مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)9%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243931 / تحميل: 10025
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٨١٦٣-٧٠-٧
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الرأس مصلوباً على باب دارها، والأنوار العلويّة تتصاعد إلى عنان السماء، وشاهدت الدم يتقاطر، ويُشم منه رائحة طيّبة، عظم(١) مصابه في قلبها؛ فلم تتماسك دون أن دخلت عليه مجلسه مهتوكة الحجاب وهي تصيح: رأس ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مصلوب على دارنا وقام إليها وغطّاها، وقال لها: اعولي على الحسين، فإنه صريخة بني هاشم، عجّل عليه ابن زياد(٢) .

____________________________

= وفي الوافي بالوفيات ٣ / ١٤٦، اعترف محمّد بن سيرين على نفسه، بأنه يسمع الحديث، وينقص منه. وكان من سبي (جرجيا). وفي طرح التثريب / ١٠٣: كان سيرين من سبي عين التمر. (الصورة الثالثة) في نهاية الارب ٦ / ١٨٠: كانت زينب عند عبد الله بن سلام عامل معاوية على العراق، فطلب منه معاوية طلاق زوجته؛ لرغبة يزيد فيها على أن يزوجه من ابنته. فلما طلقها لم توافق ابنة معاوية على التزويج منه، فأرسل معاوية أبا هريرة وأبا الدرداء إلى العراق ليخطبا زينب بنت اسحاق ليزيد. فقدما الكوفة، وكان بها الحسين بن عليعليه‌السلام ، فذكرا له القصة، فقال لهما: «اذكراني». فاختارت الحسينعليه‌السلام وتزوجها، ولما عرف رغبة عبد الله بن سلام فيها طلقها؛ ليحلها لزوجها الاول. وهذه القصة المطولة، التي أرسلها النويري في نهاية الأرب من دون إسناد، ارسلها ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص١٧٢ سنة ١٣٣٠ﻫـ، واسماها (ارينب) بالراء المهملة. والحسينعليه‌السلام لم يرد إلى الكوفة بعد ارتحالهم منها!. (الصورة الرابعة) في الامثال للميداني ١ / ٢٧٤ حرف الراء عنوان (رب ساع لقاعد) روي مرسلاً: إن معاوية سأل يزيد عن رغباته، فذكر له رغبة في التزويج من (سلمى اُم خالد)، زوجة عبد الله بن عامر بن كريز. فاستقدمه معاوية، وسأله طلاق امرأته على أن يعطيه خراج فارس خمس سنين، فطلّقها. فكتب معاوية إلى واليه على المدينة (الوليد بن عتبة) أن يُعلم ام خالد بطلاقها. وبعد انقضاء العدة، أرسل معاوية أبا هريرة ومعه ستون ألفاً؛ عشرون ألف دينار مهرها، وعشرون ألفاً كرامتها، وعشرون ألفاً هديتها. وفي المدينة حكى القصة لأبي محمّد الحسن بن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال لأبي هريرة: «اذكرني». وقال له الحسين: «اذكرني لها». وقال عبيد الله بن العبّاس بن عبد المطلب: اذكرني. وقال عبد الله بن جعفر الطيّار: اذكرني. وقال عبد الله بن الزبير: اذكرني. وقال عبد الله بن مطيع بن الاسود: اذكرني. ولمّا دخل عليها أبو هريرة، حكى لها ما أراده معاوية، ثم ذكر رغبة الجماعة فيها. فقالت له: اختر لي أنت؟ فاختار لها الحسن بن عليعليه‌السلام وزوجها منه، وانصرف إلى معاوية بالمال. ولما بلغت معاوية القصة، عتب على أبي هريرة، فردّ عليه: المستشار مؤتمن. هذا كلُّ ما في عيبة المؤرخين الامناء على تسجيل الحقائق كما وقعت! ومن المؤسف عدم تحفظهم عن الطعن بكرامة المسلمين! والتأمل في هذه الاُسطورة لا يعدوه الاذعان، بأن الغاية منها: هو النيل من ابني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الإمامين على الاُمّة «إن قاما وإن قعدا»؛لعل مَن يبصر الأشياء على علاتها من دون تمحيص - وقد وجد من انطلت عليه هذه الاكذوبة، فرمى أب محمّد الحسن عليه‌السلام بما تسيخ منه الجبال، بالاعتذار عن كثرة الزوجات للحسن عليه‌السلام - يقنع أن الطلاق بالثلاث شائع، وأنهم لم يجدوا محللاً صادقاً بأن يتزوج المرأة على الدوام ثم يطلقها إلا الحسن عليه‌السلام ! وما أدري بما يعتذر يوم يقول له (أبو محمّد) عليه‌السلام : على أي استناد وثيق هتكتني، ولم تتبصر؟.

(١) خطط المقريزي ٣ / ٢٨٤.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٧.

٤١

قصداً منه تعمية الأمر، وتبعيد السُّبة عنه بالقاء الجريمة على العامل، لكن الثابت لا يزول. وهذا هو السر في انشائه الكتاب الصغير، الذي وصفه المؤرخون بأنه (اذن فارة)، أرفقه مع كتابه الكبير إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبة؛ بأخذ البيعة من أهلها عامة. وفي هذا الكتاب الصغير، إلزام الحسين بها(١) ، وإن أبى فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه؟!.

وليس الغرض من هذا، إلا أن يزيد لما كان عالماً بأن بيعته لم يتفق عليها صلحاء الوقت، وأشراف الاُمّة، وما صدر من الموافقة منهم يوم أرادها أبوه معاوية إنما هو بالوعيد والتهديد!

أراد ان يخلي رسمياته عن الأمر بقتل الحسينعليه‌السلام ، بحيث لو صدر ذلك من عامله ولامه الناس وخطّؤوه؛ تذرع بنسبة القتل إلى العامل. فان كتابه الذي يأمره فيه بأخذ البيعة من أهل المدينة عامة، خالٍ من هذه الجرأة؛ فيكون له المجال في إلقاء التبعة بذلك على عاتق العامل كما انه في الوقت نفسه تذرع بهذا العذر، وانطلى على بعض المؤرخين! وهل ينفعه هذا؟ لا.

لبسوا بما صنعوا ثياب خزايةٍ

سوداً تولّى صبغهنَّ العارُ

الأنبياء مع الحسين

لقد كان حديث مقتل الحسينعليه‌السلام من أسرار الخليقة وودائع النبوات، فكان هذا النبأ العظيم مألكةَ(٢) أفواه النبيين، دائرة بين أشداق الوصيين وحملة الأسرار؛ ليعرفهم المولى سبحانه وتعالى عظمة هذا الناهض الكريم، ومنّته على الجميع بحفظ الشريعة الخاتمة التي جاؤوا لتمهيد أمرها، وتوطيد الطريق إليها، وتمرين النفوس لها. فيثيبهم بحزنهم واستيائهم؛ لتلك الفاجعة المؤلمة! فبكاه آدم والخليل وموسى، ولعن عيسى قاتله، وأمر بني اسرائيل بلعنه، وقال:«مَن أدرك أيامه، فليقاتل معه، فإنه كالشهيد مع الأنبياء، مقبلاً غير مدبر. وكأني أنظر إلى بقعته، وما من نبيٍّ إلا

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ١٨٨.

(٢) في مقاييس اللغة لابن فارس ١ / ١٣٣ قال الخليل: الألوك الرسالة، وهي المألكة على مفعلة. وإنما سميت الرسالة ألوكا؛ لانها تؤلك في الفم، مشتق من قول العرب للفرس: تألك اللجام، وتعلكه اذا مضغت الحديد. ويجوز تذكير المألكة.

٤٢

وزارها، وقال: إنك لبقعة كثيرة الخير، فيك يُدفن القمر الزاهر» (١) .

وشاء إسماعيل - صادق الوعد - الأسوة به؛ لمّا انُبأَ بشهادته، فيكون الآخذ بثأره الإمامُ المنتظر عجل الله فرجه(٢) .

واختار يحيى أن يُطاف برأسه

وله التّأسّي بالحسين يكون

وحديث مقتل الحسينعليه‌السلام أبكى الرسول الأقدس وأشجاه(٣) وهو حيٌّ، فكيف به لو رآه صريعاً بكربلاء في عصابة من آله كأنهم مصابيح الدّجى، وقد حلّؤوه ومَن معه عن الورد المباح لعامة الحيوانات؟!.

نعم، شهد نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله فلذة كبده بتلك الحالة التي تنفطر لها السموات، ورأى ذلك الجمع المغمور بالاضاليل، متألباً على استئصال آله من جديد الأرض، فشاهده بعض مَن حضر ينظر الجمع مرة والسماء اُخرى، مسلّماً للقضاء(٤) .

ولما مرَّ أمير المؤمنينعليه‌السلام بكربلاء في مسيره إلى صفين، نزل فيها واومأ بيده إلى موضع منها، فقال:«ههنا موضع رحالهم، ومناخ ركابهم»، ثم أشار إلى موضع آخر وقال:«ههنا مهراق دمائهم. ثقلٌ لآل محمّد ينزل ههنا» ، ثم قال:«واهاً لك يا تربة! ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب» (٥) وأرسل عبرته، وبكى مَن معه؛ لبكائه. وأعلم الخواص من صحبه، بأن ولده الحسينعليه‌السلام يقتل ههنا في عصابة من أهل بيته وصحبه، هم سادة الشهداء، لا يسبقهم سابق، ولا يلحقهم لاحق(٦) .

وفي حديثه الآخر، بعد الإخبار بأن في موضع كربلاء تقتل فتية من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال:«تبكي عليهم السماء والأرض (٧) .بأبي مَن لا ناصر له إلا الله» (٨) . ثم قال:«لا يزال

____________________________

(١) كامل الزيارات لابن قولويه، المتوفى سنة (٣٦٧) ص ٦٧

(٢) كامل الزيارات ص ٦٥.

(٣) خصائص السيوطي ٢/١٢٥ من حديث ام الفضل وانس. ورواه الماوردي في أعلام النبوة ص٨٣ من حديث عائشة أنها قالت: وكان في المجلس علي وأبو بكر وعمر وحذيفة وعمار وأبوذر. ورواه ابن حجر في مجمع الزوائد ٩/١٨٨ عن عائشة. ورواه زكريا الانصاري في فتح الباقي شرح ألفية العراقي، المطبوع في ذيل الألفية ١/٢٥.

(٤) كامل الزيارات.

(٥) وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ١٥٧ - ١٥٩.

(٦) كامل الزيارات ص ٢٧.

(٧) دلائل النبوة ٣ / ٢١١.

(٨) اُسد الغابة٤ / ١٦٩.

٤٣

بنو اُميّة يمعنون في سجل ضلالتهم حتّى يهريقوا الدم الحرام في الشهر الحرام، ولكأني أنظر إلى غرنوقاً من قريش يتشحط في دمه، فإذا فعلوا ذلك، لم يبق لهم في الأرض عاذر، ولم يبقَ ملك لهم» (١) .

ومرّ سلمان الفارسي بكربلاء حين مجيئه إلى المدائن، فقال: هذه مصارع إخواني، وهذا موضع مناخهم، ومهراق دمائهم. يقتل بها ابن خير الأولين والآخرين(٢) . ومرّ عيسى بن مريمعليه‌السلام بأرض كربلاء، فرأى ظباءً ترعى هناك، فكلمته بأنها ترعى هنا؛ شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك، فرخ الرسول أحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّها آمنة في هذه الأرض. ثم أخذ المسيحعليه‌السلام من أبعارها وشمّه، وقال:«اللهم، أبقه حتّى يشمّها أبوه، فتكون له عزاءً وسلوة ». فبقيت الأبعار إلى مجيء أمير المؤمنينعليه‌السلام بكربلاء، وقد اصفرّت؛ لطول المدّة. فأخذها وشمّها وبكى، ثم دفعها إلى ابن عبّاس، وقال:«إحتفظ بها، فاذا رأيتها تفور دماً، فاعلم إن الحسين قد قُتل» . وفي يوم عاشوراء بعد الظهر رآها تفور دماً(٣) .

الإقدام على القتل

تمهيد:

من الضروري احتياج المجتمع البشري إلى مُصلح يسد خلته، ويسدد زلته، ويكمل اعوازه، ويقوّم إوده لتوفر دواعي الفساد فيه. فلو لم يكن في الاُمّة مَن يكبح جماح النفوس الشريرة؛ للعبت الأهواء بهم، وفرقتهم أيدي سباً، وبات حميم لا يأمن حميه، وأصبحت أفراد البشر ضحايا المطامع. وهذا المصلح يختاره المولى سبحانه من بين عباده؛ لأنه العارف بطهارة النفوس ونزاهتها عمّا لا يرضى به رب العالمين. ويكون الواجب، عصمته ممّا في العباد من الرذائل والسجايا الذميمة حتّى لا يشاركهم فيها، فيزداد الطين بلّة، ويفوته التعريف والإرشاد إلى مناهج الاصلاح ومساقط الهلكة وقد برّأ الله تعالى ذات النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله من نور قُدسه، وحباه بأكمل الصفات الحميدة حتّى بذّ العالمَ، وفاق مَن في الوجود، فكان محلاً

____________________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٣٦٣ ط ١ مصر.

(٢) رجال الكشي / ١٣ ط الهند.

(٣) إكمال الدين للصدوق / ٢٩٥.

٤٤

للتجليات الإلهية، وممنوحاً بالوحي العزيز. وإنّ اليراع ليقف متردداً عن تحديد تلك الشخصية الفذة، التي أنبأ عنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله لأمير المؤمنينعليه‌السلام :«لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا» (١) .

وحيث إن عمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله غير باق إلى الأبد؛ لأنه لم يخرج عمّا عليه الناس في مدة الاجل. وجملة من تعاليمه لا تخلو من أن تكون كليات لم تأت أزمنة تطبيقها على الخارج، كان الواجب في شريعة الحقِّ الداعية إلى إصلاح الاُمّة: إقامة خليفة مقامه، يحذو حذوه في نفسياته واخلاصه وعصمته؛ لأن السرائر الكامنة بين الجوانح لا يعلمها إلا خالقها. ولو اوكل معرفتها إلى الاُمّة لتعذر عليها التمييز؛ لعدم الاهتداء إلى تلك المزايا الخاصة في الإمام! فتحصل الفوضى، وينتشر الفساد، ويعود النزاع والتخاصم. وهو خلاف اللطف الواجب على المولى سبحانه( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (٢) ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا ) (٣) .

فالخلافة منصب إلهي يقيّض الله تعالى رجلاً ينوؤ بأثقال النبوة، فيبلّغ الدعوة لمن تبلغه، ويدعو إلى تفاصيل الشريعة التي جاء بها المنقذ الأكبرصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيرشد الجاهل، وينبّه الغافل، ويؤدب المتعدي، ويبين ما أجمله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لضرب من المصلحة أو أهمله لعدم السعة في زمانه بعد انقضاء أمد الرسالة.

في شخصية أمير المؤمنين ثم ابنه الحسن، وبعده أخوه سيد الشهداء الحسين، فابنه زين العابدين علي، ثم ابنه الباقر محمّد، فابنه الصادق جعفر، فابنه الكاظم موسى، فابنه الرضا علي، فابنه الجواد محمّد، فابنه الهادي علي، فابنه الحسن العسكري، ثم ابنه المنتظر أبو القاسم محمّد عجل الله فرجه.

