مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)13%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 244148 / تحميل: 10030
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٨١٦٣-٧٠-٧
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون. و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين أين الذين ساروا بالجيوش، و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المدائن

اين عمّار

و من الخطبة السابقة نفسها: ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص و يشربون الرّنق(١) ؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟

و أين ابن التّيهان؟ و أين ذو الشّهادتين(٢) ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة(٣) ؟

____________________

(١) الرنق: الكدر.

(٢) عمار: عمار بن ياسر، و كان ممّن عذّب هو و أبوه و أخوه و أمه في بدء الدعوة.

و ابن التيهان: ابو الهيثم مالك بن التيهان، من أكابر الصحابة. ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت الانصاري، من الصحابة. و هؤلاء الثلاثة شهدوا صفين و استشهدوا بها.

(٣) أبرد برووسهم: أرسلت رؤوسهم مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفّي منهم.

١٤١

الكبر و التّعصّب و البغي

من خطبة له طويلة تسمّى «القاصعة(١) »: و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة.

فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية.

و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم(٢) و مصارع جنوبهم. و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر(٣) كما تستعيذون به من طوارق الدهر

____________________

(١) قصع فلان فلانا: حقّره. و قد سميت هذه الخطبة «القاصعة» لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي.

(٢) مثاوي، جمع مثوى، بمعنى المنزل. و منازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت. و مصارع الجنوب: مطارحها على التراب.

(٣) لواقح الكبر: محدثاته في النفوس.

١٤٢

و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة: أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: «أنا ناريّ و أنت طينيّ» و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة، فتعصّبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام، و الطاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(١) بسوء الأفعال و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم.

أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث(٢) و الفساد في الأرض: فأمّا الناكثون فقد قاتلت. و أما القاسطون فقد جاهدت(٣) . و أمّا المارقة

____________________

(١) المثلات: العقوبات.

(٢) النكث: نقض العهد.

(٣) القاسطون: الجائرون على الحق.

١٤٣

فقد دوّخت. و أمّا شيطان الرّدهة(١) فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره. و بقيت بقيّة من أهل البغي، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم(٢) إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا(٣) .

و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم: سيماهم سيما الصدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل و منار النهار(٤) لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون(٥) و لا يفسدون: قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل.

الدّنيا تطوى من خلفكم

من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر. و فيه تذكير بأحوال الدنيا و ترغيب للولاة في أن يعدلوا و يرحموا لئلاّ يعذّبوا، و ذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان: و أنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم،

____________________

(١) الردهة: النقرة في الجبل قد يجتمع فيها. و شيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا في ردهة.

(٢) لأديلن منهم: لأمحقننهم ثم أجعل الدولة لغيرهم.

(٣) يتشذّر: يتفرق، أي: لا يفلت مني إلاّ من يتفرّق في أطراف البلاد.

(٤) عمار، جمع عامر، أي: يعمرون الليل بالسهر للفكر و العبادة.

(٥) يغلون. يخونون.

١٤٤

و هو ألزم لكم من ظلّكم الموت معقود بنواصيكم(١) ، و الدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد، ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة

دستور الولاة

من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته. و هي من جلائل رسائله و وصاياه، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام. كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، و في مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور، من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر.

ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

____________________

(١) النواصي، جمع ناصية، و هي: مقدّم شعر الرأس.

١٤٥

فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت(١) . و أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبّة لهم، و اللطف بهم. و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل(٢) ، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ(٣) ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة(٤) .

أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك(٥) ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده. و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة،

____________________

(١) الشح: البخل. يقول: انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق.

(٢) يفرط: يسبق. الزلل: الخطأ.

(٣) يؤتى على أيديهم: تأتي السيئات على أيديهم.

(٤) بجح بالشي‏ء: فرح به. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.

المندوحة: المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص.

(٥) من لك فيه هوى، أي: من تميل اليه ميلا خاصا.

١٤٦

و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة(١) . و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف(٢) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر، من أهل الخاصة(٣) .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر(٤) ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين.

إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة(٥) فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

____________________

(١) يحجف: يذهب. يقول للحاكم: إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة، فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء. أما إذا رضي عليك العامة، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل، فسخط الخاصة مغتفر.

(٢) الإلحاف: الإلحاح.

(٣) يقول: ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة. فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم.

(٤) الوتر: العداوة: يقول: احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم. و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا.

(٥) البطانة: الخاصة.

١٤٧

الظّلمة(١) ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك(٢) و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله(٣) .

و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه(٤) و اعلم أنه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم(٥) و تخفيفه المؤونات عنهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم(٦) ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به

____________________

(١) الأثمة: جمع آثم. الظلمة: جمع ظالم.

(٢) آثرهم: أفضلهم. مرارة الحق. صعوبته. يقول: ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك.

(٣) رضهم: عوّدهم. يطروك: يطنبوا في مدحك. يبجحوك بباطل لم تفعله: يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته.

(٤) أي: أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه، و هو استحقاق الإحسان. و عاقب المسي‏ء بما ألزم نفسه كذلك، و هو استحقاق العقاب.

(٥) ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم. و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم.

(٦) قبلهم، بكسر ففتح: عندهم.

١٤٨

حسن الظنّ برعيّتك، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده(١) .

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء(٢) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك.

ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما: ممّن يبطى‏ء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء، و ينبو على الأقوياء(٣) و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف.

و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرعية، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم(٤) .

ثم اعرف لكلّ امرى‏ء منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرى‏ء إلى

____________________

(١) البلاء: الصنع، حسنا أو سيئا.

(٢) المنافثة: المحادثة.

(٣) ينبو: يشتدّ و يعلو. يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء.

(٤) الحيطة، بكسر الحاء: مصدر «حاط» بمعنى: صان و حفظ، يقول: ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم.

١٤٩

غيره(١) ، و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرى‏ء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(٢) ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم(٣) و لا يتمادى في الزلّة، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه(٤) ، و أوقفهم في الشّبهات(٥) و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاع الحق، ممن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه(٦) و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.

ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة

____________________

(١) لا تنسبنّ صنيع امرى‏ء إلى غيره.

(٢) انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة.

(٣) تمحكه: تغضبه.

(٤) لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة.

(٥) الشبهات، جمع شبهة، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح.

(٦) أي: تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف.

١٥٠

و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة(١) . ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون(٢) من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم(٣) على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية. و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه(٤) عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب به من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التهمة.

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك.

و إن العمران محتمل ما حمّلته، و إنما يؤتى خراب الأرض من

____________________

(١) أي: ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا.

(٢) العيون: الرقباء.

(٣) حدوة: سوق و حثّ.

(٤) اجتمعت عليها أخبار عيونك: اتفقت عليها أخبار رقبائك.

١٥١

إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك(٢) و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم(٣) ، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء. و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته(٤) .

ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله(٥) ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى

____________________

(١) إشراف انفس الولاة على الجمع: تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

(٢) الفراسة: قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر. الاستنامة: الاطمئنان إلى حسن الرأي. أي: لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطى‏ء.

(٣) أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم.

(٤) إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك.

(٥) المتردد بأمواله بين البلدان.

١٥٢

اللّه عليه و سلّم منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع(١) فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف(٢) .

ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول: و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر(٣) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه(٤) لإحكامك المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم(٥) و لا تصعّر خدّك لهم(٦) و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون(٧) و تحقره الرجال، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. و تعهّد

____________________

(١) المبتاع: المشتري.

(٢) قارف: خالط. الحكرة: الاحتكار. نكل به: أوقع به العذاب عقوبة له. يقول: من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها.

(٣) البطر: طغيان النعمة.

(٤) يقول: لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير.

(٥) لا تشخص همك عنهم: لا تصرف همك عنهم.

(٦) صعّر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا.

(٧) تقتحمه العيون: تكره أن تنظر اليه احتقارا.

١٥٣

أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن(١) ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك(٢) من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع(٣) فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن(٤) : «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع» ثم احتمل الخرق منهم و العيّ(٥) و نحّ عنهم الضيق و الأنف(٦) .

ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك. و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك(٧) ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه.

____________________

(١) ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه.

(٢) أي: تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم.

(٣) التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز و عيّ، أو من خوف.

(٤) في مواطن كثيرة.

(٥) الخرق: العنف. العي: العجز عن النطق. أي: لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك.

(٦) الأنف: الاستنكاف و الاستكبار.

(٧) تحرج: تضيق. يقول: إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات، و يحبون المماطلة في قضائها، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت.

١٥٤

و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور. و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل. و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات(١) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك(٢) من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك(٣) ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال(٤) و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة(٥) و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على

____________________

(١) سمات: علامات.

