(٣) مثير الأحزان لابن نما / ٣٣، طبعة ايران. وفي اللهوف / ٦١ طبعة صيدا: أفتنفس بالجنّة أترغب أن لا أدخل الجنة؟

(٤) مقتل العوالم / ٨٨.

٢٥٢

وسمع حديثه وشهد معه بدراً وحنيناً، فاستأذن الحسينعليه‌السلام وبرز شاداً وسطه بالعمامة رافعاً حاجبيه بالعصابة، ولمّا نظر إليه الحسينعليه‌السلام بهذه الهيئة بكى وقال:«شكر الله لك يا شيخ» . فقَتل على كبره ثمانية عشر رجلاً وقُتل(١) .

عمرو بن جنادة

وجاء عمرو بن جنادة الأنصاري بعد أنْ قُتل أبوه - وهو ابن إحدى عشرة سنة - يستأذن الحسينعليه‌السلام فأبى وقال: «هذا غلام قُتل أبوه في الحملة الاُولى، ولعلّ اُمّه تكره ذلك». قال الغلام: إنّ اُمّي أمرتني. فأذن له فما أسرع أنْ قُتل ورُمي برأسه إلى جهة الحسينعليه‌السلام فأخذته اُمّه ومسحت الدم عنه، وضربت به رجلاً قريباً منها فمات(٢) وعادت إلى المخيّم فأخذت عموداً وقيل سيفاً وأنشأت:

إنّي عجوز في النّسا ضعيفة

خـاويـة بـالـية نـحيفة

أضـربكم بـضربة عنيفة

دون بـني فاطمة الشريفة

فردّها الحسينعليه‌السلام إلى الخيمة بعد أن أصابت بالعمود رجلَين(٣) .

الحَجّاج الجعفي

وقاتل الحجاج بن مسروق الجعفي حتّى خضب بالدماء، فرجع إلى الحسينعليه‌السلام يقول:

____________________________

(١) ذخيرة الدارين / ٢٠٨. وذكر ابن نما في مثير الأحزان مبارزته ورجزه، وفي الإصابة ١ / ٦٨: له ولأبيه صحبة، وروى عنه حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«يُقتل ولدي بأرض كربلاء، فمن شهد ذلك فلينصره» . وذكره السيوطي في الخصائص ٢ / ١٢٥، والجزري في اُسد الغابة ١ / ١٢٣، وأبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل ١ / ٢٨٧.

(٢) ابن شهر آشوب ٣ / ٢١٩، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٢٢: وليس هذا بالبعيد بعد ما يحدث الشيخ المفيد في كتاب الجمل / ١٣٧ الطبعة الثانية: إنّ حكيم بن جبلة العبدي لمّا قطعت رجله ضرب بها الرجل فصرعه. وفي تاريخ الطبري ٥ /١٨٠ وكامل ابن الأثير ٣ / ٣٥: بعد أن قتل الرجل قال:

يا فخذ لن تراعي

إن معي ذراعي

أحمي بها كراعي

وقال ابن الأثير في الكامل ٢ / ١٤٠: قطع رجل من أصحاب مسيلمة رجل ثابت بن قيس فأخذها ثابت وضرب بها الرجل فقتله.

(٣) البحار ١٠ / ١٩٨، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٢٢. وفي الإصابة ترجمة أسماء بنت يزيد بن السكن أنّها يوم اليرموك أصابت بالعمود تسعة من الروم فقتلتهم.

٢٥٣

اليوم ألقى جدّك النبيّا

ثم أباك ذا النّدى عليا

ذاك الذي نعرفه الوصيّا

فقال الحسين:«وأنا ألقاهما على أثرك» . فرجع يقاتل حتّى قُتل(١) .

سوار

وقاتل سوار بن أبي حِمير من ولد فهم بن جابر بن عبد الله بن قادم الفهمي الهمداني قتالاً شديداً حتّى ارتث بالجراح(٢) واُخذ أسيراً، فأراد ابن سعد قتله وتشفّع فيه قومه، وبقي عندهم جريحاً إلى أنْ توفّي على رأس ستّة أشهر(٣) .

