مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)18%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243968 / تحميل: 10027
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٨١٦٣-٧٠-٧
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

يوم عاشوراء

«إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما»

أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام

٢٢١

يوم عاشوراء

لَو كان يدري يوم عاشوراء

مـا كان يجري فيه من بلاء

مـا لاح فـجره ولا استنارا

ولا أضـاءت شمسه نهارا

سـوّد حـزناً أوجـه الأيام

وأوجـه الـشهور والأعوام

الله مـا أعـظمه مـن يوم

أزال صـبري وأطار نومي

الـيوم أهـل آيـة التطهير

بـين صـريع فيه أو عفير

اليوم قد مات الحفاظ واُلوفا

اليوم كاد الدّين يقضي أسفا

الـيوم نامت أعين الأعداء

وسـهدِّت عيون ذي الولاء

وَيلي وهل يجدي حزيناً ويل

لأضـلع تـدوسهنَّ الـخيل

وارؤس عـلى الرماح ترفع

وجثث على الصعيد تُوضَع

وثـاكل تـبدو من الخدور

تـعـجُّ بـالويل وبـالثبور

ومـرضع ترنو إلى رضيع

على التراب فاحص صريع

ونـسوة تـسبى على النياق

حـسرى تـعاني ألم الفراق

أهـمّ شـيء لـذوي الولاء

أن يـجلسوا للنوح و العزاء

فـيه تـقام سـنن المصاب

والترك للطعام والشراب(١)

لقد مرّ هذا اليوم على آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّه شجاء مترامي الأطراف، أثّرت فجائعه في القلوب فأذابتها وفي المدامع فأدمتها، فلا تسمع فيه إلاّ صرخة فاقد وزفرة ثاكل وحنة محزون، ولا تبصر إلاّ كلّ أشعث قد أنهكه ألم المصاب، و مغبر يذري على رأسه التراب، إلى لادم صدراً وصاك جبهته وقابض على فؤاد وصافق بيده الاُخرى، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى؛ لكن لوعة المصاب أليمة وكوارثه عظيمة. ولَو يكشف لك عن الملأ الأعلى لسمعت لعالم الملكوت صرخة وحنة، وللحور في غرف الجنان نشيجاً ونحيباً ولأئمّة الهدى بكاءاً وعويلاً.

ولا بدع؛ فالفقيد فيه عبق الرسالة وألق الخلافة وإكليل تاج الإمامة، وهو سبط المصطفى وبضعة فاطمة الزهراء وفلذة كبد الوصي المرتضى وشقيق السّبط

____________________________

(١) المقبولة الحسينية / ٦٢، لحجة الإسلام آية الله الشيخ هادي آل كاشف الغطاء قدس الله سره.

٢٢٢

المجتبى و حجّة الله على الورى، نعم هو الآية المخزونة والرحمة الموصولة والأمانة المحفوظه والباب المبتلى به النّاس.

فمصابه يقلّ فيه البكاء، ويعز عنه العزاء. فلو تطايرت شظايا القلوب وزهقت النّفوس جزعاً لذلك الحادث الجلل لكان دون واجبه. أو ترى للحياة قيمة والمؤدّى به هو ذلك العنصر الحيوي الزاكي. وما قدر الدمع المراق والموتور ثار الله في الأرض؟ أو يهدأ الكون والذاهب مرساه ومنجاه في مسراه؟ وهل ترقأ العين وهي ترنو بالبصيرة إلى ضحايا آل محمّد مجزّرين على وجه الصعيد مبضعة أجسادهم بين ضريبة للسيوف ودرية للرماح ورمية للنبال؟ وقد قضوا وهم رواء الكون ظماء على ضفة الفرات الجاري، تلغ فيه الكلاب وتشرب منه وحش الفلا، غير أنّ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله محلأون عنه؟ وللمذاكي عقرن فلا يلوى لهنّ لجام، تجوال على تلك الصدور الزواكي ولصدر الحسين حديثه الشجي:

وأعـظم خـطب أنّ شمراً له على

جـناجن صـدر ابْـن النبيّ مقاعد

فـشُلَّت يـداه حـين يفري بسيفه

مـقلّد مـن تـلقى إلـيه الـمقالد

وأىّ فـتى أضـحت خـيول اُميّة

تـعادى عـلى جـثمانه وتـطارد

فـلهفي لـه والـخيل منهنَّ صادر

خضيب الحوافي في دماه ووارد(١)

فاللازم على الموالي المتأسّي بالنّبي الأعظم الباكي على ولده بمجرّد تذكّر مصابه(٢) أنْ يقيم المأتم على سيّد الشهداء، و يأمر مَن في داره بالبكاء عليه، و ليعزّ بعضهم بعضاً بالحسين، فيقول كما في حديث الباقرعليه‌السلام :

«عظّم الله اُجورنا و اُجوركم بمصابنا بالحسين، و جعلنا و إيّاكم من الطالبين بثأره مع وليّه المهدي من آل محمّد عليهم‌السلام » (٣) .

دخل عبد الله بن سنان على أبي عبد الله الصادقعليهم‌السلام في يوم عاشوراء، فرآه كاسف اللون ظاهر الحزن و دموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ فقال له: مِمَّ بكاؤك يابن رسول الله؟ قالعليه‌السلام :«أوَفي غفلة أنت؟! أما علمت أنّ الحسين اُصيب في هذا اليوم؟» ، ثمّ أمره أنْ يكون كهيئة أرباب المصائب، يحلل

____________________________

(١) للشيخ جعفر الخطي، كما في الدر النضيد / ٩٣.

(٢) الخصائص للسيوطي ٢ / ١٢٥، وأعلام النبوّة للماوردي / ٨٣.

(٣) كامل الزيارات / ١٧٥، ومصباح المتهجّد للشيخ الطوسي / ٣٩.

٢٢٣

أزراره ويكشف عن ذراعَيه ويكون حاسراً، ولا يصوم يوماً كاملاً، وليكن الافطار بعد العصر بساعة على شربة من ماء؛ ففي ذلك الوقت تجلّت الهيجاء عن آل محمّد. ثم قالعليه‌السلام :«لَو كان رسول الله حيّاً لكان هو المعزّى به» (١) .

وأمّا الإمام الكاظمعليه‌السلام فلَم يرَ ضاحكاً أيّام العشرة وكانت الكآبه غالبة عليه، ويوم العاشر يوم حزنه ومصيبته.

ويقول الرضاعليه‌السلام :«فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء» .

وفي زيارة النّاحية يقول حجّة آل محمّد عجّل الله فرجه:«فلأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً» .

وبعد هذا فهلاّ يجب علينا أن نخرق ثوب الاُنس ونتجلبب بجلباب الحزن والبكاء ونعرف كيف يجب أن نعظّم شعائر الله بإقامة المأتم للشهيد العطشان في العاشر من المحرّم؟!

الـيوم ديـنُ الهدى خرَّت دعائمُه

ومـلّة الـحقّ جـدّت في تداعيها

الـيوم ضلّ طريق العرف طالبه

وسُـدّ باب الرجا في وجه راجيها

الـيوم عـادت بنو الآمال متربةً

الـيوم بـان العفا في وجه عافيها

الـيوم شـقّ عـليه الـمجد حلّته

الـيوم جـزَّت له العليا نواصيها

اليوم عقد المعالي أرفض جوهره

الـيوم قد أصبحت عطْلٌ معاليها

الـيوم أظلم نادي العزّ من مضر

اليوم صرْفُ الردى أرسى بواديها

الـيوم قامت به الزهراء نادبةً

الـيوم آسـية وافـت تواسيها

الـيوم عـادت لدين الكفر دولتُه

الـيوم نـالت بـنو هـند أمانيها

مـا عذر ارجاس هند يوم موقفه

والمصطفى خصمهم والله قاضيها

مـا عـذرها ودِمـا ابنائه جعلت

خضاب أعيادها في راح ناديها(٢)

****

____________________________

(١) مزار ابن المشهدي من أعلام القرن السادس.

(٢) في شعراء الحلّة ٥ / ٥٤٠، إنّها للشيخ هادي النّحوي المتوفى سنة ١٢٢٥ ﻫ.

٢٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء

قال ابن قَولويه و المسعودي(١) : لما أصبح الحسين يوم عاشوراء وصلّى بأصحابه صلاة الصبح، قام خطيباً فيهم حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:«إنّ الله تعالى أذِن في قتلكم و قتلي في هذا اليوم، فعليكم بالصبر والقتال» .

ثمّ صفّهم للحرب وكانوا اثنين وثمانين فارساً وراجلاً، فجعل زهير بن القين في المَيمنة، وحبيب بن مظاهر في المَيسرة، وثبت هوعليه‌السلام وأهل بيته في القلب(٢) ، وأعطى رايته أخاه العباس(٣) ؛ لأنّه وجد قمر الهاشميين أكفأ ممَّن معه لحملها، وأحفظهم لذمامه وأرأفهم به، وأدعاهم إلى مبدئه وأوصلهم لرحمه، وأحماهم لجواره وأثبتهم للطعان، وأربطهم جأشاً وأشدّهم مراساً(٤) .

وأقبل عمر بن سعد نحو الحسينعليه‌السلام في ثلاثين ألفاً وكان رؤساء

____________________________

(١) كامل الزيارات / ٧٣، وإثبات الوصيّة / ١٣٩، المطبعة الحيدرية.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ / ٤.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١، وتذكرة الخواص / ١٤٣ الطبعة الحجريّة.

(٤) اختلف المؤرّخون في عدد أصحاب الحسين؛

الأول: أنّهم اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد، والطبرسي في إعلام الورى / ١٤٢، والفتال في روضة الواعظين / ١٥٨، وابن جرير في التأريخ ٦ / ٢٤١، وابن الأثير في الكامل ٤ / ٢٤، والقرماني في أخبار الدول / ١٠٨، والدينوري في الأخبار الطوال / ٣٥٤.

الثاني: إنّهم إثنان وثمانون راجلاً، نسبه في الدمعة الساكبة / ٣٢٧ إلى الرواية وهو المختار.

الثالث: ستون راجلاً، ذكره الدميري في حياة الحيوان في خلافة يزيد ١ / ٧٣.

الرابع: ثلاثة وسبعون رجلاً، ذكره الشريشي في شرح مقامات الحريري ١ / ١٩٣.

الخامس: خمسة وأربعون فارساً ونحو مئة راجل ذكره ابن عساكر كما في تهذيب تاريخ الشام ٤ / ٣٣٧.

السادس: إثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، ذكره الخوارزمي في المقتل ٢ / ٤.

السابع: واحد وستّون رجلاً، ذكره المسعودي في إثبات الوصيّة / ٣٥، طبع المطبعة الحيدرية.

الثامن: خمسة وأربعون فارساً ومئة راجل ذكره ابن نما في مثير الأحزان / ٢٨، وفي اللهوف / ٥٦: أنّه المروي عن الباقرعليه‌السلام .

التاسع: إثنان وسبعون رجلاً، ذكره الشبراوي في الإتحاف بحبِّ الأشراف / ١٧.

العاشر: ما في مختصر تاريخ دول الإسلام للذهبي ١ / ٣١: أنّهعليه‌السلام سار في سبعين فارساً من المدينة.

٢٢٥

الأرباع بالكوفة يومئذ: عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي على ربع أهل المدينة، وعبد الرحمن بن أبي سبرة الحنفي على ربع مذحج وأسد، وقيس بن الأشعث على ربع ربيعة وكندة، والحرّ بن يزيد الرياحي على ربع تميم وهمدان(١) ، وكلّهم اشتركوا في حرب الحسين إلاّ الحرّ الرياحي.

وجعل ابنُ سعد على المَيمنة عمرو بن الحَجّاج الزبيدي، وعلى المَيسرة شمر بن ذي الجوشن العامري، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي، والراية مع مولاه ذويد(٢) .

وأقبلوا يجولون حول البيوت فيرون النّار تضطرم في الخندق، فنادى شمر بأعلى صوته: يا حسين، تعجّلت بالنّار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسينعليه‌السلام :«مَن هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن»، قيل نعم فقالعليه‌السلام :«يابن راعية المعزى، أنت أولى بها منّي صِليّا». ورام مسلم بن عوسجة أنْ يرميه بسهم، فمنعه الحسين و قال:«أكره أنْ أبدأهم بقتال» (٣) .