(٢) لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم، أو في عمل تمنحهم إياه؟

(٣) يقول: و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك، فلا حاجة للاحتجاب.

(٤) احسم: اقطع. يقول: اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة.

(٥) الاقطاع: المنحة من الأرض. القطيعة: الممنوح منها. الحامة، كالطّامة: الخاصة و القرابة. الاعتقاد: الامتلاك. العقدة: الضيعة.

١٥٥

غيرهم فيكون مهنأ ذلك(١) لهم دونك، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة(٢) .

و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر(٣) لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك(٤) و رفقا برعيّتك و إعذارا(٥) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك. و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت(٦) و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك

____________________

(١) المهنأ: المنفعة الهنيئة.

(٢) المغبة: العاقبة، يقول: إن إلزام الحق لمن لزمهم، و إن ثقل على الوالي و عليهم، محمود العاقبة يحفظ الدولة.

(٣) الحيف: الظلم. أصحر بهم: ابرز لهم.

(٤) رياضة منك لنفسك: تعويدا لنفسك على العدل.

(٥) الإعذار: تقديم العذر أو إبداؤه.

(٦) أصل معنى الذمة: وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها، ثم أطلقت على معنى العهد. الجنة: الوقاية.

يقول: حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد.

١٥٦

و لا تختلنّ(١) عدوّك. و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل(٢) و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ(٣) .

و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد في ما كان من فعلك(٤) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيّد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس.

و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط فيها عند إمكانها(٥) أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ أمر موقعه.

____________________

(١) خاس بعهده: خانه و نقضه. الختل: الخداع.

(٢) العلل: جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته.

(٣) لحن القول: ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض. يقول: إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك.

(٤) التزيّد: إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار.

(٥) التسقط: يريد به هنا: التهاون.

١٥٧

و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة(١) ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم. إملك حميّة أنفك(٢) و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك(٣) و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة(٤) و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه(٥) .

____________________

(١) احذر أن تخصّ نفسك بشي‏ء تزيد به عن الناس، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة.

(٢) أي: أملك نفسك عند الغضب.

(٣) السورة: الحدة: و الحد: البأس. و الغرب: الحد، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه.

(٤) البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا، و السكون يطفى‏ء من لهبه.

(٥) يريد من العذر الواضح: العدل، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.

١٥٨

حدود الضّريبة

من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، و هي تزخر بحنان الحاكم الأب على أبنائه، و تصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق إذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتحية لهم(١) ، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني اليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟

فإن قال قائل: لا فلا تراجعه. و إن أنعم لك منعم(٢) فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده أو تعسفه أو ترهقه(٣) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه. فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزّعنّها و لا تسوءنّ صاحبها فيها. و اصدع المال صدعين(٤) ثم خيّره:

____________________

(١) أخدجت السحابة: قلّ مطرها.

(٢) أنعم لك منعم، أي: قال لك: نعم.

(٣) تعسفه: تأخذه بشدة. ترهقه: تكلفه ما يصعب عليه.

(٤) أي: اقسمه قسمين.

١٥٩

فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله، فاقبض حقّ اللّه منه. فإن استقالك فأقله(١) ، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّه في ماله.

السفهاء و التجار

من كتاب بعث به الإمام الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها: إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها(٢) ما باليت و لا استوحشت. و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي، و لكني آسى(٣) أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا(٤) و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، و جمعكم و تحريضكم

____________________

(١) أي: فإن ظنّ في نفسه سوء الاختيار و أنّ ما أخذت منه من الزكاة اكرم مما في يده، و طلب الإعفاء من هذه القسمة، فاعفه منها، و اخلط، و أعد القسمة.

(٢) الطلاع: مل‏ء الشي‏ء. يقول: لو كنت واحدا و هم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم. و الضمير يعود هنا على خصومه و محاربيه من وجهاء ذلك الزمان.

(٣) آسى: أحزن.

(٤) دولا، جمع دولة «بالضم»: أي شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق اللّه. الخول: العبيد.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

نفسها الذاهب، وحمى خدرها المنثلم وعماد بيتها المنهدم(١) .

لـهـفي عـلـى عـقائل الـرسالة

لـمّـا رأيـنـه بـتـلك الـحـالة

عـــلا نـحـيبهنَّ والـصّـياح

فـانـدهـش الـعـقول والأرواح

نـاحـت عـلى كـفيلها الـعقائل

والـمـكرمات الـغـرُّ والـفضائل

لـهـفي لـها إذ تـندب الـرسولا

فـكـادت الـجـبال أن تــزولا

لـهفي لـها مـذ فـقدت عـميدها

وهــل يــوازي أحـد فـقيدها

ومـَـن يــوازي شـرفاً وجـاها

مـثـال يـاسـين شـبـيه طـاها

يــا سـاعد الله أبـاه مـذ خـبا

نـيّره  الأكـبر فـي ظلّ الظّبي

رأى الـخليل فـي مـنى الطفوف

ذبـيـحـه ضـريـبة الـسّـيوف

بـكاه مـا يُـرى ومـا لـيس يُرى

مـن ذروة العرش إلى تحت الثرى

بـكاه حـزناً ربُّ أربـاب الـنّهى

ومـَن هـو الـمبدأ وهـو المنتهى

ومـَـن بـكـاه سـيـّد الـبـرايا

فــرزؤه مــن أعـظم الـرزايا

بـكـته عـيـن الـرشـد والـهداية

ومَن هـو المنصوص بالوصاية(٢)

ولسان حال أبيه يقول:

بُـنَي اقـتطعتك من مهجتي

عـلام قطعت جميل الوصال

بُـنَي عراك خسوف الردى

وشأن الخسوف قبيل الكمال

بُـنَي حـرام عـليّ الرقاد

وأنـت عـفير بحرّ الرمال

بُـنَي أبيت سوى القاصرات

وخـلّفت عندي سمر العوالي

بُـنَي بـكتك عيون الرجال

لـيوم الـنّزيل ويوم النّزال

بـكتك بَـنَي صفات الكمال

وغضُّ الشباب وذات الجمال

عـجلت لحوض أبيك النبيِّ

وسـارعت بعد الظّما للزلال

سـيرثيك منّي لسان السّنان

بنظم قلوب عيون الرجال(٣)

____________________________

(١) في تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٦، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣١: خرجت زينب بنت فاطمة صارخة فألقت بنفسها عليه، وردّها الحسين إلى الخيمة. وإذا خرجت العميدة لتلك الفواقد المهدّئة لهن، فهل يتصوّر بقاء واحدة منهنّ في الخيمة؟

(٢) من اُرجوزة آية الله الشيخ محمّد حسين الأصفهانيقدس‌سره .

(٣) من قصيدة للعلامة السيد مهدي البحرانيرحمه‌الله .

٢٦١

عبد الله بن مسلم

وخرج من بعده عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، واُمّه رقية الكبرى بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) ، وهو يقول:

اليوم ألقى مسلماً وهو أبي  وعصبة بادوا على دين النبي

فقتل جماعة بثلاث حملات(٢) . ورماه يزيد بن الرقاد الجهني(٣) ، فاتقاه بيده فسمرها إلى جبهته، فما استطاع أنْ يزيلها عن جبهته(٤) فقال: اللهمّ انّهم استقلونا واستذلونا فاقتلهم كما قتلونا. وبينا هو على هذا إذ حمل عليه رجل برمحه فطعنه في قلبه ومات(٥) . فجاء إليه يزيد بن الرقاد وأخرج سهمه من جبهته وبقي النّصل فيها وهو ميّت(٦) .

حملة آل أبي طالب

ولما قُتل عبد الله بن مسلم، حمل آل أبي طالب حملة واحدة، فصاح بهم الحسينعليه‌السلام :«صبراً على الموت يا بني عمومتي، والله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم» (٧) ، فوقع فيهم عون بن عبد الله بن جعفر الطيّار، واُمّه العقيلة زينب، وأخوه محمّد، واُمّه الخوصاء، وعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب(٨) ، وأخوه جعفر

____________________________

(١) نسب قريش لمصعب الزبيري / ٤٥. قال: وهي اُمّ أخويه علي ومحمد.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٠.

(٣) في أنساب الأشراف ٥ / ٢٣٨: الجنبي بالنّون بعد الجيم.

(٤) المقاتل لأبي الفرج / ٢٧، طبعة ايران.

(٥) الإرشاد، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٥٦: إنّ عمرو بن صبيح الصدائي رماه بسهم، ورماه بآخر ففلق قلبه. وفي أنساب الأشراف ٥ / ٢٣٩: الرامي يزيد بن الرقاد الجنبي.

(٦) تاريخ الطبري ٦ / ١٧٩.

