ويستمر الصراع

ويستمر الصراع0%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 226
المشاهدات: 61936
تحميل: 4179

توضيحات:

ويستمر الصراع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61936 / تحميل: 4179
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وبين الفضول والخوف خطرت في ذهني فكرة، لا أدري كيف خطرت؟ ماذا لو تصنعت أني من أهل الشام وأني جئت البصرة في عمل لي.

واتجهت إلى واحد من الحرس في مغامرة غير مأمونة. فأي عقاب سأتعرض له لو اكتشفوا حقيقة أمري وإني أكذب عليهم وأخدعهم؟! إن حياتي ستكون في خطر، فربما حسبوا ذلك مؤامرة تستهدف الأمير، وإنني كنت أستطلع الخبر لإبلاع من أرسلوني من أعدائه، خصوصاً وأن أهل الشام يستطيعون معرفه بعضهم عند أول كلام بينهم، ثم إن أي شامي يعرف مهمة الجيش هنا ولا حاجة له بالسؤال عنها.

الوجه عابس كأن له أعداء مع كل الناس، حتى مع الأرض التي يطؤها بحذائه. ومشية رتيبة بخطوات كأنما حسب بدقة ما بينها وبين شيلاتها، وعيون مصوبة إلى كل مكان تدور بين اليمين والشمال وإلى الخلف أحياناً.

وما أن اتجهت إليه حتى أشرع رمحه نحوي، فعدة السلاح من سيف ورمح وترس وغيره كاملة لدى جميع الجنود، كأنهم يتهيؤون للدخول في حرب. قلت وأنا أصطنع الهدوء وأتقدم بحذر: شامي مثلك. لست عراقياً ولا بصرياً فأحسست أنه اطمأن قليلاً وزال عنه تشنجه وعبوسه. ثم أمال رمحه عني. كنت مضطراً للكذب فالظلم يضطرك أحياناً إليه. ثم أضفت بعد أن دنوت إليه: ما الذي يجري في البصرة، فإني أرى حالة لم أرها منذ وصلت المدينة قبل أيام. أهناك ثورة أو عصيان على أمير المؤمنين، وليس ذلك غريباً على أهل العراق: أهل الثورات على الحكام الذي فرض الله طاعتهم وجعل منها وسيلتهم الوحيدة للرضا عنهم. قلت ذلك وأنا أضحك في سري. ولكن ماذا أعمل في مثل الظرف الذي وجدت نفسي فيه.

١٢١

قال وقد أنس بي أكثر: إذن أنت شامي من عندنا لا من هؤلاء الذين لو قدرت أن استأصلهم من الأرض لفعلت. ألم تعلم أن الأمير زياداً قادم بعد قليل إلى المسجد لخطبة هي الأولى منذ وصوله، وأن جميع أشراف البصرة ورؤساء القبائل فيها قد احتشدوا هناك. وبينهم الكثيرون من أعداء أمير المؤمنين من الشيعة والخوارج. آه لو ترك لي أمرهم، والله لقتلت حتى أطفالهم، بل لبدأت بأطفالهم حتى يزداد عذابهم كما فعل بسر بن أرطاة مع طفلي عبيد الله بن العباس. ما أحسن ما صنع  لقد سحبهما وهما متعلقان بأمهما فذبحهما أمامها، فيقال إنها عميت وجنت. لقد كان على بسر ألا يبقى طفلاً من هؤلاء، سيكبرون يوماً ويتحولون إلى أعداء.

قلت: لكنهم أطفال وربما سيعلمون أن أمير المؤمنين معاوية هو صاحب الحق والأفضل والأولى بالخلافة، وأن علياً خارج على الخليفة الشرعي ومعاد للإسلام ومحارب له. سيعرفون ذلك يوماً، لابد أن يعرفوه، وسينضمون إلى قواتنا التي تحارب، بعيداً عن الأهل والوطن، دفاعاً عن الإسلام ضد أعدائه والخارجين عليه.

قلت: ومتى سيلقي الأمير خطبته؟

قال: بعد قليل. وها نحن نجوب الطرق التي سيسلكها الأمير في طريقه إلى الجامع.

قلت: والجامع نفسه، هل أمنتموه ضد من قد يحاول القيام بعمل، سهم أو سيف أو سكين أو أي شيء مما يمكن استعماله في الاعتداء على الأمير أو حاشيته؟

قال: إن الحرس مقيم في الجامع منذ الأمس، لم يتركوا مكاناً ولا زاوية إلا فتشوها.

قلت: والذين سيحضرون؟

قال: لا يسمح بدخول أحد دون تفتيش، إلا من عرفناه من أصحابنا وأنصارنا، خصوصاً أهل الشام.

قلت: إذن ضمنت دخولي الجامع وسماع أول خطبة للأمير. ولو كان أحد من أهل العراق يشكر لشكرت هذا العراقي الذي جاء بي إلى هنا للمطالبة بديني عليه. لكم أنا سعيد بأن أرى جيش الشام على أرض العراق. ما أبعد الشام وما أشوقني اليها!

١٢٢

قال: والله إني لسعيد بك فهل من خدمة أؤديها إليك.

قلت: حضور الجامع لسماع خطبة الأمير خصوصاً وأنا في البصرة، وهذه فرصة قد لا تتاح لي فيما بعد.

قال: ليس الأمر إلي ولكني سأسعی لدى من يملك الأمر فابق مكانك، فلن أتأخر عليك.

وغاب عني دقانق عاد بعدها ليقول: هذا إذن لك تستطيع أن تدخل به آمنا.

شكرته مودعاً واتجهت إلى الجامع وبالباب لم يستوقفني أحد وهم يرون الإذن، فدخلت وأخذت مكاني قريباً من المنبر.

وبعد قليل لاحظت حركة غير طبيعية فعلمت أن الأمير قد وصل.

واتجه زياد إلى المنبر والحرس من أمامه ومن خلفه وعلى جنبيه لا ترى من وجوههم غير أعينهم، يذودون الناس عنه ويفسحون طريقه، والجموع قد ملأت ساحة الجامع حتى لم يبق مكان لمن يأتي، وإن كان دخول الأمير يعني منع من يأتي بعده.

كان الحرس على استعداد تام، وعلى شرفاته انتشر عدد منهم: سهام ورماح ونفط ومشاعل جاهزة.

