مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)13%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243989 / تحميل: 10027
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٨١٦٣-٧٠-٧
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فقهاء يتوفّرون على تأليف فقهي ) عملهم على اتخاذه ( متناً ) للتعليق، أو الشرح، أو الدراسة أساساً، أي: التأليف الفقهي في ضوء ( المتون ) الفتوائية، سواء كانت رسائل عملية أو مجرّد فتاوى، وهذا ما ألمح إليه المؤرِّخون عندما أشاروا إلى أنّ المتون الفقهية مرّت بمراحل متنوِّعة، بدئت بكتاب ( النهاية ) للشيخ الطوسي ( ولا نغفل أنّ الطوسي بدوره قد اعتمد في بعض ممارساته على ( مقنعة ) المفيد،... والمهم: أنّ الحوزة العلمية الرشيدة التي امتدّت أكثر من ألف سنة، كانت تعتمد ( النهاية ) متناً، ثم اتخذت ( الشرائع ) للمحقّق، ثم ( وسيلة العباد ) للجواهري، ثم ( العروة الوثقى ) لليزدي، وهو هذا الكتاب الذي نتحدث عنه.

وممّا تجدر ملاحظته ( وهذا ما ألمحنا إليه ونؤكِّده الآن ) أنّ المتن المذكور ( العروة الوثقى ) لعلّه أكثر المتون الفقهية اهتماماً من قبل فقهائنا المحدثين، حيث حظي من جانب باتخاذه ( متناً ) للممارسة الاستدلالية الشاملة، ( ولعلّ أوضح مصاديقها هو كتاب ( مستمّسك العروة الوثقى )، وغيره من الممارسات، كما أنّه - من جانب آخر - حظي بتعليقات تُعدّ بالعشرات، وهو ما يقتصر على مناقشة بعض المتون، من خلال ما يسمّى بـ ( الحاشية ) إمّا مناقشة فتوائيّة فحسب، أو مصحوبة بالاستدلال، وفي الحالتين، فإنّ الاهتمام بهذا المتن بالنحو المتقدّم، يجعل الدراسة لهذا الجانب تحمل مسوِّغاتها، حيث اضطلعت أكثر من مؤسّسة بتجميع آراء الآخرين حيال المتن المذكور، متفاوتة في عدد ( المعلّقين )،... إلاّ أنّ الكتاب الحالي يعدّ أكثر الكتب حشداً للآراء.. كما هو ملاحَظ.

تأسيساً على ما تقدّم، يجدر بنا أن نتناول بالدراسة: نشاط (السيّد اليزدي ) فقهيّاً وأُصوليّاً - أو على الأقل فقهياً بمستوييه: الفتوائي والاستدلالي ( بخاصّة: الأخير )؛ لأنّه ( الخلفية ) التي تستند ( فتاواه ) إليها... ولحسن الحظ، أنّ السيّد اليزدي ترك لنا جملة مؤلّفات استدلالية تتفاوت في حجومها، مثل: ( منجزات المريض ) و( الظن... ) و( تكملة العروة الوثقى )، بالإضافة إلى دراسة استدلالية قد اتخذت من ( متن ) سابق وهو: الكتاب المعروف بالمكاسب للشيخ الأنصاري، قد اتخذت منه: وسيلة لممارسة فقهية معمّقة ومفصّلة... هذا مضافاً إلى كتاب أُصولي ضخم يتحدث عن ظاهرة التضارب بين النصوص بنمطيها: الظاهري والباطني، أو كما يطلق على ذلك

١٠١

مصطلح ( التعارض )، ومصطلح ( التكافؤ ) أو ( التعادل )، ومصطلح ( التراجيح )، وهو أهم الأبحاث الأُصولية؛ لأنّه - بوضوح - أكثر المبادئ ( تطبيقاً ) بخلاف الغالبية من المبادئ الأُصولية التي تضؤل أهميّتها العملية ( أي: الثمرة العلمية ) بالقياس إلى باب ( التعارض ) أو ( التضارب ) - كما نسمّيه - سواء أكان التضارب على مستوى السطح بحيث يجمع بين المتضاربين ( كالجمع العرفي المألوف )، وسواه، أو كان على مستوى ( العمق ) بحيث لا مناص من طرح أحد الطرفين ( مثل موافقته للعامّة ) أو العمل بالآخر ( مثل موافقة الكتاب )، أو العمل بكليهما: على مستوى ( التخيير ) وليس الجمع، أو الطرح لكليهما.. أو التوقّف أو الاحتياط... إلى آخره... ويتميّز الكتاب المذكور بسعة حجمه، وبدخوله في تفصيلات يمكن الاستغناء عنها، بخاصّة أنّ بعض المعنيين بهذا الشأن المعرفي قد يكتفون بثلاثين صفحة من الكتاب، بينما تجاوز الكتاب الذي عرضنا له: الستمئة صفحة..

المهم: بما أنّ ( التطبيق ) لمبادئ التضارب لا يتجانس مع ( النظرية ) من حيث الحجم الذي يستخدمه المؤلِّف، لذلك لا ضرورة كبيرة تدفعنا إلى مدارسة هذا الكتاب بقدر ما نقتبس منه بعض الفقرات؛ لأنّ المهمّ هو: ما نلاحظه من الممارسة الفقهية التي تعتمد هذا المبدأ الأُصولي أو ذاك... أي: نعتمد الممارسة التطبيقية لما يطرح من عمليات ( الجمع العرفي ) أو ( الترجيح )... أو... إلى آخره... عبر هذه المسألة الفقهية أو تلك... بالإضافة إلى سائر المبادئ التي يتوكّأ عليها في استخلاص الظاهرة الشرعية بنحوٍ عام...

وهذا ما نبدأ به الآن:

* * *

إنّ المرحلة الأُولى من ممارسة (السيّد اليزدي ) للظاهرة الفقهية، هي: تصديرها بالبُعد ( اللغوي )، أي من حيث التعريف بالظاهرة: موضوعة البحث دلالياً، ومدى انسحاب العنوان المنتخب على الموضوع، يستوي في ذلك أن يكون البحث فقهياً أو أُصولياً. وممّا لا شكّ فيه، أنّ طبيعة البحث العلمي يتطلّب الإحاطة بجوانب الموضوع جميعاً، وفي مقدّمته الجانب اللغوي، ما دامت اللغة هي الواسطة في التعبير عن موضوع البحث، لكن ينبغي أن نضع في الاعتبار أنّ البعد اللغوي يظلّ ( أداةً توظيفية ) وليس

١٠٢

غاية، وهذا ما يقتادنا إلى ملاحظة مهمّة بالنسبة إلى مطلق البحوث، ومنها: البحث الفقهي، حيث نجد أنّ الباحثين لا يكتفون بتعريف الموضوع لغوياً واصطلاحيّاً، في نطاق ما هو ضروري، بل يسهبون في البحث عن جذر الكلمة واستخداماتها، و... إلى آخره، حتى ليحس القارئ أنّه أمام معجم لغوي، وليس أمام بحث لا علاقة له باللغة إلاّ بمقدار الإضاءة الضرورية...

وفي ضوء هذه الحقائق نتّجه إلى (السيّد اليزدي ) لملاحظة استخدامه للبعد ( اللغوي )، حيث نجد عناية خاصّة منه قد لا نجدها عند الآخرين، فهو يدقّق في المفردة الفقهيّة أو الأُصولية، وينقّب في حفريّاتها إلى درجة ملحوظة، حتى نحسب أنّ بعض ممارساته تحمل القارئ على الاستفسار عن مدى فائدة هذا الإسهاب أو التغلغل اللغوي...

المهم: خارجاً عن ذلك يجدر بنا الاستشهاد بنماذج من ممارساته، وهي نماذج إيجابية دون أدنى شك...

من ذلك، مثلاً: في بداية بحثه الأُصولي في باب ( التضارب ) بين الأخبار، أي ( التعارض ) وهو العنوان الذي انتخبه لبحث الظاهرة المذكورة، حيث صدّرها بهذه الفقرات:

( عنوان المسألة بباب ( التعارض ) كما صنّفنا، وفاقاً لبعض أولى من عنوانها بباب التعادل والتراجح؛ لما هو واضح من أنّها من عوارضه وأقسامه، إذ التعارض قد يكون مع التعادل، وقد يكون مع الترجيح، ومن المعلوم أنّ الكلّي المتعارض - مع غضّ النظر عن قسيميه - أحكاماً... مثل أولويّة الجمع مهما أمكن، وأنّ الأصل في المتعارضين ماذا؟ وغيرهما ) ثم يذكر جواباً لمَن يجد مسوّغاً للعنوان التقليدي، ويعترض على ما ورد في ( القوانين ) من العنوان القائل ( باب التعارض والتعادل والترجيح )... بعد ذلك يقول: ( لا يخفى أنّ التعبير بالتراجيح فيه مسامحة من وجوه، أحدها: أنّ معادل التعادل: التراجح لا التراجيح، إذ هو مأخوذ إمّا من العدل بمعنى الاستواء... إلى آخره )...

ثمّ يقطع صفحات متعددة لمواصلة بحثه عن مفردات المصطلح المذكور، بحيث يصل إلى ما يقارب عشر صفحات، وهو أمر قد لا نجد له ضرورة...

١٠٣

بغضّ النظر عمّا تقدّم، فإنّ مجرّد انتخاب عنوان شامل - كما صنع السيّد اليزدي يظلّ أفضل - بلا شك - من المفردات الثلاث، ممّا استخدمها الأُصوليّون قدامى وحديثين أيضاً...

وما دمنا نتحدث عن انتخاب ( العنوان ) وضرورة شموليّته وتعبيره عن الموضوع المبحوث عنه، نجد أنّ السيّد اليزدي يتّجه إلى مناقشة كثير من المفردات التي جعلها الفقهاء ( عنواناً ) لممارساتهم،... ومن ذلك مثلاً: ما نلاحظه في كتابه الاستدلالي التعليقي ( حاشية المكاسب ) حيث تعرّض لجملة من المفردات التي اعتبرها غير مفصحة عن طبيعة الموضوعات... ومن ذلك: عنوان ( حفظ كتب الضلال ) أو عنوان ( ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأناً ).. أو سواهما، حيث قال بالنسبة إلى العنوان الأخير:

( هذا العنوان إنّما يحسن إذا جعلنا المناط في النصوص ذلك، وتعدّينا إلى كلّ ما يكون كذلك، وأمّا على ما هو واقعه من الاقتصار على مواردها من السلاح أو مطلق آلات الحرب، فالأولى أن يقال ( وعدم بيع السلاح )، إذ المفروض خصوصيّة الموضع وعدم كون المناط ما ذكر من العنوان، فلا وجه للعنوان بما ليس موضوعاً ومناطاً... إلى آخره ).

والحقّ أنّ الملاحظة السيّد اليزدي صائبة، ما دمنا نعرف جميعاً: أنّ العنوان في البحوث العلمية يحتل أهمّيته الكبيرة من حيث انطوائه على موضوع محدّد وليس فضفاضاً... والأمر نفسه يمكننا ملاحظته في التعقيب على عنوان ( حفظ كتب الضلال ) حيث يتناول تعقيبه على العنوان المتقدّم مورداً آخر مضادّاً لسابقه هو: قصور العنوان عن استيعاب ما هو ( ضلال ) حيث لا يقتصر حظر الضلال على الكتب فحسب، بل يتجاوزه إلى المطلق؛ لذلك ينبغي تبديله إلى عنوان أشمل من الكتاب.

وفي هذا الصدد يقول: ( لا خصوصيّة للكتب في ذلك، فيحرم حفظ غيرها أيضاً ممّا من شأنه الإضلال.. فكان الأولى التعميم للعنوان ). هنا يحاول السيّد اليزدي توجيه العنوان المتقدّم بقوله: ( لعلّ غرضه المثال، لكون الكتب من الأفراد الغالبة لهذا العنوان، نعم يمكن الاستدلال على الخصوصية برواية ( الحذّاء ): ( مَن علّم باب ضلال كان عليه وزر مَن عمل به)... ونحن أيضاً يمكننا أن نوجّه إلى المؤلّف السيّد اليزدي نفس الإشكالية بالنسبة إلى

١٠٤

الرواية، حيث إنّ التعليم للضلال لا ينحصر في الكتاب، بل يشمل مطلق الخطاب الإعلامي من: خطبة أو كلام عادي... إلى آخره.

والمهم - في الحالات جميعاً - أن نشير إلى أنّ اهتمام السيّد اليزدي بالعنوان جعله يُعنى به من زوايا أُخرى مصحوبة بجملة نوافذ، ولعلّ تعقيبه أو تصدير ممارسته لظاهرة ( الوكالة ) - مثلاً - يوضح لنا منهجه في التعريف بالظاهرة من جانب، ثم مقارنة العنوان بما تماثله أو تخالفه من سوى ذلك، حيث إنّ تعريفه للظاهرة المبحوث عنها تفرض ضرورتها لكي تتبيّن دلالة الوكالة أو الهبة أو الوقف... إلى آخره، ولكنّ الأهم من ذلك هو: المقارنة مع غيرها من الظواهر في حالة ما إذا كانت ثمّة نقاط مشتركة بين العنوان المبحوث عنه وسواه، وهذا ما نلحظ في النص الآتي:

( الوكالة: وهي استنابة في التصرّف في أمرٍ من الأُمور في حال حياته، بخلاف الوصاية فإنّها بعد الموت. وقد يقال في الفرق بينهما: إنّ الوصاية إعطاء ولاية، وفي هذا الفرق تأمّل، بل منع. وأمّا الفرق بينهما وبين الوديعة فهو أنّها استنابة في الحفظ، بل لا يلاحظ فيها الاستنابة وإن استلزمتها، وأمّا بينها وبين العارية فواضح، وكذا المضاربة إذ حقيقتها ليست استنابة وإن تضمّنتها ( في الجملة ) ).

