مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)9%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243912 / تحميل: 10025
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٨١٦٣-٧٠-٧
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«نعم» فقال: إنّك تعلم ما أحد بارّ بأبيه مثلي، فإنْ أردت قتله فأمرني به؛ لأنّي أخاف أنْ تأمر غيري ولا اُحبّ أنْ أنظر إلى قاتل أبي فأعدو عليه فأقتله وأكون في النّار(١) ... وهذه القصّة تعطينا صورة نيّرة عمّا عليه البشر من احتدام أولياء المقتول على القاتل وتربّصهم الفرص للأخذ بالثأر منه، ولَو كان القتل من جهة الشرك...

ولهذه الغريزة المطبوعة عليها جبلة النّاس كان عمر بن الخطاب يقول لسعيد بن العاص وقد اجتمع عنده في بعض الليالي هو وعثمان وعلي وابن عبّاس: ما لك معرضاً عنّي كأنّي قتلت أباك! إنّي لم أقتله ولكن أبا حسن قتله، فقال أمير المؤمنين:«اللهمّ غفراً ذهب الشرك بما فيه، ومحا الإسلام ما قبله، فلماذا تهيّج القلوب يا عمر؟» فقال سعيد: لقد قتله كفؤ كريم، وهو أحبّ إليَّ من أن يقتله مَن ليس من عبد مناف(٢) .

لم يكن من الهيّن على سعيد قتْل أبيه وإنْ كان كافراً وقُتل بسيف الدعوة المحمّديّة، والقاتل شريف جم المناقب ولم يحفّزه على إراقة دمه إلاّ نداء الربّ جلّ وعلا الموحى به إلى رسول السّماء، غير أنّ الخوف من صارم العدل حتم عليه التظاهر بالرضا مع انحناء أضالعه على أحرّ من جمر الغضا مرتقباً الفرصة في الأخذ بثاره، وقد ظهرت نار البغض على لسان ولده عمرو بن سعيد الأشدق يوم تولّى المدينة من قِبَل يزيد فلقد واجه ضريح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بلسان طويل مجاهر بقوله: يوم بيوم بدر يا رسول الله. ولما سمع صراخ نساء بني هاشم على سيّد شباب أهل الجنّة قال: واعية بواعية عثمان(٣) .

فعبد الله بن جعفر يتّقد قلبه ناراً على ابن ميسون ويوّد لَو تمكّنه الفرصة وتأخذ المقادير إلى تدميره والقضاء عليه وعلى أهله وذويه، ومهما يكن ناسياً للأشياء فلا ينسى قتله أبي الضيم ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب والبهاليل من صحبه، ثمّ نكْته بالقضيب ثنايا ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهل يستطيع ابن جعفر والحالة هذه أن يبصر يزيد وسيفه يقطر من دمائهم وقد صكّ سمعه إظهاره الشماتة بنبيّ الإسلام:

____________________________

(١) اُسد الغابة ٣ / ٩٧.

(٢) شرح النّهج لابن أبي الحديد ٣ / ٣٣٥، الطبعة الاُولى المصريّة، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ٦ / ١٣٤ ترجمة سعيد بن العاص.

(٣) راجع ما تقدّم بعنوان (عمرو الأشدق) من كتابنا هذا.

٣٤١

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

ثمّ إلى إنكاره الرسالة:

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

وهل ينسى ابن جعفر ليله ونهاره وقوف حرائر النبوّة بحالة يتصفّح وجوهها القريب والبعيد وأهل المنأهل والمعاقل.. والذي يهون الأمر أنّ المرسل للحديث هو المدائني الاُمويّ النّزعة والولاء، وكتابه مملوء بالأحاديث الرافعة للبيت الاُموي والواضعة من كرامة البيت العلوي، لا يلتفت إليها إلاّ العارف بأخبار الرجال وشخصيّات الرواة.

عبد الله بن عباس

لمّا بلغ يزيد امتناع عبد الله بن عبّاس عن البيعة لابن الزبير، كتب إليه: أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته والدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيراً وفي المآثم شريكاً، فامتنعتَ عليه وانقبضتَ عنه؛ لما عرّفك الله في نفسك من حقّنا أهل البيت، فجزاك أفضل ما جزى الواصلين عن أرحامهم الموفين بعهودهم، ومهما أنسى من الأشياء فلا أنسى وصلك وحُسن جائزتك التي أنت أهلها في الطاعة والشرف والقرابة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانظر مَن قبلك من قومك، ومَن يطرأ عليك من أهل الآفاق ممَّن يسحره ابن الزبير بلسانه وزخرف قوله، فاجذبهم عنه فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للملحد المارق، والسّلام.

فكتب إليه ابن عبّاس: أمّا بعد، فقد جاء في كتابك تذكر فيه دعاء ابن الزبير إيّاي إلى بيعته وأنّي امتنعت عليه معرفةً لحقّك، فإن يكن ذلك كذلك فلستُ أرجو بذلك برّك، ولكنّ الله بما أنوي عليم. وكتبتَ إليَّ أنّه أحثّ النّاس عليك وأخذلهم عن ابن الزبير، فلا ولا سرور ولا حبور، بفيك الكثكث ولك الأثلب وإنّك العازب الرأي أنْ منّتك نفسك وإنّك لأنت المنقود المثبور. وكتبت إليَّ بتعجيل برّي وصِلتي، فاحبس أيّها الإنسان برّك، فإنّي حابس عنك ودّي ونصرتي، ولَعمري ما تعطينا ممّا في يدك لنا إلاّ القليل، وتحبس منه الطويل العريض، لا أباً لك! أتراني أنسى قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب ومصأبيح الدجى

٣٤٢

ونجوم الهدى وأعلام التقى، وغادرتْهم خيولك بأمرك فأصبحوا مصرّعين في صعيد واحد، مزمّلين بالدماء مسلوبين بالعراء، لا مكفّنين ولا موسّدين، تسفي عليهم الرياح، وتغزوهم الذئاب وتنتابهم عوج الضباع حتّى أتاح الله لهم قوماً لَم يشركوا في دمائهم، فكفّنوهم وأجنّوهم، وبهم والله وبي من الله عليك العذاب.! ومهما أنسى من الأشياء فلستُ أنسى تسليطك عليهم الدعيّ بن الدعيّ الذي كان للعاهرة الفاجرة البعيد رحماً، اللئيم أباً واُمّاً، الذي اكتسب أبوك في ادّعائه العار والمأثم والمذلّة والخزي في الدنيا والآخرة؛ لأنّ رسول الله قال:«الولد للفراش، وللعاهر الحجر». وإنّ أباك يزعم أنّ الولد لغير الفراش، ولا يضير العاهر، ويلحق به ولده كما يلحق به الولد الرشيد. ولقد أمات أبوك السُنّة جهلاً، وأحيا الأحداث المضلّة عمداً.

ومهما أنسى من الأشياء، فلستُ أنسى تسييرك حسيناً من حرم رسول الله إلى حرم الله تعالى، وتسييرك إليه الرجال وإدساسك إليهم أنْ يقتلوه، فما زلت بذلك وكذلك حتّى أخرجته من مكّة إلى أرض الكوفة تزأر به خيلك وجنودك زئير الأسد عداوةً منك لله ولرسوله ولأهل بيته. ثمّ كتبتَ إلى ابن مرجانة أنْ يستقبله بالخيل والرجال والأسنّة والسّيوف، وكتبت إليه بمعاجلته وترك مطاولته حتّى قتلته ومَن معه من فتيان بني عبد المطّلب أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، ونحن كذلك لا كآبائك الجفاة أكباد الحمير ولقد علمت أنّه كان أعزّ أهل البطحاء قديماً وأعزَّه بها حديثاً، لَو ثوى بالحرمين مقاماً واستحلَّ بها قتلاً، ولكنّه كره أنْ يكون هو الذي يستحلّ به حرم الله وحرم الرسول وحرمة البيت الحرام، فطلب الموادعة وسألكم الرجعة فطلبتم قلَّة أنصاره واستئصال أهل بيته كأنّكم تقتلون أهل بيت من الترك أو كابل.

وكيف تجدني على ودّك وتطلب نصري فقد قتلتَ بني أبي، وسيفك يقطر من دمي وأنت طلبة ثأري؟! فإنْ شاء الله لا يطل إليك دمي، ولا تسبقني بثأري وإنْ تسبقنا فقتلتنا ما قتلت به النبيون فطلب دمائهم في الدماء، وكان الموعد الله وكفى بالله للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً.

والعجب كلّ العجب ما عشت يريك الدهر عجباً، حملك بنات عبد المطّلب وأبناءهم اُغيلمةً صغاراً إليك بالشام! ترى أنّك قهرتنا وأنّك تذلّنا وبهم والله وبي مَنَّ الله عليك وعلى أبيك واُمّك من السّباء.

وأيم الله إنّك لتصبح وتمسي آمناً

٣٤٣

لجراح يدي وليعظمنَّ جرحك بلساني ونقضي وإبرامي، لا يستفزنَّك الجدل فلن يمهلك الله بعد قتْل عترة رسول الله إلاّ قليلاً حتّى يأخذك الله أخذاً عزيزاً ويخرجك من الدنيا آثماً مذموماً، فعش لا أباً لك ما شئت ولقد أرداك عند الله ما اقترفت(١) .

السّبايا إلى الشام

وبعث ابن زياد رسولاً إلى يزيد يخبره بقتْل الحسينعليه‌السلام ومَن معه وأنّ عياله في الكوفة وينتظر أمره فيهم، فعاد الجواب بحملهم والرؤوس معهم(٢) .

وكتب رقعةً ربط فيها حجراً ورماه في السّجن المحبوس فيه آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيها: خرج البريد إلى يزيد بأمركم في يوم كذا، ويعود في كذا، فإذا سمعتم التكبير فأوصلوا وإلاّ فهو الأمان.

ورجع البريد من الشام يخبر بأنْ يسرّح آل الحسين إلى الشام(٣) .

فأمر ابن زياد زجر بن قيس وأبا بردة بن عوف الأزدي وطارق بن ظبيان في جماعة من الكوفة أنْ يحملوا رأس الحسين ورؤوس مَن قُتل معه إلى يزيد(٤) .

وقيل ذهب برأس الحسينعليه‌السلام مجبر بن مرّة بن خالد بن قناب بن عمر بن قيس بن الحرث بن مالك بن عبيد الله بن خزيمة بن لؤي(٥) .

وسرّح في أثرهم علي بن الحسين مغلولة يدَيه إلى عنقه وعياله معه(٦) على

____________________________

(١) رتّبنا الكتاب من مجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي ٧ / ٢٥٠، وأنساب الأشراف للبلاذري ٤ / ١٨ الطبعة الاُولى، ومقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٧٧، وكامل ابن الأثير ٤ / ٥٠ (سنة ٦٤)، وعليه مروج الذهب للمسعودي.

(٢) اللهوف / ٩٥ و٩٧.

(٣) الطبري ٦ / ٢٦٦، وفي صفحة ٩٦ ذكر: إنّ أبا بكرة أجّله بسر بن أرطاة اُسبوعاً على أنْ يذهب إلى معاوية، فرجع من الشام في اليوم السّابع.

وفي مثير الأحزان لابن نما / ٧٤: إنّ عميرة أرسله عبد الله بن عمر إلى يزيد ومعه كتاب إلى ابن زياد ليطلق سراح المختار الثقفي، فكتب يزيد بذلك إلى عبيد الله بن زياد، فجاء عميرة بالكتاب إلى الكوفة وقد قطع المسافة بين الشام والكوفة بأحد عشر يوماً.

(٤) الطبري ٦ / ٢٦٤، وابن الأثير ٤ / ٣٤، والبداية ٨ / ١٩١، والخوارزمي، وإرشاد المفيد، وإعلام الورى / ١٤٩، واللهوف / ٩٧.

(٥) الإصابة ٣ / ٤٨٩، بترجمة مرّة.

(٦) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٤، والخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٨.

٣٤٤

حال تقشعّر منها الأبدان(١) .

وكان معهم شمر بن ذي الجوشن، ومجفر بن ثعلبة العائدي(٢) ، وشبث بن ربعي، وعمرو بن الحَجّاج، وجماعة، وأمرهم أنْ يلحقوا الرؤوس ويشهّروهم في كلّ بلد يأتونها(٣) فجدّوا السّير حتّى لحقوا بهم في بعض المنازل(٤) .

وحدّث ابن لهيعة: إنّه رأى رجلاً متعلّقاً بأستار الكعبة يستغيث بربّه، ثمّ يقول: ولا أراك فاعلاً. فأخذتُه ناحيةً وقلت: إنّك لمجنون فإنّ الله غفور رحيم، ولَو كانت ذنوبك عدد القطر لغفرها لك. قال لي: اعلم كنتُ ممَّن سار برأس الحسين إلى الشام، فإذا أمسينا وضعنا الرأس وشربنا حوله، وفي ليلة كنت أحرسه، وأصحابي رقود، فرأيت برقاً وخلقاً أطافوا بالرأس، ففزعت واُدهشت ولزمت السّكوت، فسمعتُ بكاءاً وعويلاً وقائلاً يقول: يا محمّد إنّ الله أمرني أنْ اُطيعك، فلَو أمرتني أنْ اُزلزل بهؤلاء الأرض كما فعلت بقوم لوط، فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«يا جبرئيل، إنّ لي موقفاً معهم يوم القيامة بين يدَي ربّي سبحانه».

فصحت: يا رسول الله الأمان! فقال لي:«اذهب فلا غفر الله لك» . فهل ترى الله يغفر لي؟(٥) .

وفي بعض المنازل وضعوا الرأس المطهّر فلم يشعر القوم إلاّ وقد ظهر قلم حديد من الحائط وكتب بالدم(٦) .

____________________________

(١) تاريخ القرماني / ١٠٨.