ورأيتني أردد مع نفسي: ولم كل هذا؟ الخوف من الناس؟! ماذا لو عدلوا واستقاموا! إذن لكانوا في غنى عن كل هذا؛ لكانوا هم والناس في أمن وعافيه، لا يخاف أحدهم الآخر ولا يحذر أحدهم الآخر.

قال الأول: وماذا بعد؟ وعني مما كنت تردد مع نفسك، وحدثني عما جرى بعد:

قال الثاني: والله لكان ما حصل كان في الأمس القريب. إني لأراه الآن وقد صعد المنبر فلم يحمد الله كما جرت العادة من قبله ومن بعده، حين يريد الولاة أن يخطبوا، حتى لو كانوا فساقاً وفجرة، وحتى لو كانوا غير مؤمنين أصلاً، فللمنبر حرمته وتقليده.

١٢٣

وذهل الناس وتشاءموا من خطبة لا يحمد الله فيها. ثم مضى زياد خطبته فلم يدع تهديداً يمكن أن يوجهه إلى الناس إلا وجهه. هل سمعت قبل زياد من يقول: (لآخذن البریء بالمذنب والمقبل بالمدبر والمقيم بالظاعن والصحيح بالسليم...). (... إن لي فيكم صرعى كثيرة فليحذر كل امرء منكم أن يكون من صرعاي...). وهو في تهديده ذاك لا يعوزه أن يؤكده بالقسم بالله، فكأنه يريد أن يزيل أي شك فيما ينوي فعله، والله برئ منه ومن قسمه.

هل سمعت بمثل هذا التهديد من والٍ غير زياد؟! هل سمعت بمن (يأخذ البريء بالمذنب والمقبل بالمدبر...) من والٍ في غير عهد معاوية الذي لا يعين فيه الولاة ولا يتقدمون إلا بمثل هذا الظلم والتعسف والقهر؟!

لقد كان الناس يريدون أن يسمعوا من يمسح جراحهم ويواسي ضعافهم ويعيد الطمأنينة إلى نفوسهم، لا أن يرهبهم ويزيد خوفهم ويثير الكامن من أوجاعهم وأحقادهم، سيما وأن زياداً يمثل حكماً غير شرعي، في بلد لا يجهل حكامه، ولا كيف استولوا على الحكم وتسلطوا على الناس، ابتداء من معاوية وحتى (ابن أبيه) الذي يبدو أنه شديد الحرص على أن يذكر الناس دائماً بأصله.

ثم هو لا يكتفي بذاك ولا يقف عنده فيصف نفسه ومن ولاه ومن شاركه بأنهم يحكمون بسلطان الله الذي منحهم إياه. هل رأيت؟!

زياد ابن سمية البغي يصف نفسه بأنه يمثل الله ويحكم بسلطانه؟!

هل تعرف واليا يقتل الناس على الظنة والشبهة غير زياد وأمثال زياد من عمال معاوية؟! والله لو كان الناس عبيداً لهم لما جاز لهم أن يفعل فيهم بعض ذلك.

لقد جاء زياد وهمه عدوان يريد أن ينتقم منهما وينكل بهما بكل ما ما أوتي من سلطة ونفوذ وبكل ما يملك من أساليب القهر والارهاب، هما: الشيعة ثم الخوارج.

ثم التفت إلى صاحبه قائلاً: هذا هو حديث الخطبة البتراء التي سألتني عنها، حديث مؤلم طويل من أحاديث مؤلمة طويلة، ما أحسبها ستنتهي إلا بانتهاء الحكم نفسه.

١٢٤

وكأنه أراد أن يعرف ما أحدثه كلامه من تأثير لدى صاحبه، فأضاف بلهجة المستفهم: ما رأيك فيما سمعت؟ أريد أن أعرف رأيك فيه فكفاني كلاماً وكفاك صمتاً.

قال صاحبه دون أن يبدو عليه الانفعال الذي كان محدثه ينتظره منه. اسمع يا صاحبي. إن أخطر ما يكون الإنسان حين يشتری منه ضميره فيتحول من عقيدته إلى أخرى مضادة معاكسة على الأغلب.

إنه سيجتهد ما يستطيع في محاربة أصحابه القدماء، والتنكيل بهم واستعمال أقسى أساليب العنف معهم.

وهو لن يجد صعوبة أوعسراً في معرفتهم، وكان منهم وعمل معهم. فحين ينقلب عليهم، لن يخطئ أحداً منهم ولن يرحم أحداً، وسيتجاوز حتى ما كان يريده الذين اشتروه. كل ذلك وهو يحاول أن يخدع نفسه، حتى لا يبدو صغيراً وحقيراً أمامها، بأنه لم يترك عقيدته الأولى ولم يتحول عنها إلا عن قناعة وإيمان، داخليين، لا مقابل الثمن الذي دفع له. فهل علمت الآن لِم لم أنفعل ولم أتأثر كما كنت تتوقع. إن دون الثمن الذي دفع لزياد ما أغرى ويغري الكثيرين بفعل ما فعله.

قال الآخر: ما أرى الحق إلا معك: من (ابن أبيه) إلى (ابن أبي سفيان) ومن صبي بائس معدم إلى أخٍ لأمير المؤمنين وأمير العراق. لا أدري إن كان على المسلم أن يضحك أم يبكي وقد وصلت الأمور إلى هذا الحد. قال الثاني لن يغير ذلك شيئاً فاضحك إن شئت أو ابك، وأظن الضحك أفضل هنا، وقد قيل شر البلية ما يضحك، وليس مثل البلية التي جاءت للحكم بمعاوية وأصحابه.

١٢٥

الفصل الثالث والعشرون

مقتل حجر بن عدي

كان زياد يزداد سروراً وانبساطاً كلما مضى أكثر في قراءة الرقعة التي بين يديه.

وما انتهى من قراءتها حتى قال مخاطباً الحاضرين: بارك الله في أبي بردة. هكذا فلتكن الشهادة. لقد أغلق كل منفذ يمكن أن يبعد القتل عن حجر. والله لو أردت أنا أن أكتب مثل شهادته لما قدرت. لقد أحكم الطوق على عنق حجر وأصحابه، واستحق بذلك جائزة الأمير، وبعدها، جائزة الخليفة، والله يعلم ماذا ستكون. وإذا كان لأحد منكم أن يضيف شيئاً مما لم يذكره أبو بردة - وما أظنه ترك شيئاً يمكن أن يضاف - فليقله قبل أن نختمها ونرسلها إلى أمير المؤمنين في دمشق.