كما أفاد المتواتر من الاحاديث: بأنّ الله عز شأنه اودع في الإمام المنصوب - حجّة العباد، ومنار يهتدي به الضالون -  قوةً قدسية نورية، يتمكن بوساطتها من

____________________

(١) المحتضر / ١٦٥ لمؤلّفه الحسن بن سليمان الحلّي، أحد تلامذة الشهيد الأول، والذي كان حيّاً سنة ٨٠٢ هـ، ومختصر البصائر / ١٢٥ للمؤلّف نفسه.

(٢) سورة القصص / آية ٦٨.

(٣) سورة الأحزاب / آية ٣٦.

٤٥

استعلام الكائنات، وما يقع في الوجود من حوادث وملاحم. فيقول الحديث الصحيح:«اذا ولد المولود منّا، رُفع له عمود نور يرى به أعمال العباد، وما يحدث في البلدان» (١) .

والتعبير بذلك، إشارة إلى القوة القدسية المفاضة من ساحة (الحقِّ) سبحانه؛ ليكتشف بها جميع الحقائق على ما هي عليه؛ من قول او عمل او غيرهما من اجزاء الكيان الملكي والملكوتي. وبتلك القوة القدسية يرتفع سدول الجهل واستتار الغفلة، فلا تدع لهم شيئاً إلا وهو حاضر بذاته عند ذواتهم القدسية، كما أن النور يجلو ما اسدلته غياهب الظلمة، فيجد المبصر ما حجبه الحلك الدامس نصب عينيه، وقد انبأ أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام عمّا حباهم به المولى جلَّ شأنه من الوقوف على أمر الاولين والآخرين، وما في السماوات والارضين، وما كان ويكون حتّى كأن الأشياء كلَّها حاضرة لديهم(٢) .

ثم يسجل التدليل عليه بقوله:«كلمّا كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلنا مثله، إلا النبوّة والأزواج» (٣) .

ولا غلوّ في ذلك بعد قابلية تلك الذوات المطهرة بنصّ الذكر الحميد:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٤) ، لتحمل الفيض الأقدس وعدم الشحِّ في (المبدأ الأعلى) تعالت آلاؤه.

والمغالاة في شخص عبارة عن إثبات صفة له، إمّا أن يحملها العقل، أو لعدم القابلية لها، والعقل لا يمنع الكرم الالهي. كيف والجليل عزَّ لطفه يدرُّ النعم على المتمادين في الطغيان، المتمردين على قدس جلاله حتّى كأن المنّة لهم عليه! فلم يمنعه ذلك من الرحمة بهم والإحسان إليهم والتفضل عليهم، لا تنفذ خزائنه ولا يفوته من طلبه، وهذا من القضايا التي قياساتها معها.

وإذا كان حال المهيمن سبحانه كما وصفناه مع اولئك

____________________________

(١) بصائر الدرجات للصفار ٩ / ١٢٨، ملحق بنفس الرحمن للنوريقدس‌سره .

(٢) مختصر البصائر ص ١٠١.

(٣) المصدر نفسه ص ٢٠.

(٤) سورة الأحزاب آية ٣٣.

(٥) من الغلو ما قاله أحمد بن يحيى البلاذري في المستعين:

ولو أن برد المصطفى إذ لبسته

يظن لظن البرد أنك صاحبـه

وقال وقـد اعطيته ولبسـته

نعم هذه اعـطافـه ومناكبـه

الآثار النبوية لاحمد تيمور باشا / ١٣.

٤٦

الطغاة، فكيف به عزَّ وجل مع مَن اشتقّهم من الحقيقة الأحمدية التي هي من (الشعاع الأقدس) جلَّ شأنه، فالتقى مبدأ فيّاض، وذوات قابلة للافاضة؟ فلا بدع في كل ما ورد في حقّهمعليه‌السلام من علم الغيب، والوقوف على أعمال العباد، وما يحدث في البلدان ممّا كان ويكون.

فالغيب المدّعى فيهمعليهم‌السلام ، غير المختص بالباري تعالى؛ ليستحيل في حقّهمعليهم‌السلام ، فإنه فيه - تعالى شأنه - ذاتي، وأمّا في الأئمةعليه‌السلام ، فمجعول من الله سبحانه وتعالى. فبوساطة فيضه ولطفه، كانوا يتمكنون من استعلام خواص الطبائع والحوادث.

فاذاً الغيب على قسمين: منه ما هو عين واجب الوجود؛ بحيث لم يكن صادراً عن علّة غير ذات فاطر السماوات والأرضين، ومنه ما كان صادراً عن علّة، ومتوقفاً على وجود الفيض الالهي، وهو ما كان موجوداً في الأنبياء والاوصياءعليهم‌السلام . وإلى هذا الذي قررناه تنبّه العلامة الآلوسي المفسّر، فإنّه عند قوله تعالى:( قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ) (١) قال: لعلّ الحقَّ أن يقال: إنّ علم الغيب للنفي عن غيره جلَّ وعلا هو ما كان للشخص بذاته، أي بلا وساطة في ثبوته له. وما وقع للخواصّ ليس من هذا العلم المنفي في شيء، وإنّما هو من الواجب عزّ وجلّ، إفاضة منه عليهم بوجه من الوجوه، فلا يقال: إنّهم علموا الغيب بذلك المعنى، فإنه كفر. بل يقال: إنّهم اظهروا واطّلعوا على الغيب(١) .

ويشهد له ما جاء عن أبي جعفر الجوادعليه‌السلام ، فإنّه لمّا أخبر اُمَّ الفضل بنت المأمون بما فاجأها ممّا يعتري النساء عند العادة، قالت له: لا يعلم الغيب إلا الله، قالعليه‌السلام :«وأنا أعلمه من علم الله تعالى» (٢) .

فالائمةعليهم‌السلام محتاجون في جميع الأوقات إلى الفضل الإلهي؛ بحيث لولا دوام الاتصال وتتابع الفيوضات، لنفد ما عندهم على حدِّ تعبير الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ، فإنّه قال:«لولا أنّا نزداد في كلّ ليلة جمعة، لنفد ما عندنا» (٣) . ومراده: التعريف

____________________________

(١) سورة النمل / ٦٥.

(٢) روح المعاني ٢٠ / ١١.

(٣) بحار الانوار ١٢ / ٢٩.

(٤) اصول الكافي على هامش مرآة العقول ١ / ١٨٥.

٤٧

بأنّ علمهم مجعول من الباري تعالى، وأنهم في حاجة إلى استمرار ذلك الفيض الأقدس، وتتابع الرحمات السبحانية.

والتخصيص بليلة الجمعة، هو من جهة بركتها بنزول الألطاف الربانية فيها من أول الليل إلى آخره، على العكس من سائر الليالي. وإلى هذا يرجع قول الامام الرضاعليه‌السلام :«يبسط لنا العلم فنعلم، ويقبض عنا فلا نعلم» (١) .

وهل يشك مَن يقرأ في سورة الجن:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) (٢) إن من كان من ربّه قاب قوسين أو أدنى, هو خاتم الأنبياء، الرسول المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنه لم يفضّله أحد من الخلق. وكان الإمام أبو جعفر الباقرعليه‌السلام يقول:«كان والله محمّد ممن ارتضاه» (٣) ، ولم يبعد الله الخلفاء عن هذه المنزلة بعد اشتقاقهم من النور المحمدي، ويشهد له جواب الرضاعليه‌السلام لعمرو بن هداب، فإنه لمّا نفى عن الأئمةعليهم‌السلام علم الغيب محتجاً بهذه الآية، قال له:«إنّ رسول الله هو المرتضى عند الله، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على غيبه، فعلمنا ما كان ويكون إلى يوم القيامة» (٤) . وكيف لا يكون حبيب الله هو ذلك الرسول المرتضى، وقد شرّفه الباري سبحانه وتعالى بمخاطبته إياه بلا وسيط ملك؟!.

روي عن زرارة بن أعين، أنه سأل أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الغشية التي كانت تأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أهي عند الوحي؟. قالعليه‌السلام :«لا، فإنها تعتريه عند مخاطبته الله عزَّ وجل إياه بلا وساطة أحد، وأمّا جبرئيل، فإنه لم يدخل عليه إلا مستأذناً، فاذا دخل، جلس بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جِلسة العبد» (٥) . واذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على حال لا ينبغي أن يؤذن له، أقام في مكانه إلى أن يخرج الإذن، والمكان الذي يقف فيه حيال الميزاب(٦) .

وقد اذعن بالوحي بلا وساطة

____________________________

(١) مختصر البصائر ص ٦٣.

(٢) سورة الجن الآية ٢٦- ٢٧.

(٣) بحار الانوار١٥ / ٧٤، وتحدث عن هذه الآية ابن حجر في فتح الباري ١٣ / ٢٨٤ (كتاب التوحيد).

(٤) بحار الانوار١٢ / ٢٢ باب وروده البصرة، وكذلك في ١٥ / ٧٤.

(٥) التوحيد للصدوق ص ١٠٢ باب نفي الرؤية، وعلل الشرائع ص ١٤ باب ٧، وعلم اليقين للفيض الكاشاني ص ٨٦.

(٦) بحار الانوار١١ / ٢١٦ باب احوال أصحاب الصادقعليه‌السلام .

٤٨

ملك: برهان الدين الحلبي(١) ، والسهيلي(٢) ، وابن سيد الناس(٣) ، والسيوطي(٤) ، والزرقاني(٥) .

وعلى طبق هذه الأحاديث المعربة عن مقام الرسول الاعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله من المولى تعالت آلاؤه؛ سجل الشيخ الصدوق اعتقاده في الوحي والغشية(٦) ، كما لم يتباعد عنه الشيخ المفيد فيقول: الوحي، منه ما يسمعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من غير وساطة، ومنه ما يسمعه بوساطة الملائكة(٧) . واقتص أثره الحجة الشيخ محمّد تقي الاصفهاني، المعروف بـ (آقا نجفي)، مع زيادة علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن، وبما حواه من المعارف والفنون، وما اشتمل عليه من أسرار الطبائع وخواص الأشياء قبل أن يوحى به إليه، غاية الأمر عرّفه المولى جلَّ شأنه ألا يفيض هذا العلم قبل أن يوحي به إليه، فقال سبحانه: ( وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) (٨) ، ولولا وقوف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على ما حواه الكتاب المجيد من الأسرار والمعارف، لما كان للنهي عن بيان ما فيه معنى. فظهر أن علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحوادث الكائنة والتي كانت وتكون، لم يتوقف على نزول جبرئيل عليه؛ لأن المنحة الالهية المباركة أوقفته على جمع الحقائق قبل خلق جبرئيل.

ومن هنا تتجلى ظاهرة اُخرى لم يدركها من لم يفقه ما تحلّت به هذه الشخصيات من مراتب الجلال والجمال؛ وهي معرفة الرسول الاعظم بالقراءة والكتابة على اختلاف انحاء اللغات، وتباين الخطوط قبل البعثة وبعدها؛ لبلوغه اسمى درجات الكمال، فلا تفوته هذه الصفة، مع أن اللازم من عدم معرفته بها؛ رجوعه إلى غيره فيما يحتاج اليه من كتابة وقراءة، فيكون مفضولاً بالنسبة اليه، مع أنه الفاضل في المحامد كلها. وبهذا الذي قلناه اذعن المحققون من الاعلام(٩) وآية

____________________________

(١) السيرة الحلبية ١ / ٢٩٤ باب بدء الوحي.

(٢) الروض الاُنف ١ / ١٥٤.

(٣) عيون الاثر ١ / ٩٠.

(٤) الخصائص الكبرى ٢ / ١٩٣.

(٥) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية ١ / ٢٢١ ط ١.

(٦) الاعتقادات للصدوق (ملحق بالباب الحادي عشر للعلامة).

(٧) شرح الاعتقادات / ٢١١ ملحق بمقالات المفيد ط طهران.

(٨) سورة طه / ١١٤، العنايات الرضوية / ٥١.

(٩) نص عليه الشيخ المفيد في المقالات / ١٢٣، والشيخ الطوسي في التبيان ٢ / ٤٢٣، والمبسوط، وهو =

٤٩

( لاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) (١) لا تنفي معرفته بالكتابة على اطوارها، فإنها غاية ما تثبته عدم كتابتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا ربط لها بعدم المعرفة للكتابة، فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله عارف بالكتابة ولكنه لم يكتب، والعلة في نفي كتابته؛ ارتياب المبطلين كما صرح به القرآن.

والمتحصل مما قررناه: إنّ الله عزَّ وجل منح الائمة من ذرية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله جميع ما حبا به جدَّهم الاقدس، من المآثر والفضائل عدا النبوة والازواج؛ لأنه صلوات الله عليه وعلى آله خاتم الأنبياء، وقد اختص في التزويج دائماً بأكثر من أربعة.

ومن لم يعرف المراد من علم الغيب المدّعى لهؤلاء الأفذاذ، استعظمه فأنكره. وحَكم من لا يفقه الشرع والشريعة بكفر معتقِده!.

حدّث الشيخ زاده الحنفي: أن قاسم الصفار أفتى بكفر من تزوج على شهادة الله تعالى ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مدّعياً بأنه يقتضي اعتقاده في علم النبي بالغيب! ولكن صاحب التتارخانية نفى الكفر عنه؛ لأنَّ بعض الاشياء تعرض على روح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرة فيعرف بعض الغيب، وقد قال الله تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) (٢) ، وكلاهما لم يفقها معنى الغيب المراد اثباته، ولا ادركا كنه خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالا بما شاء لهما إداركهما.

وبعد أن أوضحنا المراد منه، لم يبقَ للقارئ النابه مجال التردد والتشكيك. نعم، لا يُنكر أن للباري سبحانه علماً استأثر به خاصة، ولم يطلع عليه أحداً ومنه العلم بالساعة.

____________________________

= ظاهر كلام الشهيد الأول في غاية المراد، والعلامة في التحرير والقواعد، والسيد المجاهد في المناهل، وصرّح به ابن شهر اشوب في المناقب ١ / ١٦١، والمجلسي في مرآة العقول ١ / ١٤٧، والسيد في الرياض، والفاضل الهندي في كشف اللثام، والمقداد في التنقيح، والحاج ملا علي الكَّني في القضاء، وعبارة السرائر مشعرة بدعوى الاجماع عليه وقد تعرضوا لذلك في مسألة كتابة القاضي من كتاب القضاء.

وبه صرح الشهاب الخفاجي في شرح الشفا ٢ / ٣٩٨ في فصل اسمائه من الباب الثالث، وفي ص٥١٤ فصل إعجازه، وفي روح المعاني للالوسي ٢١ / ٤ عند قوله: (ولا تخطه بيمينك)، ذكر جماعة قالوا بمعرفته الكتابة ثم نقل عن صحيح البخاري: انهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتب عهد الصلح. وحمل الاستاذ عبد العظيم الزرقاني في مناهل العرفان / ٢٦٠ الاخبار النافية على أوليّات امره، والمثبتة للكتابة على اُخريات امره، وفي تهذيب تاريخ ابن عساكر ٦ / ٢٤٩ كتب أبو الوليد الباجي رسالة في كتابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانتصر له أحمد بن محمّد اللخمي وسجعفر بن عبد الجبار مع جماعة آخرين.