وفي مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٤: سيقت بنات الحسين بن علي ومعهم زين العابدينعليه‌السلام وهو مريض كما تساق الاُسارى (قاتل الله فاعل ذلك). وخالف ابن تيمية ضرورة التاريخ، فقال كما في المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي / ٢٨٨: سيّر ابن زياد حرم الحسين بعد قتله إلى المدينة.

(٢) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم / ١٦٥ قال: بنو عائدة منهم مجفر بن مرّة بن خالد بن عامر بن قبان بن عمرو بن قيس بن الحارث بن مالك بن عبيد بن خزيمة بن لؤي، وهو الذي حمل رأس الحسين بن عليرضي‌الله‌عنهما إلى الشام.

(٣) المنتخب للطريحي / ٣٣٩، الطبعة الثانية.

(٤) الإرشاد للمفيد.

(٥) اللهوف / ٩٨.

(٦) مجمع الزوائد لابن حجر ٩ / ١٩٩، والخصائص للسيوطي ٢ / ١٢٧، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٤٢، والصواعق المحرقة / ١١٦، والكواكب الدريّة ١ / ٥٧، والاتحاف بحبّ الأشراف / ٢٣. ونسبه ابن طاووس في اللهوف / ٩٨ إلى تاريخ بغداد لابن النّجار. وفي تاريخ القرماني / ١٠٨: وصلوا إلى دَير في الطريق، فنزلوا فيه ليقيلوا به، فوجدوا مكتوباً على بعض جدرانه هذا البيت. وفي الخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٥: كتب هذا قديماً ولا يدرى قائله. وفي مثير الأحزان لابن نما / ٥٣: حفروا في بلاد الروم حفراً قبل أن يبعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاثمئة سنة فأصأبوا حجراً مكتوب عليه بالمسند هذا البيت، والمسند كلام أولاد شيث.

٣٤٥

أترجو اُمّة قتلت حسيناً

شفاعةَ جَدّه يومَ الحساب؟

فلم يعتبروا بهذه الآية، وأرداهم العمى إلى مهوىً سحيق، ونِعم الحكم الله تعالى.

وقبل أنْ يصلوا الموضع بفرسخ، وضعوا الرأس على صخرة هناك، فسقطت منه قطرة دم على الصخرة، فكانت تغلي كلّ سنة يوم عاشوراء، ويجتمع النّاس هناك من الأطراف فيقيمون المأتم على الحسينعليه‌السلام ويكثر العويل حولها، وبقي هذا إلى أيّام عبد الملك بن مروان، فأمر بنقل الحجر فلم يُرَ له أثر بعد ذلك، ولكنّهم بنوا في محلّ الحجر قبّة سموها النّقطة(١) .

وكان بالقرب من حماة في بساتينها مسجد يقال له مسجد الحسينعليه‌السلام ، ويحدّث القَومة: أنّ الحجر والأثر والدم موضع رأس الحسينعليه‌السلام حين ساروا به إلى دمشق(٢) .

وبالقرب من حلب مشهد يعرف بـ (مسقط السّقط)(٣) وذلك أنّ حرم

____________________________

(١) نفَس المهموم / ٢٢٨، للشيخ الجليل الشيخ عبّاس القمي.

وفي نهر الذهب في تاريخ حلب ٣ / ٢٣: لمّا جيء برأس الحسينعليه‌السلام مع السّبايا ووصلوا إلى هذا الجبل غربي حلب، قطرت من الرأس الشريف قطرة دم، وعُمّر على أثرها مشهد عرف (بمشهد النقطة). وفيه ٣ / ٢٨٠، نقل من تاريخ يحيى بن أبي طي من عمْر هذا المشهد وتوالي العمارات عليه.

وفي كتاب الإرشارات إلى معرفة الزيارات تأليف أبي الحسن علي بن أبي بكر الهروي المتوفّى (سنة ٦١١ هـ) / ٦٦: في مدينة نصيبين مشهد النّقطة يقال أنّه من دم رأس الحسينعليه‌السلام . وفي سوق النشابين مشهد الرأس فإنّه علّق هناك لمّا عبروا بالسّبي إلى الشام.

(٢) قال الشيخ المحدّث الجليل الشيخ عبّاس القمي، في نفس المهموم شاهدت هذا الحجر عند سفري إلى الحج، وسمعت الخدم يتحدثون بذلك.

(٣) في معجم البلدان ٣ / ١٧٣، وخريدة العجائب / ١٢٨: يُسمّى مشهد الطرح.

وفي نهر الذهب ٢ / ٢٧٨: سمّي مشهد الدكّة، ومشهد الطرح، يقع غربي حلب.

وحكى عن تاريخ ابن أبي طي إنّ مشهد الطرح ظهرت عمارته (سنة ٣٥١ هـ) بأمر من سيف الدولة.

وذكر بعضهم: إنّ إحدى نساء الحسينعليه‌السلام أسقطت هنا لمّا جيء بسبي عيال الحسينعليه‌السلام والرؤوس وكان هنا معدن، وأهله لمّا فرحوا بالسّبي دعت عليهم زينبعليها‌السلام ففسد ذلك المعدن، فعمّره سيف الدولة، ثمّ ذكر توالي العمارات عليه.

٣٤٦

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لما وصلوا إلى هذا المكان، أسقطت زوجة الحسينعليه‌السلام سقطاً كان يُسمى (محسناً)(١) .

وفي بعض المنازل نصبوا الرأس على رمح إلى جنب صومعة راهب، وفي أثناء الليل سمع الراهب تسبيحاً وتهليلاً، ورأى نوراً ساطعاً من الرأس المطهّر وسمع قائلاً يقول: السّلام عليك يا أبا عبد الله. فتعجّب حيث لَم يعرف الحال. وعند الصباح استخبر من القوم، قالو: إنّه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب واُمّه فاطمة بن محمّد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهم: تبّاً لكم أيّتها الجماعة، صدقت الأخبار في قولها (إذا قُتل تمطر السّماء دماً). وأراد منهم أنْ يقبّل الرأس فلَم يجيبوه إلاّ بعد أن دفع إليهم دراهم، ثمّ أظهر الشهادتين وأسلم ببركة المذبوح دون الدعوة الإلهيّة، ولمّا ارتحلوا عن هذا المكان نظروا إلى الدراهم وإذا مكتوب عليها: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(٢) .

أيُهدى إلى الشامات رأس ابن فاطمٍ

ويـقـرعه بـالخيزرانة كـاشحه

وتـُسبى كـريمات النبيّ حواسراً

تـغادي الجوى من ثكلها وتراوحه

يـلوح لها رأس الحسين على القنا

فـتبكي وينهاها عن الصبر لائحه

وشـيـبته مـخـضوبة بـدمائه

يـلاعبها غادي النسيم ورائحه(٣)

في الشام

ولما قربوا من دمشق، أرسلت اُمّ كلثوم إلى الشمر تسأله أنْ يدخلهم في درب قليل النظّار، ويخرجوا الرؤوس من بين المحامل؛ لكي يشتغل النّاس بالنّظر إلى

____________________________

(١) في معجم البلدان ٣ / ١٧٣، بمادة جوشن، وخريدة العجائب لابن الوردي / ١٢٨، عند ذكر جبل جوشن: إنّ بعض سبي الحسينعليه‌السلام طلب ممّن يقطن هناك من الصنّاع خبزاً وماءً، فامتنع فدعا عليهم؛ ومن ذلك لا يربح أهل ذلك الموضع.

(٢) تذكرة الخواص / ١٥٠.

(٣) للعلامة الشيخ عبد الحسين الأعسم النجفيرحمه‌الله .

٣٤٧

الرؤوس فسلك بهم على حالة تقشعّر من ذكرها الأبدان وترتعد لها فرائص كلّ إنسان. وأمر أنْ يُسلك بهم بين النظّار، وأنْ يجعلوا الرؤوس وسط المحامل(١) .

وفي أول يوم من صفر دخلوا دمشق(٢) فأوقفوهم على (باب السّاعات)(٣) وقد خرج النّاس بالدفوف والبوقات، وهم في فرح وسرور، ودنا رجل من سكينة وقال: من أيّ السّبايا أنتم؟ قالت: نحن سبايا آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

وكان يزيد جالساً في منظره على جيرون، ولما رأى السّبايا والرؤوس على أطراف الرماح، وقد أشرفوا على ثنية جيرون، نعب غراب، فأنشأ يزيد يقول:

لـمّا بـدت تلك الحمول وأشرقت

تلك الرؤوس على شفا جيرون(٥)

نـعب الغراب فقلتُ قل أو لا تقل

فـقد أقتضيت من الرسول ديوني

ومن هنا حكم ابن الجوزي والقاضي أبو يعلى والتفتازاني والجلال السّيوطي بكفره ولعنه(٦) .

____________________________

(١) اللهوف / ٩٩، ومثير الأحزان لابن نما / ٥٣، ومقتل العوالم / ١٤٥.

(٢) نصّ عليه كامل البهائي، والآثار الباقية للبيروني / ٣٣١ طبعة الاُفست، والمصباح للكفعمي / ٢٦٩، وتقويم المحسنين للفيض / ١٥، وبناءً على ما في تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٦، من حبسهم في السّجن إلى أنْ يأتي البريد من الشام يخبرهم ببعد وصولهم إلى الشام في أول صفر فإنّ المسافة بعيدة تستدعي زمناً طويلاً، اللهمّ إلاّ أنْ يكون البريد من طريق الطير.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ / ٦١ روى: إنّهم اُدخلوا مدينة دمشق من باب (توما)، وهذا الباب كما في ثمار المقاصد / ١٠٩: أحد أبواب مدينة دمشق القديمة. ويحدّث أبو عبد الله محمّد بن علي بن ابراهيم المعروف بابن شدّاد المتوفّى (سنة ٦٨٤ هـ) في أعلاق الخطيرة ٢ / ٧٢ قال: إنّما سمّي بباب السّاعات؛ لأنّه عمل هناك بنظام السّاعات، يعلم بها كلّ ساعة تمضي من النّهار عليها عصافير من نحاس وغراب وحيّة من نحاس، فإذا أتمّت السّاعة خرجت الحيّة فصفرت العصافير وصاح الغراب وسقطت حصاة في الطشت.

(٤) أمالي الصدوق / ١٠٠ المجلس الواحد والثلاثون، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٦٠.

(٥) في صورة الأرض لابن حوقل / ١٦١ طبعة الاُفست في دمشق: ليس في الإسلام أحسن منه، كان مصلّى الصابئين ثمّ صار لليونان يعظّمون فيه دينهم، ثمّ صار لليهود، وملوك عبدة الأصنام، وباب هذا المسجد يُسمّى باب جيرون، صُلب على هذا الباب رأس يحيى بن زكريا وصلب على جيرون رأس الحسين بن عليعليه‌السلام في الموضع الذي صُلب فيه رأس يحيى بن زكريا. ولمّا كان أيّام الوليد بن عبد الملك جعل وجه جدرانه رخاماً...، ويظهر إنّ هذا المسجد هو الجامع الاُموي.

(٦) روح المعاني للآلوسي ٢٦ / ٧٣، آية( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) قال الآلوسي: أراد بقوله: (فقد اقتضيت من الرسول ديون) أنّه قتل بما قتله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر، كجدّه عتبة وخاله وغيرهما، وهذا كفر صريح، ومثله تمثله بقول ابن الزبعري قبل إسلامه (ليت أشياخي...) الأبيات.

٣٤٨

ودنا سهل بن سعد السّاعدي من سكينة بنت الحسينعليه‌السلام وقال: ألك حاجة؟ فأمرته أنْ يدفع لحامل الرأس شيئاً فيبعده عن النّساء ليشتغل النّاس بالنّظر إليه، ففعل سهل(١) .

ودنا شيخ من السّجادعليه‌السلام وقال له: الحمد الله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم. ها هنا أفاض الإمام من لطفه على هذا المسكين المغترّ بتلك التمويهات لتقريبه من الحقّ وإرشاده إلى السّبيل، وهكذا أهل البيتعليهم‌السلام تشرق أنوارهم على مَن يعلمون صفاء قلبه وطهارة طينته واستعداده للهداية. فقالعليه‌السلام له:«يا شيخ أقرأت القرآن؟» قال: بلى، قالعليه‌السلام :«أقرأت ( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٢) ؟ وقرأت قوله تعالى: ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى‏ حَقّهُ ) (٣) ؟ وقوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنّ للّهِ‏ِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٤) ؟» قال الشيخ: نعم، قرأت ذلك. فقالعليه‌السلام :«نحن والله القربى في هذه الآيات».

ثمّ قال له الإمام:«أقرأت قوله تعالى: ( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٥) ؟» قال: بلى. فقالعليه‌السلام :«نحن أهل البيت الذين خصّهم الله بالتطهير» . قال الشيخ: بالله عليك أنتم هم؟ فقالعليه‌السلام :«وحقّ جدّنا رسول الله إنّا لنحن هم، من غير شكّ».

فوقع الشيخ على قدمَيه يقبّلهما ويقول: أبرأ إلى الله ممَّن قتلكم. وتاب على يد الإمام ممّا فرّط في القول معه. وبلغ يزيد فعل الشيخ وقوله، فأمر بقتله(٦) .

بـأيـّة آيــة يـأتـي يـزيـد

غـداة صـحائف الأعـمال تُتلى

وقـام رسـول ربّ الـعرش يتلو

وقد صمَّت جميع الخلق قل لا(٧)

____________________________

(١) مقتل العوالم / ١٤٥.

(٢) سورة الشورى / ٢٣.

(٣) سورة الإسراء / ٢٦.

(٤) سورة الأنفال / ٤١.

(٥) سورة الأحزاب / ٣٣.

(٦) اللهوف / ١٠٠.

وفي تفسير ابن كثير ٤ / ١١٢، وروح المعاني للآلوسي ٢٥ / ٣١، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٦١: إنّ السّجادعليه‌السلام قرأ على الشيخ آية المودّة فأذعن له.

(٧) روح المعاني للآلوسي ٢٥ / ٣١، إنّهما للسيّد عمر الهيثمي (أحد أقاربه المعاصرين) وقد استجودهما الآلوسي.