وكان عدد من رجال أهل الكوفة ورؤوس قبائلها قد دعوا إلى قصر الإمارة في الكوفة دون أن يعرفوا أسباب الدعوة.

همس أحد الحاضرين في أذن من كان إلى جنبه، وهو يسمع كلام زياد: ترى عماذا يتحدث الأمير وعلى ماذا سنشهد؟! ألهذا دعينا؟ إننا لم نرشيئاً ولم نعلم شيئاً من حجر وأصحاب حجر غير كل جميل. ما الذي طالب به حجر وأصحابه غير ما يطالب به كل الناس من العدل والإنصاف وتعجيل أرزاق الناس؟! فهل لهذا استوجب حجر القتل؟ وهل على هذا يجب أن نشهد؟!

قال صاحبه: أما أنا فلا مفر لي من الشهادة وإلا المقتل. ألم تسمع الأمير يطلب المزيد ممن يستطع المزيد؟! لقد قرّر أن يقتل حجراً وجميع من هم على مذهب حجر من أتباع علي، إنه يعرفهم جيداً، أنسيت؟! لقد كان حتى وقت قريب من أشدهم بغضاً لمعاوية وتحريضاً عليه، لكنها الأمارة تقلب القلوب وتبدل الأفكار وتعمي البصائر.

والله ما أظن زياداً تاركنا قبل أن يأخذ تواقيعنا، شئنا أم أبينا. ماذا يعني له ولمعاوية أننا نشهد على ما لم نر ولم نسمع، وهم يعرفون ذلك مثلما نعرف؟ أتراهم سيتركون حجراً لو امتنعنا عن الشهادة، أو لو شهدنا بعكس ما يريدون مما نعرف من أمر حجر؟! متى كانت شهادة الناس ذات قيمة فيما يريدون؟!

١٢٦

قال الأول: وماذا لو رفضنا أن نشهد ونحن صادقون في ذلك، إننا لم نر من حجر إلا خيراً؟ كيف نشهد على رجل نعلم أن شهادتنا ستتخذ وسيلة لقتله، ولم نعرف منه إلا ما يستوجب الحمد والثناء أهذا هو جزاء الرجل منا. ولكن هل سيتركنا ابن أبيه وشأننا: نشهد بما نعرف لا بما يأمر. ما أحسب هذا الدعي سيترك لنا إلا خياراً واحد، وليس خياراً حين لا يكون أمامك غيره. ليس هذا أول ظلم من حكام معاوية، وليس هذا أول ضعف منا لهم وتأييد لظلمهم ورضا به. والله لو اتفقنا يوماً ورفضنا ما يدعونا إليه، لما استطاع منا ما يستسهله اليوم. إن اختلافنا وتفرق كلمتنا هو ما يقويه ويغريه ويغري سواه بنا. ولكن ما العمل إذا قال التميمي نعم، قال الأزدي لا. وإذا وافق الربعي خالف القيسي.

لقد استفاد الحاكم من اختلاف قبائلنا، وربما قلت إنه هو وراء اختلافها وتأجيج العداء بينها وإحياء ما مات من أسباب عدائها وخلق أسباب جديده لإثارة العصبية بينها، وإشعال نارها كلما انطفأت أو كادت. لقد عشت زمناً في الجاهلية فلم أعرف مثل هذه العصبية التي نعيشها اليوم.

ثم أضاف: هل سمعت بهذا التقسيم القبلي الجديد في الكوفة (الأرباع) حيث يضم كل (ربع) قبيلتين مختلفتين لا صلة لإحداهما بالأخرى كمذحج القحطانية اليمنية وأسد العدنانية. ثم لا يكتفون بذلك بل يأتون برئيس لهما ينصبونه هم ولا يكون من إحدى القبيلتين، كما رأسوا أبا بردة الذي كتب الشهادة ضد حجر، عليهما ولم يكن من إحداهما. إنها سياسة خبيثة مدبرة، فهم يعرفون الخلاف بين مذحج وبني أسد المختلفتين في كل شيء منذ الجاهلية. ثم ينصبون عليهما رئيساً من غيرهما - أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري - فيكونون بذلك قد ضمنوا الخلاف الدائم بين القبيلتين الممثلتين للربع كما ضمنوا في نفس الوقت الخلاف بينها وبين رئيس الربع: كل يخاف الآخر، وكل يريد أن يكون صاحب الخطوة لدى السلطة دون الآخر فيسهل بالتالي إخضاعهم جميعاً. أرأيت؟! إن هذا التقسيم أحد أقوى أسلحة معاوية للبقاء في الحكم، وكان من بين ثماره الشهادة - الفضيحة - التي كتبها أبو بردة وأشار بها زياد(١) .

____________________

(١) والغريب إني ألاحظ أن رؤساء الأرباع لا ینتمون الی القبائل التی یتألف منها الربع، والقبائل نفسها لیست متجانسة، وما ذلك إلا لأسباب سياسية، لإبقاء الاختلاف والخوف بينهم لكي يسهل قيادهم والسيطرة عليهم وحرص كل منهم على تنفيذ أوامر السلطة .

فتوزيع الأرباع كما أرى، توزيع سياسي أكثر منه تنظيمي أو لم يقصد به التنظيم أصلا .

١٢٧

قال الثاني وهو يميل برأسه نحو محدثه ويخفض من صوته: والله لو سمعك أحدهم الآن لما أظنك ستنجو من مصير كمصير حجر، فقد يدبر لك زياد تهمة وما أسهل التهم عنده، وشهوداً وما أكثرهم، وأنت تعرف الباقي مما ينتظرك. أنت حر يا صاحبي فيما اخترت لنفسك. أما أنا فسأشهد كما يريد زياد، وأشهد الله على أني لم أرَ ولم أسمع شيئاً مما شهدت عليه، لكنه الخوف.

قال الأول: أتخاف زياداً ولا تخاف الله رب زياد ورب معاوية؟!

قال الثاني: إن الله يعفو ويغفر، وهؤلاء لا يعفون ولا يغفرون. إن الدم عندهم أسهل شيء وأحب شيء، لكأنهم من عشاقه.

وفي هذا الوقت وصلت الرقعة التي تحمل أسماء الشهود.