(١) سورة العنكبوت / ٨٤.

(٢) سورة الجن / ٢٦ و ٢٧، مجمع الانهر ١ / ٣٢٠ في الفقه الحنفي.

٥٠

وأمّا ما ورد عنهمعليهم‌السلام من نفي علمهم بالغيب، كقول أبي عبد اللهعليه‌السلام :«يا عجباً لأقوام يزعمون إنّا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلا الله. لقد هممت بضرب جاريتي فهربت مني، ماعلمت في أي بيوت الدار» (١) ، فمحمول على التقية؛ لحضور المجلس داود الرّقي ويحيى البزّاز وأبي بصير، ولم تكن لهم قابلية تحمل غامض علم أهل البيتعليهم‌السلام ، فأراد أبو عبد الله بنفي علم الغيب عنهم؛ تثبيتاً لعقيدة هؤلاء. ويؤيده أن سديراً الراوي لهذا الحديث، دخل عليه في وقت آخر، وذكر له استغراب ما سمعه منه من نفي علم الغيب، فطمأنه بأنه يعلم ما هو ارقى من ذلك، وهو العلم بالكتاب كلِّه وما حواه من فنون المعارف وأسرارها، على أن هذا الحديث لم يعبأ به المجلسي في مرآة العقول لجهالة رواته. ويحتمل أن يريد بنفي العلم بمكان الجارية، الرؤية البصرية لا الانكشاف الواقعي. فقولهعليه‌السلام :«ما علمت» ، أي ما رأيتها بعيني في أي بيت دخلت، وإلا فمن يقول في صفة علمه:«لم يفتني ما سبقني، ولم يعزب عني ما غاب عني» لا يخفى عليه أمر الجارية!.

ولما طرق (مبشر) الباب على الباقرعليه‌السلام وخرجت الجارية تفتحه، قبض على كفها، فصاح به أبو جعفرعليه‌السلام من داخل الدار:«ادخل، لا أبا لك» ، فدخل مبشر معتذراً بأنه لم يرد السوء، وإنما أراد الازدياد، فقال له الامامعليه‌السلام :«لو كانت الجدران تحجبنا كما تحجبكم، لكنّا وانتم سواء» (٢) . وقال الامامعليه‌السلام لمحمد بن مسلم:«لو لم نعلم ما انتم فيه وعليه، ما كان لنا على الناس فضل» ، ثم استدل عليه بما وقع في الرَّبَذة بينه وبين زميله في أمر الإمامة(٣) .

وأمّا الحكاية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ ) (٤) ، فلا تفيد إلا كونه مفتقراً إلى الله تعالى في التعليم، وأنه لم يكن عالماً بالغيب من تلقاء نفسه. وهذا لا ريب فيه، فإنّ المعتقَد: إنّ الله تعالى هو المتلطّف على النبيّ وأبنائهعليهم‌السلام بالملكة القدسيّة، التي تمكّنوا بواسطتها من استكشاف ما في الكون(٥) .

____________________________

(١) بصائر الدرجات ص ٥٧، ٦٢، واصول الكافي على هامش مرآة العقول ١ / ١٨٦.

(٢) مناقب آل ابي طالب ٢ / ٢٧٤، وبحار الانوار ١١ /٧٠ عن أبي الصباح الكناني.

(٣) بحار الانوار ١١ / ٧٢ عن الخرائج.

(٤) سورة الأعراف الآية ١٨٨.

(٥) في شرح الشفا للخفاجي ٢ /١٥٠: إنّ المنفي في الآيات هو اطّلاعه على الغيب من غير وساطة، وأمّا علمه بالغيب بإعلام الله تعالى له، فثابت ومتحقق؛ لقوله تعالى: ( فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) .

٥١

وسؤال الامام الصادقعليه‌السلام عن وجود العين عليهم يوم كان في الحجر ومعه أصحابه، فعرّفوه بعدم العين، فقال:«ورب هذه البنية - ثلاثاً - لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما، ولانبأتهما بما ليس في ايديهما. أنهما اُعطيا علم ما كان ويكون وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١) . فبعد التسليم بصحة الحديث، وعدم ضعف إبراهيم بن إسحاق الأحمر، نقول: بعدم منافاته لعلمه الواسع؛ لما ورد عنهم أنهم غير مكلفين باظهار ما يعلمونه، بل لابد من العمل بما توجبه التقية ظاهراً. أو لأنه كان يراعي حال بعض أصحابه في ظنّه بوجود العين عليهم، وهذا نظير قوله الآخر:«إني أعلم ما في السموات والأرضين، وأعلم ما في الجنة والنار، وأعلم ما كان ويكون» ، فلمّا رأى عظم ذلك وخاف على من عنده، قالعليه‌السلام :«إني علمت ذلك من كتاب الله، إنّ الله تعالى يقول: (فيه تبيان كل شيء») (٢) ، فالإمامعليه‌السلام راعى حال أصحابه، فاستدل لهم بما يقنعهم.

وهكذا الأئمةعليهم‌السلام فيما يعلمونه من المصالح الوقتية، والأحوال الشخصيّة. وقولهعليه‌السلام في حقِّ موسى والخضرعليهما‌السلام :«أنهما أُعطيا علم ما كان» لا ينافي علم الخضر بمستقبل أمر الغلام، فإنه من القضايا التي أطلعه الله عليها لمصلحة وقتية. وأمّا ما ورد عنهمعليهم‌السلام :«إنّ الإمام أذا أراد أن يعلم شيئاً، أعلمه الله» (٣) ، فليس فيه دلالة على تحديد علمهم في وقت خاص؛ بل الحديث يدل على أن إعمال تلك القوة القدسية، الثابتة لديهم عند الولادة موقوف على إرادتهم المتوقفة على وجود المصلحة في إبراز الحقائق المستورة، وإظهار ما عندهم من مكنون العلم. على أن هذا المضمون ورد في أحاديث ثلاثة ردّها المجلسي في مرآة العقول بضعف بعضها، وجهالة الآخرين.

فالمتحصّل من جميع ما ذكرناه: إنَّ الله تعالى أفاض على خلفائه الأطهار ملكة نوريّة، تمكّنوا بوساطتها من استعلام ما يقع من الحوادث، وما في الكائنات من

____________________________

(١) اُصول الكافي (في هامش مرآة العقول) ١ / ١٨٩.

(٢) المصدر نفسه ١ / ١٩٠.

(٣) المصدر نفسه ١ / ١٨٧.

٥٢

خواص الطبائع، وأسرار الموجودات، وما يحدث في الكون من خير وشر. ولا غلوّ فيه بعد قابلية ذواتهم لهذا الفيض الأقدس، وعدم الشّح في عطاء الربِّ سبحانه؛ فإنه يهب ما يشاء لمن يشاء. وصارح الأئمةعليهم‌السلام بهذه الحبوة الإلهية، وأنهم في جميع الآنات محتاجون إلى تتابع الآلاء منه جلَّ شأنه، ولولاها لنفد ما عندهم من مواد العلم. وهذا غير بعيد فيمن تجرد لطاعة الله تعالى، وعُجنت طينته بماء النزاهة من الأولياء والصديقين، فضلاً عمّن قيّضهم الباري تعالى اُمناء شرعه. وقد صادق على ذلك المحققون من الأعلام، كما حكاه الشيخ المفيد في المقالات ص ٧٧، والمجلسي في مرآة العقول ج ١ ص ١٨٧، ومشى على ضوئهم المحقق الآشتياني في حاشيته على رسائل الشيخ الأنصاري ج ٢ ص٦٠.

وقال ابن حجر الهيثمي: لا منافاة بين قوله تعالى: ( قُل لا يَعلمُ مَن فِي السَّمواتِ وَالارضِ الغَيبَ إِلا اللَّهُ ) (١) ، وقوله:( عالِمُ الغَيبِ فلا يُظهِرُ على غَيبِهِ أَحدا ) (٢) ، وبين علم الأنبياء والاولياء بجزئيات من الغيب، فإنّ علمهم: إنما هو بإعلام من الله تعالى، وهذا غير علمه الذي تفرد به تعالى شأنه من صفاته القديمة الأزلية، الدائمة الأبدية، المنزّهة عن التغيير، وهذا العلم الذاتي هو الذي تمدّح به، وأخبر في الآيتين بأنه لا يشاركه أحدٌ فيه. وأمّا مَن سواه، فإنما يعلم بجزئيات الغيب، فبإعلامه تعالى وإعلامه للأنبياء والأولياء ببعض الغيوب، ممكن لا يستلزم محالاً بوجه، فإنكار وقوعه عناد. ومن البداهة أنه لا يؤدي إلى مشاركتهم له تعالى فيما تفرد به من العلم الذي تمدّح به، واتصف به من الأزل، وعلى هذا مشى النووي في فتاواه(٣) .

فاتضح بهذا البيان، أن ابن حجر لم يتباعد عن القول بعلم الأولياء بالغيب، وإنما لم يوافق الشيعة على ما يعتقدونه في أئمتهمعليهم‌السلام من قدرتهم على العلم بالحوادث الكائنة، والتي تكون إلى يوم القيامة؛ لاعتقاده أن هذه السعة مختصة بالباري جلَّ شأنه. ولكن الملاك الذي قرره لمعرفة الأولياء ببعض الغيب - وهو تمكين المولى سبحانه لهم من الوقوف على الغيب - يقيّد ما تعتقده الشيعة، فإن الميزان للوقوف على المغيّبات إذا كان بإقدار الله تعالى، وجعله الملكة النورية في هذه الذوات الخاصة من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن الممكن أن

____________________________

(١) سورة النمل / ٦٥.

(٢) سورة الجن / ٢٦.

(٣) الفتاوى الحديثة / ٢٢٢.

٥٣

تكون تلك القوة بالغة اقصى مداها، فلا يتوقف من اُفيضت عليه عن جميع المغيبات حتّى كأن الأشياء كلَّها حاضرة لديه على حدِّ تعبير الإمام الصادقعليه‌السلام ، اللهم إلا الأشياء التي استأثر بها الله تعالى وحده، فلا وقوف لأحد عليها مهما ترقّى إلى فوق ذروة الكمال.

وعلى هذا الذي قرره ابن حجر سجّل اعتقاده النيسابوري صاحب التفسير فقال: إن امتناع الكرامة من الأولياء، إمّا لأن الله ليس أهلاً لأن يعطي المؤمن ما يريد، وإمّا لأن المؤمن ليس أهلاً لذلك، وكل منهما بعيد. فإن توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده، فاذا لم يبخل الفيّاض بالأشرف، فلأن لا يبخل بالدون أولى(١) . وقال ابن أبي الحديد: إنا لا ننكر أن يكون في نوع من البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب، وكلّه مستند إلى الباري جلَّ شأنه بإقداره، وتمكينه، وتهيئة أسبابه(٢) . وقال لا منافاة بين قوله تعالى:( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ) (٣) ، وبين علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله بفتح مكة، وما سيكون من قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فإن الآية غاية ما تدل عليه: هو نفي العلم بما يكون في الغد. وأمّا إذا كان بإعلام الله عز وجل، فلا؛ لأنه يجوز أن يُعلم الله نبيه بما يكون(٤) .

آية التهلكة

ممّا قررناه تجلّى لنا: أنه لم يعزب عن الأئمةعليه‌السلام العلم بالشهادة على يد من تكون، وفي أي وقت تقع، وفي أي شيء؛ إقداراً من الله تعالى لهم بما أودعه فيهم من مواد العلم التي بها استكشفوا الحوادث، مضافاً إلى ما يقرؤونه في الصحيفة النازلة من السماء على جدّهم المنقذ الاكبرصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وليس في إقدامهم على الشهادة إعانة على إزهاق نفوسهم القدسيّة، وإلقاؤها في التهلكة الممنوع منها بنص الذكر المجيد، فإنّ الإبقاء على النفس، والحذر عن إيرادها مورد الهلكة، إنّما يجب إذا كان مقدوراً لصاحبها، أو لم يقابل بمصلحة أهم

____________________________

(١) النور السافر في أعيان القرن العاشر / ٨٥ لعبد القادر العيدروسي.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٤٢٧ ط ١ مصر.

(٣) سورة لقمان / ٣٤.

(٤) المصدر نفسه ٢ / ٣٦٢.

٥٤

من حفظها، وأمّا إذا وجدت هنالك مصلحة تكافئ تعريض النفس للهلاك -  كما في الجهاد، والدفاع عن النفس مع العلم بتسرب القتل إلى شرذمة من المجاهدين، وقد أمر الله الأنبياء والمرسلين والمؤمنين فمشوا إليه قدماً، موطّنين أنفسهم على القتل، وكم فيهم سعداء، وكم من نبي قتل في سبيل دعوته، ولم يبارح قوله دعوته حتّى أزهقت نفسه الطاهرة. وقد تعبّد الله طائفة من بني اسرائيل بقتل أنفسهم، فقال جلّ شأنه:( فَتُوبُوا إلى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) (١) . على أن الاقتصار على ما يقتضيه السياق يخرج الآية عمّا نحن فيه من ورودها للتحذير عمّا فيه الهلكة، فإنها أعقبت آية الاعتداء في الأشهر الحُرم على المسلمين. قال الله تعالى ( الشَّهرُ الحرامُ بالشَّهرِ الحَرامِ وَالحُرُمَاتُ قِصاصٌ فمَنِ اعتدَى عَليكُمْ فاعتدوا عَليه بمثلِ ما اعتدَى عَليكُمْ وَاتَّقوا اللّه واعلموا أَنَّ اللّهَ مَع المُتَّقِينَ وأَنفقُوا في سبيلِ اللّه ولا تُلقُوا بأَيديكُمْ إلى التَّهلُكَة وأَحسِنُوَا إِنَّ اللّهَ يُحبُّ المُحسنين ) (٢) . فيكون النهي عن الإلقاء في التهلكة خاصاً بما إذا اعتدى المشركون على المسلمين في الأشهر الحرم، ولم تكن للمسلمين قوة على مقاتلتهم. والألتزام بعموم النهي لكل ما فيه هلكة، لا يجعل حرمة إيراد النفس مورد الهلكة من المستقلات العقلية التي لا تقبل التخصيص، بل هي من الأحكام المختصة بما إذا لم توجد مصلحة أقوى من مفسدة الإقدام على التلف، ومع وجود المصلحة اللازمة لا يتأتّى الحكم بالحرمة أصلاً، كما في الدفاع عن بيضة الإسلام.

وقد أثنى سبحانه وتعالى على المؤمنين في إقدامهم على القتل، والمجاهدة في سبيل تأييد الدعوة الإلهية، فقال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اشترَى منَ المُؤمنينَ أَنفُسَهُمْ وأَموالهُمْ بأَنَّ لهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سبيلِ اللّهِ فَيَقتُلُونَ ويُقتَلُون ) (٣) ، وقال تعالى:( ولا تَحسَبنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ أَمواتاً بَلْ أَحياء عندَ ربِّهمْ يُرزقُون ) (٤) ، وقال

____________________________

(١) البقرة الآية ٥٤، ذكر المفسرون: إن عَبَدة العجل من بني إسرائيل لمّا ندموا على ما فرّطوا في جنب الله تعالى؛ أعلمهم موسىعليه‌السلام بما أوحى إليه من توقف قبول توبتهم على الإغتسال، ولبس الأكفان، والقيام صَفّين، ثم يهجم عليهم هارون ومعه مَن لم يعبد العجل، ويضعون السيوف فيهم. ولمّا نظر الرجل إلى ولده وأخيه وأبيه وحميمه، لم تطاوعه نفسه على القتل، وكلّموا موسىعليه‌السلام في ذلك، فناجى ربه سبحانه وتعالى في ذلك، فعرفه المولى بأنه سيرسل ظلمة لا يبصر الرجل جليسه، وأمر عَبَدة العجل بالجلوس في فناء بيوتهم، محتبين لا يتّقون بيد ولا رجل، ولا يرفعون طرفاً، ولا يحلّون حبوة! وعلامة الرضا عنهم، كشف الظلمة، وسقوط السيوف؛ فعندها يغفر الله لمن قُتل، ويقبل توبة مَن بقي. ففعل هارون بهم حتّى قُتِل سبعون ألفاً.

