مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)0%

مقتل الامام الحسين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: ISBN: 964-8163-70-7
الصفحات: 437
المشاهدات: 218108
تحميل: 7920

توضيحات:

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 218108 / تحميل: 7920
الحجم الحجم الحجم
مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مقتل الامام الحسين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: 964-8163-70-7
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

شيئاً من ذلك حتّى ساعة الموت، وممّا يشهد لذلك قول الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام :

«إنّي لأعجب من قوم يتولونا ويجعلونا أئمّة، ويصفون أنّ طاعتنا مفترضة كطاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم يكسرون حجّتهم! ويخصّون أنفسهم؛ لضعف قلوبهم، فينقصونا حقّنا! ويعيبون ذلك على مَن أعطاه الله برهان حقِّ معرفتنا والتسليم لأمرنا! أترون الله تعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ثم يُخفي عليهم أخبار السّماء، ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم؟!» . فقال له حمران: يابن رسول الله، أرأيت ما كان من قيام أمير المؤمنين والحسن والحسينعليهم‌السلام ، وخروجهم وقيامهم وما اُصيبوا به من قبل الطواغيت والظفر بهم حتّى قتلوا وغلبوا؟.

فقال له أبو جعفرعليه‌السلام :«يا حمران، إنّ الله تبارك وتعالى قدَّر ذلك عليهم، وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار، ثم أجراه عليهم. فبتقدم علم إليهم من رسول الله قام علي والحسن والحسين، ويعلم منه صمت مَن صمت منّا، ولو أرادوا أن يدفع الله تعالى عنهم، وألحوا عليه في إزالة ملك الطواغيت؛ لكان ذلك أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد! وما أصابهم ليس لذنب اقترفوه، ولا لمعصية خالفوا الله فيها؛ ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغهم إيّاها، فلا تذهبن بك المذاهب يا حمران!» (١) .

ومن إشعاعات هذا الحديث الشريف تظهر أسرار غامضة، وحكم إلهيّة اختصّ الله بها أولياءه، خزّان وحيه، وبها ميّزهم عن سائر البشر، وهي:

أ - علمهم بكلّ شيء، وعدم انقطاع أخبار السّماء عنهم. وعمومه شامل للموضوعات بأسرها.

ب - إنّ ما جرى عليهم من الأخطار، وقهر أرباب الجور ناشئٌ عن مصالح لا يعلمها إلا المهيمن جلّ شأنه.

ج - إنّ ما صدر منهم؛ من الحرب والجهاد، والقتل في سبيل الدعوة الإلهيّة،

____________________________

(١) الكافي (في هامش مرآة العقول) ١ / ١٩٠ باب انهم يعلمون ما كان، وبصائر الدرجات ص ٣٣، والخرائج ص ١٤٣، طبعة الهند.

٦١

والسّكوت عمّا يفعله أئمّة الضلال، ومشاهدتهم تمادي الاُمّة في الطغيان، وإقدامهم على ما فيه استئصال حياتهم القدسيّة؛ طاعة لأوامر المولى الخاصّة بهم، وانقياداً لتكليفه بلا إلجاء من الله لهم في شيء من ذلك، وإنّما هم مختارون فيه، كاختيار غيرهم في جميع التكاليف.

د - التسليم للقضاء المحتوم والأجل المبرم، وعدم التوسّل إلى الباري تعالى في إزاحة العلّة؛ لينالوا بالشهادة - التي هي أشرف الموت - الدرجات الرفيعة، والمنازل العالية التي لا تحصل إلا بهذا النوع من إزهاق النفس.

وفي نفس هذه العلّة أجاب أبو الحسن الرضاعليه‌السلام مَن سأله عن جواز تعريض أمير المؤمنينعليه‌السلام نفسه للقتل، مع علمه بالسّاعة والقاتل، فقالعليه‌السلام :«لقد كان كلّ ذلك، ولكنّه خير تلك الليلة؛ لتمضي المقادير» (١) ، فدلّنا هذا وأمثاله على أنّ إقدام أهل البيتعليهم‌السلام على ما فيه التهلكة، إنّما هو من باب الطاعة، وامتثال التكليف الموجّه إليهم خاصّة، فلا يتطرّق إلى ساحة علمهم نقص. ولا أنّ إقدامهم على ما فيه الهلكة ممّا يأباه العقل. وإليه ذهب المحققون من أعلام الإماميّة.

فيقول الشيخ المفيد في جواب المسائل العكبريّة: لسنا نمنع أن يعلم الإمام أعيان ما يحدث على التفصيل والتمييز، ويكون بإعلام الله تعالى. كما لا نمنع أن يتعبّد الله أميرَ المؤمنين بالصبر على الشهادة والاستسلام للقتل؛ فيبلغه بذلك علوّ الدرجة ما لا يبلغه إلا به، فيطيعه في ذلك طاعة لو كلّفها سواه لم يردها. ولا يكون أمير المؤمنين ملقياً بيده إلى التهلكة، ولا معيناً على نفسه معونة تستقبح في العقول، ولا يلزم فيه ما يظنّه المعترّضون. كما لا نمنع أن يكون الحسينعليه‌السلام عالماً بموضع الماء وأنّه قريب منه بقدر ذراع، فلو حفر لنبع له الماء. فامتناعه من الحفر لا يكون فيه إعانة على نفسه؛ بعد أن يكون متعبّداً بترك السّعي في طلب الماء حيث يكون ممنوعاً منه، ولا يستبعد العقل ذلك ولا يقبّحه. وكذلك في علم الحسنعليه‌السلام بعاقبة موادعة معاوية، فقد جاء الخبر بعلمه به، وكان شاهد الحال يقضي به، غير أنّه دفع به عن تعجيل قتله وتسليم أصحابه إلى معاوية؛ وكان في ذلك لطف في بقائه إلى

____________________________

(١) أصول الكافي على هامش مرآة العقول ١ / ١٨٨.

٦٢

حال مضيه، ولطف لبقاء كثير من شيعته وأهله وولده. ودفعُ فسادٍ في الدين أعظم من الفساد الذي حصل عند هدنته. وكانعليه‌السلام عالماً بما صنع، ولكن الله تعالى تعبده بذلك (١) .

ويقول العلامة الحلي في جواب مَن سأله عن تعريض أمير المؤمنين نفسه للقتل: بأنه يُحتمل أن يكون قد اُخبر بوقوع القتل في تلك الليلة وفي أي مكان يقتل، وأن تكليفه مغاير لتكليفنا، فجاز أن يكون بذلُ مهجته في ذات الله واجباً، كما يجب الثبات على المجاهد وإن كان ثباته يُفضي إلى القتل(٢) .

ويقول الشيخ الجليل يوسف البحراني: إنّ رضاهم بما ينزل بهم من القتل بالسّيف أو السمِّ، وكذا ما يقع بهم من الهوان على أيدي أعدائهم الظالمين، مع كونهم عالمين قادرين على دفعه، إنّما هو لما علموه من كونه مرضياً له سبحانه وتعالى، ومختاراً بالنسبة إليهم، وموجباً للقرب من حضرة قدسه. فلا يكون من قبيل الإلقاء باليد إلى التهلكة الذي حرّمته الآية، إذ هو ما اقتُرن بالنهي من الشارع نهي تحريم، وهذا ممّا عُلم رضاه به واختياره له، فهو على النقيض من ذلك. إلا أنّه ربّما ينزل بهم شيء من تلك المحذورات قبل الوقت المعدود والأجل المحدود، فلا يصل إليهم منه شيء من الضر ولا يتعقبه المحذور والخطر. فربّما امتنعوا منه ظاهراً، وربّما احتجبوا منه باطناً، وربّما دعوا الله في رفعه عنهم حيث علموا أنّه غير مراد الله سبحانه في حقّهم ولا مقدّر عليهم حتماً. وبالجملة: أنّهمعليهم‌السلام يدورون مدار ما علموه من الأقضية والأقدار، وما اختاره لهم القادر القهّار المختار(٣) . وعلى هذا مشى العلامة المجلسي والمحقق الكركي والحسن بن سليمان الحلّي من تلامذة الشهيد الأول وغيرهم.

