ويستمر الصراع

ويستمر الصراع25%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72723 / تحميل: 6394
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

قال الثاني: وسمعت أن ثلاثة من أصحابنا ردوا على الأحنف رداً غليظاً قد يكون وراء ما لاحظته عليه من تجهم وعبوس وأن يزيد بن المقنع العذري - وهو من قومك وتعرفه جيداً - قال وقد جرد سيفه: هذا أمير المؤمنين، وأشار إلى معاوية، فإن هلك، فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه الذي كان يهزه بقوة في المجلس. وما أحسبه أراد تهديد الحاضرين فقط، وإنما عن طريقهم، كل من يفكر بالاعتراض أو الرفض.

وأحسا حركة داخل البهو فتوقفا عن الكلام واتخذا هيئة الاستعداد، واختفت الابتسامة التي كانا يتبادلانها قبل قليل، لتغيب خلف المغفر الذي لا يبدو منه إلا العينان وهما تقذفان الرعب والخوف، لكن أحداً لم يخرج.

وأخذ الكلام الحارس الأول ليقول:

والله يا عمرو - وهذا هو اسم الحارس الثاني - لا أرى هؤلاء الثلاثة يجرؤون على قول ما قالوا، لو لم يأمرهم بذلك أمير المؤمنين، ليعلن للناس عزمه الأكيد على تنصيب يزيد خليفة بعده. رسالة واضحة تفيد أن ليس للناس رأي واختيار مع رأي أمير المؤمنين واختياره، وأنهم لا يملكون إلا الخضوع والطاعة... أو السيف الذي جرده.

ثم أضاف: أليس الحق مع أمير المؤمنين الذي لا نملك إلا الخضوع والطاعة والامتثال له؟ هكذا تعلمنا: لو قال رشحت يزيد لولاية العهد لوجب علينا أن نقول: نعم ما صنعت، وهو أفضل الناس لها بعدك. ولو قال: رشحت غير يزيد، لما اختلف جوابنا. لقد علمونا أن طاعة ولي الأمر واجبة مهما فعل. وكل (الأحاديث النبوية) التي نسمعها اليوم تحث على الطاعة. ومعاوية هو ولي أمرنا فوجبت علينا طاعته. وحين يتولى يزيد الخلافة ويصبح هو ولي الأمر، فإن طاعتنا له لن تتغير؛ ستكون كما كانت لمن قبله ولمن يأتي بعده. ما لنا نتعب أنفسنا بالتفكير فيه وفي غيره؟! يكفي أنه أصبح خليفة وولي أمر المسلمين. لسنا كهؤلاء العراقيين الذين أتعبوا أنفسهم وأتعبوا إمامهم حتى قال لهم: (ليت لي بكل عشرة منكم واحداً من أهل الشام...) ما أصدق ما مدحنا به!! إن الطاعة المطلقة لولي الأمر تريحك من التفكير. لقد فرق التفكير أهل العراق وشتتهم. ونصرنا عليهم بعدنا عن التفكير. هل سمعت ما قاله أمير المؤمنين معاوية لمبعوث أهل العراق؟! قال له: (قل لإمامك: إني أحاربك بقوم لا يفرقون بين الناقة والجمل).

١٤١

وما لنا أن نفرق بين الناقة والجمل؟! وما ينفعنا أن نفرق بينهما؟! ليس من شأننا ذلك، إنه من مهمة ولي الأمر.

ألست متفقاً معي فيما أرى؟! مالك لا تجيب كأنني أتكلم مع نفسي؟

قال عمرو: إنني لا أوافقك يا مالك في ربطك هزيمة أهل العراق بالفكر. صحيح إنهم يفكرون، لكنهم لم يخسروا الحرب بسبب الفكر. لم يكن الفكر يوماً سبباً في هزيمة صاحبه، بل على العكس. لقد هزم أهل العراق لسبب آخر غير الفكر. هزموا لأنّهم لم يأتوا جيشاً واحداً. لقد جاؤوا جيوشاً، كل منهم يحمل حقده على الآخر وخلافه له. جاؤوا قحطاناً وعدناناً، ربيعة ومضر، تميماً وقيساً، بصرة وكوفة. جاؤوا يحملون إرث الجمل وثأر قتلاهم فيها، وتأريخاً طويلاً من الدم والأشلاء والنزاع والخلاف، وقريش وما أدراك ما قريش.

وجئنا جيشاً واحداً، قحطاناً فقط أو شيئاً قريباً من ذاك، لم تفرقنا حرب، وليس معنا حقد على بعضنا ولا ثأر عند بعضنا. وكان إمامهم يقاتل بالسيف تسبقه الأخلاق وتحكمه الأخلاق أو أن الأخلاق هي التي كانت تقاتل. وكان خليفتنا يقاتل بالسيف وحده دون أخلاق أو مع عداء للأخلاق، لم يكن يعف عن شيء، ولا يتأثم من شيء. كل شيء عنده مباح مادام يحقق له الانتصار على خصمه. ومع ذاك فنحن معه ومن أنصاره؛ ألا يبدو هذا مضحكاً!

هذا هو السبب يا مالك فاكتف به، فإنه يغنيك، ولست في حاجة لأسباب أخرى كنت سأبسطها لك، لو سمح المكان والزمان.

قال مالك وهو يتلفت مذعوراً: رفقاً بنفسك وبي يا عمرو. والله لو أن احداً سمعنا نتكلم بما نتكلم به، لما أمنت أن نلحق بأهل القبور قبل أن تنتهي من كلامك. إن الكلام محرم في مثل هذه الأمور وفي غيرها مما يمس الحكم من قريب أو بعيد. لقد تعودنا أن نسمع ولا نقول ونطيع ولا نفكر. منعونا من الخوض في حديث علي إلا ما تعلق بقتله عثماناً وخروجه عن الإسلام، ولعنه وسبه ما استطعنا اللعن والسب.

وهنا سمع وقع أقدام يقترب من الباب، فتوقفا عن الكلام واتخذا هيئة الاستعداد واختفت الابتسامة التي كانا يتبادلانها قبل قليل لتغيب خلف المغفر الذي لا يبدو منه إلا العينان وهما تقذفان الرعب والخوف.

١٤٢

الفصل السادس والعشرون

بعد قتل الربيع وموت کعب

ما الذي فعله الربيع بن حنظلة ليقتل؟! هل زور كما زوروا؟! هل قتل كما قتلوا؟! هل ظلم كما ظلموا؟! لم يكن شيء من ذاك. لم يكن شيء مطلقاً من ذاك، ولا قريباً منه. لقد كان صادقاً فيما يروي وينقل ويحدث. لا يروي عن أحد إلا ما سمع منه، ولا يتهم أحداً إلا بما هو فيه. كان هذا شأنه معي. لقد وثقت فيه وارتحت لصدقه، فاعتمدت فيما أكتب على ما يقول. لكن ما قيمة ذلك في نظر معاوية، إن كانت له قيمة عندي وعند أمثالي؟! فها هو ابن أبي سفيان يأمر بقتله، أبشع قتلة يمكن أن يتصورها إنسان. لماذا؟! لسبب لا يستطيع معاوية أن يتحمله: لقد نقلوا إليه أنه مدح علياً في مجلس كان حاضراً فيه.

وكان كعب قد مات قبل الربيع بأيام قليلة، ها أنا حائر الآن،

من الذي سأثق فيه فيما أكتب، وقد فقدت الاثنين في وقت واحد تقريباً؟!

وما أكتب يتصل بأحداث ووقائع وتأريخ ما نزال نتغافل فيه.

وتوقفت عن الكتابة مضطراً، أفتش وأبحث وأتحرى. وجدت الكثيرين، لكن كم هم الذين يمكن الثقة فيهم والاطمئنان إليهم؟! كم هم الذين لم تشترهم السلطة ولم تفسدهم؟!

وأخيراً وجدت اثنين من خيار الناس، فشلت السلطة في شرائهم؛ هما: شبيب بن الحارث وعامر بن سعد. سيكونان صاحبيّ فيما بقي من فصول هذا الكتاب، إن لم تمتد يد السلطة الآثمة إليهما أو إلى أحدهما بالقتل، فأتوقف ثانية عن الكتابة، لأبحث عن آخرين غيرهما.

١٤٣

الفصل السابع والعشرون

البيعة ليزيد

معاوية في المدينة

ماذا يريد ابن الحكم هذه المرة؟! قبل أيام جمعنا ليبلغنا عزم معاوية على أن يختار إلينا من يستخلف بعده، فما الذي استجد منذ ذاك؟!

إن مناديه يطلب من أهل المدينة التوجه إلى المسجد لشأن لابد أن يكون خطيراً، فما كان مناديه ليطلب الاجتماع لولا أن يكون هناك شيء خطير يريد إبلاغهم به: قال ذلك شبيب ابن الحارث لصاحبه عامر بن سعد، وهو يطيل التفكير كأنه يحاول أن يجد الجواب على سؤاله. ثم أضاف: ألم تسمع شيئاً أو تعرف شيئاً عما وراء الاجتماع؟

قال عامر: لا والله. فهنا أنا معك منذ الصباح، لم أفارقك ولم تفارقني، فمن أين لي أن أعرف؟ سنذهب ونرى ونسمع، وما أظننا سنرى أو نسمع خيراً.

وكان مروان بن الحكم، والي معاوية على المدينة، قد جمع الناس قبل اجتماع اليوم، ليبلغهم ما ذكره شبيب في عزم معاوية على تعيين ولي للعهد ليكون خليفة للمسلمين بعده.

