مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)13%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 244149 / تحميل: 10030
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٨١٦٣-٧٠-٧
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون. و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين أين الذين ساروا بالجيوش، و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المدائن

اين عمّار

و من الخطبة السابقة نفسها: ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص و يشربون الرّنق(١) ؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟

و أين ابن التّيهان؟ و أين ذو الشّهادتين(٢) ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة(٣) ؟

____________________

(١) الرنق: الكدر.

(٢) عمار: عمار بن ياسر، و كان ممّن عذّب هو و أبوه و أخوه و أمه في بدء الدعوة.

و ابن التيهان: ابو الهيثم مالك بن التيهان، من أكابر الصحابة. ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت الانصاري، من الصحابة. و هؤلاء الثلاثة شهدوا صفين و استشهدوا بها.

(٣) أبرد برووسهم: أرسلت رؤوسهم مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفّي منهم.

١٤١

الكبر و التّعصّب و البغي

من خطبة له طويلة تسمّى «القاصعة(١) »: و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة.

فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية.

و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم(٢) و مصارع جنوبهم. و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر(٣) كما تستعيذون به من طوارق الدهر

____________________

(١) قصع فلان فلانا: حقّره. و قد سميت هذه الخطبة «القاصعة» لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي.

(٢) مثاوي، جمع مثوى، بمعنى المنزل. و منازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت. و مصارع الجنوب: مطارحها على التراب.

(٣) لواقح الكبر: محدثاته في النفوس.

١٤٢

و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة: أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: «أنا ناريّ و أنت طينيّ» و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة، فتعصّبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام، و الطاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(١) بسوء الأفعال و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم.

أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث(٢) و الفساد في الأرض: فأمّا الناكثون فقد قاتلت. و أما القاسطون فقد جاهدت(٣) . و أمّا المارقة

____________________

(١) المثلات: العقوبات.

(٢) النكث: نقض العهد.

(٣) القاسطون: الجائرون على الحق.

١٤٣

فقد دوّخت. و أمّا شيطان الرّدهة(١) فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره. و بقيت بقيّة من أهل البغي، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم(٢) إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا(٣) .

و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم: سيماهم سيما الصدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل و منار النهار(٤) لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون(٥) و لا يفسدون: قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل.

الدّنيا تطوى من خلفكم

من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر. و فيه تذكير بأحوال الدنيا و ترغيب للولاة في أن يعدلوا و يرحموا لئلاّ يعذّبوا، و ذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان: و أنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم،

____________________

(١) الردهة: النقرة في الجبل قد يجتمع فيها. و شيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا في ردهة.

(٢) لأديلن منهم: لأمحقننهم ثم أجعل الدولة لغيرهم.

(٣) يتشذّر: يتفرق، أي: لا يفلت مني إلاّ من يتفرّق في أطراف البلاد.

(٤) عمار، جمع عامر، أي: يعمرون الليل بالسهر للفكر و العبادة.

(٥) يغلون. يخونون.

١٤٤

و هو ألزم لكم من ظلّكم الموت معقود بنواصيكم(١) ، و الدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد، ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة

دستور الولاة

من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته. و هي من جلائل رسائله و وصاياه، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام. كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، و في مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور، من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر.

ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

____________________

(١) النواصي، جمع ناصية، و هي: مقدّم شعر الرأس.

١٤٥

فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت(١) . و أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبّة لهم، و اللطف بهم. و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل(٢) ، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ(٣) ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة(٤) .

أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك(٥) ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده. و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة،

____________________

(١) الشح: البخل. يقول: انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق.

(٢) يفرط: يسبق. الزلل: الخطأ.

(٣) يؤتى على أيديهم: تأتي السيئات على أيديهم.

(٤) بجح بالشي‏ء: فرح به. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.

المندوحة: المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص.

(٥) من لك فيه هوى، أي: من تميل اليه ميلا خاصا.

١٤٦

و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة(١) . و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف(٢) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر، من أهل الخاصة(٣) .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر(٤) ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين.

إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة(٥) فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

____________________

(١) يحجف: يذهب. يقول للحاكم: إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة، فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء. أما إذا رضي عليك العامة، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل، فسخط الخاصة مغتفر.

(٢) الإلحاف: الإلحاح.

(٣) يقول: ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة. فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم.

(٤) الوتر: العداوة: يقول: احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم. و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا.

(٥) البطانة: الخاصة.

١٤٧

الظّلمة(١) ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك(٢) و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله(٣) .

و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه(٤) و اعلم أنه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم(٥) و تخفيفه المؤونات عنهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم(٦) ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به

____________________

(١) الأثمة: جمع آثم. الظلمة: جمع ظالم.

(٢) آثرهم: أفضلهم. مرارة الحق. صعوبته. يقول: ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك.

(٣) رضهم: عوّدهم. يطروك: يطنبوا في مدحك. يبجحوك بباطل لم تفعله: يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته.

(٤) أي: أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه، و هو استحقاق الإحسان. و عاقب المسي‏ء بما ألزم نفسه كذلك، و هو استحقاق العقاب.

(٥) ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم. و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم.

(٦) قبلهم، بكسر ففتح: عندهم.

١٤٨

حسن الظنّ برعيّتك، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده(١) .

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء(٢) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك.

ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما: ممّن يبطى‏ء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء، و ينبو على الأقوياء(٣) و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف.

و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرعية، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم(٤) .

ثم اعرف لكلّ امرى‏ء منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرى‏ء إلى

____________________

(١) البلاء: الصنع، حسنا أو سيئا.

(٢) المنافثة: المحادثة.

(٣) ينبو: يشتدّ و يعلو. يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء.

(٤) الحيطة، بكسر الحاء: مصدر «حاط» بمعنى: صان و حفظ، يقول: ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم.

١٤٩

غيره(١) ، و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرى‏ء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(٢) ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم(٣) و لا يتمادى في الزلّة، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه(٤) ، و أوقفهم في الشّبهات(٥) و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاع الحق، ممن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه(٦) و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.

ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة

____________________

(١) لا تنسبنّ صنيع امرى‏ء إلى غيره.

(٢) انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة.

(٣) تمحكه: تغضبه.

(٤) لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة.

(٥) الشبهات، جمع شبهة، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح.

(٦) أي: تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف.

١٥٠

و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة(١) . ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون(٢) من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم(٣) على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية. و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه(٤) عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب به من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التهمة.

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك.

و إن العمران محتمل ما حمّلته، و إنما يؤتى خراب الأرض من

____________________

(١) أي: ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا.

(٢) العيون: الرقباء.

(٣) حدوة: سوق و حثّ.

(٤) اجتمعت عليها أخبار عيونك: اتفقت عليها أخبار رقبائك.

١٥١

إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك(٢) و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم(٣) ، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء. و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته(٤) .

ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله(٥) ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى

____________________

(١) إشراف انفس الولاة على الجمع: تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

(٢) الفراسة: قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر. الاستنامة: الاطمئنان إلى حسن الرأي. أي: لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطى‏ء.

(٣) أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم.

(٤) إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك.

(٥) المتردد بأمواله بين البلدان.

١٥٢

اللّه عليه و سلّم منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع(١) فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف(٢) .

ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول: و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر(٣) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه(٤) لإحكامك المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم(٥) و لا تصعّر خدّك لهم(٦) و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون(٧) و تحقره الرجال، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. و تعهّد

____________________

(١) المبتاع: المشتري.

(٢) قارف: خالط. الحكرة: الاحتكار. نكل به: أوقع به العذاب عقوبة له. يقول: من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها.

(٣) البطر: طغيان النعمة.

(٤) يقول: لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير.

(٥) لا تشخص همك عنهم: لا تصرف همك عنهم.

(٦) صعّر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا.

(٧) تقتحمه العيون: تكره أن تنظر اليه احتقارا.

١٥٣

أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن(١) ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك(٢) من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع(٣) فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن(٤) : «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع» ثم احتمل الخرق منهم و العيّ(٥) و نحّ عنهم الضيق و الأنف(٦) .

ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك. و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك(٧) ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه.

____________________

(١) ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه.

(٢) أي: تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم.

(٣) التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز و عيّ، أو من خوف.

(٤) في مواطن كثيرة.

(٥) الخرق: العنف. العي: العجز عن النطق. أي: لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك.

(٦) الأنف: الاستنكاف و الاستكبار.

(٧) تحرج: تضيق. يقول: إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات، و يحبون المماطلة في قضائها، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت.

١٥٤

و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور. و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل. و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات(١) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك(٢) من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك(٣) ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال(٤) و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة(٥) و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على

____________________

(١) سمات: علامات.