علم الحسين بالشهادة

لقد تجلّى بما بيّناه تحبيذ العقل والشرع الإقدام على الهلكة إذا تحققت هناك مصلحة تقاوم مفسدة الهلكة؛ من إبقاء دين وشريعة أو إبراز حقيقة لا تظهر إلا به

____________________________

(١) المسائل العكبريّة - المسألة العشرون.

(٢) حكاه عنه المجلسي في مرآة العقول ١ / ١٨٩، وبحار الانوار ٩ / ٦٦٣.

(٣) الدرر النجفية / ٨٥.

٦٣

كما في أمر الحسينعليه‌السلام يوم وقف ذلك الموقف المدهش، فتلا على الملأ صحيفة بيضاء رتّلتها الحقب والأعوام.

فلقد عرَّف صلوات الله عليه بنهضته المقدّسة الاُمم الحاضرة والمتعاقبة أعمال الاُمويين، ومَن سنّ لهم خرق نواميس الشريعة والتعدي على قداسة قوانينها، وقد استفادت الاُمم من إقدام أبي الضيمعليه‌السلام على الموت، وبذله كلّ ما لديه - من جاه وحرمات في سبيل تأييد الدعوة المحمديّة - دروساً عالية، وعرفوا كيفية الثبات على المبدأ، وأنّه يستهان في تحرير النفوس عن الجور، وانقاذها من مخالب الظلم كلُّ غال ورخيص.

وإذا كان محمّد بن الحسن الشيباني ينفي البأس عن رجل يحمل على الألف، مع فقد احتمال النجاة أو النكاية بالعدو، ولا يكون هذا الإقدام منه إلقاءً بالتهلكة؛ لأنّ فيه نفع المسلمين، وتقوية عزائمهم، وبعث روح النشاط للدفاع عن المبدأ والموت تحت راية العز(١) ، فأبو عبد الله الحسينعليه‌السلام يفضل كلَّ أحد. فإنّه بإقدامه على أولئك الجمع المغمور بالاضاليل وإن أزهق نفسه المقدّسة ونفوس الأزكياء من أهل بيته وصحبه، وعرَّض حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للسلب والأسر، إلا أنّه سجّل أسطراً نوريّة على جبهة الدهر في أحقيّة نهضته، وبطلان تمويهات عدوّه الحائد عن سنن الحقِّ المتمرد في الطغيان، فهو الفاتح المنصور، وإنّ المتجهر عليه راسب في بحر الضلال، هاتك لحرمات الله تعالى، متعدٍّ على نظم الإسلام التي قرّرها صاحب الدعوة الإلهية.

وإنّي لأعجب ممَّن يذهب إلى أن الحسينعليه‌السلام كان يظنّ موافقة الكوفيين له وقد تخلّف ظنّه!، فإنّا لو تنزّلنا وقلنا: بأنّ الحسينعليه‌السلام لمْ يكن عنده العلم العام لِما كان ويكون وما هو كائن، ولكن أين يذهب عنه العلم بما يقع من الحوادث بواسطة إخبار جدّه وأبيه الوصي، بأنّه مقتول بأرض كربلاء، ممنوع من الورود ومعه ذووه وصحبه قضاءً محتوماً؟. أليس هو الذي أعلم اُمَّ سلمة بقتله - حين أبدت له خوفها من سفره هذا؛ لأنّ الصادق المصدّق الذي لا ينطق عن الهوىصلى‌الله‌عليه‌وآله أعلمها

____________________________

(١) أحكام القرآن للجصاص ١ / ٣٠٩.

٦٤

بقتله - بأرض كربلاء ممنوعاً عن الورود؟.

وفيما قال لها:«إنّي أعلم اليوم الذي اُقتل فيه، والسّاعة التي اُقتل فيها، وأعلم مَن يُقتل من أهل بيتي وأصحابي. أتظنّين أنّكِ علمت ما لمْ أعلمه؟ وهل من الموت بدٌّ! فإنْ لمْ أذهب اليوم ذهبتُ غداً».

وقال لأخيه عمر الأطرف:«إنّ أبي أخبرني بأنّ تربتي تكون إلى جنب تربته، أتظنّ أنّك تعلم ما لمْ أعلمه؟» . وقال لأخيه محمّد بن الحنفيّة:«شاء الله أن يراني قتيلاً، ويرى النساء سبايا» .

وقال لابن الزبير:«لو كنتُ في جُحر هامة من هذه الهوام لا ستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم» . وقال لعبد الله بن جعفر:«إنّي رأيت رسول الله في المنام، وأمرني بأمر أنا ماضٍ له» . وفي بطن العقبة قال لِمَن معه:«ما أراني إلا مقتولاً، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني، وأشدّها عليَّ كلبٌ أبقع» . ولمّا أشار عليه عمرو بن لوذان بالإنصراف عن الكوفة إلى أنْ ينظر ما يكون عليه حال الناس، قالعليه‌السلام :«ليس يُخفى عليَّ الرأي، ولكن لا يُغلب على أمر الله. وإنّهم لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي» .

إلى غير ذلك من تصريحاته وتلويحاته في المدينة ومكّة والطريق إلى الكوفة - كما ستقرؤها بتمامها - فإنّها شاهدة على أنّهعليه‌السلام كان على علم ويقين بأنّه مقتول في اليوم الموعود به بأرض كربلاء. ثم هل يتردّد أحد في هذا وهو يقرأ خطبته بمكّة حين أراد السّفر منها إلى العراق، التي يقول فيها:«كأنّي بأوصالي هذه تُقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن منّي أكراشاً جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم» ؟.

فدلّت هذه الأجوبة من الحسينعليه‌السلام - لِمَن طلب منه التريّث في السّفر أو الذهاب في أرض الله العريضة - على وقوف سيّد الشهداء على أمره، ولمْ تخفَ عليه نوايا الكوفيّين. ولكنّه سرٌّ إلهي تعلق به خاصة؛ ولأجل إلقاء الحُجّة على هذا الخلق المتعوس كانت استغاثاته وانتصاراته يوم الطّف قبل نشوب الحرب وبعده.

وإنّما لمْ يصارح بما عنده من العلم لكلّ مَن رغب في إعراضه عن السّفر إلى

٦٥

الكوفة؛ لعلمه بأنّ الحقائق لا تفاض لأيّ متطلب بعد اختلاف الأوعية، سعةً وضيقاً، وتباين المرامي قرباً وبُعداً؛ فلذلك كانعليه‌السلام يجيب كلّ أحد بما يسعه ظرفه، وتتحمّله معرفته وعقليّته. فإنّ علم أهل البيتعليهم‌السلام صعب مستصعب، لا يتحمّله إلا نبي مرسل، أو ملك مقرّب، أو مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان.

الحسين فاتح

كان الحسينعليه‌السلام يعتقد في نهضته أنّه فاتح منصور؛ لِما في شهادته من إحياء دين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإماتة البدعة، وتفظيع أعمال المناوئين، وتفهيم الاُمّة أنّهم أحقّ بالخلافة من غيرهم. وإليه يشير في كتابه إلى بني هاشم:«مَن لَحِقَ بنا منكم استشهد، ومَن تخلّف لمْ يبلغ الفتح» (١) .

