ويستمر الصراع

ويستمر الصراع33%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72801 / تحميل: 6395
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

عذافر ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال ليس التعزية إلا عند القبر ثم ينصرفون لا يحدث في الميت حدث فيسمعون الصوت

أي الصبر ، يقال ( عزيته ) أي صبرته والمراد بها طلب التسلي عن المصاب والتصبر عن الحزن والانكسار بإسناد الأمر إلى الله ، ونسبته إلى عدله وحكمته وذكر ما وعد الله على الصبر مع الدعاء للميت والمصاب لتسليته عن مصيبته ، وهي مستحبة إجماعا ولا كراهة فيها بعد الدفن عندنا انتهى.

وقال : في النهاية التعزية مستحبة قبل الدفن وبعده بلا خلاف بين العلماء في ذلك إلا الثوري فإنه قال : لا يستحب التعزية بعد الدفن.

وقال في التذكرة : قال : الشيخ التعزية بعد الدفن أفضل وهو جيد.

وقال : المحقق في المعتبر : التعزية مستحبة وأقلها أن يراه صاحب التعزية وباستحبابها قال : أهل العلم مطلقا ، خلافا للثوري فإنه كرهها بعد الدفن ثم قال فأما رواية إسحاق بن عمار فليس بمناف لما ذكرنا لاحتمال أنه يريد عند القبر. بعد الدفن أو قبله. وقال : الشيخ بعد الدفن أفضل وهو حق انتهى.

وقال في المنتهى : قال الشيخ في المبسوط يكره الجلوس للتعزية يومين أو ثلاثة وخالف فيه ابن إدريس وهو الحق انتهى ، ولنرجع إلى بيان ما يستفاد من الخبر بعد ما نبهناك على ما ذهب إليه الأصحاب.

فاعلم : أن الظاهر منقوله عليه‌السلام : « ليس التعزية إلا عند القبر » عند انحصار التعزية فيما يقع عند القبر بعد الدفن كما هو الظاهر أو مطلقا كما نقلنا عن المحقق ، ولعله على ما ذكره الشيخ في المبسوط ، لكن فيه أنه لا يدل إلا على عدم استحباب التعزية بعد ذلك لا كراهتها ، مع أن مقتضى الجمع بين الأخبار انحصار السنة المؤكدة في ذلك.

وقوله عليه‌السلام : « ثم ينصرفون » يدل على كراهة المقام عند القبر بعد الدفن

١٢١

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال التعزية لأهل المصيبة بعد ما يدفن.

٣ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن الحجال ، عن إسحاق بن عمار قال ليس التعزية إلا عند القبر ثم ينصرفون لا يحدث في الميت حدث فيسمعون الصوت.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال التعزية الواجبة بعد الدفن.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن القاسم بن محمد ، عن

إلا بقدر التعزية.

وقوله عليه‌السلام : « فيسمعون الصوت » يدل على إمكان سماع ما يحدث في القبر ولا استبعاد في ذلك وإن كان نادرا لمخالفته للحكمة غالبا.

الحديث الثاني : حسن.

قوله عليه‌السلام : « بعد ما يدفن » حمل على أن المراد أن تأخيرها عنه أفضل من تقديمها عليه كما قال به الشيخ والفاضلان ، فإن تعريف المبتدأ باللام يدل على الحصر ، فالمراد حصر التعزية الكاملة والسنة الأكيدة منها فيه.

الحديث الثالث : موثق. وهو الخبر الأول مع اختلاف في السند إلى إسحاق.

الحديث الرابع : مرسل.

قوله عليه‌السلام : « التعزية الواجبة » حمل على تأكد الاستحباب وهو مؤيد لما ذكرنا من الجمع والحمل.

الحديث الخامس : ضعيف. إن كان القاسم الجوهري أو كان مسئولا وإلا فمجهول.

١٢٢

الحسين بن عثمان قال لما مات إسماعيل بن أبي عبد اللهعليه‌السلام خرج أبو عبد اللهعليه‌السلام فتقدم السرير بلا حذاء ولا رداء.

قوله عليه‌السلام : « بلا حذاء ولا رداء » يدل على استحباب كون صاحب التعزية كذلك مطلقا أو في خصوص جنازة الابن وأيد الأولى بأنه وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رداءه في جنازة سعد ، ويدل على خصوص وضع الرداء ما سيأتي من الأخبار ، وقد ورد النهي عنه في رواية السكوني عن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال : قال رسول الله :صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة ما أدري أيهم أعظم جرما؟ الذي يمشي مع الجنازة بغير رداء ، والذي يقول قفوا ، والذي يقول : استغفروا له غفر الله لكم؟

قال في الذكرى : بعد إيراد هذه الرواية ومنه يعلم كراهية مشي غير صاحب الجنازة بغير رداء ، ويظهر من ابن حمزة تحريمه ، أما صاحب الجنازة فخلعه ليتميز عن غيره ، لخبر ابن أبي عمير وخبر أبي بصير ذكره الجعفي وابن حمزة والفاضلان وذكر ابن الجنيد أيضا التميز بطرح بعض زيه بإرسال طرف العمامة أو أخذ مئزر من فوقها على الأب والأخ ، ولا يجوز على غيرهما وابن حمزة منع هنا مع تجويزه الامتياز ، فكأنه خص التميز في غير الأب والأخ بهذا النوع من الامتياز ، وأنكر ابن إدريس الامتياز بهذين لعدم الدليل عليهما وزعم أنه من خصوصيات الشيخ ، ورده الفاضلان بأحاديث الامتياز ، ولعله إنما أنكر هذا النوع من الامتياز ، والظاهر أن الأخبار لا تتناوله ، ثم لم نقف على دليل الشيخ عليه ولا على اختصاص الأب والأخ.