وتسارع الناس إلى المسجد الكبير ليعرفوا الأمر الذي جمعهم من أجله مروان.

وبدأ مروان الكلام فذكر فضل معاوية ودينه واستقامته. قال ذلك وهو يستعرض الوجوه ليعرف ما تركه كلامه فيهم. لم يجب أحد إلا بابتسامات ساخرة أو نظرات غضب يتبادلها الحاضرون.

ثم انتقل من معاوية إلى يزيد، فاثنى عليه في دينه وتقواه وعبادته! قل أن يفاجئ المجتمعين بأن معاوية قد اختاره ولياً لعهده وخليفة للمسلمين بعده. ولم ينس مروان في نهاية كلامه أن يشكر لمعاوية اهتمامه بأمور المسلمين ورعايته لهم في حياته وبعد موته، وأن يهنئ جميع المسلمين بولي العهد الجديد وخليفة المستقبل: يزيد.

وصعق الحاضرون، فقد كانوا ينتظرون كل شيء إلا تعيين يزيد خليفة للمسلمين.

١٤٤

وتعالت الأصوات بالرفض من جميع الحاضرين. إنهم لا يعترفون بخلافة معاوية نفسه، فكيف سيقبلون خلافة يزيد، ولو سئلوا عن أفسد أهل الأرض لما تجاوزوه. لكن أفراد الجيش الذين انتشروا في المسجد، وأسلحتهم بأيديهم، استطاعوا أن يسيطروا على الموقف، بضرب البعض واعتقال البعض وتهديد الآخرين.

وغادر المجتمعون المسجد وهم غير مصدقين: بين من يسب وبين من يضحك، وبين من يندب الإسلام حزيناً يكفكف دموعه وهو يسمع أن يزيد هو خليفتهم المنتظر.

ومرت أيام أخرى قبل أن يصحوا أهل المدينة على وضع مريب لم يعرفوه: أعداد من الجيش باستعداد كامل ينتشرون في المدينة ويقفون عند مداخلها يفتشون الداخل والخارج ويعتقلون من يرتابون فيه، والناس يتساءلون دون أن يعرفوا الجواب. وإذا إجابوا، فلن يكون جوابهم غير الإشارة إلى الجنود يحظرون بسيوفهم ورماحهم، يرهبون السكان الذين يسرعون الخطي إلى بيوتهم أو أعمالهم غير ملتفتين إلى ما يجري أمامهم.

ويعود شبيب ليسأل عامر بن سعد: ما الذي يجري يا ابن سعد؟ والله، ما جئتك إلا بعد عناء، حتى فكرت بأن ألغي زيارتك وأرجع إلى البيت. ما الأمر؟

قال عامر: لقد أخبرني من أثق فيه أن معاوية قد وصل أو يوشك أن يصل المدينة. وما تراه من انتشار جنود وتفتيش وسلاح فإنما هو لحمايته.

قال شبيب: وما الذي جاء به إلينا إذا كان خائفاً منا؟!

ماذا يريد معاوية؟! والله، لم يحب أهل المدينة يوماً ولم يحبوه.

ماذا لقينا منه ومن ولاته! أمجزرة أخرى بعد مجزرة بسر؟! ما أشد محنة الإسلام بمعاوية وأشباه معاوية!!

قال عامر: وأخبرني أيضاً أنه جاء على رأس ألف فارس كاملي السلاح، ولن يغادر المدينة قبل أخذ البيعة من أهلها ليزيد، طوعاً أو كرهاً رضاً أو جبراً، وبعد أن اطمأن وأخذ بيعة أهل الشام والعراق.

قال شبيب: أتراه جاء لأخذ البيعة من أهل المدينة، أم لحرب أهل المدينة؟! ماذا أبقى للحرب لو أراد أن يحارب؟ ألف فارس لأخذ البيعة؟! هل تحتاج البيعة لألف فارس؟! كان يكفي معاوية أن يعلن في الناس ترشيح ابنه يزيد للخلافة بعده، ويترك لهم الحرية في الاختيار، وسيختارونه، لو وجدوه أهلاً للخلافة.

١٤٥

قال عامر: والله ما رأيتك هازلاً كما رأيتك اليوم. وهل في المدينة وغير المدينة من يختار يزيد للخلافة. والله لو علم معاوية أن واحداً من كل مائة من الناس يختار يزيد لكان رابحاً ولا فعل ما فعل، وإنما هي القوة والقهر، وما تراه الآن في المدينة من جيش مدجج لا شيء عنده أسهل من سفك الدم. إن معاوية ينظر إلى المدينة كواحدة من أهم أو أهم الجبهات التي يخوض معاركه فيها ويريد أن يكسبها.

ولهذا جاء بهذا الجيش الكبير، ليكسر شوكة أهلها ويستذلهم ويفرض عليهم طاعته في بيعة يزيد وفي غيرها. إن لمعاوية ثاراً قديماً عندهم، يوم دخلوا عليه، هو وأهله، مكة وفتحوها، يوماً لن ينساه معاوية ولا بنو أمية.

قال شبيب، وهو يتذكر ما كان يحدثه أبوه عن فتح مكة وما تلاه من أحداث حتى الساعة التي هو فيها مع عامر: ألا ترى أن نبدل باسم البيعة، أي اسم آخر يناسب ما يسير عليه الحكم عندنا؟! فالبيعة تعني الرضا والقبول والاختيار عند من يبايع، وليس الحال كذلك، بل عكس ذلك مع حكامنا: ليس مع يزيد رضا أو قبول أو اختيار، ولم يكن مع أبيه رضا أو قبول أو اختيار.

وما لنا وليزيد وأبيه؟! فهل رشح الناس من كان قبلهما، ليقال إنهم رضوه وقبلوه واختاروه على غيره؟!

حين لا يكون إلا واحد بعينه ينصبه واحد بعينه، ويفرضه بالسيف والقهر والخديعه، وتنعدم الحرية لدى الناس، وليس أمامهم إلا من استخلف عليهم، رضوا أم أبوا، فمن الظلم كل الظلم أن تتحدث عن بيعة ورضا وقول واختيار. إننا يا صاحبي نحصد اليوم ما سنّه الذين كانوا قبل معاوية. هل تعرفهم؟

قال عامر: وهل بقي من لا يعرفهم؟! أعرفهم جيداً، والله لو لم يكن منهم إلا تأسيس ولاية العهد لكفاهم ذلك ظلماً للإنسان وسلباً لحريته وامتهاناً لحقوقه.

قال شبيب: لكنهم لم يكونوا کيزيد.

١٤٦

قال عامر: أعرف ذاك. لم يكونوا کيزيد، ولكن من سهل الطريق ليزيد. أليس هو من سنّ بدعة ولاية العهد؟!. لولا ولاية العهد، أكان يزيد يحلم يوماً أن يكون خليفة للمسلمين؟! لِم لم يفعلوا كابن أبي طالب؟! إنه الوحيد الذي جاءته الخلافة بالشورى وتركها للشورى. لم يأت بتعيين أحد ولم يعين للخلافة احداً.

قال شبيب: ذاك ابن أبي طالب: الوحيد في كل شيء. لن تظفر بمثله، فلا تتعب نفسك، وعد بنا إلى حديث هذا القادم الينا من الشام، كم سيقيم هنا؟

قال عامر: ما أظنه سيمكث طويلاً. سيتجه إلى مكة لتأمين بيعتها ليزيد، ثم يعود إلى المدينة لأخذ البيعة من أهلها، بعد أن يكون مروان قد سعى بها وهيأها ومهد طريقها.

قال شبيب: كان الله في عون أهل مكة.

قال عامر: كان الله في عونهم، لو كان الدعاء وحده يجدي.

١٤٧

الفصل الثامن والعشرون

يزيد خليفة

الحسين يترك المدينة إلى مكة

مرت أربعة أعوام قبل أن يتولى يزيد الخلافة. ففي رجب من عام ٦٠ للهجرة، على اختلاف في أي يوم منه، مات معاوية، وتحول يزيد من ولي عهد للمسلمين إلى خليفة لهم.

ولم يكن يزيد، على أي صعيد ومن أي جانب نظرت إليه، يصلح للمنصب ولا لما هو دونه، لو لا ازدراء معاوية بالمسلمين وبخلافتهم. ولولا ما لحق الحياة الإسلامية من فساد بلغ بهم الحد الذي جعل من يزيد إماماً لهم وخليفة. وهو فساد ثقيل طويل بدأ قبل معاوية ولم ينتهِ بموت معاوية. وقد عرضت لبعض وجوهه في فصول سابقة.

وعندما تولی يزيد الخلافة، كان أكبر همه أن يأخذ البيعة من الحسين، بأي ثمن، وبقتله لو رفض.

وكان الحسين في المدينة حين مات معاوية، والوالي عليها يومذاك، الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ابن عم يزيد. وكانت المدينة تعيش حالة من الرعب والخوف والإرهاب فرضها معاوية عليها.

وكتب يزيد يستحث والي المدينة ويشدد الضغط عليه في أخذ البيعة من الحسين. ولم يكن يزيد ولا أهله من بني أمية وأنصارهم وحواشيهم يجهلون ما تعني بيعة الحسين، لأهل المدينة ولغير أهل المدينة من المسلمين.