وأسرع الاثنان إلى وضع شهادتهما في صمت، وكل ينظر في وجه الآخر، ولم يكن قد مضى على حديثهما السابق إلا لحظات.

كانت الرقعة تحمل شهادة سبعين رجلاً - من غير رؤساء الأرباع - فألغى زياد شهادة بعضهم ليبقى من السبعين ثلاثة وأربعون (شاهداً) اكتفى بهم زياد.

وبين الشهود الذين ثبتت شهاداتهم عدد من أبناء الذين حاربوا علي بن أبي طالب في الجمل كأبناء طلحة والزبير وبينهم من حاربه أو خرج عليه في صفين كابن أبي معيط أو شبث بن ربعي أو مصقلة بن هبيرة الذي التحق بمعاوية في قضية معروفة، وشمر بن الجوشن وعمر بن سعد اللذين كانا من أكبر المشاركين في مقتل الحسين بن علي. ليس فيهم من لم يكن عدواً لعلي أو مبغضاً أو محرضاً على أنصاره، إلا أشخاصاً وضع زياد أسماءهم، ربما للتمويه، ولم يكن في حاجة إليه.

وفي السجن كان أربعة عشر رجلاً من خيار المسلمين وصالحيهم يرسفون في قيودهم منتظرين أمر الحاكم، لا بإخراجهم من السجن الذي لم يفعلوا ما يستحقون عليه السجن، بل بتسفيرهم إلى دمشق لينظر معاوية في شأنهم.

١٢٨

وكان زياد حريصاً على أن تقطع أعناق هؤلاء بأسرع وقت، فلم يأت المساء حتى أخرج من السجن اثني عشر منهم مکبلين بقيودهم، والحرس المدججون بكل الأسلحة المعروفة في ذلك الوقت يحوطونهم من كل جانب.

ثم أتبعهم باثنين آخرين كانا قد استبقاهما لسبب غير معروف. فأصبح عدد السجناء المسفرين أربعة عشر رجلاً.

وشاع خبر المسفرين في الكوفة، وشاع معه أسماء الذين شهدوا عليهم من أهلها، ولم يكن من الصعب معرفة أسمائهم، وكان بعضهم معروفاً، وبعضهم يعلنون هم عن أسمائهم تأكيداً لعلاقتهم بالحكم ومكانتهم عنده.

وغضب الناس، وهم في الأصل غاضبون، لكن الغضب وحده لا يصنع ثورة ولا يزيل ظلماً.

وسارع الذين وضعت شهاداتهم دون علمهم إلى إنكارها والتبرؤ منها وهم يعلنون عجبهم كيف وضع على لسانهم ما لم يقولوه ولم يسمعوه ولم يعرفوه. وإذا كان الآخرون قد رضوا بذلك، فإنهم يرفضونه ولا يقرونه مهما كانت النتائج التي ستترتب على موقفهم هذا.

قال السري بن وقاص الحارثي وقد بلغه أنه من بين الشهود: والله لقد وضعت شهادتي وأنا غائب عن الكوفة في عمل لي، ولا أعرف شيئاً مما حصل، وأنتم تعلمون ذلك. أهذه هي الشهادات في زمن معاوية؟! أيقتل خيار الناس بشهادات مزوره لا يعرفها أصحابها؟! ثم مضى حزيناً لا يدري ما يفعل، وهو يرى أن شهادته قد تكون من بين الأسباب ستقتل حجراً وأصحابه دون أن يستطيع منع ذلك.

وقال شريح بن الحارث القاضي: ويلي على ابن سمية! لقد سألني عن حجر فأخبرته أنه كان صواماً قواماً، رجل خير وصلاح. هل يمكن أن أشارك في دم من مدحت أنا دينه وصلاحه؟! أعلى حجر يشهد شريح بن الحارث؟!

١٢٩

وقال شريح بن هانئ: والله ما شهدت ولا ختمت ولا كنت حاضراً مع الذين حضروا وشهدوا. ولقد سمعت أن شهادتي قد كتبت دون علم مني ولا رأي. أين دين هذا الذي يسمح بأن تزوّر الشهادات وتختم دون علم أصحابها وخلافاً لرأيهم. لقد كتبت إلى معاوية أبرأ مما فعل زياد بوضع شهادتي على رجل إن أرادوا شهادتي عليه، فأشهد بأنّه حرام الدم، وأنه من الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر. الله الله في حجر وأصحاب حجر.

وحين وصل موكب الأسرى دمشق، نصب لهم معاوية مجلساً حضره كبار أصحابه، وهو يريد أن يستفيد من هذه المناسبة، ليستبقي بها ولاءهم له ويرفع في الوقت نفسه من مقامهم عند قبائلهم. فأمر باطلاق عدد من أصحاب حجر بعد أن تشفع لهم وجوه قبائلهم ممن حضروا مجلسه، مع أن المطلق سراحهم سيقوا بتهمه واحدة.

وأراد أحد زعماء كندة - قبيلة حجر - أن يشفع لدى معاوية في حجر فيطلقه كما فعل مع الآخرين، لكن معاوية ردّه ولم يستجب له.

وغضب مالك بن هبيرة وترك المجلس إلى بيته بعد أن أسمع معاوية كلاماً قاسياً وذكّره بمواقف سابقة كانت له ولقبيلته في نصرة معاوية.

وتوقع الناس أن يكون لمالك موقف آخر بعد أن أهين حين قبل معاوية وساطة الآخرين ورفض وساطته. لكن الأمر لم يكن كما توقعوا. ففي نفس الليلة كان هناك من يطرق الباب على مالك حاملاً معه مبلغاً كبيراً من المال، فرضي وعاد إلی معاوية في اليوم التالي ولكن ما الذي فعله حجر وأصحابه ليستوجبوا القتل؟

هل رفعوا السلاح ضد السلطة رغم أنها تستحق أن يرفع السلاح ضدها؟

هل قتلوا أحداً أو اتهموا في قتله؟

هل قطعوا الطريق وأخافوا السبيل؟

لقد أجاب عن ذلك رسول معاوية الذي دخل عليهم السجن ليلاً ومعه عدد كبير من الحرس.

١٣٠

قال: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له فإن فعلتم تركناكم وإن أبيتم قتلناكم، وإن (أمير المؤمنين) يزعم أن دماءكم قد حلت له، فابرؤوا من هذا الرجل - يقصد علياً - نخل سبيلكم.