(٢) سورة البقرة الآية ١٩٤ -  ١٩٥.

(٣) سورة التوبة الآية ١١١.

(٤) سورة آل عمران الآية ١٦٩.

٥٥

تعالى: ( ومِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللّهِ ) (١) . وبمثل هذا صارح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في تعاليمه الثمينة أُمته، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حقٍّ عند سلطان جائر فقتله» (٢) .

ولم يتباعد عن هذه التعاليم محمّد بن الحسن الشيباني، فينفي البأس عن رجل يحمل على الألف مع النجاة او النكاية، ثم قال: ولا بأس بمن يفقد النجاة أو النكاية إذا كان إقدامه على الألف مما يرهب العدو، ويقلق الجيش، معللاً: بأن هذا الأقدام أفضل من النكاية؛ لأن فيه منفعةً للمسلمين(٣) .

ويقول ابن العربي المالكي: جوّز بعض العلماء أن يحمل الرجل على الجيش العظيم طالباً للشهادة، ولا يكون هذا من الإلقاء بالتهلكة؛ لأن الله تعالى يقول: ( مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللّهِ ) ، خصوصاً إذا أوجب الأقدام، تأكد عزم المسلمين حين يرون واحداً منهم قابل الاُلوف(٤) .

لقد اختص الله سبحانه اُمناء شرعه، والخلفاء على الاُمّة من أبناء نبيه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأحكام ناشئة عن مصالح خاصة بهم، لا تدرك أكثرهم أحلام البشر، وتنحسر عن كنهها العقول. وفي جملتها، الزامهم بالتضحية في سبيل مرضاته عزّ وجل، وبذل كل ما يحوونه من مال وجاه وحرمات، فتراهم في أعماق السجون طوراً، وفي خلل المنفى تارة، وفي ربقة التسفير آونة، وفي مقاساة الخوف والشدائد ردحاً، والاصاخة إلى قوارص الكلم اُويقات حتّى شارفوا مناياهم. والمسوغ لهم في كل ذلك، ما علموه من جدّهم الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، المخبر عن وحي السماء من المزايا والمصالح التي تحفظ بها الجامعة الإسلامية، بحيث لولا التوطين على هذا الإقدام لذهب الدين إدراج المنكرات والأضاليل، ولا سبيل إلى معارضتهم فيما اطلعهم الله عليه من السر المكنون، وعرفهم تلك الأهمية الملحوظة لديه عزّ شأنه، على اختلاف فيهم. فمنهم من أمره بالصبر دون الحرب والجهاد، ومنهم من أمره بالقتل، ومنهم

____________________________

(١) سورة البقرة / آية ٢٠٧.

(٢) أحكام القرآن للجصاص ١ / ٣٠٩، آية التهلكة.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) الاحكام لابن العربي ١ / ٤٩، آية التهلكة، ط ١ سنة ١٣٣١ﻫ.

٥٦

من أمره بتناول السمّ، وكان السرُّ في هذا الإختلاف في التكليف ما يراه المولى سبحانه من المصالح، حسب الوقت والزمان.

فلم يكن إقدامهم على القتل، وتناول السمِّ جهلاً منهم بما صنعه سلطان الجور وقدّمه إليهم، بل هم على يقين من ذلك، فلم يَفُتهم العلم بالقاتل، وما يُقتلون به، واليوم والساعة؛ طاعة منهم لامر بارئهم تعالى، وانقياداً للحكم الإلهي الخاص بهم. وليسوا في هذا الحال إلا كحالهم في أمتثال جميع أوامر المولى سبحانه وتعالى، الموجهة إليهم من واجبات ومستحبات، والعقل حاكم بلزوم انقياد العبيد لأوامر المولى، والإنزجار عن نهيه من دون إلزامٍ بمعرفة المصلحة، أو المفسدة الباعثة على الحكم. وأمّا إذا كان المولى حكيماً في أفعاله( لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) (١) ، فبالأحرى يكون الخضوع له من دون فحص عن أسباب أحكامه.

والى هذا الذي ارتأيناه، نظر المحققون من العلماء الاعلام، وإن خبط الباحثون في قضية إقدام أهل البيتعليه‌السلام على ما فيه من إزهاق نفوسهم المقدسة؛ فأخذوا ذات اليمين والشمال، فلم يأتوا بما فيه نجعة المرتاد، ولا نهلة الصادي؛ لكونها تخيلات لا تتفق مع القواعد والطريقة المثلى.

لقد دلت الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمةعليه‌السلام على أنهم إذا عرفوا من أعدائهم العزم على الفتك بهم، أو اشتد عليهم ألم القيود، ووضح لديهم تأخُر القضاء، عملوا كلَّ وسيلة من دعاء غير مردود، أو شكوى إلى جدِّهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ليدفع عنهم هذه الأضرار والحوادث. فيقول أبو جعفر الباقرعليه‌السلام :«نحن أهل بيت، إذا أكرَبَنَا أمرٌ، وتخوّفنا من شرِّ السلطان، قلنا: يا كائناً قبل كلِّ شيء، ويا ملكوت كلِّ شيء، صل على محمّد وأهل بيته وافعل بي كذا وكذا» (٢) .

ولما احتدم المنصور على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ، وعزم على الفتك به، دعا ربه تعالى أن يفرج عنه؛ فانجلت بسببه غمائم الفتك به حتّى إذا وقع نظره على الصادقعليه‌السلام ، قام إليه فرحاً مستبشراً وعانقه. وكان المنصور يحدّث بعد ذلك عن سبب نقض عزمه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تمثّل له باسطاً كفّيه، حاسراً عن ذراعيه، وقد

____________________________

(١) سورة الانبياء / ٢٣.

(٢) مهج الدعوات لابن طاووس / ٣٦٥، طبعة بمبي.

٥٧

عبس وقطب حتّى حال بينه وبين الإمامعليه‌السلام ، مشيراً إليه أن لو أساء إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام أهلكه. فلم ير المنصور بدّاً من العفو والإكبار لجلال الإمامة. ثم سيّره إلى مدينة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مبجَّلا(١) .

ولما طال الحبس بموسى بن جعفرعليه‌السلام ، وضاق صدره ممّا كان يلاقيه، توسل إلى الله تعالى في الخلاص منه، وقال في دعائه:«يا مخلّص الشجر من بين رمل وماء، ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلّص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلِّصني من يد هارون» (٢) ، فنجا ببركة هذا الدعا من ظلمات الحبس وألم القيود.

ولمّا قدَّم إليه الرشيد الرُّطب المسموم، إنتقى غير المسموم فأكله وألقى المسموم إلى كلبة الرشيد فماتت(٣) . ولم يقصد بقتلها إلا إعلام الطاغية بأن ما يدور في خلده من اغتياله، والفتك به في هذا الحين لم يقرب وقته. ولذا لما دنا الأجل، ودعاه الله تعالى إليه أكل الرطب المسموم الذي قدّمه إليه الرشيد مع العلم به، ورفع يديه بالدعاء قائلاً:«يا ربّ، إنك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم لكنت قد أعنت على نفسي» ، فأكل منه وجرى القضاء(٤) .

وعلى هذا الأساس يأمر الإمام أبو الحسن علي الهاديعليه‌السلام أبا هاشم الجعفري أن يبعث رجلاً إلى (الحائر الحسيني) الأطهر؛ يدعو له بالشفاء مما نزل به من المرض، وعلّله: بأن الله تعالى أحب أن يُدعى في هذا المكان(٥) . فإنَّ غرضه، التعريف بأنه لم يجب في شريعة التكوين إلا جري الاُمور على مجاريها العادية وأسبابها الطبيعية، أو إنه أراد التنبيه على فوائد الابتهال إلى الله حينما تتوارد الكوارث على العبد، وتحيط به المحن. كما يرشد إليه احتفاظ الربيع -  مولى المنصور الدوانيقي - بالكنز المذخور، الذي دعا به الإمام الصادقعليه‌السلام يوم

____________________________

(١) مهج الدعوات / ٢٩٩.

(٢) أمالي الصدوق / ٢٢٧ المجلس الستّون.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢ / ٩٤، ط بيروت / ١٩٨٤.

(٤) مرآة العقول ١ / ١٨٨، وروضة الواعظين / ١٨٥.

(٥) كامل الزيارات / ٢٢٣.

٥٨

دخل على المنصور وقد سخط عليه وأراد التنكيل به، فشاهد الربيع احتفاء المنصور بالإمام وتكريمه(١) .

وعلى هذا كان الإمام المجتبى، الحسن بن أمير المؤمنينعليه‌السلام يستشفي بتربة جدّه تارة، ويعمل بقول الطبيب اُخرى، ويأخذ بقول أهل التجربة ثالثة(٢) ، مع علمه بأن ذلك المرض لا يقضي عليه، وللأجل حدٌّ معلوم. ولكنه أراد إرشاد الناس إلى أن مكافحة العلل تكون بالأسباب العادية، فلا غناء عنها حتّى يساير هذه الاسباب. لكنه لمّا حان الأجل المحتوم، لم يعمل شيئاً؛ تسليماً للقضاء، وذلك عندما قدّمت إليه جعدة بنت الأشعث اللبن المسموم، وكان الوقت حاراً، والحسن صائماً(٣) ، فرفع رأسه إلى السماء قائلاً:«إنا لله وإنا إليه راجعون. الحمد لله على لقاء محمّد سيّد المرسلين، وأبي سيّد الوصيين، واُمّي سيّدة نساء العالمين، وعمّي جعفر الطيار في الجنة، وحمزة سيّد الشهداء» (٤) ثم شرب اللبن وقال لها:«لقد غرّكِ، وسخر منكِ، فالله يخزيك ويخزيه» (٥) وهي تضطرب كالسعفة.

وقد أعلم الرضاعليه‌السلام أصحابه بأنّ منيّته تكون على يد المأمون، ولابدّ من الصبر حتّى يبلغ الكتاب أجله(٦) . وقال أبو جعفر الجوادعليه‌السلام لاسماعيل بن مهران لمّا رآه قلقاً من إشخاص المأمون له:«إنّه لمْ يكن صاحبي، وسأعود من هذه السفرة» ، ولمّا أشخصه المرّة الثانية، قالعليه‌السلام لاسماعيل بن مهران:«في هذه الدفعة يجري القضاء المحتوم» ، وأمره بالرجوع إلى ابنه الهادي، فإنّه إمام الاُمّة بعده(٧) .

ولمّا دفعت إليه اُمّ الفضل المنديل المسموم، لم يمتنع من استعماله؛ تسليماً للقضاء، وطاعة لأمر المولى سبحانه، نعم قال لها:«إبتلاك الله بعقر لا ينجبر، وبلاء لا ينستر» ، فاصيبت بعلة في أغمض الجوارح من بدنها.

وإخبار أمير المؤمنينعليه‌السلام بأنّ ابن ملجم قاتله، لم يختلف فيه اثنان. ولما أتى

____________________________

(١) مهج الدعوات.

(٢) الكامل للبهائي / ٤٥٣- ٤٥٦ بالفارسيّة، ومؤلّفه هو الحسن بن علي بن محمّد الطبري المازندراني، عالم جليل في الطائفة، من علماء القرن السابع الهجري.

(٣) الخرائج / ٢٢ ط الهند.

(٤) بحار الأنوار ١٠ / ١٣٣ عن عيون المعجزات.

(٥) الارشاد للمفيد والخرائج.

(٦) كتابنا في الإمام الرضا ص٤٥.

(٧) الارشاد، وإعلام الورى / ٢٠٥.

٥٩

ابن ملجم يبايع أمير المؤمنين، وولّى، قالعليه‌السلام :«مَن أراد أن ينظر إلى قاتلي، فلينظر إلى هذا» ، فقيل له: ألا تقتله؟ قال:«وآعجبا! تريدون أن اقتل قاتلي» (١) ، يشير بذلك إلى: أنّ قتله - لمّا كان أمراً مبرماً، وقضاء محتوماً، وأنّ قاتله ابن ملجم -  قضاءٌ لا خلف فيه، فكيف يقدر أن ينقض الإرادة الإلهية، ويحلّ ما اُبرم من التقدير؟!. وإلى هذا يشير الصادقعليه‌السلام بقوله لعقبة الاسدي:«لو أن الأئمة ( عليهم‌السلام ) ألحّوا على الله في هلاك الطواغيت؛ لأجابهم سبحانه وتعالى، وكان عليه أهونَ من سلكٍ فيه خرزٌ إنقطع فذهب، ولكن لا نريد غير ما أراده الله تعالى» (٢) .

الخلاصة

لقد ارتفع بتلك البراهين القويمة، الستر المرخى على الحقيقة، فظهرت بأجلى مظاهرها، وبرزت للباحث النيقد، محفوفة بصدق ويقين، فهو اذاً جدٌّ عليم بأن أئمة الهدى كانوا على علم بمجاري القدر النازل، والقضاء الذي لا يُرد بما انتابهم من الكوارث؛ لإنهم قيد إشارة المولى الجليل عز شأنه، بكل ما يستقبلهم من سرّاء وضرّاء. ولم يبارحهم هذا العلم المفاض عليهم من (مبدأ الوجود) جلّت آلاؤه أولاً، وإعلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به ثانياً، ووقوفهم على (الصحيفة النازلة) على جدّهم ثالثاً. وحيث إن الله تعالى أعدّ لهم منازل، وشرفاً خالداً لا ينالونه إلا بالشهادة، وازهاق تلك النفوس المقدسة؛ لذلك ضحوا بحياتهم الثمينة، بخوعاً لأمر الله تعالى، وجرياً مع المصالح الواقعية التي لا تدركها أحلام البشر، ولا يعرف دقيقها غير علام الغيوب. ولا يلزمنا معرفة وجه الصلاح والفساد في جميع التكاليف الشرعية، وانما الذي يوجبه العقل، طاعة المولى الجليل عز شأنه في أوامره ونواهيه.

وإنّي لأعجب ممّن أصاخ لهتاف الأحاديث الصحيحة مسلماً مذعناً: بأنّ الأئمة من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلمون ما كان ويكون، وعندهم علم المنايا والبلايا، كيف خفي عليه ضوء الكثير من الأحاديث المصرّحة، بأن ما صدر منهم من كلام أو سكوت أو قيام أو قعود، إنما هو أمر موجّه إليهم خاصة من الله سبحانه على لسان رسوله الأمين على الوحي الإلهي، ولم يعزب عنهم صغير ولا كبير، ولم يجهلوا

____________________________

(١) بصائر الدرجات للصفار ص ٣٤، ورسالة ابن بدرون ص ١٥٦، شرح قصيدة ابن عبدون.

