مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)13%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 244142 / تحميل: 10029
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٨١٦٣-٧٠-٧
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

المرتشي في الحكم

و من كلام له: أيتها النفوس المختلفة و القلوب المتشتّتة، الشاهدة أبدانهم و الغائبة عنهم عقولهم أظأركم على الحق(١) و أنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد هيهات أن أطلع بكم سرار العدل(٢) أو أقيم اعوجاج الحق.

اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان و لا التماس شي‏ء من فضول الحطام، و لكن لنرد المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك.

و قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي البخيل فتكون في أموالهم نهمته، و لا الجاهل فيضلّهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه، و لا الحائف للدول(٣) فيتّخذ قوما دون قوم، و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق.

____________________

(١) أظأركم: أعطفكم.

(٢) سرار، في الأصل: آخر ليلة من الشهر، و المراد هنا: الظلمة. أي: أن اطلع بكم شارفا يكشف عمّا عرض على العدل من الظلمة.

(٣) الحائف: الجائر الظالم. و الدول، جمع دولة بالضم و هي المال. و قد سمي المال «دولة» لأنه يتداول، أي ينتقل من يد ليد.

١٦١

مع المظلوم

من كلام له: إني أريدكم للّه و أنتم تريدوني لأنفسكم أيها الناس، أعينوني على أنفسكم، و ايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، و لأقودنّ الظالم بخزامته(١) حتى أورده منهل الحق و إن كان كارها

المال للنّاس

من كلام رائع كلّم به عبد اللّه بن زمعة، و هو من أنصاره، و ذلك انه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا. فقال: إن هذا المال ليس لي و لا لك و جناة أيديهم(٢) لا تكون لغير أفواههم

____________________

(١) الخزامة: حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشدّ فيها الزمام و يسهل قياده.

(٢) أي: جناة أيدي العامة.

١٦٢

امانة

من كتاب له الى الأشعث بن قيس عامله على اذربيجان: و إنّ عملك ليس لك بطعمة(١) و لكنه في عنقك أمانة.

ليس لك أن تفتات في رعية(٢) ، و في يديك مال من مال اللّه عزّ و جلّ، و أنت من خزّانه حتى تسلّمه إليّ، و لعلّي أن لا أكون شرّ ولاتك(٣) و السلام.

لاضربنّك بسيفي

من كتاب له إلى بعض عمّاله و قد اختطف ما قدر عليه من أموال الأمة و هرب إلى الحجاز: فلمّا أمكنتك الشدّة في خيانة الأمّة أسرعت الكرّة و عاجلت الوثبة و اختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم و أيتامهم اختطاف

____________________

(١) عملك: ما وليت لتعمله في شؤون الأمة. طعمة: المأكلة و المكسب.

(٢) تفتات: تستبد.

(٣) يرجو أن لا يكون شر المتسلطين عليه. و لا يحقّ الرجاء إلا إذا استقام.

١٦٣

الذئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة(١) فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثّم من أخذه(٢) .

كيف تسيغ شرابا و طعاما و أنت تعلم أنك تأكل حراما و تشرب حراما؟

فاتّق اللّه و اردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني اللّه منك لأعذرنّ الى اللّه فيك(٣) و لأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلاّ دخل النار و اللّه لو أن الحسن و الحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة(٤) و لا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحقّ منهما و أزيل الباطل عن مظلمتهما

الوالى و الرّشوة

من كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، و هو عامله على البصرة، و قد بلغه أنه دعي الى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها: أمّا بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة

____________________

(١) الأزلّ: السريع الجري. الكسيرة: المكسورة.

(٢) التأثم: التحرّز من الإثم، و هو الذنب.

(٣) اي: لأعاقبنّك عقابا يكون لي عذرا عند اللّه من فعلتك هذه.

(٤) الهوادة: الصلح، أو الاختصاص بالميل.

١٦٤

دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان و تنقل إليك الجفان(١) ، و ما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ(٢) و غنيّهم مدعوّ.

ألا و إنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(٣) ، و من طعمه بقرصيه ألا و إنكم لا تقدرون على ذلك، و لكن أعينوني بورع و اجتهاد، و عفّة و سداد. فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا، و لا ادّخرت من غنائمها وفرا، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا، و لا حزت من أرضها شبرا. و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل و لباب هذا القمح و نسائج هذا القزّ، و لكن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص(٤) و لا عهد له بالشّبع أ و أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى و أكباد حرّى(٥) ؟ أ و أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدهر؟ و كأني بقائلكم يقول: «إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران و منازلة الشجعان؟» أ لا و إنّ الشجرة البرّية أصلب عودا، و الروائع الخضرة أرقّ جلودا، و النباتات البدوية أقوى وقودا و أبطأ خمودا و اللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها

____________________

(١) تستطاب: يطلب لك طيّبها. الألوان: أصناف الطعام. الجفان، جمع جفنة، و هي: القصعة.

(٢) عائلهم: فقيرهم و محتاجهم. مجفو: مطرود من الجفاء.

(٣) الطمر: الثوب الخلق.

(٤) القرص: الرغيف.

(٥) غرثى: جائعة. حرّى: عطشى.

١٦٥

الوالى و الهوى

من كتاب له إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان، و هي إيالة من إيالات فارس: أما بعد، فإنّ الوالي إذا اختلف هواه(١) منعه ذلك كثيرا عن العدل.

فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء، فإنه ليس في الجور عوض من العدل، فاجتنب ما تنكر أمثاله(٢) .

و اعلم أنه لن يغنيك عن الحقّ شي‏ء أبدا، و من الحقّ عليك حفظ نفسك، و الاحتساب على الرعية بجهدك(٣) .

اخفض جناحك

من كتاب له الى بعض عماله: و اخفض للرعية جناحك و ابسط لهم وجهك و ألن لهم جانبك،

____________________

(١) اختلف الهوى: جرى مع أغراض النفس حيث تذهب. و وحدة الهوى: توجّهه الى أمر واحد، و هو إجراء العدالة.

(٢) اي: ما لا تستحسن مثله لو صدر من غيرك.

(٣) الاحتساب على الرعية: مراقبة أعمالها و تقويم ما اعوجّ منها و إصلاح ما فسد.

١٦٦

و آس بينهم في اللحظة و النظرة و الإشارة و التحية(١) ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك(٢) و لا ييأس الضعفاء من عدلك

علّم الجاهل

من كتاب له إلى قسم بن العباس، و هو عامله على مكة: علّم الجاهل و ذاكر العالم، و لا يكن لك إلى الناس سفير إلاّ لسانك و لا حاجب إلاّ وجهك. و لا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها(٣) .

و انظر الى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك(٤) من ذوي العيال و المجاعة مصيبا به مواضع الفاقة، و ما فضل عن ذلك فاحمله إليها لنقسمه في من قبلنا.

و مر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا...

____________________

(١) آس بينهم: شارك و سوّ بينهم.

(٢) الحيف: الظلم.

(٣) ذيدت: دفعت و منعت. الورد: الورود. يقول: إذا منعت الحاجة أول ورودها لا تحمد على قضائها فيما بعد، لأن حسنة القضاء لا تذكر في جانب سيئة المنع.

(٤) قبلك: عندك.

١٦٧

الوالى الخائن

من كتاب له إلى المنذر بن الجارود العبدي، و قد خان في بعض ما ولاّه من أعماله: و لئن كان ما بلغني عنك حقّا لجمل أهلك و شسع نعلك خير منك(١) . و من كان بصفتك فليس بأهل أن يسدّ به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر، أو يشرك في أمانة أو يؤمن على خيانة(٢) فأقبل إليّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء اللّه.

الاخلاق الكريمة

من كتاب له الى الحارث الهمذاني: و احذر كلّ عمل يعمل به في السرّ و يستحى منه في العلانية. و احذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره أو اعتذر منه. و لا تحدّث الناس

____________________

(١) الجمل يضرب به المثل في الذلة و الجهل. الشسع: سير بين الإصبع الوسطي و التي تليها في النعل، كأنه زمام

(٢) أي: على دفع خيانة.

ملاحظة: قال الشريف الرضي: و المنذر بن الجارود هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام: إنه لنظّار في عطفيه، مختال في برديه

١٦٨

بكلّ ما سمعت به فكفى بذلك كذبا. و لا تردّ على الناس كلّ ما حدّثوك به فكفى بذلك جهلا. و تجاوز عند المقدرة و احلم عند الغضب و اصفح مع الدولة(١) .

و إياك و مصاحبة الفسّاق فإن الشرّ بالشرّ ملحق. و احذر الغضب فإنه جند عظيم من جنود ابليس

اهل الجشع و اهل الفقر

من خطبة له في أهل الجشع و أهل الفاقة: و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، و الشرّ فيه إلاّ إقبالا، و الشيطان في هلاك الناس إلاّ طمعا.

إضرب بطرفك حيث شئت من الناس: هل تبصر إلاّ فقيرا يكابد فقرا، أو غنيّا بدّل نعمة اللّه كفرا؟ أين أخياركم و صلحاؤكم، و أحراركم و سمحاؤكم؟ و أين المتورّعون في مكاسبهم؟ و المتنزّهون في مذاهبهم؟ أ ليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا؟ و هل خلقتم إلاّ في حثالة(٢) لا تلتقي بذمّهم الشفتان استصغارا لقدرهم و ذهابا عن ذكرهم. لعن اللّه الآمرين بالمعروف التاركين له، و الناهين عن المنكر العاملين به

____________________

(١) أي عند ما تكون لك السلطة.