(٢) لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم، أو في عمل تمنحهم إياه؟

(٣) يقول: و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك، فلا حاجة للاحتجاب.

(٤) احسم: اقطع. يقول: اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة.

(٥) الاقطاع: المنحة من الأرض. القطيعة: الممنوح منها. الحامة، كالطّامة: الخاصة و القرابة. الاعتقاد: الامتلاك. العقدة: الضيعة.

١٥٥

غيرهم فيكون مهنأ ذلك(١) لهم دونك، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة(٢) .

و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر(٣) لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك(٤) و رفقا برعيّتك و إعذارا(٥) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك. و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت(٦) و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك

____________________

(١) المهنأ: المنفعة الهنيئة.

(٢) المغبة: العاقبة، يقول: إن إلزام الحق لمن لزمهم، و إن ثقل على الوالي و عليهم، محمود العاقبة يحفظ الدولة.

(٣) الحيف: الظلم. أصحر بهم: ابرز لهم.

(٤) رياضة منك لنفسك: تعويدا لنفسك على العدل.

(٥) الإعذار: تقديم العذر أو إبداؤه.

(٦) أصل معنى الذمة: وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها، ثم أطلقت على معنى العهد. الجنة: الوقاية.

يقول: حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد.

١٥٦

و لا تختلنّ(١) عدوّك. و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل(٢) و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ(٣) .

و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد في ما كان من فعلك(٤) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيّد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس.

و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط فيها عند إمكانها(٥) أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ أمر موقعه.

____________________

(١) خاس بعهده: خانه و نقضه. الختل: الخداع.

(٢) العلل: جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته.

(٣) لحن القول: ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض. يقول: إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك.

(٤) التزيّد: إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار.

(٥) التسقط: يريد به هنا: التهاون.

١٥٧

و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة(١) ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم. إملك حميّة أنفك(٢) و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك(٣) و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة(٤) و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه(٥) .

____________________

(١) احذر أن تخصّ نفسك بشي‏ء تزيد به عن الناس، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة.

(٢) أي: أملك نفسك عند الغضب.

(٣) السورة: الحدة: و الحد: البأس. و الغرب: الحد، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه.

(٤) البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا، و السكون يطفى‏ء من لهبه.

(٥) يريد من العذر الواضح: العدل، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.

١٥٨

حدود الضّريبة

من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، و هي تزخر بحنان الحاكم الأب على أبنائه، و تصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق إذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتحية لهم(١) ، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني اليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟

فإن قال قائل: لا فلا تراجعه. و إن أنعم لك منعم(٢) فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده أو تعسفه أو ترهقه(٣) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه. فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزّعنّها و لا تسوءنّ صاحبها فيها. و اصدع المال صدعين(٤) ثم خيّره:

____________________

(١) أخدجت السحابة: قلّ مطرها.

(٢) أنعم لك منعم، أي: قال لك: نعم.

(٣) تعسفه: تأخذه بشدة. ترهقه: تكلفه ما يصعب عليه.

(٤) أي: اقسمه قسمين.

١٥٩

فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله، فاقبض حقّ اللّه منه. فإن استقالك فأقله(١) ، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّه في ماله.

السفهاء و التجار

من كتاب بعث به الإمام الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها: إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها(٢) ما باليت و لا استوحشت. و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي، و لكني آسى(٣) أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا(٤) و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، و جمعكم و تحريضكم

____________________

(١) أي: فإن ظنّ في نفسه سوء الاختيار و أنّ ما أخذت منه من الزكاة اكرم مما في يده، و طلب الإعفاء من هذه القسمة، فاعفه منها، و اخلط، و أعد القسمة.

(٢) الطلاع: مل‏ء الشي‏ء. يقول: لو كنت واحدا و هم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم. و الضمير يعود هنا على خصومه و محاربيه من وجهاء ذلك الزمان.

(٣) آسى: أحزن.

(٤) دولا، جمع دولة «بالضم»: أي شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق اللّه. الخول: العبيد.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ما عليهن من أخمرة وأسورة، ولمّا بصر بها قصدها، ففرّت منه، فأتبعها رمحه فسقطت لوجهها مغشيّاً عليها، ولما أفاقت رأت عمّتها اُمّ كلثوم عند رأسها تبكي(١) .

أزعِـجَت مـن خدرها حاسرة

كـالقطا روّع مـن بعد هجود

تـندب الصون الذي قد فقدت

صـبرها فـيه إلى خير فقيد

فـقدت خـير عـماد فـدعت

من بني عمرو العلى كل عميد

لـبـدورٍ بـدمـاها شـرقت

وبـها أشـرق مـغبر الصعيد

بـين مـحزوز وريد وزّعت

جـسمه البيض ومقطوع زنود

قـد تـواروا بـقنا الخطّ فهل

قـصد الـخطيّ غـاباً للاسود

تـصدع الـظلماء اوضاحٌ لهم

كمصأبيح على الترب ركود (٢)

ونظرت امرأة من آل بكر بن وائل كانت مع زوجها إلى بنات رسول الله بهذه الحال فصاحت: يا آل بكر بن وائل، أتُسلب بنات رسول الله! لا حكم إلاّ لله، يا لثارات رسول الله! فردّها زوجها إلى رحله(٣) .

وانتهى القوم إلى علي بن الحسينعليه‌السلام ، وهو مريض(٤) على فراشه لا يستطيع النّهوض، فقائل يقول: لا تدعوا منهم صغيراً ولا كبيراً. وآخر يقول: لا تعجلوا حتّى نستشير الأمير عمر بن سعد(٥) . وجرّد الشمر سيفه يريد قتله، فقال له حميد بن مسلم: يا سبحان الله! أتقتل الصبيان؟! إنّما هو صبي مريض(٦) . فقال: إنّ ابن زياد أمر بقتل أولاد الحسين. وبالغ ابن سعد في منعه(٧) ، خصوصاً لمّا سمع العقيلة زينب ابنة أمير المؤمنين تقول: لا يُقتل حتّى اُقتل دونه. فكفّوا عنه(٨) .

____________________________

(١) رياض المصائب / ٣٤١، وتظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٣٠.

(٢) للحجّة المحقّق الشيخ عبد الحسين الحلّيرحمه‌الله ، من قصيدة في مولد الحسينعليه‌السلام .

(٣) اللهوف / ٧٤، ومثير الأحزان لابن نما / ٤١.

(٤) مرض السّجادعليه‌السلام ذكره الطبري ٦ / ٢٦٠، وكامل ابن الأثير ٤ / ٣٣، والبداية لابن كثير ٨ / ١٨٨، ومرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٣، والإرشاد للشيخ المفيد، و مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٥، وإعلام الورى للطبرسي / ١٤٨، وروضة الواعظين / ١٦٢، لمحمد بن أحمد بن علي النيسابوري، الفتال واثبات الوصية للمسعودي / ١٤٠.

(٥) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٣٢.

(٦) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٠.

(٧) نفَس المفهوم.

(٨) تاريخ القرماني / ١٠٨.

٣٠١

كـانت عـيادته مـنهم سياطهم

وفي كعوب القنا قالوا: البقاء لكا

جـرّوه فانتهبوا النطع المعد له

وأوطأوا جسمه السعدان والحسكا

وأقبل ابن سعد إلى النّساء، فلمّا رأينه بكين في وجهه، فمنع القوم عنهنّ، وقد أخذوا ما عليهنّ ولم يردّوا شيئاً(١) ، فوكّل جماعة بحفظهنّ، وعاد إلى خيمته:

وحـائراتٍ أطـار الـقوم أعينها

رعـباً غـداة عليه خدرها هجموا

كانت بحيث عليها قومها ضربت

سـرادقا ارضـه من عزّهم حرم

يـكاد مـن هيبة أن لا تطوف به

حتّى الـملائك لـولا انهم خدم

فـغودرت بي أيدي القوم حاسرة

تـسبى وليس لها من فيه تعتصم

نـعم لـوت جيدها بالعتب هاتفة

بـقومها وحـشاها مـلؤه ضـرم

عجّت بهم مذ على ابرادها اختلفت

ايـدي العدوّ ولكن من لها بهم(٢)

الخيل

ونادى ابن سعد: ألا من ينتدب إلى الحسين فيوطىء الخيل صدره وظهره. فقام عشرة(٣) .

منهم؛ إسحاق بن حوية(٤) ، والأحبش بن مرثد بن علقمة بن سلمة الحضرمي، وحكيم بن الطفيل السنبسي، وعمرو بن صبيح الصيداوي، ورجاء بن منقذ العبدي، وسالم بن خيثمة الجعفي، وصالح بن وهب الجعفي، وواخط بن

____________________________

(١) كامل ابن الأثير ٤ / ٣٢: ويحدّث مصعب الزبيري بشيء غريب، فيقول في نسب قريش / ٥٨: ابن بعض مَن كان في الجيش أخذ علي بن الحسينعليه‌السلام وغيّبه عن النّاس وكان يُكرمه ويُحسن إليه، فلمّا سمع المنادي يقول: مَن جاء بعلي بن الحسين فله ثلثمئة درهم. جاء وقيّد يدَيه إلى عنقه وأتى به إلى ابن زياد وأخذ الجائزة. وأراد ابن زياد قتله لولا أنّ عمّته زينب وقعت عليه، وقالت لابن زياد: اقتلني قبله. انتهى.