(٢) أصول الكافي- باب إن الأئمة يعلمون متى يموتون، والخرايج ص ١٤٣ ط الهند.

٦٠

شيئاً من ذلك حتّى ساعة الموت، وممّا يشهد لذلك قول الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام :

«إنّي لأعجب من قوم يتولونا ويجعلونا أئمّة، ويصفون أنّ طاعتنا مفترضة كطاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم يكسرون حجّتهم! ويخصّون أنفسهم؛ لضعف قلوبهم، فينقصونا حقّنا! ويعيبون ذلك على مَن أعطاه الله برهان حقِّ معرفتنا والتسليم لأمرنا! أترون الله تعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ثم يُخفي عليهم أخبار السّماء، ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم؟!» . فقال له حمران: يابن رسول الله، أرأيت ما كان من قيام أمير المؤمنين والحسن والحسينعليهم‌السلام ، وخروجهم وقيامهم وما اُصيبوا به من قبل الطواغيت والظفر بهم حتّى قتلوا وغلبوا؟.

فقال له أبو جعفرعليه‌السلام :«يا حمران، إنّ الله تبارك وتعالى قدَّر ذلك عليهم، وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار، ثم أجراه عليهم. فبتقدم علم إليهم من رسول الله قام علي والحسن والحسين، ويعلم منه صمت مَن صمت منّا، ولو أرادوا أن يدفع الله تعالى عنهم، وألحوا عليه في إزالة ملك الطواغيت؛ لكان ذلك أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد! وما أصابهم ليس لذنب اقترفوه، ولا لمعصية خالفوا الله فيها؛ ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغهم إيّاها، فلا تذهبن بك المذاهب يا حمران!» (١) .

ومن إشعاعات هذا الحديث الشريف تظهر أسرار غامضة، وحكم إلهيّة اختصّ الله بها أولياءه، خزّان وحيه، وبها ميّزهم عن سائر البشر، وهي:

أ - علمهم بكلّ شيء، وعدم انقطاع أخبار السّماء عنهم. وعمومه شامل للموضوعات بأسرها.

ب - إنّ ما جرى عليهم من الأخطار، وقهر أرباب الجور ناشئٌ عن مصالح لا يعلمها إلا المهيمن جلّ شأنه.

ج - إنّ ما صدر منهم؛ من الحرب والجهاد، والقتل في سبيل الدعوة الإلهيّة،

____________________________

(١) الكافي (في هامش مرآة العقول) ١ / ١٩٠ باب انهم يعلمون ما كان، وبصائر الدرجات ص ٣٣، والخرائج ص ١٤٣، طبعة الهند.

٦١

والسّكوت عمّا يفعله أئمّة الضلال، ومشاهدتهم تمادي الاُمّة في الطغيان، وإقدامهم على ما فيه استئصال حياتهم القدسيّة؛ طاعة لأوامر المولى الخاصّة بهم، وانقياداً لتكليفه بلا إلجاء من الله لهم في شيء من ذلك، وإنّما هم مختارون فيه، كاختيار غيرهم في جميع التكاليف.

د - التسليم للقضاء المحتوم والأجل المبرم، وعدم التوسّل إلى الباري تعالى في إزاحة العلّة؛ لينالوا بالشهادة - التي هي أشرف الموت - الدرجات الرفيعة، والمنازل العالية التي لا تحصل إلا بهذا النوع من إزهاق النفس.

وفي نفس هذه العلّة أجاب أبو الحسن الرضاعليه‌السلام مَن سأله عن جواز تعريض أمير المؤمنينعليه‌السلام نفسه للقتل، مع علمه بالسّاعة والقاتل، فقالعليه‌السلام :«لقد كان كلّ ذلك، ولكنّه خير تلك الليلة؛ لتمضي المقادير» (١) ، فدلّنا هذا وأمثاله على أنّ إقدام أهل البيتعليهم‌السلام على ما فيه التهلكة، إنّما هو من باب الطاعة، وامتثال التكليف الموجّه إليهم خاصّة، فلا يتطرّق إلى ساحة علمهم نقص. ولا أنّ إقدامهم على ما فيه الهلكة ممّا يأباه العقل. وإليه ذهب المحققون من أعلام الإماميّة.

فيقول الشيخ المفيد في جواب المسائل العكبريّة: لسنا نمنع أن يعلم الإمام أعيان ما يحدث على التفصيل والتمييز، ويكون بإعلام الله تعالى. كما لا نمنع أن يتعبّد الله أميرَ المؤمنين بالصبر على الشهادة والاستسلام للقتل؛ فيبلغه بذلك علوّ الدرجة ما لا يبلغه إلا به، فيطيعه في ذلك طاعة لو كلّفها سواه لم يردها. ولا يكون أمير المؤمنين ملقياً بيده إلى التهلكة، ولا معيناً على نفسه معونة تستقبح في العقول، ولا يلزم فيه ما يظنّه المعترّضون. كما لا نمنع أن يكون الحسينعليه‌السلام عالماً بموضع الماء وأنّه قريب منه بقدر ذراع، فلو حفر لنبع له الماء. فامتناعه من الحفر لا يكون فيه إعانة على نفسه؛ بعد أن يكون متعبّداً بترك السّعي في طلب الماء حيث يكون ممنوعاً منه، ولا يستبعد العقل ذلك ولا يقبّحه. وكذلك في علم الحسنعليه‌السلام بعاقبة موادعة معاوية، فقد جاء الخبر بعلمه به، وكان شاهد الحال يقضي به، غير أنّه دفع به عن تعجيل قتله وتسليم أصحابه إلى معاوية؛ وكان في ذلك لطف في بقائه إلى

____________________________

(١) أصول الكافي على هامش مرآة العقول ١ / ١٨٨.

٦٢

حال مضيه، ولطف لبقاء كثير من شيعته وأهله وولده. ودفعُ فسادٍ في الدين أعظم من الفساد الذي حصل عند هدنته. وكانعليه‌السلام عالماً بما صنع، ولكن الله تعالى تعبده بذلك (١) .

ويقول العلامة الحلي في جواب مَن سأله عن تعريض أمير المؤمنين نفسه للقتل: بأنه يُحتمل أن يكون قد اُخبر بوقوع القتل في تلك الليلة وفي أي مكان يقتل، وأن تكليفه مغاير لتكليفنا، فجاز أن يكون بذلُ مهجته في ذات الله واجباً، كما يجب الثبات على المجاهد وإن كان ثباته يُفضي إلى القتل(٢) .

ويقول الشيخ الجليل يوسف البحراني: إنّ رضاهم بما ينزل بهم من القتل بالسّيف أو السمِّ، وكذا ما يقع بهم من الهوان على أيدي أعدائهم الظالمين، مع كونهم عالمين قادرين على دفعه، إنّما هو لما علموه من كونه مرضياً له سبحانه وتعالى، ومختاراً بالنسبة إليهم، وموجباً للقرب من حضرة قدسه. فلا يكون من قبيل الإلقاء باليد إلى التهلكة الذي حرّمته الآية، إذ هو ما اقتُرن بالنهي من الشارع نهي تحريم، وهذا ممّا عُلم رضاه به واختياره له، فهو على النقيض من ذلك. إلا أنّه ربّما ينزل بهم شيء من تلك المحذورات قبل الوقت المعدود والأجل المحدود، فلا يصل إليهم منه شيء من الضر ولا يتعقبه المحذور والخطر. فربّما امتنعوا منه ظاهراً، وربّما احتجبوا منه باطناً، وربّما دعوا الله في رفعه عنهم حيث علموا أنّه غير مراد الله سبحانه في حقّهم ولا مقدّر عليهم حتماً. وبالجملة: أنّهمعليهم‌السلام يدورون مدار ما علموه من الأقضية والأقدار، وما اختاره لهم القادر القهّار المختار(٣) . وعلى هذا مشى العلامة المجلسي والمحقق الكركي والحسن بن سليمان الحلّي من تلامذة الشهيد الأول وغيرهم.

علم الحسين بالشهادة

لقد تجلّى بما بيّناه تحبيذ العقل والشرع الإقدام على الهلكة إذا تحققت هناك مصلحة تقاوم مفسدة الهلكة؛ من إبقاء دين وشريعة أو إبراز حقيقة لا تظهر إلا به

____________________________

(١) المسائل العكبريّة - المسألة العشرون.

(٢) حكاه عنه المجلسي في مرآة العقول ١ / ١٨٩، وبحار الانوار ٩ / ٦٦٣.

(٣) الدرر النجفية / ٨٥.

٦٣

كما في أمر الحسينعليه‌السلام يوم وقف ذلك الموقف المدهش، فتلا على الملأ صحيفة بيضاء رتّلتها الحقب والأعوام.

فلقد عرَّف صلوات الله عليه بنهضته المقدّسة الاُمم الحاضرة والمتعاقبة أعمال الاُمويين، ومَن سنّ لهم خرق نواميس الشريعة والتعدي على قداسة قوانينها، وقد استفادت الاُمم من إقدام أبي الضيمعليه‌السلام على الموت، وبذله كلّ ما لديه - من جاه وحرمات في سبيل تأييد الدعوة المحمديّة - دروساً عالية، وعرفوا كيفية الثبات على المبدأ، وأنّه يستهان في تحرير النفوس عن الجور، وانقاذها من مخالب الظلم كلُّ غال ورخيص.

وإذا كان محمّد بن الحسن الشيباني ينفي البأس عن رجل يحمل على الألف، مع فقد احتمال النجاة أو النكاية بالعدو، ولا يكون هذا الإقدام منه إلقاءً بالتهلكة؛ لأنّ فيه نفع المسلمين، وتقوية عزائمهم، وبعث روح النشاط للدفاع عن المبدأ والموت تحت راية العز(١) ، فأبو عبد الله الحسينعليه‌السلام يفضل كلَّ أحد. فإنّه بإقدامه على أولئك الجمع المغمور بالاضاليل وإن أزهق نفسه المقدّسة ونفوس الأزكياء من أهل بيته وصحبه، وعرَّض حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للسلب والأسر، إلا أنّه سجّل أسطراً نوريّة على جبهة الدهر في أحقيّة نهضته، وبطلان تمويهات عدوّه الحائد عن سنن الحقِّ المتمرد في الطغيان، فهو الفاتح المنصور، وإنّ المتجهر عليه راسب في بحر الضلال، هاتك لحرمات الله تعالى، متعدٍّ على نظم الإسلام التي قرّرها صاحب الدعوة الإلهية.

وإنّي لأعجب ممَّن يذهب إلى أن الحسينعليه‌السلام كان يظنّ موافقة الكوفيين له وقد تخلّف ظنّه!، فإنّا لو تنزّلنا وقلنا: بأنّ الحسينعليه‌السلام لمْ يكن عنده العلم العام لِما كان ويكون وما هو كائن، ولكن أين يذهب عنه العلم بما يقع من الحوادث بواسطة إخبار جدّه وأبيه الوصي، بأنّه مقتول بأرض كربلاء، ممنوع من الورود ومعه ذووه وصحبه قضاءً محتوماً؟. أليس هو الذي أعلم اُمَّ سلمة بقتله - حين أبدت له خوفها من سفره هذا؛ لأنّ الصادق المصدّق الذي لا ينطق عن الهوىصلى‌الله‌عليه‌وآله أعلمها

____________________________

(١) أحكام القرآن للجصاص ١ / ٣٠٩.

٦٤

بقتله - بأرض كربلاء ممنوعاً عن الورود؟.

وفيما قال لها:«إنّي أعلم اليوم الذي اُقتل فيه، والسّاعة التي اُقتل فيها، وأعلم مَن يُقتل من أهل بيتي وأصحابي. أتظنّين أنّكِ علمت ما لمْ أعلمه؟ وهل من الموت بدٌّ! فإنْ لمْ أذهب اليوم ذهبتُ غداً».

وقال لأخيه عمر الأطرف:«إنّ أبي أخبرني بأنّ تربتي تكون إلى جنب تربته، أتظنّ أنّك تعلم ما لمْ أعلمه؟» . وقال لأخيه محمّد بن الحنفيّة:«شاء الله أن يراني قتيلاً، ويرى النساء سبايا» .

وقال لابن الزبير:«لو كنتُ في جُحر هامة من هذه الهوام لا ستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم» . وقال لعبد الله بن جعفر:«إنّي رأيت رسول الله في المنام، وأمرني بأمر أنا ماضٍ له» . وفي بطن العقبة قال لِمَن معه:«ما أراني إلا مقتولاً، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني، وأشدّها عليَّ كلبٌ أبقع» . ولمّا أشار عليه عمرو بن لوذان بالإنصراف عن الكوفة إلى أنْ ينظر ما يكون عليه حال الناس، قالعليه‌السلام :«ليس يُخفى عليَّ الرأي، ولكن لا يُغلب على أمر الله. وإنّهم لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي» .

إلى غير ذلك من تصريحاته وتلويحاته في المدينة ومكّة والطريق إلى الكوفة - كما ستقرؤها بتمامها - فإنّها شاهدة على أنّهعليه‌السلام كان على علم ويقين بأنّه مقتول في اليوم الموعود به بأرض كربلاء. ثم هل يتردّد أحد في هذا وهو يقرأ خطبته بمكّة حين أراد السّفر منها إلى العراق، التي يقول فيها:«كأنّي بأوصالي هذه تُقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن منّي أكراشاً جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم» ؟.

فدلّت هذه الأجوبة من الحسينعليه‌السلام - لِمَن طلب منه التريّث في السّفر أو الذهاب في أرض الله العريضة - على وقوف سيّد الشهداء على أمره، ولمْ تخفَ عليه نوايا الكوفيّين. ولكنّه سرٌّ إلهي تعلق به خاصة؛ ولأجل إلقاء الحُجّة على هذا الخلق المتعوس كانت استغاثاته وانتصاراته يوم الطّف قبل نشوب الحرب وبعده.

وإنّما لمْ يصارح بما عنده من العلم لكلّ مَن رغب في إعراضه عن السّفر إلى

٦٥

الكوفة؛ لعلمه بأنّ الحقائق لا تفاض لأيّ متطلب بعد اختلاف الأوعية، سعةً وضيقاً، وتباين المرامي قرباً وبُعداً؛ فلذلك كانعليه‌السلام يجيب كلّ أحد بما يسعه ظرفه، وتتحمّله معرفته وعقليّته. فإنّ علم أهل البيتعليهم‌السلام صعب مستصعب، لا يتحمّله إلا نبي مرسل، أو ملك مقرّب، أو مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان.

الحسين فاتح

كان الحسينعليه‌السلام يعتقد في نهضته أنّه فاتح منصور؛ لِما في شهادته من إحياء دين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإماتة البدعة، وتفظيع أعمال المناوئين، وتفهيم الاُمّة أنّهم أحقّ بالخلافة من غيرهم. وإليه يشير في كتابه إلى بني هاشم:«مَن لَحِقَ بنا منكم استشهد، ومَن تخلّف لمْ يبلغ الفتح» (١) .