ولم يكمل هذا حديثه حتى ضج السجن بصوت قوي واحد: لا والله لن نبرأ ولن نلعن إلا أعداءه. لن نبرأ من أول المسلمين وقاتل المشركين، فافعلوا ما أنتم فاعلوه وفي الصباح كانت ست جثث تداس بأحذية السجانين، بعيدة عن رؤوسهم المبعثرة هنا وهناك في جوانب السجن.

وترك عبد الرحمن بن حسان العنزي فلم يقتل مع أصحابه وإنما اقتيد إلى مجلس معاوية ليدور هذا الحوار بين الاثنين.

ـ ايه يا أخا ربيعة ما قولك في علي؟ قال معاوية ذلك، وقد انفرجت شفتاه عن ضحكة فيها الزهو والشماتة وفيها الإغراء بالجواب الذي يريده من هذا الذي يرسف بقيوده، فيكون انتصاراً له أمام أصحابه الذين غصّ بهم المجلس.

قال عبد الرحمن بهدوء وثقة، دون أن يبدو عليه الخوف، وكل ما يحيط به يبعث على الخوف: دعني يا معاوية، لا تسألني فإنه خير لك. وكان ينظر إلى معاوية في تحدٍّ وازدراء.

قال معاوية وقد غاضت الضحكة منه واربدّ وجهه وبدا عليه وكأنه خسر الجولة: والله لا أدعك حتى تخبرني عنه.

قال عبد الرحمن، وكأنه خطيب لا أسير يثقله الحديد ويعلم أن حياته رهن بكل كلمة قد صدرت منه: أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيراً ومن الآمرين بالحق والقائمين بالقسط والعافين عن الناس.

ورأى معاوية أن ما أراده من حضوره قد انقلب عليه فانتقل بالسؤال إلى موضوع آخر.

كان يعرف هوى أهل الشام في عثمان فأراد أن يحرج عبد الرحمن أمامهم ويريهم أنه معذور في قتله وقتل أصحابه، فقال له: فما قولك في عثمان؟

وبنفس الإيمان الذي لا يضطرب صاحبه وهو يواجه أصعب المواقف فلا يتردد ولا ينكر متحملاً نتائج ما يعتقد، قال عبد الرحمن: هو أول من فتح باب الظلم وأرتج أبواب الحق. قال ذلك، وهو يعرف ما قصد إليه معاوية من سؤاله.

١٣١

ونظر معاوية في وجوه الشاميين ثم التفت إلى عبد الرحمن: إذن قتلت نفسك.

قال عبد الرحمن: بل إياك قتلت. ستعلم غداً أينا الأرجح ميزاناً والأقرب إلى الله ورسوله. ثم سقط أرضا من شدة الضرب والدم يسيل من جميع جوانبه.

وفي اليوم التالي، كان عبد الرحمن يساق به إلى زياد في الكوفة ورسالة يحملها من كلّف بتسييره إلى هناك يأمر فيها معاوية زياداً (... واقتله شرّ قتله).

ولم يطل تفكير زياد في (شر القتله) فسرعان ما وجدها. وليس كالمجرمين في اكتشاف وسائل التعذيب!

ففي صباح اليوم التالي كان النداء يعلو في أزقة الكوفة وأحيائها: من أراد أن يرى نهاية الطاعن على الخليفة، الخارج عن الإسلام، فليخرج غداً إلى قس الناطف.

وفي الصباح كانت جموع الكوفيين قد تكاثرت إلى المكان: بين المعلن عن فرحه وبين الباكي لهذا البريء، وبين الساخط الذي يرى فيما يجري إهانة لأهل الكوفة الذين اشتراهم الحكم وتفرقت كلمتهم.

وظهر شخص شاحب اللون، بادية عليه آثار التعذيب، وقد قيدت رجلاه وجمعت يداه إلى عنقه بسلسلة غليظة من الحديد، لا يكاد يستطيع السير فيسقط من الإعياء، ولا يقام إلا بالضرب، ينهال عليه ممن كلفوا به.

وانتهى به السير إلى حفرة عميقة كان رجال زياد قد انتهوا لتوهم من إكمال حفرها، وأوقف عبد الرحمن على حافتها.

قال له زياد: والآن ماذا تقول في علي؟

قال عبد الرحمن، وكأنه قد استعاد فجأة قوّته ونشاطه: والله لقولي فيه الآن خير من قولي فيه قبل الآن. والله لم يعرف المسلمون بعد نبيهم خيراً منه.

ولم يبلغ عبدالرحمن آخر كلامه، حتى كان اثنان من رجال زياد يقفان خلقه قد دفعاه بقوة ليهوي إلى قعر الحفرة، وأسرع آخرون إلى التراب الذي أخرج من الحفرة فهالوه عليه.

وكان عبد الرحمن بن حسان العنزي أول من دُفن حياً في الإسلام.

١٣٢

الفصل الرابع والعشرون

عمرو بن الحمق

أوّل رأس حُمل علی الرمح في الإسلام

لم تعد ليلى تنام إلا بعد أن يرهقها التعب. نوم يقطعه حلم جميل أو حلم مخيف. القلق يمزقها على مصير زوجها الذي لا تعرف عنه شيئاً منذ أن تركهم بعد ما اشتد طلب زياد بن أبيه لأصحاب علي. الأطفال ينامون إلى جانبها: صغيرها معها على نفس سريرها، والآخران: بنت وابن قريباً منها.

وكانت بين اليقظة والنوم حين سمعت طرقاً على الباب، وللحظات خفق قلبها وابتسمت وتزاحمت في ذهنها الخواطر، أيمكن أن يكون هو، جاء يراها ويرى أطفاله بعد كل هذه المدة؟! ستراه، ستشكوا إليه بعده عنها وبعدها عنه. ستشكوا إليه وحدتها ومعاناتها التي لم يخفف منها وجود الأهل الذين كانوا لا يأتون إلا نادراً فالحرس يراقبهم وهم يدخلون وهم يخرجون. ستعانقه بعد مدةً بدت طويلة في عينيها. سيحتضن الأولاد، وسيرى هذا الذي تركه وهو في الأشهر الأولى من عمره، آه ما أحلى أن يصدق حلمي!

ولكن ما للطرق قوياً عنيفاً على الباب، ولو كان هو لكان خفيفاً بقدر ما يسمع من في البيت، حتى لا يسمع أحد غيره فيشي به؟!