٣٤٩

وقبل أنْ يدخلوهم إلى مجلس يزيد، أتوهم بحبال فربقوهم بها، فكان الحبل في عنق زين العابدينعليه‌السلام إلى زينب اُمّ كلثوم وباقي بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكلّما قصروا عن المشي ضربوهم حتّى أوقفوهم بين يدَي يزيد، وهو على سريره، فقال على بن الحسينعليه‌السلام :«ما ظنّك برسول الله لَو يرانا على هذا الحال؟» فبكى الحاضرون، وأمر يزيد بالحبال فقُطعت(١) .

واُقيموا على درج باب الجامع حيث يقام السّبي، ووُضع الرأس المقدّس بين يدَي يزيد، وجعل ينظر إليهم ويقول:

صبرنا وكان الصبر منّا عزيمةً

وأسـيافنا يقطعنَ هاماً ومعصما

نُـفلّق هـاماً مـن رجال أعزّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما(٢)

ثمّ التفت إلى النّعمان بن بشير وقال: الحمد لله الذي قتله. فقال النّعمان: قد كان أمير المؤمنين معاوية يكره قتله. فقال يزيد: قد كان ذلك قبل أنْ يخرج، ولو خرج على أمير المؤمنين لقتله(٣) .

فليت السّما حقاً على الأرض اُطبِقَتْ

وطـاف عـن الدنيا الفناء أو النشر

بـنات عـليٍّ وهـي خير حرائر

يـباح بـأيدي الأدعـياء لها ستر

سـبايا على عَجْف المطايا حواسراً

يـودّعها مـصر ويـرقبها مـصر

فـإنْ دمـعت منهنَّ عين وقصَّرت

عـن الـمشي إعـياء مخدرة طهر

____________________________

(١) الأنوار النّعمانيّة / ٣٤١، واللهوف / ١٠١، وتذكرة الخواص / ٤٩.

(٢) مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٥.

وفي كامل ابن الأثير ٤ / ٣٥، وعليه مروج الذهب: لما اُدخل الرأس عليه، جعل ينكته بقضيب ويتمثّل بقول الحصين بن حمام.

أبى قومنا أن ينصفونا فانصفت

قواضب في أيماننا تقطر الدما

نفلق هاماً من رجـال أعـزة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

وفي العقد الفريد ٢ / ٣١٣، في خلافة يزيد قال: لمّا وُضع الرأس بين يدَيه تمثّل يزيد بقول الحصين بن الحمام المزني وذكر البيت الثاني، واقتصر ابن حجر الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٩٨ على البيت الثاني، واقتصر الخوارزمي في المقتل ٢ / ٦١ على وقوفهم على درج باب الجامع، وهذان البيتان للحصين بن الحمام ذكرهما في المؤتلف والمختلف للآمدي / ٩١، قال: إنّ الحصين بن حمام بن ربيعة (إلى آخر نسبه) قال من قصيدة طويلة وذكر ثلاثة أبيات فيها البيتان.

وفي الشعر والشعراء / ١٥١، ذكر ثلاثة أبيات فيها البيت الثاني.

وفي الأشباه والنظائر / ٤ من أشعار المتقدّمين والجاهلين للخالديين اقتصر على البيت الثاني.

وفي الأغاني ١٢ / ١٢٠، طبعة ساسي ذكر ثلاثة عشر بيتاً فيها البيتان.

(٣) مقتل الخوارزمي ٢ / ٥٩.

٣٥٠

أهـاب بـها شـمر الخنا بقساوة

وآمـلها فـي سوطه نقمة زجر

ولـيس لـديها كـافل غير مدنف

أضرَّت به البلوى وقد مسَّه الضر

عليل يعاني القيد والغلَّ في السرى

ويـبدو عـلى سيمائه الذلّ والاسر

سـروا فـيه مـغلول اليدين مقيَّدا

إلى بطن حرف لم يوطَّأ لها ظهر

وقـد أكـل الـلحم الـحديد بجيده

واثَّـر حتّى فاض في دمه النحر

يـلاحظ أطـفالاً تـصيح ونـسوة

تـعجُّ واكـباداً يـطير بها الذعر

ورأس أبـيه وهـو سـبط محمد

أمـامَ الـسبايا تـستطيل به السمر

وقـد أدخـلوه الـشام لا مرحباً به

وأفـراحه تـطغى بعيدٍ هو النصر

الـى مـجلس فيه ابن هند بنصره

قـرير ومـروان يـطير به البشر

ورأس أبيه السّبط في طست عسجد

أمـام دعـيًّ غـرَّه الزهو والكبر

وقـد كـان يخفي الكفر لكن بذكره

لا شياخه في بدر قد ظهر الكفر(١)

يزيد مع السجاد

والتفت يزيد إلى السّجادعليه‌السلام وقال: كيف رأيت صنع الله يا علي بأبيك الحسين؟ قال:«رأيت ما قضاه الله عزّ وجلّ قبل أن يخلق السّموات والأرض». وشاور يزيد من كان حاضراً عنده في أمره، فأشاروا عليه بقتله. فقال زين العابدينعليه‌السلام :«يا يزيد، لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار به جلساء فرعون عليه حين شاورهم في موسى وهارون فإنّهم قالوا له: ( أَرْجِهِ وَأَخَاهُ ) ولا يقتل الأدعياء أولاد الأنبياء وأبناءهم» . فأمسك يزيد مطرقاً(٢) .

وممّا دار بينهما من الكلام أنْ قال يزيد لعلي بن الحسينعليه‌السلام :( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) (٣) ، قال علي بن الحسينعليه‌السلام :«ما هذه فينا نزلت، إنّما نزل فينا ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) (٤) (٥) فنحن لا

____________________________

(١) من قصيدة للعلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي.

(٢) اثبات الوصية صفحة ١٤٣ ط نجف.

(٣) سورة الشورى / ٣٠.

(٤) العقد الفريد ٢ / ٣١٣، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٦٧.

(٥) سورة الحديد / ٢٢ - ٢٣.

٣٥١

نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا» (١) فأنشد يزيد قول الفضل بن العبّاس بن عتبة:

مهلاً بني عمَّنا مهلاً موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناً(٢)

ثمّ استأذنهعليه‌السلام في أنْ يتكلّم، فقال يزيد: نعم على أنْ لا تقل هجراً. قالعليه‌السلام : لقد«وقفت موقفاً لا ينبغي لمثلي أنْ يقول الهجر، ما ظنّك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لَو يراني على هذه الحال؟» فأمر يزيد بأن يفكّ الغل منه(٣) .

وأمر يزيد الخطيب أن يثني على معاوية وينال من الحسين وآله، فأكثر الخطيب من الوقيعة في علي والحسينعليهما‌السلام فصاح به السّجادعليه‌السلام :«لقد اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النّار» (٤) :

أعلى المنابر تعلنون بسبّه

وبسيفه نُصِبَتْ لكم أعوادها

وقال ليزيد:«أتأذن لي أن أرقى هذه الأعواد، فأتكلّم بكلام لله تعالى رضىً ولهؤلاء أجر وثواب؟» فأبى يزيد، وألحّ النّاس عليه فلَم يقبل، فقال ابنه معاوية: إئذن له، ما قدر أنْ يأتي به؟ فقال يزيد: إنّ هؤلاء ورثوا العلم والفصاحة(٥) وزقّوا العلم زقّاً(٦) . وما زالوا به حتّى أذِن له.

فقالعليه‌السلام :«الحمد لله الذي لا بداية له، والدائم الذي لا نفاد له، والأول الذي لا أوليّة له، والآخر الذي لا آخريّة له، والباقي بعد فناء الخلق، قدّر الليالي والأيّام، وقسّم فيما بينهم الأقسام، فتبارك الله الملك العلاّم، إلى أنْ قال:أيّها النّاس اُعطينا ستّاً وفضّلنا بسبع، اُعطينا؛ العلم والحلم والسّماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفُضلنا؛ بأنَّ منّا النّبي والصدّيق والطيّار وأسد الله وأسد رسوله وسبطا هذه الاُمّة. أيّها النّاس مَن عرفني فقد

____________________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٣١٣، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٦٧، تفسير علي بن إبراهيم / ٦٠٣، في الشورى.

(٢) المحاضرات للراغب الاصفهاني ١ / ٧٧٥، باب مَن يبجح بمعادات ذويه، وهذا البيت من أبيات خمسة للفضل بن العبّاس بن عتبة بن أبي لهب ذكرها أبو تمام في الحماسة راجع (شرح التبريزي ١ / ٢٢٣).

(٣) مثير الأحزان لابن نما / ٥٤، وغيره.

(٤) نفَس المهموم / ٢٤٢.

(٥) كامل البهائي.

(٦) رياض الأحزان / ١٤٨.

٣٥٢

عرفني، ومَن لَم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي، أيّها النّاس أنا ابن مكّة ومِنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن مَن حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى وخير مَن طاف وسعى، وحجّ ولبّى، أنا ابن مَن حُمِل على البراق وبلغ به جبرئيل سدرة المنتهى، فكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن مَن صلّى بملائكة السّماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن مَن ضرب بين يدَي رسول الله ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيّين، ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ومفرّق الأحزاب، أربطهم جأشاً، وأمضاهم عزيمةً ذاك أبو السّبطين الحسن والحسين، علي بن أبي طالب. أنا ابن فاطمة الزهراء، وسيّدة النّساء، وابن خديجة الكبرى. أنا ابن المرمّل بالدماء، أنا ابن ذبيح كربلاء، أنا ابن مَن بكى عليه الجنّ في الظلماء، وناحت الطير في الهواء». فلمّا بلغ إلى هذا الموضع، ضجّ النّاس بالبكاء، وخشي يزيد الفتنة، فأمر المؤذّن أن يُؤذِّن للصلاة.

فقال المؤذِّن: الله أكبر. قال الإمامعليه‌السلام :«الله أكبر وأجلّ وأعلى وأكرم ممّا أخاف وأحذر». فلمّا قال المؤذِّن: أشهد أنْ لا إله إلاّ الله، قالعليه‌السلام :«نعم، أشهد مع كلّ شاهد أنْ لا إله غيره ولا ربّ سواه». فلمّا قال المؤذِّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله قال الإمامعليه‌السلام للمؤذِّن:«أسألك بحقّ محمّد أنْ تسكت حتّى اُكلّم هذا، والتفت إلى يزيد وقال:هذا الرسول العزيز الكريم جدّك أم جدّي؟ فإنْ قلتَ جدّك علم الحاضرون والنّاس كلّهم إنّك كاذب، وإنْ قلتَ جدّي فلِمَ قتلتَ أبي ظلماً وعدواناً وانتهبت ماله وسبَيت نساءه، فويلٌ لك يوم القيامة إذا كان جدّي خصمك».

فصاح يزيد بالمؤذِّن: أقم للصلاة. فوقع بين النّاس همهمة وصلّى بعضهم، وتفرّق الآخر(١) .

____________________________

(١) نفَس المفهوم / ٢٤٢، والخطبة طويلة في مقتل الخوارزمي ٢ / ٦٩.

٣٥٣

الرأس الأطهر

ودعا يزيد برأس الحسينعليه‌السلام ووضعه أمامه في طست من ذهب(١) ، وكان النّساء خلفه، فقامت سكينة وفاطمة يتطاولان للنّظر إليه، ويزيد يستره عنهما، فلمّا رأينه صرخن بالبكاء(٢) .

ثمّ أذِن للنّاس أنْ يدخلوا(٣) . وأخذ يزيد القضيب وجعل ينكت ثغر الحسين(٤) ويقول: يوم بيوم بدر(٥) . وأنشد قول الحصين بن الحمام:

أبى قومنا أنْ ينصفونا فأنصفت

قـواضب في أيماننا تقطر الدما

نُـفلِّق هـاماً مـن رجال أعزَّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما(٦)

فقال يحيى بن الحكم بن أبي العاص، أخو مروان، وكان جالساً عنده:

لَهامٍ بجنب الطفِّ أدنى قرابة من ابن

زيـاد الـعبد ذي الـحسب والوغل

سـميّة أمـسى نسلها عدد الحصى

وليس لآل المصطفى اليوم من نسل

____________________________

(١) مرآة الجنان لليافعي ١ / ١٣٥.

(٢) كامل ابن الأثير ٤ / ٣٥، ومجمع الزوائد ٩ / ١٩٥، والفصول المهمّة لابن الصباغ / ٢٠٥.

(٣) كامل ابن الأثير ٤ / ٣٥.

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٧، وكامل ابن الأثير ٤ / ٣٥، وتذكرة الخواص / ١٤٨، والصواعق المحرقة / ١١٦، والفروع لابن مفلح الحنبلي في فقه الحنابلة ٣ / ٥٤٩، ومجمع الزوائد لابن حجر ٩ / ١٩٥، والفصول المهمّة لابن الصباغ / ٢٠٥، والخطط المقريزية ٣ / ٢٨٩، والبداية لابن كثير ٨ / ١٩٢، وشرح مقامات الحريري للشريشي ١ / ١٩٣، آخر المقامة العاشرة، وأيّام العرب في الإسلام / ٤٣٥، تأليف محمّد أبي الفضل وعلي محمّد البجاوي و مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٥.

وفي الاتحاف بحبّ الأشراف / ٢٣: صار يزيد يضرب ثناياه بالقضيب. وكذ في الآثار الباقية للبيروني / ٣٣١، طبعة الاُوفست: (والنكت) كما في صحاح الجوهري: الضرب.

وفي المغرب للمطرزي ٢ / ٢٢٧: نكتت خدّها بإصابعها: أي نقرته وضربته.

وفي مقاييس اللغة لابن فارس ٥ / ٤٧٥: نكت في الأرض بقضيبه، ينكت: إذا أثّر فيها.

(٥) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٦.

(٦) كامل ابن الأثير ٤ / ٣٥، والفصول المهمّة لابن الصباغ / ٢٠٥: والبيت الأول عند اليافعي في مرآة الجنان ١ / ١٣٥.