(٢) الحثالة: الردي‏ء من كل شي‏ء. و المراد هنا أدنياء الناس و صغار النفوس منهم.

١٦٩

القاضى الجاهل

من كلام له في صفة من يتصدّى للحكم بين الناس و هو ليس أهلا لذلك.

حتى إذا ارتوى من آجن و اكتنز من غير طائل(١) جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره»(٢) . فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشوا رثّا من رأيه، ثم قطع به(٣) ، فهو من لبس الشّبهات في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ. و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب(٤) .

جاهل خبّاط جهالات(٥) ، يذرو الروايات كما تذرو الريح الهشيم(٦) .

____________________

(١) الماء الآجن: الفاسد المتغير الطعم و اللون. شبّه الإمام مجهولات القاضي التي يظنها معلومات، بالماء الآجن. اكتنز: جمع ما عده كنزا. غير طائل: دون و خسيس.

(٢) التخليص: التبيين. التبس على غيره: اشتبه عليه.

(٣) المبهمات: المشكلات. الحشو: الزائد الذي لا فائدة فيه. الرث: الخلق البالي.

(٤) الجاهل بالشي‏ء: من ليس على بيّنة منه، فإذا أثبته عرضت له الشبهة في نفيه، و إذا نفاه عرضت له الشبهة في إثباته. فهو في ضعف حكمه في مثل نسج العنكبوت ضعفا، و لا بصيرة له في وجوه الخطأ و الإصابة. و قد جاء الإمام في تمثيل حاله بأبلغ ما يكون من التعبير عنه، كما يقول ابن أبي الحديد.

(٥) خبّاط: صيغة مبالغة من خبط الليل، إذا سار فيه على غير هدى. و قد شبه الامام الجهالات بالظلمات التي يخبط فيها السائر.

(٦) الهشيم: ما يبس من النبت و تفتّت. تذرو الريح الهشيم: تطيره فتفرقه و تمزقه.

١٧٠

لا يحسب العلم في شي‏ء مما أنكره، و لا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره، و إن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه(١) تصرخ من جور قضائه الدماء و تعجّ منه المواريث(٢) . الى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالا و يموتون ضلاّلا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته، و لا سلعة أنفق بيعا و لا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه(٣) ، و لا عندهم أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر.

يحكم برايه

من كلام له في بعض القضاة أيضا: ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه. ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه. ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا...(٤) و إلهم واحد، و نبيّهم واحد، و كتابهم واحد

____________________

(١) اكتتم به: كتمه و ستره.

(٢) تعجّ: تصرخ. و صراخ الدماء و عج المواريث تمثيل لحدة الظلم و شدة الجور.

(٣) اذا تلي حق تلاوته: إذا أخذ على وجهه و فهم على حقيقته. و الكتاب هو القرآن الكريم.

(٤) استقضاهم: ولاّهم القضاء. يصوّب آراءهم جميعا: يفتي بأن آراءهم جميعا صائبة...

١٧١

و عالمهم منافق

من كلامه في وصف أبناء زمانه: و اعلموا أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل، و اللسان عن الصدق كليل، و اللازم للحق ذليل، أهله معتكفون على العصيان، فتاهم عارم(١) و شائبهم آثم و عالمهم منافق، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم و لا يعول غنيّهم فقيرهم

يعملون في الشّبهات

من خطبة له: و ما كلّ ذي قلب بلبيب، و لا كلّ ذي سمع بسميع، و لا كلّ ناظر ببصير، فيا عجبي، و ما لي لا أعجب، من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها يعملون في الشّبهات و يسيرون في الشهوات.

المعروف عندهم ما عرفوا، و المنكر عندهم ما أنكروا(٢) .

مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، و تعويلهم في المهمّات على آرائهم،

____________________

(١) شرس: سي الخلق.

(٢) أي: يستحسنون ما بدا لهم استحسانه، و يستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع الى دليل بيّن أو شريعة واضحة.

١٧٢

كأنّ كلّ امرى‏ء منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات و أسباب محكمات(١) .

زجر النّفس

من خطبة له: عباد اللّه، زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، و حاسبوها قبل أن تحاسبوا، و تنفّسوا قبل ضيق الخناق و انقادوا قبل عنف السياق(٢) و اعلموا أنه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ و زاجر لم يكن له من غيرها زاجر و لا واعظ

ايّاك

من كلام له لابنه الحسن: يا بنيّ، إياك و مصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك. و إياك و مصادقة البخيل فإنه يبعد عنك أحوج(٣) ما تكون إليه. و إياك و مصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه(٤) . و إياك و مصادقة الكذاب فإنه كالسراب: يقرّب عليك البعيد و يبعد عليك القريب

____________________

(١) يثق كل منهم بخواطر نفسه كأنه أخذ منها بالعروة الوثقى، على ما بها من جهل و نقص.

(٢) اي: انقادوا الى ما يطلب منكم بالحثّ الرفيق قبل أن تساقوا اليه بالعيف الشديد.

(٣) أحوج: حال من الكاف في «عنك».

(٤) التافه: القليل.

١٧٣

الرّضا و السّخط

من كلام له: أيها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإن الناس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير(١) و جوعها طويل أيها الناس، إنما يجمع الناس الرّضا و السخط.

أيها الناس، من سلك الطريق الواضح ورد الماء، و من خالف وقع في التيه.

النّفاق و الظّلم

من خطبة له: ثم إياكم و تهزيع الأخلاق و تصريفها(٢) . و إن لسان المؤمن من وراء قلبه، و إن قلب المنافق من وراء لسانه(٣) ، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم

____________________

(١) يقصد: الدنيا.

(٢) تهزيع الشي‏ء: تكسيره. و الصادق اذا كذب فقد انكسر صدقه، و الكريم إذا لؤم فقد انثلم كرمه. و تصريف الأخلاق: تقليبها بين حال و حال:

(٣) اي ان لسان المؤمن تابع لاعتقاده لا يقول إلا ما يعتقد. و المنافق يقول ما ينال به غايته الخبيثة، فإذا قال شيئا اليوم ينقضه غدا، فيكون قلبه تابعا للسانه.

١٧٤

بكلام تدبّره في نفسه: فإن كان خيرا أبداه، و إن كان شرا واراه(١) .

و إنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه لا يدري ما ذا له و ما ذا عليه و أمّا الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا. و إن جماعة في ما تكرهون من الحق خير من فرقة في ما تحبّون من الباطل(٢) طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، فكان من نفسه في شغل و الناس منه في راحة

العشيرة

من خطبة له: أيها الناس، إنه لا يستغني الرجل، و إن كان ذا مال، عن عشيرته و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم، و هم أعظم الناس حيطة من ورائه و ألمّهم لشعثه(٣) و أعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به.

و من يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة و تقبض منهم عنه أيد كثيرة

____________________

(١) واره: أخفاه.

(٢) أي: من يحافظ على نظام الالفة و الاجتماع، و إن ثقل عليه أداء بعض حقوق الجماعة و شقّ عليه ما تكلّفه به من الحق، فذلك هو الجدير بالسعادة، دون من يسعى للشقاق و هدم نظام الجماعة، و إن نال بذلك حقا باطلا و شهوة وقتية، فقد يكون في حظه الوقتي شقاؤه الأبدي، ذلك لأنه متى كانت الفرقة أصبح كل واحد عرضه لشرور سواه، فولّت الراحة و فسدت حال المعيشة.

(٣) الحيطة: الرعاية. و الشعث: التفرق و الانتشار.

١٧٥

طبائع الإنسان

من كلام له في طبائع الانسان: و له(١) موادّ الحكمة و أضداد من خلافها: فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع. و إن هاج به الطمع أهلكه الحرص. و إن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ. و إن أسعده الرضا نسي التحفّظ(٢) . و إن ناله الخوف شغله الحذر.

و إن اتّسع له الأمن استلبته الغرّة(٣) و إن أفاد مالا أبطره الغنى(٤) .

و إن أصابته مصيبة فضحه الجزع. و إن عضّته الفاقة شغله البلاء. و إن جهده الجوع قعد به الضعف. و إن إفرط به الشّبع كظّته البطنة(٥) .

فكلّ تقصير به مضرّ، و كلّ إفراط له مفسد

الزّمان و اهله

و من بديع قوله: إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله ثم أساء رجل الظنّ برجل لم تظهر

____________________

(١) أي للقلب.

(٢) التحفظ: التوقّي و التحرّز من المضرّات.

(٣) الغرة: الغفلة. سلبته: ذهبت به عن رشده.

(٤) أفاد: استفاد.

(٦) كظته: كربته و آلمته. البطنة: امتلاء البطن حتى يضيق النفس.