دعاء الحسين

ولما نظر الحسينعليه‌السلام إلى جمعهم كأنّه السيل، رفع يدَيه بالدعاء وقال:«اللهمّ، أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبةً منّي إليك عمَّن سواك فكشفته وفرّجته، فأنت ولي كلّ نعمة ومنتهى كلّ رغبة» (٤) .

____________________________

(١) في شرح النّهج لابن أبي الحديد ١ / ٨١، الطبعة المصرية: كانت الكوفة اسباعاً.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

(٣) الإرشاد للشيخ المفيد، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٤٢.

(٤) ابن الاثير في الكامل ٤ / ٢٥، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٢٣٣، وذكر الكفعمي في المصباح / ١٥٨، طبعة الهند: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا به يوم بدر. واختصره الذهبي في سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠٢.

٢٢٦

الخطبة الاُولى

ثمّ دعا براحلته فركبها، و نادى بصوت عال يسمعه جلّهم:

«أيّها النّاس اسمعوا قَولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حقّ لكم عليَّ، وحتّى أعتذر إليكم من مَقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النّصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيل. وإنْ لَم تقبلوا مِنّي العذر ولَم تعطوا النّصف من أنفسكم، فأجمعوا أمركم و شركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة. ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون. إنّ ولييّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين» .

فلمّا سمعنَ النّساء هذا منه صحنَ وبكينَ وارتفعت أصواتهنَّ، فأرسل إليهنَّ أخاه العبّاس وابنه علياً الأكبر وقال لهما:«سكّتاهنَّ فلعمري ليكثر بكاؤهنَّ» .

ولما سكتنَ، حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره ولَم يُسمع متكلّم قبله ولا بعده أبلغ منه في منطقه(١) ، ثمّ قال:«عباد الله، اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر؛ فإنّ الدنيا لَو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء وأولى بالرضا وأرضى بالقضاء، غير أنّ الله خلق الدنيا للفناء، فجديدها بالٍ ونعيمها مضمحل وسرورها مكفهر، والمنزل تلعة والدار قلعة، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى، واتقوا الله لعلّكم تفلحون (٢) .

أيّها النّاس إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتُخيّب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحلَّ بكم نقمته، فنِعمَ الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم؛ أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٢.

(٢) زهر الآداب للحصري ١ / ٦٢، طبعة دار الكتب العربية، سنة ١٣٧٢.

٢٢٧

الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولِما تريدون. إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين (١) .

أيّها النّاس أنسبوني مَن أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار عمّي، أوَ لَم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ - والله ما تعمدتُ الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه - وإنْ كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!»

فقال الشمر: هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال الحسينعليه‌السلام :«فإنْ كنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم اتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟! أو مال لكم استهلكته؟! أو بقصاص جراحة؟!»، فأخذوا لا يكلّمونه!

فنادى:«يا شبث بن ربعي، ويا حَجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحارث ألم تكتبوا إليَّ أنْ اقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة؟»

فقالو: لَم نفعل.

قال:«سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم». ثمّ قال:«أيّها النّاس، إذا كرهتموني

____________________________

(١) مقتل محمّد بن أبي طالب الحايري.

٢٢٨

فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض». فقال له قَيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمّك؟ فإنّهم لَن يروك إلاّ ما تُحبّ ولَن يصل إليك منهم مكروه.

فقال الحسينعليه‌السلام :«أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد (١) ، عباد الله إنّي عذتُ بربّي وربّكم أنْ ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبِّر لا يؤمن بيوم الحساب» .

ثمّ أناخ وأمر عقبة بن سمعان فعقلها(٢) .

وقـام لـسان الله يـخطب واعـظاً

فـصمّوا لـما عن قدس أنواره عموا

وقال انسبوني مَن أنا اليوم وانظروا

حـلالٌ لـكم مـنّي دمـي أم محرّم

فـمـا وجـدوا إلاّ الـسِّهام بـنحره

تــراش جـواباً والـعوالي تـقَّوم

ومـذ أيـقن السّبط انمحى دين جَدّه

ولَم يبقَ بين النّاس في الأرض مسلم

فـدى نـفسه في نصرة الدين خائضاً

عـن الـمسلمين الـغامرات ليسلموا

وقـال خـذيني يا حتوف وهاك يا

سـيوف فـأوصالي لـك اليوم مغنم

وهـيهات أن أغدو على الضّيم جاثماً

ولـو لا عـلى جـمر الأسـنَّة مجثم

وكـرّ وقد ضاق الفضا وجرى القضا

وسـال بـوادي الـكفر سيل عرمرم

ومـذ خـرّ بـالتعظيم لله سـاجداً

لـه كـبّروا بـين السّيوف وعظموا

وجـاء إلـيه الـشّمر يـرفع رأسه

فـقـام بـه عـنه الـسّنان الـمقوّم

وزُعْـزع عـرش الله وانـحطَّ نوره

فـأشرق وجه الأرض والكون مظلم

____________________________

(١) (بالفاء الموحّدة فيهما)، رواه ابن نما في مثير الأحزان / ٢٦، وهو أصح ممّا يمضي على الألسن، ويوجد في بعض المقاتل (بالقاف) من الإقرار؛ لأنّه على هذا تكون الجملة الثانية غير مفيدة، إلاّ ما أفادته التي قبلها بخلافه على قراءة الفرار، فإنّ الجملة الثانية تفيد أنّه لا يفرّ من الشدة والقتل، كما يصنعه العبيد. وهو معنى غير ما تؤدي إليه الجملة التي قبلها، على أنّه يوجد في كلام أمير المؤمنين ما يشهد له، ففي تاريخ الطبري ٦ / ٧٦ الطبعة الاُولى وكامل ابن الأثير ٣ / ١٤٨، ونهج البلاغة ١ / ١٠٤، المطبعة الأميريّة: إنّ أمير المؤمنين قال في مصقلة بن هبيرة لمّا فرّ إلى معاوية:«ما لَه فعل فعل السيّد، وفرّ فرار العبد، وخان خيانة الفاجر؟!»، وقصّته على ما ذكرها ابن حزم في جمهرة أنساب العرب / ١٦٤: إنّ أصحاب الحريث بن راشد من بني عبد البيت بن الحارث ارتدّوا أيام عليعليه‌السلام فحاربهم وقتلهم وسبى نساءهم وأبناءهم، فابتاعهم مصقلة الشيباني وأعتقهم ثمّ هرب إلى معاوية، فأمضى عليعليه‌السلام عتقه لهم.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٣.

٢٢٩

ومذ مال قطب الكون مال وأوشك

انـقلاباً يـميل الـكائنات ويـعدم

وحين ثوى في الأرض قرَّ قرارها

وعادت ومن أوج السّما وهي أعظم

فـلهفي لـه فـرداً عليه تزاحمت

جـموع الـعدى تزداد جهلاً فيحلم

ولـهفي لـه ظـامٍ يـجود وحوله

الـفرات جـرى طامٍ وعنه يحرَّم

ولـهفي لـه مـلقىً وللخيل حافر

يـجول عـلى تلك الضلوع وينسم

ولـهفي على أعضاك يابن محمد

تُــوزّع فـي أسـيافهم وتـسهم

فـجسمك مـا بين السّيوف موزَّع

ورحـلك مـا بـين الأعادي مقسّم

فـلهفي عـلى ريحانة الطُّر جسمه

لـكلّ رجـيم بـالحجارة يرجم(١)

كرامة وهداية

وأقبل القوم يزحفون نحوه، وكان فيهم عبد الله بن حوزة التميمي(٢) فصاح: أفيكم حسين؟ وفي الثالثة قال أصحاب الحسين: هذا الحسين فما تريد منه؟ قال: يا حسين، أبشر بالنّار، قال الحسين:«كذبت، بل أقدم على ربّ غفور كريم مطاع شفيع. فمَن أنت؟» قال: أنا ابن حوزة. فرفع الحسين يدَيه حتّى بانَ بياض ابطَيه وقال: «اللهمّ، حزه إلى النّار، فغضب ابن حوزة وأقحم الفرس إليه وكان بينهما نهر فسقط عنها وعلقت قدمه بالركاب، وجالت به الفرس وانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر معلّقاً بالركاب، وأخذت الفرس تضرب به كلّ حجر وشجر(٣) ، وألقته في النّار المشتعلة في الخندق فاحترق بها ومات. فخرّ الحسينعليه‌السلام ساجداً شاكراً حامداً على إجابة دعائه، ثمّ إنّه رفع صوته يقول:«اللهمّ، إنّا أهل بيت نبيّك وذريّته وقرابته، فاقصم مَن ظلمنا وغصبنا حقّنا إنّك سميع قريب» فقال له: محمّد بن الأشعث أيّ قرابة بينك وبين محمّد؟ فقال الحسين:«اللهمّ إنّ

____________________________

(١) من قصيدة لآية الله الحجّة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، ذُكرت بتمامها في كتابنا (قمر بن هاشم).

(٢) في مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٩٣: ابن جويرة أو جويزة.

وفي مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ٢٤٨: مالك بن جريرة.

وفي روضة الواعظين للفتال / ١٥٩ الطبعة الاُولى: يقال له: ابن أبي جويرة المزني، وإنّ فرسه نفرت به وألقته في النّار التي في الخندق.

(٣) كامل ابن الأثير ٤ / ٢٧.

٢٣٠

محمد بن الأشعث يقول: ليس بيني و بين محمّد قرابة. اللهمّ أرني فيه هذا اليوم ذلاً عاجلاً» ، فاستجاب الله دعاءه، فخرج محمّد بن الأشعث من العسكر، ونزل عن فرسه لحاجته، وإذا بعقرب أسود يضربه ضربة تركته متلوّثاً في ثيابه ممّا به(١) ومات باديَ العورة(٢) .

قال مسروق بن وائل الحضرمي: كنتُ في أوّل الخيل التي تقدّمت لحرب الحسين؛ لعلّي أنْ اُصيب رأس الحسين فأحظى به عند ابن زياد، فلمّا رأيت ما صُنع بابن حوزة عرفت أنّ لأهل هذا البيت حرمة ومنزلة عند الله، وتركت النّاس وقلت: لا اُقاتلهم فأكون في النّار(٣) .

خطبة زهير بن القين

وخرج إليهم زهير بن القين على فرس ذنوب وهو شاك في السّلاح فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله إنَّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد، ما لَم يقع بيننا وبينكم السّيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السّيف انقطعت العصمة، وكنّا اُمّة وأنتم اُمّة، إنّ الله ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون. إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عمر سلطانهما، يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النّخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حِجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه. فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا: لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلماً.

فقال زهير: عباد الله إنّ ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنّصر من ابن سميّة، فإنْ لم

____________________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ج١ ص٢٤٩ فصل ١١: واقتصر الصدوق في الأمالي على دعائه على محمّد بن الأشعث.

(٢) روضة الواعظين للفتال ص١٥٩ طبع أول.

(٣) الكامل لابن الأثير ج٤ ص٢٧.

٢٣١

تنصروهم، فاُعيذكم بالله أنْ تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد، فلَعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسينعليه‌السلام .

فرماه الشمر بسهم وقال: اسكت أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال زهير: يابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك اُخاطب، إنّما أنت بهيمة والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتَين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال الشمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.

فقال زهير: أفبالموت تخوّفني؟ فوالله لَلموت معه أحبّ إليَّ من الخلد معكم. ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال:

عباد الله، لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قوماً هرقوا دماء ذريّته وأهل بيته، وقتلوا مَن نصرهم وذبَّ عن حريمهم.

فناداه رجل من أصحابه، إنّ أبا عبد الله يقول لك:«أقبِل، فلَعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء، فلقد نصحتَ هؤلاء وأبلغت لَو نفع النّصح والإبلاغ» (١) .