صبرنا فكان الصبر منّا عزيمةً

وأسيافنا يقطعن كفّا ومعصما

ورواه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص / ١٤٨، مع تغيير في بعض ألفاظه.

وجماعة من المؤرخين اقتصروا على البيت الثاني، منهم الشريشي في شرح مقامات الحريري ١ / ١٩٣، والأندلسي في العقد الفريد ٢ / ٣١٣ وابن كثير في البداية ٨ / ١٩٧، والشيخ المفيد في الإرشاد، وابن جرير الطبري في التاريخ ٦ ص٢٦٧، وقال: البيت للحصين بن الحمام المري.

٣٥٤

فضربه يزيد على صدره وقال: اسكت لا اُمّ لك(١) .

وقال أبو برزة الأسلمي: أشهد لقد رأيت النّبي يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسنعليه‌السلام ويقول:«أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة، قَتل الله قاتلكما، ولعنه وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً» . فغضب يزيد منه وأمر به فاُخرج سحباً(٢) .

والتفت رسول قيصر إلى يزيد وقال: إنّ عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى، ونحن نحجّ إليه في كلّ عام من الأقطار ونهدي إليه النّذور ونعظّمه كما تعظّمون كتبكم، فأشهد إنّكم على باطل(٣) . فأغضب يزيد هذا القول وأمر بقتله، فقام إلى الرأس وقبَّله، وتشهّد الشهادتين، وعند قتله سمع أهل المجلس من الرأس الشريف صوتاً عالياً فصيحاً«لا حول ولا قوّة إلاّ بالله» (٤) .

ثمّ اُخرج الرأس من المجلس وصُلب على باب القصر ثلاثة أيّام(٥) ، فلمّا رأت هند بنت عمرو بن سهيل، زوجة يزيد، الرأس على باب دارها(٦) والنّور الإلهي يسطع منه ودمه طري لَم يجفّ ويُشمّ منه رائحةً طيّبةً(٧) دخلت المجلس مهتوكة الحجاب وهي تقول: رأس ابن بنت رسول الله على باب دارنا؟! فقام إليها

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٥، وكامل ابن الأثير ٤ / ٣٧. وعجز البيت الثاني في مجمع الزوائد لابن حجر ٩ / ١٩٨، و مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٢٦: (وبنت رسول الله ليس لها نسل) وفي البداية لابن كثير ٨ / ١٩٣: كان الحصين ينشد وذكر البيت الثاني موافقاً لمجمع الزوائد.

وفي مثير الأحزان لابن نما / ٥٤: روى أنّ الحسن بن الحسن - وهو المثنّى - لمّا رأى يزيد يضرب رأس الحسين عليه‌السلام بالقضيب قال واذلاّه!

سـميّة أمـسى نسلها عدد الحصى

وبنت رسول الله ليس لها نسل

وفي تذكرة الخواص / ١٤٩: لمّا بلغ الحسن البصري فعلة يزيد بالرأس، تمثّل بالبيت الثاني.

وفي الأغاني ١٢ / ٧١: نسبهما إلى عبد الرحمن بن الحكم مع بيت ثالث.

وفي مقتل الخوارزمي ٢ / ٥٦: نسبهما إلى عبد الرحمن ابن الحكم أخي مروان.

(٢) اللهوف / ١٠٢، واختصر الحديث في الفصول المهمّة / ٢٠٥، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٦٧، و مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٢٦.

(٣) الصواعق المحرقة / ١١٩.

(٤) مقتل العوالم / ١٥١، ومثير الأحزان لابن نما.

وفي مقتل الخوارزمي ٢ / ٧٢، ذكر محاورة النّصراني مع يزيد وقتْله ولَم يذكر كلام الرأس الأطهر.

(٥) الخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٩، والاتحاف بحبّ الأشراف / ٢٣، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٧٥، والبداية لابن كثير ٨ / ٢٠٤، وسِيَر أعلام النّبلاء ٣ / ٢١٦.

(٦) مقتل العوالم / ١٥١، وتقدّم في المقدّمة من هذا الكتاب تعريف أبيها وعند مَن كانت.

(٧) الخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٤.

٣٥٥

يزيد وغطّاها وقال لها: اعولي عليه يا هند، فإنّه صريخة بني هاشم عجّل عليه ابن زياد(١) .

وأمر يزيد بالرؤوس أنْ تُصلب على أبواب البلد والجامع الاُموي، ففعلوا بها ذلك(٢) .

وفرح مروان بقتل الحسينعليه‌السلام فقال:

ضربت دوسر فيهم ضربة

أثبتت أوتاد مُلكٍ فاستقر

ثمّ جعل ينكت بالقضيب في وجهه ويقول:

يـا حبّذا بردك في اليدَين

ولونك الأحمر في الخدَّين

كـأنَّـه بـات بـعسجدين

شفيت منك النّفس يا حسين(٣)

الشامي مع فاطمة

قال الرواة: نظر رجال شامي إلى فاطمة بنت علي(٤) فطلب من يزيد أنْ يهبها له لتخدمه، ففزعت ابنة أمير المؤمنين وتعلّقت باُختها العقيلة زينب وقالت: كيف

____________________________

(١) المقتل للخوارزمي ٢ / ٧٤.

(٢) نفَس المهموم ص ٢٤٧.

(٣) رياض الاحزان ص ٥٩ ومثير الاحزان لابن نما ص ٥ واقتصر سبط ابن الجوزي على البيت الاول ويروي ابن ابي الحديد في شرح النهج ج ١ ص ٣٦١ مصر ان مروان كان امير المدينة فلمّا وصل اليه الرأس قال:

يـا حبّذا بردك في اليدَين

وحمرة تجري على خدين

كأنما بات بعسجدين

ثم رمى بالرأس نحو القبر وقال يا محمد يوم بيوم بدر والخبر مشهور والصحيح ان مروان لم يكن امير المدينة. وفي اقرب الموارد مادة (برد) البرد حب الغمام ويستعمل للاسنان الشديدة البياض، وفي آداب اللغة العربية لجرجي زيدان ج ١ ص ٢٨٢ من شعر يزيد بن الطثرية قوله:

بنفسي من لو مر بنانه

على كبدي كانت شفاء أنامله

والبرد كما في تاج العروس ج ٢ ص ٢٩٨ السكون والفتور فكأنه أراد أن يكون قتله واسكاته عن الحركة بيده وانه الذي يضرج خديه بحمرة الدم، واستبعاد حضور مروان في الشام حينذاك يرده نص ابن جرير الطبري في التاريخ ج ٦ ص ٢٦٧ وابن كثير في البداية ج ٨ ص ١٩٦ كان مروان بن الحكم يسأل الجماعة الذين وردوا الشام مع العيال عما فعلوه بالحسينعليه‌السلام .

(٤) تاريخ الطبري ج ٦، والبداية لابن كثير ٨ / ١٩٤، وأمالي الشيخ الصدوق ص ١٠٠ المجلس الواحد والثلاثون. ويروي ابن نما في مثير الأحزان ص ٥٤، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٦٢: إنّها فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام .

٣٥٦

أخدم؟ قالت العقيلة لا عليكِ إنّه لَن يكون أبداً. فقال يزيد: لَو أردتُ لفعلتُ. فقالت له: إلاّ أنْ تخرج عن ديننا. فردّ عليها: إنّما خرج عن الدِّين أبوكِ وأخوكِ. قالت زينب: بدين الله ودين جدّي وأبي وأخي اهتديت أنت وأبوك إنْ كنت مسلماً. قال: كذبتِ يا عدوّة الله. فرقّتعليها‌السلام وقالت: أنت أمير مسلّط تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك(١) . وعاود الشامي الطلب، فزبره يزيد ونهره وقال له: وهب الله لك حتفاً قاضياً(٢) .

خطبة زينبعليها‌السلام

قال ابن نما وابن طاووس(٣) : لمّا سمعت زينب بنت عليعليهما‌السلام (٤) يزيد يتمثّل بأبيات ابن الزبعري(٥) .

لـيت أشـياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهـلّـوا واسـتهلّوا فـرحاً

ثـمّ قـالوا يا يزيد لا تشل

قـد قـتلنا القرم من ساداتهم

وعـدلـناه بـبدرٍ فـاعتدل

لـعبت هـاشم بـالملك فلا

خـبر جـاء ولا وحي نزل

لـستُ من خندف إنْ لَم أنتقم

مـن بـني أحمد ما كان فعل

قالتعليها‌السلام : الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله

____________________________

(١) ابن الاثير ٤ / ٣٥.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٥.

(٣) ذُكرت هذه الخطبة في (بلاغات النّساء / ٢١ طبعة النّجف)، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٦٤.

(٤) عرفها الخوارزمي في مقتل الحسينعليه‌السلام : أنّ اُمّها فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٥) هذه الأبيات نسبها السيّد ابن طاووس في اللهوف / ١٠٢ طبعة صيدا: إلى ابن الزبعري وليست كلّها له، فإنّ الخوارزمي في مقتل الحسينعليه‌السلام ٢ / ٦٦، وابن أبي الحديد في شرح النّهج ٣ / ٣٨٣ الطبعة المصرية الاُولى، وابن هشام في السّيرة في واقعة اُحد: ذكروا ستّة عشر بيتاً وليس فيها ممّا ذكره ابن طاووس إلاّ الأول والثالث، وكان عجز الثالث في روايتهم (وعدلنا مَيل بدرٍ فاعتدل). وفي رواية أبي علي القالي في الأمالي ١ / ١٤٢، والبكري في شرحه ١ / ٣٧٨: (وأقمنا مَيل بدرٍ فاعتدل). وفي رسالة الجاحظ في بني اُميّة ضمن مجموعة رسائله: ابن الزبعري قال: لَيت أشياخي إلى آخر ثلاثة أبيات كما في اللهوف مع تغيير يسير. وذكرها البيروني في الآثار الباقية / ٣٣١ طبعة الاُوفست: عدا البيت الرابع.

٣٥٧

سبحانه حيث يقول:( ثُمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُوا السّوءى‏ أَن كَذّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (١) . أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السّماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الاُسارى أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، وإنّ ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، نظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والاُمور متّسقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى:( وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (٢) ؟!

أمن العدل يابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسَوقك بنات رسول الله سبايا، قد هُتكت ستورهنَّ، واُبديت وجوههنَّ، تحدو بهنَّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنَّ أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههنَّ القريب والبعيد والدني والشريف، ليس معهنَّ من حماتهنَّ حمي ولا من رجالهنَّ ولي، وكيف يرتجي مراقبة مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن، والاحن والاضغان؟! ثمّ تقول غير متأثم ولا مستعظم:

لأهلّوا واستهلَّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشل

منحياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذريّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم فلتردنّ وشيكاً مَوردهم، ولتودنّ أنّك شللت وبكمت ولَم تكن قلتَ ما قلت وفعلتَ ما فعلت.

اللهمّ خُذ لنا بحقّنا، وأنتقم ممَّن ظلمنا، واحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا.

فوالله ما فريتَ إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك، ولتردنّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته، وانتهكتَ من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم،( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٣) .

____________________________

(١) سورة الروم / ١٠.

(٢) سورة آل عمران / ١٧٨.

(٣) سورة آل عمران / ١٦٩.

٣٥٨

وحسبك بالله حاكماً، وبمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً! وأيّكم شرٌّ مكاناً وأضعف جنداً.

ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى.

ألا فالعجب كلّ العجب، لقتل حزب الله النّجباء، بحزب الشيطان الطلقاء! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفّرها اُمّهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً، لتجدنا وشيكاً مغرما، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك، وما ربّك بظلّام للعبيد، وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.

فكد كيدك، واسع سعيك، وناصبْ جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند وأيّامك إلاّ عدد، وجمعك الا بدد؟ يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين.

والحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأولنا بالسّعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويُحسن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فقال يزيد:

يا صيحة تحمد من صوائح

ما أهون النّوح على النوائح

ومن جهْل يزيد وغيِّه وضلاله قوله بملء فمه غير متأثّم ولا مستعظم يُخاطب مَن حضر عنده من ذؤبان أهل الشام: أتدرون من أين أتى ابن فاطمة، وما الحامل له على ما فعل، والذي أوقعه فيما وقع؟ قالوا: لا، قال: يزعم أنّ أباه خير من أبي، واُمَّه فاطمة بنت رسول الله خير من اُميِّ، وجدَّه خيرٌ من جَدِّي، وإنّه خيرٌ منِّي وأحقّ بهذا الأمر منِّي، فأمّا قوله أبوه خيرٌ من أبي فقد حاجَّ أبي أباه إلى الله عزَّ وجلَّ وعلم النّاس أيّهما حكم له، وأمّا قوله اُمّه خيرٌ من اُمّي فلَعمري إنّ فاطمة بنت رسول الله خيرٌ من اُمِّي، وأمّا قوله جدّه خيرٌ من جدِّي، فلَعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر وهو يرى أنّ لرسول الله فينا عدلاً ولا نِدّاً، ولكنّه

٣٥٩

إنّما اُتي من قلَّة فقهه ولَم يقرأ:( قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ) (١) وقوله تعالى:( ... وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ... ) (٢)(٣) .

الخربة

ولقد أحدثت هذه الخطبة هزّة في مجلس يزيد، وراح الرجل يحدّث جليسه بالضلال الذي غمرهم وإنّهم في أي وادٍ يعمهون، فلم يرَ يزيد مناصاً إلاّ أن يُخرج الحرم من المجلس إلى خربة لا تكنّهم من حرٍّ ولا برد، فأقاموا فيها ينوحون على الحسينعليه‌السلام (٤) ثلاثة أيّام(٥) . وفي بعض الأيّام خرج الإمام السّجادعليه‌السلام منها يتروّح، فلقيه المنهال بن عمر وقال له: كيف أمسيت يابن رسول الله؟ قالعليه‌السلام :«أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً منها، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينا معشر أهل بيته مقتولين مشرّدين، فإنّا لله وإنّا اليه راجعون» (٦) . قال المنهال: وبينا يكلّمني إذ امرأة خرجت خلفه تقول له: إلى أين يا نِعم الخلَف؟ فتركني وأسرع إليها، فسألتُ عنها قيل: هذه عمّته زينب(٧) .