فإنّه لمْ يرد بالفتح إلا ما يترتب على نهضته وتضحيته من نقض دعائم الضلال، وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة، وإقامة أركان العدل والتوحيد، وأنّ الواجب على الاُمّة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدينعليه‌السلام لإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله، لمّا قال له حين رجوعه إلى المدينة: مَن الغالب؟ فقال السّجادعليه‌السلام :«إذا دخل وقت الصلاة، فأذِّن وأقِم، تعرف الغالب» (٢) .

فإنّه يشير إلى تحقّق الغاية التي ضحّى سيّد الشهداءعليه‌السلام بنفسه القدسيّة لأجلها، وفشل يزيد بما سعى له من إطفاء نور الله تعالى، وما أراده أبوه من نقض مساعي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإماتة الشهادة له بالرسالة بعد أنْ كان الواجب على الاُمّة في الأوقات الخمس الإعلان بالشهادة لنبيّ الإسلام؛ ذلك الذي هدم صروح الشرك، وأبطل العبادة للاصنام. كما وجب على الاُمّة الصلاة على النبيِّ وآله الطاهرين في التّشهُدَين، وأنّ الصلاة عليه بدون الصلاة على آله، بتراء(٣) .

____________________________

(١) كامل الزيارات / ٧٥، بصائر الدرجات١٠ / ١٤١.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي / ٦٦.

(٣) الصواعق المحرقة / ٨٧، كشف الغمّة ١ / ١٩٤، ولاحظ كتابنا (زين العابدين) ص٣٧١.

٦٦

كما أنّ العقيلة ابنة أمير المؤمنينعليها‌السلام ، أشارت إلى هذا الفتح بقولها ليزيد: فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا يرحض عنك عارها وشنارها.

إنّ المتأمل في حادثة الطفّ يتجلّى له؛ أنّ هذه الشهادة أعظم من يوم بدر، وإنْ كان هو أول فتح إسلامي؛ لأنّ المسلمين يومئذ خاضوا غمرات الموت تحت راية النبوّة، وقد احتفّ بهم ثلاثة آلاف من الملائكة مسوّمين، وهتاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنصر والظهور على العدوّ ملء مسامعهم، فقابلوا طواغيت قريش مطمئنين بالغلبة.

وأمّا مشهد الطفِّ، فالمقاسات فيه أصعب، والكرب أشدّ. وقد التطمت فيه أمواج الحتوف، وكشّرت الحرب عن نابها، وأخذ بنو اُميّة على سبط النبيِّ أقطار الأرض، وآفاق السّماء.

عـشـيـة أنـهضها بغيُها

فـجـاءتـه تركبُ طغيانَها

بجمع من الأرض سدَّ الفروج

وغـطّـى النجود وغيطانَها

وطا الوحش إذ لم يجد مهرباً

ولا زمـت الـطـير أوكانَه

لكن عصبة الحقِّ لمْ يثن من عزمهم شيء، فقابلوا تلك الأخطار من غير مدد يأملونه، أو نصرة يرقبونها. وقد انقطعت عنهم خطوط الوسائل الحيويّة حتّى الماء الذي هو أوفر الأشياء، والناس فيه شرع سواء، وضوضاء الحرم من الشر المقبل، وصراخ الأطفال من الاوام المبرح في مسامعهم، إلا أنّهم تلقّوا جبال الحديد بكلّ صدر رحيب، وجنان طامن. ولم تسلُ تلك النفوس الطاهرة إلا على فتل اُميّة المنقوض، ولا اُريقت دماؤهم الزاكية إلا على حبلهم المنتكث؛ فكان ملك آل حرب كلعقة الكلب أنفه حتّى اكتسحت معرّتهم عن أديم الأرض.

ولقد أجاد شاعر أهل البيتعليهم‌السلام بقوله:

لَو لَمْ تكن جُمعت كلُّ العُلا فينا

لـكان ما كان يوم الطفِّ يكفينا

يـومٌ نهضنا كأمثال الاُسود به

وأقـبلت كـالدبا زحفاً أعادينا

جاؤوا بـسبعين ألفاً سَلْ بقيتَهم

هل قابلونا وقد جئنا بسبعينا(١)

____________________________

(١) شعراء الغري ١ / ٣٨٧، والشاعر هو السيّد باقر الهندي نوّر الله ضريحه.

٦٧

فيوم الطفّ فتح أسلامي بعد الجاهليّة المستردة من جرّاء أعمال الاُمويِّين، ولفيفهم الذين لمْ يستضيئوا بذلك الألق السّاطع؛ نور التوحيد وشعاع النبوّة.

إنّ الحسين لمْ يكن قاصداً في خروجه محضَّ السلطنة، والرئاسة، وخفقان الرايات. فإنّه لو كان هذا غرضه؛ لاتّخذ الوسائل الموصلة إليه وهو أعرف بها، ولمْ يذع إلى مَن كان معه من الأعراب قتله، وهلاك مَن معه، واستسلام عائلته للأسر؛ فيتفرّق جيشه، وتتضاءل قواه الصوريّة. لكن نفسه المقدّسة - وهكذا الأحرار - أبت كتمان الأمر وإيهام الحال حتّى أختبرهم بالإذن في المفارقة، فذهب عنه مَن كان همُّه الطمع، وأبى أولئك الصفوة إلا مواساته ونصرته. فلا الجبن يطرق ساحتهم، ولا الانكسار يبين في مجاليهم؛ لأنّ ذلك شأن الآيس من غايته، والقوم كانوا على يقين من الظفر بالأمنية، كما تنم عنه كلماتهم التي أجابوا الحسينعليه‌السلام بها لمّا أنبأهم - ليلة عاشوراء - بحراجة الموقف، ورفع عنهم البيعة، وخلّى لهم السبيل، فقالوا: الحمد لله الذي شرّفنا بالقتل معك. ولو كانت الدنيا باقية، وكنّا فيها مخلَّدين؛ لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها. فوجدهمعليه‌السلام متفانين في الجهاد معه، والذبِّ عن قدس الشريعة. وتلا على الملأ سطراً من صحيفتهم البيضاء بقوله:«إنّي لا أجد أصحاباً أوفى من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ وأوصل من أهل بيتي» (١) .

وإنّي لأعجب من الرواة وحملة التاريخ، حيث توسّعوا في النقل، فقذفوا اُولئك الأطهار بما يندى منه وجه الإنسانيّة، ويأباه الوجدان الصادق، فقيل: كان القوم بحالة ترتعد فرائصهم، وتتغير ألوانهم كلمّا اشتد الحال إلا الحسين، فإنّ أسرّة وجهه تشرق كالبدر المنير!!(٢) .

وهذا بعد أن أعوزتهم الوقيعة في شهيد العزّ والإباء، فلمْ يجدوا للغمز فيه نصيباً؛ فمالوا على صحبه وأهل بيته! وليس هذا إلا من الداء الدفين، بين أضالع قوم دافوا السمَّ في الدسم إلى سذّجٍ حسبوه حقيقة راهنة، فشوّهوا وجه التاريخ.

____________________________

(١) الكامل في التاريخ ٤ / ٢٤.

(٢) نَفَس المهموم ص ١٣٥ عن معاني الأخبار، وبحار الانوار٣ / ١٣٤ باب سكرات الموت، وكذلك في البحار ١٠ / ١٦٧ عن معاني الأخبار.

٦٨

غير أنّ البصير النّاقد لا تخفى عليه نفسيّة القوم، ولا ما جاؤوا به.

وأعجب من ذلك، قول زجر بن قيس الجعفي ليزيد: إنّا أحطنا بهم، وهم يلوذون عنّا بالآكام والحفر، لواذ الحمام من الصقر!!(١) . بفيك الكثكث أيّها القائل، كأنّك لمْ تشاهد ذلك الموقف الرهيب، فترى ما للقوم من بسالة وإقدام، ومفاداة دون الدِّين الحنيف حتّى أغفل يومهم مع ابن المصطفى أيّام صِفين وما شاكلها من حروب دامية، وحتّى أخذت أندية الكوفة لا تتحدّث إلا بشجاعتهم.