وقال : أبو الصلاح يتحفى ويحل أزراره في جنازة أبيه وجده لأبيه خاصة ويرده ما تقدم انتهى.

وقال : العلامة في المختلف قال أبو الصلاح : يستحب للرجل أن يتحفى ويحل أزراره في جنازة أبيه وجده لأبيه دون من عداهم ، فإن قصد بالاستثناء التحريم منعناه عملا بالأصل ، وإن قصد انتفاء الاستحباب منعناه أيضا لأن المقتضي

١٢٣

٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال ينبغي لصاحب المصيبة أن يضع رداءه حتى يعلم الناس أنه صاحب المصيبة.

٧ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن رفاعة النخاس ، عن رجل ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال عزى أبو عبد اللهعليه‌السلام رجلا بابن له فقال :

للاستحباب هناك ليس إلا تميزه عن غيره وهو متحقق هنا ، ويؤيده رواية الحسين ابن عثمان انتهى.

أقول : إذا سمعت ما تلونا عليك فاعلم : أن الظاهر من الأخبار استحباب وضع الرداء لصاحب الجنازة أي الجماعة الذين يعدون من أصحاب تلك المصيبة لعموم الأخبار وكراهة ذلك أو حرمته لغيرهم ، وإثبات الحرمة مشكل ، وكذا إثبات مرجوحية سائر أنواع الامتياز ، والقول باستحبابها أيضا لا يخلو من إشكال. وإن كان التعليل الوارد في بعض الأخبار يشهد بذلك كما لا يخفى ، وأما التحفي فظاهر هذا الخبر ، استحبابه إما في مطلق المصيبة أو في مصيبة الابن ، والأولى الاقتصار على الابن وإن كان العموم لا يخلو من قوة والله يعلم.

الحديث السادس : حسن.

قوله عليه‌السلام : « ينبغي » ظاهره استحباب وضع الرداء لصاحب المصيبة ، والظاهر الرجوع في ذلك إلى العرف كما ذكرناه ولا يبعد أن يكون المراد بالرداء الثوب المتعارف الذي يلبسه الناس فوق الثياب ليكون وضعه علة للامتياز ، ومن هذا التعليل فهموا غير ذلك من أنواع الامتياز خصوصا في الأزمنة التي لا يصلح وضع الرداء للامتياز والله يعلم.

الحديث السابع : مرسل.

قوله عليه‌السلام : « رجلا بابن له » أي بسبب فقد ابنه.

١٢٤

الله خير لابنك منك وثواب الله خير لك من ابنك فلما بلغه جزعه بعد عاد إليه فقال له قد مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فما لك به أسوة فقال إنه كان مرهقا فقال إن أمامه ثلاث خصال شهادة أن لا إله إلا الله ورحمة الله وشفاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

قوله عليه‌السلام : « الله خير لابنك منك » لما كان الغالب أن الحزن على الأولاد يكون لتوهم أمرين باطلين. أحدهما : أنه على تقدير وجود الولد يصل نفع الوالد إليه ، أو أن هذه النشأة خير له من النشأة الأخرى ، والحياة خير له من الممات فأزالعليه‌السلام وهمه : بأن الله تعالى ورحمته خير لابنك منك ومما تتصور من نفع توصله إليه على تقدير الحياة ، والموت مع رحمة الله خير من الحياة.

وثانيهما : توقع النفع منه مع حياته أو الاستئناس به فأزالعليه‌السلام ذلك الوهم أيضا بأن ما عوضك الله من الثواب على فقده خير لك من كل نفع تتوهمه أو تقدره في حياته.

قوله عليه‌السلام : « فعاد إليه » يفهم منه استحباب تكرار التعزية مع بقاء الجزع.

قوله عليه‌السلام . « فما لك به أسوة ».

قال : في القاموس : « الأسوة » ويضم القدوة وما يأتسي به الحزين ، والجمع إسى ويضم وأساه تأسيه فتأسى عزاه فتعزى.

وقال في النهاية : الأسوة بكسر الهمزة وضمها القدوة. أقول : يحتمل هذا الكلام : وجهين.

الأول : أن يكون المراد بالأسوة القدوة : والمعنى أنك تتأسى به ويلزمك التأسي به في الموت فلأي شيء تجزع مع أنك بعد الموت تجتمع مع ابنك ، والغرض أنه لو كان لأحد بقاء في الدنيا كان ذلك لأشرف الخلائق ، فإذا لم يبق هو في الدنيا فكيف تطمع أنت في البقاء ، ويحتمل أن يكون الغرض أنه ينبغي لك مع علمك بالموت أن تصلح أحوال نفسك ولا تحزن على فقد غيرك كما ورد في

١٢٥

فلن تفوته واحدة منهن إن شاء الله.