واضح من هذا النص أهميّة هذه الفوارق أو المشتركات بين الظواهر المشار إليها: العارية، الوصاية، الوديعة، المضاربة، حيث أوضح السيّد اليزدي السمات المشتركة المتمثّلة في ( الاستنابة ) بنحوٍ أو بآخر، مع الفوارق بين الاستنابة في مستوياتها وبين الوكالة، وبين ما ذكره من الظواهر...

على أيّة حال: ندع الآن هذا الجانب اللغوي بصفته مجرّد ( مقدّمة ) للدخول إلى الموضوع الرئيسي وهو: الممارسة الاستدلالية للظاهرة، واستخلاص حكمها، أو دلالتها، حيث نتجه إلى الخطوط التي تنتظم منهج السيّد اليزدي في ممارساته بنحو عام.

* * *

بالنسبة إلى الخطوط المنهجية، التي يمكن أن يستخلصها الدارس لممارسة السيّد اليزدي في تناوله للظاهرة الفقهيّة، تظل متفاوتة من ممارسة إلى أُخرى، بحسب ما يتطلّبه الموقف، فمثلاً: عندما يتناول الظواهر التي يعقّب بها على ( الأنصاري ) في حاشيته على

١٠٥

المكاسب، فإنّ تناوله يختلف بطبيعة الحال عن معالجته المستقلّة للظاهرة، كما هو ملاحظ في ( تكملة العروة ) حيث يتناول فيه الظاهرة استدلاليّاً بالقياس إلى العروة المتميّزة بفتاواها فحسب، كما يتناول الظاهرة استدلالياً في سائر نتاجه المتمثِّل في: ( منجزات المريض )، ( الظن ) ولكن بعامّة، ما دمنا نستهدف الإشارة إلى خطوط المنهج بحسب تسلسله؛ نلاحظ أنّ السيّد اليزدي بعد أن يتناول الظاهرة لغوياً، يتقدّم إلى طرح ( فتواه ) مصحوبة بالإشارة الإجمالية أوّلاً إلى الأدلة الرئيسة: الكتاب، السنّة، الإجماع، العقل. أو الأدلة الثانوية وفي مقدّمتها: ( الشهرة ) بحيث يعني بها بنحو ملحوظ، أو الدليل العملي... إلى آخره، ولكن ينبغي أن نشير إلى أنّ السيّد اليزدي عندما يتناول الظاهرة الفقهيّة العامة ( مثل: الأبواب الفقهيّة: الربا، الوكالة، الوقف، الضرر... إلى آخره ) فإنّه ليختلف عن معالجته لتفريعاتها أو مسائلها الجزئية، حيث يُعنى بالظاهرة العامة بالتعريف، وبتصدير ما يتطلّبه الباب من تعقيب أخلاقي، كما هو ملاحظ مثلاً في معالجته لظاهرة ( الربا ) حيث يعرض أوّلاً فتواه الذاهبة إلى التحريم، مشيراً إجمالاً إلى الأدلة الرئيسة على هذا النحو ( الربا المحرّم بالكتاب والسنّة وإجماع المسلمين، بل ضرورة الدين ) ثم يقول ( فمستحقّه داخل في سلك الكافرين، وأنّه يقتل.. )... إلى آخره، ثمّ يستشهد بروايات كثيرة تحوم جميعاً على إبراز العقاب المترتّب على ممارس الربا... وفي تصوّرنا أنّ تصدير ( الباب ) بأمثلة هذا البعد الأخلاقي؛ يجسّد ضرورة لا غنىً عنها من حيث أثرها على القارئ، حيث إنّ الهدف أساساً هو حمل الشخصية على معرفة الحكم وترتيب الأثر عليه، وهو: عدم ممارسة ما هو محرَّم أو مكروه... إلى آخره.

والآن، ما يهمّنا بعد الإشارة إلى مقدّمات الممارسة الفقهيّة من تحقيق لغوي وتعريف أخلاقي، ما يهمّنا هو: ملاحظة الأدوات الاستدلالية التي يستخدمها السيّد اليزدي في معالجته للظاهرة الفقهيّة، حيث تمثّل خطوط ممارسته على هذا النحو:

1 - تصدير الفتوى، مصحوبة بالأدلة الإجمالية في الغالب: كما لاحظنا في تصديره لظاهرة الربا، حيث قال: ( المحرّم بالكتاب والسنّة، وإجماع المسلمين، بل ضرورة الدين ).. فهنا: إشارة إلى الأدلة الرئيسة.. جميعاً الكتاب والسنّة... إلى آخره، وقد يكتفي بدليل واحد: كالإجماع مثلاً، وهو ما يطبع غالبيّة نتاجه، مثل تصديره لظاهرة

١٠٦

وقف الكافر: ( لا يشترط في الواقف أن يكون مسلماً... بالإجماع ). أو السنّة مثل: ( الأقوى: صحّة وصيّة مَن بلغ عشراً للأخبار... ). أو بالعقل، أو بدليلين كالكتاب والسنّة، مثل: ( تعتد المتمتَّع بها... للآية:( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ... ) والصحيح، أو بثلاثة: الكتاب، والسنّة، والإجماع ). لكن خارجاً عن هذه المستويات من الأدلّة ( الاستهلاليّة ) التي تتصدّر الفتاوى، فإنّ المهم هو: كيفيّة التعامل مع الأدلّة ذاتها، أي: كيفيّة تعامله مع الكتاب، مع السنّة، مع الإجماع، مع العقل، مع الشهرة، مع الأصل... إلى آخره.

بالإضافة إلى ( الأدوات ) التي يستخدمها في هذه الميادين، وفي مقدّمتها ( الظواهر اللفظية ) وسواها...

ونقف أوّلاً عند تعامله مع ( السنّة ) بخاصّة فيما يتصل بـ ( القول ) بصفته هو الغالب في التوكّؤ عليه بالقياس إلى ( التقرير ) و( الفعل )، وبصفته هو الغالب من الأدلّة بالقياس إلى الكتاب، والإجماع... إلى آخره، على أن نتّجه إليها فيما بعد...

إذن: لنتحدّث عن كيفيّة تعامل السيّد اليزدي مع ( الأخبار ) وهي - كما قلنا - المادة الغالبة في التعامل...

وهذا فيما يتصل بالأدلة الرئيسية: ( الكتاب، السنّة... إلى آخره )، أمّا ما يتصل بالأدلة الثانوية من: ( شهرة ) أو ( أصل )، فإنّ السيّد اليزدي يتوكّأ عليها بطبيعة الحال. أمّا استقلالاً أو ضمناً، أو توظيفاً، فمن أمثلته الأخيرة، مثلاً، بالنسبة إلى شرائط الواقف إذا بلغ عشر سنين ( المشهور على عدم صحّته لعموم ما دلّ... ) حيث إنّ السيّد اليزدي يوظّف دليل الشهرة ( وهو ثانوي ) لتجلية ( دليل رئيسي ) وهو: السنّة،... ولسوف نتحدث عن مستويات تعامله مع الأدلة المشار لها في حينه... سواء أكانت متصلة بالشهرة وأقسامها، أو بالأُصول العملية وسواهما، أمّا الآن فقد استهدفنا مجرّد الإشارة إلى أدوات السيّد اليزدي التي يستخدمها في ( استهلال ) أدلّته إجمالاً، حيث لاحظنا تفاوت ممارسته من حيث السعة وعدمها، بحسب متطلّبات المسألة ذاتها... والآن نتّجه إلى ملاحظة تعامله مفصّلاً مع ( الأخبار )، وفي هذا الميدان نقول:

يظلّ التعامل مع النص ( الأخبار ) - كما قلنا - أهم المحاور التي يرتكن إليها الفقهاء، يليها التعامل مع ( الأصل ) في أبواب بعض المعاملات أو غالبيّتها... ولكن ما يعنينا

١٠٧

الآن هو: التعامل مع النص... وأوّل ما يمكن ملاحظته هنا، هو: أنّ التعامل مع النص يندر أو يضؤل حجمه في حالة ما إذا كان الأمر مرتبطاً بتفسيره أو تأويله أي: استخلاص دلالته، ولكنّ العكس تماماً يتضخّم حجم التعامل مع النص في حالة ( تضاربه مع الآخر )، وهذا ما يجسّد غالبية الممارسات الفقهيّة... ولعلّ ما لاحظناه بالنسبة إلى السيّد اليزدي في جعل ممارساته الأُصولية منحصرة ( في نطاق التأليف ) في باب ( التعارض ) الذي قاربت صفحاته (600 )(1) ، يفسّر لنا أهميّته ومن ثمّ غالبيته الممارسة لهذا الجانب؛ لذلك، نحاول عرض المنهج الذي يتعامل السيّد اليزدي من خلاله مع النص ( المتضارب )، سواء أكان التضارب في نطاق الظاهر أي: التأليف بين الأخبار - الجمع العرفي أو نطاق الباطن ( التعارض ) المُفضي إلى طرح أحد المتضاربين - أو سقوطهما... إلى آخره.

ونبدأ أوّلاً بملاحظة تعامل السيّد اليزدي مع التضارب الظاهري، المُفضي إلى التأليف بين المتضاربين من خلال حمل أحدهما على الندب، أو الكراهة، أو التخصيص، أو التقييد، أو الحكومة، أو الورود... إلى آخره.

هنا، نجد أنّ ( السيّد اليزدي ) - امتداداً مع وجهة نظر ( الطوسي ) الذي عني عنايةً تامّة بمقولة: ( العمل بالخبر ما أمكن من الطرح ) حتى وصل به الأمر إلى أن يبالغ في تفسير أو تأويل المتضارب من النصوص، بما قد لا يحتمله النص، والمهم أنّ السيّد اليزدي يكاد يشدّد في هذا الجانب بنحوٍ ملحوظ، وهو ما نلحظه نظرياً ) في مقدّمة كتابه الأُصولي ( التعارض )، حيث يصرّح بذلك بسفور، أو ما نلحظه ( وهذا ) هو الأهم في تطبيقاته للقاعدة، حيث نجد أنّ كثيراً من الممارسين لا يسحبون نظريّاتهم الأُصولية على الممارسة التطبيقية فقهياً، وهو ما يحملنا على دراسة النص الفقهي التطبيقي، بدلاً من دراسة الخطوط النظرية لهذا المبنى الأُصولي أو ذاك.

ومع عودتنا إلى السيّد اليزدي في تعامله مع النصّين المتضاربين ظاهرياً، نجده - كما هو لدى الغالبية من الفقهاء - يُعنى بعملية الجمع العرفي ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وهذا ما يمكننا أن نلاحظه من خلال النماذج الآتية، منها:

____________________

(1) انظر: بحث ( تصانيفه ومؤلَّفاته ).

١٠٨

الحمل على الاستحباب: مثل تأليفه بين الأخبار القائلة بعدم العدّة على غير المدخول بها، وبين القائل بها، حيث قال عن الأخير: ( وخبر عبيد محمول على الاستحباب... ). إنّ أمثلة هذا الحمل متوافرة بعدد هائل، إلاّ أنّ مستويات الحمل تظلّ متفاوتة من حين التوكّؤ على جملة عوامل،... منها: تأييد الحمل بأدلّة ثانوية من نحو العمومات والإطلاقات والأصل... إلى آخره، وهذا ما يمكن ملاحظته في ممارسته الذاهبة إلى عدم وجوب العدّة من السفاح، حيث ذهب صاحب الحدائق إلى وجوبها بموجب خبرين، فجاء الردّ على ذلك بقوله: ( وحمل الخبرين على الندب للأصل، وللعمومات، وإطلاق ما دلّ على جواز التزويج... إلى آخره )، ومن الواضح أنّ إرداف ( الحمل على الندب ) بأمثلة هذه الأدلّة، يمنح الممارسة ثقلاً أكبر من مجرّد الحمل غير المصحوب بالتعليل، وإن قلنا بأنّ الحمل العادي رسمه النص الشرعي ليس مجرّد مبنىً يعتمده هذا الفقيه أو ذاك من خلال تذوّقه... ومنها:

الحمل على الندب - أيضاً - لكن من خلال التردّد بين محامل متعددة، وهذا ما نلحظه في تأليفه بين الطائفة القائلة بتعدد العدّة مع تعدّد السبب، والقائلة بالتداخل، حيث ذهب المؤلّف إلى التداخل، وحمل الطائفة الأُولى على مترددين، قائلاً: ( فتحمل على الندب أو التقية... )، بيد أنّ السؤال هنا هو: هل أنّ الحمل على الندب يحمل مسوّغاته في هذا المورد؟ بخاصة أنّ المؤلّف عندما ردّد بين الندب وبين التقية، رجّح التقية على الندب، من خلال استشهاده بحادثة لأحد خلفاء العامّة، كما استشهد بخبرين من خلال تصريح المعصوم (عليه السلام) بالتداخل جواباً على القائل بتعدّد العدّة.

ومن البيّن أنّ هذه القرائن من حيث وضوح أرجحيّتها ( وهي: التقيّة ) حينئذٍ فإنّ الحمل على الاستحباب يفقد مسوّغه، إلاّ إذا انسقنا مع الاتجاه الفقهي الذاهب إلى أنّ التردّد أو تعدّد الأدلّة من رجحان بعضها على الآخر لا غبار عليه؛ لأنّه مجرّد فرضيّة يتطلّبها النقاش، أو مجرّد طرح يحتمل أحد مصاديقه: إمكانية الصواب.

خارجاً عن ذلك، إذا ذهبنا لمتابعة تعامل المؤلِّف مع ( الحمل على الندب ) في مستوياته المتنوّعة، نجد أنّه يعرض إمكانية الحمل على الندب، ولكنّه مع تحفّظ هو: استبعاده، ففي معالجته لعدّة المتمتَّع بها يطرح الأقوال المعروضة في الظاهرة، وهي أربعة أقوال، منها: القول الأوّل حيث رجّحه ( وأيضاً )، القول الثاني: وأسقط القولين

١٠٩

الآخرين وقال: ( الأقوى هو الأوّل، لرجحانه بالشهرة، وشذوذ الثاني، مع أنّ مقتضى الاستصحاب على فرض التكافؤ هو الأوّل، وإن كان يجوز الجمع بينهما بحمل أخبار الأوّل على الاستحباب لكنه بعيد... ). ما يهمّنا هو: فقرته الأخيرة الذاهبة إلى إمكانية الحمل على الاستحباب، واستبعاده ذلك..