وفي زيارة النّاحية المقدّسة:«السّلام على الجريح المأسور، سوار بن أبي حمير الفهمي الهمداني، وعلى المرتث معه عمر بن عبد الله الجندعي».

سويد

ولمّا اُثخن بالجراح سويد بن عمرو بن أبي المطاع سقط لوجهه، وظُنَّ أنّه قُتل، فلمّا قُتل الحسينعليه‌السلام وسمعهم يقولون: قُتل الحسين. أخرج سكّينةً كانت معه فقاتل بها، وتعطفوا عليه فقتلوه، وكان آخر مَن قُتل من الأصحاب بعد الحسينعليه‌السلام .

هم عصمة اللاجي إذا هو يختشي

وهـم ديمة الراجي اذا هو يجتدي

إذا ما خبت نار الوغى شعشعوا لها

سـيوفهم جـمرا وقـالوا توقَّدي

ثـقال الـخطا لكنَّ يخفون للوغى

سـراعا بخرصان الوشيج المسدّد

إذا أشـرعوا سمر الرماح حسبتها

كـواكب فـي ليل من النقع أسود

أو اصطدمت تحت العجاج كتائب

جـرى أصـيد منهم لها اثر أصيد

يـكرُّون والابطال طائشة الخطى

وشـخص المنايا بالعجاجة مرتدي

____________________________

(١) البحار ١٠ / ١٩٨، عن مقتل الحائري.

(٢) الاكليل للهمداني ١٠ / ١٠٣. والرتيث: من حمل من المعركة جريحاً وبه رمق.

(٣) الحدائق الوردية - مخطوط - ويوافقه ما في الاكليل أنّه مات من جراحه غير أنّه لم يذكر أسره.

٢٥٤

لـووا جـانباً عن مورد الضّيم فانثنوا

عـلى الأرض صرعى سيّداً بعد سيّد

هـووا لـلثرى نهب السّيوف جسومهم

عــوار ولـكن بـالمكارم تـرتدي

وأضـحى يـدير السبط عينيه لا يرى

سـوى جـثث منهم على الترب ركّد

أحـاطت بـه سـبعون ألـفاً فـردَّها

شــوارد امـثـال الـنّعام الـمشرد

وقـام عـديم الـنّصر بين جموعهم

وحـيداً يـحامى عـن شـريعة أحمد

إلـى أن هـوى للأرض شلْوا مبضعاً

ولَـم يـروِ من حرِّ الظما قلبه الصدي

هـوى فهوى التوحيد وانطمس الهدى

وحُـلّت عـرى الدين الحنيف المشيّد

لـه الله مـقطور الـفؤاد مـن الظما

صـريعاً عـلى وجـه الثرى المتوقّد

ثـوى فـي هجير الشمس وهو معفَّر

تـظـلله سـمـر الـقـنا الـمتقصّد

وأضحت عوادي الخيل من فوق صدره

تـروح إلى كـرّ الـطراد وتغتدي

وهـاتفة مـن جـانب الـخدر ثـاكل

بـدت وهـي حسرى تلطم الخدّ باليد

يـؤَلّـمها قــرع الـسّياط فـتنثني

تـحن فـيشجي صـوتها كـل جلمد

وسـيقت عـلى عجف المطايا أسيرة

يـطاف بـها فـي مـشهد بعد مشهد

ســرت تـتـهاداها عـلوج اُمـيّة

فـمن مـلحد تـهدى إلى شر ملحد(١)

شهادة أهل البيتعليهم‌السلام

علي الأكبر

ولما لَم يبقَ مع الحسين إلاّ أهل بيته، عزموا على ملاقاة الحتوف ببأس شديد وحفاظ مرّ ونفوس أبيّة، وأقبل بعضهم يودّع بعضاً(٢) وأول مَن تقدّم أبو الحسن(٣) علي الأكبر(٤) وعمره سبع وعشرون سنة؛ فإنّه ولد في الحادي عشر من شعبان سنة

____________________________

(١) للحجة السيد محمّد حسين الكيشوانرحمه‌الله .