أجل، إنّ تلك الأحوال أدهشتك فلمْ تدرِ ما تقول! أو أنّ الشقّة بعدت عليك فنسيت ما كان. ولكن هل غاب عن سمعك صراخ الأيتام، وعويل الأيامى في دور الكوفة حتّى طبق أرجاءها من جرّاء ما أوقعه أولئك الصفوة بأعداء الله وأعداء رسوله بسيوفهم الماضية؟!. والعذر لك إنّك أدركت ساعة العافية، فطفقت تشوّه مقامهم المشكور؛ طلباً لمرضاة (يزيد الخمور).

ولقد صرّح عن صدق نيّاتهم عدوّهم الألد، عمرو بن الحجّاج، محرّضاً قومه: أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر، وقوماً مستميتين لا يبرز إليهم أحد منكم إلا قتلوه على قلتهم. والله لو لمْ ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم(٢) .

وقيل لرجل شهد الطفّ مع ابن سعد: ويحك أقتلتم ذريّة الرسول؟! فقال: عضضت بالجندل، إنّك لو شهدت ما شهدنا؛ لفعلت ما فعلنا. ثارت علينا عصابة، أيديها على مقابض سيوفها كالاُسود الضارية، تحطّم الفرسان يميناً وشمالا، تلقي نفسها على الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين المنية أو الاستيلاء على الملك. فلو كففنا عنها رويداً؛ لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين لا اُمّ لك؟!(٣) .

وشهد لهم بذلك كعب بن جابر، فانه لمّا قتل بريراً؛ عتبت عليه زوجته

____________________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٣١٣.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ٣٠٧.

٦٩

وقالت: أعنت على ابن فاطمة! وقتلت سيّد القرّاء! لقد أتيت عظيماً من الأمر! والله لا اُكلّمك من رأسي كلمة واحدة. فقال يخاطبها من أبيات.

ولـمْ تـرَ عيني مثلهم في زمانهم

ولا قـبلهم في الناس إذ أنا يافعُ

أشـدَّ قراعاً بالسّيوف لدى الوغى

ألا كـلّ مَـن يحمي الذمار مقارعُ

وقد صبروا للضرب والطعن حسّرا

وقـد نـازلوا لو أنّ ذلك نافعُ(١)

ثمّ أي فرد منهم أقلقه الحال حتّى ارتعدت فرائصه؟ أهو زهير بن القين الذي وضع يده على منكب الحسين، وقال مستأذناً:

أقدم هديت هادياً مهديا

فاليوم ألقى جدَّك النبيا

أم ابن عوسجة الذي يوصي حبيب بن مظاهر بنصرة الحسينعليه‌السلام ، وهو في آخر رمق من الحياة، فكأنّه لمْ يقنعه في المفاداة، كلّ ما لاقاه من جهد وبلاء؟.

أم أبو ثمامة الصائدي الذي لم يهمّه في سبيل السّير إلى ربّه تعالى، كلّ ما هنالك من فوادح وآلام، إلا الصلاة التي دنا وقتها؟.

أم سعيد الحنفي الذي استُهدف لهم عند الصلاة حتّى سقط؛ لكثرة نزف الدم، فيقول للحسينعليه‌السلام : أوفيتُ يابن رسول الله؟.

أم ابن شبيب الشاكري الذي يلقي جميع لامته؛ لتقرب منه الرجال فيموت، في حين نرى الكماة الأبطال المعروفين بالشجاعة والإقدام، يتدرعون للحرب؛ كيلا يخلص إليهم ما يزهق نفوسهم؟.

أم جون الذي يأذن له الحسينعليه‌السلام في الإنصراف، فيقع على قدميه يقبّلهما، وهو يبكي ويقول: إنّ لوني لأسود، وحسبي لئيم، وريحي منتن، فتنّفس عليَّ بالجنة؛ ليبيضَّ لوني، ويشرف حسبي، ويطيب ريحي؟.

وإذا تأملنا قول أبي جعفر الباقرعليه‌السلام :«إنَّ أصحاب جدّي الحسين لم يجدوا ألم مسّ الحديد» (٢) .

وضّح ما عليه أولئك الأطايب من الثبات، وأنّهم غير مكترثين بما لاقوه من

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٧.

(٢) الخرائج للراوندي / ١٣٨.

٧٠

ألم الجراح؛ ولعاً منهم بالغاية، وشوقاً إلى جوار المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولا تستغرب هذا، فمَن يعرف حالة العاشق، وأنّه عند توجّه مشاعره نحو المحبوب لا يشعر بما يلاقيه من عناء ونكد. ولقد حكى المؤرّخون: أنّ كثيّراً الشاعر(١) كان في خبائة يبري سهاماً له، فلمّا دخلت عليه عَزّة ونظر إليها أدهشه الحال، فأخذ يبري أصابعه، وسالت الدماء وهو لا يحسّ بالألم(٢) .

ويتحدّث الرواة: أنّ شاباً من الأنصار استقبل امرأة فأعجبته فأتبعها النظر؛ فدخلت في زقاق وهو خلفها ينظر إليها، فاعترضت وجهه زجاجة في حائط؛ فشقت وجهه وهو لا يشعر، فلمّا مضت المرأة رأى الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحكى له، فنزل قوله تعالى:( قُل لِّلمُؤمنينَ يَغُضُّوا من أَبصَارِهِمْ ) (٣) .

ويحدّث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأنّ الشهيد المقتول في سبيل الدعوة الإلهيّة لا يجد من مسِّ القتل، إلا كما يجد الإنسان من مسِّ القرصة(٤) .

وأمّا رشيد الهجري(٥) ، فإنّه لمّا دعاه ابن زياد، وسأله عمّا أخبره أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، قال: بلى، دخلت عليه يوماً وعنده أصحابه، وكان في بستان، فدعا

____________________________

(١) الاغاني ٢ / ٣٧.

(٢) في الموشح للمرزباني / ١٤٤ عند ذكر الشاعر كثيّر عزّة، عن أبي عبيدة، أنّ محمّد بن عليعليه‌السلام قال لكثيّر:«تزعم أنك من شيعتنا وتمدح آل مروان؟!» فقال: إنّما أسخر منهم، وأجعلهم حيات وعقارب وآخذ أموالهم.

(٣) الكافي ٣ / ٥١١ باب ١٦٠ ما يحل النظر إليه من المرأة عن الباقرعليه‌السلام ، وعنه في تفسير البرهان ٣ / ٧٣١ في تفسير الآية ٣٠ من سورة النور.

(٤) تيسير الوصول لابن الديبع ١ / ١٢٩، وكنز العمال ٢ / ٢٧٨ فضل الشهادة.

(٥) في الخلاصة للعلامة الحلّي: رشيد بضم الراء المهملة، وفي رجال أبي داود: الهجري بفتحتين، ومثله السيوطي في لب اللباب / ٢٧٧ باب الهاء، وفي أنساب السمعاني: هجري بفتح الهاء والجيم وكسر الراء وفي اخره ياء، النسبة إلى هجر: بلاد باليمن من أقصاها. والمشهور بهذه النسبة جماعة ذكرهم ومنهم: رشيد من أهل الكوفة يروي عن أبيه. وفي تاريخ البخاري ج١ القسم الثاني ص٣٠٥: يروي عن أبيه عن عبد الله، وأنّهم تكلّموا فيه. وفي اللباب لابن الاثير ٣ / ٢٨٥: رشيد الهجري، نسبة إلى بلد معروف باليمن. وأمّا هجر التي قرب المدينة، فذكر ابن القيسراني في الأنساب المتفقة / ٢٢٣، وتاج العروس، ولسان العرب مادّة هجر، وابن الاثير في النهاية، واختلف في القلتين المنسوبة إلى هجر؛ ففي وفاء الوفاء للسمهودي ٢ / ٣٨٦ عن النووي: أنها هجر قرب المدينة، ومثله في مصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس، ونهاية ابن الاثير. وفي آثار البلاد لزكريا بن محمود القزويني / ٢٨٠: نسب إلى هجر التي بالبحرين، وسعتها خمسمئة. وحكاه الزركشي عن الأزهري كما في وفاء الوفاء مادة هجر.