وبغض النظر عن ترجحه بالشهرة، وطرح الآخر لشذوذه، وذهابه إلى اقتضائية ( الاستصحاب ) حيث سنتحدث عن هذه ( الترديدات ) في حينه - إن شاء الله - بغضّ النظر عن ذلك، فإنّ إمكانية حمل الخبر المتضارب مع الآخر على الندب، وفي نفس الوقت استبعاده يظلّ واحداً من أشكال التعامل مع ظاهرة ( الجمع العرفي ).

وما دام هذا النص من حيث استبعاده للحمل على الاستحباب، يشكّل تحفّظاً حيال الجمع العرفي المذكور، فإنّ المؤلّف في سياقات أُخرى، يتجاوز التحفّظ إلى الرفض: عندما يناقش الأقوال التي تحمل الخبر على الندب، في حالات لا يساعد السياق على ذلك، ومنه مثلاً: في معالجته للمتوفّى زوجها من حيث العدّة يستشهد بطائفتين، تتحدث أحدهما: عن أنّها تبدأ مع بلوغ المرأة خبر وفاته، والطائفة الأُخرى: عن غير ذلك، حيث جمع صاحب المسالك بينهما على الاستحباب، والحمل على التقيّة عند ابن الجنيد، وآخر: التفصيل.

وعقّب المؤلّف على الرواية الأُخرى: (... شاذّة محمولة على التقيّة، فلا وجه للعمل بها )، (... ولا الجمع بين الفرقتين بحمل المتقدّمة على الاستحباب... ).

إذن: يتفاوت المؤلّف في تعامله مع ظاهرة ( الجمع العرفي ) من خلال العمل على الندب: بين اليقين والترديد والتحفّظ والرفض بحسب متطلّبات السياق.

وإذا اتجهنا إلى الجمع العرفي المقابل للندب وهو الكراهة، حينئذٍ فإنّ العملية ذاتها نلحظها في ممارسات المؤلّف.

وهذا من نحو ممارسته التي تساءل فيها عن جواز أو عدم ذلك، بالنسبة إلى الوكيل الذي أمره موكِّله بأن يدفع مالاً إلى عنوان ينطبق عليه، حيث ذكر المؤلّف قولين في ذلك، كما ذكر روايتين متضاربتين لراوٍ واحد، موضِّحاً بأنّ المانعة لا تقاوم المجوِّزة، معقِّباً على المانعة: ( فينبغي أن تُحمل على الكراهة، بل هو مقتضى الجمع العرفي الدلالي )، وإذا كان السيّد اليزدي ينصّ على ( كراهة ) النص المضارب في الممارسة

١١٠

السابقة، فهو ( يحتملها ) في الممارسة القائلة: ( لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الربا في غير المكيل والموزون مطلقاً، بل يمكن حمل كلام المفصِّلين أيضاً على الكراهية... ).

وأمّا الترديد بينها وبين سواها، فيمكن ملاحظته في ممارسته القائلة ( في باب الوكالة ) بكراهة بيع ما لديه من المواد لموكِّله، حيث ينقل جواز ذلك للأخبار، ويضيف ( وأمّا الأخبار المانعة محمولة على الكراهة )، ثم يعلّل ذلك أنّ ذلك يعرّض الوكيل للتهمة والخديعة، قائلاً: ( كما يُشعر على فهم بعض تلك الأخبار، لكن الأحوط مع ذلك ).

فهنا نجد المؤلّف قد التجأ إلى ( الحمل على الكراهة ) ترديداً بينها وبين الاحتياط، حيث يعني: الاحتياط ترجيح الحرمة لديه... وفي هذه الممارسة نلحظ سوى الترديد بين استخلاصين، ظاهرة ثالثة لاحظناها أيضاً عندما تحدثنا عن ( الحمل على الاستحباب ) حيث أردف في بعض ممارساته: الحمل بتوضيح الأسباب المفضية إلى الجمع... هنا أيضاً: يردف حمله على الكراهة، بالركون إلى الأخبار الأُخرى التي توحي بدلالة الكراهة...

وإذا كان المؤلّف هنا يتردّد بين استخلاصين، فإنّه في الممارسة الآتية يتردّد بدوره، ولكن يتّجه إلى التعليل لأحد المتردّدين ممّا يشكّل سمة سلبية، كما لاحظنا ذلك عند حديثنا عن ( الحمل على الاستحباب ).. يقول المؤلّف عبر بحثه عن إحدى المسائل المتعلّقة بـ ( الربا ): ( فتحمل على الكراهة في النسيئة ) أو على التقيّة؛ لأنّ التفصيل مذهب العامّة. واضح أنّ الترديد هنا - كما لاحظنا في حمله الظاهر على محمل الندب. وتفصيله للآخر بين الكراهة وبين التقيّة، لا يجيء لصالح الكراهة بل التقيّة؛ لأنّ التعليل الذي قدّمه وهو: أنّ التفصيل هو مذهب العامّة، يفصح عن تفضيله للتقيّة، كما هو واضح؛ لذلك لا معنى لحمله على الكراهة، وهذا ما يسجّل على المؤلّف.

المهم: أنّ الخطوات التي قطعها المؤلّف في تعامله مع ( الحمل على الاستحباب ) يمارسها أيضاً في تعامله مع الحمل على الكراهة - كما لاحظنا ذلك - ومنها: ظاهرة ( التحفّظ ) أو الرفض لما يحتمله فقيه آخر في ممارساته، ومنهم: المقدّس الأردبيلي، في حمله على الكراهة في بعض مسائل الربا، وهي مسألة أنّ المواد

١١١

الأصلية والمتفرّعة من الشيء تتماثل حرمة الربا فيها، كالدقيق والسويق مثلاً، ومطلق ما هو أصل وفرعي، حيث استدلّ عليها بالأخبار مقابل أخبار معارضة، حيث حملها الأردبيلي على الكراهة، فقال: ( بحمل الأخبار المذكورة على الكراهة )، هنا عقّب المؤلّف على الحمل المذكور وسواه، بأنّ المراد ليست جميعاً محكومة بهذه السمة؛ لأنّ الحليب ومتنوّعاته مثلاً ليست كالدقيق والسويق؛ لذلك فإنّ الأظهر التفصيل بين المادتين... إلى آخره، وبذلك يكون المؤلّف قد رفض ذلك الحمل ( أي الكراهة ).

المهم: نكتفي بما ذكرناه من الظواهر المتّصلة بحمل أحد المتضاربين من الأخبار على الكراهة أو الندب، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.

* * *

أمّا الآن فنتّجه إلى حلّ آخر للتضارب الظاهري بين الأخبار، وهو الحمل المؤدّي بالتأليف بينها من خلال حمل المطلق والعام، والمجمل على المقيد، والخاص والمفصّل، وهو باب واسع من الأبواب البحثيّة التي يتوفّر الفقهاء عليها.

إذن: لنلاحظ تعامل السيّد اليزدي مع أمثلة هذه المحامل... طبيعياًَ، أنّ الحمل على المقيد والخاص والمبيّن، بالنسبة إلى الخبر المطلق والعام والمجمل، يختلف عن الحمل السابق، أي الندب أو الكراهة، من حيث إنّهما ( يفاضلان ) بين خبر على آخر، بينما نجد محامل المقيّد والخاص والمبيّن، تقوم على إلقاء الإضاءة من أحدهما على الآخر، حيث إنّ المقيّد يلقي بإنارته على المطلق، وهكذا سواه، فيتمّ التأليف بين المتضاربين على مستوى الدمج بين الروايتين، وليس الفصل بين فاضل ومفضول ( كما هو شأن الحمل على الندب أو الكراهة )...

المهم: يجدر بنا أن نستشهد ببعض الممارسات لدى السيّد اليزدي في هذا الميدان... ومنها، مثلاً: في ميدان الحمل البسيط للعام على الخاص، ذهابه ( وهو يناقش الأنصاري في مكاسبه ) بالنسبة إلى الأحكام المتّصلة بالأرض من حيث صلتها - حالة الفتح - بإذن الإمام (عليه السلام) أو عدمه، مستشهداً برواية ( خاصّة ) لابن وهب تذهب إلى أنّ الأرض المفتوحة إذا كانت بإذنه (عليه السلام) يأخذ الإمام (عليه السلام) الخمس، ويأخذ المقاتلون نصيبهم منه، و... ويعلّق على الرواية بقوله: ( فهي صالحة لتخصيص الآية ) أي آية الخمس:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ... ) وأمّا في ميدان الممارسة

١١٢

المركّبة، فيمكننا ملاحظة ذلك في الممارسة الآتية التي يتوكّأ المؤلّف فيها على حمل المطلق على المقيّد، والمجمل على المفصّل، وهو يرتبط بعدّة المرأة التي فُقد زوجها، يقول السيّد اليزدي بعد نقله للأقوال، وإشارته إلى اختلاف الأقوال من أنّها راجعة إلى اختلاف الأخبار ذاتها، قائلاً: ( والحاصل أنّه يحمل المطلق منها على المقيّد، والمجمل على المفصّل فيصير الحاصل أنّ عند انقطاع خبره... ) إلى آخره. وهذا أُنموذج واضح لعمليّات التأليف بين النصوص، وتتميّز هذه الممارسة بأنّها تجمع بين أخبار متضاربة متنوّعة، وليس بين طائفتين فحسب؛ لذلك تجسّد ممارسة مركّبة وليس بسيطة لعملية التأليف بين النصوص، فهو يقول تعقيباً على طوائف الأخبار التي أوردها:

( إنّ مقتضى الجمع بين الأخبار المذكورة لزوم الطلاق بتقييد خبر سماعة بسائر الأخبار، ولزوم كون العدّة عدّة وفاة بتقييد أخبار الطلاق بخبر سماعة والمرسل، ولزوم رفع الأمر إلى الحاكم وكون ضرب الأجل بتعيينه، وكون ابتداء الأجل من حين ضربه، بتقييد خبر الحلبي وخبر أبي الصباح بخبر بريد وخبر سماعة ).

إنّ هذه الممارسة التي سمّيناها ( بالحمل المركّب ) مقابل الحمل المفرد أو البسيط الذي يحمل خبراً مطلقاً على خبر مقيّد، أو عامّاً على الخاصّ، أو المجمل على المفصّل؛ يكشف لنا عن براعة السيّد اليزدي في تأليفه الموفّق بين نصوص متضاربة.

هنا يحسن بنا أن نقدّم نموذجاً مفرداً بسيطاً لملاحظة ما قلناه من أنّ الحمل الذي يتوكّأ على إضاءة خبرين متضاربين بخبر ثالث، حيث يمكننا أن نستشهد بالممارسة الآتية، وهي: تأليف السيّد اليزدي بين نصّين متضاربين، يؤيّد أحدهما بأنّ المؤلّف بينهما من خلال الإشارة إلى نصٍّ ثالث وهو مرسلة ابن عمير، التي رسمت الفارق بين المرأة القرشية، وحدّدها بالستين، والعاميّة: وحدّدها بالخمسين.

المهم: أنّ أمثلة هذه التأليفات بين النصوص من خلال إلقاء أحدهما الإنارة على الآخر تقتادنا إلى أمثلة أُخرى، منها: ما يطلق عليه مصطلح ( الحكومة ) و( الورود )، حيث يعني الأوّل منهما أن تكون الرواية ( الحاكمة ) قبالة الأُخرى، محدّدة لموضوعها، والرواية ( الواردة ) رافعة للموضوع. وهذان المصطلحان يندر التوكّؤ عليهما في الممارسات الفقهيّة، حيث يردان على استحياء على ألسنة بعض الفقهاء، ويمكننا بالنسبة

١١٣

إلى ( الحكومة ) ملاحظة ما سبق أن استشهدنا به في ممارسته المرتبطة بالأرض المفتوحة بإذن المعصوم (عليه السلام)، أو عدمه، حيث يعقّب - بعد تخصيصه عموم الآية - باحتمال آخر هو ( حكومة ) الرواية المتحدثة عن إذن الإمام (عليه السلام) وعدمه، بالقول: ( بل يمكن دعوى حكومتها على العمومات الدالّة على كون ما أُخذت عنوة للمسلمين )...

* * *

تبتغي الإشارة سلفاً إلى أنّ التعادل التام يضؤل حصوله بالقياس إلى الأرجحية لخبر - دون مقابله: كالأرجحية - كما هو معروف - بأحد الوجوه المشار إليها.. وإذا كان ثمّة تفاوت لاحظناه بين الفقهاء بالنسبة إلى أرجحيّة أحد المرجّحات، في حالة عدم التعادل، فإنّ نظرات الفقهاء تتفاوت بدورها بالنسبة إلى التعادل بين طرفي المتضاربين، حيث يذهب بعضهم إلى التساقط، والآخر إلى التخيير... إلى آخره.

ويلاحظ أنّ السيّد اليزدي كما ذكر ذلك في كتابه الأُصولي - وكما لاحظناه في نص ممارساته التطبيقية - يجنح إلى ( التخيير )، ولكن بما أنّ التعادل - كما قلنا - يضؤل حصوله بالقياس إلى عدم التعادل، حينئذٍ فإنّ المهم هو: أن نتّجه إلى هذا الجانب من ممارسات السيّد اليزدي.

فماذا نستخلص؟

* * *

كما قلنا: السيّد اليزدي لا يُرجّح مرجّحاً على آخر إلاّ ما يتطلّبه السياق، حيث لا ترتيب بين المرجّحات.. هذا من جانب.. ومن جانبٍ آخر: يجدر بنا ملاحظة أي المرجِّحات يتكاثر على سواه في ممارساته.. حيث يبدو أنّ ( مخالفة العامّة ) و( الأشهرية ) يطغيان على المرجحين الآخرين: الأوثقية، والموافقة، مع تحفظنا على ما استخلصه من ( الأشهرية ) من الفتوى أو الرواية أو كلتيهما...