١٧٦

منه خزية(١) فقد ظلم و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله فأحسن رجل الظنّ برجل فقد غرّر(٢)

كم من صائم

و من كلامه في معنى الصوم و الصلاة: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع و الظمأ. و كم من قائم(٣) ليس له من قيامه إلاّ السهر و العناء. حبّذا نوم الأكياس و إفطارهم

اصناف النّاس

من خطبة له في سوء طباع الناس بزمانه: أيها الناس، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود و زمن كنود(٤) يعدّ فيه المحسن مسيئا، و يزداد الظالم عتوّا، لا ننتفع بما علمنا و لا نسأل عمّا جهلنا و لا نتخوّف قارعة حتى تحلّ بنا(٥) . فالناس على أربعة أصناف:

____________________

(١) الخزية: البلية تصيب الانسان فتذله و تفضحة

(٢) غرّر: أوقع بنفسه في الغرر، أي: الخطر.

(٣) أي: قائم للصلاة.

(٤) العنود: الجائر. الكنود: الكفور.

(٥) القارعة: الخطب.

١٧٧

منهم من لا يمنعهم الفساد إلاّ مهانة نفسه و كلالة حدّه و نضيض وفره(١) .

و منهم المصلت لسيفه و المعلن بشرّه، قد أشرط نفسه و أوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه(٢) . و لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا. و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا: قد طامن من شخصه و قارب من خطوه و شمّر من ثوبه و زخرف من نفسه للأمانة، و اتّخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية.

و منهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه و انقطاع سببه، فقصرته الحال على حاله فتحلّى باسم القناعة و تزيّن بلباس أهل الزّهادة و بقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع و أراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادّ و خائف مقموع و ساكت مكعوم و داع مخلص و ثكلان موجع(٣) . قد أخملتهم التقيّة(٤) و شملتهم الذّلّة.

____________________

(١) أي: لا يقعد بهم عن طلب الإمارة و السلطان إلا حقارة نفوسهم و ضعف سلاحهم و قلة مالهم.

(٢) أصلت السيف: امتشقه. أشرط نفسه: هيأها و أعدّها للشر و الفساد في الأرض.

أوبق دينه: أهلكه. الحطام، هنا: المال. ينتهزه: يغتنمه أو يختلسه. المقنب: طائفة من الخيل، و إنما يطلب قود المقنب تعزّزا على الناس و كبرا. فرع المنبر: علاه.

(٣) نادّ: هارب من الجماعة الى الوحدة. المقموع: المقهور. المكعوم، من كعم البعير، أي: شدّ فاه لئلاّ يأكل أو يعض. الثكلان: الحزين.

(٤) أخمله: أسقط ذكره حتى لم يبق له بين الناس نباهة. التقية: اتّقاء الظلم بإخفاء الحال.

١٧٨

و قد وعظوا حتى ملّوا و قهروا حتى ذلّوا و قتلوا حتى قلّوا. فاتّعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم، و ارفضوها ذميمة فإنها رفضت من كان أشغف بها منكم

مع كلّ ريح

و من كلامه في ناس زمانه: همج رعاع أتباع كلّ ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم و لم يلجأوا إلى ركن وثيق.

ربّ صغير غلب كبيرا

من كلام له: إحذر الكلام في مجالس الخوف، فإنّ الخوف يذهل العقل الذي منه تستمدّ، و يشغله بحراسة النفس عن حراسة المذهب الذي تروم نصرته.

و احذر الغضب ممّن يحملك عليه، فإنّه مميت للخواطر مانع من التثبّت.

و احذر المحافل التي لا إنصاف لأهلها في التسوية بينك و بين خصمك في الإقبال و الاستماع، و لا أدب لهم يمنعهم من جور الحكم لك و عليك.

و احذر كلام من لا يفهم عنك فإنه يضجرك. و احذر استصغار الخصم فإنه يمنع من التحفّظ، و ربّ صغير غلب كبيرا

١٧٩

سراجه باللّيل القمر

و من خطبة له تحتوي قولا رائعا في محمد و المسيح: و قد كان في رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كاف لك في الأسوة و دليل على ذمّ الدنيا و عيبها، و كثرة مخازيها و مساويها إذ قبضت عنه أطرافها و وطئت لغيره أكنافها و فطم عن رضاعها و زوي عن زخارفها.

و إن شئت قلت في عيسى ابن مريم عليه السلام فلقد كان يتوسّد الحجر و يلبس الخشن، و كان إدامه الجوع و سراجه بالليل القمر، و ظلاله في الشتاء مشارق الأرض و مغاربها، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم. و لم تكن له زوجة تفتنه و لا مال يلفته و لا طمع يذلّه، دابّته رجلاه و خادمه يداه.

على منهاج المسيح

قال نوف البكالي: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة و قد خرج من فراشه فنظر في النجوم، فقال لي: يا نوف، أراقد

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

تفريقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضِ الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا، ثمّ عدوا علينا يقاتلونا» (١) .

ورمى الغلامَ حرملةُ بن كاهل بسهم فذبحه، وهو في حجر عمّه(٢) .

وبقي الحسينعليه‌السلام مطروحاً مليّاً ولَو شاؤوا أنْ يقتلوه لفعلوا، إلاّ أنّ كلّ قبيلة تتّكل على غيرها وتكره الإقدام(٣) .

وأصـبح مـشتجراً لـلرماح

تـحلّي الـدّما مـنه مـرّانها

عـفيراً مـتى عاينته الكماة

يـختطف الـرّعب ألـوانها

فـما أجلت الحرب عن مثله

صـريعاً يـجبّن شـجعانها

تـريب الـمحيا تـظنّ السما

بـأنّ عـلى الأرض كيوانها

غريباً أرى يا غريب الطّفوف

تـوسـد خـدّيـك كـثبانها

وقـتلك صـبراً بـأيدٍ أبوك

ثـنـاها وكـسّـر أوثـانها

أتقضي فداك حشا العالمين

خـميص الحشاشة ظمآنها(٤)

فصاح الشمر: ما وقوفكم؟ وما تنتظرون بالرجل، وقد أثخنته السّهام والرماح؟ احملوا عليه(٥) .

وآ أسـفـاه حـمـلوا عـليه

مـن كـلّ جـانب أتوا إإليه

قـد ضـربوا عاتقه المطهّرا

بضربةٍ كبا لها على الثرى(٦)

وضربه زرعة بن شريك على كتفه الأيسر، ورماه الحصين في حلقه(٧) ، وضربه آخر على عاتقه، وطعنه سنان بن أنس في ترقوته، ثمّ في بواني صدره، ثمّ رماه بسهم في نحره(٨) ، وطعنه صالح بن وهب في جنبه(٩) .

____________________________

(١) الطبري ٦ / ٢٥٩، ومثير الأحزان / ٣٨، واللهوف / ٦٨.

(٢) مثير الأحزان / ٣٩، واللهوف / ٦٨.

(٣) الاخبار الطوال / ٢٥٥، والخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٨.

(٤) من قصيدة للسيد حيدر الحلّيرحمه‌الله .

(٥) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٥، و مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٢.

(٦) المقبولة الحسنية / ٥٦، للحجة الشيخ هادي كاشف الغطاء.

(٧) الاتحاف بحبّ الأشراف / ١٦.

(٨) اللهوف / ٧٠.

(٩) مقتل العوالم / ١١٠، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٣٥.

٢٨١

قال هلال بن نافع كنت واقفاً نحو الحسين وهو يجود بنفسه، فوالله ما رأيت قتيلاً قطّ مضمّخاً بدمه أحسن منه وجهاً ولا أنور، ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله. فاستقى في هذه الحال ماء فأبوا ان يسقوه.

وقال له رجل: لا تذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها. فقالعليه‌السلام :«أنا أرد الحامية؟! وإنّما أرد على جدّي رسول الله وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر وأشكو إليه ما ارتكبتم منّي وفعلتم بي». فغضبوا بأجمعهم حتّى كأنّ الله لَم يجعل في قلب أحدهم من الرحمة شيئاً(١) .

فـلو أنَّ أحمد قد رآك على الثرى

لـفرشنَ مـنه لـجسمك الاحشاء

أو بالطّفوف رأت ظماك سقتك من

مــاء الـمدامع اُمّـك الـزهراء

يـا لـيت لا عذب الفرات لوارد

وقـلـوب ابـناء الـنبيِّ ظـماء

كـم حـرّة نـهب الـعدى أبياتها

وتـقـاسمت أحـشـاءها الأرزاء

تـعدو فـان عـادت عليها بالعدى

عـدو الـعوادي الـجرد والأعداء

هـتـفت تـثير كـفيلَها وكـفيلُها

قد ارمضته في الثرى الرمضاء(٢)

الدعاء

ولمّا اشتدّ به الحال رفع طرفه إلى السّماء وقال:«اللهمّ متعال المكان عظيم الجبروت، شديد المحال غني عن الخلائق، عريض الكبرياء قادر على ما تشاء، قريب الرحمة صادق الوعد سابغ النعمة، حسن البلاء قريب إذا دُعيت محيط بما خَلقت، قابل التوبة لمَن تاب إليك، قادر على ما أردت تدرك ما طلبت، شكور إذا شُكرت ذكور إذا ذُكرت، أدعوك محتاجاً وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً وأبكي مكروباً، واستعين بك ضعيفاً وأتوكّل عليك كافياً، اللهمّ احكم بيننا وبين قومنا فإنّهم غرّونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيّك وولد حبيبك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرَجاً ومخرجاً، يا أرحم الراحمين» (٣) .