٧١

برطب من نخلة، فقلت له: يا أمير المؤمنين أطيّب هذا الرطب؟ فعرّفهعليه‌السلام بأنّ الدّعيَّ عبيد الله سيحمله على البراءة منه؛ وإلا فيقطع يدَيه ورجلَيه ولسانه ويصلبه على جذع من هذه النخلة. فقال رشيد: آخر ذلك إلى الجنة؟ قالعليه‌السلام :«أنت معي في الدنيا والآخرة» ، قال: إذاً والله لا أتبرّأ منك.

فكان رشيد يختلف إلى تلك النّخلة في النّهار ويسقيها الماء، ويقول: لك غذيت ولي نبت! وما دارت الأيّام حتّى تولّى ابن زياد الكوفة؛ فدعاه وسأله عمّا أخبره به أمير المؤمنين، قال: أخبرني خليلي أنّك تدعوني إلى البراءة منه فلا أبرأ أبداً؛ فتقطع يدي ورجلي ولساني. قال ابن زياد: لأكذبنّ قوله. ثم أمر به فقطعوا يدَيه ورجلَيه وتركوا لسانه، وحُمل إلى أهله؛ فاجتمع عليه الناس وهو يحدّثهم بما أطلعه أمير المؤمنين من علم المنايا والبلايا وفضل أهل البيت، ثمّ قال: أيّها الناس، سلوني إنّ للقوم عندي طِلبة لمْ يقضوها. فأسرع رجل إلى ابن زياد وقال: ما صنعت! قطعت يدَيه ورجلَيه وهو يحدّث الناس بالعظائم! فأمر به بأن يقطع لسانه؛ فمات من ليلته، ثم صُلب(١) على باب دار عمرو بن حُريث(٢) .

تقول ابنته قنواء: سألت أبي عمّا يجده من الآلام، فقال: يا بنيّة، لا أجد إلا كالزحام بين النّاس(٣) . واستفاد رشيد الهجري من صحبة أمير المؤمنينعليه‌السلام علم المنايا والبلايا(٤) ، وكان يخبر الرجل بما يجري عليه؛ فسمّاه أمير المؤمنينعليه‌السلام راشداً(٥) .

وهذا الحال يفيد المتأمّل بصيرة؛ بأنّ كلّ من اتجهت مشاعره نحو المولى سبحانه وتعالى، وتجلّت له المظاهر الربوبيّة، وشاهد ما أعدَّ له من النّعيم الخالد في سبيل دعوة الدِّين؛ هان عليه ألم الجراح. ويؤكّد ما قلنا من ذهول العاشق عندما يشاهد محبوبه عن كلّ ما يرد عليه من الأذى؛ غفلة النّسوة عن ألم قطع المدية أيديهنّ؛

____________________________

(١) رجال الكشي / ٥١.

(٢) ميزان الاعتدال ٢ / ٣٣٩، لسان الميزان ٢ / ٤٦١.

(٣) رجال الكشي / ٥١، بشارة المصطفى / ١١٣، أمالي الطوسي / ١٠٣ مجلس ٦، وقد سُمّيت في هذين الأخيرين (أمة الله).

(٤) بصائر الدرجات ٦ / ٧٣ باب إن الأئمة يعرفون حال شيعتهم، وعنه في بحار الانوار١١ / ٢٤٦ في أحوال الامام موسى بن جعفر- ط كمباني.

(٥) أمالي الطوسي / ١٠٤ المجلس السادس- الطبعة الحجرية الاُولى.

٧٢

لمحض مشاهدة جمال الصدّيق يوسفعليه‌السلام كما حكاه جلّ شأنه( فَلَمّا رَأَينَهُ أَكبَرنَهُ وَقَطّعنَ أَيدِيَهُنّ وَقُلنَ حَاشَ للّهِ‏ِ مَا هذَا بَشَراً إِنْ هذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) (١) .

وإذا لمْ تشعر النّسوة(٢) بمضض الجراح، فليس من الغريب ألا يجد أصحاب الحسينعليه‌السلام - وهم زبدة العالم كلّه - ألم مس الحديد عند نهاية عشقهم لمظاهر الجمال الإلهي، ونزوع أنفسهم إلى الغاية القصوى من القداسة بعد التكهرب بولاء سيّد الشهداءعليه‌السلام :

بـأبـي اُفـدي وجـوهاً مـنهمُ

صـافحوا في كربلا فيها الصِفاحا

أوجـهـاً يـشرقن بـِشراً كـلّما

كـلح الـعامُ ويـقطرن سـماحا

تـتجلّى تـحت ظـلماء الـوغى

كـالمصابيح إلـتماعاً وإلـتماحا

أرخصوا دون ابن بنت المصطفى

أنـفساً تـاقت إلـى الله رواحـا

فـقضوا صـبراً ومـن أعطافهمْ

أرجُ الـعزِّ بـثوب الـدهر فاحا

لـم تـذقْ مـاءاً سـوى منبعثٍ

مـن دم القلب به غصت جراحا

أنـهـلتْ مـن دمـها لـو أنـه

كان من ظامي الحشا يطفى التياحا

اُعـريت فـهي عـلى أن ترتدي

بـنسيج التّرب تمتاح الرياحا(٣)

الحسين مع أصحابه

تمهيد:

إنّ الشريعة المقدّسة أوجبت على النّاس النّهضة؛ لسدّ باب المنكر، والردع عن الفساد. وألزمت الاُمّة بمتابعة الإمام في ردِّ عادية الباغين على الخليفة المنصوب علماً للعباد؛ بعد أنْ يدعوهم إلى التوبة عمّا هم فيه من معاندة الحقّ، والرجوع إلى ساحة الشرع الأعظم، كما في قوله تعالى:( وإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحدَاهُمَا عَلَى الأُخرَى‏ فَقَاتِلُوا التِي تَبغِي حَتّى‏ تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمرِ اللّهِ ) (٤) ،

____________________________

(١) سورة يوسف الآية ٣١.

(٢) في ديوان الصبابة (في هامش تزيين الاسواق) / ٣٩: بلغ عدد اللائي قطعن أيديهم أربعين امرأة، منهن تسع شوقاً ووجداً.

(٣) من قصيدة في الحسينعليه‌السلام للسيّد عبد المطّلب الحلّي ذُكرت بتمامها في شعراء الحلة ٣ / ٢١٤.

(٤) الحجرات آية ٩.

٧٣

وقد نهض أمير المؤمنينعليه‌السلام أيّام خلافته؛ للدفاع عن قدس الشريعة، وتنبيه الاُمّة عن رقدة الجهل. وكان الواجب على الناس الفيء إليه؛ لأنّه إمام الحقِّ، المفروضة طاعته. وقد اعترف جمهور المسلمين بتماميّة البيعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وحكموا بأنّ قتاله لمن خرج عليه حقٌّ، وهذه كلماتهم التي سجّلوها في صحفهم، شواهد متقنة على هذه الدعوى المدعومة بالعقل والنّقل.

فهذا أبو حنيفة يقول: ما قاتل أحد علياً إلا وعلي أولى بالحقِّ منه. ولولا ما سار عليعليه‌السلام فيهم، لما علم أحد كيف السّيرة في المسلمين. ولا شكّ أنّ عليّاًعليه‌السلام إنّما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفاه، وفي يوم الجمل سار عليّعليه‌السلام فيهم بالعدل وهو أعلم المسلمين، فكانت السُنّة في قتال أهل البغي(١) .