فلو بايع الحسين، بما يمثله من ثقل روحي كبير ووزن شخصي وأبوي وأسري فريد، لسقط آخر حصن كان سيلجأ إليه الناس وهم يقارعون الظلم، ولأنها، آخر أمل لهم كان يمنحهم القوة والعزيمة والصبر في مواجهة الاستبداد الأموي، ولاستسلم من كان لا يزال ممتنعاً، محارباً أو متهيئاً للحرب، وهو ينظر إلى الحسين وينتظر ما يصنع. ولمضى يزيد بعد ذاك، ومعه المشوهون والمنتفعون والطامعون: أمويون وغير أمويين، في ظلمهم وطغيانهم واستبدادهم، لا يرقبون شيئاً ولا يخافون شيئاً، آمنين مطمئنين كأحلى ما يكون الأمن والاطمئنان.

من هنا كان إصرار يزيد وتشديده في أخذ البيعة من الحسين.

١٤٨

وطلب والي المدينة من الحسين أن يبايع بالخلافة ليزيد، فأبى الحسين وامتنع. وأصر الوالي، وأصر الحسين قائلاً في ختام اللقاء قولته التي ما تزال تدوي على مر العصور ما تمثل شموخ الإنسان وكبريائه في أسمى وأروع وأنبل صورة: (مثلي لا يبايع مثله).

وما كان لمثل الحسين أن يبايع مثل يزيد، وما كان لواحد دون الحسين أن يبايع مثل يزيد.

وفي اليوم التالي کان الحسين يغادر المدينة مع عدد من أهل بيته وأنصاره معلناً رفضه مبايعة يزيد وتوجهه إلى مكة، وإن من أراده فليلحق به في مكة. إنه سيكون هناك، سينطلق، وتنطلق الثورة من هناك. قالها الحسين واضحة قوية لتبلغ الجميع، حتى ينقطع العذر عمن يلتمس العذر بعدم الدراية والعلم.

وأصبح خروج الحسين حديث أهل المدينة وشاغلهم، وقد حبس كل منهم أنفاسه ينتظر ويتوقع ويسأل ويناقش.

وانتشر جواسيس السلطة وعيونها في كل زاوية من المدينة يراقبون تحرك أهلها واتصالهم ببعضهم أو بالآخرين من غير أهلها.

ولم يقتصر نشاط السلطة على المدينة وحدها، فقد امتد ليشمل مكة والبصرة والكوفة التي ستكون مسرح الحدث الكبير.

قال شبيب بن الحارث لعامر بن سعد بعد خروج الحسين: ما أخبارك يا ابن سعد؟ وما أظن مع أخبار الحسين أو بعد أخبار الحسين من أخبار يسأل عنها اليوم؟! هل من جديد عندك؟

قال عامر: لقد كفيتني أنت الجواب على سؤالك. ليس من حديث لأهل المدينة غير حديث الحسين وذهابه إلى مكة، والأحداث الكبيرة التي ستعقب ذلك. كل شيء يشير إليها، وكأنك تراها.

قال شبيب: صدقت والله يا عامر، لقد قطع الحسين كل شك في عزمه على مواجهة الظلم الأموي الذي لا يريد أن يقف عند حد. وهل غير الحسين من هو قادر على ذلك؟! من غير الحسين؟! رددها أكثر من مرة بصوت حزين كان يزداد ضعفاً كلما يرددها أكثر.

١٤٩

قال عامر وكأنه يجيب شبيباً: ومن غير الحسين! لقد خرج حين لم يجد أمامه إلا أن يخرج، لا أشراً ولا بطراً كما قال. لكنه خرج للإصلاح بعد اليأس منه. خرج معلناً للناس أنه خارج، لا كما يفعل الخائف المتردد الضعيف. هكذا هو دائماً، وما أحسب أن بين المسلمين من يسعه الآن البقاء في بيته، يكتفي بمتابعة الأحداث وما ستصير إليه ليقرر عند ذاك. هؤلاء لا ينصر بهم حق ولا يهزم باطل. هؤلاء يريدونها دون ثمن، وهيهات. واجب المسلمين الآن، الالتحاق بالحسين، وهو عازم على جهاد الظالمين. ماذا ينتظرون إذن؟! ها هو الحسين يقطع عليهم الحجة.

قال شبيب: وماذا سيفعل الحسين بعد الذهاب إلى مكة؟ هل سيبقى فيها ويعلن ثورته منها، ام سيواصل المسير إلى مكان آخر غيرها؟

قال عامر: والله لا علم لي بذاك، لكني ما أظنه سيمكث طويلاً في مكة. فأنت تعلم أن بني أمية سيهدمون مكة بيتاً بيتاً للوصول إلى الحسين وقتله. وبيت الله أكرم على الحسين من أن يجعله هدفاً لطغام بني أمية يهتكون حرمته ويفعلون فيه ما يريدون، وربما كان هذا هو ما يريدون.

قال شبيب: وهل سيتركه بنو أمية، حتى لو غادر مكة؟!

هل سيتركونه يمضي في طريقه دون أن يقتلوه قبل أن يجتمع عليه الناس، والجيش معهم والمال في خزائنهم؟!

قال عامر: أترى الحسين يجهل ذاك؟! أتراه غافلاً عن ذاك؟! لكن الأمر يدور عنده بين اثنين لا ثالث لهما: بين أن يقتل ليحيي الأمة، وبين أن يستسلم لتستسلم الأمة وتذل وتخضع فينتصر بنوا أمية ويتأيد حكمهم دون حرب ولا دم ولا قتال، بأهون الوسائل وأضعفها وأيسرها ثمناً، بالقبول والاستسلام. هذا هو الخيار عند الحسين. هذا هو ما يفكر فيه، وما فكر فيه عندما غادر المدينة: يعرف أنه سيقتل، لكنه يعرف أنه لن يموت، وأن دمه ودم أهل بيته وأصحابه سيحيل الأرض ثورة تلاحق الطغاة وتهز عروشهم في كل مكان وزمان.

قال شبيب: وماذا أنت فاعل يا عامر؟

١٥٠

قال عامر: سأمضي معه أكتب وأروي ما أرى وأسمع دون تزوير ولا كذب. ألا يكفي هذا؟! أليس هذا شيئاً يستحق الثناء، وقد زوروا التاريخ يا ابن سعد؟! لقد رووا ما لم يرو أو لم يشاهدوا ولم يسمعوا. وإن قتلت، فنعم ما أختم به حياتي، شهيداً مع الحسين. ولكن قل لي يا ابن سعد، اتحسب لي شهادة كاملة، وأنا لم أقصدها عندما التحقت بركب الحسين؟!

قال عامر: والله إني لا أعرف الشهادة مجزأة أنصافاً وأرباعا لأخبرك إن كنت تستحق النصف أو الربع أو الأكثر أو الأقل منها. شهادة أولا شهادة. هذا ما أعرفه، وإن كنت تعرف غيره، فذلك شأنك.

ومضى الاثنان ليلتحقا بركب الحسين.

١٥١

الفصل التاسع والعشرون

الحسين، الرحيل من مكّة

مكة حزينة ساكتة على غير عادتها في مثل هذه الأيام من كل عام، إنها تقترب من العيد الكبير. سيحل عن قريب. لكن الناس لا يبدو عليهم شيء من مظاهر العيد. ليس هناك ما يشير إليه، لا حركة ولا نشاط ولا فرح. لا يبتسم الواحد منهم إلا ليسترجع الابتسامة، وكأنه يتذكر شيئاً موجعاً سيحل به.

الرجال يتهامسون حين يلتقون في الشارع أو في المسجد، والنساء يتساءلن في البيوت في زياراتهن لبعضهن، وعلى وجوه الجميع آثار حزن لا تخفی. شيء واحد يشغلهم ويحزنهم ويقلقهم، يبدؤون به عندما يلتقون أو ينتهون به عندما يفترقون: متى سيرحل الحسين وماذا ينتظره بعد الرحيل؟ ماذا سيكون موقف بني أمية منه؟ بني أمية الذين يعرفونهم، اليوم وقبل اليوم: هؤلاء المجرمون الذين حكموا فأساؤوا وأسرفوا في الظلم. إنهم أعداء الله وأعداء الأمة، أعداء كل القيم النبيلة للإنسان.

ويقترب الموعد، يسير الوقت حزيناً باكياً، وكل واحد من أهل مكة حزين باك.

اليوم هو الثامن من ذي الحجة. الحسين يطوف البيت مودعاً. آخر مرة يطوف فيها البيت، ليبدأ الرحيل بعد ذاك.

مكة كلها تخرج لوداعه. دموع المودعين تختلط بزفراتهم التي تكاد تخنقهم. ليته يبقى. ليتهم يستطيعون أن يعيدوه إليهم: قالها أهل مكة وهم يخرجون لتوديعه، لكنه الواجب الذي لا يمكنه أن يتخلى عنه. من الذي سينهض به؟! إن صلاح الأمة، حاضراً ومستقبلاً، يحتاج إلى دمه، وهو لن يبخل به ما استطاع أن يعيد إليها وإلى جميع المستضعفين والمظلومين حقوقهم التي سلبها الطغاة المستبدون.

١٥٢

الحسين يتقدم الموكب الذي هم الصفوة من الأهل والأصحاب، وقد أرسل آخر رسالة له قبل رحيله: (من لحق بي فقد استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح...) إنها رسالة الشهادة واضحة قوية تهيب بالضعاف والمترددين أن يجمعوا أمرهم ويلتحقوا به، إن كانوا مستعدين للشهادة التي أعلن عنها بوضوح كامل، ليكون من يريد اللحاق به عارفاً ما سيستقبله؛ ليس عنده غنائم ولا مال ولا يمنيه بشيء منهما. المال عند أعدائه الذين يتوجه لملاقاتهم، أما هو فليس عنده إلا الشهادة لمن يختارها ويرضاها.