____________________________

(١) ابن نما / ٣٩.

(٢) من قصيدة لحجة الإسلام الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.

(٣) مصباح المتهجد والاقبال وعنهما في مزار البحار / ١٠٧، باب زيارته يوم ولادته.

٢٨٢

«صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك يا غياث المستغيثين (١) ،مالي ربّ سواك ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك، يا غياث مَن لا غياث له يا دائماً لا نفاد له، يا محيي الموتى، يا قائماً على كلّ نفس بما كسبت، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين» (٢) .

فـإنْ يـكُ إسـماعيل أسـلم نـفسه

إلى الذّبح في حجر الذي هو راحمه

فـعـاد ذبـيح الله حـقاً ولـم تـكن

تـصافحه بـيض الـظّبي وتـسالمه

فـان حـسيناً أسـلم الـنفس صابراً

عـلى الذبح في سيف الذي هو ظالمه

ومـن دون ديـن الله جـاد بـنفسه

وكـلّ نـفيس كـي تُـشاد دعـائمه

ورضَّـت قـراه الـعاديات وصدره

وسيقت على عجف المطايا كرائمه(٣)

الجواد

وأقبل الفرس يدور حوله ويلطّخ ناصيته بدمه(٤) فصاح ابن سعد: دونكم الفرس؛ فإنّه من جياد خيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فأحاطت به الخيل، فجعل يرمح برجلَيه حتّى قتل أربعين رجلاً وعشرة أفراس. فقال ابن سعد: دعوه لننظر ما يصنع. فلمّا أمِن الطلب أقبل نحو الحسينعليه‌السلام يمرّغ ناصيته بدمه ويشمّه ويصهل صهيلاً عالياً(٥) ، قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام :«كان يقول: الظليمة، الظليمة، من اُمّة قتلتْ ابن بنت نبيّها» . وتوجّه نحو المخيّم بذلك الصهيل(٦) ، فلمّا نظرن النّساء إلى الجواد مخزياً والسّرج عليه ملويّا خرجن من الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات، وبالعويل داعيات، وبعد العزّ مذللات، وإلى مصرع الحسينعليه‌السلام مبادرات(٧) .

فـواحـدة تـحنو عـليه تـضمّه

واُخـرى عـليهِ بـالرداء تـظلّل

____________________________

(١) أسرار الشهادة / ٤٢٣.

(٢) رياض المصائب / ٣٣.

(٣) من قصيدة للعلامة الشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر.

(٤) أمالي الصدوق / ٩٨، المجلس الثلاثون، ومقتل الخوارزمي / ٣٧، وتظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٢٨.

(٥) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٢٩، والبحار ١٠ / ٢٠٥.

(٦) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٧.

(٧) زيارة النّاحية المقدسة.

٢٨٣

واُخرى بفيض النّحر تصبغ وجهها

واُخـرى تـفدّيه واُخـرى تـقبّل

واُخـرى عـلى خوفٍ تلوذ بجنبه

واُخرى لِما قد نالها ليس تعقل(١)

ونادت اُم كلثوم زينب العقيلة: وآ محمداه! وآ أبتاه! وآ علياه! وآ جعفراه! وآ حمزتاه! هذا حسين بالعراء صريع بكربلاء(٢) . ثمّ نادت: ليت السّماء اُطبقت على الأرض(٣) ! وليت الجبال تدكدكت على السّهل(٤) ! وانتهت نحو الحسينعليه‌السلام وقد دنا منه عمر بن سعد في جماعة من أصحابه، والحسين يجود بنفسه. فصاحت: أي عمر، أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فصرف بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته(٥) . فقالت: ويحكم أما فيكم مسلم؟! فلَم يُجبها أحد(٦) . ثمّ صاح ابن سعد بالنّاس: انزلوا إليه وأريحوه. فبدر إليه شمر فرفسه برجله، وجلس على صدره وقبض على شيبته المقدّسة وضربه بالسّيف اثنتى عشرة ضربة(٧) واحتزّ رأسه المقدّس.

سلبه

وأقبل القوم على سلبه؛ فأخذ إسحاق بن حوية قميصه، وأخذ الأخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي عمامته، وأخذ الأسود بن خالد نعلَيه، وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأودي، ويقال رجل من بني تميم اسمه الأسود بن حنظلة.

وجاء بجدل فرأى الخاتم في إصبعه والدماء عليه فقطع اصبعه وأخذ الخاتم، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته(٨) ، وكان يجلس عليها فسمّي قيس قطيفة(٩) ، وأخذ ثوبه الخلق جعونة بن حوية الحضرمي، وأخذ القوس والحلل الرحيل بن

____________________________

(١) من قصيدة للحاج هاشم الكعبي.

(٢) البحار ١٠ / ٢٠٦، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٧.

(٣) الطبري ٦ / ٢٥٩.

(٤) اللهوف / ٧٣.

(٥) كامل ابن الأثير ٤ / ٣٢، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٥٩ الطبعة الاُولى.

(٦) الإرشاد.

(٧) مقتل العوالم / ١٠٠، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٦ وما بعدها.

(٨) اللهوف / ٧٣.

(٩) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٨، وكامل ابن الأثير ٤ / ٣٢.

٢٨٤

خيثمة الجعفي وهاني بن شبيب الحضرمي وجرير بن مسعود الحضرمي(١) ، وأراد رجل منهم أخذ تكّة سرواله - وكان لها قيمة - وذلك بعدما سلبه النّاس يقول: أردت أن أنزع التكّة فوضع يده اليمنى عليها فلم أقدر على رفعها فقطعتُ يمينه، فوضع يده اليسرى عليها فلم أقدر على رفعها فقطعتها، وهممتُ بنزع السّروال فسمعت زلزة، فخفتُ وتركته وغشي عليَّ، وفي هذه الحال رأيت النّبي وعلياً وفاطة والحسن، وفاطمة تقول:«يا بُني قتلوك؟! قتلهم الله، فقال لها: يا اُم قطع يدي هذا النائم». فدعت عليَّ وقالت:«قطع الله يديك ورجلَيك وأعمى بصرك وأدخلك النّار» . فذهب بصري وسقطت يداي ورجلاي فلم يبقَ من دعائها إلاّ النّار(٢) .

وآ صـريعاً عـالج الموت بلا

شــدّ لـحيين ولا مـدّ ردا

غـسّلوه بـدم الـطعن ومـا

كـفّنوه غـير بوغاء الثرى

قـتـلوه بـعد عـلمٍ مـنهُمُ

أنّـه خـامس أصحاب الكسا

يـا رسـول الله يـا فاطمة

يـا أمـير الؤمنين المرتضى

عـظّم الله لـك الأجـر بمن

كضّ أحشاه الظما حتّى قضى

ضـارباً فـي كـربلا خيمته

ثـم مـا خـيّم حتّى قوضّا

مـيتٌ تـبكي لـه فـاطمة

وأبـوها وعـليٌّ ذو الـعلا

لـو رسـول الله يـحيا بعده

قـعد الـيوم عـليه لـلعزا

حـملوا رأسـاً يُصلُّون على

جـده الأكـرم طـوعاً وإبا

يـتهادى بـينهم لـم ينقضوا

عـمم الـهام ولا حلّوا الحبا

يـا رسـول الله لـو عاينتهم

وهُـمُ مـا بـين قـتل وسبا

مـن رميضٍ يُمْنَع الظلَّ ومن

عـاطشٍ يُـسْقى انأبيب القنا

ومـسوق عـاثر يـسعى به

هاف محمول على غير وطا

لـرأت عـينك منهم منظراً

لـلحشا شـجواً وللعين قذى

لـيس هـذا لـرسول الله يا

اُمّـة الـطغيان والبغي جزا

جِزّروا حزر الاضاحي نسله

ثـم سـاقوا أهله سوق الاما

هـاتفات بـرسول الله فـي

بهر السير وعثرات الخطا(٣)

____________________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٤.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ / ١٠٢.

(٣) للشريف الرضي أعلى الله مقامه.

٢٨٥

٢٨٦

حوادث بعد الشهادة

« يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟ أفعجبتم أنْ مطرت السّماء دما! ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون! »

العقيلة ام كلثوم (زينب)

٢٨٧

٢٨٨

الليلة الحادية عشرة

يا لها من ليلة مرّت على بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! بعد ذلك العزّ الشامخ الذي لم يفارقهنّ منذ أوجد الله كيانهنّ، فلقد كنّ بالأمس في سرادق العظمة وأخيبة الجلالة تشعّ نهارها بشمس النبوّة ويضيء ليلها بكواكب الخلافة ومصابيح أنوار القداسة، وبقَين في هذه الليلة في حلك دامس من فقْدِ تلك الأنوار السّاطعة بين رحل منتهَب، وخباء محترِق، وفرق سائد، وحماة صرعى ولا محامٍ لهنّ ولا كفيل، لا يدرِين مَن يدفع عنهنّ إذا دهمهنّ داهم؟ ومَن الذي يرد عادية المرجفين؟ ومن يسكّن فورة الفاقدات ويخفّف من وجدهنّ؟ نعم، كان بينهنّ صراخ الصبية وأنين الفتيات ونشيج الوالهات، فاُمّ طفلٍ فطمته السّهام، وشقيق مستشهد، وفاقدة ولد، وباكية على حميم، وإلى جنبهنّ أشلاء مبضّعة وأعضاء مقطّعة ونحور دامية، وهنّ في فلاة من الأرض جرداء. وعلى مطلع الأكمة جحفل الغدر تهزّهم نشوة الفتح طيش الظفر ولؤم الغلبة. وعلى هذا كلّه لا يدرين بماذا يندلع لسان الصباح؟ وبماذا ترتفع عقيرة المنادي؟ أبالقتل أم بالأسر؟! ولا من يدفع عنهنّ غير الإمام العليل الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضرّاً، وهو على خطر من القتل!