أمّا سبب ندرة الترجيح بموافقة الكتاب، فلأنّ الكتاب الكريم أساساًَ لا يتضمن جميع الأحكام وتفصيلاتها حتى يركن إليه في كل حادثة وهذا ما يتماثل فيه تناول السيّد اليزدي سواه... ولكن بالنسبة إلى ضئالة الترجيح بالأوثقية، فثمّة تفاوت بين السيّد اليزدي - ويشاركه آخرون كثيرون - بين آخرين من حيث التشدّد في السند وعدمه، ومن

١١٤

حيث الارتكان إلى مرجّح ( الشهرة ) أو عدمه، حيث يعدّ اليزدي من النمط الذي يُعنى بالشهرة في الفتوى غالباً - كما سنلاحظ - ويتوكّأ عليها كثيراً في ممارساته، ولا يُعنى بالأوثقيّة إلاّ في الدرجة الثانية، كما أنّ تعامله مع ( الأكثرية ) - الشهرة في الخبر - يشكّل في الدرجة الأدنى: مع أنّه يستخدمها - أي مرجّح الأوثقية والأكثرية - في سياقات خاصّة، ومنها: ما يتّصل بالاحتياط مثلاً، أو حتى في سياق سواه إذا كان اليزدي مناقشاً بالتفصيل أقوال الآخرين في المسألة، حيث يجعل من الأكثرية والأوثقية مرجّحاً ( مؤيّداً ) وحتى ( أصلياً ) في حالة عدم حصوله على مرجّح الأشهريّة أو المخالفة.

* * *

ما تقدّم، يجسّد ملاحظات على الممارسة الفقهيّة الخاصّة بالتعامل مع الأخبار المتضاربة ظاهرياً، حيث يتّجه الفقيه إلى الجمع الدلالي ما وجد إلى ذلك سبيلاً. أمّا الآن فيمكننا ملاحظة الممارسات الخاصّة بالتعامل مع الأخبار المتضاربة باطنياً أو داخلياً، حيث يتعادل المتضاربان المتضادان في خصائصهما الخبرية، بحيث لا يترجّح طرف على آخر، أو يترجّح أحدهما على الآخر، بخصّيصة أو أكثر، وهذا ما يشكّل - كما أشرنا - غالبية الممارسات الفقهيّة، بخاصّة: أن النصوص الشرعيّة كما هو واضح، رسمت للفقيه طرائق العلاج للخبرين المتضاربين المتضادين، عبر نصوص متنوّعة تتحدث حيناً عن المتكافئين، فترسم له حلولاً للتخيير أو التوقّف.. وترسم حلولاً للراجح منهما من خلال: الأوثقية والأشهرية، ومخالفة العامّة، وموافقة الكتاب؟.. وهذا ما يتوفّر الفقهاء عليه بطبيعة الحال، إلاّ أنّ التفاوت في وجهات النظر من حيث الأرجحية لأحد المرجّحات فيما بينها، فيما ذهب بعضهم إلى ترتيب خاص ورد في النص، وذهب البعض الآخر إلى عدم الترتيب، ومن ثمّ فإنّ الغالبية من الفقهاء تذهب إلى الرأي الثاني، بحيث تُقرّ أنّ الفقيه بحسب ما يراه السياقات المتنوّعة التي يرد فيها الخبران المتضاربان، حيث يتحرك بحسب خبرته الذوقية للنصوص، فربّما يبدأ بترجيح الأوثقية، أو الأشهرية، أو المخالفة، أو الموافقة.. وهذا في تصوّرنا هو الموقف الصائب؛ لسبب واضح وبسيط جداً هو: أنّ الأخبار العلاجية لا تقف عند نصيّ ابن حنظلة وزرارة اللذين ورد فيهما ترتيب خاص، بل ثَمّة نصوص متنوّعة أُخرى، لا تردّ فيها سلسلة المرجّحات المذكورة في الروايتين المذكورتين كالاقتصار مثلاً على

١١٥

مخالفة العامّة، أو غيرها من المرجّحات، ممّا يكشف ذلك من أنّ الأولوية لمرجّح دون آخر، في الحالات جميعاً، لا يمكن أن يكون صائباً..

وبالنسبة إلى السيّد اليزدي، نجده يذهب إلى الاتجاه ذاته من خلال كتابه الأُصولي الكبير ( التعارض ) حيث بحث ذلك نظرياً، من خلال ممارساته الفقهية، كما بحث ذلك تطبيقيّاً وهذه - أي البحوث التطبيقيّة - هو: ما نعتمد عليه الآن في ملاحظاتنا على ممارسة اليزدي، وأمّا كتابه النظري البالغ (600 ) صفحة فلا شغل لنا به لكونه ( نظرية ) وليس ( تطبيقاً ذا ثمرة عملية ).

إذن: لنتحدث عن هذا الجانب، أي: تعامل السيّد اليزدي مع ظاهرة ( التقيّة ) في الغالب مع ضم مرجّح آخر، كما يتعامل على مستوى الاحتمال حيالها، ويتعامل ثالثة مع التردّد حيالها، ويتعامل رابعة: مع رفضٍ لها عند مناقشته الآراء الفقهيّة... وأخيراً: يتعامل مع التقية عبر حالتين، إحداهما غير مشفوعة بالتعليل، بل لمجرّد مخالفة الخبر الذي يرجّحه لفتوى العامّة، والأُخرى يشفعها بقرينة أو بأكثر ويبرع فيها غالباً..

ونستشهد بنماذج في هذا الميدان؛ منها:

- فيما يرتبط بتعامله مع ( التقيّة ) مشفوعة بمرجّح آخر، ينتخبه غالباً من خلال ( الخبر الشاذ ) حيث إنّ إيمانه بالشهرة يدفعه إلى الثقة في رفض مقابله وهو: الشذوذ، وهذا ما نلحظه - مثلاً - في ممارسة تتّصل بعدّة الأمَة، حيث ينقل طائفتين وأقوالاً حيال ذلك، حيث رفض خبراً عمل به ابن الجنيد، ويعقّب على الرواية قائلاً: ( شاذّة، محمولة على التقيّة، فلا وجه للعمل بها كما عند ابن الجنيد... ).

- وأيضاً نلاحظ ممارسة أُخرى يحمل خلالها الرواية على التقيّة، مشفوعة بشذوذها، وهي تتّصل بعدّة المتمتَّع بها، والمتوفَّى عنها زوجها، حيث يرفض خبراً يقول بعدم العدّة في حالة عدم الممارسة، قائلاً: ( فلا عامل به، ومحمول على التقيّة ).

إلاّ أنّ السيّد اليزدي هنا يشفع حمل الرواية على التقيّة بتعليل يُستخلص من رواية أُخرى، وهو أمر يضفي الأهميّة على هذا الحمل، يقول: ( كما يظهر من خبر عبيد، عن زرارة، عن رجل طلّق امرأته قبل أن يدخل بها، أعليها عدّة، قال: لا، قلت: المتوفّى عنها زوجها قبل أن يدخل عليها، قال: أمسك عن هذا، وفي خبر ( كفّ عن هذا ).. حيث إنّ التقيّة من الوضوح فيها بمكان كما قلنا: أمثلة هذا الاستخلاص يكشف عن البراعة

١١٦

في الممارسة الفقهيّة.

وإذا كان السيّد اليزدي في هذه الممارسة الفقهيّة يستخلص ( لغة التقيّة )، فإنّه في ممارسات أُخرى يكتفي - كما أشرنا - بمجرّد المخالفة، ولكنّه حيناً يصرّح بتوجيه ذلك من خلال السياق الذي ترد فيه فتوى العامّة، حيث نعرف بأنّ الأزمنة والأمكنة تتفاوت - من حيث حكّامها وفقهائهم وقضاتهم - فتتكيّف ( التقيّة ) تبعاً للسياق ذاته، فمن ذلك مثلاً: ما يجسّد فتاوى بعض من العامّة بالنسبة إلى عدّة الأمَة المتوفّى عنها زوجها، من حيث تضارب الأخبار حيث يعقّب: و( الأقوى الأوّل لأرجحيّة أخباره بموافقتها لعموم الكتاب ومخالفتها للعامّة؛ لأنّ مذهب جماعة منهم على التفصيل كما ذكر )... فهذا التعقيب الأخير يفصح بوضوح عمّا ذكرناه من أنّ السياقات المختلفة للموضوع تفرض أمثلة هذا الموقف.

ومع أنّ هذه الممارسة ذكرت إلى جانب مرجّح ( المخالفة ): مرجح الموافقة للكتاب، إلاّ أنّنا استهدفنا بمجرّد الاستشهاد بنماذج من ممارسات اليزدي بالنسبة إلى التعامل مع التقيّة وسياقاتها.

وهذا يقتادنا إلى مستوى آخر من الممارسة، هو - ما ألمحنا قبل سطورٍ إليه - ضمّ المرجّحات الأُخرى إلى مرجّح التقيّة، حيث لاحظنا خلال النماذج المتقدّمة، ضمّ الشهرة إليها، وضم الموافقة للكتاب، وسنرى عند حديثنا عن الحصيلة العامّة لممارسات السيّد اليزدي، من حيث توفّره حيناً على المسألة من وجوه شتّى، بحيث يستخدم أدوات الاستدلال الرئيسية والثانوية وكلّ ما وسعه من الأدلّة في ظاهرة واحدة، لكن حسبنا أن نشير الآن إلى ما يرتبط بموضوعنا وهو ( التقيّة ) بضم الأدلّة المتنوّعة للظاهرة التي يستهدف استخلاص الحكم من خلالها، ولكنّنا نؤجّل الحديث عن ذلك إلى فقرة أُخرى من بحثنا... لكن إذا كانت هذه المستويات من الحمل على التقيّد تجسّد مبنى هو: ( الضمّ )، فإنّ المبنى الآخر يجسّد ( احتمالاً ) فيها: أي الحمل على التقيّة، وهو أمر نلحظه بوضوح في ممارسات متنوّعة، ومنها: الممارسة الآتية التي تتضمّن ما لاحظناه في الممارستين السابقتين، من استخلاص التقيّة من خلال الإشارة إلى رواية أو قول يشكّلان قرينةً على ذلك، ففي الممارسة الآتية نلحظ الظاهرة ذاتها، مع مستوى آخر من مستويات الحمل على التقيّة هو: التردّد بين اثنين من المحامل أو

١١٧

أكثر، وهذا من نحو ما ورد في موضوع الربا من مناقشة جاء فيها التعقيب الآتي: ( فتحمل على الكراهة في النسيئة، أو على التقيّة... )، فهنا ( تردّد ) بين حملين، بينما لاحظنا في النصوص السابقة ( جمعاً من المحامل أو ضمّ بعضها إلى الآخر... )

ونتّجه إلى مستوى آخر من الممارسات، ومنها:

ثَمّة مستوى يتعامل مع التقيّة من خلال ( الاحتمال ) وهو مبنىً لاحظناه عند المؤلّف في تعامله مع الجمع الدلالي للنصوص، والمهم: يمكننا أن نستشهد بنموذج هنا، هو: ممارسته المتّصلة بباب الربا في أحد موضوعاته: ( فتناسب حملها على الكراهة، ويمكن حملها على التقيّة؛ لأن المنع مذهب العامّة... ).

إذن: لاحظنا أنّ مستويات التعامل مع ( التقيّة ) تظل متفاوتة من ممارسة أُخرى على النحو الذي تقدّم الحديث عنه.

ويمكننا أن ننتقل إلى مستوى آخر من تعامله مع التقيّة، وهو: أرجحيّة الخبرين كليهما، أحدهما على الأُخرى من خلال ( التقيّة )، مع كون الترجّح الآخر: احتمالياً، وهذا ما نلاحظه في ممارسة سبق أن استشهدنا بها، عندما قلنا أنّه يعللّ في قسم من ترجيحه لمخالفته العامّة، بالإشارة إلى أنّ قسماً من العامّة تتوافق فتاواه مع الخبر؛ فلذلك رفضه من خلال الحمل على التقيّة، ولكنّه من جانب آخر احتمل ( التقيّة ) أيضاً؛ لأنّ البعض الآخر من العامّة تتوافق فتاواه مع الخبر الذي رجّحه المؤلّف، وبهذا نستخلص نمطاً آخر من التعامل، حيث يمكننا أن نقول: إنّ قيمة هذه الممارسة تتحدّد بقدر ما يحمل ( الاحتمال ) من درجة...

لكن ينبغي ألاّ نغفل عن ملاحظة مستوى آخر هو: رفضه للحمل على التقيّة في بعض ممارسات الفقهاء، وهو أمر تجدر الإشارة إليه، بل لابدّ من الاستشهاد ببعض النماذج لملاحظة المسوّغات التي تدفعه إلى الرفض، بخاصّة أنّنا شاهدنا غالبية نماذجه يقرنها بما يتناسب مع الحمل المذكور، كالإشارة إلى أنّ ( المنع ) مذهب بعض العامّة، وأنّ التفصيل في العدّة على مذهب بعضهم، وأنّ الروايات ذاتها تتضمّن دلالة التقيّة... إلى آخره.

إذن: لنستشهد بما اعترض عليه من ممارسات الفقهاء بالنسبة إلى التقيّة... ومن ذلك:

١١٨

ما دام الحديث عن ( مخالفة العامّة ) يتداعى بالذهن إلى ملازمه وهو موافقة الكتاب، فإنّ الموقف يستلزم المرور عليه سريعاً؛ لأنّ الترجيح المذكور ذاته ( كما تمّت الإشارة إليه ) يظل محدوداً بمحدودية آيات الأحكام في القرآن... في نطاقات ما لاحظناه في ممارسات السيّد اليزدي، فإنّ الموافقة للكتاب تجيء لديه غالباً مقترنة بمرجّحٍ آخر: كمخالفة العامّة ذاتها، أو مقترنة بموافقة السنّة، حيث إنّ الأخبار العلاجية - كما هو معروف - تشير إلى المرجّح المذكور من خلال كونه سنّة قطعيّة بالقياس إلى ما يخالفها.