دارت كل هذه الخواطر في ذهنها وهي تتجه إلى الباب الذي اشتد طرقه.

لم يعد هناك ما يداعب أحلامها بأن الطارق هو عمرو كما كانت تفكر قبل قليل بأنها ستسعد بلقائه الذي انتظرته طويلاً. إنه ليس هو. إنهم هم، الأمر واضح الآن.

وفتحت الباب بيديها المرتعشتين ووجهها الشاحب، ورأسها إلى الخلف حيث يرقد أطفالها.

قالت وهي ترى الحارسين المدحجبين بكل آلة الحرب: لعلكما مخطئان فيمن تطلبان، فليس في البيت غيري وغير أطفالي الثلاثة

١٣٣

وحين أرادت أن تغلق الباب وتعود، أسرع أحد الحارسين فجذبها بعنف قبل أن تغلق الباب.

قالت وهي ترتعش من الخوف: ماذا تريدان مني؟ إني امرأة وحيدة هنا، لم أرتكب جرماً ولم أفعل ما يغضب الله. وليس معي إلا أطفالي الذين ما يزالون نائمين.

قال أحد الحارسين وهو يحكم قبضته عليها: ألست ليلى بنت سعد زوجة المجرم عمرو بن الحمق الخالع لطاعة أمير المؤمنين؟ قال ذلك بينما كان صاحبه ينطلق بعينيه نحو البيت وقد جرد سيفه تحسباً لأي طارئ.

قالت: بلى أنا هي، ولا أعلم عن عمرو إلا ما تعلمان. والله لا أدري أين هو الآن. دونكما البيت ففتشاه إن كنتما في شك مما أقول.

وقبل أن تنتهي من كلامها، كانت ضربة قوية من أحدهما قد أسالت دمها فنشفته بطرف كمها وهي تقول: دعوني إذن أودع أولادي فربما لن أراهم بعد الآن.

قال الآخر: ادخلي، وهو يسبقها إلى البيت، وبقي الآخر عند الباب يقوم بمهمة المراقبة.

واستيقظت البنت على صوت الحارس الخشن وهو يهدد أمها ويستعجلها الخروج. لم تستطع الكلام من الخوف، كان جسمها يرتعش ودموعها تسيل. ودنت أمها منها تقبلها وقد اختلطت دموعها بدموع ابنتها، والحارس يقف قريباً منهما يستمع ما تقولان. أوصتها بأخويها ثم قبلتها وقبلت أخاها الذي كان ما يزال نائماً، قبل أن تصل إلى الصغير الذي رفعته إلى صدرها لا تريد أن تفارقه، وعيناها وشفتاها تتقاسمان الدمع والتقبيل. ثم أعادته إلى فراشه بعد أن هددها الحارس بأنه لن يسمح لها بأكثر مما سمح لها من وقت، وأنها قد تتعرض هي أو أطفالها للأذى إن لم تسرع بالخروج.

كان منظر الحارسين يثير الريبة والرعب في قلبها المضطرب. أرادت أن تسأل إلى أين يريدان بها، لكن الکلمات تتقطع على شفتيها.

ثم تمالكت نفسها وسألت بصوت لا يكاد يسمع وعينين غائرتين لا ينضب منهما الدمع، ووجه يزداد شحوباً كلما ابتعدت عن البيت: إلى أين أنتما ذاهبان بي؟! ما هي الجريمة التي ارتكبتها؟ أقسم بالله ورسوله إني لم أفعل شيئاً مما تؤخذ امرأة بسببه.

١٣٤

قال أحدهما بصوت خشن جاف: لسنا إلا رسل أمير المؤمنين. إنه الذي بعثنا بطلبك، ومن الأفضل أن تتوجهي بالسؤال إليه.

وقال الآخر بلهجة ساخرة وتهكم واضح: لعله يريد أان يتزوجك! ألا يسرك أن تكوني زوجة أمير المؤمنين؟!

وعلت ضحكة هستيرية من الاثنين.

وسكتت المرأة على مضض وابتلعت ما كانت تريد من لعن (أمير المؤمنين) الذي سلّط مثل هؤلاء المتوحشين على أمور المسليمن، وهو أولى أن يسمى أمير المتوحشين لا أمير المؤمنين.

وأمام قصر كبير عالي الأسوار يحيط به رجال مدججون بمختلف الأسلحة، كانت ليلى تدفع بعنف لتودع في غرفة لم تكن إلا سجناً صغيراً أعد لها فيه.

كانت ليلى تفكر بأطفالها الصغار. ماذا ستقول ابنتها حين يسألها أخوها عن أمهم عند ما ينهض في الصباح؟ كيف هم الآن؟ وهذا الصغير الذي لم يتجاوز شهوره الأولى؟ إنه لا يملك إلا البكاء يعبر به عن غياب الصدر الذي كان يحتضنه وعن اليدين اللتين كانتا تلامسان جسمه برفق، وعن وجه غاب عنه لم يألف غيره.

كانت تذكر ذلك فيغلبها البكاء.

وهذا الحبيب؟! أين هو الآن؟ في أي أرض يعيش، إن كان ما يزال حياً؟ لابد أنه يعاني ما أعاني. ماذا فعل ليشرد عن أهله وبلده؟ هل ستراه يوماً؟!

وكان عمرو بن الحمق قد خرج هو ورفاعة بن شداد لما اشتد زياد في طلب أصحاب علي فنزلا المدائن، وخشيا أن يسعي بهما من يعرفهما فيها، وهما ليسا بعيدين عن عيون زياد التي لا ترحم، فارتحلا منها إلى أرض الموصل، فهي أبعد، وربما أكثر أمنا مما خلفا.

١٣٥

قال عمرو يكلم رفاعة وهما في الطريق إلى الموصل: أيأمن القاتل والسارق وقاطع الطريق ولا يأمن عمرو ولا رفاعة، ولا ذنب لهما إلا أنهما يحبان علياً! ومن مثل علي؟! والله لو قطعوني ما غيرت رأيي فيه ولا تحولت عنه ولا برئت إلا من أعدائه. أمن علي الذي ما قام الإسلام إلا بسيفه  يريد ابن هند أن نبرأ؟! أليس غريباً يا ابن شداد أن يكون مثل معاوية خليفة وأميراً للمؤمنين؟! أكان أحد من المسلمين يصدق هذا لو قلته له قبل اليوم؟! ثم أضاف بصوت حزين: وأنتم يا من جاهدتم وتحملتم وقاتلتم وقتلتم، هل تعلمون أن الذي قاتلتموه وقاتلتم أباه ولعنتم أمه، هو خليفة المسلمين الآن والحاكم فيهم؟!