خطبة بُرير

واستأذن الحسينَ برير بن خضير(٢) في أنْ يكلّم القوم، فأذن له وكان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن ومن شيوخ القرّاء في جامع الكوفة، وله في الهمدانيّين شرف وقدر.

فوقف قريباً منهم ونادى: يا معشر النّاس، إنّ الله بعث محمداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السّواد وكلابه

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٣.

(٢) قال ابن الأثير في الكامل ٤ / ٣٧: برير (بالباء الموحّدة، وفتح الراء المهملة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وآخره راء). وخضير (بالخاء والضاد المعجمتين).

٢٣٢

وقد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله، أفجزاء محمّد هذا؟!(١) .

فقالوا: يا بُرير، قد أكثرت الكلام، فاكفف عنّا، فوالله ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله.

قال: يا قوم، إنّ ثقل محمّد قد أصبح بين أظهركم، وهؤلاء ذرّيته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أنْ تصنعوه بهم؟ فقالوا: نريد أنْ نمكنّ منهم الأمير عبيد الله بن زياد، فيرى فيهم رأيه.

قال: أفلا تقبلون منهم أنْ يرجعوا إلى المكان الذي جاؤا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة، أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها وعليكم؟! أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات؟ بئسما خلفتم نبيّكم في ذريّته! ما لكم؟ لا سقاكم الله يوم القيامة فبئس القوم أنتم!

فقال له نفر منهم: يا هذا، ما ندري ما تقول!

قال: الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة، اللهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم، اللهمّ القِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان.

فجعل القوم يرمونه بالسّهام، فتقهقر(٢) .

خطبة الحسين الثانية

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام ركب فرسه، وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه، ووقف بإزاء القوم وقال:«يا قوم، إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) .

ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة وما عليه من سيف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولامته

____________________________

(١) في أمالي الصدوق / ٩٦، المجلس الثلاثون، الطبعة الاُولى: لمّا بلغ العطش من الحسين وأصحابه، استأذن برير أن يكلّم القوم فأذِن له.

(٢) البحار ج١٠: عن محمّد بن أبي طالب. [ بحار الأنوار ٤٥ / ٥ ].

(٣) تذكرة الخواص / ١٤٣.

٢٣٣

وعمامته فأجأبوه بالتصديق. فسألهم عمّا أخذهم على قتله؟ قالوا: طاعةً للأمير عبيد الله بن زياد، فقالعليه‌السلام :

«تبّاً لكم أيّتها الجماعة و ترحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم. فهلاّ - لكم الويلات! - تركتمونا والسّيف مشيم والجأش طامن والرأي لَما يستحصف، ولكنْ أسرعتم إليها كطيرة(١) الدبا وتداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثمّ نقضتموها، فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ومحرّفي الكلِم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئيّ السّنَن! ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون! أجل والله غدر فيكم قديم وشجت عليه اُصولكم وتأزّرت فروعكم فكنتم أخبث ثمرة، شجى للناظر وأكلة للغاصب!

ألا وإنّ الدّعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتَين؛ بين السّلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام من مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد وخذلان النّاصر». ثمّ أنشد أبيات فروة بن مُسيك المرادي(٢) .

____________________________

(١) بالكسر فالفتح، تاج العروس.

(٢) نقلناها من اللهوف / ٥٤، ورواها ابن عساكر في تاريخ الشام ٤ / ٣٣٣، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٦، وفي نقليهما خلاف لما هنا.

وقال ابن حجر في الإصابة ٣ / ٢٠٥: وفد فروة بن مسيك (بالتصغير) على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سنة تسع مع مذحج، واستعمله النبي على مراد ومذحج وزبيد.

وفي الاستيعاب: سكن الكوفة أيام عمر. وذكر ابن هشام في السيرة بهامش الروض الانف ٢ / ٣٤٤: لمّا كانت الوقعة بين مراد وهمدان، أنشأ أبياتاً تسعة ولَم يكن فيها البيت الثالث والرابع. وفي اللهوف ذكر سبعة مع البيتين. وفي الأغاني ١٩ / ٤٩: نسب الفرزدق إلى خاله العلاء بن قرظة قوله:

إذا ما الدهر جر على اناس

بكلكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين الخ.

وذكر ابن عساكر في تاريخ الشام ٤ / ٣٣٤، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٧، الأول والثاني ولَم ينسباهما إلى أحد.

ونسبهما المرتضى في الأمالي ١ / ١٨١ إلى ذي الإصبع العدواني. وفي عيون الأخبار لابن قتيبة ٣ / ١١٤، وشرح الحماسة للتبريزي ٣ / ١٩١: أنّها للفرزدق.

وفي الحماسة البصريّة / ٣٠: أنّهما من قصيدة فروة بن مسيك، ويرويان لعمر بن قعاس.

٢٣٤

فـإن نـهزم فـهزّامون قدماً

وإن نـهْزَم فـغير مُـهزَّمينا

ومـا أن طبنا(١) جبن ولكن

مـنـايانا ودولــة آخـرينا

فـقل لـلشامتين بـنا أفيقوا

سـيلقى الـشامتون كما لقينا

إذا مات الموت رفَّع عن اُناس

بـكـلكله أنــاخ بـآخرينا

أما والله، لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عَهَده إليَّ أبي عن جدّي رسول الله، فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون، إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم، ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط المستقيم» (٢) .

ثمّ رفع يدَيه نحو السّماء وقال:«اللهمّ، احبس عنهم قطر السّماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة، فإنّهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير (٣) .

والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه، قتلةً بقتلة وضربةً بضربة، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي» (٤) .

ضلال ابن سعد

واستدعى الحسينعليه‌السلام عمر بن سعد، فدُعي له - وكان كارهاً لا يحبّ أن يأتيه - فقالعليه‌السلام :«أي عمر، أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدعيّ بلاد الري وجرجان؟ والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتّخذونه غرضاً بينهم»، فصرف بوجهه عنه مغضباً(٥) .

____________________________

(١) الطب (بالكسر): الإرادة والعادة.

(٢) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٤، والمقتل للخوارزمي ٢ / ٧، واللهوف / ٥٤.

(٣) اللهوف / ٥٦، طبعة صيدا، والمقتل للخوارزمي ٣ / ٧.

(٤) مقتل العوالم / ٨٤.

(٥) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١١٠، ومقتل العوالم / ٨٤، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٨.

٢٣٥

توبة الحرّ

ولمّا سمع الحرّ بن يزيد الرياحي كلامه واستغاثته، أقبل على عمر بن سعد وقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال؟ فقال: لَو كان الأمر إليَّ لقبلت، ولكن أميرك أبى ذلك. فتركه ووقف مع النّاس، وكان إلى جنبه قرّة بن قيس فقال لقرّة: هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: فهل تريد أن تسقيه؟ فظنّ قرّة من ذلك أنّه يريد الاعتزال ويكره أن يشاهده، فتركه فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذته الرعدة، فارتاب المهاجر من هذا الحال وقال له: لَو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة؟ لَما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟ فقال الحرّ: إنّي اُخيِّر نفسي بين الجنّة والنّار، والله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو اُحرقت. ثمّ ضرب جواده نحو الحسين(١) منكّساً رمحه قالباً ترسه(٢) وقد طأطأ برأسه؛ حياءً من آل الرسول بما أتى إليهم وجعجع بهم في هذا المكان على غير ماء ولا كلأ، رافعاً صوته:

اللهمّ إليك اُنيب فتب عليَّ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك. يا أبا عبدالله إنّي تائب، فهل لي من توبة؟

فقال الحسينعليه‌السلام :«نعم يتوب الله عليك» (٣) . فسرّه قوله وتيقّن الحياة الأبديّة والنّعيم الدائم، ووضح له قول الهاتف لمّا خرج من الكوفة، فحدّث الحسينعليه‌السلام بحديث قال فيه: لمّا خرجت من الكوفة نُوديت: أبشر يا حرّ بالجنّة. فقلت: ويلٌ للحر

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٤.

(٢) في البداية لابن كثير ٧ / ٦٣: في واقعة اليرموك قال جرجه، وهو من النصارى لخالد بن الوليد: ما منزلة مَن يدخل منّا في هذا الأمر؟ قال خالد: له من الأجر أفضل ممّا لنا؛ لأنا صدقنا نبينا وهو حي بين أظهرنا يأتيه وحي السّماء ونرى الآيات، ومَن يسلم منكم وهو لَم يسمع ما سمعنا ولَم يرَ ما رأينا من العجائب والحجج وكان دخوله في هذا الأمر بيّنة صادقة، كان أفضل منّا. فعند ذلك قلب جرجه الترس ومال مع خالد وقال: علِّمني الإسلام....

وفي أنساب الأشراف للبلاذري ١ / ٤٢، طبعة دار المعارف، مصر: كان العرب إذا خافوا ووردوا على من يستجيرون به وجاؤا للصلح نكسوا رماحهم. وقال في صفحة ٤٣: وفد الحارث بن ظالم على عبد الله بن جدعان بـ (عكاظ) وهم يرون حرب قيس، فكذلك نكّس رمحه ثمّ رفعه حين عرفوه وأمن.

(٣) اللهوف / ٥٨، وأمالي الصدوق / ٩٧ المجلس الثلاثون، وروضة الواعظين / ١٥٩.

٢٣٦

يُبشّر بالجنّة وهو يسير إلى حرب ابن بنت رسول الله؟!(١) .

فقال له الحسينعليه‌السلام :«لقد أصبت خيراً وأجراً» (٢) . وكان معه غلام تركي(٣) .

نصيحة الحر لأهل الكوفة

ثمّ استأذن الحسينَعليه‌السلام في أنْ يكلّم القوم فأذن له، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الكوفة لاُمّكم الهبل والعبر؛ إذ دعوتموه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كلّ جانب فمنعتموه التوجّه إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمن وأهل بيته، وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنّصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه. وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمداً في ذريّته! لا سقاكم الله يوم الظمأ! فحملت عليه رجّالة ترميه بالنّبل، فتقهقر حتّى وقف أمام الحسين(١) .

الحملة الاُولى

وتقدّم عمر بن سعد نحو عسكر الحسين ورمى بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير إنّي أول من رمى. ثمّ رمى النّاس(٢) ، فلَم يبقَ من أصحاب الحسين أحد إلاّ أصابه من سهامهم(٣) ، فقالعليه‌السلام لأصحابه:«قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه، فإنَّ هذه السّهام رسل القوم إليكم» . فحمل أصحابه حملةً واحدةً(٤) واقتتلوا ساعة، فما انجلت الغبرة إلاّ عن خمسين صريعاً(٥) .

____________________________

(١) أمالي الصدوق / ٩٣، المجس الثلاثون.

(٢) مثير الأحزان لابن نما / ٣١، وفي مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٩: كان معه غلام له تركي.

(٣) الهبل (بالتحريك): الثكل. والعبر (بالفتح): الحزن، وجريان الدمعة كاستعبر، تاج العروس.

(٤) ابن الأثير ٤ / ٢٧.

(٥) الخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٧.

(٦) مقتل العوالم / ٨٤.

(٧) اللهوف / ٥٦.

(٨) البحار عن محمّد بن أبي طالب.