والمهم: يمكننا أن نستشهد بأمثلة هذه النماذج في ضوء استشهادنا ببعضها في فقرات سابقة من هذا البحث، ومنها:

ما يتصل بالخلاف الروائي في عدّة الأمَة المتوفّى زوجها، حيث رجّح المؤلّف العدّة المتمثلة في الأربعة أشهر وعشرة أيام، مقابل الخمسة والستّين يوماً، فيما عقب - كما لاحظنا سابقاً - قائلاً: ( الأقوى: القول الأوّل لأرجحيّة أخباره بموافقة الكتاب... و... ).

والأمر نفسه تمكّننا ملاحظته إلى ما سبقت الإشارة إليه، وهي الممارسة المتّصلة التي جمعت بين ترجيحات متنوّعة ملفتة للنظر حقّاً، ونعني بها: الممارسة التي تحدثت بالنسبة إلى موضوع ( منجّزات المريض ) وصلتها بما هو محظور أو مباح من التصرّفات، حيث رجّح أحد طرفي المسألة بجمّلة مرجّحات، ومنها المرجّح الآتي الذي يطلق عليه ( المرجّح المضموني ) متمثّلاً في موافقة الكتاب، حيث يقول بعد أن يتحدث عن المرجّحات الأُخرى: ( وأمّا من حيث المضمون فلتأيّدها - أي الأخبار التي رجّحها المؤلّف - بالقاعدة القطعية المستفادة من الكتاب و... ).

وإذا كان اليزدي في الممارستين السابقتين يجمع إلى الكتاب مرجّحات أُخرى، فإنّه في الممارسة الآتية يكتفي بمرجّح الكتاب، ولكن مع تحفّظ في الدلالات المستخلصة من النص القرآني الموافق لأحد طرفي الأخبار، يقول المؤلّف معقِّباً على رواية تسمح للزوجين بأن يرجع على الآخر في ( الهبة )، مقابل ما ذهب المؤلّف إليه من عدم جواز ذلك، تبعاً لنصوص تقرّر ذلك، ومنها: رواية صحيحة مقابل الصحيحة المانعة، يقول: ( ولكنّه - أي خبر صحيح - لا يقاوم الصحيحة السابقة ). بعد ذلك يحتمل

١١٩

دلالة خاصّة، ويضيف: ( مع أنّ الصحيحة موافقة للكتاب بناءاً على أنّ المراد بـ( ما آَتَيْتُمُوهُنَّ... ) أعم من الصدقة والهبة... ).

* * *

ولعلّ الترجيح بمصطلح ( الشهرة ) يظل من أكثر الترجيحات خلافاً بين الفقهاء، حيث فهم بعض منهم أنّ المقصود من ذلك: الشهرة الروائية، وفهم البعض الآخر: الشهرة في الفتوى بنمطيها: الفتوى المستندة إلى نص، وغير المستندة، ممّا يطلق عليها: الشهرة العملية في اصطلاح المعنيّين بهذا الشأن.

بَيْدَ أنّ الشهرة في الرواية تظل - هي الأكثر احتمالاً من غيرها، أو لنقل: إنّ الشهرتين الأُخريين: الفتوائية والعملية من الممكن أن تندرج ضمن مصطلح ( الشهرة )، وهو المصطلح الذي ورد في الأخبار العلاجية مثل: ( ما اشتهر )، ( المُجمع عليه )... إلى آخره، حيث إنّ الأمر بالمشهور أو المُجمع عليه بن الأصحاب هو: الراجح على الخبر الآخر...

وسبب الذهاب إلى أنّ الشهرة في الرواية تتصدّر الاحتمال هو: أنّ زمن المعصومين (عليهم السلام) لم يكن زمن ( فقهاء مجتهدين ) - كما هو في عصر الغيبة، بل زمن ( رواة ) عن المعصومين (عليهم السلام)، حيث إنّ الراوي يسمع من المعصوم (عليه السلام) كلاماً، فيسجّله أو ينقله إلى الآخرين، فيكون الكلام المنقول هو المادة التي يتوكّأ عليها المعنيّون بهذا الشأن... وبكلمة أكثر وضوحاً: إنّ ( الفتوى ) عصرئذٍ على ( متن ) الرواية، وليس اجتهاداً بالمعنى الاصطلاحي...

صحيح، أنّ بعض المبادئ أو القواعد الفقهيّة قد نثرها المعصوم (عليه السلام) أمام الراوي، كأن يأمر (عليه السلام) أحدهم بأن يجلس في المسجد ويفتي الناس، أو يخاطب أحدهم بأنّ علينا الأُصول وعليكم الفروع، أو يقرّر لأحدهم قاعدة نفي الحرج وأمثالها، وصحيح أنّ بعض الرواة كتب دراسة عن الأًُصول اللفظية: كما ينقل المؤرِّخون، إلاّ أنّ ذلك جميعاً لا يشكّل مبادئ نظرية كاملة، يعتمد عليه الأصحاب في استخلاص الحكم الشرعي...

وفي ضوء هذه الحقائق، يجيء الحديث عن ( الشهرة ) أو بحسب ما ورد من التعبير ( ما اشتهر ) أو ( المُجمع عليه )، منسحباً على المعنى المذكور، وهو: الفتوى على متن الرواية التي يتناقلها الأصحاب عن المعصوم (عليه السلام).. وليس الفتوى الاجتهادية،

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

تفريقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضِ الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا، ثمّ عدوا علينا يقاتلونا» (١) .

ورمى الغلامَ حرملةُ بن كاهل بسهم فذبحه، وهو في حجر عمّه(٢) .

وبقي الحسينعليه‌السلام مطروحاً مليّاً ولَو شاؤوا أنْ يقتلوه لفعلوا، إلاّ أنّ كلّ قبيلة تتّكل على غيرها وتكره الإقدام(٣) .

وأصـبح مـشتجراً لـلرماح

تـحلّي الـدّما مـنه مـرّانها

عـفيراً مـتى عاينته الكماة

يـختطف الـرّعب ألـوانها

فـما أجلت الحرب عن مثله

صـريعاً يـجبّن شـجعانها

تـريب الـمحيا تـظنّ السما

بـأنّ عـلى الأرض كيوانها

غريباً أرى يا غريب الطّفوف

تـوسـد خـدّيـك كـثبانها

وقـتلك صـبراً بـأيدٍ أبوك

ثـنـاها وكـسّـر أوثـانها

أتقضي فداك حشا العالمين

خـميص الحشاشة ظمآنها(٤)

فصاح الشمر: ما وقوفكم؟ وما تنتظرون بالرجل، وقد أثخنته السّهام والرماح؟ احملوا عليه(٥) .

وآ أسـفـاه حـمـلوا عـليه

مـن كـلّ جـانب أتوا إإليه

قـد ضـربوا عاتقه المطهّرا

بضربةٍ كبا لها على الثرى(٦)

وضربه زرعة بن شريك على كتفه الأيسر، ورماه الحصين في حلقه(٧) ، وضربه آخر على عاتقه، وطعنه سنان بن أنس في ترقوته، ثمّ في بواني صدره، ثمّ رماه بسهم في نحره(٨) ، وطعنه صالح بن وهب في جنبه(٩) .

____________________________

(١) الطبري ٦ / ٢٥٩، ومثير الأحزان / ٣٨، واللهوف / ٦٨.

(٢) مثير الأحزان / ٣٩، واللهوف / ٦٨.

(٣) الاخبار الطوال / ٢٥٥، والخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٨.

(٤) من قصيدة للسيد حيدر الحلّيرحمه‌الله .

(٥) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٥، و مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٢.

(٦) المقبولة الحسنية / ٥٦، للحجة الشيخ هادي كاشف الغطاء.

(٧) الاتحاف بحبّ الأشراف / ١٦.

(٨) اللهوف / ٧٠.

(٩) مقتل العوالم / ١١٠، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٣٥.

٢٨١

قال هلال بن نافع كنت واقفاً نحو الحسين وهو يجود بنفسه، فوالله ما رأيت قتيلاً قطّ مضمّخاً بدمه أحسن منه وجهاً ولا أنور، ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله. فاستقى في هذه الحال ماء فأبوا ان يسقوه.

وقال له رجل: لا تذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها. فقالعليه‌السلام :«أنا أرد الحامية؟! وإنّما أرد على جدّي رسول الله وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر وأشكو إليه ما ارتكبتم منّي وفعلتم بي». فغضبوا بأجمعهم حتّى كأنّ الله لَم يجعل في قلب أحدهم من الرحمة شيئاً(١) .

فـلو أنَّ أحمد قد رآك على الثرى

لـفرشنَ مـنه لـجسمك الاحشاء

أو بالطّفوف رأت ظماك سقتك من

مــاء الـمدامع اُمّـك الـزهراء

يـا لـيت لا عذب الفرات لوارد

وقـلـوب ابـناء الـنبيِّ ظـماء

كـم حـرّة نـهب الـعدى أبياتها

وتـقـاسمت أحـشـاءها الأرزاء

تـعدو فـان عـادت عليها بالعدى

عـدو الـعوادي الـجرد والأعداء

هـتـفت تـثير كـفيلَها وكـفيلُها

قد ارمضته في الثرى الرمضاء(٢)

الدعاء

ولمّا اشتدّ به الحال رفع طرفه إلى السّماء وقال:«اللهمّ متعال المكان عظيم الجبروت، شديد المحال غني عن الخلائق، عريض الكبرياء قادر على ما تشاء، قريب الرحمة صادق الوعد سابغ النعمة، حسن البلاء قريب إذا دُعيت محيط بما خَلقت، قابل التوبة لمَن تاب إليك، قادر على ما أردت تدرك ما طلبت، شكور إذا شُكرت ذكور إذا ذُكرت، أدعوك محتاجاً وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً وأبكي مكروباً، واستعين بك ضعيفاً وأتوكّل عليك كافياً، اللهمّ احكم بيننا وبين قومنا فإنّهم غرّونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيّك وولد حبيبك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرَجاً ومخرجاً، يا أرحم الراحمين» (٣) .

____________________________

(١) ابن نما / ٣٩.

(٢) من قصيدة لحجة الإسلام الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.

(٣) مصباح المتهجد والاقبال وعنهما في مزار البحار / ١٠٧، باب زيارته يوم ولادته.

٢٨٢

«صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك يا غياث المستغيثين (١) ،مالي ربّ سواك ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك، يا غياث مَن لا غياث له يا دائماً لا نفاد له، يا محيي الموتى، يا قائماً على كلّ نفس بما كسبت، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين» (٢) .

فـإنْ يـكُ إسـماعيل أسـلم نـفسه

إلى الذّبح في حجر الذي هو راحمه

فـعـاد ذبـيح الله حـقاً ولـم تـكن

تـصافحه بـيض الـظّبي وتـسالمه

فـان حـسيناً أسـلم الـنفس صابراً

عـلى الذبح في سيف الذي هو ظالمه

ومـن دون ديـن الله جـاد بـنفسه

وكـلّ نـفيس كـي تُـشاد دعـائمه

ورضَّـت قـراه الـعاديات وصدره

وسيقت على عجف المطايا كرائمه(٣)

الجواد

وأقبل الفرس يدور حوله ويلطّخ ناصيته بدمه(٤) فصاح ابن سعد: دونكم الفرس؛ فإنّه من جياد خيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فأحاطت به الخيل، فجعل يرمح برجلَيه حتّى قتل أربعين رجلاً وعشرة أفراس. فقال ابن سعد: دعوه لننظر ما يصنع. فلمّا أمِن الطلب أقبل نحو الحسينعليه‌السلام يمرّغ ناصيته بدمه ويشمّه ويصهل صهيلاً عالياً(٥) ، قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام :«كان يقول: الظليمة، الظليمة، من اُمّة قتلتْ ابن بنت نبيّها» . وتوجّه نحو المخيّم بذلك الصهيل(٦) ، فلمّا نظرن النّساء إلى الجواد مخزياً والسّرج عليه ملويّا خرجن من الخدور ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات وللوجوه سافرات، وبالعويل داعيات، وبعد العزّ مذللات، وإلى مصرع الحسينعليه‌السلام مبادرات(٧) .

فـواحـدة تـحنو عـليه تـضمّه

واُخـرى عـليهِ بـالرداء تـظلّل

____________________________

(١) أسرار الشهادة / ٤٢٣.

(٢) رياض المصائب / ٣٣.

(٣) من قصيدة للعلامة الشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر.

(٤) أمالي الصدوق / ٩٨، المجلس الثلاثون، ومقتل الخوارزمي / ٣٧، وتظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٢٨.

(٥) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٢٩، والبحار ١٠ / ٢٠٥.

(٦) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٧.

(٧) زيارة النّاحية المقدسة.

٢٨٣

واُخرى بفيض النّحر تصبغ وجهها

واُخـرى تـفدّيه واُخـرى تـقبّل

واُخـرى عـلى خوفٍ تلوذ بجنبه

واُخرى لِما قد نالها ليس تعقل(١)

ونادت اُم كلثوم زينب العقيلة: وآ محمداه! وآ أبتاه! وآ علياه! وآ جعفراه! وآ حمزتاه! هذا حسين بالعراء صريع بكربلاء(٢) . ثمّ نادت: ليت السّماء اُطبقت على الأرض(٣) ! وليت الجبال تدكدكت على السّهل(٤) ! وانتهت نحو الحسينعليه‌السلام وقد دنا منه عمر بن سعد في جماعة من أصحابه، والحسين يجود بنفسه. فصاحت: أي عمر، أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فصرف بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته(٥) . فقالت: ويحكم أما فيكم مسلم؟! فلَم يُجبها أحد(٦) . ثمّ صاح ابن سعد بالنّاس: انزلوا إليه وأريحوه. فبدر إليه شمر فرفسه برجله، وجلس على صدره وقبض على شيبته المقدّسة وضربه بالسّيف اثنتى عشرة ضربة(٧) واحتزّ رأسه المقدّس.