٨ ـ الحسين بن محمد ، عن أحمد بن إسحاق ، عن سعدان بن مسلم ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال ينبغي لصاحب المصيبة أن لا يلبس رداء وأن يكون في قميص

خبر آخر أنهم قالوا : لصاحب مصيبة غفلت عن المصيبة الكبرى وجزعت للمصيبة الصغرى.

الثاني : أن يكون المراد بالأسوة ما يتأسى به الحزين أي ينبغي أن يحصل لك به وبسبب مصيبته وتذكرها تأسي وتعز عن كل مصيبة لأنه من أعظم المصائب ، وتذكر المصائب العظيمة يهون صغارها لما سيأتي عن أبي جعفرعليه‌السلام أنه قال : إن أصبت بمصيبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك فاذكر مصابك برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن الخلائق لم يصابوا بمثله قط ، وقيل المراد أنك من أهل التأسي برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أمته فينبغي أن يكون مصيبتك بفقده أعظم وما ذكرنا أظهر.

قوله عليه‌السلام : « إنه كان مرهقا » بالتشديد على صيغة المفعول.

قال في النهاية : الرهق السفه وغشيان المحارم وفيه فلان مرهق : أي متهم بسوء وسفه ، ويروي مرهق أي ذو رهق.

وقال في القاموس : « الرهق » محركة السفه والنوك والخفة وركوب الشر والظلم وغشيان المحارم « والمرهق » كمكرم من أدرك وكمعظم الموصوف بالرهق ومن يظن به السوء.

أقول : المراد « إن حزني » ليس بسبب فقده بل بسبب أنه كان يغشى المحارم وأخاف أن يكون معاقبا معذبا فعزاهعليه‌السلام بذكر وسائل النجاة وأسباب الرجاء.

الحديث الثامن : مجهول. بسعدان ، ويمكن أن يعد حسنا لأنهم ذكروا في سعدان أن له أصلا ويكون كتابه من الأصول مدح له.

قوله عليه‌السلام : « وأن يكون في قميص حتى يعرف فيه » إيماء إلى أن المراد

١٢٦

حتى يعرف.

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن الحكم قال رأيت موسىعليه‌السلام يعزي قبل الدفن وبعده.

١٠ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن ابن مهران قال كتب أبو جعفر الثانيعليه‌السلام إلى رجل ذكرت مصيبتك بعلي ابنك وذكرت أنه كان أحب ولدك إليك وكذلك الله عز وجل إنما يأخذ من الوالد وغيره أزكى ما عند أهله

بالرداء الثوب الأعلى الذي يلبسه أصناف الناس غالبا ليصير نزعه سببا للامتياز ، والكلام في الاستدلال بالتعليل على سائر أفراد الامتياز ما مر.

الحديث التاسع : حسن. كالصحيح بل لا يقصر عن الصحيح.

قوله عليه‌السلام : « قبل الدفن وبعده » أي يجمعهما في كل جنازة أو كان يفعل تارة هكذا وتارة هكذا ، ويدل على جواز التعزية قبل الدفن واستحبابه على التقديرين وعلى حصول التعزية بها قبل الدفن خاصة على الثاني فيدل على ما ذكرنا من التأويل في الأخبار السابقة.

الحديث العاشر : ضعيف. والظاهر أن مهزيار مكان ابن مهران كما سيجيء في آخر الكتاب هذا المضمون وفيه علي بن مهزيار ، لكن سيأتي رواية سهل عن علي بن مهران في باب غسل الأطفال.

قوله عليه‌السلام : « ذكرت » يدل على أنه شكا فيما كتب إليهعليه‌السلام فقد ابنه.

قوله عليه‌السلام : « أزكى » أي أطهر وأحسن ما عند أهله أي أهل هذا المأخوذ.

قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« وأحسن عزاك مقصورا أو ممدودا » أي صبرك. في القاموس العزي الصبر أو حسنه كالتعزوة ، عزي كرضى عزاء فهو عز وعزاه تعزية.

قوله عليه‌السلام : « وربط على قلبك » أي ألقى الله على قلبك صبرا. قال في

١٢٧

ليعظم به أجر المصاب بالمصيبة فأعظم الله أجرك وأحسن عزاك وربط على قلبك إنه قدير وعجل الله عليك بالخلف وأرجو أن يكون الله قد فعل إن شاء الله تعالى.

(باب)

(ثواب من عزى حزينا ً)

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عزى حزينا كسي في الموقف حلة يحبر بها.

القاموس : ربط جأشه رباطة اشتد قلبه والله على قلبه. ألهمه الصبر وقواه انتهى.

أقول. منه قوله تعالى «وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ »(١) .

قوله عليه‌السلام : « وأرجو أن يكون الله قد فعل » بشارة له بأنهعليه‌السلام قد دعا له بالخلف واستجيب دعاؤه.

باب ثواب من عزى حزيناً

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : « حلة يحبر بها » قال في القاموس : الحلة بالضم إزار ورداء بردا وغيره ولا يكون حلة الا من ثوبين أو ثوب له بطانة.