ومـرضعةٍ هـبّت بـها لرضيعها

عـواطف اُمٍّ اثـكلت طفلها صبرا

رأت مـهده بـالحزن يـطفح بعده

وقـد كـان فيه قبل يطفح بالبشرى

وأثـقل ثـدييها مـن الدرّ خالص

عـلى طـفلها فـيه تـعودت الدرّا

فـخفت إلى مثوى الرضيع لعلّها

تـرى رمـقاً فـيه يـغذي بما درّا

فـلم تـرَ إلا جـثّةً فـوق مـذبح

بـها عـلق السهم الذي ذبح النحرا

فـحنّت و أحـنت فوقه من تعطف

أضـالعها ظـلاً تـقيه بـه الحرّا

وضـمّته مـذبوح الوريد لصدرها

ومن دمعه المسفوح خضّبت الصدرا

وودّت و مـن أوداجه تنضح الدما

لـو انّ بـذاك السّهم أوداجها تفرى

وأضـحت عـلى مثواه تفرغ قلبها

حـنيناً فـترثيه بما يفضل الشعرا

فـطوراً تـناغيه و طـوراً بـلهفة

تـعانق جـيداّ مـنه قد زيّن الدرّا

وتـعطف طـوراً فـوقه فـتشمّه

بـمنحره الـدامي و تـلثمه اُخرى

فـيا لـك مـن ثكلى بكت بزفيرها

وأدمعها الخنساء حين بكت صخرا

٢٨٩

ولـم يـبقَ مـنها وجدها وحنينها

سـوى قـفص للخلد طائره فرّا(١)

لقد عمَّ الاستياء في هذه الليلة عالَم المُلك والملكوت، وللحور في غرف الجنان صراخ وعويل، وللملائكة بين أطباق السّماوات نشيج ونحيب، وندبته الجنّ في مكانها(٢) .

يقول ابن أبي الحديد: بنى عبيد الله بن زياد بالبصرة أربعة مساجد، تقوم على بغض علي بن أبي طالبعليه‌السلام (٣) .

لـيس هذا لرسول الله يا

اُمة الطغيان و البغي جزا

لـو رسول الله يحيا بعده

قـعد الـيوم عليه للعزا

رأت رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمُ سلمة(٤) في المنام، أشعث مغبراً وعلى رأسه التراب، فقالت له: يا رسول الله ما لي أراك أشعث مغبراً؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«قُتل ولدي الحسين، وما زلتُ أحفر القبور له ولأصحابه» (٥) ، فانتبهتُ فزعة ونظرتُ إلى القارورة التي

____________________________

(١) من قصيدة في الحسين للعلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي.

(٢) اكام الجان للشيخ بدر الدين محمّد بن عبد الله الشبلي الحنفي: المتوفّى سنة ٧٦٩ صفحة ١٤٦، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤١، ومجمع الزوائد لابن حجر ٩ / ١٩٩، وتاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٣٩، والكواكب الدرية للمناوي ١ / ٥٦.

(٣) شرح النّهج لابن أبي الحديد ١ / ٣٨٦ الطبعة الاُلى مصر، وفي سفينة البحار ١ / ٦٠٢ الطبعة الحجر عن البحار ٨ / ٧٢٩.

(٤) قال ابن الأثير في الكامل ٣ / ٣٨: يستقيم هذا بناءً على وفاتها بعد الخمسين.

وفي الإصابة ٤ / ٤٦٠ بترجمتها عن ابن حيان: ماتت اُمّ سلمة سنة ٦١، وقال أبو نعيم: ماتت سنة ٦٢ وهي آخر اُمّهات المؤمنين، وعند الواقدي: ماتت سنة ٥٩.

وفي تهذيب الأسماء للنووي ٢ / ٣٦٢ عن أحمد بن أبي خيثمة: ماتت في ولاية يزيد بن معاوية.

وفي مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٧: توفّيت اُمّ سملة اُمّ المؤمنين سنة٦١، وابن كثير في البداية وان تبع الواقدي إلا أنّه قال الأحاديث المتقدّمة في مقتل الحسين تدلّ على أنّها عاشت إلى ما بعد مقتله.

وفي عمدة القاري للعيني شرح البخاري ١ / ٤٢٧ آخر بحث القنوت: إنّ اُمّ سلمة ماتت في شوّال سنة تسع وخمسين. وفي تهذيب تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤١: عن الواقدي ماتت اُمّ سلمة قبل مقتل الحسين بثلاث سنين، ولكن في اُصول الكافي عن أهل البيت: إنّ الحسينعليه‌السلام أودعها ذخائر الإمامة وأوصاها أن تدفعها إلى زين العابدينعليه‌السلام .

وفي سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ١٤٢: اُمّ سلمة زوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله آخر مَن مات من اُمّهات المؤمنين، عمّرت حتّى بلغها مقتل الحسين الشهيدعليه‌السلام فوجمت لذلك وغشي عليها وحزنت عليه كثيراً، ولم تلبث بعده إلاّ يسيراً، وانتقلت إلى الله تعالى. وفي صفحة ١٤٦: عن شهر قال: أتيتُ اُمّ سلمة اُعزّيها بالحسينعليه‌السلام .

(٥) أمالي الشيخ الصدوق / ٥٦، وفي تهذيب التهذيب ٢ / ٣٥٦، وذخائر العقبى للمحب الطبري / ١٤٨، وتاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٣٩، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢١٣: إنّ اُمّ سلمة رأت رسول الله في المنام وأخبرها بقتل الحسينعليه‌السلام .

٢٩٠

فيها تراب أرض كربلاء فإذا به يفور دماً(١) وهو الذي دفعه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إليها وأمرها أنْ تحتفظ به، وزاد على ذلك سماعها في جوف الليل هاتفاً ينعى الحسينعليه‌السلام فيقول:

أيّـها الـقاتلون جهلاً حسيناً

أبـشروا بـالعذاب والتنكيل

قد لُعنتم على لسان ابن داود

وموسى وصاحب الإنجيل(٢)

كـلّ أهل السّماء يدعو عليكم

مـن نبيًّ ومرسل وقتيل(٣)

وكانت تسمع في جَوف الليل أصوات نعي الحسينعليه‌السلام ولَم ترَ أحداً، فمن ذلك:

ألا يـا عـينُ فاحتفلي بجهدٍ

ومَنْ يبكي على الشهداء بعدي

عـلى رهـط تقودهُمُ المنايا

إلى متجبرٍ في ملك عبد(٤)

ولما سمع ابن عبّاس بكاءها، أسرع إليها يسألها الخبر، فأعلمته بأنّ ما في القارورتين يفور دماً(٥) .

وفي يوم عاشوراء رأى ابن عبّاس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أشعث مغبراً وبيده قارورة فيها دم فقال له: بأبي أنت واُمّي ما هذا؟ قال:«هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم» (٦) .

ولأجل بقاء الحسين عارياً على وجه الصعيد ثلاثاً، وهو علّة الكائنات؛

____________________________

(١) مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٤، كامل ابن الأثير ٤ / ٣٨، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٩٥.

(٢) إلى هنا في مقتل الخوارزمي ٢ / ٩٦ الفصل الثاني عشر.

(٣) الأبيات الثلاثة في تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤١. وفي تاج العروس ٧ / ١٠٣، ذكر البيت الأول والثالث، وفي روايته لعجزه (من نبي ومالك ورسول).

(٤) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤١، والخصائص للسيوطي ٢ / ١٢٧، ومجمع الزوائد ٩ / ١٩٩ وتقدم في / ٢٠٧: إنّهم لمّا نزلوا (الخزيمية) سمعت زينب هاتفاً يقول: ألا يا عين....

(٥) حديث القارورتين في معالم الزلفى / ٩١ الباب التاسع والأربعون، ومدينة المعاجز / ٢٤٤ الباب التاسع والأربعون: كلاهما للسيد هاشم البحراني ومنتخب الطريحي / ٢٣٥ المطبعة الحيدرية الطبعة الثالثة.

(٦) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤٠، والخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، وتاريخ الخلفاء / ١٣٩: كلاهما للسيوطي، ومرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٤، ومسند أحمد ١ / ٢٤٢، والكواكب الدرّية للمناوي ١ / ٥٦، وذخائر العقبى للمحب الطبري / ١٤٨، وتهذيب التهذيب لابن حجر ٢ / ٣٥٥ وكامل ابن الأثير ٤ / ٢٨، والصواعق المحرقة / ١١٦، وطرح التثريب ١ / ٢٢، وتاريخ بغداد للخطيب ١ / ١٤٢، والخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٥، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٩٤ الفصل الثاني عشر وسِير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢١٢.