(٧) هذه الجملة هي الظاهرة مما ذكره ابن جرير في التاريخ ٦ / ٢٥٦: و (النداء بالصبر) نصّ عليه الخوارزمي في المقتل ٢ / ٧٨، والسيد في اللهوف / ٦٤.

(٨) في المحبر لابن حبيب النسابة / ٥٧: كانت خديجة بنت عليعليه‌السلام عند عبد الرحمن بن عقيل. وفي معارف ابن قتيبة / ٨٩، عند ذكر أخبار عليعليه‌السلام : ولدت له سعيداً. وفي المحبر لابن حبيب / ٥٧: خلف على خديجة هذه أبو السنابل عبد الله بن عامر بن كريز.

٢٦٢

ابن عقيل ومحمد بن مسلم بن عقيل(١) .

وأصابت الحسين المثنّى ابن الإمام الحسن السّبطعليه‌السلام ثمانية عشر جراحة وقُطعت يده اليمنى ولَم يستشهد.

وخرج أبو بكر ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام (٢) واسمه محمد(٣) قتله زحر بن بدر النخعي(٤) .

وخرج عبد الله بن عقيل فما زال يضرب فيهم حتّى اُثخن بالجراح وسقط إلى الأرض، فجاء إليه عثمان بن خالد التميمي فقتله.

مـا الـعرب إلاّ سـماء لـلعلاء وما

أبـناء عـمرو الـعلى إلاّ دراريـها

فـلـلنبوّة تــاج فــي مـفارقها

ولـلإمـامة عـقـد فـي تـراقيها

حـليان لـيس سـواها تـحتلي بهما

شـتّـان عـاطل أجـياد وحـاليها

مـن شـيبة الحمد شبّان مشت مرحا

لـنصرة الـدِّين لا كـبراً ولا تـيها

بـسّامة الـثغر والأبـطال عـابسة

تـفتّر مـنها الـثنايا عـن لـئاليها

جـرت بـطوفان حرب في بواخرها

ومـــا بـواخـرها إلا مـذاكـيها

لَـو لَـم يـكن همّها نيل السّعادة ما

أبقت على الأرض شخصاً من أعاديها

لـيست تـبالي ولـلأسياف صلصلة

مـطّـبّق سـعّـة الـغبراء داويـها

ولـلرماح اصـطكاك فـي أسـنّتها

ولـلسهام اخـتلاف فـي مـراميها

ولـلرؤوس انـتثار عـن كـواهلها

ولـلصدور انـتظام فـي مجانيها(٥)

____________________________

(١) في سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٢١٧: قُتل مع الحسين عبد الله وعبد الرحمن ابنا مسلم بن عقيل ابن أبي طالب.

(٢) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم / ١١٨، وصفوة الصفوة لابن الجوزي ١ / ١١٩، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٩٨: إنّ أبا بكر اُمّه ليلى بنت مسعود قُتل مع الحسينعليه‌السلام .

(٣) الإرشاد وأعلام الورى عند ذكر أولاد أمير المؤمنينعليه‌السلام . وفي مقتل الخوارزمي ٢ / ٢٨ اسمه عبد الله. وفي صفوة الصفوة ١ / ١١٩: محمّد الأصغر اُمّه اُمّ ولد قُتل مع الحسينعليه‌السلام .

(٤) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢١. وفي مقتل الخوارزمي: زحر بن قيس النخعي. وفي مقاتل أبي الفرج: وجِد في ساقية ولم يعلم قاتله.

(٥) للحجة الشيخ عبد الحسين صادق العاملي قدس الله سره وستأتي في القاسم تتمتها.

٢٦٣

القاسم وأخوه

وخرج أبو بكر بن الحسن بن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهو عبد الله الأكبر، واُمّه اُمّ ولد(١) يقال لها رملة(٢) ، فقاتل حتّى قُتل(٣) .

وخرج من بعده أخوه لاُمّه وأبيه القاسم(٤) ، وهو غلام لَم يبلغ الحلم، فلمّا نظر إليه الحسينعليه‌السلام اعتنقه وبكى(٥) ثمّ أذن له، فبرز كأنّ وجهه شقّة قمر(٦) وبيده السّيف وعليه قميص وإزار وفي رجلَيه نعلان، فمشى يضرب بسيفه فانقطع شسع نعله اليسرى(٧) - وأنف ابن النّبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحتفي في الميدان - فوقف يشدّ شسع نعله(٨) وهو لا يزن الحرب إلاّ بمثله غير

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٩، ومقاتل أبي الفرج / ٣٤.

(٢) في الحدائق الوردية: اُمّه واُمّ القاسم رملة، وفي تذكرة الخواص / ١٠٣، عن طبقات ابن سعد: نفيلة اُمّ القاسم وأبي بكر وعبد الله. وفي مقاتل أبي الفرج، اُمّ ولد لا تُعرف. وفي نسب قريش / ٥٠، لمصعب الزبيري: القاسم وأبو بكر قتلا بالطفّ ولا عقب لها.

(٣) في إعلام الورى الطبرسي / ١٢٧، والمجدي في النسب لأبي الحسن العمري، وإسعاف الراغبين على هامش نور الأبصار، ٢٠٢: إنّه تزوّج من سكينة بنت الحسينعليه‌السلام . وفي المترادفات للمدائني / ٦٤ في المجموعة الاُولى نوادر المخطوطات: كان عبد الله بن الحسن أبا عذرها. وفي تاج العروس ٤ / ٣٨٧: يقال: لله أبا عذرها، إذا افترعها وافتضها.

(٤) كلّ ما يُذكر في عرس القاسم غير صحيح؛ لعدم بلوغه سنّ الزواج، ولم يرد به نصّ صحيح من المؤرّخين. والشيخ فخر الدين الطريحي عظيم القدر جليل في العلم، فلا يمكن لأحد أنْ يتصوّر في حقّه هذه الخرافة، فثبوتها في كتابه المنتخب، مدسوسة في الكتاب، وسيحاكِم الطريحي واضعها في كتابه. وما أدري من أين أثبت عرسه فضيلة السيّد علي محمّد اللكنهوي الملقّب بـ (تاج العلماء) فكتب رسالة في عرسه سمّاها (القاسميّة)، كما جاء في الذريعة للطهراني ١٧ / ٤، رقم ١٩.

(٥) مقتل الخوارزمي ٢ / ٢٧. وذكر الخوارزمي: إنّ الحسينعليه‌السلام أبى أنْ يأذن له، فما زال الغلام يقبّل يدَيه ورجلَيه حتّى أذن له. أقول: هذا الخبر ينافيه، ما تقدّم من إخبار الحسينعليه‌السلام ليلة عاشوراء أصحابه وأهل بيته بقتلهم جميعاً حتّى القاسم والرضيع، وهذا الحديث كحديث عرس القاسم لا صحّة له.

(٦) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٦، ومقاتل أبي الفرج، والإرشاد، وإعلام الورى / ١٤٦، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٢٧.

(٧) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٦، ومقاتل أبي الفرج، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٢٧، وفي الإرشاد وإعلام الورى: شسع أحدهما.

(٨) ذخيرة الدارين / ١٥٢، وإبصار العين / ٣٧: أقول: لا غرو من ابن المصطفى إذ أنف أنْ يحتفي في الميدان، فهذا أبو الفرج يحدّث في الأغاني ١١ / ١٤٤: أنّ جعفر بن علية بن ربيعة بن عبد يغوث، من بني الحارث بن كعب، لمّا جيء به؛ ليقاد مه، فبينا هو يمشي إذ انقطع شسع نعله، فوقف يصلحه. فقال له رجل: ألا يشغلك ما أنت فيه عن هذا؟ فقال جعفر:

أشدّ قبال نعلي أنْ يراني

عدوّي للحوادث مستكينا

٢٦٤

مكترث بالجمع ولا مبال بالاُلوف.

أهـوى يـشدّ حـذاءه

والحرب مشرعة لأجله

لـيسومها مـا إن غلت

هـيجاؤها بشراك نعله

مـتـقلداً صـمـصامه

مـتفّيئاً بـظلال نصله

لا تـعـجبنّ لـفـعله

فـالفرع مرتهن بأصله

الـسُّحْبُ يـخلفها الحيا

والليث منظور بشبله(١)

وبينا هو على هذا إذ شدّ عليه عمرو بن سعد بن نُفيل الأزدي، فقال له حميد بن مسلم: وما تريد من هذا الغلام؟ يكفيك هؤلاء الذين تراهم احتوشوه. فقال: والله لأشدنّ عليه. فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف، فوقع الغلام لوجهه فقال: يا عمّاه! فأتاه الحسين كالليث الغضبان، فضرب عمراً بالسّيف فاتّقاه بالسّاعد فأطنّها(٢) من المرفق، فصاح صيحةً عظيمةً سمعها العسكر، فحملت خيل ابن سعد لتستنقذه، فاستقبلته بصدرها ووطأته بحوافرها فمات. وانجلت الغبرة وإذا الحسينعليه‌السلام قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه. والحسينعليه‌السلام يقول:«بُعداً لقوم قتلوك! خصمهم بوم القيامة جدّك» ، ثمّ قال:«عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثمّ لا ينفعك، صوتٌ والله كثر واتره وقلَّ ناصره». ثمّ احتمله وكان صدره على صدر الحسينعليه‌السلام ورجلاه يخطّان في الأرض، فألقاه مع علي الأكبر وقتلى حوله من أهل بيته(٣) ، ورفع طرفه إلى السّماء وقال:«اللهمّ أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً، صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً» (٤) .