(٢) مقتل لخوارزمي ٢ / ٢٦.

(٣) ذكرنا في رسالة (علي الأكبر / ١٤) الرواية عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام أنّه كان متزوّجاً من اُمّ ولد، فلعلّ الكنية بأبي الحسن من جهة ولد له منها اسمه (الحسن) كما يقتضيه التسمية باُمّ ولد مع أنّ زيارته المرويّة في كامل الزيارات / ٢٣٩ تؤكّده. قال الصادقعليه‌السلام في تعليم أبي حمزة«قُل، صلّى الله عليك وعلى عترتك وأهل بيتك وآبائك وأبنائك واُمّهاتك الأخيار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهراً» ، والأبناء جمع أقلّه إثنان.

(٤) في رسالتنا (علي الأكبر) ذكرنا نصوص المؤرّخين على أنّه أكبر من السّجادعليه‌السلام وسيأتي في الحوادث بعد الشهادة، اعتراف زين العابدين به في المحاورة الجارية بينه وبين ابن زياد.

٢٥٥

ثلاث وثلاثين من الهجرة(١) ، وكان مرآة الجمال النّبوي ومثال خُلُقه السّامي واُنموذجاً من منطقه البليغ، وإذا كان شاعر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه:

وأحسن منك لَم ترَ قطٌّ عيني

وأجـمل منك لم تلد النّساء

خـلقت مبرَّءاً من كلِّ عيب

كـأنّـكَ قد خلقت كما تشاء

فمادح الأكبر يقول(٢) :

لم تَـر عـينٌ نـظرت مـثله

مـن مـحتفٍ يـمشي ومن ناعل

يـغلي نـهيء الـلحم حتّى اذا

انـضج لـم يـغل على الآكل(٣)

كـان اذا شـبَّـت لــه نـاره

اوقـدهـا بـالشرف الـقابل(٤)

كيـما يـراها بـائس مـرمل

او فــردُ حـيٍ لـيس بـالآهل

لا يؤثـر الـدنيا عـلى ديـنه

ولايـبـيع الـحـقُّ بـالـباطل

أَعني ابن ليلى ذا الندى والسدى

أَعني ابن بنت الحَسَب الفاضل(٥)

فعلي الأكبر هو المتفرّع من الشجرة النبويّة، الوارث للمآثر الطيّبة، وكان حريّاً بمقام الخلافة لَولا أنّها منصوصة من إله السّماء. وقد سجّل سبحانه أسماءهم في الصحيفة النازل بها جبرئيلعليه‌السلام على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ورث الصفات الغرّ وهي تراثه

مـن كل غطريف وشهم أصيد

في بأس حمزة في شجاعة حيدر

بـإبا الحسين وفي مهابةأحمد

____________________________

(١) أنيس الشيعة - مخطوط - للسيد محمّد عبد الحسين الجعفري الحائري، ألّفه باسم السّلطان فتح علي شاه.

(٢) في مقاتل الطالبيين / ٣٢: إنّها قيلت في علي الأكبر.

(٣) يغلي: الأولى بمعنى يفير. والثانية ضد يرخص والنّهيء كما في أقرب الموارد مادّة (نهيء): اللحم غير المطبوخ.

(٤) الشرف: الموضع العالي. والقابل بمعنى المقبل لعلوّه وارتفاعه، وهذه عادة العرب أنّهم يوقدون النّار في المكان المرتفع ليهتدي الركب في الليل.

(٥) في مصباح المنير مادّة ندى: إنّ ما يسقط أول الليل من البلل يقال له سدى، وما يسقط آخره يقال له الندى. وفي مراتب النحويين / ٥٣، لأبي الطيب عبد الواحد الحلبي المتوفّى ٣٥١: قال الأصمعي: إنّ أبا زيد يزعم أنّ النّدى ما كان في الأرض، والسدى ما يسقط من السّماء فقال: إذاً فما يصنع بقول الشاعر؟

ولقد أتيت البيت يخشى أهله

بعد الهدو وبعدما سقط الندى

أتراه سقط من الأرض إلى السّماء؟!