٢٣٧

سـطت ورحى الهيجاء تطحن شوسها

ووجـه الـضحى فـي نقعها متنقِّب

تـهـلّل بـشراً بـالقراع وجـوهها

وكـم وجـه ضـرغام هناك مقطّب

وتـلتذّ أن جـاءت لـها السمر تلتوي

وللبيض ان سُلّت لدى الضرب تطرب

أعـزّاء لا تـلوي الـرقاب لـفادح

ولا مـن اُلـوف في الكريهة ترهب

فـما لـسوى الـعلياء تـاقت نفوسهم

ولَـم تك في شيء سوى العزّ ترغب

فـلَـو أنَّ مـجداً في الـثرّيا لـحلقت

إلـيه وشـأن الـشّهم لـلمجد يطلب

فـأسيافهم يـوم الـوغى تمطر الدّما

وأيـديهم مـن جودها الدهر مخضب

ومـا برحت تقري المواضي لحومها

ومـن دمـها السّمر العواسل تشرب

إلـى أنْ تهاوت كالكواكب في الثرى

ومـا بعدهم يا ليت لا لاح كوكب(١)

تـهاووا فـقل زهـر النّجوم تهافتت

وأهـووا فـقل شـمّ الجبال تهدّم(٢)

وخرج يسار مولى زياد وسالم مولى عبيد الله بن زياد فطلبا البراز، فوثب حبيب وبرير، فلم يأذن لهما الحسينعليه‌السلام . فقام عبد الله بن عمير الكلبي، من بني عليم، وكنيته أبو وهب، وكان طويلاً شديد السّاعدين بعيد ما بين المنكبين، شريفاً في قومه شجاعاً مجرّباً، فأذن له وقال:«أحسبه للأقران قتّالاً». فقالا له: مَن أنت؟ فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك ليخرج إلينا زهير أو حبيب أو برير، وكان يسار قريباً منه فقال له: يابن الزانية أوَبك رغبةً عن مبارزتي؟ ثمّ شدّ عليه بسيفه يضربه، وبينا هو مشتغل به إذ شدّ عليه سالم، فصاح أصحابه قد رهقك العبد فلم يعبأ به، فضربه سالم بالسّيف فاتقاها عبد الله بيده اليسرى فأطار أصابعه، ومال عليه عبد الله فقتله. وأقبل إلى الحسين يرتجز وقد قتلهما.

وأخذت زوجته اُمّ وهب بنت عبد الله بن النمر بن قاسط، عموداً، وأقبلت نحوه تقول له: فداك أبي واُمّي قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فأراد أنْ يردّها إلى الخيمة، فلَم تطاوعه وأخذت تجاذبه ثوبه وتقول: لن أدعك دون أنْ أموت معك. فناداها الحسينعليه‌السلام :«جزيتم عن أهل بيت نبيكم خيراً،

____________________________

(١) من قصيدة للشيخ حسون الحلي، شعراء الحلة ٢ / ١٠٤.

(٢) من قصيدة للحجة للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاءقدس‌سره ، طبعت في كتابنا (قمر بني هاشم).

٢٣٨

ارجعي إلى الخيمة، فإنّه ليس على النّساء قتال». فرجعت(١) .

مبارزة الاثنين والاربعة

ولمّا نظر مَن بقي من أصحاب الحسين إلى كثرة مَن قُتل منهم، أخذ الرجلان والثلاثة و الأربعة يستأذنون الحسين في الذبّ عنه والدفع عن حرمه، وكلّ يحمي الآخر من كيد عدوّه. فخرج الجابريّان وهما: سيف بن الحارث بن سريع، ومالك بن عبد بن سريع، وهما ابنا عمّ وأخوان لاُمّ، وهما يبكيان قال الحسينعليه‌السلام :«ما يبكيكما؟ إنّي لأرجو أنْ تكونا بعد ساعة قريرَي العين» . قالا: جعلنا الله فداك، ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك؛ نراك قد اُحيط بك ولا نقدر أنْ ننفعك. فجزاهما الحسين خيراً. فقاتلا قريباً منه حتّى قُتلا(٢) .

وجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاريّان فقالا: قد حازنا النّاس إليك. فجعلا يقاتلان بين يدَيه حتّى قُتلا.

وخرج عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه وجابر بن الحارث السلماني ومجمع بن عبد الله العائذي(٣) ، وشدّوا جميعاً على أهل الكوفة فلمّا أوغلوا فيهم، عطف عليهم النّاس وقطعوهم عن أصحابهم، فندب إليهم الحسين أخاه العبّاس فاستنقذهم بسيفه، وقد جُرحوا بأجمعهم، و في أثناء الطريق اقترب منهم العدوّ فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح، و قاتلوا حتّى قتلوا في مكان واحد(٤) .

استغاثة و هداية

ولمّا نظر الحسين إلى كثرة مَن قُتل من أصحابه، قبض على شيبته المقدّسة وقال:«اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضبه على النّصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٥، وابن الأثير ٤ / ٣٧.

(٢) ابن الأثير ٤ / ٢٩.

(٣) في الإصابة ٣ / ٩٤ القسم الثالث: مجمع بن عبد الله بن مجمع بن مالك بن أياس بن عبد مناة بن سعد، قُتل مع الحسين بن عليعليه‌السلام بالطفّ، ولأبيه إدراك.

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٥.

٢٣٩

والقمر دونه، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم. أما والله، لا اُجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي، ثمّ صاح: أما من مغيث يغيثنا! أما من ذابّ يذبُّ عن حرم رسول الله!» (١) فبكت النّساء وكثر صراخهن.

وسمع الأنصاريّان سعد بن الحارث وأخوه أبو الحتوف استنصار الحسينعليه‌السلام واستغاثته وبكاء عياله - وكانا مع ابن سعد - فمالا بسيفيهما على أعداء الحسينعليه‌السلام وقاتلا حتّى قُتلا(٢) .

ثبات الميمنة

وأخذ أصحاب الحسينعليه‌السلام - بعد أن قلّ عددهم وبان النّقص فيهم - يبرز الرجل بعد الرجل فأكثروا القتل في أهل الكوفة. فصاح عمرو بن الحَجّاج لأصحابه: أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين، لا يبرز إليهم أحد منكم إلاّ قتلوه على قلّتهم، والله لَو لَم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم. فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت، ارسِل في النّاس مَن يعزم عليهم أنْ لا يبارزهم رجل منهم، ولَو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم(٣) .

ثمّ حمل عمرو بن الحَجّاج على مَيمنة الحسينعليه‌السلام ، فثبتوا له وجثوا على الركب وأشرعوا الرماح، فلَم تقدم الخيل. فلمّا ذهبت الخيل لترجع، رشقهم أصحاب الحسينعليه‌السلام بالنّبل فصرعوا رجالاً وجرحوا آخرين(٤) .

وكان عمرو بن الحَجّاج يقول لأصحابه: قاتِلوا مَن مَرق عن الدِّين وفارق الجماعة. فصاح الحسينعليه‌السلام :«ويحك يا عمرو! أعليَّ تحرّض النّاس؟ أنحن مرقنا من

____________________________

(١) اللهوف / ٥٧.

(٢) الحدايق الورديّة مخطوط.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٩.

(٤) كامل ابن الأثير ٤ / ٢٧.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وظهر عليه السّرور في مجلسه، فلَم يبال بإلحاده وكفره حين تمثّل بشعر ابن الزبعري، وحتّى أنكر الوحي على رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّه لمّا كثرت اللائمة عليه ووضح له الفشل والخطأ في فعلته التي لَم يرتكبها حتّى مَن لم ينتحل دين الإسلام وعرف المغزى من وصيّة معاوية إيّاه حيث قال له: إنّ أهل العراق لن يدَعوا الحسين حتّى يخرجوه، فإذا خرج عليك فاصفح عنه؛ فإنّ له رحماً ماسة وحقّاً عظيماً(١) .

وعاب عليه خاصّته وأهل بيته ونساؤه، وكان بمرأى منه ومسمع كلام الرأس الأطهر لمّا أمر بقتل رسول ملك الروم(لا حول ولا قوة إلا بالله) (٢) ولحديث الأندية عمّا ارتكبه من هذه الجريمة الشائنة والقسوة الشديدة دوي في أرجاء دمشق، لَم يجد مناصاً من القاء التبعة على عاتق ابن زياد تبعيداً للسبَّة عنه، ولكن الثابت لا يزول.

ولمّا خشى الفتنة وانقلاب الأمر عليه، عجّل بإخراج الإمام السّجادعليه‌السلام والعيال من الشام إلى وطنهم ومقرّهم، ومكَّنهم ممّا يريدون، وأمر النّعمان بن بشير وجماعة معه أنْ يسيروا معهم إلى المدينة مع الرفق(٣) .

فلمّا وصلوا العراق قالوا للدليل: مُر بنا على طريق كربلاء، فوصلوا إلى مصرع الحسينعليه‌السلام فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل رسول الله - قد وردوا لزيارة قبر الحسينعليه‌السلام - فتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم، وأقاموا في كربلاء ينوحون على الحسينعليه‌السلام (٤) ثلاثة أيّام(٥) .

ووقف جابر الأنصاري على القبر فأجهش بالبكاء وقال: يا حسين (ثلاثاً) ثم قال:

حبيب لا يجيب حبيبه! وأنّى لك بالجواب وقد شحطت أوداجك على

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ١٨٠.

(٢) مقتل العوالم / ١٥٠.

(٣) إرشاد المفيد.

(٤) اللهوف / ١١٢، ومثير الاحزان لابن نما / ٧٩ الطبعة الحجريّة.

(٥) رياض الأحزان / ١٥٧.

٣٦١

أثباجك، وفرّق بين رأسك وبدنك، فأشهد أنَّك ابن خاتم النبيين، وابن سيّد المؤمنين، وابن حليف التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيّد النقباء، وابن فاطمة الزهراء سيّدة النساء، وما لَك لا تكون كذلك وقد غذَّتك كفّ سيّد المرسلين، وربيت في حجر المتّقين، ورضعت من ثدى الإيمان، وفطمت بالإسلام؟! فطبت حيّاً وطبت ميّتاً غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة بفراقك، ولا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا.

ثم أجال بصره حول القبر وقال: السّلام عليكم أيّتها الأروح التي حلّت بفناء الحسينعليه‌السلام وأناخت برحله، أشهد أنّكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتّى أتاكم اليقين. والذي بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ نبيّاً، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه. فقال له عطيّة العوفي: كيف ولَم نهبط وادياً ولَم نعلُ جبلاً ولَم نضرب بسيف، والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم وأبدانهم واُوتمت أولادهم واُرملت الأزواج؟ فقال له: إني سمعت حبيبي رسول الله يقول:«مَن أحبّ قوماً، كان معهم. ومَن أحبّ عمل قوم اُشرك في عملهم». والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسينعليه‌السلام وأصحابه(١) .

الرأس مع الجسد

لمّا عرف زين العابدينعليه‌السلام الموافقة من يزيد، طلب منه الرؤوس كلّها ليدفنها في محلّها، فلَم يتباعد يزيد عن رغبته، فدفع اليه رأس الحسينعليه‌السلام مع رؤوس أهل بيته وصحبه، فألحقها بالأبدان.

نصّ على مجيئه بالرؤوس إلى كربلاء في حبيب السير كما في نفَس المهموم ص ٢٥٣، ورياض الأحزان ص ١٥٥.

____________________________

(١) بشارة المصطفى / ٨٩، المطبعة الحيدريّة، مؤلّفه - كما في روضات الجنّات - أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم بن محمّد بن علي الطبري الآملي، من علماء القرن الخامس، قرأ على ابن الشيخ الطوسي.

٣٦٢

وأمّا رأس الحسينعليه‌السلام ففي روضة الواعظين للفتّال ص ١٦٥، وفي مثير الأحزان لابن نما الحلي ص ٥٨: إنّه المعوّل عليه عند الإماميّة.

وفي اللهوف لابن طاووس ص ١١٢: عليه عمل الإماميّة. وفي إعلام الورى للطبرسي ص ١٥١، ومقتل العوالم ص ١٥٤، ورياض المصائب، والبحار: إنّه المشهور بين العلماء.

وقال ابن شهر آشوب في المناقب ج ٢ ص ٢٠٠: ذكر المرتضى في بعض رسائله: إنّ رأس الحسينعليه‌السلام اُعيد إلى بدنه في كربلاء. وقال الطوسي: ومنه زيارة الأربعين.

وفي البحار عن (العدد القويّة) لأخ العلاّمة الحلّي، وفي عجائب المخلوقات للقزويني ص ٦٧: في العشرين من صفر ردَّ رأس الحسينعليه‌السلام إلى جثّته.

وقال الشبراوي: قيل اُعيد الرأس إلى جثّته بعد أربعين يوماً(١) .

وفي شرح همزيّة البوصيري لابن حجر اُعيد رأس الحسينعليه‌السلام بعد أربعين يوماً من قتله.