واقتفاه تلميذه محمّد بن الحسن الشيباني، المتوفى سنة (١٨٧) فقال: لو لمْ يقاتل معاوية علياًعليه‌السلام ظالماً له متعدياً باغياً؛ كنّا لا نهتدي لقتال أهل البغي(٢) .

وقال سفيان الثوري: ما قاتل عليّعليه‌السلام أحداً إلا كان عليّ أولى بالحقّ منه(٣) .

وقال الشافعي: السّكوت عن قتلى صفّين حَسَنٌ؛ وإنْ كان عليّعليه‌السلام أولى بالحقِّ من كلّ مَن قاتله(٤) .

وقال أبو بكر أحمد بن عليّ الرازي الجصّاص، المتوفى سنة (٣٧٠): كان عليّ محقّاً في قتال الفئة الباغية، لمْ يخالف فيه أحد. وكان معه من كبراء الصحابة وأهل بدر مَن قد علم مكانهم(٥) .

وقال القاضي أبو بكر ابن العربي، المتوفى سنة (٥٤٦): كان عليّ إماماً؛ لأنّهم اجتمعوا عليه. ولمْ يمكنه ترك النّاس؛ لأنّه أحقّهم بالبيعة، فقبِلَها حوطة على الاُمّة أنْ لا تُسفك دماؤها بالتهارج فيتخرّق الأمر. وربّما تغيّر الدِّين، وانقضّ عمود

____________________________

(١) مناقب أبي حنيفة للخوارزمي ٢ / ٨٣- ٨٤ ط حيدر آباد.

(٢) الجواهر المضيئة ٢ / ٢٦.

(٣) حلية الأولياء ٧ / ٣١.

(٤) أدب الشافعي ومناقبه / ٣١٤.

(٥) أحكام القرآن ٣ / ٤٩٢.

٧٤

الإسلام، وطلب أهل الشام منه التمكين من قتلة عثمان، فقال لهم عليّعليه‌السلام :«ادخلوا في البيعة، واطلبوا الحقَّ تصلوا إليه» . وكان عليّعليه‌السلام أسدَّهم رأياً وأصوبهم قولاً، لأنّه لو تعاطى القوَد؛ لتعصبتْ لهم قبائلهم فتكون حرباً ثالثةً، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة العامّة، ثم ينظر في مجلس الحكم ويجري القضاء. ولا خلاف بين الاُمّة: أنّه يجوز للإمام تأخير القصاص، إذا أدّى ذلك إلى إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة.

وحينئذ فكلُّ مَن خرج على عليّعليه‌السلام فهو باغ، وقتالُ الباغي واجب حتّى يفيء إلى الحقِّ وينقاد إلى الصلح. وإنّ قتاله لأهل الشام الذين أبوا الدخول في البيعة، وأهل الجمل والنّهروان الذين خلعوا بيعته حقٌّ، وكان حقُّ الجميع أنْ يصلوا إليه، ويجلسوا بين يدَيه ويطالبوه بما رأوا، فلمّا تركوا ذلك بأجمعهم، صاروا بغاة، فتناولهم قوله تعالى:( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حتّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ ) (١) .

ولقد عتب معاوية على سعد بن أبي وقّاص(٢) ، بعدم مشاركته في قتال عليعليه‌السلام ؛ فردّ عليه سعد: بأنّي ندمت على تأخيري عن قتال الفئة الباغية، يعني معاوية ومَن تابعه(٣) .

وقال أبو بكر محمّد الباقلاني، المتوفى سنة (٤٠٣) هـ بعد ذكر جملة من فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ علياً يصلح للخلافة ببعض هذه الخصال، ودون هذه الفضائل، ويستحقّ الإمامة. فهو حقيق بما نظر فيه وتولاه؛ فوجب الإنقياد له بعقدِ

____________________________

(١) سورة الحجرات / ٩.

(٢) في كامل ابن الأثير ٣ / ٧٤ عند ذكر البيعة لأمير المؤمنينعليه‌السلام قال: لم يبايع سعد بن أبي وقّاص، وعبد الله بن عمر، وحسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومَسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن حديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، وعبد الله بن سلام، وصهيب بن سنان، وسلمة بن سلامة بن وقش، واُسامة بن زيد، وقدامة بن مظعون، والمغيرة بن شعبة. وتعرّض لهم أبو منصور عبد القاهر البغدادي في اُصول الدين / ٢٩٠، والباقلاني في التمهيد / ٢٣٣، وابن تيمية في الفتاوى المصريّة ٤ / ٢٢٦، والطبري في تاريخه ٣ / ١٥٣. وتعرّض لاعتزال سعد بن أبي وقّاص الذهبي في سير أعلام النبلاء ١ / ٧٩- ٨٣، وذكر اعتذاره غير المقبول عند الله وعند رسوله، وهو عدم اتباعه أحداً إلا أن يعطيه سيفاً له لسان وعينان يعرف بهما المؤمن من الكافر! وفي ترجمته من الاستيعاب: إنّ معاوية كتب إليه شعراً يستميله إليه؛ فردّ عليه بأبيات يقول فيها:

أتطمع في الذي أعطى علياً

على ما قد طمعت به العفاءُ

لـيومٌ مـنه خير منك حياً

ومـيتاً أنـت للمرء الفداءُ

فـأمّا أمـر عـثمان فدعهُ

فـإنّ الـرأي أذهبه البلاءُ

(٣) أحكام القرآن ٢ / ٢٢٤ - ٢٢٥ ط مصر / ١٣٣١ﻫ.

٧٥

مَن عقدها له من وجوه المهاجرين والأنصار، عشيّة اليوم الثالث من مقتل عثمان بعد إمتناعه عليهم وإصرارهم عليه؛ لأنّه أعلم مَن بقي، وأفضلهم وأولاهم بهذا الأمر. وناشدوه الله تعالى في حفظ بقيّة الاُمّة، وصيانة دار الهجرة، فبايعوه قبل حضور طلحة والزبير ومبايعتهما له؛ تبعاً لغيرهما بعد وجوبها عليهما، ولو تأخّرا عن الإنقياد لكانا مأثومَين. وقولهما له: بايعناك مكرَهين(١) لا يضرّ بإمامة عليّعليه‌السلام ؛ لأنّ البيعة له تمّت قبل مبايعتهما، وطلبهما منه قَتْلَ قتلة عثمان خطأً، لأنّ عقد الإمامة لرجل على أنْ يَقتل الجماعة بالواحد لا يصح؛ بعد أنْ كان الإمام متعبّداً باجتهاده، فقد يؤدّي إلى أنّه لا يجوز قَتْل الجماعة بالواحد، وإنْ أدّى إليه اجتهاده فقد يجتهد ثانياً إلى عدمه، ولو ثبت أنّ علياًعليه‌السلام يرى جواز قتْل الجماعة بالواحد، لمْ يجز أنْ يقتل جميع قتلة عثمان؛ إلا بعد أنْ تقوم البيّنة على القتلة بأعيانهم، وأنْ يحضر أولياء الدَّم مجلسه ويطالبون بدم أبيهم ووليّهم، وأنْ لا يؤدّي القتل إلى هَرج عظيمٍ وفساد شديد، قد يكون مثل قتلة عثمان أو أعظم منه. وتأخير إقامة الحدِّ إلى وقت إمكانه أولى وأصلح للاُمّة وأنفى للفساد(٢) .