٢٥٦

وتراه في خلق وطيب خلائق

وبليغ نطق كالنبيّ محمد(١)

ولما يمّم الحرب، عزّ فراقه على مخدّرات الإمامة؛ لأنّه عماد أخبيتهن وحمى أمنهن ومعقد آمالهن بعد الحسين. فكانت هذه ترى هتاف الرسالة في وشك الانقطاع عن سمعها، وتلك تجد شمس النبوّة في شفا الكسوف، و اُخرى تشاهد الخُلق المحمدي قد آذن بالرحيل، فأحطن به و تعلّقن بأطرافه وقلن: ارحم غربتنا، لا طاقة لنا على فراقك. فلم يعبأ بهنّ؛ لأنّه يرى حجّة الوقت مكثوراً قد اجتمع أعداؤه على إراقة دمه الطاهر، فاستأذن أباه وبرز على فرس للحسين تسمّى لاحقاً(٢) .

ومن جهة أنَّ ليلى اُمّ الأكبر بنت ميمونة ابنة أبي سفيان(٣) صاح رجل من القوم: يا علي إنّ لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد، ونريد أنْ نرعى الرحم، فإنْ شئت آمنّاك. قالعليه‌السلام : إنّ قرابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحقّ أنْ تُرعى(٤) . ثمّ شدّ يرتجز معرِّفاً بنفسه القدسيّة وغايته السّامية:

أنـا علي بن الحسين بن علي

نـحن وربُّ البيت أُولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي(٥)

أضرب بالسيف اُحامي عن أبي

ضرب غلام هاشميًّ قرشي(٦)

ولَم يتمالك الحسينعليه‌السلام دون أن أرخى عينيه بالدموع(٧) وصاح بعمر بن سعد:«مالك؟ قطع الله رحمك كما قطعتَ رحمي، ولَم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلّط عليك من يذبحك على فراشك» (٨) . ثمّ رفع شيبته المقدّسة نحو السّماء وقال:«اللهمّ اشهد على هؤلاء فقد برز إليهم

____________________________

(١) هذه الأبيات والتي تأتي بعدها للحجّة آية الله الشيخ عبد الحسين صادق العامليقدس‌سره .

(٢) في كتاب فضل الخيل لعبد المؤمن الدمياطي المتوفّى سنة ٨٠٥ ﻫ الصفحة ١٧٨: أحد فرسي الحسين بن علي يسمّى (لاحقاً). وفي صفحة ١٨٣ قال: كان للحسين بن عليرضي‌الله‌عنه فرس اسمه اليحموم، وله فرس اُخرى تُدعى لاحقاً حمل عليها ولده علي بن الحسين الأكبر يوم قتلا بالطف.

(٣) الإصابة لابن حجر ٤ / ١٧٨، ترجمة أبي مرة.

(٤) سرّ السلسلة لأبي نصر في النّسب، ونسب قريش / ٥٧ لمصعب الزبيدي.

(٥) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٦، وإعلام الورى للطبرسي / ١٤٥، ومثير الأحزان / ٣٥.

(٦) تمام الأبيات من رواية الشيخ المفيدقدس‌سره في الإرشاد.

(٧) مثير الأحزان لان نما / ٣٥، والإرشاد للمفيد.

(٨) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٠.

٢٥٧

أشبه النّاس برسولك محمّد خَلقاًَ وخُلُقاً ومنطقاً (١) ،وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه، اللهمّ فامنعهم بركات الأرض، وفرِّقهم تفريقاً، ومزِّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضِ الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا، ثمّ عدَوا علينا يقاتلونا»، ثمّ تلا قوله تعالى: ( إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢)(٣) .