وقال : فيه الحبر بالكسر الأثر أو أثر النعمة والحسن وبالفتح السرور كالحبور والحبرة والحبر محركة وأحبره سره والنعمة كالحبرة وقال : تحبير الخط والشعر وغيرهما تحسينه.

وقال في النهاية : الحبر بالكسر وقد يفتح الجمال والهيئة الحسنة يقال حبرت الشيء تحبيرا إذا حسنته.

أقول : قد ظهر أنه يمكن أن يقرأ على المجهول مشددا أي يحسن ويزين

__________________

(١) سورة الكهف : ١٤.

١٢٨

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن وهب ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عزى مصابا كان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجر المصاب شيئا.

(باب)

(المرأة تموت وفي بطنها صبي يتحرك )

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في المرأة تموت ويتحرك الولد في بطنها أيشق بطنها ويخرج الولد؟

بها ، ومخففا أي يسر بها ، وروي في الذكرى : يحبى بها من الحبوة والعطاء ثم قال وروي تحبر بها أي يسر بها.

الحديث الثاني : ضعيف. وروى العامة مثله عن عبد الله بن مسعود عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

باب المرأة تموت وفي بطنها ولد يتحرك

الحديث الأول : حسن.

قوله عليه‌السلام « نعم ويخاط بطنها » المشهور بين الأصحاب أنه يجب الشق حينئذ وإخراج الولد توصلا إلى بقاء الحي ، قالوا : ولا عبرة بكونه مما يعيش عادة كما ذكره المحقق وغيره تمسكا بإطلاق الروايات.

وقال بعض المتأخرين : لو علم موته حال القطع انتهى وجوبه ، وإطلاق الروايات تقتضي عدم الفرق في الجانب بين الأيمن والأيسر ، بل لا يعلم خصوص شق الجانب أيضا ، وقيده الشيخان في المقنعة والنهاية وابن بابويه بالجانب الأيسر ، وأما خياطة المحل بعد القطع فقد نص عليه المفيد في المقنعة والشيخ في المبسوط وأتباعهما كما ورد في هذه الرواية وإن خلا عنه غيرها ، وردها المحقق في المعتبر بالقطع وبأنه لا ضرورة إلى ذلك فإن المصير إلى البلاء : ولا يخفى أن القطع لا

١٢٩

قال فقال نعم ويخاط بطنها :

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن وهب بن وهب ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال أمير المؤمنينعليه‌السلام إذا ماتت المرأة وفي بطنها ولد يتحرك فيتخوف عليه فشق بطنها وأخرج الولد.

وقال في المرأة يموت ولدها في بطنها فيتخوف عليها قال لا بأس أن يدخل

يضر لأن مراسيل ابن أبي عمير في حكم المسانيد وضعف التعليل ظاهر.

الحديث الثاني : ضعيف. والظاهر أنه سقط عن أبيه بعد ابن خالد كما يشهد به ما مر آنفا في الباب السابق.

قوله عليه‌السلام : « ولد يتحرك » ظاهره أن مناط الوجوب الحركة ، ويمكن أن يكون المناط العلم بالحياة ، وعبر بها عنها لأنها لا يعلم غالبا إلا بها لكن العلم بغير ذلك نادر.

قوله عليه‌السلام : « لا بأس » لا خلاف بين الأصحاب في وجوب التقطيع والإخراج مع الخوف على الأم ونقل فيه الشيخ في الخلاف الإجماع واستدل بهذه الرواية.

قال في المعتبر :( وهب هذا ) عامي لا يعمل بما يتفرد به ، والوجه أنه إن مكن التوصل إلى إسقاطه صحيحا بشيء من العلاجات. وإلا توصل إلى إخراجه بالأرفق ويتولى ذلك النساء فإن تعذر النساء فالرجال المحارم فإن تعذر جاز أن يتولاه غيرهم دفعا عن نفس الحي.

أقول : ضعفه منجبر بعمل الأصحاب على ما هو دأبهم وما ذكره من التفصيل لا يأبى عنه الخبر واعلم أن ظاهرقوله عليه‌السلام لا بأس : الجواز ويمكن أن يكون هذا النوع من التعبير لرفع توهم الحذر عن مباشرة الرجل ذلك على كل حال كما في قوله تعالى «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما »(١) وقوله تعالى «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا »(٢) ويحتمل أن يكون المراد عدم البأس مع عدم رفق النساء وإن

__________________

(١) سورة البقرة ، ١٥٨.

(٢) سورة النساء : ١٠١.

١٣٠

الرجل يده فيقطعه ويخرجه إذا لم ترفق به النساء.

(باب)

(غسل الأطفال والصبيان والصلاة عليهم )

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن موسى ، عن زرارة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال السقط إذا تم له أربعة أشهر غسل.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد بن عثمان ، عن الحلبي وزرارة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه سئل عن الصلاة على الصبي متى يصلى

أمكنهن الإخراج بغير رفق فلا ينافي الوجوب مع عدمهن أو عدم قدرتهن أصلا والله يعلم.