سلبه

وأقبل القوم على سلبه؛ فأخذ إسحاق بن حوية قميصه، وأخذ الأخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي عمامته، وأخذ الأسود بن خالد نعلَيه، وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأودي، ويقال رجل من بني تميم اسمه الأسود بن حنظلة.

وجاء بجدل فرأى الخاتم في إصبعه والدماء عليه فقطع اصبعه وأخذ الخاتم، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته(٨) ، وكان يجلس عليها فسمّي قيس قطيفة(٩) ، وأخذ ثوبه الخلق جعونة بن حوية الحضرمي، وأخذ القوس والحلل الرحيل بن

____________________________

(١) من قصيدة للحاج هاشم الكعبي.

(٢) البحار ١٠ / ٢٠٦، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٧.

(٣) الطبري ٦ / ٢٥٩.

(٤) اللهوف / ٧٣.

(٥) كامل ابن الأثير ٤ / ٣٢، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٥٩ الطبعة الاُولى.

(٦) الإرشاد.

(٧) مقتل العوالم / ١٠٠، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٣٦ وما بعدها.

(٨) اللهوف / ٧٣.

(٩) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٨، وكامل ابن الأثير ٤ / ٣٢.

٢٨٤

خيثمة الجعفي وهاني بن شبيب الحضرمي وجرير بن مسعود الحضرمي(١) ، وأراد رجل منهم أخذ تكّة سرواله - وكان لها قيمة - وذلك بعدما سلبه النّاس يقول: أردت أن أنزع التكّة فوضع يده اليمنى عليها فلم أقدر على رفعها فقطعتُ يمينه، فوضع يده اليسرى عليها فلم أقدر على رفعها فقطعتها، وهممتُ بنزع السّروال فسمعت زلزة، فخفتُ وتركته وغشي عليَّ، وفي هذه الحال رأيت النّبي وعلياً وفاطة والحسن، وفاطمة تقول:«يا بُني قتلوك؟! قتلهم الله، فقال لها: يا اُم قطع يدي هذا النائم». فدعت عليَّ وقالت:«قطع الله يديك ورجلَيك وأعمى بصرك وأدخلك النّار» . فذهب بصري وسقطت يداي ورجلاي فلم يبقَ من دعائها إلاّ النّار(٢) .

وآ صـريعاً عـالج الموت بلا

شــدّ لـحيين ولا مـدّ ردا

غـسّلوه بـدم الـطعن ومـا

كـفّنوه غـير بوغاء الثرى

قـتـلوه بـعد عـلمٍ مـنهُمُ

أنّـه خـامس أصحاب الكسا

يـا رسـول الله يـا فاطمة

يـا أمـير الؤمنين المرتضى

عـظّم الله لـك الأجـر بمن

كضّ أحشاه الظما حتّى قضى

ضـارباً فـي كـربلا خيمته

ثـم مـا خـيّم حتّى قوضّا

مـيتٌ تـبكي لـه فـاطمة

وأبـوها وعـليٌّ ذو الـعلا

لـو رسـول الله يـحيا بعده

قـعد الـيوم عـليه لـلعزا

حـملوا رأسـاً يُصلُّون على

جـده الأكـرم طـوعاً وإبا

يـتهادى بـينهم لـم ينقضوا

عـمم الـهام ولا حلّوا الحبا

يـا رسـول الله لـو عاينتهم

وهُـمُ مـا بـين قـتل وسبا

مـن رميضٍ يُمْنَع الظلَّ ومن

عـاطشٍ يُـسْقى انأبيب القنا

ومـسوق عـاثر يـسعى به

هاف محمول على غير وطا

لـرأت عـينك منهم منظراً

لـلحشا شـجواً وللعين قذى

لـيس هـذا لـرسول الله يا

اُمّـة الـطغيان والبغي جزا

جِزّروا حزر الاضاحي نسله

ثـم سـاقوا أهله سوق الاما

هـاتفات بـرسول الله فـي

بهر السير وعثرات الخطا(٣)

____________________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٤.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ / ١٠٢.

(٣) للشريف الرضي أعلى الله مقامه.

٢٨٥

٢٨٦

حوادث بعد الشهادة

« يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟ أفعجبتم أنْ مطرت السّماء دما! ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون! »

العقيلة ام كلثوم (زينب)

٢٨٧

٢٨٨

الليلة الحادية عشرة

يا لها من ليلة مرّت على بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! بعد ذلك العزّ الشامخ الذي لم يفارقهنّ منذ أوجد الله كيانهنّ، فلقد كنّ بالأمس في سرادق العظمة وأخيبة الجلالة تشعّ نهارها بشمس النبوّة ويضيء ليلها بكواكب الخلافة ومصابيح أنوار القداسة، وبقَين في هذه الليلة في حلك دامس من فقْدِ تلك الأنوار السّاطعة بين رحل منتهَب، وخباء محترِق، وفرق سائد، وحماة صرعى ولا محامٍ لهنّ ولا كفيل، لا يدرِين مَن يدفع عنهنّ إذا دهمهنّ داهم؟ ومَن الذي يرد عادية المرجفين؟ ومن يسكّن فورة الفاقدات ويخفّف من وجدهنّ؟ نعم، كان بينهنّ صراخ الصبية وأنين الفتيات ونشيج الوالهات، فاُمّ طفلٍ فطمته السّهام، وشقيق مستشهد، وفاقدة ولد، وباكية على حميم، وإلى جنبهنّ أشلاء مبضّعة وأعضاء مقطّعة ونحور دامية، وهنّ في فلاة من الأرض جرداء. وعلى مطلع الأكمة جحفل الغدر تهزّهم نشوة الفتح طيش الظفر ولؤم الغلبة. وعلى هذا كلّه لا يدرين بماذا يندلع لسان الصباح؟ وبماذا ترتفع عقيرة المنادي؟ أبالقتل أم بالأسر؟! ولا من يدفع عنهنّ غير الإمام العليل الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضرّاً، وهو على خطر من القتل!

ومـرضعةٍ هـبّت بـها لرضيعها

عـواطف اُمٍّ اثـكلت طفلها صبرا

رأت مـهده بـالحزن يـطفح بعده

وقـد كـان فيه قبل يطفح بالبشرى

وأثـقل ثـدييها مـن الدرّ خالص

عـلى طـفلها فـيه تـعودت الدرّا

فـخفت إلى مثوى الرضيع لعلّها

تـرى رمـقاً فـيه يـغذي بما درّا

فـلم تـرَ إلا جـثّةً فـوق مـذبح

بـها عـلق السهم الذي ذبح النحرا

فـحنّت و أحـنت فوقه من تعطف

أضـالعها ظـلاً تـقيه بـه الحرّا

وضـمّته مـذبوح الوريد لصدرها

ومن دمعه المسفوح خضّبت الصدرا

وودّت و مـن أوداجه تنضح الدما

لـو انّ بـذاك السّهم أوداجها تفرى

وأضـحت عـلى مثواه تفرغ قلبها

حـنيناً فـترثيه بما يفضل الشعرا

فـطوراً تـناغيه و طـوراً بـلهفة

تـعانق جـيداّ مـنه قد زيّن الدرّا

وتـعطف طـوراً فـوقه فـتشمّه

بـمنحره الـدامي و تـلثمه اُخرى

فـيا لـك مـن ثكلى بكت بزفيرها

وأدمعها الخنساء حين بكت صخرا

٢٨٩

ولـم يـبقَ مـنها وجدها وحنينها

سـوى قـفص للخلد طائره فرّا(١)

لقد عمَّ الاستياء في هذه الليلة عالَم المُلك والملكوت، وللحور في غرف الجنان صراخ وعويل، وللملائكة بين أطباق السّماوات نشيج ونحيب، وندبته الجنّ في مكانها(٢) .

يقول ابن أبي الحديد: بنى عبيد الله بن زياد بالبصرة أربعة مساجد، تقوم على بغض علي بن أبي طالبعليه‌السلام (٣) .

لـيس هذا لرسول الله يا

اُمة الطغيان و البغي جزا

لـو رسول الله يحيا بعده

قـعد الـيوم عليه للعزا

رأت رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمُ سلمة(٤) في المنام، أشعث مغبراً وعلى رأسه التراب، فقالت له: يا رسول الله ما لي أراك أشعث مغبراً؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«قُتل ولدي الحسين، وما زلتُ أحفر القبور له ولأصحابه» (٥) ، فانتبهتُ فزعة ونظرتُ إلى القارورة التي

____________________________

(١) من قصيدة في الحسين للعلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي.

(٢) اكام الجان للشيخ بدر الدين محمّد بن عبد الله الشبلي الحنفي: المتوفّى سنة ٧٦٩ صفحة ١٤٦، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤١، ومجمع الزوائد لابن حجر ٩ / ١٩٩، وتاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٣٩، والكواكب الدرية للمناوي ١ / ٥٦.

(٣) شرح النّهج لابن أبي الحديد ١ / ٣٨٦ الطبعة الاُلى مصر، وفي سفينة البحار ١ / ٦٠٢ الطبعة الحجر عن البحار ٨ / ٧٢٩.

(٤) قال ابن الأثير في الكامل ٣ / ٣٨: يستقيم هذا بناءً على وفاتها بعد الخمسين.

وفي الإصابة ٤ / ٤٦٠ بترجمتها عن ابن حيان: ماتت اُمّ سلمة سنة ٦١، وقال أبو نعيم: ماتت سنة ٦٢ وهي آخر اُمّهات المؤمنين، وعند الواقدي: ماتت سنة ٥٩.

وفي تهذيب الأسماء للنووي ٢ / ٣٦٢ عن أحمد بن أبي خيثمة: ماتت في ولاية يزيد بن معاوية.

وفي مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٧: توفّيت اُمّ سملة اُمّ المؤمنين سنة٦١، وابن كثير في البداية وان تبع الواقدي إلا أنّه قال الأحاديث المتقدّمة في مقتل الحسين تدلّ على أنّها عاشت إلى ما بعد مقتله.

وفي عمدة القاري للعيني شرح البخاري ١ / ٤٢٧ آخر بحث القنوت: إنّ اُمّ سلمة ماتت في شوّال سنة تسع وخمسين. وفي تهذيب تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤١: عن الواقدي ماتت اُمّ سلمة قبل مقتل الحسين بثلاث سنين، ولكن في اُصول الكافي عن أهل البيت: إنّ الحسينعليه‌السلام أودعها ذخائر الإمامة وأوصاها أن تدفعها إلى زين العابدينعليه‌السلام .

وفي سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ١٤٢: اُمّ سلمة زوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله آخر مَن مات من اُمّهات المؤمنين، عمّرت حتّى بلغها مقتل الحسين الشهيدعليه‌السلام فوجمت لذلك وغشي عليها وحزنت عليه كثيراً، ولم تلبث بعده إلاّ يسيراً، وانتقلت إلى الله تعالى. وفي صفحة ١٤٦: عن شهر قال: أتيتُ اُمّ سلمة اُعزّيها بالحسينعليه‌السلام .

(٥) أمالي الشيخ الصدوق / ٥٦، وفي تهذيب التهذيب ٢ / ٣٥٦، وذخائر العقبى للمحب الطبري / ١٤٨، وتاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٣٩، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢١٣: إنّ اُمّ سلمة رأت رسول الله في المنام وأخبرها بقتل الحسينعليه‌السلام .

٢٩٠

فيها تراب أرض كربلاء فإذا به يفور دماً(١) وهو الذي دفعه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إليها وأمرها أنْ تحتفظ به، وزاد على ذلك سماعها في جوف الليل هاتفاً ينعى الحسينعليه‌السلام فيقول:

أيّـها الـقاتلون جهلاً حسيناً

أبـشروا بـالعذاب والتنكيل

قد لُعنتم على لسان ابن داود

وموسى وصاحب الإنجيل(٢)

كـلّ أهل السّماء يدعو عليكم

مـن نبيًّ ومرسل وقتيل(٣)

وكانت تسمع في جَوف الليل أصوات نعي الحسينعليه‌السلام ولَم ترَ أحداً، فمن ذلك:

ألا يـا عـينُ فاحتفلي بجهدٍ

ومَنْ يبكي على الشهداء بعدي

عـلى رهـط تقودهُمُ المنايا

إلى متجبرٍ في ملك عبد(٤)

ولما سمع ابن عبّاس بكاءها، أسرع إليها يسألها الخبر، فأعلمته بأنّ ما في القارورتين يفور دماً(٥) .

وفي يوم عاشوراء رأى ابن عبّاس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أشعث مغبراً وبيده قارورة فيها دم فقال له: بأبي أنت واُمّي ما هذا؟ قال:«هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم» (٦) .

ولأجل بقاء الحسين عارياً على وجه الصعيد ثلاثاً، وهو علّة الكائنات؛

____________________________

(١) مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٤، كامل ابن الأثير ٤ / ٣٨، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٩٥.

(٢) إلى هنا في مقتل الخوارزمي ٢ / ٩٦ الفصل الثاني عشر.

(٣) الأبيات الثلاثة في تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤١. وفي تاج العروس ٧ / ١٠٣، ذكر البيت الأول والثالث، وفي روايته لعجزه (من نبي ومالك ورسول).

(٤) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤١، والخصائص للسيوطي ٢ / ١٢٧، ومجمع الزوائد ٩ / ١٩٩ وتقدم في / ٢٠٧: إنّهم لمّا نزلوا (الخزيمية) سمعت زينب هاتفاً يقول: ألا يا عين....

(٥) حديث القارورتين في معالم الزلفى / ٩١ الباب التاسع والأربعون، ومدينة المعاجز / ٢٤٤ الباب التاسع والأربعون: كلاهما للسيد هاشم البحراني ومنتخب الطريحي / ٢٣٥ المطبعة الحيدرية الطبعة الثالثة.