ولم يزل يحمل على المَيمنة ويعيدها على المَيسرة ويغوص في الأوساط، فلَم يقابله جحفل إلاّ ردّه، ولا برز إليه شجاع إلاّ قتله:

يرمي الكتائب والفلا غصَّت بها

فـي مـثلها مـن بأسه المتوقِّد

فـيردّها قـسراً عـلى أعقابها

فـي بأس عرّيس العرينة ملبد

فقتل مئة وعشرين فارساً. وقد اشتدّ به العطش فرجع إلى أبيه يستريح ويذكر ما أجهده من العطش(٤) فبكى الحسينعليه‌السلام وقال:«وآ غوثاه! ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربةً لا تظمأ بعدها» وأخذ لسانه فمصّه ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه(٥) .

ويـؤوب لـلتوديع وهـو مكابد

لـظما الـفؤاد ولـلحديد المجهد

صـادي الحشا وحسامه ريّان من

مـاء الـطلا وغـليله لـم يبرد

يشكو لخير أب ظماه وما اشتكي

ظمأ الحشا إلا إلى الظامي الصدي

كـل حـشاشته كـصالية الغضا

ولـسـانه ظـمأ كـشقة مـبرد

فـانصاع يـؤثره عـليه بـريقه

لـو كـان ثَـمّة ريـقه لم يجمد

وَمُـذ انـثنى يلقى الكريهة باسماً

والـموت مـنه بـمسمع وبمشهد

____________________________

(١) مثير الأحزان لابن نما واللهوف ومقتل الخوارزمي.

(٢) سورة آل عمران / ٣٣ - ٣٤.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٠.

(٤) مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج / ٤٧ الطبعة الحجرية، ومقتل العوالم / ٩٦، وروضة الواعظين / ١٦١، ومناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٢ طبعة ايران، ومثير الأحزان لابن نا / ٣٥، واللهوف / ٦٤ طبعة صيدا، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٠.

(٥) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣١، ومقتل العوالم / ٩٥.

جاء في معاهد التنصيص للعباسي ٢ / ٥١: أنّ يزيد بن مزيد الشيباني لمّا لحق الوليد بن طريف وأجهده العطش، وضع خاتمه في فمه وتبع الوليد حتّى طعنه بالرمح. وروى الكليني في الكافي عن الصادقعليه‌السلام أنّه لا بأس للصائم أن يمصّ الخاتم، وبه أفتى العلماء بالجواز ولعلّ من أسراره أنّه يسبب عمل الغدد في الإفراز، وعليه فلا خصوصيّة للخاتم بل كلّ ما يسبب عمل الغدد في الإفراز يوضع في الفم كالحصى ونحوهما.

٢٥٨

لفَّ الوغى وأجالها جول الرحى

بـمثقَّف مـن بـأسه ومـهنَّد

يـلقى ذوابـلها بـذابل معطف

ويـشيم أنـصلها بـجيد أجيد

حتى إذا ما غاص في اوساطهم

بـمطهَّم قـبَّ الايـاطل اجرد

عـثر الزمان به فغودر جسمه

نهب القواضب والقنا المتقصّد

ورجع علي إلى الميدان مبتهجاً بالبشارة الصادرة من الإمام الحجّةعليه‌السلام بملاقاة جدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزحف فيهم زحفة العلوي السّابق، وغبَّر في وجوه القوم ولَم يشعروا أهو الأكبر يطرد الجماهير من أعدائه أم أنّ الوصيعليه‌السلام يزأر في الميدان؟ أم أنّ الصواعق تترى في بريق سيفه فأكثر القتلى في أهل الكوفة حتّى أكمل المئتين؟(١) .

فقال مرّة بن منقذ العبدي(٢) : عليَّ آثام العرب إنْ لَم أثكل أباه به(٣) . فطعنه بالرمح في ظهره(٤) وضربه بالسّيف على رأسه ففلق هامته، واعتنق فرسه فاحتمله إلى معسكر الأعداء، وأحاطوا به حتّى قطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً(٥) .