ناهيك بالقاسم بن المجتبى حسن

مزاول الحرب لم يعبأ بما فيها

كـأنَّ بـيض مـواضيها تكلِّمه

غـيدٌ تـغازله مـنها غوانيها

كـأنّ سمر عواليها كؤوس طلا

تـزفّها راح سـاقيها لـحاسيها

____________________________

(١) للعلامة السيّد مير علي أبو طبيخرحمه‌الله .

(٢) في الصحاح ضربه فأطنّ ساقه أي: قطعها، يراد بذلك صوت القطع.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٧، والبداية لابن كثير ٨ / ١٨٦، والإرشاد.

(٤) مقتل الخوارزمي ٢ / ٢٨.

٢٦٥

لَو كان يحذر بأساً أو يخاف وغيً

ما انصاع يصلح نعلاً وهو صاليها

أمـامه مـن أعـاديه رمال ثرى

مـن فـوق أسـفلها ينهال عاليها

مـا عممت بارقات البيض هامته

فـاحمرّ بـالأبيض الهنديّ هاميها

إلا غـداة رأتـه وهـو في سنةٍ

عـن الكفاح غفول النفس ساهيها

وتـلك غـفوة ليث غير مكترث

مـا نـاله السّيف إلاّ وهو غافيها

فـخرّ يدعو، فلبّى السّبط دعوته

فـكان مـا كـان منه عند داعيها

فـقلّ به الأشهب البازي بين قطا

قـد لـفَّ اولـها فـتكاً بـتاليها

جـنى ولكن رؤوس الشوس يانعة

ومـا سـوى سـيفه البتار جانيها

حـتّى إذا غـصّ بالبتّار أرحبها

وفـاض مـن علق البتّار واديها

تـقشّعت ظـلمات الخيل ناكصة

فـرسانها عنه وانجابت غواشيها

وإذ بـه حـاضن في صدره قمراً

يـزين طـلعته الـغرّاء دامـيها

وافـى به حاملاً نحو المخيم والآ

مـاق فـي وجـهه حمر مجانيها

تخطّ رجلاه في لوح الثرى صحفاً

الـدمع مـنقطها والـقلب تـاليها

آه عـلى ذلـك البدر المنير محا

بـالخسف غـرّته الغراء ماحيها

إخوة العبّاسعليه‌السلام

ولما رأى العبّاسعليه‌السلام كثرة القتلى من أهله قال لإخوته من اُمّه وأبيه، عبد الله وعثمان وجعفر: تقدّموا يا بني اُمّي حتّى أراكم نصحتم لله ولرسوله. والتفت إلى عبد الله وكان أكبر من عثمان وجعفر وقال: تقدّم يا أخي حتّى أراك قتيلاً وأحتسبك(١) . فقاتلوا بين يدَي أبي الفضل حتّى قُتلوا بأجمعهم.

نـعما قـرابين الألـه

مـجزّرين على الفرات

خـير الهداية أن يكون

الـهدي من زمر الهداة

من بعد ما قضوا الصلاة

قضوا فداءاً للصلاة(٢)

____________________________

(١) مقاتل أبي الفرج / ٣٢ - ٣٣.

(٢) العلامة ثقة الإسلام الشيخ محمّد طاهر آل الفقيه الشيخ راضيقدس‌سره .

٢٦٦

شهادة العبّاسعليه‌السلام

ولَم يستطع العبّاس صبراً على البقاء بعد أنْ فُني صحبُه وأهلُ بيته، ويرى حُجّة الوقت مكثوراً قد انقطع عنه المدد، وملأ مسامعه عويل النّساء وصراخ الأطفال من العطش، فطلب من أخيه الرخصة، ولمّا كان العبّاسعليه‌السلام أنفس الذخائر عند السّبط الشهيدعليه‌السلام ؛ لأنّ الأعداء تحذر صولته وترهب إقدامه، والحرم مطمئنّة بوجوده مهما تنظر اللواء مرفوعاً، فلَم تسمح نفس أبي الضيم القدسيّة بمفارقته فقال له:«يا أخي أنت صاحب لوائي» (١) . قال العبّاس: قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين واُريد أنْ آخذ ثأري منهم، فأمره الحسينعليه‌السلام أنْ يطلب الماء للأطفال، فذهب العبّاس إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار، فلَم ينفع. فنادى بصوت عالٍ: يا عمر بن سعد، هذا الحسين ابن بنت رسول الله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى، فاسقوهم من الماء قد أحرق الظما قلوبهم، وهو مع ذلك يقول: دعوني أذهب إلى الروم أو الهند واُخلي لكم الحجاز والعراق. فأثّر كلامه في نفوس القوم حتّى بكى بعضهم، ولكنّ الشمر صاح بأعلى صوته: يابن أبي تراب، لو كان وجه الأرض كلّه ماء وهو تحت أيدينا، لَما سقيناكم منه قطرة، إلاّ أنْ تدخلوا في بيعة يزيد.

فرجع إلى أخيه يخبره، فسمع الأطفال يتصارخون من العطش(٢) فلَم تتطامن نفسه على هذا الحال، وثارت به الحميّة الهاشميّة:

يـوم أبـو الفضل تدعو الظاميات به

والـماء تـحت شـبا الـهنديّة الخذم

والخيل تصطكُّ والزغف الدلاص على

فـرسانها قـد غـدت ناراً على علم

وأقـبل الـليث لا يـلويه خوف ردى

بــادي الـبشاشة كـالمدعوّ لـلنعم

يـبدو فـيغدو صـميم الجمع منقسماً

نـصفَين ما بين مطروح ومنهزم(٣)

____________________________

(١) البحار ١٠ / ٢٥١، ومقاتل العوالم / ٩٤.

(٢) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١١٨.

(٣) من قصيدة للحاج هاشم الكعبي، ذُكرت في أعيان الشيعة بترجمته.

٢٦٧

ثمّ إنّه ركب جواده و أخذ القربة، فأحاط به أربعة آلاف ورموه بالنّبال فلَم ترعه كثرتهم، وأخذ يطرد اُولئك الجماهير وحده ولواء الحمد يرفّ على رأسه، ولَم يشعر القوم أهو العبّاس يجدل الأبطال أم أنّ الوصي يزأر في الميدان؟! فلم تثبت له الرجال، ونزل إلى الفرات مطمئنّاً غير مبال بذلك الجمع.

ودمـدم لـيث الـغاب يعطو بسالة

إلى الـماء لم يكبر عليه ازدحامها

وخـاض بـها بـحرا يرفُّ عبابه

ضـبا ويـد الأقـدار جالت سهامها

ألـمت بـه سـوداء يحْطف برقها

الـبصائر من رعب و يعلو قتامها

جـلاها بـمشحوذ الـغرارين أبلج

يــدبُّ بـه لـلدارعين حـمامها

فـحلّأها عـن جـانب النهر عنوة

وولّـت هـواديها يـصلُّ لـجامها

ثنى رجله عن صهوة المهر وامتطى

قـرى الـنهر واحتلَّ السقاء همامها

وهـبّ إلى نـحو الخيام مشمّراً

لـريِّ عطاشى قد طواها اوامها(١)

ولما اغترف من الماء ليشرب، تذكّر عطش الحسين ومَن معه، فرمى الماء(٢) وقال:

يا نفس من بعد الحسين هوني

وبـعده لا كـنت أن تكوني

هـذا الـحسين وارد المنون

وتـشـربين بـارد الـمعين

تالله ما هذا فعال ديني(٣)

ثمّ ملأ القربة وركب جواده وتوجّه نحو المخيّم، فقُطع عليه الطريق، وجعل يضرب حتّى أكثر القتل فيهم وكشفهم عن الطريق وهو يقول:

لا أرهب الموت إذا الموت زقا(٤)

حتّى اُوارى في المصاليت لقى

____________________________

(١) للشيخ حسن مصبح الحلّي، ذُكرت في كتابنا (قمر بني هاشم).

(٢) المنتخب للطريحي / ٣١١، الطبعة الثالثة، المجلس التاسع، الليلة العاشرة. وعند المجلسي في البحار ١٠ / ٢٠١، وعنه في مقتل العوالم / ٩٥، وعنه في تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١١٩، وفي رياض المصائب / ٣١٣.

(٣) رياض المصائب / ٣١٣ للسيّد محمّد مهدي الموسوي.