باب غسل الأطفال والصبيان والصلاة عليهم

الحديث الأول : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : « السقط » إلخ ظاهر الأصحاب الاتفاق على وجوب تغسيل السقط إذا تمت له أربعة أشهر كما يدل عليه هذا الخبر.

قال في المعتبر لا يغسل السقط إلا إذا استكمل شهورا أربعة وهو مذهب علمائنا ، ثم استدل عليه بهذا الخبر وخبر سماعة الاتي وقال : لا مطعن على الروايتين بانقطاع سند الأولى وضعف سماعة عن سند الثانية لأنه لا معارض لهما مع قبول الأصحاب لهما ، وأما الصلاة عليه فلا وهو اتفاق علمائنا ، ثم قال : ولو كان السقط أقل من أربعة أشهر لم يغسل ولم يكفن ولم يصل عليه بل يلف في خرقة ويدفن ، ذكر ذلك الشيخان وهو مذهب العلماء.

الحديث الثاني : حسن.

قوله عليه‌السلام : « إذا عقل الصلاة » اعلم أن الأصحاب اختلفوا في حكم الصلاة على الطفل فذهب الأكثر ومنهم الشيخ والمرتضى وابن إدريس إلى أنه يشترط في

١٣١

عليه قال إذا عقل الصلاة قلت متى تجب الصلاة عليه فقال إذا كان ابن ست سنين والصيام إذا أطاقه.

٣ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن زرارة قال رأيت ابنا لأبي عبد اللهعليه‌السلام في حياة أبي جعفرعليه‌السلام يقال له : عبد الله فطيم قد درج

وجوب الصلاة عليه بلوغ الحد الذي يمرن فيه على الصلاة وهو ست سنين.

وقال : المفيد في المقنعة لا يصل على الصبي حتى يعقل الصلاة وقال ابن الجنيد : يجب على المستهل. وقال ابن أبي عقيل : لا تجب الصلاة على الصبي حتى تبلغ.

أقول : في هذا الخبر إجمال واقتصر المفيد (ره) على القول به بذكر لفظه ولم يبين المراد ويحتمل أن يكون الراوي علم أن عقل الصلاة حد التمرين ومراده بالوجوب هنا مطلق الثبوت ، أو وجوب التمرين على الولي فالمعنى أنه متى يعقل الصلاة بحيث يؤمر بها تمرينا.

فقال : إذا كان ابن ست سنين ، ويؤيده ما رواه محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهماعليهما‌السلام في الصبي متى يصلي فقال : إذا عقل الصلاة قلت : متى يعقل الصلاة ويجب عليه قال : لست سنين ولو لم يكن مراد السائل ذلك يظهر من أخبار أخر أن هذا هو حد عقل الصلاة كما هو الغالب في الأطفال أيضا وسيأتي حكم تمرين الصلاة والصيام في أبوابها إن شاء الله.

الحديث الثالث : حسن.

قوله عليه‌السلام : « قد درج » أي كان ابتداء مشيه قال : في القاموس درج دروجا ودرجانا مشى.

قوله عليه‌السلام : « ذاك شر لك » أي كونك مولى لي شرف لك وفخر فإنكار ذلك شر لك والملعون كأنه غضب من ذلك.

قوله عليه‌السلام : « في جنازة الغلام » وفي التهذيب في جنان الغلام وما هنا هو

١٣٢

فقلت له يا غلام من ذا الذي إلى جنبك لمولى لهم فقال هذا مولاي فقال له المولى يمازحه لست لك بمولى فقال ذلك شر لك فطعن في جنازة الغلام

الظاهر ، وهو كناية عن الموت.

قال في النهاية : في حديث عليعليه‌السلام والله لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم إلا طعن في نيطه ، يقال : طعن في نيطه أي في جنازته ومن ابتدأ في شيء أو دخله فقد طعن فيه ويروي طعن على ما لم يسم فاعله ، « والنيط نياط القلب » وهو علاقته ، وقال : في خبر ، تقول العرب إذا أخبرت عن موت إنسان رمى في جنازته لأن الجنازة تصير مرميا فيها ، والمراد بالرمي الحمل والوضع انتهى ، ويحتمل أن يكون الطعن بمعناه المعروف والجنازة كناية عن الشخص وبعض المعاصرين قرأ احتار بالحاء المهملة والتاء المثناة من فوق والراء المهملة.

قال في القاموس : الحتار من كل شيء كفافه وما استدار به وحلقة الدبر أو ما بينه وبين القبل ، أو الخط بين الخصيتين ، وريق الجفن وشيء في أقصى فم البعير انتهى.

قال : بعض أفاضل المعاصرين أظن الجميع تحريفا من النساخ وأنه طعن في حياته الغلام أي في حياة أبي جعفرعليه‌السلام أي أصابه الطاعون في حياته وعلى تقدير جنان وحتارا أيضا يكون المعنى إصابة الطاعون في ذلك المكان ، وأما كون طعن مبنيا للفاعل وعود ضميره إلى المولى أو مبنيا للمفعول ونائب فاعله المولى ففي غاية البعد لفظا ومعنى وتركيبا فإن استعمال الطعن المتعارف بمثل الرمح ونحوه في معنى الوكز ونحوه غير معروف ، ولو سلم فالمعهود المتعارف أن يقال طعنه في جنانه وحمله على الطعن بالرمح ونحوه لا يليق والمقام والذوق لا يقبلان كون المولى ضربه ضربة في ذلك المكان فمات منها أو طعنة بالرمح كذلك انتهى ولا يخفى غرابته.