ويبتعد ركب الحسين ويعود المودعون ودموعهم تجري، يلتفتون بين الحين والحين نحو الركب الذي غاب، لا يتكلمون لا يستطيعون الكلام ولا يحتاجونه، دموعهم أبلغ من كل كلام، فلن يكون كلامهم إلا عن الحسين الذي ودعوه قبل قليل، ولا يعرفون ماذا سيجري له، بل يعرفون؛ لأنهم يعرفون بني أمية. لن يروه بعد اليوم. إنها نهاية العهد به. لن تراه مكة، ولن يعمر مسجدها بوجوده.

ويعلو البكاء...

ويمضي الحسين مهيباً شامخاً كبيراً يملؤه الإيمان بالرسالة الكبيرة التي يحملها والتي لا يحملها ولا يؤديها غيره.

يمضي ساخراً من بني أمية ومن الموت، فهو الأكبر. الأكبر الذي لا يموت. ستحتضن الإنسانية كلها أشلاءه التي انتشرت على أرض كربلاء، كربلا التي ستصبح ملهمة الثوار ونشيدهم وشعارهم، بعد ما سقي ثراها دم الحسين ودم الكرام من أهله وأصحابه.

١٥٣

الفصل الثلاثون

أول الطريق إلی کربلاء

ها هو ركب الحسين يبتعد أكثر من مكة. لقد غابت وراء الأفق ولم تعد منذ اليوم إلا ذكريات، هم في شغل عنها الآن بما يستقبلون.

عدد قليل من الرجال والفتيان، ومعهم بعض النساء والصبية، أكثرهم السائرون على أرجلهم، لا يملكون فرساً ولا جملاً، ولا شيء مما يسهل عليهم الطريق ويقيهم عثاره، إلا العزيمة والإيمان الذي يتحول عند صاحبه إلى قوة فريدة لا يشغلها الطريق. قوة لا يعرفها الإنسان إلا إذا كان هو من هذا الفرع الفريد من الناس.

ها هم يأخذون طريق الكوفة.

ثمانون من الرجال ماذا يريدون؟! إن شيئاً كبيراً هذا الذي يطلبون، شيئاً لم يعرفه أهل الأرض في حساباتهم قديماً، ولن يعرفوه في حساباتهم مستقبلاً. ثمانون تتقاذفهم صحراء العرب الواسعة الكبيرة، لا يثنيهم حر ولا تعب ولا شوك ولا خوف، وإن الإنسان ليتجنب السير فيها ليلاً بعدما تغيب الشمس وينكسر الحر وينزل البرد. أية رسالة كبيرة يحملونها حتى يستسهلوا كل هذا العناء الذي لن ينتهي بهم على راحة ليخف احتماله، بل الی موت، يعرفون هم قبل غيرهم، إنهم مقدمون عليه. أتراهم كانوا هواة موت؟!

نعم، حين يكون الموت هو السبيل الوحيد لتحرير الإنسان من ظلم طويل ثقيل، أفسد الحياة وارعب الناس وأشاع الخوف وشوّه القيم وشل الفكر واستحل المحرمات، كل المحرمات.

وليس هذا ظنا ولا تخميناً.

لقد خرج الحسين بنية الشهادة، وخرج أصحابه معه بنية الشهادة. كان على علم بأنه سيقتل. لم يغب عنه ذاك، لكنه لم يثنه.

أكان يجهل قدرات الحكم وما يتمتع به من أسباب القوة والسيطرة والنصر في المعركة التي سيخوضها معه بعد أيام، وهو يتوجه إلى ساحتها؟!

أهناك أبين وأوضح من رسالته قبل أن يترك مكة: (... من لحق بي فقد استشهد...)

١٥٤

أهناك ما يؤكد الشهادة أكثر من لفظ الشهادة في هذه الرسالة الخالدة يوجهها الحسين إلى من يريد اللحاق به، حتى يكون على وضوح من أمره حين يقرر اللحاق به؟!

أكان الحسين يجهل جيش الخصم الذي لا عدد له، يبدأ بالكوفة، ولا ينتهي بالشام؛ كلما فشل جيش، جاء جيش أو جيوش.

أكان يستطيع في الحساب البسيط، حساب الأعداد والأرقام والسلاح، أن يحرز نصراً في معركة مع الحكم الأموي، حتى لو لم ينكث الذين كتبوا إليه وبايعوه في الكوفة، حتى لو وفوا بعهدهم وانضموا إليه وقاتلوا معه؟! كم سيكون عددهم في أحسن وافضل الحالات؟!

لم يغب ذلك عن الحسين، ولا يمكن أن يغيب. وهو واضح في أجوبته لمن سأله عن خروجه لقتال جيش الأمويين مع قلة من معه.

لقد أخبره الفرزدق، وهو في حدود مكة لم يغادرها بعد: ( إن قلوب الناس معك وسيوفهم عليك ).

ماذا يعني هذا القول؟

ما قيمة أن تكون قلوب الناس معه، حين تكون سيوفهم عليه؟! ماذا ستجدي عليه القلوب، وهي لن تجدي شيئاً في ساحة المعركة؟! ماذا سيتغير في موازين القتال، والكلام كله للسيف لا للقلب؟!

لقد كان الحسين، بعد الذي سمعه من الفرزدق، يستطيع العودة إلى مكة، وهو لم يكن قد بعد عنها، أو يغير طريقه إلى أي بلد آخر غيرها، لولا نية الشهادة عنده. لكن الحسين لم يختلف بعد سؤال الفرزدق، عنه قبل سؤاله. لم يحاول أن يستقصي في السؤال والدخول في تفاصيل الأمر، كما يفعل في مثل هذه الحال، من يفكر في العدد: من معه، ومن عليه من جيش الخصم. واكتفى من الفرزدق بهذا الجواب العام المقتضب، وهو يقصد الكوفة، حتى قال الفرزدق نفسه: (فو الله ما فتشني عن أكثر من ذلك) أي لم يسألني عن شيء آخر.

بل إن الحسين نفسه طلب من أصحابه أكثر من مرة أن يتركوه وينجوا بأنفسهم، وإنه يحلهم من عهدهم له ولا ذمام عليهم ولا لوم، ويستطيعون أن يتخذوا من الليل جملاً لهم لا يراهم ولا يرونه، إن كانوا يشعرون من ذلك حرجاً في النهار.

١٥٥

كيف أفسر ذلك؟! هل أستطيع أن أجد تفسيراً له غيرما ذكرت من نية الشهادة عند الحسين ابتداء، وقبل مغادرته مكه؟!

أرأيت من يريد المعركة والانتصار فيها - بحسب المقاييس المعروفة - يفضل التفكير في عدد الأنصار والخصوم، وهو أول وأهم ما يفكر فيه المقدم على أية معركة؟!

أرأيت من يريد الدخول في معركة - وأهم عناصرها الرجال المقاتلون - يطلب من رجاله وأنصاره أن يتركوه، غير الحسين في ملحمة كربلاء؟!

أرأيت من يقصد الموت ويزحف إليه راضياً سعيداً، غير هؤلاء الرجال والأنصار؟!

لماذا؟

لأن الحسين كان يقصد ابتداء إلى الشهادة.

ولأن أنصار الحسين كانوا يقصدون ابتداءً، حين التحقوا بالحسين، إلى الشهادة.

كان الحسين عالماً، وكانوا عالمين.

ثم تكرر قول الفرزدق، من غير الفرزدق على طول الطريق بين مكة وكربلاء. ولم يكن صعباً على الحسين أن يجد بلداً آمنا يذهب إليه ويبقى فيه حتى يجتمع إليه أنصاره، ثم يقاتل إن أراد القتال، كما اقترح عليه الطرماح بن عدي الطائي الذي عرض على الحسين أن يذهب إلى قبيلته طي، ويمتنع هناك في جبلها، وسيأتيه في أيام قليلة جيش كثيف منهاومن غيرها وكلهم له أنصار ومقاتلون أشداء بين يديه.

لكن القتال سيكون عند ذاك، بين جيش وجيش. لن تكون فيه الشهادة التي أرادها الحسين عنواناً لملحمة كربلاء. لن يكون النصر الذي أراده الحسين للإنسان خالداً ما بقي الإنسان. سيكون هناك جيش منتصر وجيش مهزوم كما يحصل في كل قتال وكل معركة.

لقد تقاتلت جيوش قبل الحسين وبعد الحسين، وانتصرت وانهزمت جيوش قبل الحسين وبعد الحسين؛ فأين هي القيم الكبيرة التي يستلهمها الإنسان من جيش منتصر أو جيش مهزوم؟!

أي درس يمكن أن يقدمه للإنسانية، قتال بين جيشين لابد من انتصار أو هزيمة أحدهما فيه؟!

١٥٦

لقد أراد الحسين الشهادة وقصدها؛ لأنها وحدها التي تمثل القيمة الكبيرة والمثل الأعلى؛ لأنها وحدها التي تلهم الإنسان وتبقى تلهمه على امتداد العصور؛ لأنها الخزين الروحي الذي يمد الإنسان بالقوة والثبات كلما تعرض للظلم في أية بقعة من هذه الأرض؛ لأنها تجسيد لكبرياء الإنسان وشموخه وإنسانيته؛ لأنها تجمع كل قيم الخير والسمو والجمال في عالم يضيق عنها أو تتسع عليه؛ لأنها... لأنها الشهادة.