كان يردد ذاك، وكلما مضى فيه ازداد صوته حزناً وضعفاً.

وفي أقرب مكان من أرض الموصل، نزل عمرو ورفاعة. كان عمرو مريضاً ولا يستطيع مواصلة السير فلجأا إلى جبل هناك كان أول ما صادفهما.

لكن رجال السلطة وعيونها قد أخذوا المسالك والطرق، فما أسرع ما دهمتهما الخيل.

لم يستطع عمرو المقاومة ولا ركوب الفرس لمرضه. وحين أراد رفاعة ان يحارب القوم عنه منعه عمرو، فماذا سيغني رفاعة وهو فرد واحد غير أن يقتل؟!

قال له عمرو وهو يودع رفاعة وقد انحدرت دموعه على وجهه: انج بنفسك إن استطعت فلعل الله يكتب لك السلامة من هؤلاء الظالمين المجرمين، ولا تنس أنك على الحق، أما أنا فما أستعدني بلقاء الله.

إن هي إلا ضربة سيف أو طعنة رمح تكون شاهداً لي في قريب سنلتقي هناك، وسنعلم أينا الأربح صفقة. ثم اختنق صوته فلم يكمل. وأسرع عمارة على فرسه بعد أن شق صفوف المهاجمين، وعيون عمرو تتبعه حتى غاب.

وأخذ عمرو وهو لا يقوى على الركوب من شدة المرض. جاؤوا به إلى عامل معاوية على الموصل عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي. وتسابقت السکاکين إلى جسمه، وكانت واحدة كافية لقتله.

ثم أمر عبد الرحمن فاحتز رأس عمرو وعلق على رمح.

١٣٦

وقبل أن ينقل إلى دمشق، طيف بالرأس في أحياء الموصل وأزقتها ليستمتع أهلها بمنظر هذا الخارج على الإمام.

وفي الطريق بين الموصل ودمشق، كان الأهالي يجبرون على الخروج للنظر إلى رأس عمرو معلقاً على رمح عال يتناوب على حمله رجال غلاظ يحيط بهم عدد من المسلحين، اندس بعضهم بين الناس خشية أن يجرؤ أحد منهم على انتزاع الرأس.

وفي دمشق كان الاحتفال كبيراً بوصول الرأس الذي وضع في أحد جوانب القصر.

نظر معاوية إليه والبشر واضح في وجهه، ثم أسرع إلى الغرفة التي كانت تتمدد على أرضها ليلى.

ترى من الطارق في مثل هذا الوقت: تساءلت ليلى وهي تنهض متثاقلة بطيئة قد أضعفها الهم والمرض، فهي تتكئ على الأرض تارة وعلى الحائط أخرى.

كان الطرق خفيفاً، وصوت وراء الباب يناديها: البشری يا ليلى يرددها أكثر من مرة.

وعادت لليلى قواها فأسرعت تفتح الباب. وما كان أشد مفاجأتها وهي ترى معاوية نفسه يقف أمامها؛ ذهلت وارتبكت ولم تدر ما تقول.

لكن معاوية قطع عليها ارتباكها قائلاً: عندي لكِ بشرى لا تعدلها بشرى.

وقبل أن تسأله عنها قال: هل يسرك أن تري عمرو؟ إنه في الطريق إليك، سترينه بعد قليل، فتهيئي وأحسني استقباله. ثم أغلق الباب وراءه.

وكادت ليلى أن تجن من شدة الفرح؛ لقد عاد إليها زوجها وها هو في طريقه إليها. ربما عفوا عنه. ستعود إلى بيتها. أية مفاجئة لأطفالها وهم يرون امهم واباهم لأول مرة منذ زمن بعيد.

كانت تتصور المنظر فتغمرها سعادة لم تعرفها من قبل. كفكفت دموعها وابتسمت وهي تستعجل الوقت.

لم يبق بينها وبين تحقيق حلمها إلا بقدر ما يطرق عليها الباب ثانية. كانت تكلّم نفسها والفرح يغمرها وعيناها إلى الباب.

وطرق الباب، نهضت مسرعة ويداها ممدودتان لاحتضان الغائب.

وحين فتح الباب كان رأس عمرو لا عمرو، بين يديها!

صاحت من شدة الصدمة: عمرو، ثم سقطت. كان عمرو آخر ما نطقت به.

١٣٧

الفصل الخامس والعشرون

البيعة ليزيد

حوار عند باب القصر

نحن الآن في أواسط عام ٥٦ هـ، قصر الخليفة في دمشق يعج بالحركة على غير العادة. الزوار والوفود من زعماء القبائل ورؤساء العرب لا ينقطعون. لا يكاد يخرج زائر ووفد حتى يدخل غيره. نشاط لم يألفه القصر من قبل.

قال أحد الحارسين الواقفين بباب القصر، وهو يوجه كلامه للحارس الثاني الواقف غير بعيد عنه: أليس هذا الذي خرج لتوّه من القصر هو الأحنف بن قيس؟ أظنني رأيته قبل اليوم في قصر أمير المؤمنين. إن الناس هنا يتحدثون عنه أكثر مما يتحدثون عن أي شخص آخر؛ إنهم يكرهونه ويخشونه ويتهمونه.

قال الحارس الثاني، وهو يعدل وضع قلنسوته على رأسه ويمسك جيداً برمحه: نعم إنه الأحنف، سيد تميم ورجل البصرة. لقد كان من أعداء أمير المؤمنين معاوية وممن خذل الناس عنه بصفين. ولكن ما سؤالك عنه، وما رأيتك تسأل عن أحد، على كثرة الداخلين والخارجين؟

قال الأول: لقد كان عابساً مقطباً حين خرج، ولم يكن كذلك عند دخوله. أيكون قد ساءه شيء من أمير المؤمنين أو من أحد الحاضرين في مجلسه؟ ربما ذكره أمير المؤمنين بموقفه في صفين أو غمزه أحد أصحابنا بقول أو كلمة آذته. فأنت تعرف أن الشاميين لا يطيقون أهل العراق ولا يحتملون رؤيتهم، ما يزالون يذكرون مواقفهم منا، وليس ذلك ببعيد. لقد سالت دماء كثيرة بيننا، والله هو الذي نصرنا عليهم بعد ما كادوا يهزموننا. هل تذكر حين سبقناهم إلى الشريعه في صفين، ومنعناهم الماء حتى كادوا أن يموتوا عطشاً، أو يستسلموا صاغرين، لولا أن شدوا علينا شدتهم المنكرة تلك فكشفونا وأزاحونا عن الشريعة؟ ما كان أقربنا إلى الموت لو أرادوا!