إلى المدينة

لقد سرَّ يزيدَ قتلُ الحسينعليه‌السلام ومَن معه وسَبي حريم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٨)

____________________________

(١) سورة آل عمران / ٢٦.

(٢) سورة البقرة / ٢٤٧.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٦، والبداية لابن كثير ٨ / ١٩٥.

(٤) اللهوف / ٢٠٧، وأمالي الصدوق / ١٠١ المجلس الواحد والثلاثون.

(٥) مقتل الخوارزمي ٢ / ٣٤. وهذه الخربة - أو فقل المحبس - كما جاء في ذيل مرآة الزمان لليونيني ٤ / ١٤٦، حوادث (سنة ٦٨١ﻫـ) قال: في ليلة الأحد، عاشر شهر رمضان، احترقت سوق اللبادين بدمشق بكمالها وجسر الكتبيين، والفوارة وسوق القماش المعروف بسوق عسا الله وسقاية جيرون، ووصلت النّار إلى درب العجم وسط جيرون وجدار المسجد العمري الذي على درج بدرب الجامع الملاصق لسجن زين العابدين....

(٦) مثير الأحزان لابن نما / ٥٨، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٧٢.

(٧) الأنوار النّعمانيّة / ٣٤٠.

(٨) تاريخ الخلفاء للسيوطي / ١٣٩.

٣٦٠

وظهر عليه السّرور في مجلسه، فلَم يبال بإلحاده وكفره حين تمثّل بشعر ابن الزبعري، وحتّى أنكر الوحي على رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّه لمّا كثرت اللائمة عليه ووضح له الفشل والخطأ في فعلته التي لَم يرتكبها حتّى مَن لم ينتحل دين الإسلام وعرف المغزى من وصيّة معاوية إيّاه حيث قال له: إنّ أهل العراق لن يدَعوا الحسين حتّى يخرجوه، فإذا خرج عليك فاصفح عنه؛ فإنّ له رحماً ماسة وحقّاً عظيماً(١) .

وعاب عليه خاصّته وأهل بيته ونساؤه، وكان بمرأى منه ومسمع كلام الرأس الأطهر لمّا أمر بقتل رسول ملك الروم(لا حول ولا قوة إلا بالله) (٢) ولحديث الأندية عمّا ارتكبه من هذه الجريمة الشائنة والقسوة الشديدة دوي في أرجاء دمشق، لَم يجد مناصاً من القاء التبعة على عاتق ابن زياد تبعيداً للسبَّة عنه، ولكن الثابت لا يزول.

ولمّا خشى الفتنة وانقلاب الأمر عليه، عجّل بإخراج الإمام السّجادعليه‌السلام والعيال من الشام إلى وطنهم ومقرّهم، ومكَّنهم ممّا يريدون، وأمر النّعمان بن بشير وجماعة معه أنْ يسيروا معهم إلى المدينة مع الرفق(٣) .

فلمّا وصلوا العراق قالوا للدليل: مُر بنا على طريق كربلاء، فوصلوا إلى مصرع الحسينعليه‌السلام فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل رسول الله - قد وردوا لزيارة قبر الحسينعليه‌السلام - فتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم، وأقاموا في كربلاء ينوحون على الحسينعليه‌السلام (٤) ثلاثة أيّام(٥) .

ووقف جابر الأنصاري على القبر فأجهش بالبكاء وقال: يا حسين (ثلاثاً) ثم قال:

حبيب لا يجيب حبيبه! وأنّى لك بالجواب وقد شحطت أوداجك على

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ١٨٠.

(٢) مقتل العوالم / ١٥٠.

(٣) إرشاد المفيد.

(٤) اللهوف / ١١٢، ومثير الاحزان لابن نما / ٧٩ الطبعة الحجريّة.

(٥) رياض الأحزان / ١٥٧.

٣٦١

أثباجك، وفرّق بين رأسك وبدنك، فأشهد أنَّك ابن خاتم النبيين، وابن سيّد المؤمنين، وابن حليف التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيّد النقباء، وابن فاطمة الزهراء سيّدة النساء، وما لَك لا تكون كذلك وقد غذَّتك كفّ سيّد المرسلين، وربيت في حجر المتّقين، ورضعت من ثدى الإيمان، وفطمت بالإسلام؟! فطبت حيّاً وطبت ميّتاً غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة بفراقك، ولا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا.

ثم أجال بصره حول القبر وقال: السّلام عليكم أيّتها الأروح التي حلّت بفناء الحسينعليه‌السلام وأناخت برحله، أشهد أنّكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتّى أتاكم اليقين. والذي بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ نبيّاً، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه. فقال له عطيّة العوفي: كيف ولَم نهبط وادياً ولَم نعلُ جبلاً ولَم نضرب بسيف، والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم وأبدانهم واُوتمت أولادهم واُرملت الأزواج؟ فقال له: إني سمعت حبيبي رسول الله يقول:«مَن أحبّ قوماً، كان معهم. ومَن أحبّ عمل قوم اُشرك في عملهم». والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسينعليه‌السلام وأصحابه(١) .

الرأس مع الجسد

لمّا عرف زين العابدينعليه‌السلام الموافقة من يزيد، طلب منه الرؤوس كلّها ليدفنها في محلّها، فلَم يتباعد يزيد عن رغبته، فدفع اليه رأس الحسينعليه‌السلام مع رؤوس أهل بيته وصحبه، فألحقها بالأبدان.

نصّ على مجيئه بالرؤوس إلى كربلاء في حبيب السير كما في نفَس المهموم ص ٢٥٣، ورياض الأحزان ص ١٥٥.

____________________________

(١) بشارة المصطفى / ٨٩، المطبعة الحيدريّة، مؤلّفه - كما في روضات الجنّات - أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم بن محمّد بن علي الطبري الآملي، من علماء القرن الخامس، قرأ على ابن الشيخ الطوسي.

٣٦٢

وأمّا رأس الحسينعليه‌السلام ففي روضة الواعظين للفتّال ص ١٦٥، وفي مثير الأحزان لابن نما الحلي ص ٥٨: إنّه المعوّل عليه عند الإماميّة.

وفي اللهوف لابن طاووس ص ١١٢: عليه عمل الإماميّة. وفي إعلام الورى للطبرسي ص ١٥١، ومقتل العوالم ص ١٥٤، ورياض المصائب، والبحار: إنّه المشهور بين العلماء.

وقال ابن شهر آشوب في المناقب ج ٢ ص ٢٠٠: ذكر المرتضى في بعض رسائله: إنّ رأس الحسينعليه‌السلام اُعيد إلى بدنه في كربلاء. وقال الطوسي: ومنه زيارة الأربعين.

وفي البحار عن (العدد القويّة) لأخ العلاّمة الحلّي، وفي عجائب المخلوقات للقزويني ص ٦٧: في العشرين من صفر ردَّ رأس الحسينعليه‌السلام إلى جثّته.

وقال الشبراوي: قيل اُعيد الرأس إلى جثّته بعد أربعين يوماً(١) .

وفي شرح همزيّة البوصيري لابن حجر اُعيد رأس الحسينعليه‌السلام بعد أربعين يوماً من قتله.

وقال سبط ابن الجوزي: الأشهر أنّه رُدَّ إلى كربلاء فدفن مع الجسد(٢) .

والمناوي في الكواكب الدريّة ج ١ ص ٥٧، نقل اتّفاق الإماميّة على أنّه اُعيد إلى كربلاء، وإنّ القرطبي رجّحه ولَم يتعقبه، بل نسب إلى بعض أهل الكشف والشهود أنّه حصل له اطّلاع على أنّه اُعيد إلى كربلاء.

وقال أبو الريحان البيروني: في العشرين من صفر ردَّ رأس الحسينعليه‌السلام إلى جثّته حتّى دُفِن مع جثته(٣) .

وعلى هذا فلا يعبأ بكلّ ما ورد بخلافه، والحديث بأنّه عند قبر أبيه بمرأى من هؤلاء الأعلام، فإعراضهم عنه يدلّنا على عدم وثوقهم به؛ لأنّ إسناده لَم يتم ورجاله غير معروفين.

وقال أبو بكر الآلوسي - وقد سئل عن موضع رأس الحسينعليه‌السلام -:

لا تطلبوا رأس الحسين

بشرق أرض أو بغرب

ودَعوا الجميع وعرّجوا

نحوي فمشهده بقلبي(٤)

____________________________

(١) الاتحاف بحبّ الأشراف / ١٢.

(٢) تذكرة الخواص / ١٥٠.

(٣) الآثار الباقية ١ / ٣٣١.

(٤) في البابليّات ٣ / ١٢٨: ذكرهما سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص. أقول: وعبارته في التذكرة / ١٥٩، الطبعة الحجريّة: (وأنشد بعض أشياخنا: لا تطلبوا رأس الحسين...).

٣٦٣

وقال الحاج مهدي الفلّوجي الحلّي(١) :

لا تطلبوا رأس الحسين فإنّه

لا في حمىً ثاوٍ ولا في واد

لـكنّما صـفّو الولاء يدلّكم

في أنّه المقبور وسْط فؤادي

يوم الأربعين

من النّواميس المطّردة الاعتناء بالفقيد بعد أربعين يوماً مضَين من وفاته بإسداء البرّ إليه وتأبينه، وعدّ مزاياه في حفلات تُعقد وذكريات تدوّن، تخليداً لذكره على حين إن الخواطر تكاد تنساه والأفئدة أوشكت أنْ تهمله، فبذلك تعاد إلى ذكره البائد صورة خالدة، بشعر رائق تتناقله الألسن، ويستطيع في القلوب، فتمرّ الحقب والأعوام وهو على جِدته. أو خطاب بليغ تتضمّنه الكتب والمدوّنات حتّى يعود من أجزاء التاريح التي لا يبليها الملوان، فالفقيد يكون حيّاً كلّما تُليت هاتيك النتف من الشعر أو وقف الباحث على ما اُلقيت فيه من كلمات تأبينيّة بين طيّات الكتب، فيقتصّ أثره في فضائله وفواضله، وهذه السُنّة الحسنة تزداد أهميّةً كلّما ازداد الفقيد عظمة وكثرت فضائله، وإنّها في رجالات الإصلاح، والمقتدى بهم من الشرائع أهمّ وآكد؛ لأنّ نشر مزاياهم وتعاليمهم يحدو إلى اتّباعهم واحتذاء مثالهم في الإصلاح و تهذيب النّفوس.

وما ورد عن أبي ذر الغفاري وابن عبّاس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إنّ الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً» (٢) ، وعن زرارة عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :«إنّ السّماء بكت على الحسين عليه‌السلام أربعين صباحاً بالدم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسّواد، والشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً، وما اختضبت امرأة منّا ولا أدهنت ولا اكتحلت ولا رجلت حتّى أتانا رأس عبيد الله بن زياد، وما زلنا في عبرة من بعده» (٣) .

____________________________

(١) شعراء الحلّة ٥ / ٣٧١، إنّها للحاج مهدي الفلّوجي.

(٢) مجموعة الشيخ ورام ٢ / ٢٧٦، والبحار ٢ / ٦٧٩، باب شهادة الإمام عليعليه‌السلام عن مناقب ابن شهر آشوب.

(٣) مستدرك الوسائل للنوري / ٢١٥، الباب الرابع والتسعون.

٣٦٤

يؤكّد هذه الطريقة المألوفة والعادة المستمرّة بين النّاس من الحداد على الميّت أربعين يوماً، فإذا كان يوم الأربعين اُقيم على قبره الاحتفال بتأبينه يحضره أقاربه وخاصّته وأصدقاؤه، وهذه العادة لَم يختصّ بها المسلمون، فإنّ النّصارى يقيمون حفلة تأبينيّة يوم الأربعين من وفاة فقيدهم يجتمعون في الكنيسة ويعيدون الصلاة عليه المسمّاة عندهم بصلاة الجنازة ويفعلون ذلك في نصف السّنة وعند تمامها، واليهود يعيدون الحداد على فقيدهم بعد مرور ثلاثين يوماً وبمرور تسعة أشهُر وعند تمام السّنة(١) ، كلّ ذلك إعادةً لذكراه، وتنويهاً به وبآثاره وأعماله إنْ كان من العظماء ذوي الآثار والمآثر.

وعلى كلّ حال، فإنّ المنقّب لا يجد في الفئة الموصوفة بالإصلاح رجلاً اكتنفته المآثر بكلّ معانيها، وكانت حياته وحديث نهضته وكارثة قتله دعوةً إلهيّة، ودروساً إصلاحيّة، وأنظمة اجتماعيّة، وتعاليم أخلاقيّة، ومواعظ دينيّة، إلاّ سيّد شباب أهل الجنّة شهيد الدِّين، شهيد السّلام والوئام، شهيد الأخلاق والتهذيب الحسينعليه‌السلام ، فهو أولى من كلّ أحد بأنْ تُقام له الذكريات في كلّ مكان، وتشدّ الرحال للمثول حول مرقده الأقدس في يوم الأربعين من قتله؛ حصولاً على تلكم الغايات الكريمة.