١٥٧

الفصل الحادي والثلاثون

في الطريق

ويستمر زحف الثمانين. ويزحف معهم عدد من هؤلاء الذين يدفعهم الفضول أو الطمع حين يتوهمون أن هناك ما يطمعون فيه من غنائم وأموال. وهم على استعداد للرجوع أو الابتعاد وتجنب الخطر في أي وقت ينعدم فيه الطمع أو يحسون الخطر.

إنهم لا يحملون رسالة ولا يدافعون عن قضية. لكنهم من الذين اعتادوا أن يصحبوا الغزاة ويتبعوهم علهم يصيبون شيئاً مما يتركه هؤلاء أو يتفضلون به عليهم.

ولقد كان عدد منهم قد تبع ركب الحسين، لكنهم سرعان ما انفضوا عنه حين تأكدوا أن لا شيء معه مما يفكرون فيه، ليبقى فقط أصحاب الرسالة، لا يلتفتون إلى من تركوهم؛ لأنهم لم يلتفتوا إليهم حين صحبوهم.

إنهم يواصلون السير إلى غايتهم بعزيمة المؤمنين الصادقين ذوي النية والبصيرة الذين لم يفكروا في الموت، أو استغلوا الموت في جنب ما يسعون إليه. لم يكن أمامهم إلا أحد خيارين: أن يموتوا أو أن تموت القضية التي يحملون، وقد اختاروا الأول منهما.

إني لأراهم الآن، ووجوههم مشرقة مطمئنة، لا يشغلهم مما يشغل الناس إلا القضية الكبيرة التي يحملونها، حريصين على أن يؤدوها.

لا يفكرون في كثرة عدوهم وقلتهم، ولا في بطشه وسلاحه ولا في مكره وماله. ليس ذلك مما يهيمهم ولا يقلقهم، وربما وجدوا فيه الأسلوب الأروح والأكمل في أداء الرسالة وتبليغها وضمان الخلود لها وإبقائها حية قوية متجددة تتعالى على الشرح والكتابة؛ لأنها تساكن الإنسان عقلاً وفكراً وعاطفة.

١٥٨

الفصل الثاني والثلاثون

في الطريق إلی الکوفة

زهير بن القين

لم يخطر في ذهن زهير بن القين: شيخ بجيلة وزعيمها في الكوفة - أن يكون يوماً في صف الحسين أو من أصحابه، لا أن ليقتل دفاعاً عنه. لقد كان الرجل عثماني الهوى، يناصر العثمانيين ويعادي أعداءهم.

هكذا كان دائماً؛ موقف ثابت لم يغيره ولم يحد عنه.

فما الذي جرى ليحوله من موقف إلى نقيضه. من مناصر للعثمانيين إلى مستشهد بين يدي الحسين يحمل سيفه ضد من كانوا رفاقه حتى أيام مضت؟!

كان زهير قد ذهب إلى مكة حاجاً، ومعه عدد من قبيلته بجيله وآخرون من غيرها.

وفي مكة سمع أن الحسين خرج قاصداً الكوفة في الثامن من الشهر الحرام؛ فما كاد يقضي مناسك حجه حتى أخذ هو أيضاً الطريق إلى الكوفة معجلاً.

ولم يكن زهير يريد أن يلتحق بالحسين، ولم يكن من أنصاره، لكنه أحس أن شيئاً كبيراً سيحصل في الكوفة أو قبلها، حين يتواجه، الحسين مع جيش الأمويين؛ فهو لا يجهل الحسين ولا يجهل الأمويين، ولا يجهل الوضع في الكوفة التي لم يغادرها إلا منذ قريب.

وأسرع زهير السير حتى أدرك ركب الحسين في بعض الطريق.

كان يريد ألا يفوته الحدث حضوراً ومشاهدة لا نقلاً ورواية، وهو قريب منه لن يتكلف له جهداً ولا مالاً، والحدث كبير لن يتكرر.

وكان الطريق حتى الآن واسعاً عريضاً يسمح لزهير بأن يسير فيه كما يريد دون أن يغيب عنه ركب الحسين، متجنباً الاقتراب منه، ومتجنباً في الوقت نفسه، الابتعاد عنه.

ها هو ركب الحسين يصل إلى زرود، وهي محطة يستريح فيها المسافرون وتقع في طريق ضيق لا يستطيع زهير إلا أن يكون قريباً من ركب الحسين، وهو يحط رحاله فيها.

وينزل الركب في جانب من زرود، وينزل زهير ومن معه في جانب آخر، لكنه ليس بعيداً.

١٥٩

ويرسل الحسين في طلب زهير.

ولم يكن زهير يريد لقاء الحسين، كان يكره ذلك ويتحاشاه. وحين جاء رسول الحسين يطلبه، دهش وتحير ولم يعرف بم يجيب. وليس الجواب سهلاً، والحسين يطلبه، وعثمانيته تمنعه.

كان حائراً متردداً في اتخاذ الموقف، حين جاءه صوت زوجته عالياً ليحسم الأمر ويقطع على زهير تردده.

قالت زوجته بلهجة فيها إنكار وحزم: (سبحان الله أيبعث اليك ابن بنت رسول الله ثم لا تأتيه. ألا أتيته فسمعت كلامه).

فاستجاب زهير وقرر أن يذهب إلى الحسين، لكنه سرعان ما عاد. وعرف قومه ما عاد به؛ كان مسرعاً هاشاً طلق الوجه رضي النفس؛ لم يكن زهير الذي عرفوه وصاحبوه. لم يعد للتوتر مكان فيه. ما الذي أعطاه الحسين؟ وهو لا يملك أن يعطي إلا الشهادة لمن يريدها ويختارها، وهم قليل.

أكان زهير منهم؟ أكان زهير ممن يريد الشهادة ويعشقها؟

قال وهو يدخل على قومه بعد لقائه الحسين: (من أحب منكم أن يتبعني، وإلا فهو آخر العهد بي...). قال ذلك وهو يجمع متاعه معجلاً ليرجع إلى الحسين ومعه ابن عمه سلمان بن مضارب.

قال شبيب بن الحارث، وهو يرى زهيراً وابن عمه مقبلين: ألم أقل لك يا عامر، إن زهيراً سيعود، لكأنه كان خائفاً من نفسه وهو يمتنع عن لقاء الحسين على طول الطريق. كان يدرك أن لقاء الحسين سيكلفه ما لا يريد: حياته أو غضب السلطان عليه وجفوته له، وهو أقل ما يكلفه.

قال عامر: لقد كان يخشى أن يواجه الحق فيضعف وكان جانب الخير لم يمت فيه بعد، وكان يخاف هذا الجانب أن يغلبه حين يواجه الحسين. ما أسعدك يا زهير، وأسعد ابن عمك! وما أرخص ما تركتما وأنتما تضمنان الخلود والفوز الكبير! قال عامر هذا، وهو يسابق شبيباً إلى استقبال زهير ومضارب.

١٦٠

بل إنّ ظاهر كلمات المحققين من النحاة صحة تركيب « هو أولى » و « هما أوليان »، فإنّهم قد صرّحوا بجواز حذف « من ومجرورها » بعد اسم التفضيل، ولهم على ذلك شواهد من الكتاب وأشعار العرب: قال الأزهري: « وقد تحذف من مع مجرورها للعلم بهما، نحو:( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ) أي من الحياة الدنيا. وقد جاء الإِثبات والحذف في:( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) أي منك. وإلى ذلك أشار الناظم بقوله:

وأفعل التفضيل صله أبداً

تقديراً أو لفظاً بمن إنْ جرّدا

وأكثر ما تحذف من مع المفضول إذا كان أفعل خبراً في الحال أو في الأصل، فيشمل خبر المبتدأ وخبر كان وان وثاني مفعولي ظن وثالث مفاعيل أعلم »(١) .

وقال الرضي: « وإذا علم المفضول جاز حذفه غالباً إنْ كان أفعل خبراً كما يقال لك: أنت أسن أم أنا؟ فتجيب بقولك: أنا أسن. ومنه قوله: الله أكبر ويجوز أن يقال في مثل هذه المواضع: إن المحذوف هو المضاف إليه، أي أكبر كلّ شيء ويجوز أن يقال: إن من مع مجرورة محذوف، أي أكبر من كلّ شيء »(٢) .

والأعجب من كل ذلك غفلة الرازي عن صيغة التكبير الذي يفتتح به الصلاة في كل صباح ومساء.

١٣ - وجوه بطلان منع « هو أولى الرجل » .

وأما قول الرازي: « وتقول: هو مولى الرجل ومولى زيد ولا تقول هو أولى الرجل ولا أولى زيد » فيبطله وجوه:

____________________

(١). التصريح في شرح التوضيح ٢ / ١٠٢.

(٢). شرح الكافية: مبحث أفعل التفضيل.

١٦١

الأول: إذا كان ملاك التركيب لدى الرازي هو العقل لا الوضع، فأيّ استحالة عقلية تلزم من هذا التركيب؟

الثاني: إنّ إضافة « أولى » إلى « رجل » و « زيد » جائزة بحسب القاعدة في علم النحو، لأن استعمال اسم التفضيل مضافاً هو أحد طرق استعماله، كما صرح به النحويون بأجمعهم من غير خلاف. فأيّ مانع من إضافة « أولى » وهو اسم تفضيل إلى « زيد » و « الرجل »؟

الثالث: إنه بالاضافة إلى جواز هذا الاستعمال بحسب القاعدة، فقد وقع هذا الاستعمال وورد في حديث نبوي مذكور في الصحيحين،

ففي باب ميراث الولد من أبيه وأمه من كتاب الفرائض من صحيح البخاري:

« حدثنا موسى بن إسماعيل [ قال ] حدّثنا وهيب [ قال ] حدّثنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر »(١) .