فإنّه لمْ يرد بالفتح إلا ما يترتب على نهضته وتضحيته من نقض دعائم الضلال، وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة، وإقامة أركان العدل والتوحيد، وأنّ الواجب على الاُمّة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدينعليه‌السلام لإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله، لمّا قال له حين رجوعه إلى المدينة: مَن الغالب؟ فقال السّجادعليه‌السلام :«إذا دخل وقت الصلاة، فأذِّن وأقِم، تعرف الغالب» (٢) .

فإنّه يشير إلى تحقّق الغاية التي ضحّى سيّد الشهداءعليه‌السلام بنفسه القدسيّة لأجلها، وفشل يزيد بما سعى له من إطفاء نور الله تعالى، وما أراده أبوه من نقض مساعي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإماتة الشهادة له بالرسالة بعد أنْ كان الواجب على الاُمّة في الأوقات الخمس الإعلان بالشهادة لنبيّ الإسلام؛ ذلك الذي هدم صروح الشرك، وأبطل العبادة للاصنام. كما وجب على الاُمّة الصلاة على النبيِّ وآله الطاهرين في التّشهُدَين، وأنّ الصلاة عليه بدون الصلاة على آله، بتراء(٣) .

____________________________

(١) كامل الزيارات / ٧٥، بصائر الدرجات١٠ / ١٤١.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي / ٦٦.

(٣) الصواعق المحرقة / ٨٧، كشف الغمّة ١ / ١٩٤، ولاحظ كتابنا (زين العابدين) ص٣٧١.

٦٦

كما أنّ العقيلة ابنة أمير المؤمنينعليها‌السلام ، أشارت إلى هذا الفتح بقولها ليزيد: فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا يرحض عنك عارها وشنارها.

إنّ المتأمل في حادثة الطفّ يتجلّى له؛ أنّ هذه الشهادة أعظم من يوم بدر، وإنْ كان هو أول فتح إسلامي؛ لأنّ المسلمين يومئذ خاضوا غمرات الموت تحت راية النبوّة، وقد احتفّ بهم ثلاثة آلاف من الملائكة مسوّمين، وهتاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنصر والظهور على العدوّ ملء مسامعهم، فقابلوا طواغيت قريش مطمئنين بالغلبة.

وأمّا مشهد الطفِّ، فالمقاسات فيه أصعب، والكرب أشدّ. وقد التطمت فيه أمواج الحتوف، وكشّرت الحرب عن نابها، وأخذ بنو اُميّة على سبط النبيِّ أقطار الأرض، وآفاق السّماء.

عـشـيـة أنـهضها بغيُها

فـجـاءتـه تركبُ طغيانَها

بجمع من الأرض سدَّ الفروج

وغـطّـى النجود وغيطانَها

وطا الوحش إذ لم يجد مهرباً

ولا زمـت الـطـير أوكانَه

لكن عصبة الحقِّ لمْ يثن من عزمهم شيء، فقابلوا تلك الأخطار من غير مدد يأملونه، أو نصرة يرقبونها. وقد انقطعت عنهم خطوط الوسائل الحيويّة حتّى الماء الذي هو أوفر الأشياء، والناس فيه شرع سواء، وضوضاء الحرم من الشر المقبل، وصراخ الأطفال من الاوام المبرح في مسامعهم، إلا أنّهم تلقّوا جبال الحديد بكلّ صدر رحيب، وجنان طامن. ولم تسلُ تلك النفوس الطاهرة إلا على فتل اُميّة المنقوض، ولا اُريقت دماؤهم الزاكية إلا على حبلهم المنتكث؛ فكان ملك آل حرب كلعقة الكلب أنفه حتّى اكتسحت معرّتهم عن أديم الأرض.

ولقد أجاد شاعر أهل البيتعليهم‌السلام بقوله:

لَو لَمْ تكن جُمعت كلُّ العُلا فينا

لـكان ما كان يوم الطفِّ يكفينا

يـومٌ نهضنا كأمثال الاُسود به

وأقـبلت كـالدبا زحفاً أعادينا

جاؤوا بـسبعين ألفاً سَلْ بقيتَهم

هل قابلونا وقد جئنا بسبعينا(١)

____________________________

(١) شعراء الغري ١ / ٣٨٧، والشاعر هو السيّد باقر الهندي نوّر الله ضريحه.

٦٧

فيوم الطفّ فتح أسلامي بعد الجاهليّة المستردة من جرّاء أعمال الاُمويِّين، ولفيفهم الذين لمْ يستضيئوا بذلك الألق السّاطع؛ نور التوحيد وشعاع النبوّة.

إنّ الحسين لمْ يكن قاصداً في خروجه محضَّ السلطنة، والرئاسة، وخفقان الرايات. فإنّه لو كان هذا غرضه؛ لاتّخذ الوسائل الموصلة إليه وهو أعرف بها، ولمْ يذع إلى مَن كان معه من الأعراب قتله، وهلاك مَن معه، واستسلام عائلته للأسر؛ فيتفرّق جيشه، وتتضاءل قواه الصوريّة. لكن نفسه المقدّسة - وهكذا الأحرار - أبت كتمان الأمر وإيهام الحال حتّى أختبرهم بالإذن في المفارقة، فذهب عنه مَن كان همُّه الطمع، وأبى أولئك الصفوة إلا مواساته ونصرته. فلا الجبن يطرق ساحتهم، ولا الانكسار يبين في مجاليهم؛ لأنّ ذلك شأن الآيس من غايته، والقوم كانوا على يقين من الظفر بالأمنية، كما تنم عنه كلماتهم التي أجابوا الحسينعليه‌السلام بها لمّا أنبأهم - ليلة عاشوراء - بحراجة الموقف، ورفع عنهم البيعة، وخلّى لهم السبيل، فقالوا: الحمد لله الذي شرّفنا بالقتل معك. ولو كانت الدنيا باقية، وكنّا فيها مخلَّدين؛ لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها. فوجدهمعليه‌السلام متفانين في الجهاد معه، والذبِّ عن قدس الشريعة. وتلا على الملأ سطراً من صحيفتهم البيضاء بقوله:«إنّي لا أجد أصحاباً أوفى من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ وأوصل من أهل بيتي» (١) .

وإنّي لأعجب من الرواة وحملة التاريخ، حيث توسّعوا في النقل، فقذفوا اُولئك الأطهار بما يندى منه وجه الإنسانيّة، ويأباه الوجدان الصادق، فقيل: كان القوم بحالة ترتعد فرائصهم، وتتغير ألوانهم كلمّا اشتد الحال إلا الحسين، فإنّ أسرّة وجهه تشرق كالبدر المنير!!(٢) .

وهذا بعد أن أعوزتهم الوقيعة في شهيد العزّ والإباء، فلمْ يجدوا للغمز فيه نصيباً؛ فمالوا على صحبه وأهل بيته! وليس هذا إلا من الداء الدفين، بين أضالع قوم دافوا السمَّ في الدسم إلى سذّجٍ حسبوه حقيقة راهنة، فشوّهوا وجه التاريخ.

____________________________

(١) الكامل في التاريخ ٤ / ٢٤.

(٢) نَفَس المهموم ص ١٣٥ عن معاني الأخبار، وبحار الانوار٣ / ١٣٤ باب سكرات الموت، وكذلك في البحار ١٠ / ١٦٧ عن معاني الأخبار.

٦٨

غير أنّ البصير النّاقد لا تخفى عليه نفسيّة القوم، ولا ما جاؤوا به.

وأعجب من ذلك، قول زجر بن قيس الجعفي ليزيد: إنّا أحطنا بهم، وهم يلوذون عنّا بالآكام والحفر، لواذ الحمام من الصقر!!(١) . بفيك الكثكث أيّها القائل، كأنّك لمْ تشاهد ذلك الموقف الرهيب، فترى ما للقوم من بسالة وإقدام، ومفاداة دون الدِّين الحنيف حتّى أغفل يومهم مع ابن المصطفى أيّام صِفين وما شاكلها من حروب دامية، وحتّى أخذت أندية الكوفة لا تتحدّث إلا بشجاعتهم.

أجل، إنّ تلك الأحوال أدهشتك فلمْ تدرِ ما تقول! أو أنّ الشقّة بعدت عليك فنسيت ما كان. ولكن هل غاب عن سمعك صراخ الأيتام، وعويل الأيامى في دور الكوفة حتّى طبق أرجاءها من جرّاء ما أوقعه أولئك الصفوة بأعداء الله وأعداء رسوله بسيوفهم الماضية؟!. والعذر لك إنّك أدركت ساعة العافية، فطفقت تشوّه مقامهم المشكور؛ طلباً لمرضاة (يزيد الخمور).

ولقد صرّح عن صدق نيّاتهم عدوّهم الألد، عمرو بن الحجّاج، محرّضاً قومه: أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر، وقوماً مستميتين لا يبرز إليهم أحد منكم إلا قتلوه على قلتهم. والله لو لمْ ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم(٢) .

وقيل لرجل شهد الطفّ مع ابن سعد: ويحك أقتلتم ذريّة الرسول؟! فقال: عضضت بالجندل، إنّك لو شهدت ما شهدنا؛ لفعلت ما فعلنا. ثارت علينا عصابة، أيديها على مقابض سيوفها كالاُسود الضارية، تحطّم الفرسان يميناً وشمالا، تلقي نفسها على الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين المنية أو الاستيلاء على الملك. فلو كففنا عنها رويداً؛ لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين لا اُمّ لك؟!(٣) .

وشهد لهم بذلك كعب بن جابر، فانه لمّا قتل بريراً؛ عتبت عليه زوجته

____________________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٣١٣.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ٣٠٧.

٦٩

وقالت: أعنت على ابن فاطمة! وقتلت سيّد القرّاء! لقد أتيت عظيماً من الأمر! والله لا اُكلّمك من رأسي كلمة واحدة. فقال يخاطبها من أبيات.

ولـمْ تـرَ عيني مثلهم في زمانهم

ولا قـبلهم في الناس إذ أنا يافعُ

أشـدَّ قراعاً بالسّيوف لدى الوغى

ألا كـلّ مَـن يحمي الذمار مقارعُ

وقد صبروا للضرب والطعن حسّرا

وقـد نـازلوا لو أنّ ذلك نافعُ(١)

ثمّ أي فرد منهم أقلقه الحال حتّى ارتعدت فرائصه؟ أهو زهير بن القين الذي وضع يده على منكب الحسين، وقال مستأذناً:

أقدم هديت هادياً مهديا

فاليوم ألقى جدَّك النبيا

أم ابن عوسجة الذي يوصي حبيب بن مظاهر بنصرة الحسينعليه‌السلام ، وهو في آخر رمق من الحياة، فكأنّه لمْ يقنعه في المفاداة، كلّ ما لاقاه من جهد وبلاء؟.

أم أبو ثمامة الصائدي الذي لم يهمّه في سبيل السّير إلى ربّه تعالى، كلّ ما هنالك من فوادح وآلام، إلا الصلاة التي دنا وقتها؟.

أم سعيد الحنفي الذي استُهدف لهم عند الصلاة حتّى سقط؛ لكثرة نزف الدم، فيقول للحسينعليه‌السلام : أوفيتُ يابن رسول الله؟.

أم ابن شبيب الشاكري الذي يلقي جميع لامته؛ لتقرب منه الرجال فيموت، في حين نرى الكماة الأبطال المعروفين بالشجاعة والإقدام، يتدرعون للحرب؛ كيلا يخلص إليهم ما يزهق نفوسهم؟.

أم جون الذي يأذن له الحسينعليه‌السلام في الإنصراف، فيقع على قدميه يقبّلهما، وهو يبكي ويقول: إنّ لوني لأسود، وحسبي لئيم، وريحي منتن، فتنّفس عليَّ بالجنة؛ ليبيضَّ لوني، ويشرف حسبي، ويطيب ريحي؟.

وإذا تأملنا قول أبي جعفر الباقرعليه‌السلام :«إنَّ أصحاب جدّي الحسين لم يجدوا ألم مسّ الحديد» (٢) .

وضّح ما عليه أولئك الأطايب من الثبات، وأنّهم غير مكترثين بما لاقوه من

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٧.

(٢) الخرائج للراوندي / ١٣٨.

٧٠

ألم الجراح؛ ولعاً منهم بالغاية، وشوقاً إلى جوار المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولا تستغرب هذا، فمَن يعرف حالة العاشق، وأنّه عند توجّه مشاعره نحو المحبوب لا يشعر بما يلاقيه من عناء ونكد. ولقد حكى المؤرّخون: أنّ كثيّراً الشاعر(١) كان في خبائة يبري سهاماً له، فلمّا دخلت عليه عَزّة ونظر إليها أدهشه الحال، فأخذ يبري أصابعه، وسالت الدماء وهو لا يحسّ بالألم(٢) .

ويتحدّث الرواة: أنّ شاباً من الأنصار استقبل امرأة فأعجبته فأتبعها النظر؛ فدخلت في زقاق وهو خلفها ينظر إليها، فاعترضت وجهه زجاجة في حائط؛ فشقت وجهه وهو لا يشعر، فلمّا مضت المرأة رأى الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحكى له، فنزل قوله تعالى:( قُل لِّلمُؤمنينَ يَغُضُّوا من أَبصَارِهِمْ ) (٣) .

ويحدّث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأنّ الشهيد المقتول في سبيل الدعوة الإلهيّة لا يجد من مسِّ القتل، إلا كما يجد الإنسان من مسِّ القرصة(٤) .

وأمّا رشيد الهجري(٥) ، فإنّه لمّا دعاه ابن زياد، وسأله عمّا أخبره أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، قال: بلى، دخلت عليه يوماً وعنده أصحابه، وكان في بستان، فدعا

____________________________

(١) الاغاني ٢ / ٣٧.

(٢) في الموشح للمرزباني / ١٤٤ عند ذكر الشاعر كثيّر عزّة، عن أبي عبيدة، أنّ محمّد بن عليعليه‌السلام قال لكثيّر:«تزعم أنك من شيعتنا وتمدح آل مروان؟!» فقال: إنّما أسخر منهم، وأجعلهم حيات وعقارب وآخذ أموالهم.

(٣) الكافي ٣ / ٥١١ باب ١٦٠ ما يحل النظر إليه من المرأة عن الباقرعليه‌السلام ، وعنه في تفسير البرهان ٣ / ٧٣١ في تفسير الآية ٣٠ من سورة النور.

(٤) تيسير الوصول لابن الديبع ١ / ١٢٩، وكنز العمال ٢ / ٢٧٨ فضل الشهادة.

(٥) في الخلاصة للعلامة الحلّي: رشيد بضم الراء المهملة، وفي رجال أبي داود: الهجري بفتحتين، ومثله السيوطي في لب اللباب / ٢٧٧ باب الهاء، وفي أنساب السمعاني: هجري بفتح الهاء والجيم وكسر الراء وفي اخره ياء، النسبة إلى هجر: بلاد باليمن من أقصاها. والمشهور بهذه النسبة جماعة ذكرهم ومنهم: رشيد من أهل الكوفة يروي عن أبيه. وفي تاريخ البخاري ج١ القسم الثاني ص٣٠٥: يروي عن أبيه عن عبد الله، وأنّهم تكلّموا فيه. وفي اللباب لابن الاثير ٣ / ٢٨٥: رشيد الهجري، نسبة إلى بلد معروف باليمن. وأمّا هجر التي قرب المدينة، فذكر ابن القيسراني في الأنساب المتفقة / ٢٢٣، وتاج العروس، ولسان العرب مادّة هجر، وابن الاثير في النهاية، واختلف في القلتين المنسوبة إلى هجر؛ ففي وفاء الوفاء للسمهودي ٢ / ٣٨٦ عن النووي: أنها هجر قرب المدينة، ومثله في مصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس، ونهاية ابن الاثير. وفي آثار البلاد لزكريا بن محمود القزويني / ٢٨٠: نسب إلى هجر التي بالبحرين، وسعتها خمسمئة. وحكاه الزركشي عن الأزهري كما في وفاء الوفاء مادة هجر.