وأنت إذا عرفت أنّ زين العابدينعليه‌السلام مع ما به من المرض هو الكفيل والمحامي لحرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يمكّن الله تعالى أحداً منه فيغيبه عن عياله الفواقد، كيف يكون حالهنّ إذا فقدن المحامي والمصبّر لهن؟ مع أنّ أحداً من المؤرخين لَم يذكره حتّى على الاحتمال البعيد، لكن الزبيري أراد أن يسوّد صحيفته بالمفتريات.

(٢) للسيّد حيدر الحلّي نور الله ضريحه.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ١٦١، وكامل ابن الاثير ٤ / ٣٣، ومروج الذهب ٢ / ٩١، والخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٨، والبداية لابن كثير ٨ / ١٨٩، وتاريخ الخميس ٣ / ٣٣٣، والإرشاد للشيخ المفيد، وإعلام الورى للطبرسي / ٨٨٨، وروضة الواعظين / ٦٦٢، و مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٤.

(٤) في تاج العروس ٤ / ٣١، مادة حوز: ممَّن قاتل الحسين حويزة كجهينة.

٣٠٢

غانم، وهاني بن ثبيت الحضرمي، وأسيد بن مالك، فداسوا بخيولهم جسد ريحانة الرسول، وأقبل هؤلاء العشرة إلى ابن زياد يقدمهم اسيد بن مالك يرتجز:

نحن رضضنا الصدر بعد الظهر

بكل يعبوب شديد الأسر

فأمر لهم بجائزة يسيرة(١) .

وأيّ شهيد أصلت الشمس جسمه

ومـشهدها مـن أصـله متولّد

وأيّ ذبـيح داست الخيل صدره

وفـرسانها مـن ذكـره تتجمّد

ألـم تـك تدري أن روح محمد

كـقرآنه فـي سـبطه متجسّد

فـلو علمت تلك الخيول كاهلها

بـأنّ الذي تحت السنابك احمد

لـثارت على فرسانها وتمردت

كما انّهم ثاروا بها وتمرّدوا(٢)

قال البيروني: لقد فعلوا بالحسين ما لَم يفعل في جميع الاُمم بأشرار الخلق؛ من القتل بالسّيف، والرمح، والحجارة، وإجراء الخيول(٣) ، وقد وصل بعض هذه الخيول إلى مصر، فقلعت نعالها وسمرت على أبواب الدور تبرّكاً، وجرت بذلك السنّة عنده، فصار أكثرهم يعمل نظيرها ويعلّق على أبواب الدور(٤) .

فـلـيت أكّـفاً حـاربتك تـقطّعت

وأرجــل بـغي جـاولتك جـذام

وخـيلا غـدت تردى عليك جواريا

عـقـرن فـلا يـلوى لـهنّ لـجام

ورضّت قراك الخيل من بعد ما غدت

اولـوا الخيل صرعى منك فهي رمام

اصـبت فـلا يـوم الـمسرّات نير

ولا قـمـر فـي لـيلهنّ تـمام(٥)

الرؤوس

وأمر ابن سعد بالرؤوس فقطعت واقتسمتها القبائل؛ لتتقرّب إلى ابن زياد،

____________________________

(١) اللهوف / ٧٥، ومثير الأحزان لابن نما / ٤١. وفي مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٩ زيادة بيت:

حتّى عصينا الله ربّ الأمر

بعضها مع الحسين الطهر

(٢) من قصيدة للسيّد صالح ابن العلامة السيّد مهدي آل بحر العلوم.

(٣) الآثار الباقية / ٣٢٩، طبعة ليدن، وطبعة الاوفست.

(٤) كتاب التعجّب للكراجكي / ٤٦ ملحق بكنز الفوائد.

(٥) لأبي ذيب شيخ يوسف القطيفي المتوفّى (١٢٠٠ﻫـ).

٣٠٣

فجائت كندة بثلاثة عشر وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن باثني عشر وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت تميم بسبعة عشر، وبنو أسد بستة عشر، ومذحج بسبعة، وجاء آخرون بباقي الرؤوس(١) ، ومنعت عشيرة الحر الرياحي من قطع رأسه ورضّ جسده(٢) .

وسرّح ابن سعد في اليوم العاشر رأس الحسينعليه‌السلام مع خولى بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي، وسرّح رؤوس أهل بيته وصحبه مع الشمر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحَجّاج(٣) .

وكان منزل خولي على فرسخ من الكوفة، فأخفى الرأس عن زوجته الأنصاريّة؛ لِما يعهده من موالاتها لأهل البيتعليهم‌السلام إلاّ أنّها لمّا رأت من التنّور نوراً راعها ذلك؛ إذ لم تعهد فيه شيئاً، فلمّا قربت منه سمعت أصوات نساء يندبن الحسينعليه‌السلام بأشجى ندبة، فحدّثت زوجها وخرجت باكية(٤) ولَم تكتحل ولم تتطيّب حزناً على الحسينعليه‌السلام وكان اسمها العيوف(٥) .

وعند الصباح غدا بالرأس إلى قصر الإمارة، وقد رجع ابن زياد في ليلته من معسكره بالنّخيلة فوضع الرأس بين يدَيه وهو يقول:

إمـلأ ركابي فضّة أو ذهبا

إنّـي قتلت السيّد المحجّبا

وخيرهم من يذكرون النسبا

قـتلت خير الناس اُمّاً وأبا

فساء ابن زياد قوله أمام الجمع فقال له: إذا علمت إنّه كذلك فلِمَ قتلته؟ والله لا نلت منّي شيئاً(٦) .

____________________________

(١) اللهوف / ٨١، وعمدة القاري في شرح البخاري للعيني ٧ / ٦٥٦، وفيه كان معهم عروة بن قيس.

(٢) الكبريت الأحمر.

(٣) الإرشاد للشيخ المفيد.

(٤) روضة الشهداء، وفي البداية لابن كثير ٨ / ١٩٠: إنّ زوجته رأت النور يسطع من تحت الاجانة إلى السّماء وطيوراً بيضاً ترفرف حولها، وإنّ زوجته الاُخرى نوار بنت مالك قالت له: أتيت برأس ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ! لا يجمعني وإيّاك فراش أبداً، ثمّ فارقته.

(٥) أنساب الأشراف للبلاذري ٥ / ٢٣٨.

(٦) في مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٣: إنّ ابن زياد غضب عليه وقتله، ولَم يسمّ حامل الرأس، وفي العقد الفريد ٢ / ٢١٣: سمّاه خولي ابن يزيد الأصبحي، وقتله ابن زياد لذلك. واختلف المؤرّخون فيمَن جاء بالرأس وقائل الأبيات؛ فعند ابن جرير الطبري ٦ / ٢٦١، وابن الأثير ٤ / ٣٣: سنان بن أنس أنشدها على عمر بن سعد، وفي تذكرة الخواص / ١٤٤ قال له عمر: أنت مجنون لَو سمعك ابن زياد لقتلك. وفي شرح المقامات للشريثي ١ / ١٩٣: إنّه أنشدها على ابن زياد، وفي كشف الغمّة للأربلي ومقتل الخوارزمي ٢ / ٤٠: إنّ بشر بن مالك أنشدها على ابن زياد. =

٣٠٤

السّفر من كربلاء

لما سيّر ابن سعد الرؤوس إلى الكوفة، أقام مع الجيش إلى الزوال من اليوم الحادي عشر، فجمع قتلاه وصلّى عليهم ودفنهم، وترك سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة الرسول الأكرم ومَن معه من أهل بيته وصحبه بلا غسل ولا كفن ولا دفن(١) ، تسفي عليه الصبا، ويزورهم وحش الفلا.

فإن يمسِ فوق التّرب عريان لم تقم

لـه مـأتماً تـبكيه فـيه محارمه

فـأيّ حـشا لم يمس قبراً لجسمه

وفـي أيّ قلب ما اقيمت مآتمه(٢)

وبعد الزوال ارتحل إلى الكوفة ومعه نساء الحسينعليه‌السلام وصبيته وجواريه وعيالات الأصحاب وكنَّ عشرين امرأة(٣) وسيروهنَّ على أقتاب الجمال بغير وطاء كما يساق سبي الترك والروم و هنّ ودائع خير الأنبياء ومعهنّ السّجاد علي بن الحسينعليه‌السلام وعمره ثلاث وعشرون سنة(٤) ، وهو على بعير ظالع بغير وطاء وقد أنهكته العلّة(٥) ومعه ولده الباقر عليه‌السلام (٦) وله سنتان وشهور(٧) ، ومن أولاد الإمام الحسن

____________________________

= وفي مطالب السؤول لابن طلحة / ٧٦، زاد عليهما (ومن يصلّي القبلتين في الصبا)، فغضب عليه ابن زياد وقتله. وفي رياض المصائب / ٤٣٧: إنّ الشمر قائلها.