وقد أخرجه في باب ميراث الجد مع الأب والأخوة(٢) .

وفي باب ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج(٣) .

وأخرجه مسلم في صحيحه حيث قال: « حدّثنا عبد الأعلى بن حماد - وهو النرسي - [ قال ] نا وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر.

حدثنا أمية بن بسطام العيشي [ قال ] نا يزيد بن زريع [ قال ] نا روح بن القاسم عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ألحقوا الفرائض بأهلها فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر.

____________________

(١). صحيح البخاري ٨ / ١٨٧.

(٢). نفس المصدر ٨ / ١٨٨.

(٣). نفس المصدر ٨ / ١٩٠.

١٦٢

حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد - واللفظ لابن رافع - قال إسحاق نا وقال الآخران أنا عبد الرزاق قال أنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله [ تعالى ] فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر »(١) .

فإن زعم الرازي أنا نمنع إضافته إلى المفرد المعرفة. فنقول: إن لاسم التفضيل عند إضافته معنيين، ولا يجوز إضافته إلى المفرد المعرفة بناءاً على أحدهما دون الآخر، قال ابن الحاجب: « فإذا أضيف فله معنيان، أحدهما - وهو الأكثر - أن تقصد به الزيادة على من أضيف إليه، وشرطه أن يكون منهم، نحو زيد أفضل الناس، ولا يجوز يوسف أحسن أخوته. والثاني: أن تقصد زيادة مطلقة ويضاف للتوضيح ».

وقال الرضي في شرحه: « قوله: والثاني أن يقصد زيادة مطلقة. أي يقصد تفضيله على كل من سواه مطلقاً، لا على المضاف إليه وحده، وإنما تضيفه إلى شيء لمجرد التخصيص والتوضيح، كما تضيف سائر الصفات، نحو: مصارع مصر، وحسن القوم، مما لا تفصيل فيه، فلا يشترط كونه بعض المضاف إليه، فيجوز بهذا المعنى أن تضيفه إلى جماعة هو داخل فيهم نحو قولك: نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل قريش، بمعنى أفضل الناس من بين قريش. وأن تضيفه إلى جماعة من جنسه ليس داخلاً فيهم، كقولك: يوسف أحسن أخوته، فإنّ يوسف لا يدخل في جملة أخوة يوسف، بدليل أنك لو سئلت عن عدد إخوته لم يجز لك عدّه فيهم، بلى يدخل لو قلت: أحسن الأخوة، أو أحسن بني يعقوب. وأن تضيفه إلى غير جماعة نحو: فلان أعلم بغداد، أي أعلم ممن سواه وهو مختص ببغداد، لأنّها منشؤه أو مسكنه، وإن قدّرت المضاف أي أعلم أهل بغداد فهو مضاف إلى جماعة يجوز أن يدخل فيهم »(٢) .

____________________

(١). صحيح مسلم ٥ / ٥٩ - ٦٠.

(٢). شرح الكافية - مبحث أفعل التفضيل.

١٦٣

أقول: وعلى هذا فمتى أريد من « أولى » التفضيل والزيادة المطلقة - لا الزيادة على من أضيف إليه فقط - جازت إضافته إلى « الرجل » و « زيد »، لأجل مجرد التخصيص والتوضيح.

١٤ - جواب منع « هما مولى رجلين ».

وأما قول الرازي: « هما أولى رجلين، وهم أولى رجال، ولا تقول: « هما مولى رجلين ولا هم مولى رجال » فهو توهم تدفعه كلمات المحققين الماضية، الدالة على أن الترادف لا يقتضي المساواة في جميع الأحكام.

على أنه لا تلزم أيّة استحالة عقلية من هذا الاستعمال، بناءاً على ما ذكره الرازي من كون مدار الاستعمال والإطلاق هو العقل لا الوضع.

١٥ - منع « هو أولاه » و « هو أولاك » غير مسلّم

وأمّا قوله: « ويقال: هو مولاه ومولاك، ولا يقال: هو أولاه وأولاك » فغير مسلّم، فإنه إذا كان الغرض هو التفضيل المطلق جاز إضافة اسم التفضيل إلى المفرد المعرفة لمجرد التخصيص والتوضيح، وعليه فلا مانع من إضافته إلى الضمير أيضاً. وقال ابن حجر العسقلاني بشرح « فما بقي فهو لأولى رجل ذكر » نقلاً عن السهيلي: « فإنْ قيل: كيف يضاف « أي أولى » للواحد وليس بجزء منه؟ فالجواب: إذا كان معناه الأقرب في النسب جازت إضافته وإنْ لم يكن جزءاً منه، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البر « برّ أمّك ثم أباك ثم أدناك »(١) .

وقد أضيف في هذا الحديث « أدنى » - وهو اسم تفضيل - إلى الضمير.

على أنّ الملاك لدى الرازي هو تجويز العقل كما تقدّم مراراً، ولا استحالة في إضافة اسم التفضيل إلى الضمير عقلاً.

____________________

(١). فتح الباري ١٥ / ١٤.

١٦٤

ثم إنّ الرازي قال في خاتمة كلامه: « وهذا الوجه فيه نظر مذكور في الأصول ».

فنقول له: أيها المجادل الغفول، الآتي بكل كلام مدخول! إذا كان عندك في هذا الوجه نظر مذكور في الأصول، فلم أتعبت النفس بتزوير هذا الهذر والفضول! الذي يردّه المنقول وتأباه العقول! وتبطله إفادات المحققين الفحول؟!

وبما ذكرنا ظهر بطلان قول ( الدهلوي ): « وهو منكر بالإِجماع ».

على أنّ الرازي قد قال في وجوه إثبات مجيء « الباء » للتبعيض كما هو مذهب الشافعي: « الثاني: النقل المستفيض حاصل بأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض، فوجب أن يكون إقامة حرف « الباء » مقام « من » جائزاً. وعلى هذا التقدير يحصل المقصود ».

فنقول: لا ريب في جواز « فلان مولى لك ». وبناءاً على ما ذكره من أن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض، يجب أن يكون إقامة حرف « من » مقام اللام « جائزاً » وأن يستعمل « فلان مولى منك » بدل ( فلان أولى منك ) وعلى هذا التقدير يحصل المقصود.

* * *

١٦٥

١٦٦

وجوه بطلان شبهة

إن قول أبي عبيدة بيانٌ لحاصل معنى الآية

وشبهات أخرى

١٦٧

١٦٨

قوله:

« وأيضاً: فإنّ تفسير أبي عبيدة بيان لحاصل معنى الآية ».

أقول: هذا باطل لوجوه:

١ - لم يقل هذا أحد من أهل العربية

إن ( الدهلوي ) قد نسب هذا القول إلى جمهور أهل العربية، مع أن أحداً منهم لم يقله، بل إنّ الأصل في هذه الشبهة هو الرازي كما سيأتي، وقد ذكر من ترجم للرازي أنه لم يكن له اطلاع في علوم العربية، قال ابن الشحنة: « وكانت له اليد الطولى في العلوم خلا العربية »(١) .

٢ - لو كان كذلك فلما ذا خطّئوا أبا زيد كما زعم؟

إنه لو أمكن حمل تفسير أبي عبيدة على ما ذكر، فلماذا خطّأ جمهور أهل العربية أبازيد في تفسيره الذي تبع فيه أبا عبيدة - حسب زعم ( الدهلوي ) -؟ ولما ذا

____________________

(١). روضة المناظر - حوادث سنة ٦٠٦.

١٦٩

لم يحملوا تفسيره على هذا المعنى كذلك؟

٣ - لم ينفرد أبو عبيدة بهذا التفسير

إنه وإنْ كان الأصل في هذه الشبهة هو الرازي، لكن الرازي اعترف بأنّ جماعة من أئمة اللغة والتفسير يفسّرون الآية كذلك، وليس أبو عبيدة منفرداً به، قال الرازي بعد عبارته السابقة: « وأما الذي نقلوا عن أئمة اللغة أن « المولى » بمعنى « الأولى » فلا حجة لهم، وإنما يبيّن ذلك بتقديم مقدمتين -.

إحداهما: إن أمثال هذا النقل لا يصلح أن يحتج به في إثبات اللغة، فنقول: أن أبا عبيدة وإنْ قال في قوله تعالى:( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) هي أولى بكم. وذكر هذا أيضاً: الأخفش والزجاج وعلي بن عيسى، واستشهدوا ببيت لبيد، ولكن ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق، لأن الأكابر من النقلة مثل الخليل وأضرابه لم يذكروه، والأكثرون لم يذكروه إلّا في تفسير هذه الآية أو آية أخرى مرسلاً غير مسند، ولم يذكروه في الكتب الأصلية من اللغة، وليس كل ما يذكر في التفاسير كان ذلك لغة أصلية، ألا تراهم يفسرون اليمين بالقوة في قوله تعالى:( وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) . والقلب بالعقل في قوله( لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) . مع أن ذلك ليس لغة أصلية، فكذلك ههنا »(١) .

لكن ( الدهلوي ) يحاول إسدال الستار على هذه الحقيقة الراهنة، فيدعي أن جمهور أهل العربية يحملون تفسير أبي عبيدة على انه بيان للمعنى لا تفسير، وكأن أبا عبيدة منفرد بهذا التفسير، وقد رأينا أن مخترع هذه الشبهة - وهو الرازي - يعترف بأن جماعة آخرين يفسرون الآية كذلك.