ومـحا الردى يا قاتلَ اللهُ الردى

مـنه هـلالٌّ دجـى وغرة فرقد

يـا نـجعة الحيَّيْن هاشم والندى

وحـمى الذماريْن العلى والسؤدد

كيف ارتقت همم الردى لك صعدة

مـطرورة الـكعبين لـم تـتأوَّد

أفـديـه مـن ريـحانة ريّـانة

جـفَّت بـحرّ طـما وحـرّ مهنّد

بـكر الذبول على نضارة غصنه

إن الـذبول لآفـة الغصن الندي

لله بـدرٌ مـن مـراق نـجيعه

مـزج الـحسام لـجينه بالعسجد

مـاء الـصبا ودم الوريد تجاريا

فـيه ولاهـب قـلبه لـم يخمد

لـم أنـسه مـتعمّما بـشباالظبى

بـين الـكماة بـالاسنَّة مـرتدي

خـضبت ولـكن من دمٍ و فراته

فـاخضر ريـحان العذار الأسود

____________________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣١.

(٢) كامل ابن الأثير ٤ / ٣٠، والأخبار الطوال / ٢٥٤، وإرشاد المفيد، ومثير الأحزان، واللهوف. وفي تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٥: مرّة بن منقذ بن النعمان العبدي ثمّ الليثي. وفي مقاتل العوالم / ٩٥: منقذ بن مرّة.

(٣) الإرشاد للمفيد، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٥٦.

(٤) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٢.

(٥) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣١، ومقتل العوالم / ٩٥.

٢٥٩

ونادى رافعاً صوته: عليك منّي السّلام أبا عبد الله(١) ، هذا جدّي قد سقاني بكأسه شربةً لا أظمأ بعدها، وهو يقول: إنّ لك كأساً مذخورةً(٢) . فأتاه الحسينعليه‌السلام وانكبّ عليه واضعاً خدّه على خدِّه(٣) وهو يقول:«على الدنيا بعدك العفا، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول (٤) ، يعزّ على جدّك و أبيك أنْ تدعوهم فلا يجيبونك، وتستغيث بهم فلا يغيثونك» (٥) . ثمّ أخذ بكفّه من دمه الطاهر ورمى به نحو السّماء فلَم يسقط منه قطرة - وفي هذا جاءت زيارته:«بأبي أنت واُمّي من مذبوح و مقتول من غير جرم، بأبي أنت واُمّي دمك المرتقى به إلى حبيب الله، بأبي أنت واُمّي من مقدّم بين يدَي أبيك يحتسبك و يبكي عليك محترقاً عليك قلبُه، يرفع دمك إلى عنان السّماء لا يرجع منه قطرة، ولا تسكن عليك من أبيك زفرة» (٦) -. وأمر فتيانه أنْ يحملوه إلى الخيمة، فجاؤوا به إلى الفسطاط الذي يقاتلون أمامه، وحرائر بيت الوحي ينظرن إليه محمولاً قد جللته الدماء بمطارف العزّ حمراء وقد وزع جثمانه الضرب والطعن، فاستقبلنه بصدور دامية وشعور منشورة وعولةٍ تصكُّ سمع الملكوت وأمامهنّ عقيلة بني هاشم زينب الكبرى ابنة فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٧) صارخةً نادبةً فألقت بنفسها عليه تضمّ إليها جمام

____________________________

(١) رياض المصائب / ٣٢١.

(٢) مقتل العوالم / ٩٥، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣١.

(٣) اللهوف / ٦٤.

(٤) تأريخ الطبري ٦ / ٢٦٥.

(٥) مقتل العوالم / ٩٥.

(٦) كامل الزيارات / ٢٣٩: هي صحيحة السند، علّمها الصادقعليه‌السلام أبا حمزة الثمالي، وسيأتي فيما يتعلّق بالليلة الحادية عشر نصوص أهل السنّة على احتفاظ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بدم الأصحاب وأهل بيته.

(٧) الإرشاد للمفيد وتاريخ الطبري ٦ / ٢٥٦، ومقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٣١.

(٨) في تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٦، والبداية لابن كثير ٨ / ١٨٥: قال حميد بن مسلم: لمّا قُتل علي الأكبر، رأيت امرأةً خرجت من الفسطاط تصيح: وآ ابن أخاه! فجاءت وانكبّت عليه فأخذ الحسين بيدها وردّها إلى الخيمة. فسألت عنها قيل: هذه زينب ابنة فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437