وقال سبط ابن الجوزي: الأشهر أنّه رُدَّ إلى كربلاء فدفن مع الجسد(٢) .

والمناوي في الكواكب الدريّة ج ١ ص ٥٧، نقل اتّفاق الإماميّة على أنّه اُعيد إلى كربلاء، وإنّ القرطبي رجّحه ولَم يتعقبه، بل نسب إلى بعض أهل الكشف والشهود أنّه حصل له اطّلاع على أنّه اُعيد إلى كربلاء.

وقال أبو الريحان البيروني: في العشرين من صفر ردَّ رأس الحسينعليه‌السلام إلى جثّته حتّى دُفِن مع جثته(٣) .

وعلى هذا فلا يعبأ بكلّ ما ورد بخلافه، والحديث بأنّه عند قبر أبيه بمرأى من هؤلاء الأعلام، فإعراضهم عنه يدلّنا على عدم وثوقهم به؛ لأنّ إسناده لَم يتم ورجاله غير معروفين.

وقال أبو بكر الآلوسي - وقد سئل عن موضع رأس الحسينعليه‌السلام -:

لا تطلبوا رأس الحسين

بشرق أرض أو بغرب

ودَعوا الجميع وعرّجوا

نحوي فمشهده بقلبي(٤)

____________________________

(١) الاتحاف بحبّ الأشراف / ١٢.

(٢) تذكرة الخواص / ١٥٠.

(٣) الآثار الباقية ١ / ٣٣١.

(٤) في البابليّات ٣ / ١٢٨: ذكرهما سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص. أقول: وعبارته في التذكرة / ١٥٩، الطبعة الحجريّة: (وأنشد بعض أشياخنا: لا تطلبوا رأس الحسين...).

٣٦٣

وقال الحاج مهدي الفلّوجي الحلّي(١) :

لا تطلبوا رأس الحسين فإنّه

لا في حمىً ثاوٍ ولا في واد

لـكنّما صـفّو الولاء يدلّكم

في أنّه المقبور وسْط فؤادي

يوم الأربعين

من النّواميس المطّردة الاعتناء بالفقيد بعد أربعين يوماً مضَين من وفاته بإسداء البرّ إليه وتأبينه، وعدّ مزاياه في حفلات تُعقد وذكريات تدوّن، تخليداً لذكره على حين إن الخواطر تكاد تنساه والأفئدة أوشكت أنْ تهمله، فبذلك تعاد إلى ذكره البائد صورة خالدة، بشعر رائق تتناقله الألسن، ويستطيع في القلوب، فتمرّ الحقب والأعوام وهو على جِدته. أو خطاب بليغ تتضمّنه الكتب والمدوّنات حتّى يعود من أجزاء التاريح التي لا يبليها الملوان، فالفقيد يكون حيّاً كلّما تُليت هاتيك النتف من الشعر أو وقف الباحث على ما اُلقيت فيه من كلمات تأبينيّة بين طيّات الكتب، فيقتصّ أثره في فضائله وفواضله، وهذه السُنّة الحسنة تزداد أهميّةً كلّما ازداد الفقيد عظمة وكثرت فضائله، وإنّها في رجالات الإصلاح، والمقتدى بهم من الشرائع أهمّ وآكد؛ لأنّ نشر مزاياهم وتعاليمهم يحدو إلى اتّباعهم واحتذاء مثالهم في الإصلاح و تهذيب النّفوس.

وما ورد عن أبي ذر الغفاري وابن عبّاس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إنّ الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً» (٢) ، وعن زرارة عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :«إنّ السّماء بكت على الحسين عليه‌السلام أربعين صباحاً بالدم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسّواد، والشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً، وما اختضبت امرأة منّا ولا أدهنت ولا اكتحلت ولا رجلت حتّى أتانا رأس عبيد الله بن زياد، وما زلنا في عبرة من بعده» (٣) .

____________________________

(١) شعراء الحلّة ٥ / ٣٧١، إنّها للحاج مهدي الفلّوجي.

(٢) مجموعة الشيخ ورام ٢ / ٢٧٦، والبحار ٢ / ٦٧٩، باب شهادة الإمام عليعليه‌السلام عن مناقب ابن شهر آشوب.

(٣) مستدرك الوسائل للنوري / ٢١٥، الباب الرابع والتسعون.

٣٦٤

يؤكّد هذه الطريقة المألوفة والعادة المستمرّة بين النّاس من الحداد على الميّت أربعين يوماً، فإذا كان يوم الأربعين اُقيم على قبره الاحتفال بتأبينه يحضره أقاربه وخاصّته وأصدقاؤه، وهذه العادة لَم يختصّ بها المسلمون، فإنّ النّصارى يقيمون حفلة تأبينيّة يوم الأربعين من وفاة فقيدهم يجتمعون في الكنيسة ويعيدون الصلاة عليه المسمّاة عندهم بصلاة الجنازة ويفعلون ذلك في نصف السّنة وعند تمامها، واليهود يعيدون الحداد على فقيدهم بعد مرور ثلاثين يوماً وبمرور تسعة أشهُر وعند تمام السّنة(١) ، كلّ ذلك إعادةً لذكراه، وتنويهاً به وبآثاره وأعماله إنْ كان من العظماء ذوي الآثار والمآثر.

وعلى كلّ حال، فإنّ المنقّب لا يجد في الفئة الموصوفة بالإصلاح رجلاً اكتنفته المآثر بكلّ معانيها، وكانت حياته وحديث نهضته وكارثة قتله دعوةً إلهيّة، ودروساً إصلاحيّة، وأنظمة اجتماعيّة، وتعاليم أخلاقيّة، ومواعظ دينيّة، إلاّ سيّد شباب أهل الجنّة شهيد الدِّين، شهيد السّلام والوئام، شهيد الأخلاق والتهذيب الحسينعليه‌السلام ، فهو أولى من كلّ أحد بأنْ تُقام له الذكريات في كلّ مكان، وتشدّ الرحال للمثول حول مرقده الأقدس في يوم الأربعين من قتله؛ حصولاً على تلكم الغايات الكريمة.

وإنّما قصروا الحفلات الأربعينيّة الأول في سائر النّاس من جهة كون مزايا اُولئك الرجال محدودة منقطعة الآخر، بخلاف سيّد الشهداء، فإنّ مزاياه لا تُحَدّ، وفواضله لا تُعَدّ، ودرس أحواله جديد كلما ذُكر، واقتصاص أثره يحتاجه كلّ جيل، فإقامة المآتم عند قبره في الأربعين من كلّ سنة إحياءٌ لنهضته وتعريفٌ بالقساوة التي ارتكبها الاُمويّون ولفيفهم، ومهما أمعن الخطيب أو الشاعر في قضيّته تفتح له أبواب من الفضيلة كانت موصدة عليه قبل ذلك؛ ولهذا اطّردت عادة الشيعة على تجديد العهد بتلكم الأحوال يوم الأربعين من كلّ سنة، ولعلّ رواية أبي جعفر الباقرعليه‌السلام :«إنّ السّماء بكت على الحسين أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء» (٢) تلميح إلى هذه العادة المألوفة بين النّاس.

____________________________

(١) نهر الذهب في تاريخ حلب ١ / ٦٣: ٢٦٧.

(٢) كامل الزيارات / ٩٠ الباب الثامن والعشورن.

٣٦٥

وحديث الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام :«علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، والتختّم في اليمين، وتعفير الجبين» (١) ، يرشدنا إلى تلك العادة المطّردة المألوفة، فإنّ تأبين سيّد الشهداء وعقد الاحتفالات لذكره في هذا اليوم إنّما يكون ممَّن يمتّ به بالولاء والمشايعة، ولا ريب في أنّ الذين يمتّون به بالمشايعة هم المؤمنون المعترفون بإمامته، إذاً فمن علامة إيمانهم وولائهم لسيّد شباب أهل الجنّة المنحور في سبيل الدعوة الإلهيّة المثول في يوم الأربعين من شهادته عند قبره الأطهر لإقامة المأتم، وتجديد العهد بما جرى عليه وعلى صحبه وأهل بيته من الفوادح.

والتصرّف في هذه الجملة (زيارة الأربعين) - بالحمل على زيارة أربعين مؤمناً - التواء في فهم الحديث وتمحّل في الاستنتاج يأباه الذوق السّليم، مع خلوّه عن القرينة الدالّة عليه، ولَو كان الغرض هو الإرشاد إلى زيارة أربعين مؤمناً لقالعليه‌السلام (زيارة أربعين)، فالإتيان بالألف واللام العهديّة للتنبيه على أنّ زيارة الأربعين من سنخ الأمثلة التي نصّ عليها الحديث بأنّها من علائم الإيمان والموالاة للأئمّة الاثني عشر.

ثمّ إنّ الأئمّة من آل الرسولعليهم‌السلام وإنْ كانوا أبواب النّجاة وسفن الرحمة وبولائهم يُعرف المؤمن من غيره، وقد خرجوا من الدنيا مقتولين في سبيل الدعوة الإلهيّة موطّنين أنفسهم على القتل؛ امتثالاً لأمر بارئهم جلّ شأنه الموحى به إلى جدّهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أشار إليه أبو محمّد الحسن ابن أمير المؤمنينعليهما‌السلام بقوله:«إنّ هذا الأمر يملكه منّا اثنى عشر إماماً، ما منهم إلاّ مقتول أو مسموم».

فالواجب إقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كلّ واحد منهم. وحديث الإمام العسكري لَم يشتمل على قرينة لفظيّة تصرف هذه الجملة (زيارة الأربعين) إلى خصوص الحسينعليه‌السلام إلاّ أنّ القرينة الحاليّة أوجبت فهم العلماء الأعلام من هذه الجملة خصوص زيارة الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّ قضيّة سيّد الشهداء هي

____________________________

(١) رواه الشيخ الطوسي في التهذيب ٣ / ١٧، في باب فضل زيارة الحسينعليه‌السلام عن أبي محمّد العسكريعليه‌السلام . ورواه في مصباح المتهجد / ٥٥١ طبعة الهند.

٣٦٦

التي ميّزت بين دعوة الحقّ والباطل؛ ولذا قيل: الإسلام بدؤه محمّدي وبقاؤه حسيني. وحديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :«حسين منّي وأنا من حسين» يشير إليه؛ لأنّ ما قاساه سيّد الشهداء إنّما هو لتوطيد اُسس الإسلام واكتساح أشواك الباطل عن صراط الشريعة، وتنبيه الأجيال على جرائم أهل الضلال، هو عين ما نهض به نبيّ الإسلام لنشر الدعوة الإلهيّة.

فمن أجل هذا كلّه لَم يجد أئمّة الدِّين من آل الرسول ندحة إلاّ لفت الأنظار إلى هذه النّهضة الكريمة؛ لأنّها اشتملت على فجائع تفطّر الصخر الأصمّ، وعلموا أنّ المواظبة على إظهار مظلوميّة الحسينعليه‌السلام تستفزّ العواطف وتوجب استمالة الأفئدة نحوهم فالسّامع لتلكم الفظائع يعلم أنّ الحسينعليه‌السلام إمام عدل لَم يرضخ للدنايا، وإنّ إمامته موروثة له من جدّه وأبيه الوصي، ومَن ناوأه خارج عن العدل، وإذا عرف السّامع أنّ الحقّ في جانب الحسينعليه‌السلام وأبنائه المعصومين، كان معتنقاً طريقتهم وسالكاً سبيلهم.

ومن هنا لَم يرد التحريض من الأئمّة على إقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كلّ واحد منهم حتّى نبيّ الإسلام؛ لكون تذكار كارثته عاملاً قويّاً في إبقاء الرابطة الدينيّة وإنّ لفت الأنظار نحوها أمسّ في إحياء أمر المعصومين المحبوب لديهم التحدّث به«أحيوا أمرنا وتذاكروا في أمرنا».

وعلى كلٍّ، فالقارىء الكريم يتجلّى له اختصاص زيارة الأربعين بالمؤمن حينما يعرف نظائرها التي نصّ عليها الحديث.