٧١

برطب من نخلة، فقلت له: يا أمير المؤمنين أطيّب هذا الرطب؟ فعرّفهعليه‌السلام بأنّ الدّعيَّ عبيد الله سيحمله على البراءة منه؛ وإلا فيقطع يدَيه ورجلَيه ولسانه ويصلبه على جذع من هذه النخلة. فقال رشيد: آخر ذلك إلى الجنة؟ قالعليه‌السلام :«أنت معي في الدنيا والآخرة» ، قال: إذاً والله لا أتبرّأ منك.

فكان رشيد يختلف إلى تلك النّخلة في النّهار ويسقيها الماء، ويقول: لك غذيت ولي نبت! وما دارت الأيّام حتّى تولّى ابن زياد الكوفة؛ فدعاه وسأله عمّا أخبره به أمير المؤمنين، قال: أخبرني خليلي أنّك تدعوني إلى البراءة منه فلا أبرأ أبداً؛ فتقطع يدي ورجلي ولساني. قال ابن زياد: لأكذبنّ قوله. ثم أمر به فقطعوا يدَيه ورجلَيه وتركوا لسانه، وحُمل إلى أهله؛ فاجتمع عليه الناس وهو يحدّثهم بما أطلعه أمير المؤمنين من علم المنايا والبلايا وفضل أهل البيت، ثمّ قال: أيّها الناس، سلوني إنّ للقوم عندي طِلبة لمْ يقضوها. فأسرع رجل إلى ابن زياد وقال: ما صنعت! قطعت يدَيه ورجلَيه وهو يحدّث الناس بالعظائم! فأمر به بأن يقطع لسانه؛ فمات من ليلته، ثم صُلب(١) على باب دار عمرو بن حُريث(٢) .

تقول ابنته قنواء: سألت أبي عمّا يجده من الآلام، فقال: يا بنيّة، لا أجد إلا كالزحام بين النّاس(٣) . واستفاد رشيد الهجري من صحبة أمير المؤمنينعليه‌السلام علم المنايا والبلايا(٤) ، وكان يخبر الرجل بما يجري عليه؛ فسمّاه أمير المؤمنينعليه‌السلام راشداً(٥) .

وهذا الحال يفيد المتأمّل بصيرة؛ بأنّ كلّ من اتجهت مشاعره نحو المولى سبحانه وتعالى، وتجلّت له المظاهر الربوبيّة، وشاهد ما أعدَّ له من النّعيم الخالد في سبيل دعوة الدِّين؛ هان عليه ألم الجراح. ويؤكّد ما قلنا من ذهول العاشق عندما يشاهد محبوبه عن كلّ ما يرد عليه من الأذى؛ غفلة النّسوة عن ألم قطع المدية أيديهنّ؛

____________________________

(١) رجال الكشي / ٥١.

(٢) ميزان الاعتدال ٢ / ٣٣٩، لسان الميزان ٢ / ٤٦١.

(٣) رجال الكشي / ٥١، بشارة المصطفى / ١١٣، أمالي الطوسي / ١٠٣ مجلس ٦، وقد سُمّيت في هذين الأخيرين (أمة الله).

(٤) بصائر الدرجات ٦ / ٧٣ باب إن الأئمة يعرفون حال شيعتهم، وعنه في بحار الانوار١١ / ٢٤٦ في أحوال الامام موسى بن جعفر- ط كمباني.

(٥) أمالي الطوسي / ١٠٤ المجلس السادس- الطبعة الحجرية الاُولى.

٧٢

لمحض مشاهدة جمال الصدّيق يوسفعليه‌السلام كما حكاه جلّ شأنه( فَلَمّا رَأَينَهُ أَكبَرنَهُ وَقَطّعنَ أَيدِيَهُنّ وَقُلنَ حَاشَ للّهِ‏ِ مَا هذَا بَشَراً إِنْ هذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) (١) .

وإذا لمْ تشعر النّسوة(٢) بمضض الجراح، فليس من الغريب ألا يجد أصحاب الحسينعليه‌السلام - وهم زبدة العالم كلّه - ألم مس الحديد عند نهاية عشقهم لمظاهر الجمال الإلهي، ونزوع أنفسهم إلى الغاية القصوى من القداسة بعد التكهرب بولاء سيّد الشهداءعليه‌السلام :

بـأبـي اُفـدي وجـوهاً مـنهمُ

صـافحوا في كربلا فيها الصِفاحا

أوجـهـاً يـشرقن بـِشراً كـلّما

كـلح الـعامُ ويـقطرن سـماحا

تـتجلّى تـحت ظـلماء الـوغى

كـالمصابيح إلـتماعاً وإلـتماحا

أرخصوا دون ابن بنت المصطفى

أنـفساً تـاقت إلـى الله رواحـا

فـقضوا صـبراً ومـن أعطافهمْ

أرجُ الـعزِّ بـثوب الـدهر فاحا

لـم تـذقْ مـاءاً سـوى منبعثٍ

مـن دم القلب به غصت جراحا

أنـهـلتْ مـن دمـها لـو أنـه

كان من ظامي الحشا يطفى التياحا

اُعـريت فـهي عـلى أن ترتدي

بـنسيج التّرب تمتاح الرياحا(٣)

الحسين مع أصحابه

تمهيد:

إنّ الشريعة المقدّسة أوجبت على النّاس النّهضة؛ لسدّ باب المنكر، والردع عن الفساد. وألزمت الاُمّة بمتابعة الإمام في ردِّ عادية الباغين على الخليفة المنصوب علماً للعباد؛ بعد أنْ يدعوهم إلى التوبة عمّا هم فيه من معاندة الحقّ، والرجوع إلى ساحة الشرع الأعظم، كما في قوله تعالى:( وإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحدَاهُمَا عَلَى الأُخرَى‏ فَقَاتِلُوا التِي تَبغِي حَتّى‏ تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمرِ اللّهِ ) (٤) ،

____________________________

(١) سورة يوسف الآية ٣١.

(٢) في ديوان الصبابة (في هامش تزيين الاسواق) / ٣٩: بلغ عدد اللائي قطعن أيديهم أربعين امرأة، منهن تسع شوقاً ووجداً.

(٣) من قصيدة في الحسينعليه‌السلام للسيّد عبد المطّلب الحلّي ذُكرت بتمامها في شعراء الحلة ٣ / ٢١٤.

(٤) الحجرات آية ٩.

٧٣

وقد نهض أمير المؤمنينعليه‌السلام أيّام خلافته؛ للدفاع عن قدس الشريعة، وتنبيه الاُمّة عن رقدة الجهل. وكان الواجب على الناس الفيء إليه؛ لأنّه إمام الحقِّ، المفروضة طاعته. وقد اعترف جمهور المسلمين بتماميّة البيعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وحكموا بأنّ قتاله لمن خرج عليه حقٌّ، وهذه كلماتهم التي سجّلوها في صحفهم، شواهد متقنة على هذه الدعوى المدعومة بالعقل والنّقل.

فهذا أبو حنيفة يقول: ما قاتل أحد علياً إلا وعلي أولى بالحقِّ منه. ولولا ما سار عليعليه‌السلام فيهم، لما علم أحد كيف السّيرة في المسلمين. ولا شكّ أنّ عليّاًعليه‌السلام إنّما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفاه، وفي يوم الجمل سار عليّعليه‌السلام فيهم بالعدل وهو أعلم المسلمين، فكانت السُنّة في قتال أهل البغي(١) .

واقتفاه تلميذه محمّد بن الحسن الشيباني، المتوفى سنة (١٨٧) فقال: لو لمْ يقاتل معاوية علياًعليه‌السلام ظالماً له متعدياً باغياً؛ كنّا لا نهتدي لقتال أهل البغي(٢) .

وقال سفيان الثوري: ما قاتل عليّعليه‌السلام أحداً إلا كان عليّ أولى بالحقّ منه(٣) .

وقال الشافعي: السّكوت عن قتلى صفّين حَسَنٌ؛ وإنْ كان عليّعليه‌السلام أولى بالحقِّ من كلّ مَن قاتله(٤) .

وقال أبو بكر أحمد بن عليّ الرازي الجصّاص، المتوفى سنة (٣٧٠): كان عليّ محقّاً في قتال الفئة الباغية، لمْ يخالف فيه أحد. وكان معه من كبراء الصحابة وأهل بدر مَن قد علم مكانهم(٥) .

وقال القاضي أبو بكر ابن العربي، المتوفى سنة (٥٤٦): كان عليّ إماماً؛ لأنّهم اجتمعوا عليه. ولمْ يمكنه ترك النّاس؛ لأنّه أحقّهم بالبيعة، فقبِلَها حوطة على الاُمّة أنْ لا تُسفك دماؤها بالتهارج فيتخرّق الأمر. وربّما تغيّر الدِّين، وانقضّ عمود

____________________________

(١) مناقب أبي حنيفة للخوارزمي ٢ / ٨٣- ٨٤ ط حيدر آباد.

(٢) الجواهر المضيئة ٢ / ٢٦.

(٣) حلية الأولياء ٧ / ٣١.

(٤) أدب الشافعي ومناقبه / ٣١٤.

(٥) أحكام القرآن ٣ / ٤٩٢.

٧٤

الإسلام، وطلب أهل الشام منه التمكين من قتلة عثمان، فقال لهم عليّعليه‌السلام :«ادخلوا في البيعة، واطلبوا الحقَّ تصلوا إليه» . وكان عليّعليه‌السلام أسدَّهم رأياً وأصوبهم قولاً، لأنّه لو تعاطى القوَد؛ لتعصبتْ لهم قبائلهم فتكون حرباً ثالثةً، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة العامّة، ثم ينظر في مجلس الحكم ويجري القضاء. ولا خلاف بين الاُمّة: أنّه يجوز للإمام تأخير القصاص، إذا أدّى ذلك إلى إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة.

وحينئذ فكلُّ مَن خرج على عليّعليه‌السلام فهو باغ، وقتالُ الباغي واجب حتّى يفيء إلى الحقِّ وينقاد إلى الصلح. وإنّ قتاله لأهل الشام الذين أبوا الدخول في البيعة، وأهل الجمل والنّهروان الذين خلعوا بيعته حقٌّ، وكان حقُّ الجميع أنْ يصلوا إليه، ويجلسوا بين يدَيه ويطالبوه بما رأوا، فلمّا تركوا ذلك بأجمعهم، صاروا بغاة، فتناولهم قوله تعالى:( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حتّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ ) (١) .

ولقد عتب معاوية على سعد بن أبي وقّاص(٢) ، بعدم مشاركته في قتال عليعليه‌السلام ؛ فردّ عليه سعد: بأنّي ندمت على تأخيري عن قتال الفئة الباغية، يعني معاوية ومَن تابعه(٣) .

وقال أبو بكر محمّد الباقلاني، المتوفى سنة (٤٠٣) هـ بعد ذكر جملة من فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ علياً يصلح للخلافة ببعض هذه الخصال، ودون هذه الفضائل، ويستحقّ الإمامة. فهو حقيق بما نظر فيه وتولاه؛ فوجب الإنقياد له بعقدِ

____________________________

(١) سورة الحجرات / ٩.

(٢) في كامل ابن الأثير ٣ / ٧٤ عند ذكر البيعة لأمير المؤمنينعليه‌السلام قال: لم يبايع سعد بن أبي وقّاص، وعبد الله بن عمر، وحسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومَسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن حديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، وعبد الله بن سلام، وصهيب بن سنان، وسلمة بن سلامة بن وقش، واُسامة بن زيد، وقدامة بن مظعون، والمغيرة بن شعبة. وتعرّض لهم أبو منصور عبد القاهر البغدادي في اُصول الدين / ٢٩٠، والباقلاني في التمهيد / ٢٣٣، وابن تيمية في الفتاوى المصريّة ٤ / ٢٢٦، والطبري في تاريخه ٣ / ١٥٣. وتعرّض لاعتزال سعد بن أبي وقّاص الذهبي في سير أعلام النبلاء ١ / ٧٩- ٨٣، وذكر اعتذاره غير المقبول عند الله وعند رسوله، وهو عدم اتباعه أحداً إلا أن يعطيه سيفاً له لسان وعينان يعرف بهما المؤمن من الكافر! وفي ترجمته من الاستيعاب: إنّ معاوية كتب إليه شعراً يستميله إليه؛ فردّ عليه بأبيات يقول فيها:

أتطمع في الذي أعطى علياً

على ما قد طمعت به العفاءُ

لـيومٌ مـنه خير منك حياً

ومـيتاً أنـت للمرء الفداءُ

فـأمّا أمـر عـثمان فدعهُ

فـإنّ الـرأي أذهبه البلاءُ

(٣) أحكام القرآن ٢ / ٢٢٤ - ٢٢٥ ط مصر / ١٣٣١ﻫ.

٧٥

مَن عقدها له من وجوه المهاجرين والأنصار، عشيّة اليوم الثالث من مقتل عثمان بعد إمتناعه عليهم وإصرارهم عليه؛ لأنّه أعلم مَن بقي، وأفضلهم وأولاهم بهذا الأمر. وناشدوه الله تعالى في حفظ بقيّة الاُمّة، وصيانة دار الهجرة، فبايعوه قبل حضور طلحة والزبير ومبايعتهما له؛ تبعاً لغيرهما بعد وجوبها عليهما، ولو تأخّرا عن الإنقياد لكانا مأثومَين. وقولهما له: بايعناك مكرَهين(١) لا يضرّ بإمامة عليّعليه‌السلام ؛ لأنّ البيعة له تمّت قبل مبايعتهما، وطلبهما منه قَتْلَ قتلة عثمان خطأً، لأنّ عقد الإمامة لرجل على أنْ يَقتل الجماعة بالواحد لا يصح؛ بعد أنْ كان الإمام متعبّداً باجتهاده، فقد يؤدّي إلى أنّه لا يجوز قَتْل الجماعة بالواحد، وإنْ أدّى إليه اجتهاده فقد يجتهد ثانياً إلى عدمه، ولو ثبت أنّ علياًعليه‌السلام يرى جواز قتْل الجماعة بالواحد، لمْ يجز أنْ يقتل جميع قتلة عثمان؛ إلا بعد أنْ تقوم البيّنة على القتلة بأعيانهم، وأنْ يحضر أولياء الدَّم مجلسه ويطالبون بدم أبيهم ووليّهم، وأنْ لا يؤدّي القتل إلى هَرج عظيمٍ وفساد شديد، قد يكون مثل قتلة عثمان أو أعظم منه. وتأخير إقامة الحدِّ إلى وقت إمكانه أولى وأصلح للاُمّة وأنفى للفساد(٢) .