وقال أبو عبد الله محمّد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري، المتوفى سنة (٤٠٥): الأخبار الواردة في بيعة أمير المؤمنين كلُّها صحيحة مجمع عليها، وفيها يقول خزيمة بن ثابت وهو واقف بين يدي المنبر:

إذا نـحن بـايعنا عـلياً فـحسبنا

أبـو حـسن مـمّا نخاف من الفتنْ

وجـدناه أولـى الناس بالناس إنه

أطـبُّ قـريش بـالكتاب وبالسُّننْ

وإنّ قـريـشاً مـا تـشق غـبارَه

إذا ما جرى يوماً على الضمر البدنْ

وفـيه الـذي فـيهم من الخير كلِّه

ومـا فـيهمُ كلُّ الذي فيه من حَسنْ

وساق الذهبي جميعه في تلخيص المستدرك ولم يتعقّبه(٣) ، ثم حكى الحاكم

____________________________

(١) في مستدرك الحاكم ٣ / ١١٤: أول من بايعه طلحة فقال: هذه بيعة تُنكث.

(٢) التمهيد / ٢٢٩- ٢٣٢.

(٣) المستدرك ٣ / ١١٥، وقد زاد عليها السيد المرتضى في الفصول المختارة ٢ / ٦٧ أبياتاً أربعة، هي:

وصـيُ رسول الله من دون أهلِهِ

وفـارسُهُ قد كان في سالف الزمنْ

وأوّلُ مَـن صلّى من الناس كلِّهم

سوى خيرة النسوان والله ذو المننْ

وصاحبُ كبش القوم في كل وقعةٍ

يكون لها نفس الشجاع لدى الذقنْ

فـذاك الذي تُثنى الخناصر باسمه

إمـامُهم حتّى اُغـيب في الكفنْ

٧٦

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال: ما وجدت في نفسي من شيء من أمر هذه الآية:( فَقَاتِلُوا التِي تَبغِي حَتّى‏ تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللّه ) (١) إلا أنّي لمْ اُقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى(٢) .

وحكى الحاكم النيسابوري عن أبي بكر محمّد بن إسحاق بن خزيمة، أنّه قال: عهدت مشايخنا يقولون: إنّا نشهد بأنّ كلَّ مَن نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في خلافته، فهو باغ. وبه قال ابن ادريس(٣) .

وقال أبو منصور عبد القاهر البغدادي، المتوفى سنة (٤٢٩): أجمع أهل الحقِّ على صحّة إمامة عليّعليه‌السلام وقت انتصابه لها بعد قتْل عثمان، وأنّه كان محقّاً مصيباً في التحكيم، وفي قتال أصحاب الجمل، وأصحاب معاوية بصفّين(٤) .

وقال أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي الفيروز آبادي، المتوفى سنة (٤٧٦): إذا خرجتْ على الإمام طائفةٌ من المسلمين، ورأت خلعه بتأويل، أو منعت حقّاً توجّه عليها بتأويل، وخرجتْ عن قبضة الإمام، وامتنعتْ عليه بمنعة، قاتلها الإمام؛ لقوله عزّ وجلّ:( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ) (٥) ؛ ولأنّ أبا بكر قاتل مانعي الزكاة، وقاتل عليّ أهل البصرة يوم الجمل، وقاتل معاوية بصفّين، وقاتل الخوارج بالنهروان(٦) . وظاهره أنّ قتال عليعليه‌السلام لهؤلاء بحقٍّ؛ لأنّه إمام حقٍّ وجبت بيعته في أعناقهم، وخروجهم عن طاعته - وإن كان بتأويل - لا يبرّر عملهم.

وقال إمام الحرمين الجويني، المتوفى سنة (٤٧٨): كان علي بن أبي طالب إماماً حقّاً في توليته، ومقاتلوه بغاة(٧) .

وقال علاء الدِّين الكاساني الحنفي، المتوفى سنة (٥٨٧): قاتل سيّدنا عليٌ أهل حروراء بالنّهروان بحضرة الصحابة؛ تصديقاً لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لسيّدنا عليعليه‌السلام :«إنّك تقاتل على التأويل كما تقاتل على التنزيل» ، والقتال على التأويل هو

____________________________

(١) سورة الحجرات الآية ٩.

(٢) المستدرك ٢ / ٤٦٣.

(٣) معرفة علوم الحديث ص ٨٤.

(٤) اُصول الدين ص ٢٨٦ - ٢٩٢.

(٥) سورة الحجرات الآية ٩.

(٦) المهذّب في الفقه الشافعي ٢ / ٢٣٤ ط مصر سنة ١٣٤٣ﻫ.

(٧) الإرشاد في اُصول الإعتقاد ص ٤٣٣.

٧٧

القتال مع الخوارج. ودلّ الحديث على إمامة سيّدنا عليّ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شبّه قتال سيّدنا عليّ بقتاله على التنزيل، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله محقّاً في قتاله على التنزيل، فلزم أنْ يكون سيّدنا عليٌّ محقاً في قتاله بالتأويل. فلو لمْ يكن إمام حقٍّ لَما كان محقّاً في قتاله إيّاهم؛ لأنّ الدعوة قد بلغتهم لكونهم في دار الإسلام ومن المسلمين، ويجب على كلِّ مَن دعاه إلى قتالهم أنْ يجيبه إلى ذلك، ولا يسعه التخلّف إذا كان عنده غنىً وقدرة؛ لأنّ طاعة الإمام فيما ليس بمعصية فرض، فكيف فيما هو طاعة؟ وما روي عن أبي حنيفة: إذا وقعت الفتنة بين المسلمين، فينبغي للرجل أن يلزم بيته، محمول على وقت خاص؛ وهو ألا يكون إمام يدعوه إلى قتال، وأمّا إذا كان، فدعاؤه يفترض عليه الإجابة لِما ذكرنا(١) .

وقال يحيى بن شرف النووي الشافعي، المتوفّى سنة (٦٧٧): كان عليّ هو المُحقُّ المصيب في تلك الحروب. وقال معظم الصحابة والتابعين وعامّة علماء الإسلام: يجب نصر المحقِّ في الفتن، والقيام معه بمقاتلة الباغين. قال الله تعالى:( فَقَاتِلُوا الّتِي تَبغِي ) ، وهذا هو الصحيح(٢) .

وقال ابن همام الحنفي، المتوفى سنة (٦٨١): كان عليّعليه‌السلام على الحقِّ في قتال الجمل وقتال معاوية بصفّين، وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّار:«تقتلك الفئة الباغية» وقد قتله أصحاب معاوية، صريح بأنّهم بغاة. ولقد أظهرت عائشة النّدم - كما ذكره أبو عمرو في الإستيعاب - وقالت لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال لها: رأيت رجلاً قد غلبك، يعني ابن الزبير. فقالت: أما لو نهيتني، ما خرجتُ(٣) .

وقال ابن تيمية، المتوفّى سنة (٧٢٨): لمّا قُتل عثمان، بايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهو أحقُّ بالخلافة حينئذ وأفضل مَن بقي، لكن كانت القلوب متفرّقة، ونار الفتنة موقدة؛ فلمْ تتّفق الكلمة ولمْ تنتظم الجماعة، ولم يتمكّن الخليفة

____________________________

(١) بدائع الصنائع ٧ / ١٤٠ أحكام المرتدين.

(٢) شرح صحيح مسلم (في هامش إرشاد الساري)١٠ / ٣٣٦، ٣٣٨.

(٣) فتح القدير ٥ / ٤٦١ كتاب القضاء- أدب القاضي، وفي تاريخ الطبري ٥ / ٢٢١ قالت عائشة: وددت أَني متُّ قبل يوم الجمل بعشرين سنة. وفي العقد الفريد ٢ / ٢٨٨ عند ذكر أصحاب الجمل، ومعارف ابن قتيبة ص ٥٩ قيل لعائشة: ندفنك مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت: لا.