(٤) زقا: بمعنى صاح، وكانت العرب تزعم أنّ للموت طائراً يصيح ويسمونه (الهامة)، ويقولون إذا قُتل الإنسان ولَم يؤخذ بثأره، زقّت هامته حتّى يثأر، قال الشاعر:

فإنّ تلك بهراة تزقو   فقد ازقبت بالمردين هاما

وسمعت العالِم الفاضل الشيخ كاظم سبتيرحمه‌الله يقول: أتاني بعض العلماء الثقات وقال: أنا رسول العبّاسعليه‌السلام إليك، رأيته في المنام يعتب عليك ويقول: لَم يذكر مصيبتي شيخ كاظم سبتي، فقلتُ له: يا سيّدي ما زلت أسمعه يذكر مصائبك، فقالعليه‌السلام : قل له يذكر هذه المصيبة وهي: (إنّ الفارس إذا سقط من فرسه يتلقّى الأرض بيدَيه فإذا كانت السّهام في صدره ويداه مقطوعتان، بماذا يتلقى الأرض؟).

٢٦٨

نفسي لسبط المصطفى الطهر وقى

إني أنا العبّاس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشرَّ يوم الملتقى

فكمِن له زيد بن الرقاد الجهني من وراء نخلة وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي، فضربه على يمينه فبرأها فقالعليه‌السلام :

والله إنْ قـطعتُمُ يـميني

إني أُحامي ابداً عن ديني

وعـن إمام صادق اليقين

نجل النبيِّ الطاهر الأمين

فلَم يعبأ بيمينه بعد أنْ كان همّه إيصال الماء إلى أطفال الحسينعليه‌السلام وعياله، ولكن حكيم بن الطفيل كمِن له من وراء نخلة فلمّا مرّ به ضربه على شماله فقطعها(١) وتكاثروا عليه، وأتته السّهام كالمطر، فأصاب القربة سهم واُريق ماؤها، وسهم أصاب صدره(٢) ، وضربه رجل بالعمود على رأسه ففلق هامته.

وهوى بجنب العلقميِّ فليته

للشاربين به يداف العلقم

وسقط على الأرض ينادي: عليك منّي السّلام أبا عبد الله. فأتاه الحسينعليه‌السلام (٣) وليتني علمت بماذا أتاه أبحياة مستطارة منه بهذا الفادح الجلل أم بجاذب من الاُخوّة إلى مصرع صنوه المحبوب؟!

نعم حصل الحسينعليه‌السلام عنده وهو يبصر قربان القداسة فوق الصعيد قد غشيته الدماء وجللته النّبال، فلا يمين تبطش ولا منطق يرتجز ولا صولة ترهب ولا عين تبصر، ومرتكز الدماغ على الأرض مبدد. أصحيح أنّ الحسينعليه‌السلام ينظر إلى هذه الفجائع ومعه حياة ينهض بها؟ لَم يبقَ الحسينعليه‌السلام بعد أبي الفضل إلاّ هيكلاً شاخصاً معرّى عن لوازم الحياة، وقد أعرب

____________________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ١ / ٢٢١.

(٢) رياض المصائب / ٣١٥.

(٣) المنتخب للطريح / ٣١٢، المطبعة الحيدرية سنة ٣٦٩، ورياض المصائب / ٣١٥. وفي مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٢: إن حكيم بن الطفيل ضربه بعمود من حديد على رأسه.

٢٦٩

سلام الله عليه عن هذا الحال بقوله:«الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي» (١) .

وبـان الانكسار في جبينه

فـاندكّت الجبال من حنينه

وكيف لا وهو جمال بهجته

وفـي محياه سرور مهجته

كـافل أهله وساقي صبيته

وحامل اللوا بعالي همته(٢)

وتركه في مكانه؛ لسرّ مكنون أظهرته الأيام، وهو أن يدفن في موضعه منحازاً عن الشهداء؛ ليكون له مشهد يقصد بالحوائج والزيارات، وبقعة يزدلف إليها النّاس، وتتزلف إلى المولى سبحانه تحت قبّته التي ضاهت السّماء رفعة وسناء، فتظهر هنالك الكرامات الباهرة وتعرف الاُمّة مكانته السّامية ومنزلته عند الله تعالى، فتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكّد والزيارات المتواصلة، ويكونعليه‌السلام حلقة الوصل فيما بينهم وبين الله تعالى. فشاء حجّة الوقت أبو عبد اللهعليه‌السلام كما شاء المهَيمن سبحانه أنْ تكون منزلة أبي الفضل الظاهريّة شبيهة بالمنزلة المعنويّة الاُخرويّة، فكان كما شاءا وأحبّا.

ورجع الحسينعليه‌السلام إلى المخيّم منكسراً حزيناً باكياً يكفكف دموعه بكُمّه، وقد تدافعت الرجال على مخيّمه فنادى:«أما من مغيث يغيثنا؟ أما من مجير يجيرنا؟ أما من طالب حقّ ينصرنا؟ أما من خائف من النّار فيذبّ عنّا؟» (٣) فأتته سكينة وسألته عن عمّها، فأخبرها بقتله. وسمعته زينب فصاحت: وآ أخاه! وآ عبّاساه! وآ ضيعتنا بعدك! وبكين النّسوة وبكى الحسين معهنّ وقال:«وآ ضيعتنا بعدك!»

نـادى وقـد مـلأ البوادي صيحة

صـمُّ الـصخور لـهولها تـتألم

أاُخـيُّ مـن يـحمي بنات محمد

إذ صـرْنَ يسترحمْنَ مَن لا يرحم

مـا خلت بعدك أن تشلَّ سواعدي

وتـكفَّ بـاصرتي وظهري يقصم

لـسواك يـلطم بـالأكفِّ وهـذه

بـيض الظبى لك في جبيني تلطم

ما بين مصرعك الفظيع ومصرعي

إلاّ كـمـا أدعـوك قـبل وتـنعم

هـذا حـسامك مَن يذلُّ به العدى

ولــواك هـذا مَـن بـه يـتقدّم

____________________________

(١) البحار ١٠ / ٢٥١، وتظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٢٠.

(٢) من اُرجوزة آية الله الحجّة الشيخ محمّد حسين الاصفهانيقدس‌سره .

(٣) المنتخب / ٣١٢.

٢٧٠

هوّنت يابن أبي مصارع فـتيتي

والـجراح يسكنه الذي هو أألم

فـأكبَّ مـنحنياً عـليه ودمعه

صـبغ الـبسيط كأنَّما هو عندم

قـد رام يـلثمه فلم يرَ موضعاً

لَـم يدمه عضُّ السلاح فيلثم(١)

سيّد الشهداءعليه‌السلام في الميدان

ولما قُتل العبّاس التفت الحسينعليه‌السلام ، فلم يرَ أحداً ينصره، ونظر إلى أهله وصحبه مجزّرين كالأضاحي، وهو إذ ذاك يسمع عويل الأيامى وصراخ الأطفال صاح بأعلى صوته:«هل من ذابّ عن حرم رسول الله؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟» فارتفعت أصوات النّساء بالبكاء(٢) .

ونهض السّجادعليه‌السلام يتوكّأ على عصا ويجرّ سيفه؛ لأنّه مريض لا يستطيع الحركة. فصاح الحسين باُمّ كلثوم:«احبسيه؛ لئلاّ تخلو الأرض من نسل آل محمّد». فأرجعته إلى فراشه(٣) .

ثمّ إنّهعليه‌السلام أمر عياله بالسّكوت وودّعهم، وكان عليه جبّة خز دكناء(٤) وعمامة مورَّدة أرخى لها ذوابتين، والتحف ببردة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقلّد بسيفه(٥) ، وطلب ثوباً لا يرغب فيه أحد يضعه تحت ثيابه؛ لئلاّ يجرّد منه فإنّه مقتول مسلوب، فأتوه بتبان(٦) فلَم يرغب فيه؛ لأنّه من لباس الذلّة(٧) ، وأخذ ثوباً خلقاً

____________________________

(١) للسيّد جعفر الحلّي، طبعت بتمامها في مثير الأحزان للعلامة الشيخ شريف الجواهري.

(٢) اللهوف / ٦٥.

(٣) الخصائص الحسينيّة للشيخ جعفر الشوشتريقدس‌سره / ١٢٩، الاستغاثة الرابعة.... وممَّن نصّ على مرضه يوم كربلاء، مصعب الزبيري في نسب قريش / ٥٨، واليعقوبي في تاريخه ٢ / ٢١٧. وقال الخوارزمي في مقتل الحسين ٢ / ٣٢: خرج علي بن الحسينعليه‌السلام وهو أصغر من أخيه القتيل وكان مريضاً لا يقدر على حمل السّيف، الخ.