١٣٣

فمات فأخرج في سفط إلى البقيع فخرج أبو جعفرعليه‌السلام وعليه جبة خز صفراء وعمامة خز صفراء ومطرف خز أصفر فانطلق يمشي إلى البقيع وهو معتمد علي والناس يعزونه على ابن ابنه فلما انتهى إلى البقيع تقدم أبو جعفرعليه‌السلام فصلى عليه وكبر عليه أربعا ثم أمر به فدفن ثم أخذ بيدي فتنحى بي ثم قال إنه لم يكن يصلى على الأطفال إنما كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يأمر بهم فيدفنون

قوله عليه‌السلام : « في سقط » وهو معرب معروف.

قوله عليه‌السلام : « ومطرف خز » قال في القاموس : المطرف كمكرم رداء من خز مربع ذو أعلام.

وقال الجوهري : المطرف والمطرف واحد المطارف وهي أردية من خز مربعة لها أعلام. أقول : يدل الخبر على استحباب التزين ولبس الثياب الصفر.

قوله عليه‌السلام : « فكبر عليه أربعا » محمول على التقية كما مر.

قوله عليه‌السلام : « إنه لم يكن يصلي » على البناء للمجهول أي في زمن النبي وأمير المؤمنين ( صلى الله عليهما ).

قوله عليه‌السلام : « فيدفنون من وراء » في التهذيب والاستبصار من وراء وراء مكررا.

قال في النهاية في حديث الشفاعة : يقول : إبراهيم إني كنت خليلا من وراء وراء هكذا يقال مبينا على الفتح أي من خلف حجاب ، ومنه حديث معقل أنه حدث ابن زياد بحديث فقال : شيء سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من وراء وراء ، أي ممن جاء خلفه وبعده ، ويقال : لولد الولد وراء انتهى.

أقول : الظاهر أنه على التقديرين ، كناية إما عن عدم الإحضار في محضر الجماعة للصلاة ، أو عدم إحضار الناس في إعلامهم للصلاة ، ويحتمل بعيدا أن يكون من وراء وراء بيانا للضمير في يدفنون أي كان يأمر في أولاد أولاده بذلك ، أو

١٣٤

من وراء ولا يصلي عليهم وإنما صليت عليه من أجل أهل المدينة كراهية أن يقولوا لا يصلون على أطفالهم.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى بن عمران ، عن ابن مسكان ، عن زرارة قال مات ابن لأبي جعفرعليه‌السلام فأخبر بموته فأمر به فغسل وكفن ومشى معه وصلى عليه وطرحت خمرة فقام عليها ثم قام على قبره حتى فرغ منه ثم انصرف وانصرفت

يكون المراد أنه كان يفعل ذلك بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد الأزمنة المتصلة بعصرهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيكون الغرض بيان استمرار هذا الحكم من زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الأعصار بعده ليظهر كون فعلهم على خلافه بدعة ، غاية الظهور كل ذلك خطر بالبال والأول عندي أظهر والله يعلم.

قوله عليه‌السلام : « كراهية أن يقولوا ».

أقول : المشهور بين الأصحاب استحباب الصلاة على من لم يبلغ ست سنين إذا ولد حيا والظاهر من هذا الخبر وكثير من الأخبار وسيأتي بعضها وعدم استحبابها قبل الست ، ويظهر منها إن ما ورد من الأمر بالصلاة قبل ذلك محمول على التقية.

فإن قيل : ظاهر هذا الخبر عدم شرعية الصلاة على غير البالغ مطلقا ولم يقل به أحد.

قلت مقتضى الجمع بين الأخبار الحمل على ما قبل الست بأن يكون اللام للعهد ، أي مثل هذه الأطفال مع أنه يمكن أن يقال إطلاق الطفل على غير البالغ مطلقا غير معلوم في اللغة والعرف القديم كما لا يخفى على من راجع كلام اللغويين واستعمالات القدماء. وبالجملة الأحوط بالنظر إلى الأخبار ترك الصلاة عليهم قبل ذلك والله يعلم.

الحديث الرابع : صحيح.

قوله عليه‌السلام : « خمرة » قال في القاموس : الخمرة حصيرة صغيرة من

١٣٥

معه حتى إني لأمشي معه فقال أما إنه لم يكن يصلى على مثل هذا وكان ابن ثلاث سنين كان عليعليه‌السلام يأمر به فيدفن ولا يصلى عليه ولكن الناس صنعوا شيئا فنحن نصنع مثله قال قلت فمتى تجب الصلاة عليه فقال إذا عقل الصلاة وكان ابن ست سنين قال قلت فما تقول في الولدان فقال سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم فقال الله أعلم بما كانوا عاملين.

٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن إسماعيل ، عن عثمان بن عيسى ، عن زرعة ، عن سماعة ، عن أبي الحسن الأولعليه‌السلام قال سألته عن السقط إذا

السعف.