وأما قول الرازي: « ولكن ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق » فساقط جداً. إذ لا طريق لنا إلى معرفة مفاهيم الألفاظ إلّا بتنصيصات أئمة اللغة، فإنْ

____________________

(١). نهاية العقول - مخطوط.

١٧٠

حملت كلماتهم على التساهل سقطت عن الحجية، وبطلت الاستدلالات والحجج، بل إنّ كلام الرازي هذا خير وسيلة وذريعة للملحدين وجحدة الدين في إنكار حقائق الدين الإسلامي، إذ متى أريد إلزامهم بأمرٍ من أمور الدين استناداً إلى تصريحات اللغويين كان لهم أن يقولوا: « ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق »، بل يكون اعتراضهم أقوى، واعتذارهم عن القبول والتسليم أبلغ، لأنهم يخالفون أئمة اللغة في الدين أيضاً، بخلاف الرازي فإنه وإيّاهم من أهل ملة واحدة وبذلك ينهدم أساس دين الاسلام، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

هذا، ولا عجب من تأييد الرازي للملحدين، فقد عرفت من تصريح الذهبي(١) أن للرازي تشكيكات على دعائم الإسلام، وفي ( لسان الميزان )(٢) عن الرازي أن عنده شبهات عديدة في دين الإسلام، وأنه كان يبذل غاية جهده في تقرير مذاهب المخالفين والمبتدعين، ثم يتهاون ويتساهل في دفعها والجواب عنها.

٤ - الأصل في هذه الدعوى أيضاً هو الرازي

ثم إنّ الأصل في هذه الشبهة أيضاً هو الرازي كما عرفت من كلامه السابق، وقال بتفسير قوله تعالى:( مَأْواكُمُ النَّارُ ) ما نصه:

« وفي لفظ « المولى » هاهنا أقوال - أحدها: قال ابن عباس: مولاكم أي مصيركم. وتحقيقه: إن المولى موضع « الولي » وهو القرب. فالمعنى: إن النار هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه.

والثاني: قال الكلبي: يعني أولى بكم، وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة. واعلم: أن هذا الذي قالوه معنىً وليس بتفسير للّفظ، لأنه لو كان « مولى »

____________________

(١). ميزان الاعتدال ٣ / ٣٤٠.

(٢). لسان الميزان ٤ / ٤٢٦.

١٧١

و « أولى » بمعنى واحد في اللغة لصحّ استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر، فكان يجب أن يصح أن يقال: « هذا مولى من فلان » كما يقال: « هذا أولى من فلان » ويصح أن يقال: « هذا أولى فلان » كما يقال: « هذا مولى فلان ». ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير.

وإنما نبّهنا على هذه الدقيقة لأن الشريف المرتضى لمـّا تمسّك في إمامة علي بقوله [عليه‌السلام ]: « من كنت مولاه فعلي مولاه » قال: أحد معاني « مولى » أنه « أولى » واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية بأن مولى معناه أولى. وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه، لأن ما عداه إمّا بيّن الثبوت ككونه ابن العم والناصر، أو بيّن الانتفاء كالمعتق والمعتق، فيكون على التقدير الأول عبثاً، وعلى التقدير الثاني كذباً.

وأمّا نحن فقد بيّنا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضوع معنىً لا تفسير، وحينئذ يسقط الاستدلال »(١) .

٥ - خدشة النيسابوري لكلام الرازي

ولكن ما أسلفنا من البحوث كاف لإسقاط وإبطال هذا الكلام، على أنه قد بلغ من السقوط والهوان حدّاً لم يتمكن النيسابوري من السكوت عليه، بالرغم من متابعته للرازي في كثير من المواضع، قال النيسابوري ما نصه: « هي مولاكم قيل: المراد أنها تتولى أموركم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار. وقيل أراد هي أولى بكم، قال جار الله: حقيقته هي محراكم ومقمنكم. أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم، كما قيل: هو مئنة الكرم، أي مكان لقول القائل إنه لكريم.

قال في التفسير الكبير: هذا معنى وليس بتفسير اللفظ من حيث اللغة، وغرضه أن الشريف المرتضى لمـّا تمسّك في إمامة علي بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

____________________

(١). تفسير الرازي ٢٩ / ٢٢٧ - ٢٢٨.

١٧٢

من كنت مولاه فهذا علي مولاه، إحتج بقول الأئمة في تفسير الآية: إن « المولى » معناه « الأولى » وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه، لأن ما عداه بيّن الثبوت ككونه ابن العم والناصر، أو بيّن الانتفاء كالمعتق والمعتق، فيكون على التقدير الأول عبثاً، وعلى التقدير الثاني كذباً. قال: وإذا كان قول هؤلاء معنىً لا تفسيراً بحسب اللغة سقط الاستدلال.

قلت: في هذا الاسقاط بحث لا يخفى »(١) .

* * *

____________________

(١). تفسير النيسابوري ٢٧ / ٩٧.

١٧٣

شبهات أخرى

هذا، وقد بقيت شبهات أخرى في هذا المقام، نذكرها مع وجوه دفعها إتماماً للمرام:

١ - عدم ذكر بعض اللغويين هذا المعنى

فالشبهة الأولى: إنه وإنْ ذكر جماعة من أئمة اللغة هذا المعنى، إلّا أنّ بعضهم لم يذكروه. ذكر هذه الشبهة الفخر الرازي حيث قال: « لأن الأكابر من النقلة مثل الخليل وأضرابه لم يذكروه ».

وجوه دفعها

وهذه الشبهة مندفعة بوجوه:

الأول: لا اعتبار بالنفي الصريح في مقابلة الإِثبات، فكيف بعدم الذكر والسكوت؟ إنْ صحت النسبة إلى الخليل؟

والثاني: إنّ كتاب « العين للخليل » موصوف بالاضطراب والتصريف

١٧٤

الفاسد، قال أحمد بن الحسين الجاربردي بعد ذكر بيت جاء فيه لفظة « أمهتي » « والهاء زائدة، لأنّ أما فعل بدليل الأمومة في مصدره وأمات في جمعه » ثم قال بعد بيت جاء فيه لفظة « أمات »: « وأجيب عن ذلك بمنع أن أماً فعل والهاء زائدة، وسنده: إن الهاء يجوز أن يكون أصلاً، لما نقل خليل بن أحمد في كتاب العين من قولهم « تأمهت » بمعنى: إتخذت أماً. هذا يدل على أصالة الهاء ».

ثم قال: « قال في شرح الهادي: الحكم بزيادة الهاء أصح لقولهم: أم بنية الأمومة. وقولهم: « تأمهت » شاذ مسترذل » قال: « في كتاب العين من الاضطراب والتصريف الفاسد ما لا يدفع»(١) .

فإذا كان هذا حال ( كتاب العين ) بالنسبة إلى ما ورد فيه، فكيف يكون عدم ورود معنىً فيه سنداً لإِنكاره؟!

الثالث: إنه بالاضافة إلى ما تقدم فقد قدح طائفة من كبار المحققين في « كتاب العين » كما لا يخفى على من راجع ( المزهر ) و ( كشف الظنون )(٢) .

الرابع: لقد صرح الرازي نفسه بإطباق الجمهور من أهل اللغة على القدح في ( العين ) فقد قال السيوطي في ( المزهر ): « أوّل من صنف في جمع اللغة الخليل ابن أحمد. ألّف في ذلك كتاب العين المشهور. قال الامام فخر الدين الرازي في المحصول: أصل الكتب المصنفة في اللغة كتاب العين، وقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح فيه ».

فالعجب من الرازي يقول هذا ثم يحتج بعدم ذكر الخليل ( الأولى ) في جملة معاني ( المولى ) وإذا كان ذلك رأي الجمهور من أهل اللغة فلا ينفع دفاع السيوطي عن ( العين ).

الخامس: دعواه عدم ذكر أضراب الخليل هذا المعنى للفظ المذكور كذب

____________________

(١). شرح الجار بردي على الشافية لابن الحاجب ١٤٩ - ١٥٠.

(٢). كشف الظنون ٢ / ١٤٤٢.

١٧٥

واضح، فإن ( أبا زيد ) من أضرابه ومعاصريه - بل ذكر المترجمون له تقدّمه على الخليل كما تقدم - قد ذكر ذلك، كما اعترف به الخصوم حتى ( الدهلوي )، وفسر ( أبو عبيدة ) لفظة « المولى » بـ « الأولى » كما اعترف به الجماعة حتى الرازي نفسه، و ( أبو عبيدة ) من أضراب الخليل ومعاصريه، بل أفضل منه كما علم من تراجمه، وكذلك ( الفراء ) من معاصريه وقد فسّر « المولى » بـ « الأولى ».

فثبت كذب الرازي في هذه الدعوى.

السادس: لقد فسر محمد بن السائب الكلبي « المولى » بـ « الأولى »، وقد توفي الكلبي سنة (١٤٦) فهو متقدم على الخليل المتوفى سنة (١٧٥) وقيل (١٧٠) وقيل (١٦٠) كما ذكر السيوطي(١) .

السابع: لقد علمت مما تقدم أن جماعة كبيرة من مشاهير الأئمة الأساطين - غير من ذكرنا - قد أثبتوا مجيء « المولى » بمعنى « الأولى »، واستشهدوا لذلك بشعر لبيد، فعدم ذكر الخليل ذلك - إنْ ثبت - لا يليق للاحتجاج بعد إثبات هؤلاء الأثبات للمعنى المذكور.