(٤) روى الكليني في الكافي على هامش مرآة العقول ٤ / ١٠٥ عن الباقرعليه‌السلام والآلوسي في روح المعاني ٨ / ١١١ عند قوله تعالى:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ ) ، وابن حجر في مجمع الزوائد ٩ / ١٩٢، والخوارزمي في مقتل الحسين ٢ / ٣٥: كان على الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء جبة خز دكناء.

(٥) المنتخب / ٣١٥، المطبعة الحيدرية سنة ١٣٦٩.

(٦) في الصحاح، (بالضمّ والتشديد)، هي سراويل صغيرة مقدار شبر ستر العورة المغلظة وفي شفاء الغليل / ٥٢: هو من الدخيل والأصوب فيه الضم.

(٧) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٢، والبحار ١٠ / ٣٠٥.

٢٧١

وخرّقه وجعله تحت ثيابه(١) ، ودعا بسراويل حبرة، ففزرها ولبسها؛ لئلاّ يسلبها(٢) .

الرضيع

ودعا بولده الرضيع يودّعه، فأتته زينب بابنه عبد الله(٣) واُمّه الرباب فأجلسه في حجره يقبّله(٤) ويقول:«بُعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدّك المصطفى خصمهم» (٥) . ثمّ أتى به نحو القوم يطلب له الماء، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه، فتلقّى الحسينعليه‌السلام الدم بكفّه، ورمى به نحو السّماء. قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام :«فلَم تسقط منه قطرة» (٦) . وفيه يقول حُجّة آل محمّد (عجّل الله فرجه):«السّلام على عبد الله الرضيع، المرمي الصريع المتشحط دماً، والمصعد بدمه إلى السّماء، المذبوح بالسّهم في حجر أبيه، لعن الله راميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه» (٧) .

أعـزز عليَّ وأنت تحمل طفلـ

ـك الظامي وحرّ أوامه(٨) لا يبرد

قد بحَّ من لفح الهجيرة صوته

بـمرنة مـنها يـذوب الجلمد

وقصدت نحو القوم تطلب منهم

ورداً ولـكن أين منك المورد

____________________________

(١) مجمع الزوائد لابن حجر الهيثمي ٩ / ١٩٣، والبحار ١٠ / ٢٠٥.

(٢) اللهوف / ٦٩، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٥٩.

(٣) سمّاه ابن شهر آشوب في المناقب ٢ / ٢٢٢: علي الأصغر.

وذكر السيد ابن طاووس في الإقبال زيارة للحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء: وفيها صلّى الله عليك وعليهم وعلى ولدك علي الأصغر الذي فُجعت به. والذي نصّ على أنّه عبد الله واُمّه الرباب، الشيخ المفيد في الاختصاص / ٣، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين / ٣٥، ومصعب الزبيري في نسب قريش / ٥٩، وفي سرّ السلسلة / ٣٠: المقتول بالسّهم في حجر أبيه عبد الله. ولّم يذكر اُمّه.

(٤) اللهوف / ٦٥ وفي تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٨ طبعة النجف: أن الحسين لَواقف إذ أتي بمولود له وُلِد السّاعة أذّن في اُذنه وجعل يحنكه، إذ أتاه سهم وقع في حلق الصبي فذبحه، فنزع الحسينعليه‌السلام السّهم من حلقه، وجعل يلطّخه بدمه ويقول: «والله لأنت أكرم على الله من النّاقة، ولَمحمد أكرم على الله من صالح». ثمّ أتى فوضعه مع ولده وبني أخيه.

(٥) البحار ١٠ / ٢٣، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٢٢.

(٦) في مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٢: لَم يرجع منه شيء وذكر ابن نما في مثير الأحزان، ٣٦، والسيد في اللهوف / ٦٦: رواية الباقرعليه‌السلام .

وذكر ابن كثير في البداية ٨/ ١٨٦ والقرماني في أخبار الدول / ١٠٨، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٢: رمى به نحو السّماء. قال ابن كثير: والذي رماه بالسّهم رجل من بني أسد يقال له (ابن موقد النّار).

(٧) زيارة النّاحية المقدسة. والأبيات للخطيب الفاضل سيّد محمّد جواد شبر.

(٨) الأوام: أن يضج العطشان؛ وذلك عند شدّة العطش. تاج العروس ١٦ / ٣٨.

٢٧٢

والـقـوس طـوّق نـحره فـكأنه

خـيط الـهلال يـحلُّ فـيه الفرقد

وعـلى الـربية فـي الخيام نوائح

تـومي لـطفلك بـالشجى وتـردد

وربَّ رضـيـع أرضـعته قـسيهم

مـن الـنّبل ثـديا درُّه الثر فاطمه

فـلهفي لـه مـذ طوّق السّهم جيده

كـمـا زيـنته قـبل ذاك تـمائمه

هـفا لـعناق الـسّبط مبتسهم اللمى

وداعـا وهـل غـير العناق يلائمه

ولـهفي عـلى اُمّ الرضيع وقد دجى

عـليها الدجى والدوح نادت حمائمه

تـسلل فـي الـظلماء ترتاد طفلها

وقـد نـجمت بين الضحايا علائمه

فـمذ لاح سـهم النّحر ودّت لو أنّها

تـشاطره سـهم الـردى وتـساهمه

أقـلّـته بـالكفين تـرشف ثـغره

وتـلثم نـحراً قـبلها الـّسهم لاثمه

وأدنـتـه لـلنهدين ولـهى فـتارة

تـناغيه ألـطافا واُخـرى تـكالمه

بُنيّ أفق من سكرة الموت وارتضع

بـثدييك عـلّ الـقلب يـهدأ هائمه

بُـنيّ فـقد درًا وقـد كـضك الظما

فـعلّه يـطفي مـن غليلك ضارمه

بُـنيّ لـقد كـنت الأنيس لَو حشتي

وسلواي إذ يسطو من الهمّ غاشمه(١)

ثمّ قال الحسينعليه‌السلام :«هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله تعالى (٢) ،اللهمّ لا يكون أهون عليك من فصيل، إلهي إنْ كنت حبستَ عنّا النّصر فاجعله لِما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين (٣) واجعل ما حلّ بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل (٤) اللهمّ أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه النّاس برسولك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٥) ، وسمععليه‌السلام قائلاً يقول: دَعه يا حسين، فإنّ له مرضعاً في الجنّة(٦) . ثمّ نزلعليه‌السلام عن فرسه وحفر له بجفن سيفه ودفنه مرمّلاً بدمه وصلّى عليه(٧) ، ويقال وضعه مع قتلى أهل بيته(٨) .

____________________________

(١) للعلامة الشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر.

(٢) اللهوف / ٦٦.

(٣) مثير الأحزان لابن نما / ٢٦، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٢.

(٤) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٢٢.

(٥) المنتخب / ٣١٣.

(٦) تذكرة الخواص / ١٤٤، والقمقام لميرزا فرهاد / ٣٨٥.

وفي الإصابة بترجمة إبراهيم بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتهذيب الأسماء للنووي ١ / ١٠٢ وشرح المواهب اللدنيّة للزرقاني ٣ / ٢١٤، باب أولاده: لمّا توفّي إبراهيم ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال النّبي:«إنّ له مرضعاً في الجنّة».

(٧) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٢، والاحتجاج للطبرسي / ١٦٣ طبعة النجف.

(٨) الإرشاد ومثير الأحزان / ٣٦.

٢٧٣

لـهـفي عـلى أبـيه إذ رآه

غـارت لـشدّة الـظما عيناه

ولَـم يـجد شربة ماء للصبي

فـساقه الـتقدير نـحو الطلب

وهـو على الأبي أعظم الكرب

فكيف بالحرمان من بعد الطلب

من دمه الزاكي رمي نحو السما

فـما أجـلّ لـطفه وأعـظما

لَـو كـان لَـم يـرم به إليها

لـساخت الأرض بـمَن عليها

فاحمرّت السّماء من فيض دمه

ويـل مـن الله لـهم من نقمه

وكـيف حـال اُمّه حيث ترى

رضـيعها جرى عليه ما جرى

غـادرهـا كـالدرّة الـبيضاء

وعــاد كـالياقوتة الـحمراء

حـنّت عـليه حـنّة الفصيل

بـكته بـالإشراق والأصـيل

لـهفي لـها إذ تندب الرضيعا

نـدباً يـحاكي قـلبها الوجيعا

تـقول يـا بـني يـا مؤملي

يا منتهى قصدي وأقصى أملي

جـفّ الرضاع حين عزّ الماء

أصـبحت لا مـاء ولا كـلاء

فـساقك الظما إلى ريّ الردى

كـأنّما ريّـك فـي سهم العدى

يـا مـاء عـيني وحياة قلبي

مـن لـبلائي وعـظيم كربي

رجوت أن تكون لي نِعم الخلف

وسلوة لي عن مصابي بالسّلف

مـا خِـلت أنّ الـسّهم للفطام

حتّى أرتني جهرة أيامي(١)

وتقدّم الحسينعليه‌السلام نحو القوم مصلتاً سيفه، آيساً من الحياة، ودعا النّاس إلى البراز، فلم يزل يقتل كلّ مَن برز إليه حتّى قَتل جمعاً كثيراً(٢) ثمّ حمل على الميمنة وهو يقول:

الموت أولى من ركوب العار

والعار أولى من دخول النّار(٣)

وحمل على الميسرة وهو يقول:

أنا الحـسين بـن علي

آلـيتُ أنْ لا أنـثـني

____________________________

(١) من اُرجوزة آية الله الحجّة الشيخ محمّد حسين الاصفهانيقدس‌سره .