وقال أبو عبد الله محمّد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري، المتوفى سنة (٤٠٥): الأخبار الواردة في بيعة أمير المؤمنين كلُّها صحيحة مجمع عليها، وفيها يقول خزيمة بن ثابت وهو واقف بين يدي المنبر:

إذا نـحن بـايعنا عـلياً فـحسبنا

أبـو حـسن مـمّا نخاف من الفتنْ

وجـدناه أولـى الناس بالناس إنه

أطـبُّ قـريش بـالكتاب وبالسُّننْ

وإنّ قـريـشاً مـا تـشق غـبارَه

إذا ما جرى يوماً على الضمر البدنْ

وفـيه الـذي فـيهم من الخير كلِّه

ومـا فـيهمُ كلُّ الذي فيه من حَسنْ

وساق الذهبي جميعه في تلخيص المستدرك ولم يتعقّبه(٣) ، ثم حكى الحاكم

____________________________

(١) في مستدرك الحاكم ٣ / ١١٤: أول من بايعه طلحة فقال: هذه بيعة تُنكث.

(٢) التمهيد / ٢٢٩- ٢٣٢.

(٣) المستدرك ٣ / ١١٥، وقد زاد عليها السيد المرتضى في الفصول المختارة ٢ / ٦٧ أبياتاً أربعة، هي:

وصـيُ رسول الله من دون أهلِهِ

وفـارسُهُ قد كان في سالف الزمنْ

وأوّلُ مَـن صلّى من الناس كلِّهم

سوى خيرة النسوان والله ذو المننْ

وصاحبُ كبش القوم في كل وقعةٍ

يكون لها نفس الشجاع لدى الذقنْ

فـذاك الذي تُثنى الخناصر باسمه

إمـامُهم حتّى اُغـيب في الكفنْ

٧٦

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال: ما وجدت في نفسي من شيء من أمر هذه الآية:( فَقَاتِلُوا التِي تَبغِي حَتّى‏ تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللّه ) (١) إلا أنّي لمْ اُقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى(٢) .

وحكى الحاكم النيسابوري عن أبي بكر محمّد بن إسحاق بن خزيمة، أنّه قال: عهدت مشايخنا يقولون: إنّا نشهد بأنّ كلَّ مَن نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في خلافته، فهو باغ. وبه قال ابن ادريس(٣) .

وقال أبو منصور عبد القاهر البغدادي، المتوفى سنة (٤٢٩): أجمع أهل الحقِّ على صحّة إمامة عليّعليه‌السلام وقت انتصابه لها بعد قتْل عثمان، وأنّه كان محقّاً مصيباً في التحكيم، وفي قتال أصحاب الجمل، وأصحاب معاوية بصفّين(٤) .

وقال أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي الفيروز آبادي، المتوفى سنة (٤٧٦): إذا خرجتْ على الإمام طائفةٌ من المسلمين، ورأت خلعه بتأويل، أو منعت حقّاً توجّه عليها بتأويل، وخرجتْ عن قبضة الإمام، وامتنعتْ عليه بمنعة، قاتلها الإمام؛ لقوله عزّ وجلّ:( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ) (٥) ؛ ولأنّ أبا بكر قاتل مانعي الزكاة، وقاتل عليّ أهل البصرة يوم الجمل، وقاتل معاوية بصفّين، وقاتل الخوارج بالنهروان(٦) . وظاهره أنّ قتال عليعليه‌السلام لهؤلاء بحقٍّ؛ لأنّه إمام حقٍّ وجبت بيعته في أعناقهم، وخروجهم عن طاعته - وإن كان بتأويل - لا يبرّر عملهم.

وقال إمام الحرمين الجويني، المتوفى سنة (٤٧٨): كان علي بن أبي طالب إماماً حقّاً في توليته، ومقاتلوه بغاة(٧) .

وقال علاء الدِّين الكاساني الحنفي، المتوفى سنة (٥٨٧): قاتل سيّدنا عليٌ أهل حروراء بالنّهروان بحضرة الصحابة؛ تصديقاً لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لسيّدنا عليعليه‌السلام :«إنّك تقاتل على التأويل كما تقاتل على التنزيل» ، والقتال على التأويل هو

____________________________

(١) سورة الحجرات الآية ٩.

(٢) المستدرك ٢ / ٤٦٣.

(٣) معرفة علوم الحديث ص ٨٤.

(٤) اُصول الدين ص ٢٨٦ - ٢٩٢.

(٥) سورة الحجرات الآية ٩.

(٦) المهذّب في الفقه الشافعي ٢ / ٢٣٤ ط مصر سنة ١٣٤٣ﻫ.

(٧) الإرشاد في اُصول الإعتقاد ص ٤٣٣.

٧٧

القتال مع الخوارج. ودلّ الحديث على إمامة سيّدنا عليّ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شبّه قتال سيّدنا عليّ بقتاله على التنزيل، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله محقّاً في قتاله على التنزيل، فلزم أنْ يكون سيّدنا عليٌّ محقاً في قتاله بالتأويل. فلو لمْ يكن إمام حقٍّ لَما كان محقّاً في قتاله إيّاهم؛ لأنّ الدعوة قد بلغتهم لكونهم في دار الإسلام ومن المسلمين، ويجب على كلِّ مَن دعاه إلى قتالهم أنْ يجيبه إلى ذلك، ولا يسعه التخلّف إذا كان عنده غنىً وقدرة؛ لأنّ طاعة الإمام فيما ليس بمعصية فرض، فكيف فيما هو طاعة؟ وما روي عن أبي حنيفة: إذا وقعت الفتنة بين المسلمين، فينبغي للرجل أن يلزم بيته، محمول على وقت خاص؛ وهو ألا يكون إمام يدعوه إلى قتال، وأمّا إذا كان، فدعاؤه يفترض عليه الإجابة لِما ذكرنا(١) .

وقال يحيى بن شرف النووي الشافعي، المتوفّى سنة (٦٧٧): كان عليّ هو المُحقُّ المصيب في تلك الحروب. وقال معظم الصحابة والتابعين وعامّة علماء الإسلام: يجب نصر المحقِّ في الفتن، والقيام معه بمقاتلة الباغين. قال الله تعالى:( فَقَاتِلُوا الّتِي تَبغِي ) ، وهذا هو الصحيح(٢) .

وقال ابن همام الحنفي، المتوفى سنة (٦٨١): كان عليّعليه‌السلام على الحقِّ في قتال الجمل وقتال معاوية بصفّين، وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّار:«تقتلك الفئة الباغية» وقد قتله أصحاب معاوية، صريح بأنّهم بغاة. ولقد أظهرت عائشة النّدم - كما ذكره أبو عمرو في الإستيعاب - وقالت لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال لها: رأيت رجلاً قد غلبك، يعني ابن الزبير. فقالت: أما لو نهيتني، ما خرجتُ(٣) .

وقال ابن تيمية، المتوفّى سنة (٧٢٨): لمّا قُتل عثمان، بايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهو أحقُّ بالخلافة حينئذ وأفضل مَن بقي، لكن كانت القلوب متفرّقة، ونار الفتنة موقدة؛ فلمْ تتّفق الكلمة ولمْ تنتظم الجماعة، ولم يتمكّن الخليفة

____________________________

(١) بدائع الصنائع ٧ / ١٤٠ أحكام المرتدين.

(٢) شرح صحيح مسلم (في هامش إرشاد الساري)١٠ / ٣٣٦، ٣٣٨.

(٣) فتح القدير ٥ / ٤٦١ كتاب القضاء- أدب القاضي، وفي تاريخ الطبري ٥ / ٢٢١ قالت عائشة: وددت أَني متُّ قبل يوم الجمل بعشرين سنة. وفي العقد الفريد ٢ / ٢٨٨ عند ذكر أصحاب الجمل، ومعارف ابن قتيبة ص ٥٩ قيل لعائشة: ندفنك مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت: لا.

٧٨

وخيار الاُمّة من كلّ ما يرون من الخير، إلى أنْ ظهرت الحروريّة المارقة، فقاتلوا أمير المؤمنين علياً ومَن معه، فقتلهم بأمر الله تعالى ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ طاعةً لقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الطائفة المارقة يقتلها أدنى الطائفتين إلى الحقِّ، فكان علي بن أبي طالب ومَن معه هم الذين قاتلوهم؛ فدلَّ كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على أنّهم أدنى إلى الحقِّ من معاوية ومَن معه(١) .

وقال: كلّ فرقة من المتشيّعين مُقرّة بأنّ معاوية ليس كفؤاً لعليّعليه‌السلام بالخلافة، ولا يجوز أنْ يكون خليفة مع إمكان استخلاف عليّعليه‌السلام ؛ فإنّ فضل عليّ وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله، كانت عنده ظاهرة معروفة، ولمْ يكن بقي من أهل الشورى غيره وغير سعد، وقد ترك سعد هذا الأمر، وتوفّي عثمان فلمْ يبقَ لها معين إلا عليّ(٢) .

وقال الزيلعي، المتوفّى سنة (٧٦٢): كان الحقُّ بيد عليّعليه‌السلام في نوبته، فالدليل عليه؛ قول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّار:«تقتلك الفئة الباغية» ، ولا خلاف أنّه كان مع عليعليه‌السلام وقتَله أصحاب معاوية. ثمّ قال: أجمعوا على أنّ علياً كان مصيباً في قتال أهل الجمل؛ وهم طلحة والزبير وعائشة ومَن معهم، وأهل صفّين؛ وهم معاوية وعسكره. ثمّ قال: لمّا ولي عليّعليه‌السلام الخلافة، وكان معاوية بالشام قال: لا ألي له شيئاً، ولا اُبايعه، ولا أقدِم عليه(٣) .

وقال ابن القيّم الجوزيّة، المتوفّى سنة (٧٥١): كان عليّ في وقته سابق الاُمّة وأفضلها، ولمْ يكن فيهم حين وليها أولى بها منه(٤) .

وقال أبو عبد الله بن محمّد بن مفلح الحنبلي، المتوفّى سنة (٧٦٣): كان عليّعليه‌السلام أقرب إلى الحقِّ من معاوية، وأكثر المنصفين في قتال أهل البغي يرى القتال من ناحية عليعليه‌السلام ، ومنهم من يرى الإمساك. وقال ابن هبيرة في حديث أبي بكرة في ترك القتال في الفتنة، أي في قتل عثمان: فأمّا ما جرى بعده، فلمْ يكن لأحد من المسلمين التخلّف عن عليّعليه‌السلام ، ولمّا تخلّف عنه سعد وابن عمر واُسامة ومحمد

____________________________

(١) مجموع فتاوى ابن تيمية ٢ / ٢٥١.

(٢) المصدر نفسه ٤ / ٢٢٤.

(٣) نصب الراية ٤ / ٦٩ في تخريج أحاديث الهداية- كتاب أدب القاضي.

(٤) بدائع الفوائد ٣ / ٢٠٨ لابن القيّم الجوزية.

٧٩

ابن مسلمة ومسروق والأحنف ندموا. وكان عبد الله بن عمر يقول عند الموت: إنّي أخرج من الدنيا وليس في قلبي حسرة، إلا تخلّفي عن عليّعليه‌السلام . وكذا روي عن مسروق وغيره؛ بسبب تخلفهم(١) وقال ابن حجر العسقلاني، المتوفّى سنة (٨٥٢): كان الإمام علي بن أبي طالب على الحقِّ والصواب في قتال مَن قاتله في حروبه: الجمل وصفّين وغيرهما(٢) .

ويحكي محمود العيني، المتوفّى سنة (٨٥٥) عن الجمهور: أنّهم صرّحوا بأنّ علياًعليه‌السلام وأشياعه كانوا مصيبين؛ إذ كان عليّعليه‌السلام أحقَّ الناس بالخلافة، وأفضل مَن على وجه الدنيا حينئذ(٣) .

وقال ابن حجر الهيثمي، المتوفّى سنة (٩٧٤): إنّ أهل الجمل وصفّين رموا علياًعليه‌السلام بالمواطاة مع قتلة عثمان، وهو بريء من ذلك وحاشاه(٤) . ثمّ قال: ويجب على الإمام قتال البغاة؛ لإجماع الصحابة عليه، ولا يقاتلهم حتّى يبعث إليهم أميناً عدلاً فطناً ناصحاً يسألهم عمّا ينقمونه على الإمام؛ تأسّياً بعليّعليه‌السلام في بعثه

____________________________

(١) الفروع ٣ / ٥٤٢ - ٥٤٣.

(٢) فتح الباري ١٢ / ٢٤٤ كتاب استتابة المرتدّين - باب ترك قتال الخوارج.

(٣) عمدة القاري ١١ / ٣٤٦ كتاب الفتن.

(٤) في الكامل لابن الأثير ٢ / ٢٤٠، كان محمّد بن سيرين يقول: ما علمت أن علياً اتُّهم في قتْل عثمان حتّى بويع، إتّهمه الناس. وفي التمهيد للباقلاني ص٢٣٥ كان عليعليه‌السلام يقول بالبصرة: «والله ما قتلت عثمان، ولا مالأت على قتله، ولكنّ الله قتله وأنا معه» فظنّ قوم أنه أخبر عن نفسه بالقتل بقوله: «وأنا معه» وإنّما أراد الله أن أماته ويميتني معه؛ لأنّه حلف وهو الصادق: أنّه ما قتله ولا مالأ عليه. وفي العقد الفريد ٢ / ٢٧٤ في باب براءة علي من دم عثمان: كان عليعليه‌السلام في الكوفة يقول: «ولئن شاءت بنو اُمية لاُباهلنّهم عند الكعبة خمسين يميناً ما بدأت في حقِّ عثمان بشيء». وفي مجموع الفتاوى المصريّة لابن تيمية ٤ / ٢٢٤ كان عليعليه‌السلام يحلف وهو البار الصادق بلا يمين: أنه لم يقتل عثمان، ولا رضي بقتله. وفي تاج العروس ٨ / ١٤١ مادة (نفل)، النفل: الحلف، ومنه حديث عليعليه‌السلام : «لوددت أن بني اُمية رضوا، ونفلنا خمسين من بني هاشم يحلفون ما قتلنا عثمان، ولا نعلم له قاتلاً»، أي: حلفنا لهم خمسين يميناً على البراءة. وفي إصلاح المنطق لابن السكيت ص١٧٠ باب ما يُهمز وترك العامة همزه، في مادة (ملأ): يروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: «والله ما قتلت عثمان، ولا مالأت على قتله»، والتمالؤ: الإجتماع على الأمر. وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص٦٠، قُتل المغيرة بن الأخنس يوم الدار مع عثمان، فقال ابنه شعراً يعذر علياً عن الإشتراك مع القوم، فقال من أبيات:

فأمّا علي فاستغاث ببيته

فلا آمرٌ فيها ولم يك ناهيا

ولابن أبي الحديد كلمة في شرح النهج ١ / ١١٢ تدل على فقهه بالحوادث فقال: كان معاوية شديد الإنحراف عن عليعليه‌السلام ؛ لأنه يوم بدر قتل أخاه حنظلة، وخاله الوليد، وشرك في جدِّه عتبة أو عمّه شيبة، وقتل من أعيان بني عبد شمس وأمثالهم نفراً كثيراً؛ فمن هناك أشاع نسبة قتل عثمان إليه أو انضواء القتلة إليه. وفي الكامل للمبرد ٢ / ٢٤٠ كان عروة بن الزبير يقول: كان عليعليه‌السلام أتقى لله من أن يعين على قتل عثمان.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437