وأنت إذا عرفت إنّ الشمر هو قاتل الحسينعليه‌السلام كما في زيارة النّاحية وعليه جماعة من المؤرّخين، تعرف أنّه المنشد لها؛ إذ من البعيد أن يقتله ويأخذ الرأس غيره فيفوته التقرّب عند ابن زياد، وإنّما ذكرنا القصّة عن خولي مماشاةً مع أهل المقاتل. وفي المعجم ممّا استعجم ٢ / ٨٦٥، ووفاء الوفاء للمسعودي ٢ / ٢٣٢، عند ذكر حمي ضريه، قال: ضريه من مياه الضباب في الجاهليّة لذي الجوشن الضبابي والد الشمر قاتل الحسين بن عليعليه‌السلام .

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٣٩.

(٢) للعلامة الشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر.

(٣) نفس المهموم / ٢٠٤.

وفي مستدرك الوسائل للنوري ٢ / ٢٣٤ الطبعة الاُولى: روى الشيخ المفيد والسيّد ابن طاووس بالإسناد عن الصادقعليه‌السلام أنّه صلّى في القائم المائل بطريق الغري ركعتين وقال:«ههنا وضعوا رأس جدّي الحسين عليه‌السلام لمّا توجّهوا من كربلاء، ثمّ حملوه إلى عبيد الله بن زياد» . ثمّ ذكر دعاء يُدعا به بعد الصلاة، وقال:«هذا الموضع يعرف بالحنانة..

(٤) نسب قريش لمصعب الزبيري / ٥٨.

(٥) الاقبال لابن طاووس / ٥٤.

(٦) رياض الأحزان / ٤٩، وإثبات الوصيّة للمسعودي / ١٤٣.

(٧) إثبات الوصيّة / ١٤٣ طبعة النّجف. وفي تاريخ أبي الفداء ١ / ٢٠٣: له ثلاث سنين.

٣٠٥

المجتبىعليه‌السلام زيد وعمرو والحسن المثنّى، فإنّه أُخذ أسيراً بعد أنْ قَتل سبعة عشر رجلاً، وأصابته ثمان عشرة جراحة وقُطعت يده اليمنى، فانتزعه أسماء بن خارجة الفزاري؛ لأنّ اُمّ المثنّى فزاريّة، فتركه ابن سعد له(١) . وكان معهم عقبة بن سمعان مولى الرباب زوجة الحسينعليه‌السلام ، ولمّا أخبر ابن زياد بأنّه مولى للرباب خلّى سبيله، وأخبر ابن زياد بأنّ المرقع بن ثمامة الأسدي نثر نبله وقاتل، فآمنه قومه وأخذوه فأمر بنفيه إلى الزارة(٢) .

أتـرى كيف أمست الخفرات

بعد غلب دون المخيّـم ماتوا

أتـراهم لـلأسر قد أسلموها

أم عـلى الرغم فارقتها الحماة

فارقوها من بعد ما ثلم العضب

ودقّـت مـن الـطعان القناة

وبـنوا فـي دم الشهادة عرشاً

لــم قـبـلهم بـنته الـبناة

أدهشتها من بعدهم هجمة الخيـ

ل عـليها وأيـن عـنها الاباة

فـتصارخْنَ يستغثْنَ بصرعي

هـوّمت غـفوة بـهم وسباة

وتـرامت بـجنب كـلّ أبيِّ

حــرّة تـسـتثيره وفـتـاة

يـشتكين الـسياط قد ألمتهن

و هـل حفزت بصرخى شكاة

يـتساقطْنَ عـن متون المطايا

كـلّما أزعج النياق الحدادة(٣)

فقلن النّسوة: بالله عليكم إلاّ ما مررتم بنا على القتلى. ولمّا نظرن إليهم

____________________________

(١) البحار الجزء العاشر، عند ذكر أولاد الحسنعليه‌السلام ، وإسعاف الراغبين / ٢٨، على هامش نور الأبصار.

وفي اللهوف / ٨: عالجه بالكوفة، فلمّا برأ حمله إلى المدينة.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦١، وكامل ابن الاثير ٤ / ٣٣.

والزارة، كما في معجم البلدان ٤ / ٣٦٧: قرية بالبحرين، واُخرى في طرابلس الغرب، وكورة بالصعيد.

وفي المعجم ممّا استعجم للبكري ٢ / ٦٩٢: إنّها موضع بناحية البحرين جرت فيها حروب للنعمان بن المنذر المعروف بـ (الغرور) مع الأساورة، ومدينة بفارس فيها بارز البراء بن مالك مرزبانها فصرعه وقطع يده وأخذ منطقته وسواريه، وكان قيمته ثلاثين ألفاً، فأخذ خُمسه عمر، وهو أول سلب اُخذ خمسه في الإسلام.

وفي كامل ابن الاثير ٤ / ١٠: إنّ ابن زياد هدّد أهل الكوفة بالنّفي إلى عمان الزارة. وفيه ٨ / ٨٦ حوادث سنة (٣٢١ هـ): إنّ علي بن يليق أمر بلعن معاوية وابنه يزيد على المنابر ببغداد، فاضطربت العامّة، وكان يثير الفتن البربهاري من الحنابلة، فهرب منه وقبض على جماعته فأحدرهم في زورق إلى عمان. انتهى.

فيظهر من ذلك أنّ الزارة موضع في عمان.

وفي الأخبار الطوال / ٢٥٦، سيّر ابن زياد المرقع بن ثمامة الأسدي إلى الزبدة، فلم يزل بها حتّى هلك يزيد وهرب ابن زياد إلى الشام، فانصرف المرقع إلى الكوفة.

وفي نشوار المحاضرة ٨ / ٩: إنّ أبا محمّد المهلّبي أحدر محمّد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي إلى عمان في زورق طبقه عليه؛ لأمر نقمه عليه.

(٣) للعلامة الثقة الشيخ عبد المهدي مطر النجفي.

٣٠٦

مقطّعي الأوصال، قد طعمتهم سمر الرماح، ونهلت من دمائهم بيض الصفاح، وطحنتهم الخيل بسنابكها، صِحن ولطمن الوجوه(١) وصاحت زينب: يا محمّداه! هذا حسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذريّتك مقتّلة. فأبكت كلّ عدو وصديق(٢) حتّى جرت دموع الخيل على حوافرها(٣) ، ثمّ بسطت يدَيها تحت بدنه المقدّس ورفعته نحو السّماء، وقالت: إلهي تقبّل منّا هذا القربان(٤) . وهذا الموقف يدلّنا على تبوّئها عرش الجلالة، وقد اُخذ عليها العهد والميثاق بتلك النّهضة المقدّسة كأخيها الحسينعليه‌السلام وإنْ كان التفاوت بينهما محفوظاً، فلمّا خرج الحسينعليه‌السلام عن العهدة بإزهاق نفسه القدسيّة، نهضت العقيلة زينب بما وجب عليها، ومنه تقديم الذبيح إلى ساحة الجلال الربوي والتعريف به، ثمّ طفقت (سلام الله عليها) ببقيّة الشؤون، ولا استبعاد في ذلك بعد وحدة النّور وتفرّد العنصر.

وتـشاطرت هـي والحسين بدعوة

حـتم الـقضاء عـليهما أنْ يـندبا

هــذا بـمشتبك الـنصول وهـذه

في حيث معترك المكاره في السّبا(٥)

واعتنقت سكينة(٦) جسد أبيها الحسينعليه‌السلام فكانت تحدّث أنّها سمعته يقول:

شيعتي ما أنْ شربتم

عَذْبَ ماء فاذكروني

____________________________

(١) مثير الأحزان لابن نما / ٤١، واللهوف لابن طاووس / ٧٤، والمقتل للخوارزمي ٢ / ٣٩، والمقتل للطريحي / ٣٣٢.

(٢) الخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٠.

وفي مقتل الخوارزمي واللهوف: كانت الندبة أوسع.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٩، والمنتخب للطريحي / ٣٣٢.

(٤) الكبريت الأحمر ٣ / ١٣، عن الطراز المذهّب.

(٥) للعلامة ميرز محمّد علي الاوردبادي (نوّر الله ضريحه).

(٦) في تهذيب الأسماء للنووي ١ / ١٦٣، والكواكب الدرّية للمناوي ١ / ٥٨، ونور الأبصار للشبلنجي / ١٦٠، ووفيات الأعيان لابن خلّكان بترجمتها: توفّيت سكينة بنت الحسينعليه‌السلام يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول سنة (١١٧ هـ).

وفي المجدي لابن الحسن العمري في النّسب، وإعلام الورى للطبرسي / ١٢٧، عند ذكر أولاد الحسنعليه‌السلام ، والأغاني ١٢ / ١٦٣: إنّها تزوّجت من ابن عمّها عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب قُتل عنها يوم الطف، ولم تلد منه. انتهى.