أقول : لعلهم طرحوا ليجلس عليها فلم يجلس ، وظاهر هذا الخبر استحباب القيام حتى يدفن ، ولعله محمول على التقية كما أن الصلاة أيضا كانت لها.

قوله عليه‌السلام : « متى تجب عليه الصلاة » يحتمل صلاة الجنازة وصلاة التمرينقوله عليه‌السلام : « الله علم بما كانوا عاملين » أقول سيأتي شرح هذا الكلام وتفصيل القول فيه في باب الأطفال إن شاء الله تعالى.

الحديث الخامس : موثق. إن اعتبرنا توثيق نصر بن الصباح لعلي بن إسماعيل كما حكم الشهيد الثاني بصحة خبره ، وحسن موثق إن لم نعتبره.

قوله عليه‌السلام : « إذا استوى خلقه » استدل بهذا الخبر على ما عليه الفتوى كما ذكرنا ، ولا يخفى أن الحكم فيه وقع معلقا على استواء الخلقة لا على بلوغ الأربعة إلا أن يدعى التلازم بين الأمرين وإثباته مشكل.

ثم اعلم أن ظاهر بعض الأصحاب أنه يلف في خرقة ويدفن بعد الغسل.

وأوجب الشهيد (ره) ومن تأخر عنه تكفينه بالقطع الثلاث ، وتحنيطه أيضا ، والظاهر من الخبر وجوب التكفين على ما هو المعهود لأنه المتبادر من الكفن عند الإطلاق والأحوط التحنيط أيضا لعموم الأخبار.

١٣٦

استوى خلقه يجب عليه الغسل واللحد والكفن فقال كل ذلك يجب عليه.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن مهران ، عن محمد بن الفضيل قال كتبت إلى أبي جعفرعليه‌السلام أسأله عن السقط كيف يصنع به فكتب

قوله عليه‌السلام : « واللحد » قال الجوهري : اللحد بالتسكين الشق في جانب القبر ، واللحد بالضم لغة : فيه تقول ألحدت القبر لحدا وألحدت أيضا فهو ملحد ، أقول : يمكن أن يكون هنا اسما مصدرا وظاهره وجوب اللحد للميت ، والمشهور بينهم استحبابه بل لا خلاف بينهم في ذلك.

قال في التذكرة : ويستحب أن يجعل له لحد ومعناه أنه إذا بلغ الحافر أرض القبر حفر في حائطه مما يلي القبلة مكانا يوضع فيه الميت ، وهو أفضل من الشق ومعناه أن يحفر في قعر القبر شقا شبه النهر يضع الميت فيه ويسقف عليه بشيء ذهب إليه علماؤنا وبه قال : الشافعي وأكثر أهل العلم.

وقال أبو حنيفة : الشق أفضل لكل حال ، ثم قال : يستحب أن يكون اللحد واسعا بقدر ما يتمكن فيه الجالس من الجلوس انتهى.

أقول : يمكن حمل الخبر على الاستحباب المؤكد مع أن الوجوب في عرف الأخبار أعم من المعنى المصطلح والأولى عدم الترك.

الحديث السادس : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : « يدفن بدمه » الظاهر أن المراد أنه لا يغسل بل يدفن ملطخا بالدم ، وقيل المراد أنه يدفن معه ما فضل من الدم عن المرأة عند الولادة ولا يخفى بعده.

وحمل القوم هذا الخبر على ما إذا لم يتم له أربعة أشهر كما مر وقالوا يلف في خرقة ويدفن ، واستدلوا على حكم هذا النوع من السقط بهذا الخبر مع أنه خال عن ذكر اللف وبعضهم عبروا عن هذا النوع بمن لم يلجه الروح.

وقال : الشهيد الثاني (ره) المراد به من نقص سنه عن أربعة أشهر وقد صرح

١٣٧

عليه‌السلام إلي أن السقط يدفن بدمه في موضعه.

٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عمرو بن سعيد ، عن علي بن عبد الله قال سمعت أبا الحسن موسىعليه‌السلام يقول إنه لما قبض إبراهيم بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جرت فيه ثلاث سنن أما واحدة فإنه لما مات انكسفت الشمس فقال الناس انكسفت الشمس لفقد ابن رسول الله فصعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإن انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا ثم

في المعتبر أن مدار وجوب الغسل وعدمه على بلوغ أربعة أشهر وعدمه كما نقلنا عنه سابقا وهو الأظهر كما عرفت من الأخبار.

قوله عليه‌السلام : « في موضعه » لعل المراد أنه لا يلزم نقله إلى المقابر لأن ذلك حكم من ولجته الروح ومات ، بل يدفن في الدار التي وقع فيها السقط لا خصوص موضع السقط والله يعلم.

الحديث السابع : مجهول.

قوله عليه‌السلام : « آيتان من آيات الله » أي علامتان من علاماته تدلان على وجوب القادر الحكيم وقدرته وعلمه.

قوله عليه‌السلام : « مطيعان » وفي بعض النسخ مطيعان له وهو المراد.