(٢) مقتل العوالم / ٩٧، ومثير الأحزان لابن نما / ٣٧، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٣.

(٣) في البيان والتبيين للجاحظ ٣ / ١٧١ الطبعة الثانية، تحت عنوان (كلام في الأدب)، بعد أن ذكر هذا البيت اتبعه بقوله:

والله من هذا

وهـذا جـار

٢٧٤

أحمي عيالات أبي

أمضي على دين النّبي

قال عبد الله بن عمّار بن يغوث: ما رأيت مكثوراً قط، قد قُتل ولده وأهل بيته وصحبه، أربط جأشاً منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً، ولقد كان الرجال تنكشف بين يدَيه إذا شدّ فيها ولَم يثبت له أحد(١) .

فصاح عمر بن سعد بالجمع: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، احملوا عليه من كلّ جانب. فأتته أربعة آلاف نبلة(٢) ، وحال الرجال بينه وبين رحله، فصاح بهم:«يا شيعة آل أبي سفيان، إنْ لَم يكن لكم دين وكنتم ولا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عرباً، كما تزعمون» . فناداه شمر: ما تقول يابن فاطمة؟ قال:«أنا الذي اُقاتلكم، والنّساء ليس عليهنّ جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمتُ حيّاً».

قال اقصدوني بنفسي و اتركوا حرمي

قد حان حيني و قد لاحت لوائحه

فقال الشمر: لك ذلك.

وقصده القوم واشتد القتال وقد اشتدّ به العطش(٣) ، فحمل من نحو الفرات على عمرو بن الحَجّاج، وكان في أربعة آلاف، فكشفهم عن الماء وأقحم الفرس الماء فلمّا همَّ الفرس ليشرب قال الحسينعليه‌السلام :«أنت عطشان وأنا عطشان، فلا أشرب حتّى تشرب». فرفع الفرس رأسه كأنّه فهم الكلام، ولمّا مدّ الحسينعليه‌السلام يده ليشرب ناداه رجل: أتلتذّ بالماء وقد هُتكت حرمك؟! فرمى الماء ولَم يشرب، وقصد الخيمة(٤) .

____________________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٣.

(٢) الطبري ٦ / ٢٥٩. ونسبه الخوارزمي في مقتل الحسين ٢ / ٣٨ إلى بعض من شهد الوقعة.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٣.

(٤) اللهوف / ٦٧.

(٥) البحار١٠ / ٢٠٤، ومقتل العوالم / ٩٨، ونفس المهموم / ١٨٨، والخصائص الحسينيّة / ٤٦، باب خصائص الحيوانات. أقول: إنّي لا أضمن صحّة هذا الحديث المتضمّن؛ لامتناع الفرس من الشرب، ولرمي الحسينعليه‌السلام الماء من يده لمجرّد قول الأعداء، وهو العالم بأنّه مكيدة، لكن خصائص هذا اليوم المختصّة بسيّد الشهداء ومَن معه على أن يقضوا عطاشى خارجة عمّا نعرفه، ولا سبيل لنا إلاّ التسليم بعد أنْ كان الإمامعليه‌السلام حكيماً في أفعاله وأقواله لا يعمل إلاّ بما تلقّاه من جدّه الذي لا ينطق عن الهوى، وكلّ قضايا الطفّ محدودة الظرف والمكان؛ لأسرار ومصالح لا يعلمها إلاّ ربّ العالمين تعالى شأنه. وهناك شيء آخر لاحظه سيّد الشهداء وكانت العرب تتفانى دونه، وهو حماية الحرم بأنفس الذخائر، وأبو عبد الله سيّد العرب وابن سيّدها فلا تفوته هذه الخصلة التي يستهلك دونها النّفس والنّفيس. ولمّا ناداه الرجل هتكت الحرم لَم يشرب الماء؛ إعلاماً للجمع بما يحمله من الغيرة على حرمه، ولَو لَم يبال بالنداء لتيقّن النّاس فقدانه الحميّة العربيّة ولا يقدم عليه أبي الضيم حتّى لو علم بكذب النّداء، وفعل سيّد الإباة من عدم شرب الماء ولَو في آن يسير هو غاية ما يمدح به الرجل.

٢٧٥

يروي الثرى بدمائهم وحشاه من

ظـمأ تـطاير شـعلة قطعاتها

لَـو قـلبت من فوق غلّة قلبه

صمّ الصفا ذابت عليه صفاتها

تـبكي السّماء له دماً أفلا بكت

مــاء لـغلّة قـلبه قـطراتها

وآ حـرّ قلبي يابن بنت محمّد

لك والعدى بك أنجحت طلباتها

منعتك من نيل الفرات فلا هنا

لـلنّاس بعدك نِيلها وفراتها(١)

الوداع الثاني

ثمّ إنّهعليه‌السلام ودّع عياله ثانياً، وأمرهم بالصبر ولبس الأزر وقال:«استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذِّب عدوّكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النّعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم» (٢) .

حقاً لو قيل بأنّ هذا الموقف من أعظم ما لا قاه سيّد الشهداء في هذا اليوم(٣) ؛ فإنّ عقائل النبوّة تشاهد عماد أخبيتها وسياج صونها وحمى عزّها ومعقد شرفها مؤذناً بفراق لا رجوع بعده، فلا يدرين بمَن يعتصمن من عادية الأعداء، وبمَن

____________________________

(١) من قصيدة لآية الله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاءرحمه‌الله .

(٢) جلا العيون للمجلسي بالفارسيّة، وهنا شيء لَم يتنبّه له أحد وهي إرادة بيان أمرَين؛ عدم القتل، وعدم السّلب. فإنّ تعليل لبس الأزر بالحماية والمحافظة مع أنّ أحدهما كافٍ في التعريف بأنّ اليد العادية لا تمدّ إليهم، يكون الإتيان بهما مع بعد غرض بلوغه أعلى مراتب البلاغة دليل على أنّ المقصود من أحدهما بيان عدم السّلب، ومن الثاني عدم القتل.

(٣) هذا هو الظاهر من وصيّة الصدّيقة الزهراءعليها‌السلام للمجلسي أعلى الله مقامه بقراءته مصيبة ولدها عند الوداع. كما ذكره النوري في دار السّلام المجلّد الأول.

٢٧٦

العزاء بعد فقده. فلا غرو إذا اجتمعن عليه وأحطن به وتعلّقن بأطرافه، بين صبيّ يئنّ، ووالهة أذهلها المصاب، وطفلة تطلب الأمن، واُخرى تنشد الماء. إذاً فما حال سيّد الغيارى ومثال الحنان وهو ينظر بعلمه الواسع إلى ودائع الرسالة وحرائر بيت العصمة، وهنّ لا يعرفن إلاّ سجف العزّ وحجب الجلال، كيف يتراكضن في هذه البيداء المقفرة بعولة مشجية، وهتاف يفطّر الصخر الأصمّ وزفرات متصاعدة من أفئدة حرّى، فإنْ فررن فعن السّلب، وإنْ تباعدن فمن الضرب. ولا محام لهن غير الإمام الذي أنهكته العلّة

فلو أنّ أيّوباً رأى بعض ما رأى

لقال بلى هذا العظيمة بلواه

أمّا عقيلة بني هاشم زينب الكبرى فإنّها تبصر هذا وذاك فتجد عروة الدِّين الوثقى عرضة للانفصام، وحبل النبوّة آيلاً إلى الانصرام، ومنار الشريعة إلى الخمود، وشجرة الإمامة إلى الذبول.

تنعى ليوث البأس من فتيانها

وغـيوثها إنْ عمّت البأساء

تبكيهُمُ بدم فقل بالمهجة الحرا

تـسـيل الـعبرة الـحمراء

حـنّت ولكنَّ الحنين بكا وقد

ناحت ولكنّ نوحها ايماء(١)

والتفت الحسينعليه‌السلام إلى ابنته سكينة، التي يصفها للحسن المثنّى بأنّ الاستغراق مع الله غالب عليها، فرآها منحازة عن النّساء باكية نادبة، فوقف عليها مصبّراً ومسلياً، ولسان حاله يقول:

هـذا الـوادع عزيزتي والملتقى

يـوم الـقيامة عند حوض الكوثر

فـدعي الـبكاء ولـلأسار تهيّأي

واستشعري الصبر الجميل وبادري

وإذا رأيـتيني عـلى وجه الثّرى

دامي الوريد مبضّعاً فتصبّري(٢)

فقال عمر بن سعد: ويحكم اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحرمه، والله إنْ فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم. فحملوا عليه يرمونه بالسّهام حتّى تخالفت السّهام بين أطناب المخيّم وشكّ سهم بعض اُزر النّساء، فدهشنَ وارعبنَ وصحن ودخلن الخيمة، ينظرن إلى الحسينعليه‌السلام كيف يصنع، فحمل عليهم

____________________________

(١) من قصيدة لكاشف الغطاءقدس‌سره .