الثامن: لقد علمت سابقاً أن البخاري ذكر للمولى خمسة معان، فقال ابن حجر وغيره بأن أهل اللغة يذكرون له معان أخرى غيرها. فمن هنا يظهر أن عدم ذكر البخاري لتلك المعاني لا ينفي ثبوتها، فكذلك عدم ذكر الخليل « الأولى » ضمن معاني « المولى » - على تقدير تسليم ذلك - غير قادح في ثبوته، لأن غيره من الأئمة قد ذكروه.

ثم قال الرازي: « والأكثرون لم يذكروه إلّا في تفسير هذه الآية أو آية أخرى ».

وهذا الكلام فيه كفاية لأهل الدراية.

قال: « مرسلاً غير مسند ».

____________________

(١). بغية الوعاة ١ / ٥٦٠.

١٧٦

ويدفعه ما تقدم في دفع دعواه أن ذلك معنىَّ لا تفسير.

قال: « ولم يذكروه في الكتب الأصلية ».

ويدفعه: تصريح ابن الأنباري ومحمد بن أبي بكر الرازي بكون « الأولى بالشيء » من جملة معاني « المولى ». بل ورود تفسيره بهذا المعنى في ( الصحاح للجوهري ) وهو من الكتب الأصلية في اللغة بلا ريب.

وأمّا قوله: « ألا تراهم يفسرون اليمين بالقوة » فيفيد جواز استعمال « المولى » بمعنى « الأولى » مثل استعمال « اليمين » بمعنى « القوة » و « القلب » بمعنى « العقل ».

ثم قال الرازي: ما نصه: « وثانيها: - إن أصل تركيب ( ول ي ) يدل على معنى القرب والدنو، يقال: وليته وأليه والياً، أي دنوت منه، وأوليته إياه: أدنيته، وتباعدنا بعد ولي. ومنه قول علقمة:

وعدت عواد دون وليك تشعب.

وكل مما يليك، وجلست مما يليه، ومنه: الولي وهو المطر الذي يلي الوسمي، والولية: البرذعة لأنها تلي ظهر الدابة، وولي اليتيم والقتيل وولي البلد، لأن من تولّى الأمر فقد قرب منه. ومنه قوله تعالى:( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) من قولهم: ولاه ركبته، أي جعلها مما يليه. وأما ولىّ عني إذا أدبر فهو من باب ما يثقل الحشو فيه للسلب، وقولهم: فلان أولى من فلان أي أحق، أفعل التفضيل من الوالي أو الولي كالأدنى والأقرب من الداني والقريب، وفيه معنى القرب أيضاً، لأن من كان أحق بالشيء كان أقرب إليه، والمولى اسم لموضع الولي، كالمرمى والمبنى لموضع الرمي والبناء ».

أقول: هذه المقدمة لا علاقة لها بمطلوب الرازي الذي هو نفي مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » أصلاً، لأن حاصل هذا الكلام هو كون أصلا تركيب « ولي » دالاً على معنى القرب، وكون « المولى » اسماً لموضع الولي، وهذان الأمران لا دلالة فيهما على نفي مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » أبداً، وإلّا لزم أن لا يكون

١٧٧

« المعتق » و « المعتق » وغيرهما من معاني « المولى » أيضاً.

٢ - تفسير أبي عبيدة يقتضي أن يكون للكفار في الجنة حق

ثم قال الرازي: « وإذا ثبت هاتان المقدمتان فلنشرع في التفصيل قوله:

إن أبا عبيدة قال في قوله تعالى:( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) معناه: هي أولى بكم. قلنا: إنّ ذلك ليس حقيقة بوجهين أحدهما: إن ذلك يقتضي أن يكون للكفار في الجنة حق، إلّا أن النار أحق، لأن ذلك من لوازم أفعل التفضيل وإنه باطل ».

وجوه دفعها

وهذه الشبهة حول تفسير أبي عبيدة يدفعها وجوه:

الأول: إنه يحتمل أن يكون المعنى: نار جهنم أولى بإحراق الكفّار من نار الدنيا، لا أن المراد أولوية النار بهم من الجنة.

الثاني: إنه لمـّا كان زعم الكفار استحقاقهم دخول الجنة، فإنه بهذا السبب يثبت أولوية النار بهم من الجنة أيضاً. قال نجم الأئمة الرضي الاسترآبادي: « ولا يخلو المجرور بمن التفضيلية من مشاركة المفضل في المعنى، إمّا تحقيقاً نحو: زيد أحسن من عمرو، أو تقديراً كقول عليعليه‌السلام : « لئن أصوم يوماً من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان ». لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف، فقدّرهعليه‌السلام محبوباً إلى نفسه أيضاً، ثم فضّل صوم شعبان عليه، فكأنّه قال: هب أنه محبوب عندي أيضاً، أليس صوم من شعبان أحبّ منه. و قالعليه‌السلام : « اللهم أبدلني بهم خيراً منهم » أي في اعتقادهم لا في نفس الأمر، فإنّه ليس فيهم خير، « وأبدلهم بي شراً مني » أي في اعتقادهم أيضاً، وإلّا فلم يكن فيهعليه‌السلام شر. ومثل قوله تعالى( أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ) كأنهم لما اختاروا موجب النار. ويقال في

١٧٨

التهكّم: أنت أعلم من الحمار، فكأنّك قلت: إنْ أمكن أن يكون للحمار علم فأنت مثله مع زيادة، وليس المقصود بيان الزيادة، بل الغرض التشريك بينهما في شيء معلوم انتفاؤه من الحمار»(١) .

الثالث: إن المستفاد من الأحاديث العديدة هو أن لكل واحد من المكلّفين مكاناً في الجنّة ومكاناً في النار. وقال الرازي نفسه بتفسير قوله تعالى:( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) « وهاهنا سؤالات - السؤال الأول: لم سمّي ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث، مع أنه سبحانه حكم بأن الجنة حقّهم في قوله:( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) ؟ الجواب من وجوه:

الأول: ما روي عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وهو أبين ما يقال فيه: وهو: أنّه لا مكلَّف إلّا أعدّ الله له في النار ما يستحقه إن عصى، وفي الجنة ما يستحقه إنْ أطاع، وجعل لذلك علامة، فإذا آمن منهم البعض ولم يؤمن البعض صار [ منزل ] منازل من لم يؤمن كالمنقول، وصار مصيرهم إلى النار الذي لا بدّ معها [ معه ] من حرمان الثواب كموتهم، فسمي ذلك ميراثاً لهذا الوجه »(٢) .

٣ - لو كان الأمر كما ذكر أبو عبيدة لقيل هي مولاتكم

ثم قال الرازي: « ثانيهما: لو كان الأمر كما اعتقدوا في أن « المولى » هاهنا بمعنى « الأولى » لقيل هي مولاتكم ».

وجوه دفعها

وهذه شبهة أخرى حول تفسير أبي عبيدة، وهي مندفعة بوجوه:

____________________

(١). شرح الكافية - مبحث أفعل التفضيل.

(٢). تفسير الرازي ٢٣ / ٨٢.

١٧٩

الأول: لقد نسي الرازي أو تناسى إصراره على لزوم التساوي بين المترادفين في جميع الاستعمالات، فإنه بناءاً على ذلك لا يبقى مورد لهذه الشبهة، لأنه إذا كان « المولى » بمعنى « الأولى » جاز استعمال كل منهما مكان الآخر، فإذا وقع « الأولى » خبراً لمبتدأ كان المذكر والمؤنث فيه على حد سواء فكذلك « المولى » الذي بمعناه يستوي فيه المذكر والمؤنث في صورة وقوعه خبراً، فالشبهة مندفعة بناءاً على ما ذهب إليه وألحّ عليه.

الثاني: دعوى اختصاص استواء التذكير والتأنيث باسم التفضيل كذب صريح وغلط محض، لثبوت الاستواء المذكور في مواضع اُخر، قال ابن هشام:

« الغالب في « التاء » أن تكون لفصل صفة المؤنث من صفة المذكر كقائمة وقائم، ولا تدخل هذه التاء في خمسة أوزان، أحدها: فعول، كرجل صبور بمعنى صابر وامرأة صبور بمعنى صابرة، ومنه:( وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) والثاني: فعيل بمعنى مفعول، نحو رجل جريح وامرأة جريح. والثالث: مفعال كمنحار، يقال رجل منحار وامرأة منحار، وشذ ميقانة. والرابع: مفعيل كمعطير، وشذ امرأة مسكينة، وسمع امرأة مسكين. والخامس: مفعل كمغشم ومدعى »(١) .

الثالث: إنّ تذكير المؤنث بحمل أحدهما على الآخر شائع في الاستعمال كتأنيث المذكر، قال السيوطي: « الحمل على المعنى. قال في الخصائص: إعلم أن هذا الشرح غور من العربية بعيد ومذهب نازح فسيح. وقد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثوراً ومنظوماً، كتأنيث المذكر وتذكير المؤنث، وتصور معنى الواحد في الجماعة والجماعة في الواحد، وفي حمل الثاني على لفظ قد يكون عليه الأول، أصلا كان ذلك اللفظ أو فرعا وغير ذلك، فمن تذكير المؤنث قوله تعالى:( فَلمـّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي ) أي هذا الشخص( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) لأن الموعظة والوعظ واحد.( إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) أراد

____________________

(١). التوضيح في شرح الألفية بشرح الأزهري ٢ / ٢٨٦ - ٢٨٧.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226