وإنّما قصروا الحفلات الأربعينيّة الأول في سائر النّاس من جهة كون مزايا اُولئك الرجال محدودة منقطعة الآخر، بخلاف سيّد الشهداء، فإنّ مزاياه لا تُحَدّ، وفواضله لا تُعَدّ، ودرس أحواله جديد كلما ذُكر، واقتصاص أثره يحتاجه كلّ جيل، فإقامة المآتم عند قبره في الأربعين من كلّ سنة إحياءٌ لنهضته وتعريفٌ بالقساوة التي ارتكبها الاُمويّون ولفيفهم، ومهما أمعن الخطيب أو الشاعر في قضيّته تفتح له أبواب من الفضيلة كانت موصدة عليه قبل ذلك؛ ولهذا اطّردت عادة الشيعة على تجديد العهد بتلكم الأحوال يوم الأربعين من كلّ سنة، ولعلّ رواية أبي جعفر الباقرعليه‌السلام :«إنّ السّماء بكت على الحسين أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء» (٢) تلميح إلى هذه العادة المألوفة بين النّاس.

____________________________

(١) نهر الذهب في تاريخ حلب ١ / ٦٣: ٢٦٧.

(٢) كامل الزيارات / ٩٠ الباب الثامن والعشورن.

٣٦٥

وحديث الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام :«علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، والتختّم في اليمين، وتعفير الجبين» (١) ، يرشدنا إلى تلك العادة المطّردة المألوفة، فإنّ تأبين سيّد الشهداء وعقد الاحتفالات لذكره في هذا اليوم إنّما يكون ممَّن يمتّ به بالولاء والمشايعة، ولا ريب في أنّ الذين يمتّون به بالمشايعة هم المؤمنون المعترفون بإمامته، إذاً فمن علامة إيمانهم وولائهم لسيّد شباب أهل الجنّة المنحور في سبيل الدعوة الإلهيّة المثول في يوم الأربعين من شهادته عند قبره الأطهر لإقامة المأتم، وتجديد العهد بما جرى عليه وعلى صحبه وأهل بيته من الفوادح.

والتصرّف في هذه الجملة (زيارة الأربعين) - بالحمل على زيارة أربعين مؤمناً - التواء في فهم الحديث وتمحّل في الاستنتاج يأباه الذوق السّليم، مع خلوّه عن القرينة الدالّة عليه، ولَو كان الغرض هو الإرشاد إلى زيارة أربعين مؤمناً لقالعليه‌السلام (زيارة أربعين)، فالإتيان بالألف واللام العهديّة للتنبيه على أنّ زيارة الأربعين من سنخ الأمثلة التي نصّ عليها الحديث بأنّها من علائم الإيمان والموالاة للأئمّة الاثني عشر.

ثمّ إنّ الأئمّة من آل الرسولعليهم‌السلام وإنْ كانوا أبواب النّجاة وسفن الرحمة وبولائهم يُعرف المؤمن من غيره، وقد خرجوا من الدنيا مقتولين في سبيل الدعوة الإلهيّة موطّنين أنفسهم على القتل؛ امتثالاً لأمر بارئهم جلّ شأنه الموحى به إلى جدّهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أشار إليه أبو محمّد الحسن ابن أمير المؤمنينعليهما‌السلام بقوله:«إنّ هذا الأمر يملكه منّا اثنى عشر إماماً، ما منهم إلاّ مقتول أو مسموم».

فالواجب إقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كلّ واحد منهم. وحديث الإمام العسكري لَم يشتمل على قرينة لفظيّة تصرف هذه الجملة (زيارة الأربعين) إلى خصوص الحسينعليه‌السلام إلاّ أنّ القرينة الحاليّة أوجبت فهم العلماء الأعلام من هذه الجملة خصوص زيارة الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّ قضيّة سيّد الشهداء هي

____________________________

(١) رواه الشيخ الطوسي في التهذيب ٣ / ١٧، في باب فضل زيارة الحسينعليه‌السلام عن أبي محمّد العسكريعليه‌السلام . ورواه في مصباح المتهجد / ٥٥١ طبعة الهند.

٣٦٦

التي ميّزت بين دعوة الحقّ والباطل؛ ولذا قيل: الإسلام بدؤه محمّدي وبقاؤه حسيني. وحديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :«حسين منّي وأنا من حسين» يشير إليه؛ لأنّ ما قاساه سيّد الشهداء إنّما هو لتوطيد اُسس الإسلام واكتساح أشواك الباطل عن صراط الشريعة، وتنبيه الأجيال على جرائم أهل الضلال، هو عين ما نهض به نبيّ الإسلام لنشر الدعوة الإلهيّة.

فمن أجل هذا كلّه لَم يجد أئمّة الدِّين من آل الرسول ندحة إلاّ لفت الأنظار إلى هذه النّهضة الكريمة؛ لأنّها اشتملت على فجائع تفطّر الصخر الأصمّ، وعلموا أنّ المواظبة على إظهار مظلوميّة الحسينعليه‌السلام تستفزّ العواطف وتوجب استمالة الأفئدة نحوهم فالسّامع لتلكم الفظائع يعلم أنّ الحسينعليه‌السلام إمام عدل لَم يرضخ للدنايا، وإنّ إمامته موروثة له من جدّه وأبيه الوصي، ومَن ناوأه خارج عن العدل، وإذا عرف السّامع أنّ الحقّ في جانب الحسينعليه‌السلام وأبنائه المعصومين، كان معتنقاً طريقتهم وسالكاً سبيلهم.

ومن هنا لَم يرد التحريض من الأئمّة على إقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كلّ واحد منهم حتّى نبيّ الإسلام؛ لكون تذكار كارثته عاملاً قويّاً في إبقاء الرابطة الدينيّة وإنّ لفت الأنظار نحوها أمسّ في إحياء أمر المعصومين المحبوب لديهم التحدّث به«أحيوا أمرنا وتذاكروا في أمرنا».

وعلى كلٍّ، فالقارىء الكريم يتجلّى له اختصاص زيارة الأربعين بالمؤمن حينما يعرف نظائرها التي نصّ عليها الحديث.

فإنّ الأول منها وهو (صلاة إحدى وخمسين ركعة) التي شُرّعت ليلة المعراج، وبشفاعة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اقتصر فيها على خمس فرائض في اليوم والليلة، عبارة عن: سبع عشرة ركعة للصبح والظهرين والعشائين والنّوافل الموقّتة لها مع نافلة الليل أربع وثلاثون؛ ثمان للظهر قبلها، وثمان للعصر قبلها، وأربع بعد المغرب، واثنان بعد العشاء تعدّان بواحدة، واثنان قبل الصبح، وإحدى عشرة ركعة نافلة الليل مع الشفع والوتر وبإضافتها إلى الفرائض يكون المجموع إحدى وخمسين ركعة، وهذا ممّا اختصّ به الإماميّة، فإنّ أهل السُنّة وإنْ وافقوهم على عدد الفرائض إلاّ أنّهم افترقوا في النّوافل، ففي فتح القدير لابن همام الحنفي ج ١ ص ٣١٤: إنّها ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، واثنان بعدها، واربع قبل العصر، وإنْ شاء

٣٦٧

ركعتين، وركعتان بعد المغرب، وأربع بعدها، وإنْ شاء ركعتين. فهذه ثلاث وعشرون ركعة، واختلفوا في نافلة الليل أنّها ثمان ركعات أو ركعتان أو ثلاث عشر أو أكثر، وحينئذ فالمجموع من نوافل الليل والنّهار مع الفرئض لا يكون إحدى وخمسين فإذاً تكون (إحدى وخمسون) من مختصّات الإماميّة.

الثاني: مما تعرّض له الحديث (الجهر بالبسملة) فإنّ الإماميّة تدينوا إلى الله تعالى به وجوباً في الصلاة الجهريّة واستحباباً في الصلاة الاخفاتية، تمسّكاً بأحاديث أئمّتهمعليهم‌السلام ، وفي ذلك يقول الفخر الرازي: ذهبت الشيعة أنّ من السُنّة الجهر بالتسمية في الصلاة الجهريّة والاخفاتيّة، وجمهور الفقهاء يخالفون، وقد ثبت بالتواتر أنّ علي بن أبي طالب كان يجهر بالتسمية ومّن اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى والدليل عليه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«اللهمّ، أدر الحقّ مع علي حيث دار» (١) . وكلمة الرازي لَم يهضمها أبو الثناء الآلوسي، فتعقّبها بقوله: لَو عمل أحد بجميع ما يزعمون تواتره عن الأمير كفر، فليس إلاّ الإيمان ببعض والكفر ببعض. وما ذكره من أنّ مَن اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى مسلم، لكن إنْ سلم لنا خبر ما كان عليه عليعليه‌السلام ودونه مهامه فيح(٢) .

ولا يضرّ الشيعة تهجّم الآلوسي وغيره بعد أنْ رسخت أقدامهم على الولاء لسيّد الأوصياءعليه‌السلام الذي يقول له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«يا علي، ما عرف الله تعالى إلاّ أنا وأنت، وما عرفني إلاّ الله وأنت، وما عرفك إلاّ الله وأنا» (٣) .

إنْ كنت ويحك لَم تسمع مناقبه   فاسمعه مِنْ هل أتى يا ذا الغبا وكفى(٤)

وخالف أهل السُنّة في مسألة الجهر، ففي المغني لابن قدامة ج ١ ص ٤٧٨، وبدايع الصنايع للكاساني ج ١ ص ٢٠٤، وشرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء في فقه مالك ج ١ ص ٢١٦: إنّ الجهر غير مسنون في الصلاة.

الثالث: ممّا تعرّض له الحديث (التختّم باليمين) وقد التزم به الإماميّة تديّناً

____________________________

(١) مفاتيح الغيب ١ / ١٠٧.

(٢) روح المعاني ١ / ٤٧.

(٣) المحتضر / ١٦٥.

(٤) في شذرات الذهب لابن العماد ٤ / ١٤٠: كان بعض الحنابلة ينشدهما على المنبر ببغداد.

٣٦٨

بروايات أئمتهمعليهم‌السلام وخالفهم جماعة من السُنّة، قال ابن الحَجّاج المالكي: إنّ السُنّة أوردت كلّ مستقذر يتناول بالشمال، وكلّ طاهر يتناول باليمين؛ ولأجل هذا المعنى كان المستحبّ في التختّم أنْ يكون التختّم بالشمال، فإنّه يأخذ الخاتم بيمينه ويجعله في شماله(١) .

ويحكي ابن حجر إنّ مالكاً يكره التختّم باليمين وإنّما يكون باليسار، وبالغ الباجي من المالكية بترجيح ما عليه مالك من التختّم باليسار(٢) .

وقال الشيخ إسماعيل البروسوي ذكر في عقد الدرر: إنّ السُنّة في الأصل التختّم في اليمين، ولمّا كان ذلك شعار أهل البدعة والظلمة، صارت السُنّة أنْ يُجعل الخاتم في خنصر اليد اليسرى في زماننا(٣) .

الرابع: ما ذكره الحديث (التعفير)، والتعفير في اللغة: وضع الشيء على العفر، وهو التراب. والجبين في هذا الحديث الشريف إنْ اُريد منه الجبهة كما استظهره الشيخ يوسف البحراني في الحدائق مدّعياً كثرة الاستعمال بذلك في لسان أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد ورد في التيمّم، فيكون الغرض بيان أنّ الجبهة في السّجود لا بدّ أنْ تكون على الأرض؛ لأنّ أهل السُنّة لَم يلتزموا بوضعها على الأرض، فإنّ أبا حنيفة ومالكاً وأحمد - في إحدى الروايتين عنه - جوّزوا السّجود على كور العمامة(٤) وفاضل الثوب(٥) والملبوس، وجوّز الحنفيّة وضعها على الكفّ مع

____________________________

(١) المدخل ١ / ٤٦، آداب الدخول في المسجد.

(٢) الفتاوى الفقهيّة الكبرى ١ / ٢٤٦، في اللباس.

(٣) حكاه الحجة الأميني في الغدير ج ١٠ ص ٢١١ عن تفسير روح البيان ج ٤ ص ١٤٢.

وليس هذا بأول مخالفة للإمامية ففي المهذب لأبي اسحاق الشيرازي ج ١ ص ١٣٧ والوجيز للغزالي ج ١ ص ٤٧ والمنهاج للنووي ص ٢٥ وشرحه تحفة المحتاج لابن حجر ج ١ ص ٥٦٠ وعمدة القاري للعيني شرح البخاري ج ٤ ص ٢٤٨ والفروع لابن مفلح ج ١ ص ٦٨١ والمغني لابن قدامة ج ٢ ص ٥٠٥ التسطيح اشبه بشعار أهل البدع وفي رحمة الأمة باختلاف الأئمة على هامش الميزان للشعراني ج ١ ص ٨٨ ان السنة تسطيح القبور ولما صار شعار الرافضة كان الأولى مخالفتهم التسنيم (ومن ذلك) الصلاة على أهل البيت مستقلا ففي الكشاف للزمخشري في الاحزاب ٥٦ (ان الله وملائكته يصلون) انه مكروه لانه يؤدي الى الاتهام بالرفض وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تقفن مواقف التهم (ومن ذلك) ما في فتح الباري لابن حجر ج ١١ ص ١٣٥ كتاب الدعوات باب هل يصلى على غير النبي قال اختلف في السلام على غير الانبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي فقيل يشرع مطلقاً وقيل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة ا هـ (ومن ذلك) ما في شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٣ كان بعض أهل العلم يرخي العذبة من قدام الجانب الايسر ولم ار ما يدل على تعيين الايمن الا في حديث ضعيف عند الطبراني ولما صار شعاراً للامامية ينبغي تجنبه لترك التشبه بهم ا هـ.

(٤) الميزان للشعراني ١ / ١٣٨.

(٥) الهداية لشيخ الإسلام المرغيناني ١ / ٣٣.