فإنّ الأول منها وهو (صلاة إحدى وخمسين ركعة) التي شُرّعت ليلة المعراج، وبشفاعة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اقتصر فيها على خمس فرائض في اليوم والليلة، عبارة عن: سبع عشرة ركعة للصبح والظهرين والعشائين والنّوافل الموقّتة لها مع نافلة الليل أربع وثلاثون؛ ثمان للظهر قبلها، وثمان للعصر قبلها، وأربع بعد المغرب، واثنان بعد العشاء تعدّان بواحدة، واثنان قبل الصبح، وإحدى عشرة ركعة نافلة الليل مع الشفع والوتر وبإضافتها إلى الفرائض يكون المجموع إحدى وخمسين ركعة، وهذا ممّا اختصّ به الإماميّة، فإنّ أهل السُنّة وإنْ وافقوهم على عدد الفرائض إلاّ أنّهم افترقوا في النّوافل، ففي فتح القدير لابن همام الحنفي ج ١ ص ٣١٤: إنّها ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، واثنان بعدها، واربع قبل العصر، وإنْ شاء

٣٦٧

ركعتين، وركعتان بعد المغرب، وأربع بعدها، وإنْ شاء ركعتين. فهذه ثلاث وعشرون ركعة، واختلفوا في نافلة الليل أنّها ثمان ركعات أو ركعتان أو ثلاث عشر أو أكثر، وحينئذ فالمجموع من نوافل الليل والنّهار مع الفرئض لا يكون إحدى وخمسين فإذاً تكون (إحدى وخمسون) من مختصّات الإماميّة.

الثاني: مما تعرّض له الحديث (الجهر بالبسملة) فإنّ الإماميّة تدينوا إلى الله تعالى به وجوباً في الصلاة الجهريّة واستحباباً في الصلاة الاخفاتية، تمسّكاً بأحاديث أئمّتهمعليهم‌السلام ، وفي ذلك يقول الفخر الرازي: ذهبت الشيعة أنّ من السُنّة الجهر بالتسمية في الصلاة الجهريّة والاخفاتيّة، وجمهور الفقهاء يخالفون، وقد ثبت بالتواتر أنّ علي بن أبي طالب كان يجهر بالتسمية ومّن اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى والدليل عليه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«اللهمّ، أدر الحقّ مع علي حيث دار» (١) . وكلمة الرازي لَم يهضمها أبو الثناء الآلوسي، فتعقّبها بقوله: لَو عمل أحد بجميع ما يزعمون تواتره عن الأمير كفر، فليس إلاّ الإيمان ببعض والكفر ببعض. وما ذكره من أنّ مَن اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى مسلم، لكن إنْ سلم لنا خبر ما كان عليه عليعليه‌السلام ودونه مهامه فيح(٢) .

ولا يضرّ الشيعة تهجّم الآلوسي وغيره بعد أنْ رسخت أقدامهم على الولاء لسيّد الأوصياءعليه‌السلام الذي يقول له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«يا علي، ما عرف الله تعالى إلاّ أنا وأنت، وما عرفني إلاّ الله وأنت، وما عرفك إلاّ الله وأنا» (٣) .

إنْ كنت ويحك لَم تسمع مناقبه   فاسمعه مِنْ هل أتى يا ذا الغبا وكفى(٤)

وخالف أهل السُنّة في مسألة الجهر، ففي المغني لابن قدامة ج ١ ص ٤٧٨، وبدايع الصنايع للكاساني ج ١ ص ٢٠٤، وشرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء في فقه مالك ج ١ ص ٢١٦: إنّ الجهر غير مسنون في الصلاة.

الثالث: ممّا تعرّض له الحديث (التختّم باليمين) وقد التزم به الإماميّة تديّناً

____________________________

(١) مفاتيح الغيب ١ / ١٠٧.

(٢) روح المعاني ١ / ٤٧.

(٣) المحتضر / ١٦٥.

(٤) في شذرات الذهب لابن العماد ٤ / ١٤٠: كان بعض الحنابلة ينشدهما على المنبر ببغداد.

٣٦٨

بروايات أئمتهمعليهم‌السلام وخالفهم جماعة من السُنّة، قال ابن الحَجّاج المالكي: إنّ السُنّة أوردت كلّ مستقذر يتناول بالشمال، وكلّ طاهر يتناول باليمين؛ ولأجل هذا المعنى كان المستحبّ في التختّم أنْ يكون التختّم بالشمال، فإنّه يأخذ الخاتم بيمينه ويجعله في شماله(١) .

ويحكي ابن حجر إنّ مالكاً يكره التختّم باليمين وإنّما يكون باليسار، وبالغ الباجي من المالكية بترجيح ما عليه مالك من التختّم باليسار(٢) .

وقال الشيخ إسماعيل البروسوي ذكر في عقد الدرر: إنّ السُنّة في الأصل التختّم في اليمين، ولمّا كان ذلك شعار أهل البدعة والظلمة، صارت السُنّة أنْ يُجعل الخاتم في خنصر اليد اليسرى في زماننا(٣) .

الرابع: ما ذكره الحديث (التعفير)، والتعفير في اللغة: وضع الشيء على العفر، وهو التراب. والجبين في هذا الحديث الشريف إنْ اُريد منه الجبهة كما استظهره الشيخ يوسف البحراني في الحدائق مدّعياً كثرة الاستعمال بذلك في لسان أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد ورد في التيمّم، فيكون الغرض بيان أنّ الجبهة في السّجود لا بدّ أنْ تكون على الأرض؛ لأنّ أهل السُنّة لَم يلتزموا بوضعها على الأرض، فإنّ أبا حنيفة ومالكاً وأحمد - في إحدى الروايتين عنه - جوّزوا السّجود على كور العمامة(٤) وفاضل الثوب(٥) والملبوس، وجوّز الحنفيّة وضعها على الكفّ مع

____________________________

(١) المدخل ١ / ٤٦، آداب الدخول في المسجد.

(٢) الفتاوى الفقهيّة الكبرى ١ / ٢٤٦، في اللباس.

(٣) حكاه الحجة الأميني في الغدير ج ١٠ ص ٢١١ عن تفسير روح البيان ج ٤ ص ١٤٢.

وليس هذا بأول مخالفة للإمامية ففي المهذب لأبي اسحاق الشيرازي ج ١ ص ١٣٧ والوجيز للغزالي ج ١ ص ٤٧ والمنهاج للنووي ص ٢٥ وشرحه تحفة المحتاج لابن حجر ج ١ ص ٥٦٠ وعمدة القاري للعيني شرح البخاري ج ٤ ص ٢٤٨ والفروع لابن مفلح ج ١ ص ٦٨١ والمغني لابن قدامة ج ٢ ص ٥٠٥ التسطيح اشبه بشعار أهل البدع وفي رحمة الأمة باختلاف الأئمة على هامش الميزان للشعراني ج ١ ص ٨٨ ان السنة تسطيح القبور ولما صار شعار الرافضة كان الأولى مخالفتهم التسنيم (ومن ذلك) الصلاة على أهل البيت مستقلا ففي الكشاف للزمخشري في الاحزاب ٥٦ (ان الله وملائكته يصلون) انه مكروه لانه يؤدي الى الاتهام بالرفض وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تقفن مواقف التهم (ومن ذلك) ما في فتح الباري لابن حجر ج ١١ ص ١٣٥ كتاب الدعوات باب هل يصلى على غير النبي قال اختلف في السلام على غير الانبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي فقيل يشرع مطلقاً وقيل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة ا هـ (ومن ذلك) ما في شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٣ كان بعض أهل العلم يرخي العذبة من قدام الجانب الايسر ولم ار ما يدل على تعيين الايمن الا في حديث ضعيف عند الطبراني ولما صار شعاراً للامامية ينبغي تجنبه لترك التشبه بهم ا هـ.

(٤) الميزان للشعراني ١ / ١٣٨.

(٥) الهداية لشيخ الإسلام المرغيناني ١ / ٣٣.

٣٦٩

الكراهة(١) ، وجوّزوا السّجود على الحنطة والشعير والسّرير وظهر مصلٍّ أمامه يصلّي بمثل صلاته(٢) ، وإنْ اُريد نفسه فيكون الغرض من ذكره الإرشاد إلى أنّ الراجع في سجدة الشكر تعفير الجبين، وإنّه للتذليل والبُعد عن الكبرياء، ومن هذا الجملة في الحديث استظهر صاحب المدارك رجحان تعفير الجبينَين أيضاً، وإليه أشار السيّد بحر العلومقدس‌سره في المنظومة، قال في سجدة الشكر:

والخدُّ أوْلى وبه النصّ جلا

وفي الجبين قد أتى محتملا

وقد ورد تعفير الخدّين في سجدة الشكر(٢) وبه استحقّ موسى بن عمرانعليه‌السلام الزلفى من المناجاة(٣) ولَم يخالف الإماميّة في التعفير سواء اُريد من الجبين الجبهة أو نفسه، وأهل السُنّة لَم يلتزموا بالتعفير في الصلاة أو سجدة الشكر مع أنّ النّخعي ومالكاً وأبا حنيفة كرهوا سجدة الشكر، وإن التزم بها الحنابلة(٤) والشافعي(٥) عند حلول كلّ نعمة أو زوال نقمة.

الخلاصة في علائم المؤمن

لقد تجلّى ممّا ذكرناه في هذه الاُمور التي نصّ عليها الحديث بأنّها من علائم الإيمان أنّ المراد من (زيارة الأربعين) فيه إرشاد الموالين لأهل البيتعليهم‌السلام إلى الحضور في مشهد الغريب المظلوم سيّد الشهداءعليه‌السلام لإقامة العزاء وتجديد العهد بذكر ما جرى عليه من القساوة التي لَم يرتكبها أيّ أحد يحمل شيئاً من الإنسانيّة فضلاً عن الدِّين، والحضور عند قبر الحسينعليه‌السلام يوم الأربعين من مقتله من أظهر علائم الإيمان.

ولا ينقضي العجب ممَّن يتصرّف في هذه الجملة بالحمل على زيارة أربعين

____________________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ١ / ١٨٩.

(٢) البحر الرائق لابن نجيم ١ / ٣١٩.

(٣) الكافي على هامش مرآة العقول ٣ / ١٢٩، والفقيه للصدوق / ٦٩، والتهذيب للشيخ الطوسي ١ / ٢٦٦، في التعقيب.

(٤) الفقيه للصدوق / ٦٩، في التعقيب.

(٥) المغني لابن قدامة ١ / ٦٢٦، والفروع لابن مفلح ١ / ٣٨٢.

(٦) كتاب الاُم ١ / ١١٦، ومختصر المزني على هامشه ١ / ٩٠، والوجيز للغزالي ١ / ٣٢.

٣٧٠

مؤمناً مع عدم تقدّم إشارة إليه ولا قرينة تساعد عليه ليصح الإتيان بالألف واللام للعهد، مع أنّ زيارة أربعين مؤمناً ممّا حثّ عليها الإسلام، فهي من علائمه عند الشيعة والسُنّة ولَم يخصّ بها المؤمنون ليمتازوا عن غيرهم. نعم، زيارة الحسينعليه‌السلام يوم الأربعين من قتله ممّا يدعو إليها الإيمان الخالص لأهل البيتعليهم‌السلام ويؤكّدها الشوق الحسيني، ومعلوم أنّ الذين يحضرون في الحائر الأطهر بعد مرور أربعين يوماً من مقتل سيّد شباب أهل الجنّة خصوص المشايعين له السّائرين على أثره. ويشهد له عدم تباعد العلماء الأعلام عن فهم زيارة الحسين في الأربعين من صفر من هذا الحديث المبارك، منهم أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي في التهذيب ج ٢ ص ١٧ باب فضل زيارة الحسينعليه‌السلام ، فإنّه بعد أن روى الأحاديث في فضل زيارته المطلقة، ذكر المقيّد بأوقات خاصّة، ومنها يوم عاشوراء، وبعده روى هذ الحديث.