(٢) للخطيب الشيخ مسلم ابن الخطيب الشيخ محمّد علي الجابري النجفيرحمهما‌الله تعالى.

٢٧٧

كالليث الغضبان فلا يلحق أحداً إلاّ بعجه بسيفه فقتله، والسّهام تأخذه من كلّ ناحية وهو يتّقيها بصدره ونحره(١) .

ورجع إلى مركزه يُكثر من قول لا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم(٢) . وطلب في هذه الحال ماءاً فقال الشمر: لا تذوقه حتّى ترد النّار. وناداه رجل: ياحسين ألا ترى الفرات كأنّه بطون الحيّات؟ فلا تشرب منه حتّى تموت عطشاً فقال الحسينعليه‌السلام :«اللهمّ أمِته عطشاً» . فكان ذلك الرجل يطلب الماء فيؤتى به فيشرب حتّى يخرج من فيه، وما زال كذلك إلى ان مات عطشاً(٣) .

ورماه أبو الحتوف الجعفي بسهم في جبهته فنزعه وسالت الدماء على وجه فقال:«اللهمّ إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللهمّ أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً». وصاح بصوت عال:«يا اُمّة السّوء، بئسما خلفتم محمّداً في عترته، أما إنّكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي. وأيمَ الله، إنّي لأَرجو أنْ يكرمني الله بالشهادة، ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون». فقال الحصين: وبماذا ينتقم لك منّا يابن فاطمة؟ قالعليه‌السلام :«يلقي بأسكم بينكم، ويسفك دماءكم، ثمّ يصبّ عليكم العذاب صبّا» (٤) .

ولمّا ضعف عن القتال، وقف يستريح، فرماه رجل بحجر على جبهته، فسال الدم على وجهه، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن عينيه، رماه آخر بسهم محدّد له ثلاث شعب وقع على قلبه فقالعليه‌السلام :«بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله» ورفع رأسه إلى السّماء وقال:«إلهي إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيّ غيري».

____________________________

(١) مثير الأحزان للعلامة الشيخ شريف آل صاحب الجواهرقدس‌سره .

(٢) اللهوف / ٦٧.

(٣) مقاتل أبي الفرج / ٤٧ طبعة ايران، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٨. وحكاه في البحار ١٠ / ٢٥٤ طبعة كمبني، عن أبي الفرج. وفي البحار ١٠ / ٢٠٣ نقلاً عن المفيد، والسيّد ابن طاووس، وابن نما: اشتد العطش بالحسينعليه‌السلام فقصد الفرات، فحالوا بينه وبين الماء.

(٤) مقتل العوالم / ٩٨، ونفس المهموم / ١٨٩، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٤.

٢٧٨

ثمّ أخرج السّهم من قفاه وانبعث الدم كالميزاب(١) ، فوضع يده تحت الجرح فلمّا امتلأت رمى به نحو السّماء وقال:«هوّن عليَّ ما نزل بي، أنّه بعين الله». فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض.(٢) . ثمّ وضعها ثانياً فلمّا امتلأت، لطخ به رأسه ووجهه ولحيته وقال:«هكذا أكون حتّى ألقى الله وجدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا مخضّب بدمي، واقول: يا جدّي قتلني فلان وفلان» (٣) .

فـهوى بـضاحية الـهجير ضـريبة

تـحت الـسّيوف لـحدّها الـمسنون

وقـفت لـه الأفـلاك حـين هـويه

وتـبـدّلـت حـركـاتها بـسـكون

وبـها نـعاه الـروح يـهتف منشداً

عـن قـلب والـهة بـصوت حزين

أضـمير غـيب الله كـيف لك القنا

نـفـذت وراء حـجـابه الـمخزون

وتـصكّ جـبهتك الـسّيوف وإنّـها

لَــو لا يـمينك لَـم تـكن لـيمين

ما كنت حين صرعت مضعوف القوى

فـاقول لـم تـرفد بـنصر مـعين

أمــا وشـيـبتك الـخضيبة إنّـها

لأبـــرّ كــل إلـيـة ويـمـين

لـو كـنت تـستام الحياة لا رخصت

مـنـها لـك الأقـدار كـلّ ثـمين

أو شـئت مـحو عداك حتّى لا يُرَى

مـنهم عـلى الـغبراء شخص قطين

لاخــذت آفــاق الـبلاد عـليهمُ

وشـحنت قـطَّريها بـجيش مـنون

حـتى بـها لـم تـبق نـافخ ضرمة

مـنـهم بـكـلّ مـفاوز وحـصون

لـكن دعـتك لـبذل نـفسك عصبة

حــان انـتشار ضـلالها الـمدفون

فـرأيـت أنَّ لـقـاء ربـك بـاذلا

لـلنفس أفـضل مـن بـقاء ضنين

فـصبرت نـفسك حيث تلتهب الظّبى

ضـرباً يـذيب فـؤاد كـل رزيـن

والـحرب تـطحن شـوسها برحاتها

والـرعب يـلهم حـلم كـل رصين

والـسّمر كـالاضلاع فـوقك تنحني

والـبيض تـنطبق انـطباق جـفون

وقـضيت نـحبك بـين اظهر معشر

حُـمِلوا بـأخبث اظـهر وبطون(٤)

وأعياه نزف الدم فجلس على الأرض ينوء برقبته، فانتهى إليه في هذا الحال مالك بن النّسر فشتمه، ثمّ ضربه بالسّيف على رأسه، وكان عليه برنس فامتلأ

____________________________

(١) نفس المهموم / ١٨٩، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٤، واللهوف / ٦٨.

(٢) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٨، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٤.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٤، واللهوف / ٧٠.

(٤) ديوان السيد حيدر الحلّيرحمه‌الله .

٢٧٩

البرنس دما فقال الحسينعليه‌السلام :«لا أكلت بيمينك ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين» . ثمّ ألقى البرنس واعتمّ على القلنسوة(١) .

محمّد بن أبي سعيد

قال هاني بن ثبيت الحضرمي: إنّي لَواقف عاشر عشرة لمّا صُرع الحسين، إذ نظرت إلى غلام من آل الحسين عليه إزار وقميص وفي اُذنيه درّتان، وبيده عمود من تلك الأبنية، وهو مذعور يتلفّت يميناً وشمالاً، فأقبل رجل يركض حتّى إذا دنا منه مال عن فرسه وعلاه بالسّيف فقتله، فلمّا عيب عليه، كنّى عن نفسه(٢) . وذلك الغلام هو محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب(٣) وكانت اُمّه تنظر إليه وهي مدهوشة(٤) .

عبد الله بن الحسن

ثمّ إنّهم لبثوا هُنيئة وعادوا إلى الحسينعليه‌السلام وأحاطوا به، وهو جالس على الأرض لا يستطيع النّهوض فنظر عبد الله بن الحسن السّبطعليه‌السلام - وله إحدى عشرة سنة - إلى عمّه وقد أحدق به القوم، فأقبل يشتدّ نحو عمّه، وأرادت زينب حبسه فأفلت منها وجاء إلى عمّه، وأهوى بحر بن كعب بالسّيف ليضرب الحسينعليه‌السلام فصاح الغلام: يابن الخبيثة أتضرب عمّي؟ فضربه واتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد، فإذا هي معلّقة فصاح الغلام: يا عمّاه! ووقع في حجر الحسينعليه‌السلام فضمّه إليه وقال:«يابن أخي اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإنّ الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين» . ورفع يدَيه قائلاً:«اللهم ان متعتهم إلى حين ففرقهم

____________________________

(١) كامل ابن الأثير ٤ / ٣١، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٥.

(٢) الطبري ٦ / ٢٥٨، والبداية لابن كثير ٨ / ١٨٦.

(٣) مقاتل أبي الفرج / ٣٧، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٥٨، والبداية لابن كثير ٨ / ١٨٦، ومن الغريب ما في المحبر لابن حبيب / ٥٦، ونسب قريش لمصعب الزبيري / ٤٦: انّ فاطمة بنت علي بن أبي طالبعليه‌السلام كانت عند محمّد بن أبي سعيد بن عقيل، وزاد في نسب قريش أنّها ولدت له حميدة (بالتصغير).

(٤) الخصائص الحسينيّة / ١٢٩.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437