٧٨

وخيار الاُمّة من كلّ ما يرون من الخير، إلى أنْ ظهرت الحروريّة المارقة، فقاتلوا أمير المؤمنين علياً ومَن معه، فقتلهم بأمر الله تعالى ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ طاعةً لقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الطائفة المارقة يقتلها أدنى الطائفتين إلى الحقِّ، فكان علي بن أبي طالب ومَن معه هم الذين قاتلوهم؛ فدلَّ كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على أنّهم أدنى إلى الحقِّ من معاوية ومَن معه(١) .

وقال: كلّ فرقة من المتشيّعين مُقرّة بأنّ معاوية ليس كفؤاً لعليّعليه‌السلام بالخلافة، ولا يجوز أنْ يكون خليفة مع إمكان استخلاف عليّعليه‌السلام ؛ فإنّ فضل عليّ وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله، كانت عنده ظاهرة معروفة، ولمْ يكن بقي من أهل الشورى غيره وغير سعد، وقد ترك سعد هذا الأمر، وتوفّي عثمان فلمْ يبقَ لها معين إلا عليّ(٢) .

وقال الزيلعي، المتوفّى سنة (٧٦٢): كان الحقُّ بيد عليّعليه‌السلام في نوبته، فالدليل عليه؛ قول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّار:«تقتلك الفئة الباغية» ، ولا خلاف أنّه كان مع عليعليه‌السلام وقتَله أصحاب معاوية. ثمّ قال: أجمعوا على أنّ علياً كان مصيباً في قتال أهل الجمل؛ وهم طلحة والزبير وعائشة ومَن معهم، وأهل صفّين؛ وهم معاوية وعسكره. ثمّ قال: لمّا ولي عليّعليه‌السلام الخلافة، وكان معاوية بالشام قال: لا ألي له شيئاً، ولا اُبايعه، ولا أقدِم عليه(٣) .

وقال ابن القيّم الجوزيّة، المتوفّى سنة (٧٥١): كان عليّ في وقته سابق الاُمّة وأفضلها، ولمْ يكن فيهم حين وليها أولى بها منه(٤) .

وقال أبو عبد الله بن محمّد بن مفلح الحنبلي، المتوفّى سنة (٧٦٣): كان عليّعليه‌السلام أقرب إلى الحقِّ من معاوية، وأكثر المنصفين في قتال أهل البغي يرى القتال من ناحية عليعليه‌السلام ، ومنهم من يرى الإمساك. وقال ابن هبيرة في حديث أبي بكرة في ترك القتال في الفتنة، أي في قتل عثمان: فأمّا ما جرى بعده، فلمْ يكن لأحد من المسلمين التخلّف عن عليّعليه‌السلام ، ولمّا تخلّف عنه سعد وابن عمر واُسامة ومحمد

____________________________

(١) مجموع فتاوى ابن تيمية ٢ / ٢٥١.

(٢) المصدر نفسه ٤ / ٢٢٤.

(٣) نصب الراية ٤ / ٦٩ في تخريج أحاديث الهداية- كتاب أدب القاضي.

(٤) بدائع الفوائد ٣ / ٢٠٨ لابن القيّم الجوزية.

٧٩

ابن مسلمة ومسروق والأحنف ندموا. وكان عبد الله بن عمر يقول عند الموت: إنّي أخرج من الدنيا وليس في قلبي حسرة، إلا تخلّفي عن عليّعليه‌السلام . وكذا روي عن مسروق وغيره؛ بسبب تخلفهم(١) وقال ابن حجر العسقلاني، المتوفّى سنة (٨٥٢): كان الإمام علي بن أبي طالب على الحقِّ والصواب في قتال مَن قاتله في حروبه: الجمل وصفّين وغيرهما(٢) .

ويحكي محمود العيني، المتوفّى سنة (٨٥٥) عن الجمهور: أنّهم صرّحوا بأنّ علياًعليه‌السلام وأشياعه كانوا مصيبين؛ إذ كان عليّعليه‌السلام أحقَّ الناس بالخلافة، وأفضل مَن على وجه الدنيا حينئذ(٣) .

وقال ابن حجر الهيثمي، المتوفّى سنة (٩٧٤): إنّ أهل الجمل وصفّين رموا علياًعليه‌السلام بالمواطاة مع قتلة عثمان، وهو بريء من ذلك وحاشاه(٤) . ثمّ قال: ويجب على الإمام قتال البغاة؛ لإجماع الصحابة عليه، ولا يقاتلهم حتّى يبعث إليهم أميناً عدلاً فطناً ناصحاً يسألهم عمّا ينقمونه على الإمام؛ تأسّياً بعليّعليه‌السلام في بعثه

____________________________

(١) الفروع ٣ / ٥٤٢ - ٥٤٣.

(٢) فتح الباري ١٢ / ٢٤٤ كتاب استتابة المرتدّين - باب ترك قتال الخوارج.

(٣) عمدة القاري ١١ / ٣٤٦ كتاب الفتن.

(٤) في الكامل لابن الأثير ٢ / ٢٤٠، كان محمّد بن سيرين يقول: ما علمت أن علياً اتُّهم في قتْل عثمان حتّى بويع، إتّهمه الناس. وفي التمهيد للباقلاني ص٢٣٥ كان عليعليه‌السلام يقول بالبصرة: «والله ما قتلت عثمان، ولا مالأت على قتله، ولكنّ الله قتله وأنا معه» فظنّ قوم أنه أخبر عن نفسه بالقتل بقوله: «وأنا معه» وإنّما أراد الله أن أماته ويميتني معه؛ لأنّه حلف وهو الصادق: أنّه ما قتله ولا مالأ عليه. وفي العقد الفريد ٢ / ٢٧٤ في باب براءة علي من دم عثمان: كان عليعليه‌السلام في الكوفة يقول: «ولئن شاءت بنو اُمية لاُباهلنّهم عند الكعبة خمسين يميناً ما بدأت في حقِّ عثمان بشيء». وفي مجموع الفتاوى المصريّة لابن تيمية ٤ / ٢٢٤ كان عليعليه‌السلام يحلف وهو البار الصادق بلا يمين: أنه لم يقتل عثمان، ولا رضي بقتله. وفي تاج العروس ٨ / ١٤١ مادة (نفل)، النفل: الحلف، ومنه حديث عليعليه‌السلام : «لوددت أن بني اُمية رضوا، ونفلنا خمسين من بني هاشم يحلفون ما قتلنا عثمان، ولا نعلم له قاتلاً»، أي: حلفنا لهم خمسين يميناً على البراءة. وفي إصلاح المنطق لابن السكيت ص١٧٠ باب ما يُهمز وترك العامة همزه، في مادة (ملأ): يروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: «والله ما قتلت عثمان، ولا مالأت على قتله»، والتمالؤ: الإجتماع على الأمر. وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص٦٠، قُتل المغيرة بن الأخنس يوم الدار مع عثمان، فقال ابنه شعراً يعذر علياً عن الإشتراك مع القوم، فقال من أبيات:

فأمّا علي فاستغاث ببيته

فلا آمرٌ فيها ولم يك ناهيا

ولابن أبي الحديد كلمة في شرح النهج ١ / ١١٢ تدل على فقهه بالحوادث فقال: كان معاوية شديد الإنحراف عن عليعليه‌السلام ؛ لأنه يوم بدر قتل أخاه حنظلة، وخاله الوليد، وشرك في جدِّه عتبة أو عمّه شيبة، وقتل من أعيان بني عبد شمس وأمثالهم نفراً كثيراً؛ فمن هناك أشاع نسبة قتل عثمان إليه أو انضواء القتلة إليه. وفي الكامل للمبرد ٢ / ٢٤٠ كان عروة بن الزبير يقول: كان عليعليه‌السلام أتقى لله من أن يعين على قتل عثمان.

٨٠