(٦) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤٠، والخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، وتاريخ الخلفاء / ١٣٩: كلاهما للسيوطي، ومرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٤، ومسند أحمد ١ / ٢٤٢، والكواكب الدرّية للمناوي ١ / ٥٦، وذخائر العقبى للمحب الطبري / ١٤٨، وتهذيب التهذيب لابن حجر ٢ / ٣٥٥ وكامل ابن الأثير ٤ / ٢٨، والصواعق المحرقة / ١١٦، وطرح التثريب ١ / ٢٢، وتاريخ بغداد للخطيب ١ / ١٤٢، والخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٥، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٩٤ الفصل الثاني عشر وسِير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢١٢.

٢٩١

لاشتقاقه من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو علّة العلل المتفرّع من الشعاع الإلهيّ الأقدس؛ أظلمت الدنيا ثلاثة أيام(١) واسودّت سواداً عظيماً(٢) حتّى ظنّ النّاس أنّ القيامة قامت(٣) وبدت الكواكب نصف النّهار(٤) وأخذ بعضها يضرب بعضاً(٥) ، ولَم يُرَ نور الشمس(٦) ، ودامت الدنيا على هذا ثلاثة أيّام(٧) ولا غرابة في اضمحلال نور الشمس في المدّة التي كان فيها سيّد شباب أهل الجنّة عارياً على وجه الصعيد، إذ هو العلّة في مجرى الكَون لِما عرِفت من اشتقاقه من الحقيقة المحمّديّة التي هي علّة العلل والعقل الأول، وحديث عرض الولاية على الموجودات - فمَن قَبِل عمَّت فائدته، ومَن أبى عرى عن الفائدة - يؤكّد ذلك.

وإذا صحّ الحديث بتغيّر الكَون لأجل إبراز عظم نبيٍّ من الأنبياء حتّى غامت السّماء ومطرت حين استقى به أحد علماء النّصارى في سرّ مَن رأى(٨) مع أنّه لَم يكشف عن جسد ذلك النّبي ولا كانت أعضاؤه مقطّعة، فاذاً كيف لا يتغيّر الكَون ولا يمحى نور الشمس والقمر وقد تُرك سيّد شباب أهل الجنّة على وجه الصعيد مجرّداً ومثَّلوا بذلك الهيكل القدسي كلّ مثلة؟!

ما للسّماء غداة اُردِي لم تمر

والأرض يوم اُصيب لم تتصدّع

____________________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، والخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، والصواعق المحرقة / ١١٦: فيما جرى على الحسينعليه‌السلام ، والخطط المقريزية ٢ / ٢٨٩، وتذكرة الخواص / ١٥٥، والمقتل للخوارزمي ٢ / ٩٠: ولا ينبغي لغير الإمامي أنْ يُشكّك في هذا بعدما يقرأ نصّ القسطلاني في إرشاد السّاري شرح البخاري ٦ / ١١٤: أنّ الأرض اظلمّت لموت عمر.

(٢) الاتحاف بحبّ الأشراف / ٢٤، وتهذيب التهذيب ٢ / ٣٥٤، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، ولا يسع أحداً إنكار هذا، بعدما يحدّث ابن الجوزي في المنتظم ٧ / ٢٤٤ حوادث سنة (٣٩٩) في شهر آب: أصاب الحاج بالثعلبية ريح سوداء اظلمّت الدنيا حتّى لَم يرَ بعضهم بعضاً.

(٣) الصواعق المحرقة / ١١٦، والاتحاف / ٢٤.

(٤) تهذيب التهذيب ١ / ٣٥٤، والصواعق المحرقة / ١١٦، والمقتل الخوارزمي ٢ / ٨٩.

(٥) الاتحاف بحبّ الأشراف / ٢٤، والصواعق المرحقة / ١١٦، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩ وتاريخ الخلفاء / ١٣٨، والكواكب الدرية ١ / ٥٦.

(٦) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٧، وتاريخ الخلفاء / ١٣٨، والمقتل للخوارزمي ٢ / ٨٩، والاتحاف / ٢٤، والصواعق المحرقة / ١١٦، والكواكب الدرّية ١ / ٥٦: ولا غرابة فيه بعد أنْ كُسفت الشمس يوم موت إبراهيم ابن رسول الله، كما نصّ عليه الزرقاني في شرح المواهب اللدنيّة ٣ / ٢١٢، والجزري في اُسد الغابة ١ / ٣٩، والعيني في عمدة القاري شرح البخاري ٣ / ٤٧٢ باب كيفيّة صلاة الكسوف.

(٧) كامل الزيارات / ٧٧، وهذا معنى ما تقدّم من أنّ الدنيا اظلمّت ثلاثة أيام.

(٨) الخرايج للراوندي / ٦٤ طبعة الهند في معجزات الحسن العسكريعليه‌السلام .

٢٩٢

إنّــي لأعــذر بـعده الـدّجى

لَـو لَـم يلح والشمس لو لَم تطلع

والشهب لَو أفلت وهذي السّحب لَو

هـي أقلعت والوحش لو لم ترتع

والـماء لو لم يصف والأشجار لو

لـم تـزه والأطـيار لو لم تسجع

والـريح عـند هـبوبها لـو أنّها

جـاءت عـواصفها بريحٍ زعزع

وحـرمت شرب الماء إنْ أنا عنده

لـم الـف مـكتئباً ولـم استرجع

رمـتِ العدى قلبي بسهم الغدر إن

لـم يـشجني رفع الكريم الأرفع

وحُـمِلْت فـوق أجبَّ عارٍ ظالعٍ

إن أنسَ حمل بنيهِ فوق الظّلّع(١)

بلى، لقد تغيّرت أوضاع الموجودات، واختلفت الكائنات، فبكته الوحوش وجرت دموعها رحمةً له. قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :«بأبي واُمّي الحسين المقتول بظهر الكوفة، والله كأنّي أنظر إلى الوحوش مادة أعناقها على قبره تبكيه ليلاً حتّى الصباح» (٢) . ومطرت السّماء دماً(٣) فأصبحت الحباب والجرار وكلّ شيء ملآن دماً(٤) وحتّى بقي أثره على البيوت والجدران مدّة(٥) ، ولَم يُرفع حجر إلاّ وُجِد تحته دم عبيط(٦) حتّى في بيت المقدس(٧) . ولمّا دخل الرأس المقدّس إلى قصر الإمارة سالت الحيطان دماً(٨) ، وخرجت نار من بعض جدران قصر الإمارة وقصدت

____________________________

(١) للشيخ محمّد بن شريف بن فلاح الكاظمي صاحب القصيدة الكرّاريّة في مدح أمير المؤمنين ونظَمها سنة ١١٦٦ وقرَّضها ثمانية عشر شاعراً من اُدباء عصره، والعينيّة تبلغ ٣٩ بيتاً في مجموعة عند الحجة الأميني صاحب الغدير وتقدّمت قطعة منها في عنوان (كربلاء).

(٢) كامل الزيارات لابن قولويه / ٨٠.

(٣) الخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩ وتذكرة الخواص / ١٥٥، و مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٨٩، والخطط المقريزيّة ٢ / ٩٨٩، والاتحاف بحبّ الأشراف / ٢٥٥، والصواعق المحرقة / ١١٦، والمناقب لابن شهر آشوب المتوفّى سنة (٥٨٨) ٢ / ٢٠٦ و ١٨٢: ومطر السماء دماً ذكره ابن الأثير في الكامل ٧ / ٢٩ حوادث سنة (٢٤٦) والنّجوم الزاهرة ٢ / ٣٢٢، وكنز العمّال ٤ / ٢٩١ رقم ٥٨٦٨.

(٤) الخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦.

(٥) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، والصواعق المحرقة / ١١٦.

(٦) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، والصواعق المحرقة / ١١٦.

(٧) مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٩٦، والخصائص الكبرى ٢ / ١٢٥، وتاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٣٨، والعقد الفريد ٢ / ٣١٥، في مقتل الحسين، والكواكب الدريّة للمناوي ١ / ٥٦، والمقتل للخوارزمي ٢ / ٩٠.

(٨) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، والصواعق المحرقة / ١١٦.

٢٩٣

عبيد الله بن زياد فقال لمَن حضر عنده: اكتمه(١) . وولّى هارباً منها. فتكلّم الرأس الشريف بصوت جهوري:«إلى أين تهرب يا ملعون؟ فإن لم تنلك في الدنيا فهي في الآخرة مثواك» . ولَم يسكت الرأس حتّى ذهبت النّار فاُدهش مَن في القصر(٢) . ومكث النّاس شهرَين أو ثلاثة يرَون الجدران ملطّخة بالدم ساعة تطلع الشمس وعند غروبها(٣) . وحديث الغراب المتلطّخ بدم الحسينعليه‌السلام وقد طار إلى المدينة ووقع على جدران فاطمة ابنة الحسين الصغرى، ومنه استعلمت قتْل أبيهاعليه‌السلام ، ولمّا نعته إلى أهل المدينة قالوا: جاءت بسحر بني عبد المطّلب. وما أسرع أن جاء الخبر بشهادته يرويه الموفّق أخطب خوارزم أحمد بن مكّي المتوفّى سنة (٥٦٨) في مقتل الحسين ج ٢ ص ٩٢. ولا غرابة فيه بعد المصادقة على وجود ابنة للحسين غير فاطمة وسكينة فإنّ شهادتهعليه‌السلام حفلت بالكثير من خوارق العادة.

أراد الجليل عزّ شأنه إعلام الاُمّة الحاضرة والأجيال المتعاقبة الواقفين على هذه الملحمة التي لَم يأتِ الدهر بمثلها بالقساوة التي استعملها الاُمويّون مع أبي عبد الله المستشهد في سبيل الدعوة الإلهيّة، وفي ذلك توجيه الأنظار إلى كرامة الحسين عند الله وأنّ قتله سوف يكون مدحرة للأضاليل وإحياء للدين الذي أراد بقاءه ربّ العالمين إلى يوم يبعثون.

ويحدّث دعبل الخزاعي عن جدّه: أنّ اُمّه سعدى بنت مالك الخزاعيّة أدركت الشجرة التي كانت عند اُمّ معبد الخزاعيّة وهي يابسة وببركات وضوء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أسفلها أورقت وأثمرت، كثيراً. ولمّا قُبض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قلّ ثمرها، ولمّا قُتل أمير المؤمنينعليه‌السلام تساقط ثمرها، وكانوا يتداوون بورقها، وبعد برهة نظروا إليها وإذا ساقها ينبع دماً، فأفزعهم هذا الحادث الذي لَم يُشاهد مثله، ولمّا اظلم الليل سمعوا بكاءً وعويلاً ولَم يرَوا أحداً، وقائل يقول:

يـابن الشهيد ويا شهيداً عمّه

خـير الـعمومة جعفر الطيارُ

عـجباً لمصقولٍ أصابك حدّه

في الوجه منك وقد علاك غبارُ

____________________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٦، وكامل ابن الأثير ٤ / ١٠٣، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٨٧، والمنتخب للطريحي / ٣٣٨.

(٢) شرح قصيدة أبي فراس ١٤٩.

(٣) كامل ابن الأثير ٦ / ٣٧، والكواكب الدريّة ١ / ٥٦، وتذكرة الخواص / ١٥٥.

٢٩٤

وبعد ذلك جاء الخبر بقتل الحسينعليه‌السلام في الوقت الذي شاهدوا منها هذه الغريبة. وقدّم دعبل الخزاعي ثلاثة أبيات لهذين البيتين فقال:

زرْ خـير قـبرٍ بالعراق يُزارُ

واعْص الحمار فمَنْ نهاك حمار

لِمَ لا ازورك يا حسين لك الفدى

قـومي ومن عطفت عليه نزار

ولك المودة في قلوب ذوي النهى

وعـلى عـدوك مقتةٌ ودمار(١)

ومعنى البيت الثاني من البيتين أخذه بعض شعراء الشيعة الأقدمين فنظمه في ثلاثة أبيات فقال:

عـجباً لـمصقولٍ علاك فَرَنْدُهُ

يـوم الـهياج وقد علاك غبار

ولأسـهمٍ نـفذتك دون حـرائر

يـدعون جَـدّك والدموع غزار

هـلّا تـكسرت الـسهام وعاقها

عن جسمك الاجلال والاكبار(٢)

ولم يمسّ أحد من الزعفران الذي نهبوه إلا احترق البدن، وعاد الورس رماداً، والإبل المنهوبة صار لحمها مثل العلقم وكانوا يرون النّار تخرج منها(٣) .

ولم تُعرف الحمرة في السّماء إلاّ يوم قتْل الحسينعليه‌السلام (٤) . قال ابن الجوزي: كلّ واحد من النّاس إذا غضب أثر الغضب في وجهه. ولمّا تنزّه الحقّ جلّ شأنه على الجسميّة أظهر تأثير غضبه على مَن قتل الحسينعليه‌السلام بحمرة الأُفق؛ إظهاراً لعظيم الجناية. ثمّ قال: لقد منع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من النّوم أنين عمّه العبّاس بن عبد المطلب لمّا اُسر يوم بدر، وأوثق كتافاً، فكيف به لَو يسمع أنين الحسينعليه‌السلام ؟

و لما أسلم وحشي، قاتل حمزة، قال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«غيّب وجهك عنّي؛ فإنّي لا أحبّ أنْ أرى قاتل الأحبّة». مع أنّ الإسلام يجُبّ ما قبله، فكيف به لو يرى مَن ذبح ولده و حمل أهله على أقتاب الجمال(٥) .

____________________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ / ١٠٠: وإذا كان القسطلاني يحدّث في إرشاد الساري ٩ / ١١٤ عن نَوح الجنّ على عمر، وابن كثير يذكر في البداية ١٠ / ٢٩٨ نَوح الجنّ على بشر الحافي، فسيّد شباب أهل الجنّة وروح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أحرى بنَوحهم عليه.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٣٨٠.

(٣) الخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، وتهذيب التهذيب ٢ / ٣٥٤ ومجمع الزوائد ٩ / ٩٦، والكواكب الدريّة ١ / ٥٦، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٩٠.

(٤) الصواعق المحرقة / ١١٦.