٣٦٩

الكراهة(١) ، وجوّزوا السّجود على الحنطة والشعير والسّرير وظهر مصلٍّ أمامه يصلّي بمثل صلاته(٢) ، وإنْ اُريد نفسه فيكون الغرض من ذكره الإرشاد إلى أنّ الراجع في سجدة الشكر تعفير الجبين، وإنّه للتذليل والبُعد عن الكبرياء، ومن هذا الجملة في الحديث استظهر صاحب المدارك رجحان تعفير الجبينَين أيضاً، وإليه أشار السيّد بحر العلومقدس‌سره في المنظومة، قال في سجدة الشكر:

والخدُّ أوْلى وبه النصّ جلا

وفي الجبين قد أتى محتملا

وقد ورد تعفير الخدّين في سجدة الشكر(٢) وبه استحقّ موسى بن عمرانعليه‌السلام الزلفى من المناجاة(٣) ولَم يخالف الإماميّة في التعفير سواء اُريد من الجبين الجبهة أو نفسه، وأهل السُنّة لَم يلتزموا بالتعفير في الصلاة أو سجدة الشكر مع أنّ النّخعي ومالكاً وأبا حنيفة كرهوا سجدة الشكر، وإن التزم بها الحنابلة(٤) والشافعي(٥) عند حلول كلّ نعمة أو زوال نقمة.

الخلاصة في علائم المؤمن

لقد تجلّى ممّا ذكرناه في هذه الاُمور التي نصّ عليها الحديث بأنّها من علائم الإيمان أنّ المراد من (زيارة الأربعين) فيه إرشاد الموالين لأهل البيتعليهم‌السلام إلى الحضور في مشهد الغريب المظلوم سيّد الشهداءعليه‌السلام لإقامة العزاء وتجديد العهد بذكر ما جرى عليه من القساوة التي لَم يرتكبها أيّ أحد يحمل شيئاً من الإنسانيّة فضلاً عن الدِّين، والحضور عند قبر الحسينعليه‌السلام يوم الأربعين من مقتله من أظهر علائم الإيمان.

ولا ينقضي العجب ممَّن يتصرّف في هذه الجملة بالحمل على زيارة أربعين

____________________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ١ / ١٨٩.

(٢) البحر الرائق لابن نجيم ١ / ٣١٩.

(٣) الكافي على هامش مرآة العقول ٣ / ١٢٩، والفقيه للصدوق / ٦٩، والتهذيب للشيخ الطوسي ١ / ٢٦٦، في التعقيب.

(٤) الفقيه للصدوق / ٦٩، في التعقيب.

(٥) المغني لابن قدامة ١ / ٦٢٦، والفروع لابن مفلح ١ / ٣٨٢.

(٦) كتاب الاُم ١ / ١١٦، ومختصر المزني على هامشه ١ / ٩٠، والوجيز للغزالي ١ / ٣٢.

٣٧٠

مؤمناً مع عدم تقدّم إشارة إليه ولا قرينة تساعد عليه ليصح الإتيان بالألف واللام للعهد، مع أنّ زيارة أربعين مؤمناً ممّا حثّ عليها الإسلام، فهي من علائمه عند الشيعة والسُنّة ولَم يخصّ بها المؤمنون ليمتازوا عن غيرهم. نعم، زيارة الحسينعليه‌السلام يوم الأربعين من قتله ممّا يدعو إليها الإيمان الخالص لأهل البيتعليهم‌السلام ويؤكّدها الشوق الحسيني، ومعلوم أنّ الذين يحضرون في الحائر الأطهر بعد مرور أربعين يوماً من مقتل سيّد شباب أهل الجنّة خصوص المشايعين له السّائرين على أثره. ويشهد له عدم تباعد العلماء الأعلام عن فهم زيارة الحسين في الأربعين من صفر من هذا الحديث المبارك، منهم أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي في التهذيب ج ٢ ص ١٧ باب فضل زيارة الحسينعليه‌السلام ، فإنّه بعد أن روى الأحاديث في فضل زيارته المطلقة، ذكر المقيّد بأوقات خاصّة، ومنها يوم عاشوراء، وبعده روى هذ الحديث.

وفي مصباح المتهجّد ص ٥٥١ طبعة بمبئي، ذكر شهر صفر وما فيه من الحوادث، ثمّ قال: وفي يوم العشرين منه رجوع حرم أبي عبد اللهعليه‌السلام من الشام إلى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وورود جابر بن عبد الله الأنصاري إلى كربلاء لزيارة أبي عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان أول من زاره من النّاس، وهي زيارة الأربعين، فروي عن أبي محمّد الحسن العسكريعليه‌السلام أنّه قال:«علامات المؤمن خمس...» .

وقال أبو الريحان البيروني: في العشرين من صفر رُدّ الرأس إلى جثّته فدفن معها. وفيه زيارة الأربعين ومجيء حرمه بعد انصرافهم من الشام(١) .

وقال العلاّمة الحلّي في المنتهى، كتاب الزيارات بعد الحج: يستحب زيارة الحسينعليه‌السلام في العشرين من صفر.

وروى الشيخ عن أبي محمّد الحسن العسكريعليه‌السلام أنّه قال:«علامات المؤمن خمس...» إلى آخر الحديث.

وفي الإقبال للسيّد رضيّ الدِّين علي بن طاووس، عند ذكر زيارة الحسينعليه‌السلام في العشرين من صفر قال: روينا بالاسناد إلى جدِّي أبي جعفر فيما رواه بالاسناد إلى مولانا الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام أنه قال:«علامات المؤمن خمس...» .

ونقل المجلسي (أعلى الله مقامه) في مزار البحار هذا الحديث عند ذكر فضل

____________________________

(٢) الآثار الباقية / ٣٣١.

٣٧١

زيارة الحسينعليه‌السلام يوم الأربعين وفي الحدائق للشيخ يوسف البحراني، في الزيارات بعد الحجّ قال: وزيارة الحسينعليه‌السلام في العشرين من صفر من علامات المؤمن. وحكى الشيخ عبّاس القمي في المفاتيح هذه الرواية عن التهذيب، ومصباح المتهجّد في الدليل على رجحان الزيارة في الأربعين، من دون تعقيب باحتمال إرادة أربعين مؤمناً.

واستبعاد بعضهم إرادة زيارة الأربعين من جهة عدم تعرّض الإمامعليه‌السلام للآثار الاُخرويّة المترتّبة على الزيارة مع أنّ أهل البيتعليهم‌السلام عند الحثّ على زيارة المظلوم وغيره من أئمّة الهدىعليهم‌السلام يذكرون ما يترتّب عليها من الثواب لا يُصغى إليه؛ فإنّ الإمام في هذا الحديث إنّما هو بصدد بيان علائم المؤمن التي يمتاز بها عن غيره، وجعل منها زيارة الأربعين على ما أوضحنا بيانه، ولَم يكن بصدد بيان ما يترتّب على الزيارة من الأثر.

واستحباب زيارتهعليه‌السلام في العشرين من صفر نصّ عليه الشيخ المفيد في (مسار الشيعة)، والعلاّمة الحلّي في (التذكرة) و (التحرير)، وملاّ محسن الفيض في (تقويم المحسنين).

وتفسير الشيخ البهائي في (توضيح المقاصد) الأربعين بالتاسع عشر من صفر، مبنيّ على حساب يوم العاشر من الأربعين، وهو خلاف المتعارف.

وافـتك جـنداً يـستثير ويزأر

فـقد الـمواكب أنّها لك عسكر

لا تـسلمنَّ إلى الـدنيّة راحة

مـا كـان أسـلمها لذل حيدر

وابـعث حياة النّاهضين جديدة

فـيها الاُبـاء مـؤيَّد ومـظفَّر

وارسـم لسير الفاتحين مناهجاً

فـيها عـروش الطَّائشين تدمَّر

إنْ لَـم تـلبِّك سـاعة محمومة

ذمّـت فـقد لبَّت نداءك أعصر

قم وانظر البيت الحرام ونظرة

اُخـرى لقبرك فهو حجّ أكبر

أصبحت مفخرة الحياة وحقّ لَو

فـخرت بـه فدم الشهادة مفخر

قـدَّست مـا أعلى مقامك رفعة

أخـفيه خوف الظالمين فيظهر

شكتِ الإمارة حظَّها واستوحشت

أعـوادها مـن عابثين تأمَّروا

وتـنكرت لـلمسلمين خـلافة

فيها يصول على الصلاح المنكر

سوداء فاحمة الجبين ترعرعت

فـيها الـقرود ولـوَّثتها الأنـمر

سكبت على نغم الأذان كؤوسها

وعلى الصلاة تديرهنَّ وتعصر

٣٧٢

تـلك الـمهازل يـشتكيها مـسجد

ذهـبت بـروعته ويـبكي مـنبر

فـشكت إلـيك وما شكت إلاّ إلى

بـطل يـغار على الصلاح ويثأر

تـطوى الفضائل ما عظمن وهذه

اُمّ الـفـضائل كـلَّ عـام تـنشر

جـرداء ذابـلة الـغصون سقيتها

بـدم الـوريد فطاب غرس مثمر

وعـلى الـكريهة تـستفزُّك نخوة

حـمـراء دامـية ويـوم أحـمر

شـكت الـشريعة من حدود بُدّلَتْ

فـيـها وأحـكـام هـناك تـغيَّر

سـلبت مـحاسنها اُميّة فاغتدت

صـوراً كـما شاء الضلال تصوَّر

عـصفت بـها الأهواء فهي أسيرة

تشكو وهل غير الحسين محرِّر

وافـى بـفتيته الـصّباح فـساقهم

لـلدِّين قـربان الإلـه فـجزِّروا

أدّى الـرسالة مـا اسـتطاع وإنّما

تـبـليغها بــدم يـطلّ ويـهدر

فـبذمّة الإصـلاح جـبهة مـاجد

تـدمى ووضّـاح الـجبين يـعفَّر

لـبّيك مـنفرداً اُحيط بعالم تحصى

الـحصى عـدداً ومـا إن يحصر

لـبّيك ظـام حـلأوه عن الروى

وبـراحتيه مـن الـمكارم أبـحر

هـذي دمـوع المخلصين فروّ من

عـبـراتها كـبـداً تـكاد تـفطَّر

واعـطف على هذي القلوب فإنّها

ودَّت لَـو أنَّـك في الأضالع تقبر

يـتزاحمون على استلام مشاعر

مـن دون روعتها الصّفا والمشعر

ركـبوا لها الأخطار حتّى لَو غدت

تُـبرى الأكـفّ أو الـجماجم تنثر

وافـوك يـوم الأربـعين وليتهم

حـضروك يوم الطّف إذ تستنصر

وجـدوا سـبيلكم الـنّجاة وإنّـما

نـصبوا لـها جسر الولاء ليعبروا

وتـأمّـلوك لـسـاعةٍ مـرهوبةٍ

إمّـا الـحميم بـها وإمّـا الكوثر

وسـيعلم الخصمان إنْ وافوك مَن

يـرد المعين ومَن يذاد ويصدر(١)

في المدينة

لَم يجد السجّادعليه‌السلام بدّاً من الرحيل من كربلاء إلى المدينة بعد أنْ أقام ثلاثة أيّام؛ لأنّه رأى عمّاته ونساءه وصبيته نائحات الليل والنّهار، يقمن من قبر ويجلسن عند آخر.

____________________________

(١) للعلاّمة الشيخ عبد المهدي مطر النّجفي.

٣٧٣

تـشكو عـداها وتـنعي قومها فلها

حـال من الشجو لفّ الصبر مدرجه

فـنعيها بـشجى الـشكوى تـؤلّفه

ودمـعها بـدم الأحـشاء تـمزجه

ويدخل الشجو في الصخر الأصمِّ لها

تـزفُّر من شظايا القلب تخرجه(١)

قال بشير بن حذلم: لمّا قربنا من المدينة، نزل علي بن الحسينعليه‌السلام وحطَّ رحله وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه وقال:«يا بشير، رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟» قلت: بلى يابن رسول الله، إنّي لشاعر. فقالعليه‌السلام :«ادخل المدينة وانع أبا عبد الله عليه‌السلام » . قال بشير: فركبت فرسي حتّى دخلت المدينة فلمّا بلغت مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت:

يا أهل يثربَ لا مُقَام لكم بها

قُتل الحسينُ فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرّج

والرأس منه على القناة يُدار

وقلت: هذا علي بن الحسينعليه‌السلام مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم وأنا رسوله إليكم اُعرّفكم مكانه. فخرج النّاس يهرعون ولّم تبقَ مخدَّرة إلاّ برزت، تدعو بالويل والثبور، وضجَّت المدينة بالبكاء، فلم يرَ باكٍ أكثر من ذلك اليوم، واجتمعوا على زين العابدينعليه‌السلام يعزّونه، فخرج من الفسطاط بيده خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه مولى معه كرسي، فجلس عليه، وهو لا يتمالك من العبرة، وارتفعت الأصوات بالبكاء والحنين.

فأومأ إلى النّاس أنْ اسكتوا، فلمّا سكتت فورتهم قالعليه‌السلام :«الحمدلله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بعُد فارتفع في السّماوات العلا، وقرُب فشهد النّجوى، نحمده على عظائم الاُمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.

أيّها القوم، إنّ الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام وعترته، وسُبيت نساؤه

____________________________

(١) لحجة الإسلام الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاءقدس‌سره .

٣٧٤

وصبيته، وداروا برأسه في البلدان، من فوق عامل السّنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة .

أيّها النّاس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها، وتضنُّ عن انهمالها؟ فلقد بكت السّبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسّماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، الملائكة المقرّبون، وأهل السّماوات أجمعون.

أيّها النّاس، أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟ أم أيّ سمع يسمع بهذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟

أيّها النّاس، أصبحنا مشرّدين مطرودين مذودين شاسعين عن الأمصار، كأنّنا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها. ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إنّ هذا إلاّ اختلاق، والله لو أنّ النّبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصيّة بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأفجعها وأكظّها وأفظّها وأمرّها وأفدحها، فعند الله نحتسب ما أصابنا، وما بلغ بنا، فإنّه عزيز ذو انتقام».

فقام إليه صوحان بن صعصعة بن صوحان العبدي، وكان زَمِناً واعتذر بما عنده من زمانة رجلَيه.