٢٩١

لاشتقاقه من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو علّة العلل المتفرّع من الشعاع الإلهيّ الأقدس؛ أظلمت الدنيا ثلاثة أيام(١) واسودّت سواداً عظيماً(٢) حتّى ظنّ النّاس أنّ القيامة قامت(٣) وبدت الكواكب نصف النّهار(٤) وأخذ بعضها يضرب بعضاً(٥) ، ولَم يُرَ نور الشمس(٦) ، ودامت الدنيا على هذا ثلاثة أيّام(٧) ولا غرابة في اضمحلال نور الشمس في المدّة التي كان فيها سيّد شباب أهل الجنّة عارياً على وجه الصعيد، إذ هو العلّة في مجرى الكَون لِما عرِفت من اشتقاقه من الحقيقة المحمّديّة التي هي علّة العلل والعقل الأول، وحديث عرض الولاية على الموجودات - فمَن قَبِل عمَّت فائدته، ومَن أبى عرى عن الفائدة - يؤكّد ذلك.

وإذا صحّ الحديث بتغيّر الكَون لأجل إبراز عظم نبيٍّ من الأنبياء حتّى غامت السّماء ومطرت حين استقى به أحد علماء النّصارى في سرّ مَن رأى(٨) مع أنّه لَم يكشف عن جسد ذلك النّبي ولا كانت أعضاؤه مقطّعة، فاذاً كيف لا يتغيّر الكَون ولا يمحى نور الشمس والقمر وقد تُرك سيّد شباب أهل الجنّة على وجه الصعيد مجرّداً ومثَّلوا بذلك الهيكل القدسي كلّ مثلة؟!

ما للسّماء غداة اُردِي لم تمر

والأرض يوم اُصيب لم تتصدّع

____________________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، والخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، والصواعق المحرقة / ١١٦: فيما جرى على الحسينعليه‌السلام ، والخطط المقريزية ٢ / ٢٨٩، وتذكرة الخواص / ١٥٥، والمقتل للخوارزمي ٢ / ٩٠: ولا ينبغي لغير الإمامي أنْ يُشكّك في هذا بعدما يقرأ نصّ القسطلاني في إرشاد السّاري شرح البخاري ٦ / ١١٤: أنّ الأرض اظلمّت لموت عمر.

(٢) الاتحاف بحبّ الأشراف / ٢٤، وتهذيب التهذيب ٢ / ٣٥٤، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، ولا يسع أحداً إنكار هذا، بعدما يحدّث ابن الجوزي في المنتظم ٧ / ٢٤٤ حوادث سنة (٣٩٩) في شهر آب: أصاب الحاج بالثعلبية ريح سوداء اظلمّت الدنيا حتّى لَم يرَ بعضهم بعضاً.

(٣) الصواعق المحرقة / ١١٦، والاتحاف / ٢٤.

(٤) تهذيب التهذيب ١ / ٣٥٤، والصواعق المحرقة / ١١٦، والمقتل الخوارزمي ٢ / ٨٩.

(٥) الاتحاف بحبّ الأشراف / ٢٤، والصواعق المرحقة / ١١٦، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩ وتاريخ الخلفاء / ١٣٨، والكواكب الدرية ١ / ٥٦.

(٦) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٧، وتاريخ الخلفاء / ١٣٨، والمقتل للخوارزمي ٢ / ٨٩، والاتحاف / ٢٤، والصواعق المحرقة / ١١٦، والكواكب الدرّية ١ / ٥٦: ولا غرابة فيه بعد أنْ كُسفت الشمس يوم موت إبراهيم ابن رسول الله، كما نصّ عليه الزرقاني في شرح المواهب اللدنيّة ٣ / ٢١٢، والجزري في اُسد الغابة ١ / ٣٩، والعيني في عمدة القاري شرح البخاري ٣ / ٤٧٢ باب كيفيّة صلاة الكسوف.

(٧) كامل الزيارات / ٧٧، وهذا معنى ما تقدّم من أنّ الدنيا اظلمّت ثلاثة أيام.

(٨) الخرايج للراوندي / ٦٤ طبعة الهند في معجزات الحسن العسكريعليه‌السلام .

٢٩٢

إنّــي لأعــذر بـعده الـدّجى

لَـو لَـم يلح والشمس لو لَم تطلع

والشهب لَو أفلت وهذي السّحب لَو

هـي أقلعت والوحش لو لم ترتع

والـماء لو لم يصف والأشجار لو

لـم تـزه والأطـيار لو لم تسجع

والـريح عـند هـبوبها لـو أنّها

جـاءت عـواصفها بريحٍ زعزع

وحـرمت شرب الماء إنْ أنا عنده

لـم الـف مـكتئباً ولـم استرجع

رمـتِ العدى قلبي بسهم الغدر إن

لـم يـشجني رفع الكريم الأرفع

وحُـمِلْت فـوق أجبَّ عارٍ ظالعٍ

إن أنسَ حمل بنيهِ فوق الظّلّع(١)

بلى، لقد تغيّرت أوضاع الموجودات، واختلفت الكائنات، فبكته الوحوش وجرت دموعها رحمةً له. قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :«بأبي واُمّي الحسين المقتول بظهر الكوفة، والله كأنّي أنظر إلى الوحوش مادة أعناقها على قبره تبكيه ليلاً حتّى الصباح» (٢) . ومطرت السّماء دماً(٣) فأصبحت الحباب والجرار وكلّ شيء ملآن دماً(٤) وحتّى بقي أثره على البيوت والجدران مدّة(٥) ، ولَم يُرفع حجر إلاّ وُجِد تحته دم عبيط(٦) حتّى في بيت المقدس(٧) . ولمّا دخل الرأس المقدّس إلى قصر الإمارة سالت الحيطان دماً(٨) ، وخرجت نار من بعض جدران قصر الإمارة وقصدت

____________________________

(١) للشيخ محمّد بن شريف بن فلاح الكاظمي صاحب القصيدة الكرّاريّة في مدح أمير المؤمنين ونظَمها سنة ١١٦٦ وقرَّضها ثمانية عشر شاعراً من اُدباء عصره، والعينيّة تبلغ ٣٩ بيتاً في مجموعة عند الحجة الأميني صاحب الغدير وتقدّمت قطعة منها في عنوان (كربلاء).

(٢) كامل الزيارات لابن قولويه / ٨٠.

(٣) الخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩ وتذكرة الخواص / ١٥٥، و مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٨٩، والخطط المقريزيّة ٢ / ٩٨٩، والاتحاف بحبّ الأشراف / ٢٥٥، والصواعق المحرقة / ١١٦، والمناقب لابن شهر آشوب المتوفّى سنة (٥٨٨) ٢ / ٢٠٦ و ١٨٢: ومطر السماء دماً ذكره ابن الأثير في الكامل ٧ / ٢٩ حوادث سنة (٢٤٦) والنّجوم الزاهرة ٢ / ٣٢٢، وكنز العمّال ٤ / ٢٩١ رقم ٥٨٦٨.

(٤) الخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦.

(٥) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، والصواعق المحرقة / ١١٦.

(٦) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، والصواعق المحرقة / ١١٦.

(٧) مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٩٦، والخصائص الكبرى ٢ / ١٢٥، وتاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٣٨، والعقد الفريد ٢ / ٣١٥، في مقتل الحسين، والكواكب الدريّة للمناوي ١ / ٥٦، والمقتل للخوارزمي ٢ / ٩٠.

(٨) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، والصواعق المحرقة / ١١٦.

٢٩٣

عبيد الله بن زياد فقال لمَن حضر عنده: اكتمه(١) . وولّى هارباً منها. فتكلّم الرأس الشريف بصوت جهوري:«إلى أين تهرب يا ملعون؟ فإن لم تنلك في الدنيا فهي في الآخرة مثواك» . ولَم يسكت الرأس حتّى ذهبت النّار فاُدهش مَن في القصر(٢) . ومكث النّاس شهرَين أو ثلاثة يرَون الجدران ملطّخة بالدم ساعة تطلع الشمس وعند غروبها(٣) . وحديث الغراب المتلطّخ بدم الحسينعليه‌السلام وقد طار إلى المدينة ووقع على جدران فاطمة ابنة الحسين الصغرى، ومنه استعلمت قتْل أبيهاعليه‌السلام ، ولمّا نعته إلى أهل المدينة قالوا: جاءت بسحر بني عبد المطّلب. وما أسرع أن جاء الخبر بشهادته يرويه الموفّق أخطب خوارزم أحمد بن مكّي المتوفّى سنة (٥٦٨) في مقتل الحسين ج ٢ ص ٩٢. ولا غرابة فيه بعد المصادقة على وجود ابنة للحسين غير فاطمة وسكينة فإنّ شهادتهعليه‌السلام حفلت بالكثير من خوارق العادة.

أراد الجليل عزّ شأنه إعلام الاُمّة الحاضرة والأجيال المتعاقبة الواقفين على هذه الملحمة التي لَم يأتِ الدهر بمثلها بالقساوة التي استعملها الاُمويّون مع أبي عبد الله المستشهد في سبيل الدعوة الإلهيّة، وفي ذلك توجيه الأنظار إلى كرامة الحسين عند الله وأنّ قتله سوف يكون مدحرة للأضاليل وإحياء للدين الذي أراد بقاءه ربّ العالمين إلى يوم يبعثون.