وفي إعلام الورى: قُتل عنها قبل البناء بها، ولها يوم الطفّ أكثر من عشر سنين، وولادتها قبل وفاة عمّها الحسنعليه‌السلام وعمرها يقارب السّبع سنين، وكلمة سيّد الشهداءعليه‌السلام في حقّها:«أنّ الغالب على سكينة الاستغراق مع الله» . على ما رواه الصبان في اسعاف الرغبين يفيدنا درساً دقيقاً عن مكانة ابنته من الشريعة المقدسة - لاحظ كتابنا السيدة سكينة - الطبعة الثانية.

٣٠٧

أو سمـعتم بغريـب

او شهيد فاندبوني(١)

ولَم يستطع أحد أن ينحيها عنه حتّى اجتمع عليها عدّة وجروها بالقهر(٢) .

ومـذعورة بـاليتم قـد ربـع قلبها

كـطير عليه الصقر قد هجم الوكرا

أهابت بها من هجمة الخيل صرخة

عـلى ثكلها باليتم فاضطربت ذعرا

وفرَّت إلى الثاوي على جمرة الثرى

وقـد أرسـلت من جفنها فوقه نهرا

وأهـوت على جسم الحسين فضمّها

إلى صدره ما بين يمناه واليسرى

تـلوذ بـه حـسرى القناع مروعة

وعـزّ عـليه أن يـشاهدها حسرى

فـما تـركتها تـستجير سـياطهم

بجسم أبيها حينما انتزعت قسرى(٣)

وأمّا علي بن الحسينعليه‌السلام فإنّه لمّا نظر إلى أهله مجزّرين، وبينهم مهجة الزهراءعليها‌السلام بحالة تنفطر لها السّماوات وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا، عظم ذلك عليه واشتدّ قلقه فلمّا تبيّنت ذلك منه زينب الكبرى بن عليعليه‌السلام (٤) أهمّها أمر الإمام فأخذت تسلّيه وتصبّره وهو الذي لا توازن الجبال بصبره، وفيما قالت له:

ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي، فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السّماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة، فيوارونها وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرس أثره ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ علوّاً(٥) .

لله صبر زينب العقيلة

كم صابرت مصائباً مهولة

____________________________

(١) مصباح الكفعمي / ٣٧٦، طبعة الهند.

(٢) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٣٥.

(٣) من قصيدة للعلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي.

(٤) زينب الملقبة الكبرى، هي ابنة فاطمة الزهراءعليه‌السلام ، وقد وصفها بذلك الطبري في تاريخه ٦ / ٨٩، وابن الأثير في الكامل ٣ / ١٥٨.

وفي المعارف لابن قتيبة: فأمّا زينب الكبرى بنت فاطمة كانت عند عبد الله بن جعفر، فولدت له أولاد.

(٥) كامل الزيارات / ٢٦١ الباب الثامن والثمانون، فضل كربلاء وزيارة الحسينعليه‌السلام .

٣٠٨

رأت من الخطوب والرزايا

أمـراً تـهون دونـه المنايا

رأت كـرام قـومها الأماجد

مـجزّرين في صعيد واحد

تسفي على جسومها الرياح

وهـي لـذؤبان الـفلا تباح

رأت عـزيز قومها صريعاً

قـد وزّعوه بالظبى توزيعاً

رأت رؤوسـاً بـالقنا تشال

وجـثـثاً أكـفانها الـرمال

رأت رضـيعاً بالسّهام يفطم

وصـبية بـعد أبيهم أيتموا

رأت شـماتة الـعدوّ فـيها

وصنعه ما شاء في أخيها(١)

وأتاهن زجر بن قيس وصاح بهن فلَم يقمن، فأخذ يضربهنّ بالسّوط واجتمع عليهن النّاس حتّى أركبوهنّ على الجمال(٢) .

وركبت العقيلة زينب ناقتها، فتذكّرت ذلك العزّ الشامخ والحرم المنيع الذي تحوطه الليوث الضواري الاُباة من آل عبد المطّلب وتحفّه السّيوف المرهفة والرماح المثقفة، والأملاك تخدمها فيه، فلا يدخلون إلاّ مستأذنين:

فـلا مثل عزًّ كان في الصبح عزّها

ولا مـثل حال كان في العصر حالها

إلـى أيـن مـسراها وأين مصيرها

ومـَن هـو مـأواها ومَـن ذا مآلها

ومَـن ذا ثمال الظعن إنْ هي سيّرت

يـضيق فـمي إنّ ابـن سعد ثمالها

عـلى أيّ كـتف تـتكي حين ركِبت

وجـمـالها زجـر وشـمر جـمّالها

أمخمد ضوء البيت عن شخص زينب

لـكيلا يـرى فـي الليل حتّى خيالها

تـمنّيت يـوم الطّف عينك أبصرت

بـناتك حـين ابـتزّ مـنها حجالها

قـرومـاً تـراها جـزّراً وأرامـلا

تـحـنّ كـنيبٍ فـارقتها فـصالها

لـه الله مـن ثـكل وقـد مات بغتة

لـدى بـعض يـومٍ عزّها ورجالها

ومـا هـان ثـكل عـندها غير انّه

أمـضّ مـصاباً هـتكها وابـتذالها

وأمـسـين فـي أمـر يـهدّد غـبّه

تـقف إهـاباً حـين يطريه بالها(٣)

في الكوفة

ولما اُدخلت بنات أمير المؤمنين إلى الكوفة، اجتمع أهلها للنظر إليهم

____________________________

(١) المقبولة الحسينية / ٦١، للحجّة آية الله الشيخ هادي كاشف الغطاءقدس‌سره .

(٢) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٧٧.

(٣) للعلامة الثقة الشيخ محمّد طاهر آل فقيه الطائفة الشيخ راضيقدس‌سره .

٣٠٩

فصاحت اُمّ كلثوم: يا أهل الكوفة، أما تستحون من الله ورسوله أنْ تنظروا إلى حرم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟(١) .

وأشرفت عليهنّ امرأة من الكوفيّات ورأتهن على تلك الحال التي تشجي العدوّ الألد فقالت: من أي الاُسارى أنتم؟ قلن: نحن اُسارى آل محمد(٢) .

وأخذ أهل الكوفة يناولون الأطفال التمر والجوز والخبز، فصاحت اُمّ كلثوم وهي زينب الكبرى: إنّ الصّدقة علينا حرام. ثمّ رمت به إلى الأرض(٣) .

أبـا حـسن تـغضي وتلتذّ بالكرى

وبـالكفّ أمست تستر الوجه زينب

أبـا حسن ترضى صفاياك في السّبا

ونـسوة حـرب بالمقاصير تحجب

وتـلوي لـلين الـفرش جنباً وهذه

بـناتك فـوق الـعيس للشام تجلب

ويـهنيك عـيش والـعقائل حـسّر

إذا مـا بـكت بـالأصبحية تضرب

تـشرّق فـيها تـارة عـصب الخنا

وطـوراً بـها نـحو الشئام تغرّب

بـلا كـافل تـطوي الـمهامه لغباً

ويـسمعها مـا يـشعب القب غيهب

فـأصواتها بـحّت و ذابـت قلوبها

وأنـفاسها كـادت من الحزن تذهب

عـجبت ومن في الدهر سرّح طرفه

وفـكّـر فـيه لـم يـزل يـتعجّب

يـزيد الـخنا فـي دسـته مـتقلّب

ويـمسي حـسين في الثرى يتقلّب

و يحمل منه الرأس في الرمح جهرة

وفي التاج رأس ابن الدعيّة يعصب

ويـبـقى ثـلاثاً عـارياً ويـزيدها

على جسمه يغدر الدمقس المذهّب(٤)

خطبة زينب

ولقد أوضحت ابنة أمير المؤمنينعليه‌السلام للنّاس خُبث ابن زياد ولؤمه في خطبتها بعد أنْ أومأت إلى ذلك الجمع المتراكم، فهدأوا حتّى كأنَّ على رؤوسهم

____________________________

(١) الدمعة الساكبة / ٣٦٤.

(٢) ابن نما / ٨٤، واللهوف / ٨١.

(٣) أسرار الشهادة / ٤٧٧، وتظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٥٠.

(٤) من قصيدة في الحسينعليه‌السلام للشيخ حسّون الحلي المتوفى سنة (١٣٠٥ هـ)، شعراء الحلّة ٢ / ١٥٥.

٣١٠

الطير. وليس في وسع العدد الكثير أنْ يسكن ذلك اللغط أو يردّ تلك الضوضاء لولا الهيبة الإلهيّة والبهاء المحمّدي الذي جلّل عقيلة آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فيقول الراوي: لمّا أومأت زينب ابنة عليعليه‌السلام إلى النّاس، فسكنت الأنفاس والأجراس، فعندها اندفعت بخطابها مع طمأنينة نفس وثبات جأش، وشجاعة حيدريّة، فقالت (صلوات الله عليها): الحمد لله والصلاة على أبي محمّد وآله الطيّبين الأخيار.