فأجابهعليه‌السلام بقبول عذره وحُسن الظن فيه، وشكر له وترحّم على أبيه. ثمّ دخل زين العابدينعليه‌السلام المدينة بأهله وعياله(١) وجاء إليه إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال: مَن الغالب؟ فقالعليه‌السلام :«إذا دخل وقت إلى الصلاة فأذّن وأقم، تعرف الغالب» (٢) .

فأمّا زينب اُمّ كلثوم فأنشأت تقول:

مدينة جَدّنا لا تقبلينا

فبالحسرات والأحزان جينا

____________________________

(١) اللهوف لابن طاووس / ١١٦.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي / ٦٦، وفي المقدمة / ٥٦ ذكرنا مراده.

٣٧٥

خرجنا منك بالأهلين طرّاً

رجعنا لا رجال ولا بنينا

ثمّ أخذت زينب بنت أمير المؤمنين بعضادتي باب المسجد وصاحت: يا جَدّاه، إنّي ناعية إليك أخي الحسين.

وصاحت سكينة: ياجَدّاه! إليك المشتكى ممّا جرى علينا، فوالله ما رأيت أقسى من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه ولا أجفى وأغلظ، فلقد كان يقرع ثغر أبي بمخصرته وهو يقول: كيف رأيت الضرب يا حسين(١) .

وأقمن حرائر الرسالة المأتم على سيّد الشهداء ولبسن المسوح والسّواد، نائحات الليل والنّهار، والإمام السجّاد يعمل لهنّ الطعام(٢) .

وفي حديث الصادقعليه‌السلام :«ما اختضبت هاشميّة ولا أدهنت ولا اُجيل مرود في عين هاشميّة خمس حجج حتّى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد» (٣) .

وأما الرباب فبكت على أبي عبد الله حتّى جفّت دموعها فأعلمتها بعض جواريها بأنّ السّويق يسيل الدمعة، فأمرت أنْ يُصنع لها السّويق لاستدرار الدموع(٤) . وكان من رثائها في أبي عبد اللهعليه‌السلام (٥) :

إنَّ الذي كان نوراً يُسْتَضاء به

بـكربلاء قـتيل غير مدفون

سبط النّبيّ جزاك الله صالحة

عنّا وجنبت خسران الموازين

قد كنتَ لي جبلاً صعباً ألوذ به

وكنتَ تصحبنا بالرحم والدّين

مَنْ لليتامى ومَنْ للسائلين ومَنْ

يـغني وياوي إليه كلّ مسكين

والله لا أبتغي صهراً بصهركمُ

حتّى اُغَّيب بين الرمل والطِّين

وأمّا علي بن الحسينعليه‌السلام فانقطع عن النّاس؛ انحيازاً عن الفتن وتفرّغاً للعبادة

____________________________

(١) رياض الأحزان / ١٦٣.

(٢) محاسن البرقي ٢ / ٤٢٠، باب الاطعام للمأتم.

(٣) مستدرك الوسائل ٢ / ٢١٥ الباب الرابع والتسعون.

(٤) البحار ١٠ / ٢٣٥ عن الكافي.

(٥) الأغاني ٢ / ١٥٨.

٣٧٦

والبكاء على أبيه، ولم يزل باكياً ليله ونهاره، فقال له بعض مواليه: إنّي أخاف عليك أنْ تكون من الهالكين. فقالعليه‌السلام :«يا هذا، إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّ يعقوب كان نبيّاً فغيّب الله عنه واحداً من أولاده وعنده اثنا عشر، وهو يعلم أنّه حيّ فبكى عليه حتّى أبيضّت عيناه من الحزن، وإنّي نظرت إلى أبي وإخوتي وعمومتي وصحبي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟! وإنّي لا أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة، وإذا نظرت إلى عمّاتي وأخواتي ذكرت فرارهنّ من خيمة إلى خيمة».

رأى اضطرام النّار في الخباء

وهـو خـباء الـعزِّ والإباء

رأى هـجوم الكفر والضلالة

عـلى بنات الوحي والرسالة

شـاهد فـي عـقائل الـنبوّة

مـا لـيس في شريعة المروَّة

مـن نـهبها وسلبها وضربها

ولا مـجير قـطّ غـير ربِّها

شاهد سَوق الخفرات الطّاهرة

سـوافر الوجوه لابن العاهرة

رأى وقوف الطّاهرات الزاكية

قـبالة الرجس يزيد الطّاغية

وهـنَّ فـي الـوثاق والحبال

في محشد الأوغاد والأنذال(١)

إليك يا رسول الله المشتكى ممّا أتت به اُمّتك مع أبنائك الأطهرين من الظلم والاضطهاد. والحمد لله ربّ العالمين.

____________________________

(١) للحجّة الشيخ محمّد حسين الاصفهاني.

٣٧٧

المراثي

إنّ قضيّة سيّد الشهداءعليه‌السلام بما اشتملت عليه من القساوة الشائنة كانت مثيرة للعواطف، مرققةِّ للأفئدة، فتذمّر منها حتّى مَن لم ينتحل دين الإسلام؛ لذلك ازدلف الشعراء قديماً وحديثاً، باللغة الفصحى والدارجة، إلى ذكرها وتعريف الأجيال المتعاقبة بما جاء الاُمويّون من استئصال شأفة آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فجاؤا بما فيه نجعة المرتاد.

ومن هؤلاء المناضلين لإحياء المذهب، الحجّة آية الله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (نوّر الله ضريحه) فلقد جاء بمراثٍ كثيرة لها حُسن السَّبك ودقَّة المعنى وسلاسة النّظم ورقَّة الانشاء، آثرنا منها أربع قصائد ساطعة في رثاء السّبط الشهيد سيّد شباب أهل الجنّةعليه‌السلام :

١- قالرحمه‌الله :

نـفس أذابـتها أسـىً حسراتها

فـجرت بـها مـحمرَّة عبراتها

وتذكّرت عهد المحصَّب من منى

فـتوقَّدت بـضلوعها جـمراتها

سـارت وراءهـم تـرجع رنَّة

حـنَّت مـطاياهم لـها وحداتها

طـلعوا بـيوم للوداع وقد غدى

لـيلاً فـردَّت شـمسه جبهاتها

وسـروا بـكلّ فتاة خدرٍ إنْ تكن

بـدراّ فـأطراف الـقنا هالاتها

فـخذوا احمرار خدودها بدمائنا

فـجناتها دون الـورى وجناتها

واسـتعطفوا بـاللين أعطافاً لها

فـلقد أقـمنَ قـيامتي قـاماتها

وعـلى عذيب الريق بارق لؤلؤ

بـالمنحنى مـن أضلعي قبساتها

لاثـت عـلى شـهدية بخمارها

والـخمر يـشهد إنّـه لـلثَّاتها

لله يـوم تـلفَّتت لَـو أنَّـها

كـانت لـقتلى حـبّها لـفتاتها

ثـملت بـخمرة ريـقها أعطافها

وزهـت بـلؤلؤ ثـغرها لثاتها

ومـشت فخاطرت النّفوس كأنَّما

مـاست بـخطّار القنا خطراتها

ومـن الـبليّة أنّـني أشـكو لها

بـلوى الـضَّنا فتزيدني لحظاتها

وأبـيت أسـهر لـيلتي وكأنّما

قـد وفّـرت في جنحها وفراتها

ومهى قنصت لصيدهنّ فعدت في

شـرك الـغرام وأفلتت ظبياتها

عـجباً تـفاد لـي الاُسود مهابةً

وتـقودني وأنـا الأبـي مهاتها

أنـا من بعين المكرمات ضياؤها

لـكن بـعين الـحاسدين قذاتها

٣٧٨

إن أنـكرتني مـقلة عـميا فـلا

عـجب فـإنّي فـي سناني فقأتها

تعـساً لـدهر أصـبحت أيّـامه

والـغدر نـجح عـداتها وعداتها

لا غـرو أنْ تـعتد بـنوه الـغدر

فـالأبناء مـن آبـائها عـاداتها

ولـقد وجـدت ملاءة الدنيا خلت

مــن عـفّة ونـجابة فـملاتها

وأرى أخـلاّئي غـداة خـبرتهم

أعـدى عـدى شنّت بنا غاراتها

كـنت الـحماة أظـنّهم فـكشفتهم

عـن عقرب لسعت حشاي حماتها

وتـعدّهم نـفسي الـحياة لها وقد

دبّــت إلـيـها مـنهم حـيّاتها

أسـدت إلـيّ بـكلّ سـيّئة ومن

صـفحى أقـدّر أنّـها حـسناتها

ولـكم عـليها مـن يد بيضاء لي

قـد سـوّدتها الـيوم تـمويهاتها

إنْ فـصّلت لـي الغدر أنواعاً فقد

عـرفت بـخبث الجنس ماهيّاتها

لـؤمت إسـاءتها فهانت واستوى

نـبح الـكلاب عـليَّ أو أصواتها

وتـكرّماً عـنها صـددت وإنّني

لـولا خـساستها عـليّ خـساتها

ولـقد دنـت شـأناً فـلولا عفّتي

عـن وطء كـلّ دنـيّة لـوطاتها

وأنـا الـشجى في حلقها فلو أنّها

تـجد الـمساغ قـذفن بي لهواتها

وتهشّ بشراً إن حضرت فإن أغب

قـذفت بـجمرة غيظها حصياتها

كـم صانعتني بالدهاء وإنّما أدهى

الــورى شـرّاً عـليَّ دهـاتها

لـكنْ جُبِلْتُ على الوفاء فلَو جنت

يـدها عـلى عيني العمى لدراتها

وأنـا الـعصيّ من الإبا وخلائقي

فـي طـاعة الحرِّ الكريم عصاتها

عـوَّدتُ عـينيَّ الإبـاء فلم تسل

إلاّ لآل محمّدٍ عـبـراتـها

كـم غـارة لـك يا زمان شننتها

لـم أسـتطع دفـعاً لـها فشناتها

وأرى الـليالي مـنك حُلبى لَم تلد

لـلـحرِّ غـير مـلمَّة غـدراتها

تجرى لها العبرات حمراً إنْ جرت

ذكـراً عـلى أسـماعنا عـثراتها

ووددْت مـذ جـارت على أبنائها

ورمـت بـنيها بالصروف بناتها

عـدلت بـآل محمّدٍ فيما قضت

وهُــمُ أئـمّة عـدلها وقـضاتها

الـمرشدون الـمرفدون فكم هدى

ونـدىً تـميح صَلاتها وصِلاتها

والـمنعمون المطعمون إذا انبرت

نـكباء صـوَّحت الـثَّرى نكباتها

والـجامعون شـتات غـرِّ مناقب

لَــم تـجتمع بـسواهُمُ أشـتاتها

يـا غـاية تـقف الـعقول كليلة

عـنها وإنْ ذهـبت بـها غاياتها

٣٧٩

يـاجذوة الـقدس الـتي ما أشرقت

شـهب الـسّما لـو لَم تكن لمعاتها

يـاقبّة الـشرف التي لو في الثّرى

نُـصبت سـمت هام السّما شرفاتها

يـاكـعبة لله إنْ حـجَّت لـها

الأمــلاك مـنه فـعرشه مـيقاتها

يـانقطة الـباء الـتي بـاءت لها

الـكلمات وائـتلفت بـها ألـفاتها

يـا وحـدة الـحقِّ الـتي ما إنْ لها

ثـانٍ ولـكن مـا انـتهت كثراتها

يـا وجـهة الأحـديَّة الـعليا التي

بـالأحـمديَّة تـسـتنير جـهـاتها

يـا عـاقلي العشر العقول ومَن لها

الـسَّبع الـطباق تـحرّكت سكناتها

أقـسمتُ لـو سِـرَّ الحقيقة صورة

راحـت وأنـتم لـلورى مـرآتها

أنـتم مـشئته الـتي خـلقت بـها

الأشـياء بـل ذُرئـت بـها ذرَّاتها

وخـزانة الأسـرار بـل خـزَّانها

وزجـاجة الأنـوار بـل مـشكاتها

أنـا فـي الورى قال لكم إنْ لَم أقل

مـا لـم تـقله فـي المسيح غُلاتها

سـفهاً لحلمي إن تطر بثباتي السفـ

ـهـاء مـذ طـارت بـها جهلاتها

أنـا مـن شـربت هناك أول درِّها

كـأساً سـرت بـسرائري نشواتها

فـاليوم لا أصـحو وإن ذهبت بيَ

الأقـوال أو شـدَّت عـليَّ رماتها

أو هـل ترى يصحو صريع مدامة

مـمّـا بـه إن عـنّفته صـحاتها

أو هل يحول أخو الحجى عن رشده

مـمّـا تـؤنّـبه عـلـيه غـواتها

بـأبي وبـي مَـن هم أجلُّ عصابة

سـارت تـؤمّ بـها العلا سرواتها

عطري الثياب سروا فقل في روضة

غـبّ الـسّحاب سرت بها نسماتها

ركـبٌّ حـجازيون عـرّقت العلا

فـيـهم ومِـسك ثـنائهم شـاماتها

تـحدو الـحداة بـذكرهم وكـأنَّما

فـتـقت لـطيمة تـاجر لـهواتها

ومـطوَّحين ولا غـناء لـهم سوى

هــزج الـتلاوة رتـلّت آيـاتها

وإلــى الـلقاء تـشوّقاً أعـطافها

مــهـزوزةً فـكـأنّها قـنـواتها

خـفَّت بـهم نـحو الـمنايا هـمَّة

ثـقلت عـلى جيش العدى وطآتها

وبـعزمها مـن مـثل مـا بـأكفِّها

قـطع الـحديد تـأجّجت لـهباتها

فـكـأنَّ مـن عـزماتها أسـيافها

طـبعت ومـن أسـيافها عـزماتها

قـسم الـحيا فـيها فـمن مقصورة

الأيــدي ومـمـدودة قـسـماتها

ومـلوك بـأسٍ في الحروب قبابها

قـبّ الـبطون ودسـتها صهواتها

يـسطون فـي الجمِّ الغفير ضياغما

لـكـنّما شـجـر الـقنا أجـماتها

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437