ويحدّث دعبل الخزاعي عن جدّه: أنّ اُمّه سعدى بنت مالك الخزاعيّة أدركت الشجرة التي كانت عند اُمّ معبد الخزاعيّة وهي يابسة وببركات وضوء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أسفلها أورقت وأثمرت، كثيراً. ولمّا قُبض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قلّ ثمرها، ولمّا قُتل أمير المؤمنينعليه‌السلام تساقط ثمرها، وكانوا يتداوون بورقها، وبعد برهة نظروا إليها وإذا ساقها ينبع دماً، فأفزعهم هذا الحادث الذي لَم يُشاهد مثله، ولمّا اظلم الليل سمعوا بكاءً وعويلاً ولَم يرَوا أحداً، وقائل يقول:

يـابن الشهيد ويا شهيداً عمّه

خـير الـعمومة جعفر الطيارُ

عـجباً لمصقولٍ أصابك حدّه

في الوجه منك وقد علاك غبارُ

____________________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٦، وكامل ابن الأثير ٤ / ١٠٣، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٨٧، والمنتخب للطريحي / ٣٣٨.

(٢) شرح قصيدة أبي فراس ١٤٩.

(٣) كامل ابن الأثير ٦ / ٣٧، والكواكب الدريّة ١ / ٥٦، وتذكرة الخواص / ١٥٥.

٢٩٤

وبعد ذلك جاء الخبر بقتل الحسينعليه‌السلام في الوقت الذي شاهدوا منها هذه الغريبة. وقدّم دعبل الخزاعي ثلاثة أبيات لهذين البيتين فقال:

زرْ خـير قـبرٍ بالعراق يُزارُ

واعْص الحمار فمَنْ نهاك حمار

لِمَ لا ازورك يا حسين لك الفدى

قـومي ومن عطفت عليه نزار

ولك المودة في قلوب ذوي النهى

وعـلى عـدوك مقتةٌ ودمار(١)

ومعنى البيت الثاني من البيتين أخذه بعض شعراء الشيعة الأقدمين فنظمه في ثلاثة أبيات فقال:

عـجباً لـمصقولٍ علاك فَرَنْدُهُ

يـوم الـهياج وقد علاك غبار

ولأسـهمٍ نـفذتك دون حـرائر

يـدعون جَـدّك والدموع غزار

هـلّا تـكسرت الـسهام وعاقها

عن جسمك الاجلال والاكبار(٢)

ولم يمسّ أحد من الزعفران الذي نهبوه إلا احترق البدن، وعاد الورس رماداً، والإبل المنهوبة صار لحمها مثل العلقم وكانوا يرون النّار تخرج منها(٣) .

ولم تُعرف الحمرة في السّماء إلاّ يوم قتْل الحسينعليه‌السلام (٤) . قال ابن الجوزي: كلّ واحد من النّاس إذا غضب أثر الغضب في وجهه. ولمّا تنزّه الحقّ جلّ شأنه على الجسميّة أظهر تأثير غضبه على مَن قتل الحسينعليه‌السلام بحمرة الأُفق؛ إظهاراً لعظيم الجناية. ثمّ قال: لقد منع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من النّوم أنين عمّه العبّاس بن عبد المطلب لمّا اُسر يوم بدر، وأوثق كتافاً، فكيف به لَو يسمع أنين الحسينعليه‌السلام ؟

و لما أسلم وحشي، قاتل حمزة، قال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«غيّب وجهك عنّي؛ فإنّي لا أحبّ أنْ أرى قاتل الأحبّة». مع أنّ الإسلام يجُبّ ما قبله، فكيف به لو يرى مَن ذبح ولده و حمل أهله على أقتاب الجمال(٥) .

____________________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ / ١٠٠: وإذا كان القسطلاني يحدّث في إرشاد الساري ٩ / ١١٤ عن نَوح الجنّ على عمر، وابن كثير يذكر في البداية ١٠ / ٢٩٨ نَوح الجنّ على بشر الحافي، فسيّد شباب أهل الجنّة وروح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أحرى بنَوحهم عليه.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٣٨٠.

(٣) الخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، وتهذيب التهذيب ٢ / ٣٥٤ ومجمع الزوائد ٩ / ٩٦، والكواكب الدريّة ١ / ٥٦، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٩٠.

(٤) الصواعق المحرقة / ١١٦.

(٥) تذكرة الخواص / ١٥٤، والصواعق المحرقة / ١١٦.

٢٩٥

بلى، لقد حضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المعركة، و شاهد ذلك الجمع المتألّب على استئصال أهله من جديد الأرض، و بمرأى منه عويل الأيامى و نشيج الفاقدات و صراخ الصبية من الظمأ.

وقد سمع العسكر صوتاً هائلاً: ويلكم يا أهل الكوفة إنّي أرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينظر إلى جمعكم مرّة و إلى السّماء اُخرى، و هو قابض على لحيته المقدّسة. لكن الهوى و الضلال المستحكم في نفوس ذلك الجمع المعمور بالأطماع أوحى إليهم: إنّه صوت مجنون. فصاح الجمع لا يهولنّكم ذلك. و كان أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام يقول:«لا أراه إلاّ جبرئيل» (١) .

و صاح بعض الملائكة: ألا أيّتها الاُمّة المتحيّرة الضالّة بعد نبيّها، لا وفّقكم الله لأضحى و لا فطر! قال الإمام الصادقعليه‌السلام :«لا جرم والله، ما وفّقوا و لا يوفّقون حتّى يثور ثائر الحسين عليه‌السلام » (٢) .

وهبْ دم يحيى قد غلا قبلُ في الثرى

فـإنّ حسينا فـي القلوب غلا دمـه

وإنْ قُرّ قِدما مذْ دعا بُخْتُ نُصر

بـثـارات يحيي و استُردَتْ مظالمه

فليست دماء السّبط تهدأ قبل أن

يـقـوم بـإذن الله لـلثأر قائمه(٣)

وحدث الشيخ البهائي أنّ أباه الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي دخل مسجد الكوفة فوجد فص عقيق مكتوب عليه:

أنـا درٌّ مـن الـسّما نثروني

يـوم تـزويج والـد السّبطَين

كنت أصفى من اللجين بياضاً

صبغتني دماء نحر الحسين(٤)

____________________________

(١) كامل الزيارات.

(٢) من لا يحضرة الفقيه، للشيخ الصدوق / ١٤٨.

(٣) من قصيدة للعلامة الشيخ محمّد تقي الجواهري.

(٤) كشكول الشيخ يوسف البحراني / ١٧، طبعة الهند، عن كشكول الشيخ البهائي.

٢٩٦

الليلة الحادية عشرة عند الحسينعليه‌السلام

إنّ من الراجح المؤكّد على مَن يشايع الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام المبيت في الليلة الحادية عشرة عند قبر المظلومعليه‌السلام وعليه ملامح الاستياء وشعار الحزن على ذلك الفادح الجلل بين أنّة وحنّة وصراخ وعولة كأنّه ينظر من كثب إلى ضحايا آل محمّد مضرّجين بالدماء تسفي عليهم الريح بوغاء الثرى وهي أشلاء مقطّعة قد طعمتها سمر الرماح ونهلت من دمائها بيض الصفاح وطحنتها سنابك الخيل العادية.

ويرنو مَنْ أممّ إلى عقائل بيت الوحي نذرف الدمع على تلك الجثث الزواكي، فمن نادبة إلى صارخة، ومن ناشجة إلى لاطمة صدرها وناشرة شعرها(١) ، فيواسيها المتصوّر ببكائه المتواصل، وعقيرته المرتفعة، وعبرته الغزيرة.

ومن المقطوع به أنّ في هذه الحالة صلة للصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ومواساة لها وفيها جلب رغبات أئمّة الهدىعليهم‌السلام على ما يستأنس به من الآثار الواردة في أمثال هذا في سائر الأحوال.

وهناك أحاديث ربّما يستفيد المتأمّل منها هذه النظريّة؛ ففي الحديث عن مالك الجهني عن أبي جعفرعليه‌السلام :«مَن زار الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء حتّى يظلّ عنده باكياً، لقى الله يوم القيامة بثواب ألفَي ألف حَجّة، وألفَي ألف عمرة، وألفَي ألف غزوة مع رسول الله والأئمّة الراشدين» (٢) . وقد أفاد علماء العربيّة أنّ (ظلّ) تستعمل فيمَن أقام في المكان نهاراً إلى الليل(٣) والإقامة إلى الليل، إنْ لَم يستلزم المبيت في الليلة المتعقبة للنّهار، إلاّ أنْ

____________________________

(١) روى الشيخ الطوسي في التهذيب ٢ / ٢٨٢: آخر النّذور عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال:«ولقد شققن الفاطميات الجيوب على الحسين عليه‌السلام ، ولطمن الخدود، وعلى مثل الحسين فلتلطم الخدود ولتشقّ الجيوب».

(٢) كامل الزيارات / ١٧٤.

(٣) في تاج العروس ٧ / ٤٢٦، مادّة (ظلّ): عن الشهاب الخفاجي: أنّ ظلّ فعل ناقص يفيد ثبوت الخبر في جميع النّهار.