أمّا بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مثَلكم كمثَل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلاّ الصلف النطف(١) والعجب والكذب والشنف(٢) وملق الإماء(٣) ، وغمز الأعداء(٤) ؟! أو كمرعى على دمنة(٥) أو كقصّة على ملحودة(٦) ، ألا بئس ما قدّمتْ لكم أنفسكم أنْ سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون.

____________________________

(١) الصلف (بفتحتين): الذي يتمدح بما ليس عنده. والنطف: القذف بالفجور.

(٢) الشنف: المبغض بغير حق.

(٣) الملق: التذلل.

(٤) الغمز: الطعن بالشر.

(٥) الغرض التعريف، بأنّ الدمنة وإنْ زها ظاهرها بالنبت، إلاّ أنّه لا يفيد الحيوان قوّة؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكثافات السّامة القاتلة، فنتاج الدمنة لا يكون طيّبا. وأهل الكوفة وإنْ زها ظاهرهم بالإسلام إلاّ أنّ الصدور انطوت على قلوب مظلمة، لا يصدر منها إلاّ بما يقوم به أهل الجأهليّة والإلحاد.

(٦) في رواية اللهوف وابن نما (فضة) بالفاء الموحدة والضاد المعجمة ولم يتضح المراد منه بعد عدم الترجيح على الذهب وغيره، نعم رواية ابن شهر اشوب في المناقب (قصة) بالقاف المثناة والصاد المهملة وهي الجص تتناسب مع الملحودة التي هي القبر ولم ينكر أهل اللغة هذا المعنى ففي الصحاح للجوهري قصص داره أي جصصها وفي تاج العروس ج ٤ ص ٤٢٣ تقصيص الدار تجصيصها وكذلك قبر مقصص ومنه الحديث نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تقصيص القبور وهو بناؤها بالقصة وفيه ص ٤٢٢ قال القصة هي الجص بلغة الحجاز أو الحجارة من الجص وعن ابن دريد ان ابا سعيد السيرافي يقول بكسر القاف وعند غيره بفتحها وفي الفائق للزمخشري ج ٢ ص ١٧٣ روى ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن تطيين القبور وتقصيصها اي تجصيصها فان القصة هي الجصة وفي غريب الحديث لأبي عبيد ج ١ ص ٢٧٧ حيدر آباد التقصيص الجص يقال قصصت القبور والبيوت اذا جصصتها وفي (لحن العوام) ص ١٤٥ للزبيدي تقصيص القبور تبييضها بالجص وفي نيل الأوطار للشوكاني ج ٤ ص ٧٣ القصة بفتح القاف وتشديد الصاد لمهملة هي الجص وفي مسند احمد ج ٢ صفحة ١٣٧ عن عبد الله بن عمر ان عثمان بنى جدار مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحجارة المنقوشة والقصة وفي تاريخ المدينة للمسعودي ج ٢ صفحة ١٠٥ كان قبر حمزة مبنياً بالقصة أي مجصص لا خشب عليه وفي البحار ج ١٨ ص ٣٧٤ باب الدفن عن معاني الاخبار قال: تقصيص القبور تجصيصها لان الجص يقال له القصة وفي النهاية لابن الأثير مادة قصص في حديث زينب يا قصة على ملحودة شبهت اجسامهم بالقبور المتخذة من الجص وانفسهم بجيف الموتى التي تشتمل عليها القبور، =

٣١١

أتبكون وتنتحبون؟! إي والله فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً؛ فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتْل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة، ومدرة حجّتكم ومنارمحَجّتكم، وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم، وسيّد شباب أهل الجنّة، ألا ساء ما تزرون.

فتعساً و نكساً وبُعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السّعي وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟ وأيّ كريمة له أبرزتم؟ وأيّ دم له سفكتم؟ وأيّ حرمة له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئاً إدّاً، تكاد السّموات يتفطّرن منه، وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً. ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض(١) وملء السّماء.

أفعجبتم أنْ مطرت السّماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا يُنصرون، فلا يستخفنّكم المهل، فإنّه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لَبِالمرصاد(٢) .

____________________________

= والذي أراه ان النكتة في هذه الاستعارة ان القصة بلغة الحجاز الجص والملحودة القبر لكونه ذا لحد فكأن القبر يتزين ظاهره ببياض الجص ولكن داخله جيفة قذرة وأهل الكوفة وان تزين ظاهرهم بالاسلام الا ان قلوبهم كجيف الموتى بسبب قيامهم باعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادي الصحيحة وقد انفردت (متممة الدعوة الحسينية) بهذه النكات البديعة التي لم يسبقها مهرة البلغاء اليها لانها ارتضعت در (الصديقة الكبرى) التي اخرست الفصحاء بخطابها المرتجل يوم أجمع القوم على غصبها حقها مع ما اكتنفها من فوادح تبلبل فكر البليغ فعرفت الحاضرين ومن يأت من الاجيال عظيم الجناية وخسران الرضوان الاكبر كما ان سيد الاوصياء نسه عرف اولئك المتجمهرين على غصب حقه المجعول له من الله سبحانه يوم الغدير ويوم المنزلة ويوم الاعلان بالثقلين في خطبته المعروفة بالوسيلة التي خطبها في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة أيام وقد فرغ من جمع القرآن كما نص عليه الكليني في روضة الكافي.

(١) في تهذيب اللغة ٣ / ١٧١، ومقاييس اللغة ٣ / ٤١٩، والمغرب للمطرزي ٢ / ١٧، والفايق ١ / ١٢٥، والنّهاية، واللسان، وتاج العروس كلّهم مادّة (طلع).

وذكر في اللسان حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : رأى رجلاً به بذاذة تعلو عنه العين، فقال:«هذا خير من طلاع الأرض ذهباً» . إنّ طلاع الأرض ملؤها حتّى يسيل.

وفي حديث عمر بن الخطّاب عند موته: لو أنّ لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من هَول المطلع. وهو يملؤها حتّى يطلع عنها ويسيل.

وفي الفايق عن الحسن البصري قال: لئن أعلم أنّي بريء من النّفاق أحبّ إليّ من طلاع الأرض ذهباً، وهو ملؤها.

(٢) رتّبنا الخطبة من أمالي الشيخ الطوسي، وأمالي ابنه، واللهوف، وابن نما، وابن شهر آشوب، واحتجاج الطبرسي.

٣١٢

فقال لها الإمام السّجادعليه‌السلام :«اسكتي يا عمّة، فأنت بحمد الله عالمة غير معلَّمة، وفهِمة غير مفهَّمة» (١) .

فقطعت العقيلة الكلام، وأدهشت ذلك الجمع المغمور بالتمويهات والمطامع، وأحدث كلامها إيقاظاً في الأفئدة ولفتة في البصائر، وأخذت خطبتها من القلوب مأخذاً عظيماً، وعرفوا عظيم الجناية، فلا يدرون ما يصنعون.

فـعن الـوصي بلاغة خُصّت بها

أعـيت بـرونقها البليغ الاخطبا

مـا اسـترسلت إلاّ وتحسب أنّها

تـستلّ من غرر الخطابة مقضباً

أو أنّـها الـيزنيّ فـي يد باسل

أخـلى بـه ظـهراً وأوهى منكبا

أو أنّـهـا تـقـتاد مـنها فـيلقاً

وتـسوق من زمر الحقائق موكبا

أو أنّ فـي غـاب الإمـامة لبوة

لـزئيرها عـنت الـوجوه تهيّبا

أو أنّـها الـبحر الخضمّ تلاطمت

أمـواجه عـلماً حـجى بأساً إبا

أو أنّ مـن غضب الإله صواعقاً

لَـم تـلف عنها آل حرب مهربا

أو أنّ حـيدرة عـلى صـهواتها

يـفني كـراديس الضّلال ثباً ثبا

أو أنّــه ضـمـته ذروة مـنبر

فـأنار نـهجاً لـلشريعة ألـحبا

أو أنّ فـي الـلأوى عقيلة هاشم

قد فرّقت شمل العمى ايدي سبا(٢)

خطبة فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام

وخطبت فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام (٣) فقالت:

____________________________

(١) احتجاج الطبري / ١٦٦ طبعة النّجف.

(٢) من قصيدة للعلامة ميرز محمّد علي الاوردبادي في العقيلة زينبعليها‌السلام .

(٣) كانت فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام جليلة القدر عظيمة المنزلة وكانت لها المكانة العالية من الدين وقد شهد بذلك أبوها سيد الشهداء لما جاء اليه الحسن المثنى يخطب احدى ابنتيه فقالعليه‌السلام كما في اسعاف الراغبين بهامش نور الابصار ص ٢٠٢: إني اختار لك فاطمة فهي أكثر شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أما في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار وفي الجمال تشبه الحور العين.