وفي مصباح المتهجّد ص ٥٥١ طبعة بمبئي، ذكر شهر صفر وما فيه من الحوادث، ثمّ قال: وفي يوم العشرين منه رجوع حرم أبي عبد اللهعليه‌السلام من الشام إلى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وورود جابر بن عبد الله الأنصاري إلى كربلاء لزيارة أبي عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان أول من زاره من النّاس، وهي زيارة الأربعين، فروي عن أبي محمّد الحسن العسكريعليه‌السلام أنّه قال:«علامات المؤمن خمس...» .

وقال أبو الريحان البيروني: في العشرين من صفر رُدّ الرأس إلى جثّته فدفن معها. وفيه زيارة الأربعين ومجيء حرمه بعد انصرافهم من الشام(١) .

وقال العلاّمة الحلّي في المنتهى، كتاب الزيارات بعد الحج: يستحب زيارة الحسينعليه‌السلام في العشرين من صفر.

وروى الشيخ عن أبي محمّد الحسن العسكريعليه‌السلام أنّه قال:«علامات المؤمن خمس...» إلى آخر الحديث.

وفي الإقبال للسيّد رضيّ الدِّين علي بن طاووس، عند ذكر زيارة الحسينعليه‌السلام في العشرين من صفر قال: روينا بالاسناد إلى جدِّي أبي جعفر فيما رواه بالاسناد إلى مولانا الحسن بن علي العسكريعليه‌السلام أنه قال:«علامات المؤمن خمس...» .

ونقل المجلسي (أعلى الله مقامه) في مزار البحار هذا الحديث عند ذكر فضل

____________________________

(٢) الآثار الباقية / ٣٣١.

٣٧١

زيارة الحسينعليه‌السلام يوم الأربعين وفي الحدائق للشيخ يوسف البحراني، في الزيارات بعد الحجّ قال: وزيارة الحسينعليه‌السلام في العشرين من صفر من علامات المؤمن. وحكى الشيخ عبّاس القمي في المفاتيح هذه الرواية عن التهذيب، ومصباح المتهجّد في الدليل على رجحان الزيارة في الأربعين، من دون تعقيب باحتمال إرادة أربعين مؤمناً.

واستبعاد بعضهم إرادة زيارة الأربعين من جهة عدم تعرّض الإمامعليه‌السلام للآثار الاُخرويّة المترتّبة على الزيارة مع أنّ أهل البيتعليهم‌السلام عند الحثّ على زيارة المظلوم وغيره من أئمّة الهدىعليهم‌السلام يذكرون ما يترتّب عليها من الثواب لا يُصغى إليه؛ فإنّ الإمام في هذا الحديث إنّما هو بصدد بيان علائم المؤمن التي يمتاز بها عن غيره، وجعل منها زيارة الأربعين على ما أوضحنا بيانه، ولَم يكن بصدد بيان ما يترتّب على الزيارة من الأثر.

واستحباب زيارتهعليه‌السلام في العشرين من صفر نصّ عليه الشيخ المفيد في (مسار الشيعة)، والعلاّمة الحلّي في (التذكرة) و (التحرير)، وملاّ محسن الفيض في (تقويم المحسنين).

وتفسير الشيخ البهائي في (توضيح المقاصد) الأربعين بالتاسع عشر من صفر، مبنيّ على حساب يوم العاشر من الأربعين، وهو خلاف المتعارف.

وافـتك جـنداً يـستثير ويزأر

فـقد الـمواكب أنّها لك عسكر

لا تـسلمنَّ إلى الـدنيّة راحة

مـا كـان أسـلمها لذل حيدر

وابـعث حياة النّاهضين جديدة

فـيها الاُبـاء مـؤيَّد ومـظفَّر

وارسـم لسير الفاتحين مناهجاً

فـيها عـروش الطَّائشين تدمَّر

إنْ لَـم تـلبِّك سـاعة محمومة

ذمّـت فـقد لبَّت نداءك أعصر

قم وانظر البيت الحرام ونظرة

اُخـرى لقبرك فهو حجّ أكبر

أصبحت مفخرة الحياة وحقّ لَو

فـخرت بـه فدم الشهادة مفخر

قـدَّست مـا أعلى مقامك رفعة

أخـفيه خوف الظالمين فيظهر

شكتِ الإمارة حظَّها واستوحشت

أعـوادها مـن عابثين تأمَّروا

وتـنكرت لـلمسلمين خـلافة

فيها يصول على الصلاح المنكر

سوداء فاحمة الجبين ترعرعت

فـيها الـقرود ولـوَّثتها الأنـمر

سكبت على نغم الأذان كؤوسها

وعلى الصلاة تديرهنَّ وتعصر

٣٧٢

تـلك الـمهازل يـشتكيها مـسجد

ذهـبت بـروعته ويـبكي مـنبر

فـشكت إلـيك وما شكت إلاّ إلى

بـطل يـغار على الصلاح ويثأر

تـطوى الفضائل ما عظمن وهذه

اُمّ الـفـضائل كـلَّ عـام تـنشر

جـرداء ذابـلة الـغصون سقيتها

بـدم الـوريد فطاب غرس مثمر

وعـلى الـكريهة تـستفزُّك نخوة

حـمـراء دامـية ويـوم أحـمر

شـكت الـشريعة من حدود بُدّلَتْ

فـيـها وأحـكـام هـناك تـغيَّر

سـلبت مـحاسنها اُميّة فاغتدت

صـوراً كـما شاء الضلال تصوَّر

عـصفت بـها الأهواء فهي أسيرة

تشكو وهل غير الحسين محرِّر

وافـى بـفتيته الـصّباح فـساقهم

لـلدِّين قـربان الإلـه فـجزِّروا

أدّى الـرسالة مـا اسـتطاع وإنّما

تـبـليغها بــدم يـطلّ ويـهدر

فـبذمّة الإصـلاح جـبهة مـاجد

تـدمى ووضّـاح الـجبين يـعفَّر

لـبّيك مـنفرداً اُحيط بعالم تحصى

الـحصى عـدداً ومـا إن يحصر

لـبّيك ظـام حـلأوه عن الروى

وبـراحتيه مـن الـمكارم أبـحر

هـذي دمـوع المخلصين فروّ من

عـبـراتها كـبـداً تـكاد تـفطَّر

واعـطف على هذي القلوب فإنّها

ودَّت لَـو أنَّـك في الأضالع تقبر

يـتزاحمون على استلام مشاعر

مـن دون روعتها الصّفا والمشعر

ركـبوا لها الأخطار حتّى لَو غدت

تُـبرى الأكـفّ أو الـجماجم تنثر

وافـوك يـوم الأربـعين وليتهم

حـضروك يوم الطّف إذ تستنصر

وجـدوا سـبيلكم الـنّجاة وإنّـما

نـصبوا لـها جسر الولاء ليعبروا

وتـأمّـلوك لـسـاعةٍ مـرهوبةٍ

إمّـا الـحميم بـها وإمّـا الكوثر

وسـيعلم الخصمان إنْ وافوك مَن

يـرد المعين ومَن يذاد ويصدر(١)

في المدينة

لَم يجد السجّادعليه‌السلام بدّاً من الرحيل من كربلاء إلى المدينة بعد أنْ أقام ثلاثة أيّام؛ لأنّه رأى عمّاته ونساءه وصبيته نائحات الليل والنّهار، يقمن من قبر ويجلسن عند آخر.

____________________________

(١) للعلاّمة الشيخ عبد المهدي مطر النّجفي.

٣٧٣

تـشكو عـداها وتـنعي قومها فلها

حـال من الشجو لفّ الصبر مدرجه

فـنعيها بـشجى الـشكوى تـؤلّفه

ودمـعها بـدم الأحـشاء تـمزجه

ويدخل الشجو في الصخر الأصمِّ لها

تـزفُّر من شظايا القلب تخرجه(١)

قال بشير بن حذلم: لمّا قربنا من المدينة، نزل علي بن الحسينعليه‌السلام وحطَّ رحله وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه وقال:«يا بشير، رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟» قلت: بلى يابن رسول الله، إنّي لشاعر. فقالعليه‌السلام :«ادخل المدينة وانع أبا عبد الله عليه‌السلام » . قال بشير: فركبت فرسي حتّى دخلت المدينة فلمّا بلغت مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت:

يا أهل يثربَ لا مُقَام لكم بها

قُتل الحسينُ فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرّج

والرأس منه على القناة يُدار

وقلت: هذا علي بن الحسينعليه‌السلام مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم وأنا رسوله إليكم اُعرّفكم مكانه. فخرج النّاس يهرعون ولّم تبقَ مخدَّرة إلاّ برزت، تدعو بالويل والثبور، وضجَّت المدينة بالبكاء، فلم يرَ باكٍ أكثر من ذلك اليوم، واجتمعوا على زين العابدينعليه‌السلام يعزّونه، فخرج من الفسطاط بيده خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه مولى معه كرسي، فجلس عليه، وهو لا يتمالك من العبرة، وارتفعت الأصوات بالبكاء والحنين.

فأومأ إلى النّاس أنْ اسكتوا، فلمّا سكتت فورتهم قالعليه‌السلام :«الحمدلله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بعُد فارتفع في السّماوات العلا، وقرُب فشهد النّجوى، نحمده على عظائم الاُمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.

أيّها القوم، إنّ الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام وعترته، وسُبيت نساؤه

____________________________

(١) لحجة الإسلام الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاءقدس‌سره .

٣٧٤

وصبيته، وداروا برأسه في البلدان، من فوق عامل السّنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة .

أيّها النّاس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها، وتضنُّ عن انهمالها؟ فلقد بكت السّبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسّماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، الملائكة المقرّبون، وأهل السّماوات أجمعون.

أيّها النّاس، أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟ أم أيّ سمع يسمع بهذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟

أيّها النّاس، أصبحنا مشرّدين مطرودين مذودين شاسعين عن الأمصار، كأنّنا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها. ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إنّ هذا إلاّ اختلاق، والله لو أنّ النّبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصيّة بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأفجعها وأكظّها وأفظّها وأمرّها وأفدحها، فعند الله نحتسب ما أصابنا، وما بلغ بنا، فإنّه عزيز ذو انتقام».

فقام إليه صوحان بن صعصعة بن صوحان العبدي، وكان زَمِناً واعتذر بما عنده من زمانة رجلَيه.

فأجابهعليه‌السلام بقبول عذره وحُسن الظن فيه، وشكر له وترحّم على أبيه. ثمّ دخل زين العابدينعليه‌السلام المدينة بأهله وعياله(١) وجاء إليه إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال: مَن الغالب؟ فقالعليه‌السلام :«إذا دخل وقت إلى الصلاة فأذّن وأقم، تعرف الغالب» (٢) .

فأمّا زينب اُمّ كلثوم فأنشأت تقول:

مدينة جَدّنا لا تقبلينا

فبالحسرات والأحزان جينا

____________________________

(١) اللهوف لابن طاووس / ١١٦.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي / ٦٦، وفي المقدمة / ٥٦ ذكرنا مراده.

٣٧٥

خرجنا منك بالأهلين طرّاً

رجعنا لا رجال ولا بنينا

ثمّ أخذت زينب بنت أمير المؤمنين بعضادتي باب المسجد وصاحت: يا جَدّاه، إنّي ناعية إليك أخي الحسين.

وصاحت سكينة: ياجَدّاه! إليك المشتكى ممّا جرى علينا، فوالله ما رأيت أقسى من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه ولا أجفى وأغلظ، فلقد كان يقرع ثغر أبي بمخصرته وهو يقول: كيف رأيت الضرب يا حسين(١) .

وأقمن حرائر الرسالة المأتم على سيّد الشهداء ولبسن المسوح والسّواد، نائحات الليل والنّهار، والإمام السجّاد يعمل لهنّ الطعام(٢) .

وفي حديث الصادقعليه‌السلام :«ما اختضبت هاشميّة ولا أدهنت ولا اُجيل مرود في عين هاشميّة خمس حجج حتّى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد» (٣) .