١٣٨

كنا سنموت عطشاً في الصحراء، تأكل لحمنا وحوشها وكواسرها قبل أن تقتلنا سيوفهم ورماحهم. لكن أميرهم: هذا الذي نلعنه كل ساعة، هو الذي منعهم من ذلك وطلب منهم أن يتركوا لنا جزءاً من الشريعة نشرب ونستقي منه. وها نحن أحياء بفضله. إني لأسأل نفسي أحياناً: أي رجل هذا؟! أهناك من يعاف النصر وهو بين يديه لأن الدين والأخلاق يمنعان أن يقتل الأطفال والنساء والبهائم، وليس لهم من ذنب، ولم يفعلوا ما يستحقون به القتل، مع أنه لو فعل، لما كان ذلك إلا جزاء لما أردناه بهم حين ملكنا الماء عليهم. هل تعلم أنني بدأت أشك فيما ينسب إلى هذا الرجل من المشاركة في قتل الخليفة الشهيد عثمان، وأخشى أن نكون قد ظلمناه وحملناه إثم ما لم يفعل. قال ذلك، وهو يدني فمه من أذن صاحبه ويتلفت يميناً وشمالاً وعيناه مصوبتان نحو الباب. ثم أضاف: دعنا من هذا الآن وأخبرني عما يجري داخل القصر الذي نحن من حراسه.

ألا ترى كثرة الداخلين والخارجين من رؤساء العرب ووجوه الناس، على غير العادة؟! إني لأظن أمير المؤمنين يهيّئ لشيء، شيء كبير، فهو يبعت في طلب الرؤساء والقادة يحاول أن يستشيرهم ويعرف رأيهم فيه. ألا تتفق معي في ذلك؟ أي شيء، هذا الذي يفكر فيه أمير المؤمنين؟!

قال الثاني: ومن أين لي أن أخبرك، وأنا معك كل يوم، لا أغيب إلا حين تغيب. ما هو يا صاحبي إلا الظن، وكلمات يقولها بعضهم لبعض همساً وهم معجلون، داخلون أو خارجون، لا أدري إن كنت سمعتها وفهمتها على وجهها. سمعتهم يذكرون يزيد ويمدحونه ويثنون عليه، ويعيبون الأحنف ويسبونه، ويسبون معه أهل العراق. وبين يزيد والأحنف، كان يتردد ذكر أمير المؤمنين معاوية، وأنه صاحب الأمر كله، وواجب على المسلمين طاعته في كل ما يقول ويفعل. أظن... أظن... وتوقف فجأة.

وكان يقطع كلامه كلما أحس حركة قريبة أو رأى أحداً من بعيد، ثم يعود لإكماله بعد ذاك، حتى جاء وقت المناوبة فافترقا، وهو لم يكمل كلامه.

وفي اليوم التالي، كان قد نسي أين وصل في كلامه حين سأله صاحبه أن يكمله.

قال: والله لقد نسيت أين وصلت فيه. هل لك أن تذكرني إن كنت لم تنس أنت أيضاً، فآفة الكلام أن يقطع في كل لحظة.

١٣٩

قال الأول: إنه الحذر يا صاحبي والحذر أو... وأومأ إلى رأسه. لن ينجينا أننا حرس أمير المؤمنين. لقد طارت الوف الرؤوس قبل أن يصبح معاوية أمير المؤمنين، ولا أدري كم من الرؤوس سيطاح بها لكي يحتفظ بإمارة المؤمنين. لقد كنت تردد أمس قبل أن نفترق: يزيد، الأحنف، أمير المؤمنين. ثم (أظن) تكررها، ولا أعرف ماذا كنت تظن، وهو ما أريد أن أعرف، ماذا تظن؟!

قال الثاني: أي والله، هو ما ذكرت، لم يفتك شيء ولم تغفل شيئاً. ثم سكت لحظات قبل أن يقول: أظن الموضوع يتعلق بأخذ البيعة ليزيد خليفة للمسلمين بعد موت أمير المؤمنين أطال الله في عمره وأبقاه. وما هذه الوجوه التي نرى من رؤساء وزعماء، وقادة إلا لأخذ موافقتهم قبل الإعلان عن البيعة.

قال الأول، وهو يحدق في صاحبة مستغرباً: يزيد؟! قال ذلك بصوت عال، ناسياً الحذر الذي كان يتحدث عنه. ربما لأن المفاجئة كانت أكبر من احتماله فأنسته الحذر.

قال الثاني: ويحك أجننت؟! هل تريد أن تقتلنا. أتظن المكان خالياً من العيون، حتى علينا نحن الحرس؟! اخفض صوتك وإلا فإنك لن تسمع من كلمة بعد هذا.

قال الأول: ألا عذرتني إذا صرخت! لقد فاجأتني بأمر ما أظن أحداً يسمع به فلا يصرخ کما صرخت، فيزيد لا يصلح لما دون الخلافة لا الخلافة، أجل مقام عند المسلمين. إن سيرته على كل لسان، وفضائحه لم يبق بين الناس من يجهلها. أترى أمير

المؤمنين يجهل ابنه، والناس كلهم يعرفونه؟! ما أحسبك إلا مازحاً كما عهدتك.

قال الثاني: لا والله ليس في الأمر مزاح. لقد سمعت أن الأحنف، حين أبلغه أمير المؤمنين عزمه على ترشيح يزيد لولاية العهد، قال: نخاف الله إن كذبنا ونخافكم إن صدقنا. وليس هناك من جواب أقوى وأصرح في الرفض من جواب الأحنف هذا.

قال الأول: ولهذا يكرهه أصحابنا. إنه يبقى عراقياً حاقداً على أمير المؤمنين معاوية وعلى يزيد وأهل الشام. وماذا سمعت بعد؟

١٤٠