وفي شرح الكفاية، للرضي / ٢٧٨، مبحث الأفعال الناقصة: معنى (ظلّ زيد متفكّراً) كان في جميع النّهار كذلك، فاقترن مضمون الجملة وهو تفكّر زيد بجميع النّهار مستغرقاً له، ومعنى بات زيد مهموماً أنّه في جميع الليل كذلك.

وفي شرح الصمديّة، للسيّد علي خان / ٥٩، طبعة ايران: تفيد (ظلّ) و (بات) ثبوت الخبر للاسم في جميع النّهار والليل، وعلى ذلك جرى الزمخشري في المفصل / ٢٦٧، طبعة مصر: وقد يستعملان بمعنى صار مع القرينة.

٢٩٧

حديث جابر الجعفي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ربّما يساعد عليه فإنّه قال:«مَن زار الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء وبات عنده، كان كمَن استشهد بين يدَيه» (١) . فإنّ الظاهر منه إرادة المبيت المتعقّب لليوم لا السّابق عليه وإلاّ لقالعليه‌السلام (مَن بات ليلة عاشوراء عند الحسينعليه‌السلام وزار يومه و ظلّ باكياً كان له كذا وكذا).

على أنّ الاعتبار يساعد على أنّ المقيم عند قبر الذبيح العطشان في تمام اليوم أنْ لا يرتحل عنه في هذه الليلة التي لَم يمرّ مثلها على بنات رسول الله وودائع الخلافة، وهنّ في تلك الفلاة الجرداء قد فقدن البدور النيّرة والاُباة الصفوة، وإلى جنبهنّ الأشلاء المقطّعة بسيوف البغي والضلال، وهنَّ في فرق سائد لا يدرين ماذا يصدر عليهنّ من أعداء الله وأعداء رسوله، فيكون الموالي لهم البائت تلك الليلة عند قبره مشعراً بحزنه وبكائه إلى أسفه بتأخّره عن الحضور بالفوز الأكبر فيكثر من قول: يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً(٢) . ويواسي سيّدة النّساء الباكية على مهجتها الممنوع من الورود.

ولقد رأتها في المنام ذرّة النّائحة واقفة على قبر الحسينعليه‌السلام تبكي، وأمرتها أنْ تنشد:

أيُّـها الـعينان فيضا

واسـتهلّا لا تـغيضا

وابـكيا بـالطّف ميتاً

ترك الجسم رضيضاً

لـم اُمـرّضه قـتيلاً

لا ولا كان مريضا(٣)

ويحدِّث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي عن أبيه: أنّ أبا الحسن الكاتب كان يسأل عن ابن النائح، فلَم يعرفه مَن كان في المجلس من أهل الكرخ غيري، فقلتُ له: ما القصّة؟ قال أبو الحسن الكاتب: عندي جارية كثيرة الصيام و التهجّد، وهي لا تقيم كلمة عربيّة صحيحة فضلاً عن أن تروي شعراً و الغالب على لسانها النبطيّة، انتبهت البارحة فزعة ترتعد و مرقدها قريب من موضعي، فصاحت بي: يا أبا الحسن الحقني! قلتُ: ما أصابك؟ قالت: إنّي صَلّيت وردي ونمتُ، فرأيت كأنّي في درب من دروب الكرخ وإذا بحجرة نظيفة

____________________________

(١) كامل الزيارات / ١٣٧، الباب الواحد والسبعون.

(٢) في عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ، للشيخ الصدوق / ٦٦: من حديث عن الرضاعليه‌السلام قال لابن شبيب:«إنْ سرَّك أنْ تسكن الغرف المبنيّة في الجنّة مع النّبي عليه‌السلام ، فالعن قتلة الحسين عليه‌السلام ، وقل متى ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً».

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ١٨٩، طبعة ايران، عن أمالي المفيد النيسابوري.

٢٩٨

بيضاء مليحة السّاج مفتوحة الباب، و نساء وقوف عليه، قلت لهم: مَن مات؟ أو، ما الخبر؟ فأومأوا إلى داخل الدار، فدخلتُ فإذا بدار نظيفة في نهاية الحُسن، وفي صحنها امرأة شابّة لَم أرَ قطّ أحسن منها ولا أبهى ولا أجمل، وعليها ثياب حسنة، وملتحفة بإزار أبيض، وفي حِجرها رأس رجل يشخب دماً، فقلتُ: مَن أنتِ؟ قالت: لا عليكِ، أنا فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا رأس ابني الحسينعليه‌السلام ، قولي لابن أصدق عنّي أنْ ينوح:

لَم اُمرّضه فأسلو

لا ولا كان مريضا

فانتبهتُ فزعة، وقالت العجوز: لَم اُمرّطه (بالطاء المهملة؛ لأنّها لا تتمكّن من إقامة الضّاد) فسكّنتها حتّى نامت.

فقال أبوالحسن الكاتب لِعلي التنوخي: يا أبا القاسم، مع معرفتك بابن أصدق قد حمّلتك الأمانة وألزمتك أنْ تبلّغها له. فقال التنوخي: سمعاً وطاعة لأمر سيّدة نساء العالمينعليها‌السلام .

وكان هذا في شهر شعبان والنّاس يومئذ يلاقون جهداً جهيداً من الحنابلة إذا أرادوا الخروج إلى الحائر فلم أزل اتلطّف إليهم حتّى خرجت فكنت في الحائر ليلة النّصف من شعبان، فسألت عن ابن أصدق حتّى رأيته وقلت له: إنّ فاطمةعليها‌السلام تأمرك أنْ تنوح بالقصيدة:

لَم اُمرّضه فأسلو

لا ولا كان مريضا

وما كنت أعرف القصيدة قبل ذلك، فانزعج من هذا، فقصصت عليه وعلى من حضر الحديث، فأجهشوا بالبكاء، وما ناح تلك الليلة إلاّ بهذه القصيدة، وأولها:

أيهّا العينان فيضا

واستهلا لا تغيضا

وهي لبعض الشعراء الكوفيين. وعدت إلى أبي الحسن فأخبرته الخبر(١) .

السّلب

أبـا حـسنٍ يـا خـير حام لجاره

أبـثّ لـك الـشكوى بدمعٍ مرقرقٍ

____________________________

(١) نشوار المحاضرة ٨/٢١٨.

٢٩٩

ونـاهيك فـي رِزْء تـفاقم وقـعه

فأصبح فيه الدّمع من بعض منطقي

اتـغضي ومـنك الـيوم آل اُمـيّة

شـفت كلّ ذحل في حشاها مؤرّق

وكـم لك في أرضٍ الطّفوف نوادب

يـنحن بـها نـوح الحمام المطوّق

وكـم طـفلة قـد أرهـبوها بقسوة

ومـا عوّدت من قبل غير الترقرق

وطـفل يـحلّي جيده طوق عسجد

فـطوّق مـذعوراً بـسهم مـفوّق

وكـم حرّة حسرى بدت من خبا لها

ولـيس لـديها سـاتر غير مرفق

هـنالك لـو شاهدتها تنفث الشّجى

بـقلب مـن الوجد المبرّح محرق

لـعزّ أمـير الـمؤمنين خـروجها

عـليك بـحال أحـزنت كلّ مشفق

فـمن مُبْـلِغُ الزهراء عن أسر زينب

وتـسيـيرها بـين الأعادي لجلّق

ولـيس لها بين العدى من يصونها

حـمى غير مضنى بالحبال مربّق

أفـاطم سـمعاً عـلّني في تزفري

أبـثّـك أشـجاناً أخـذن بـمخنق

فـإنّ الاُولـى حلّوا بعرصة كربلا

هـووا في ثراها مشرقاً بعد مشرق

قـضوا وجلال العزّ يعلو وجوههم

ومـاتوا كـراماً مالووا جيد مطرق

فـلا عذر حتّى تلفظي القلب حسرة

بفيض دم من ماء عينيك مهرق(١)

لما قُتل أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام مالَ النّاسُ على ثقله ومتاعه وانتهبوا ما في الخيام(٢) ، وأضرموا النّار فيها، وتسابق القوم على سلب حرائر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففررن بنات الزهراءعليه‌السلام حواسر مسلبات باكيات(٣) وإنّ المرأة لتسلب مقنعتها من رأسها، وخاتمها من إصبعها، وقرطها من اُذنها، والخلخال من رجلها(٤) . أخذ رجل قرطين لاُمّ كلثوم وخرَم اُذنها(٥) .

وجاء آخر إلى فاطمة ابنة الحسينعليه‌السلام فانتزع خلخالها، وهو يبكي قالت له: مالك؟ فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله؟! قالت له: دعني، قال: أخاف أنّ يأخذه غيري(٦) .

ورأت رجلاً يسوق النّساء بكعب رمحه، وهنّ يلذن بعضهن ببعض، وقد أخذ

____________________________

(١) من قصيدة للعلامة الثقة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي.

(٢) كامل ابن الأثير ٤ / ٣٢.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٠.

(٤) مثير الأحزان لابن نما / ٤٠.

(٥) الدمعة الساكبة / ٣٤٨.

(٦) أمالي الصدوق / ٩٩ المجلس الواحد والثلاثون، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢٠٤.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437