وأما الرباب فبكت على أبي عبد الله حتّى جفّت دموعها فأعلمتها بعض جواريها بأنّ السّويق يسيل الدمعة، فأمرت أنْ يُصنع لها السّويق لاستدرار الدموع(٤) . وكان من رثائها في أبي عبد اللهعليه‌السلام (٥) :

إنَّ الذي كان نوراً يُسْتَضاء به

بـكربلاء قـتيل غير مدفون

سبط النّبيّ جزاك الله صالحة

عنّا وجنبت خسران الموازين

قد كنتَ لي جبلاً صعباً ألوذ به

وكنتَ تصحبنا بالرحم والدّين

مَنْ لليتامى ومَنْ للسائلين ومَنْ

يـغني وياوي إليه كلّ مسكين

والله لا أبتغي صهراً بصهركمُ

حتّى اُغَّيب بين الرمل والطِّين

وأمّا علي بن الحسينعليه‌السلام فانقطع عن النّاس؛ انحيازاً عن الفتن وتفرّغاً للعبادة

____________________________

(١) رياض الأحزان / ١٦٣.

(٢) محاسن البرقي ٢ / ٤٢٠، باب الاطعام للمأتم.

(٣) مستدرك الوسائل ٢ / ٢١٥ الباب الرابع والتسعون.

(٤) البحار ١٠ / ٢٣٥ عن الكافي.

(٥) الأغاني ٢ / ١٥٨.

٣٧٦

والبكاء على أبيه، ولم يزل باكياً ليله ونهاره، فقال له بعض مواليه: إنّي أخاف عليك أنْ تكون من الهالكين. فقالعليه‌السلام :«يا هذا، إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّ يعقوب كان نبيّاً فغيّب الله عنه واحداً من أولاده وعنده اثنا عشر، وهو يعلم أنّه حيّ فبكى عليه حتّى أبيضّت عيناه من الحزن، وإنّي نظرت إلى أبي وإخوتي وعمومتي وصحبي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟! وإنّي لا أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة، وإذا نظرت إلى عمّاتي وأخواتي ذكرت فرارهنّ من خيمة إلى خيمة».

رأى اضطرام النّار في الخباء

وهـو خـباء الـعزِّ والإباء

رأى هـجوم الكفر والضلالة

عـلى بنات الوحي والرسالة

شـاهد فـي عـقائل الـنبوّة

مـا لـيس في شريعة المروَّة

مـن نـهبها وسلبها وضربها

ولا مـجير قـطّ غـير ربِّها

شاهد سَوق الخفرات الطّاهرة

سـوافر الوجوه لابن العاهرة

رأى وقوف الطّاهرات الزاكية

قـبالة الرجس يزيد الطّاغية

وهـنَّ فـي الـوثاق والحبال

في محشد الأوغاد والأنذال(١)

إليك يا رسول الله المشتكى ممّا أتت به اُمّتك مع أبنائك الأطهرين من الظلم والاضطهاد. والحمد لله ربّ العالمين.

____________________________

(١) للحجّة الشيخ محمّد حسين الاصفهاني.

٣٧٧

المراثي

إنّ قضيّة سيّد الشهداءعليه‌السلام بما اشتملت عليه من القساوة الشائنة كانت مثيرة للعواطف، مرققةِّ للأفئدة، فتذمّر منها حتّى مَن لم ينتحل دين الإسلام؛ لذلك ازدلف الشعراء قديماً وحديثاً، باللغة الفصحى والدارجة، إلى ذكرها وتعريف الأجيال المتعاقبة بما جاء الاُمويّون من استئصال شأفة آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فجاؤا بما فيه نجعة المرتاد.

ومن هؤلاء المناضلين لإحياء المذهب، الحجّة آية الله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (نوّر الله ضريحه) فلقد جاء بمراثٍ كثيرة لها حُسن السَّبك ودقَّة المعنى وسلاسة النّظم ورقَّة الانشاء، آثرنا منها أربع قصائد ساطعة في رثاء السّبط الشهيد سيّد شباب أهل الجنّةعليه‌السلام :

١- قالرحمه‌الله :

نـفس أذابـتها أسـىً حسراتها

فـجرت بـها مـحمرَّة عبراتها

وتذكّرت عهد المحصَّب من منى

فـتوقَّدت بـضلوعها جـمراتها

سـارت وراءهـم تـرجع رنَّة

حـنَّت مـطاياهم لـها وحداتها

طـلعوا بـيوم للوداع وقد غدى

لـيلاً فـردَّت شـمسه جبهاتها

وسـروا بـكلّ فتاة خدرٍ إنْ تكن

بـدراّ فـأطراف الـقنا هالاتها

فـخذوا احمرار خدودها بدمائنا

فـجناتها دون الـورى وجناتها

واسـتعطفوا بـاللين أعطافاً لها

فـلقد أقـمنَ قـيامتي قـاماتها

وعـلى عذيب الريق بارق لؤلؤ

بـالمنحنى مـن أضلعي قبساتها

لاثـت عـلى شـهدية بخمارها

والـخمر يـشهد إنّـه لـلثَّاتها

لله يـوم تـلفَّتت لَـو أنَّـها

كـانت لـقتلى حـبّها لـفتاتها

ثـملت بـخمرة ريـقها أعطافها

وزهـت بـلؤلؤ ثـغرها لثاتها

ومـشت فخاطرت النّفوس كأنَّما

مـاست بـخطّار القنا خطراتها

ومـن الـبليّة أنّـني أشـكو لها

بـلوى الـضَّنا فتزيدني لحظاتها

وأبـيت أسـهر لـيلتي وكأنّما

قـد وفّـرت في جنحها وفراتها

ومهى قنصت لصيدهنّ فعدت في

شـرك الـغرام وأفلتت ظبياتها

عـجباً تـفاد لـي الاُسود مهابةً

وتـقودني وأنـا الأبـي مهاتها

أنـا من بعين المكرمات ضياؤها

لـكن بـعين الـحاسدين قذاتها

٣٧٨

إن أنـكرتني مـقلة عـميا فـلا

عـجب فـإنّي فـي سناني فقأتها

تعـساً لـدهر أصـبحت أيّـامه

والـغدر نـجح عـداتها وعداتها

لا غـرو أنْ تـعتد بـنوه الـغدر

فـالأبناء مـن آبـائها عـاداتها

ولـقد وجـدت ملاءة الدنيا خلت

مــن عـفّة ونـجابة فـملاتها

وأرى أخـلاّئي غـداة خـبرتهم

أعـدى عـدى شنّت بنا غاراتها

كـنت الـحماة أظـنّهم فـكشفتهم

عـن عقرب لسعت حشاي حماتها

وتـعدّهم نـفسي الـحياة لها وقد

دبّــت إلـيـها مـنهم حـيّاتها

أسـدت إلـيّ بـكلّ سـيّئة ومن

صـفحى أقـدّر أنّـها حـسناتها

ولـكم عـليها مـن يد بيضاء لي

قـد سـوّدتها الـيوم تـمويهاتها

إنْ فـصّلت لـي الغدر أنواعاً فقد

عـرفت بـخبث الجنس ماهيّاتها

لـؤمت إسـاءتها فهانت واستوى

نـبح الـكلاب عـليَّ أو أصواتها

وتـكرّماً عـنها صـددت وإنّني

لـولا خـساستها عـليّ خـساتها

ولـقد دنـت شـأناً فـلولا عفّتي

عـن وطء كـلّ دنـيّة لـوطاتها

وأنـا الـشجى في حلقها فلو أنّها

تـجد الـمساغ قـذفن بي لهواتها

وتهشّ بشراً إن حضرت فإن أغب

قـذفت بـجمرة غيظها حصياتها

كـم صانعتني بالدهاء وإنّما أدهى

الــورى شـرّاً عـليَّ دهـاتها

لـكنْ جُبِلْتُ على الوفاء فلَو جنت

يـدها عـلى عيني العمى لدراتها

وأنـا الـعصيّ من الإبا وخلائقي

فـي طـاعة الحرِّ الكريم عصاتها

عـوَّدتُ عـينيَّ الإبـاء فلم تسل

إلاّ لآل محمّدٍ عـبـراتـها

كـم غـارة لـك يا زمان شننتها

لـم أسـتطع دفـعاً لـها فشناتها

وأرى الـليالي مـنك حُلبى لَم تلد

لـلـحرِّ غـير مـلمَّة غـدراتها

تجرى لها العبرات حمراً إنْ جرت

ذكـراً عـلى أسـماعنا عـثراتها

ووددْت مـذ جـارت على أبنائها

ورمـت بـنيها بالصروف بناتها

عـدلت بـآل محمّدٍ فيما قضت

وهُــمُ أئـمّة عـدلها وقـضاتها

الـمرشدون الـمرفدون فكم هدى

ونـدىً تـميح صَلاتها وصِلاتها

والـمنعمون المطعمون إذا انبرت

نـكباء صـوَّحت الـثَّرى نكباتها

والـجامعون شـتات غـرِّ مناقب

لَــم تـجتمع بـسواهُمُ أشـتاتها

يـا غـاية تـقف الـعقول كليلة

عـنها وإنْ ذهـبت بـها غاياتها

٣٧٩

يـاجذوة الـقدس الـتي ما أشرقت

شـهب الـسّما لـو لَم تكن لمعاتها

يـاقبّة الـشرف التي لو في الثّرى

نُـصبت سـمت هام السّما شرفاتها

يـاكـعبة لله إنْ حـجَّت لـها

الأمــلاك مـنه فـعرشه مـيقاتها

يـانقطة الـباء الـتي بـاءت لها

الـكلمات وائـتلفت بـها ألـفاتها

يـا وحـدة الـحقِّ الـتي ما إنْ لها

ثـانٍ ولـكن مـا انـتهت كثراتها

يـا وجـهة الأحـديَّة الـعليا التي

بـالأحـمديَّة تـسـتنير جـهـاتها

يـا عـاقلي العشر العقول ومَن لها

الـسَّبع الـطباق تـحرّكت سكناتها

أقـسمتُ لـو سِـرَّ الحقيقة صورة

راحـت وأنـتم لـلورى مـرآتها

أنـتم مـشئته الـتي خـلقت بـها

الأشـياء بـل ذُرئـت بـها ذرَّاتها

وخـزانة الأسـرار بـل خـزَّانها

وزجـاجة الأنـوار بـل مـشكاتها

أنـا فـي الورى قال لكم إنْ لَم أقل

مـا لـم تـقله فـي المسيح غُلاتها

سـفهاً لحلمي إن تطر بثباتي السفـ

ـهـاء مـذ طـارت بـها جهلاتها

أنـا مـن شـربت هناك أول درِّها

كـأساً سـرت بـسرائري نشواتها

فـاليوم لا أصـحو وإن ذهبت بيَ

الأقـوال أو شـدَّت عـليَّ رماتها

أو هـل ترى يصحو صريع مدامة

مـمّـا بـه إن عـنّفته صـحاتها

أو هل يحول أخو الحجى عن رشده

مـمّـا تـؤنّـبه عـلـيه غـواتها

بـأبي وبـي مَـن هم أجلُّ عصابة

سـارت تـؤمّ بـها العلا سرواتها

عطري الثياب سروا فقل في روضة

غـبّ الـسّحاب سرت بها نسماتها

ركـبٌّ حـجازيون عـرّقت العلا

فـيـهم ومِـسك ثـنائهم شـاماتها

تـحدو الـحداة بـذكرهم وكـأنَّما

فـتـقت لـطيمة تـاجر لـهواتها

ومـطوَّحين ولا غـناء لـهم سوى

هــزج الـتلاوة رتـلّت آيـاتها

وإلــى الـلقاء تـشوّقاً أعـطافها

مــهـزوزةً فـكـأنّها قـنـواتها

خـفَّت بـهم نـحو الـمنايا هـمَّة

ثـقلت عـلى جيش العدى وطآتها

وبـعزمها مـن مـثل مـا بـأكفِّها

قـطع الـحديد تـأجّجت لـهباتها

فـكـأنَّ مـن عـزماتها أسـيافها

طـبعت ومـن أسـيافها عـزماتها

قـسم الـحيا فـيها فـمن مقصورة

الأيــدي ومـمـدودة قـسـماتها

ومـلوك بـأسٍ في الحروب قبابها

قـبّ الـبطون ودسـتها صهواتها

يـسطون فـي الجمِّ الغفير ضياغما

لـكـنّما شـجـر الـقنا أجـماتها

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437