وفي تهذيب التهذيب لابن حجر ج ١٢ ص ٤٤٢ روت الحديث عن أبيها وأخيها زين العابدين وعمتها زينب وابن عباس وأسماء بنت عميس وروى عنها أولادها عبد الله وابراهيم وحسين وام جعفر بنو الحسن المثنى وروى عنها ابو المقدام بوساطة امه وروى عنها زهير بن معاوية بوساطة أمه وفي خلاصة تذهيب الكمال ص ٤٢٥ خرج أصحاب السنن أحاديثها منهم: الترمذي وأبو داود والنسائي في مسند علي وابن ماجة القزويني وقال ابن حجر العسقلاني وقع ذكرها في كتاب الجنائز من صحيح البخاري ووثقها ابن حبان. ونص على وفاتها في سنة ١١٠ واليافعي في مرآة الجنان ج ١ ص ٢٣٤ وابن العماد في شذرات ج ١ ص ١٣٩ =

٣١٣

الحمدلله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده واُؤمن به وأتوكّل عليه، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ أولاده ذُبحوا بشطّ الفرات، من غير ذحل ولا ترات.

اللهمّ إنّي أعوذ بك أنْ أفتري عليك، وأنْ أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود والوصيّة لعلي بن أبي طالب المغلوب حقّه، المقتول من غير ذنب كما قُتل ولده بالأمس، في بيت من بيوت الله تعالى، فيه معشر مسلمة بألسنتهم، تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته، حتّى قبضه الله تعالى إليه محمود النّقيبة طيّب العريكة، معروف المناقب مشهور المذاهب، لَم تأخذه في الله سبحانه لَومة لائم ولا عذل عاذل، هديته اللهمّ للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولَم يزل ناصحاً لك ولرسولك، زاهداً في الدنيا غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم.

أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا. فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدنيا، فنحن عَيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجّته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله على كثير ممَّن خلق الله تفضيلاً، فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نهباً، كأنّنا أولاد ترك أو كابل، كما قتلتم جدّنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدّم، قرّت لذلك عيونكم، وفرحت قلبوكم افتراءً على الله ومكراً مكرتم

____________________________

= وبناء على ما يقوله ابن حجر في تهذيب التهذيب انها قاربت التسعين تكون ولادتها سنة ٣٠ تقريباً ولها يوم الطف ما يقرب من ذلك وتوفيت قبل اختها (سكينة) بسبع سنين وفي كامل ابن الأثير ج ٤ ص ٣٥ وتاريخ الطبري ج ٦ ص ٢٦٧ كانت فاطمة اكبر من اختها سكينة وفي كتاب (تحقيق النصرة الى معالم دار الهجرة) ص ١٨ تأليف أبي بكر بن الحسين بن عمر المراغي المتوفى سنة ٨١٦ من كرامات فاطمة بنت الحسين ان الوليد بن عبد الملك لما أمر بادخال الحجرات في المسجد خرجت فاطمة بنت الحسين الى الحرة وبنت داراً لها وامرت بحفر بئر فظهر فيه جبل فقيل لها فتوضأت ورشت بفاضل وضوئها عليه فلم يتصعب عليهم فكان يتبركون بمائه ويسمونه (زمزم) وفي طبقات ابن سعد ج ٨ ص ٤٧٤ طبعة صادر. كانت فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام تسبّح بخيوط معقودة وفي كتابنا (نقد التاريخ المخطوط) ناقشنا المؤرخين في تزويجها من العثماني، وان محمد الديباج خلقته اقلام الزبيريين.

٣١٤

والله خير الماكرين، فلا تدعونّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا، ونالت أيديكم من أموالنا، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة، والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها، إنّ ذلك على الله يسير؛ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحبّ كلّ مختال فخور.

تبّاً لكم فانظروا اللعنة والعذاب، فكأنّ قد حلّ بكم وتواترت من السّماء نقمات، فيسحتكم بعذاب ويذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة؛ بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلكم! أتدرون أيّة يد طاعنتنا منكم؟ وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا؟ أم بأيّة رِجل مشيتم إلينا؟ تبغون محاربتنا، قست قلوبكم وغلظت أكبادكم وطبع الله على أفئدتكم، وختم على سمعكم وبصركم وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

تبّاً لكم يا أهل الكوفة، أيّ ترات لرسول الله قِبلَكم، وذحول له لديكم؟ بما عندتم بأخيه على بن أبي الطالب جدّي وبنيه وعترته الطيّبين الأخيار، وافتخر بذلك مفتخركم.

نحن قتلنا علياً وبني علي

بـسيوف هنديّة ورماح

وسبينا نساءهم سبي ترك

ونـطحناهم فـأيّ نطاح

بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب(١) افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وطهّرهم وأذهب عنهم الرجس فأكضم وأقع كما أقعى أبوك فإنّما لكلّ امرىء ما اكتسب وما قدّمت يداه.

حسدتمونا ويلاً لكم على ما فضّلنا الله تعالى، ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء والله ذوالفضل العظيم. ومَن لَم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

فارتفعت الأصوات بالبكاء والنّحيب وقالوا: حسبكِ يا ابنة الطاهرين فقد حرقت قلوبنا وأنضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا، فسكتت.

____________________________

(١) في تاج العروس: الأثلب (بكسر الهمزة واللام وفتحهما، والفتح أكثر): الحجَر، وقيل دقاق الحجارة. وقال شمر الأثلب (بلغة الحجاز): الحجارة. وبلغة تميم التراب وهو دعاء. وفي الحديث:«الولد للفراش وللعاهر الأثلب» .

وفيه صفحة ٦٤٠: الكثكث (كجعفر، وزبرج): دقائق التراب، ويقال: التراب عامة، يقال بفيه الكثكث: أي التراب.

٣١٥

خطبة اُمّ كلثوم(١)

وقالت اُمّ كلثوم: صه يا أهل الكوفة، تقتلنا رجالكم، وتبكينا نساؤكم، فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل الخطاب.

يا أهل الكوفة، سوأة لكم، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه وانتهبتم أمواله، وسبيتم نساءه ونكبتموه؟! فتبّاً لكم وسحقاً.

ويلكم! أتدرون أيّ دواهٍ دهتكم؟ وأيّ وزر على ظهوركم حملتم؟ وأيّ دماء سفكتم؟ وأيّ كريمة أصبتموها؟ وأيّ صبيّة أسلمتموها؟ وأيّ أموال انتهبتموها؟ قتلتم خير الرجالات بعد النّبي، ونُزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم المفلحون، وحزب الشيطان هم الخاسرون.

فضجّ النّاس بالبكاء، ونشرن النّساء الشعور، وخمشن الوجوه ولطمن الخدود، ودعون بالويل والثبور. فلَم يرَ ذلك اليوم أكثر باك.

خطبة السجّادعليه‌السلام

وجيء بعلي الحسينعليه‌السلام على بعير ضالع، والجامعة في عنقه، ويداه مغلولتان إلى عنقه، وأوداجه تخشب دماً فكان يقول:

يا اُميّة السّوء لا سقياً لربعكُمُ

يـا اُمـّة لَم تراع جدّنا فينا

لَـو أنّنا ورسول الله يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيّرونا على الأقتاب عارية

كـأنّنا لـم نشيّد فيكم دينا

وأومأ إلى النّاس أنْ اسكتوا، فلمّا سكتوا، حمد الله وأثنى عليه وذكر النّبي فصلّى عليه، ثمّ قال:«أيّها النّاس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لَم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من انتُهكت حرمته، وسُلبت نعمته وانتهب ماله،

____________________________

(١) أشرنا في عدّة مواضع من كتابنا هذا إلى: أن زينب العقيلة هي اُمّ كلثوم وهذه الفقرات جزء من كلامها السّابق، ونذكر هذا الكلام هنا على عادة أهل المقاتل.

٣١٦

وسُبي عياله، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن من قُتل صبراً، وكفى بذلك فخراً .

أيّها النّاس ناشدتكم الله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة، وقاتلتموه؟

فتّباً لكم لِما قدّمتم لأنفسكم، وسوأة لرأيكم، بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله؟ إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من اُمّتي».

فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالوا: هلكتم وما تعلمون.

ثمّ قالعليه‌السلام :«رحم الله امرءاً قبِل نصيحتي، وحفظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته، فإنّ لنا في رسول الله اُسوة حسنة» .

فقالوا بأجمعهم: نحن يابن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنّا حرب لحربك، وسِلم لسلمك، نبرأ ممَّن ظلمك وظلمنا.