(٥) تذكرة الخواص / ١٥٤، والصواعق المحرقة / ١١٦.

٢٩٥

بلى، لقد حضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المعركة، و شاهد ذلك الجمع المتألّب على استئصال أهله من جديد الأرض، و بمرأى منه عويل الأيامى و نشيج الفاقدات و صراخ الصبية من الظمأ.

وقد سمع العسكر صوتاً هائلاً: ويلكم يا أهل الكوفة إنّي أرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينظر إلى جمعكم مرّة و إلى السّماء اُخرى، و هو قابض على لحيته المقدّسة. لكن الهوى و الضلال المستحكم في نفوس ذلك الجمع المعمور بالأطماع أوحى إليهم: إنّه صوت مجنون. فصاح الجمع لا يهولنّكم ذلك. و كان أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام يقول:«لا أراه إلاّ جبرئيل» (١) .

و صاح بعض الملائكة: ألا أيّتها الاُمّة المتحيّرة الضالّة بعد نبيّها، لا وفّقكم الله لأضحى و لا فطر! قال الإمام الصادقعليه‌السلام :«لا جرم والله، ما وفّقوا و لا يوفّقون حتّى يثور ثائر الحسين عليه‌السلام » (٢) .

وهبْ دم يحيى قد غلا قبلُ في الثرى

فـإنّ حسينا فـي القلوب غلا دمـه

وإنْ قُرّ قِدما مذْ دعا بُخْتُ نُصر

بـثـارات يحيي و استُردَتْ مظالمه

فليست دماء السّبط تهدأ قبل أن

يـقـوم بـإذن الله لـلثأر قائمه(٣)

وحدث الشيخ البهائي أنّ أباه الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي دخل مسجد الكوفة فوجد فص عقيق مكتوب عليه:

أنـا درٌّ مـن الـسّما نثروني

يـوم تـزويج والـد السّبطَين

كنت أصفى من اللجين بياضاً

صبغتني دماء نحر الحسين(٤)

____________________________

(١) كامل الزيارات.

(٢) من لا يحضرة الفقيه، للشيخ الصدوق / ١٤٨.

(٣) من قصيدة للعلامة الشيخ محمّد تقي الجواهري.

(٤) كشكول الشيخ يوسف البحراني / ١٧، طبعة الهند، عن كشكول الشيخ البهائي.

٢٩٦

الليلة الحادية عشرة عند الحسينعليه‌السلام

إنّ من الراجح المؤكّد على مَن يشايع الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام المبيت في الليلة الحادية عشرة عند قبر المظلومعليه‌السلام وعليه ملامح الاستياء وشعار الحزن على ذلك الفادح الجلل بين أنّة وحنّة وصراخ وعولة كأنّه ينظر من كثب إلى ضحايا آل محمّد مضرّجين بالدماء تسفي عليهم الريح بوغاء الثرى وهي أشلاء مقطّعة قد طعمتها سمر الرماح ونهلت من دمائها بيض الصفاح وطحنتها سنابك الخيل العادية.

ويرنو مَنْ أممّ إلى عقائل بيت الوحي نذرف الدمع على تلك الجثث الزواكي، فمن نادبة إلى صارخة، ومن ناشجة إلى لاطمة صدرها وناشرة شعرها(١) ، فيواسيها المتصوّر ببكائه المتواصل، وعقيرته المرتفعة، وعبرته الغزيرة.

ومن المقطوع به أنّ في هذه الحالة صلة للصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ومواساة لها وفيها جلب رغبات أئمّة الهدىعليهم‌السلام على ما يستأنس به من الآثار الواردة في أمثال هذا في سائر الأحوال.

وهناك أحاديث ربّما يستفيد المتأمّل منها هذه النظريّة؛ ففي الحديث عن مالك الجهني عن أبي جعفرعليه‌السلام :«مَن زار الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء حتّى يظلّ عنده باكياً، لقى الله يوم القيامة بثواب ألفَي ألف حَجّة، وألفَي ألف عمرة، وألفَي ألف غزوة مع رسول الله والأئمّة الراشدين» (٢) . وقد أفاد علماء العربيّة أنّ (ظلّ) تستعمل فيمَن أقام في المكان نهاراً إلى الليل(٣) والإقامة إلى الليل، إنْ لَم يستلزم المبيت في الليلة المتعقبة للنّهار، إلاّ أنْ

____________________________

(١) روى الشيخ الطوسي في التهذيب ٢ / ٢٨٢: آخر النّذور عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال:«ولقد شققن الفاطميات الجيوب على الحسين عليه‌السلام ، ولطمن الخدود، وعلى مثل الحسين فلتلطم الخدود ولتشقّ الجيوب».

(٢) كامل الزيارات / ١٧٤.

(٣) في تاج العروس ٧ / ٤٢٦، مادّة (ظلّ): عن الشهاب الخفاجي: أنّ ظلّ فعل ناقص يفيد ثبوت الخبر في جميع النّهار.

وفي شرح الكفاية، للرضي / ٢٧٨، مبحث الأفعال الناقصة: معنى (ظلّ زيد متفكّراً) كان في جميع النّهار كذلك، فاقترن مضمون الجملة وهو تفكّر زيد بجميع النّهار مستغرقاً له، ومعنى بات زيد مهموماً أنّه في جميع الليل كذلك.

وفي شرح الصمديّة، للسيّد علي خان / ٥٩، طبعة ايران: تفيد (ظلّ) و (بات) ثبوت الخبر للاسم في جميع النّهار والليل، وعلى ذلك جرى الزمخشري في المفصل / ٢٦٧، طبعة مصر: وقد يستعملان بمعنى صار مع القرينة.

٢٩٧

حديث جابر الجعفي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ربّما يساعد عليه فإنّه قال:«مَن زار الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء وبات عنده، كان كمَن استشهد بين يدَيه» (١) . فإنّ الظاهر منه إرادة المبيت المتعقّب لليوم لا السّابق عليه وإلاّ لقالعليه‌السلام (مَن بات ليلة عاشوراء عند الحسينعليه‌السلام وزار يومه و ظلّ باكياً كان له كذا وكذا).

على أنّ الاعتبار يساعد على أنّ المقيم عند قبر الذبيح العطشان في تمام اليوم أنْ لا يرتحل عنه في هذه الليلة التي لَم يمرّ مثلها على بنات رسول الله وودائع الخلافة، وهنّ في تلك الفلاة الجرداء قد فقدن البدور النيّرة والاُباة الصفوة، وإلى جنبهنّ الأشلاء المقطّعة بسيوف البغي والضلال، وهنَّ في فرق سائد لا يدرين ماذا يصدر عليهنّ من أعداء الله وأعداء رسوله، فيكون الموالي لهم البائت تلك الليلة عند قبره مشعراً بحزنه وبكائه إلى أسفه بتأخّره عن الحضور بالفوز الأكبر فيكثر من قول: يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً(٢) . ويواسي سيّدة النّساء الباكية على مهجتها الممنوع من الورود.

ولقد رأتها في المنام ذرّة النّائحة واقفة على قبر الحسينعليه‌السلام تبكي، وأمرتها أنْ تنشد:

أيُّـها الـعينان فيضا

واسـتهلّا لا تـغيضا

وابـكيا بـالطّف ميتاً

ترك الجسم رضيضاً

لـم اُمـرّضه قـتيلاً

لا ولا كان مريضا(٣)

ويحدِّث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي عن أبيه: أنّ أبا الحسن الكاتب كان يسأل عن ابن النائح، فلَم يعرفه مَن كان في المجلس من أهل الكرخ غيري، فقلتُ له: ما القصّة؟ قال أبو الحسن الكاتب: عندي جارية كثيرة الصيام و التهجّد، وهي لا تقيم كلمة عربيّة صحيحة فضلاً عن أن تروي شعراً و الغالب على لسانها النبطيّة، انتبهت البارحة فزعة ترتعد و مرقدها قريب من موضعي، فصاحت بي: يا أبا الحسن الحقني! قلتُ: ما أصابك؟ قالت: إنّي صَلّيت وردي ونمتُ، فرأيت كأنّي في درب من دروب الكرخ وإذا بحجرة نظيفة

____________________________

(١) كامل الزيارات / ١٣٧، الباب الواحد والسبعون.

(٢) في عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ، للشيخ الصدوق / ٦٦: من حديث عن الرضاعليه‌السلام قال لابن شبيب:«إنْ سرَّك أنْ تسكن الغرف المبنيّة في الجنّة مع النّبي عليه‌السلام ، فالعن قتلة الحسين عليه‌السلام ، وقل متى ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً».

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ١٨٩، طبعة ايران، عن أمالي المفيد النيسابوري.

٢٩٨

بيضاء مليحة السّاج مفتوحة الباب، و نساء وقوف عليه، قلت لهم: مَن مات؟ أو، ما الخبر؟ فأومأوا إلى داخل الدار، فدخلتُ فإذا بدار نظيفة في نهاية الحُسن، وفي صحنها امرأة شابّة لَم أرَ قطّ أحسن منها ولا أبهى ولا أجمل، وعليها ثياب حسنة، وملتحفة بإزار أبيض، وفي حِجرها رأس رجل يشخب دماً، فقلتُ: مَن أنتِ؟ قالت: لا عليكِ، أنا فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا رأس ابني الحسينعليه‌السلام ، قولي لابن أصدق عنّي أنْ ينوح:

لَم اُمرّضه فأسلو

لا ولا كان مريضا

فانتبهتُ فزعة، وقالت العجوز: لَم اُمرّطه (بالطاء المهملة؛ لأنّها لا تتمكّن من إقامة الضّاد) فسكّنتها حتّى نامت.

فقال أبوالحسن الكاتب لِعلي التنوخي: يا أبا القاسم، مع معرفتك بابن أصدق قد حمّلتك الأمانة وألزمتك أنْ تبلّغها له. فقال التنوخي: سمعاً وطاعة لأمر سيّدة نساء العالمينعليها‌السلام .

وكان هذا في شهر شعبان والنّاس يومئذ يلاقون جهداً جهيداً من الحنابلة إذا أرادوا الخروج إلى الحائر فلم أزل اتلطّف إليهم حتّى خرجت فكنت في الحائر ليلة النّصف من شعبان، فسألت عن ابن أصدق حتّى رأيته وقلت له: إنّ فاطمةعليها‌السلام تأمرك أنْ تنوح بالقصيدة:

لَم اُمرّضه فأسلو

لا ولا كان مريضا

وما كنت أعرف القصيدة قبل ذلك، فانزعج من هذا، فقصصت عليه وعلى من حضر الحديث، فأجهشوا بالبكاء، وما ناح تلك الليلة إلاّ بهذه القصيدة، وأولها:

أيهّا العينان فيضا

واستهلا لا تغيضا

وهي لبعض الشعراء الكوفيين. وعدت إلى أبي الحسن فأخبرته الخبر(١) .

السّلب

أبـا حـسنٍ يـا خـير حام لجاره

أبـثّ لـك الـشكوى بدمعٍ مرقرقٍ

____________________________

(١) نشوار المحاضرة ٨/٢١٨.

٢٩٩

ونـاهيك فـي رِزْء تـفاقم وقـعه

فأصبح فيه الدّمع من بعض منطقي

اتـغضي ومـنك الـيوم آل اُمـيّة

شـفت كلّ ذحل في حشاها مؤرّق

وكـم لك في أرضٍ الطّفوف نوادب

يـنحن بـها نـوح الحمام المطوّق

وكـم طـفلة قـد أرهـبوها بقسوة

ومـا عوّدت من قبل غير الترقرق

وطـفل يـحلّي جيده طوق عسجد

فـطوّق مـذعوراً بـسهم مـفوّق

وكـم حرّة حسرى بدت من خبا لها

ولـيس لـديها سـاتر غير مرفق

هـنالك لـو شاهدتها تنفث الشّجى

بـقلب مـن الوجد المبرّح محرق

لـعزّ أمـير الـمؤمنين خـروجها

عـليك بـحال أحـزنت كلّ مشفق

فـمن مُبْـلِغُ الزهراء عن أسر زينب

وتـسيـيرها بـين الأعادي لجلّق

ولـيس لها بين العدى من يصونها

حـمى غير مضنى بالحبال مربّق

أفـاطم سـمعاً عـلّني في تزفري

أبـثّـك أشـجاناً أخـذن بـمخنق

فـإنّ الاُولـى حلّوا بعرصة كربلا

هـووا في ثراها مشرقاً بعد مشرق

قـضوا وجلال العزّ يعلو وجوههم

ومـاتوا كـراماً مالووا جيد مطرق

فـلا عذر حتّى تلفظي القلب حسرة

بفيض دم من ماء عينيك مهرق(١)

لما قُتل أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام مالَ النّاسُ على ثقله ومتاعه وانتهبوا ما في الخيام(٢) ، وأضرموا النّار فيها، وتسابق القوم على سلب حرائر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففررن بنات الزهراءعليه‌السلام حواسر مسلبات باكيات(٣) وإنّ المرأة لتسلب مقنعتها من رأسها، وخاتمها من إصبعها، وقرطها من اُذنها، والخلخال من رجلها(٤) . أخذ رجل قرطين لاُمّ كلثوم وخرَم اُذنها(٥) .

وجاء آخر إلى فاطمة ابنة الحسينعليه‌السلام فانتزع خلخالها، وهو يبكي قالت له: مالك؟ فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله؟! قالت له: دعني، قال: أخاف أنّ يأخذه غيري(٦) .

ورأت رجلاً يسوق النّساء بكعب رمحه، وهنّ يلذن بعضهن ببعض، وقد أخذ

____________________________

(١) من قصيدة للعلامة الثقة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي.

(٢) كامل ابن الأثير ٤ / ٣٢.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٠.

(٤) مثير الأحزان لابن نما / ٤٠.

(٥) الدمعة الساكبة / ٣٤٨.

(٦) أمالي الصدوق / ٩٩ المجلس الواحد والثلاثون، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢٠٤.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437