فقالعليه‌السلام :«هيهات هيهات أيّها الغدرة المكرة، حِيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليَّ كما أتيتم إلى أبي من قبل؟ كلاّ وربّ الراقصات، فإنّ الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي بالأمس وأهل بيته، ولَم ينس ثكل رسول الله وثكل أبي وبني أبي، إنّ وجده والله لبين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصّته تجري في فراش صدري» (١)

مـهلاً بـني حرب فما قد نالنا

فـبعين جـبّار الـسّما لم يكتم

فـكأنّني يوم الحساب بأحمد

بالرسل يقدم حاسراً عن معصم

ويـقول ويلكم هتكتم حرمتي

وتركتم الأسياف تنطف من دمي

تـدرون أيّ دم أرقـتم في الثرى

أمْ أيَّ خـود سـقتُمُ في المغنم

أمـن الـعدالة صونكم فتياتكم

وحـرائري تسبى كسبي الديلم

والـماء تـورده يـعافير الفلا

وكـبود أطـفالي ظماء تضرم

تالله لـو ظفرت سراة الكفر في

رهطي لما ارتكبوا لذاك المعظم

يـا لـيت شعر محمّد ما فاتكم

طـعن الحناجر بعد حزّ الغلصم

____________________________

(١) الخطب كلّها ذكرها السيّد ابن طاووس في اللهوف، وابن نما في مثير الأحزان.

٣١٧

هـذا جـزائي منكُمُ فلقرب ما

ضيعتموا عهدي ببنتي وابنم(١)

الدفن

ذكر أهل التاريخ أنّ سيّد الشهداءعليه‌السلام أفرد خيمة في حومة الميدان(٢) ، وكان يأمر بحمل مَن قُتل من صحبه وأهل بيته إليها، وكلّما يؤتى بشهيد يقولعليه‌السلام :«قتلة مثل قتلة النبيّين وآل النبيّين» (٣) . إلاّ أخاه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام تركه في محلّ سقوطه قريباًً من شطّ الفرات(٤) .

ولمّا ارتحل عمر بن سعد بحرم الرسالة إلى الكوفة ترك اُولئك الذين وصفهم أمير المؤمنينعليه‌السلام بأنّهم سادة الشهداء في الدنيا والآخرة، لَم يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق(٥) على وجه الصعيد تصهرهم الشمس ويزورهم وحش الفلا.

قد غيّر الطّعن منهم كل جارحة

إلا المكارم في أمنٍ من الغير

وبينهم سيّد شباب أهل الجنّة بحالة تفطّر الصخر الأصم، غير أنّ الأنوار الإلهيّة تسطع من جوانبه، والأرواح العطرة تفوح من نواحيه.

ومـجرح مـا غـيّرت منه القنا

حـسناً ولا أخـلقْنَ مـنه جـديدا

قد كان بدراً فاغتدى شمس الضحى

مـذ ألـبسته يـد الـدماء لـبودا

تـحمي اشـعّته الـعيون فـكلّما

حـاولنَ نـهجاً خـلنه مـسدودا

وتـظلُّه شـجر الـقنا حتّى أبت

ارسـال هـاجرة الـيه بريدا(٦)

وحدّث رجل من بني أسد: أنّه أتى المعركة بعد ارتحال العسكر، فشاهد من

____________________________

(١) للحاج محمّد رضا الأزري رياض المدح والرثاء / ٤٤٥، مطبعة الآداب، النجف.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٦، وكامل ابن الأثير ٤ / ٣٠، وإرشاد الشيخ المفيد.

(٣) حكاه في البحار ١٠ / ٢١١، و ١٣ / ١٢٥، عن غيبة النعماني.

(٤) نصّ عليه جماعة من المؤرّخين. انظر كتابنا (قمر بني هاشم) صفحة ١١٥، المطبعة الحيدريّة في النّجف.

(٥) كامل الزيارات / ٢١٩.

(٦) للحاج هاشم الكعبي.

٣١٨

تلك الجسوم المضرّجة أنواراً ساطعة، وأرواحاً طيّبة، ورأى أسداً هائل المنظر يتخطّى تلك الأشلاء المقطّعة حتّى إذا وصل إلى هيكل القداسة وقربان الهداية، تمرّغ بدمه ولاذ بجسده، وله همهمة وصياح، فأدهشه الحال إذ لم يعهد مثل الحيوان المفترس يترك ما هو طعمة أمثاله فاختفى في بعض الأكم؛ لينظر ما يصنع فلم يظهر له غير ذلك الحال:

وممّا زاد في بعض تحيّره وتعجّبه أنّه عند انتصاف الليل رأى شموعاً مسرجة ملأت الأرض بكاءاً وعويلاً مفجعاً(١) .

وفي اليوم الثالث عشر من المحرّم أقبل زين العابدينعليه‌السلام لدفن أبيه الشهيدعليه‌السلام ؛ لأنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ إمام مثله(٢) .

يشهد له مناظرة الرضاعليه‌السلام مع علي بن أبي حمزة فإنّ أبا الحسنعليه‌السلام قال له:«اخبرني عن الحسين بن علي كان إماماً؟» قال: بلى، فقال الرضاعليه‌السلام :«فمَن ولي أمره؟» قال ابن أبي حمزة: تولاّه علي بن الحسين السّجاد. فقال الرضاعليه‌السلام :«فأين كان علي بن الحسين؟» قال ابن أبي حمزة: كان محبوساً بالكوفة عند ابن زياد، ولكنّه خرج وهم لا يعلمون به حتّى ولي أمر أبيه، ثمّ انصرف إلى السّجن.

فقال الرضاعليه‌السلام :«إنّ مَن مكّن علي بن الحسين أنْ يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه ثمّ ينصرف، يمكّن صاحب هذا الأمر أنْ ياتي بغداد فيلي أمر أبيه وليس هو في حبس ولا إسار» .

____________________________

(١) مدينة المعاجز / ٢٦٣، باب ١٢٧.

(٢) اثبات الوصية للمسعودي ص ١٧٣، وقد ذكرنا في كتاب (زين العابدين) ص ٤٠٢ الاحاديث الدالة على ان الامام لا يلي أمره إلا امام مثله.

لم تكشف الاحاديث هذا السر المصون، ولعل النكتة فيه ان جثمان المعصوم عند سيره الى المبدإ الأعلى بانتهاء امد الفيض الالهي يختص بآثار منها: ان لا يقرب منه من لم يكن من أهل هذه المرتبة اذ هو مقام قاب قوسين او أدنى، ذلك المقام الذي تقهقر عنه الروح الامين وعام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحده في سبحات الملكوت وليست هذه الدعوى في الأئمة بغريبة بعد ان تكوّنوا من الحقيقة المحمدية وشاركوا جدهم في المآثر كلها إلا النبوة والأزواج كما في المحتضر للحسن بن سليمان الحلي ص ٢٢ طبع النجف وهذه اسرار لا تصل اليها افكار البشر ولا سبيل لنا الى الانكار بمجرد بعدنا عن ادراكها ما لم تبلغ حد الاستحالة وقد نطقت الآثار الصحيحة بأن للأئمة احوالا غريبة ليس لسائر الخلق الشركة معهم كإحيائهم الأموات بالأجساد الأصلية ورؤية بعضهم بعضاً وصعود أجسادهم الى السماء وسماعهم سلام الزائرين لهم وقد صادق على ذلك شيخنا المفيد في المقالات ص ٨٤ ط طهران والكراجكي في كنز الفوائد والمجلسي في مرآة العقول ج ١ ص ٣٧٣ وكاشف الغطاء في منهج الرشاد ص ٥١، والنوري في دار السلام ج ١ ص ٢٨٩.

٣١٩

ولما أقبل السّجادعليه‌السلام وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى، متحيّرين لا يدرون ما يصنعون، ولَم يهتدوا إلى معرفتهم؛ وقد فرّق القوم بين رؤوسهم وأبدانهم و ربّما يسألون من أهلهم وعشيرتهم!!.

فأخبرهمعليه‌السلام عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة، و أوقفهم على أسمائهم، كما عرّفهم بالهاشميّين من الأصحاب، فارتفع البكاء والعويل، وسالت الدموع منهم كلّ مسيل، ونشرت الأسديّات الشعور ولطمن الخدود.

ثمّ مشى الإمام زين العابدينعليه‌السلام إلى جسد أبيه واعتنقه وبكى بكاءاً عالياً، وأتى إلى موضع القبر، ورفع قليلاً من التراب فبان قبر محفور وضريح مشقوق، فبسط كفيه تحت ظهره وقال:«بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، صدق الله ورسوله، ما شاء الله، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم» .

وأنزله وحده، لَم يشاركه بنو أسد فيه، وقالعليه‌السلام لهم:«إنّ معي مَن يعينني». ولمّا أقرّه في لحده، وضع خدّه على منحره الشريف قائلاً:

«طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطاهر، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة، أمّا الليل فمسّهد والحزن سرمد، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم، و عليك منّي السّلام يابن رسول الله و رحمة الله وبركاته» .

وكتب على القبر:«هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً» .

ثمّ مشى إلى عمّه العبّاسعليه‌السلام فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السّماء وأبكت الحور في غرف الجنان ووقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلاً:«على الدنيا بعدك العفا يا قمر هاشم، وعليك منّي السّلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته».

وشقّ له ضريحاً وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد، وقال لبني أسد:«إنّ معي مَن يعينني».

نعم، ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء، وعيّن لهم موضعين

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437