قوله عليه‌السلام : « لا ينكسفان لموت أحد » أي بمحض الموت ، بل إذا كان ذلك بسبب فعل الأمة واستحقوا العذاب والتخويف يمكن أن ينكسفا لذلك ، فلا ينافي ما روي في الأخبار من انكسافهما لشهادة الحسين ( صلوات الله عليه ) ولعنة الله على قاتله فإنها كانت بفعل الأمة الملعونة ، واستحقوا بذلك التخويف والعذاب بخلاف فوت إبراهيمعليه‌السلام فإنه لم يكن بفعل الأمة.

قوله عليه‌السلام : « يا علي قم فجهز ابني » لعل تقديم صلاة الكسوف هنا لتضييق

١٣٨

نزل عن المنبر فصلى بالناس صلاة الكسوف فلما سلم قال يا علي قم فجهز ابني فقام عليعليه‌السلام فغسل إبراهيم وحنطه وكفنه ثم خرج به ومضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى انتهى به إلى قبره فقال الناس إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نسي أن يصلي على إبراهيم لما دخله من الجزع عليه فانتصب قائما ثم قال يا أيها الناس أتاني جبرئيلعليه‌السلام بما قلتم زعمتم أني نسيت أن أصلي على ابني لما دخلني من الجزع ألا وإنه ليس كما ظننتم ولكن اللطيف الخبير فرض عليكم خمس صلوات وجعل لموتاكم من كل صلاة تكبيرة وأمرني أن لا أصلي إلا على من صلى ثم قال يا علي انزل فألحد ابني فنزل فألحد إبراهيم في لحده فقال الناس إنه لا ينبغي لأحد أن ينزل في قبر

وقته ، وتوسعة وقت التجهيز على ما هو المشهور بين الأصحاب في مثله.

قال في القاموس : جهاز الميت والعروس والمسافر : « بالكسر والفتح » وما يحتاجون إليه وقد جهزه تجهيزا.

قوله عليه‌السلام : « زعمتم » أي قلتم ويطلق غالبا على القول الباطل أو الذي يشك فيه.

قال في القاموس : الزعم مثلثة ، القول الحق والباطل والكذب وأكثر ما يقال فيما يشك فيه انتهى.

قوله عليه‌السلام : « من كل صلاة » يدل على وجوب التكبيرات الخمس مع التعليل كما مر.

قوله عليه‌السلام : « إلا على من صلى » أي لزم تمرينه بالصلاة كما سيأتي تفسيره ويدل على عدم مشروعية الصلاة على من يبلغ الست بتوسط الأخبار الأخرى.

قوله عليه‌السلام : « فألحد ابني » بفتح الحاء أو بكسره من باب الأفعال في القاموس لحد القبر كمنع ، والحدة عمل له لحدا : والميت دفنه.

أقول : يدل على شرعية اللحد وعمومه للأطفال أيضا ، ويدل على عدم كراهة

١٣٩

ولده إذ لم يفعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يا أيها الناس إنه ليس عليكم بحرام أن تنزلوا في قبور أولادكم ولكني لست آمن إذا حل أحدكم الكفن عن ولده أن يلعب به الشيطان فيدخله عند ذلك من الجزع ما يحبط أجره ثم انصرفصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٨ ـ علي ، عن علي بن شيرة ، عن محمد بن سليمان ، عن حسين الحرشوش ، عن هشام بن سالم قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام إن الناس يكلمونا ويردون علينا قولنا إنه لا يصلى على الطفل لأنه لم يصل فيقولون لا يصلى إلا على من صلى فنقول نعم فيقولون أرأيتم لو أن رجلا نصرانيا أو يهوديا أسلم ثم مات من ساعته فما الجواب فيه فقال قولوا لهم أرأيت لو أن هذا الذي أسلم الساعة ثم افترى على إنسان ما كان يجب عليه في فريته فإنهم سيقولون يجب عليه الحد فإذا قالوا هذا قيل لهم فلو أن هذا الصبي الذي لم يصل افترى على إنسان هل

نزول مطلق ذي الرحم كما ذكره الأكثر ، وقد مر الكلام فيه ولم أر من الأصحاب من تعرض لهذا الخبر ، ويدل على كراهة نزول الوالد في قبر الولد وعدم حرمته ويدل على مطلوبية حل عقد الكفن وعلى أن الجزع الشديد يحبط الأجر وعلى الإحباط في الجملة.

الحديث الثامن : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : « على من وجبت عليه الصلاة » أي لزم تمرينه ويلزم عليه بسبب التمرين ، وحاصل الجواب أن مناط وجوب الصلاة كون الميت بحيث تلزمه الصلاة ولا مدخل للفعل في ذلك ، وهذا الخبر يدل على أن ما ورد من الصلاة على الطفل الذي لم يبلغ الست محمول على التقية. وأن الصلاة عليه غير مطلوب فإنه الظاهر من قوله لا يصلي.

ويمكن أن يأول بأن المراد : عدم وجوب الصلاة عليه قبل ذلك ، بأن يكون المخالف الذي عورض في ذلك قائلا بالوجوب ، ويؤيده قوله وإنما يجب أن

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثالث والثلاثون

مصرع مسلم بن عقيل

ماذا جری في الکوفة

ما لهم، ولهذا الرجل؟! ما لهم يجبرونه على الصعود، وهو لا يقوى على السير؟! إن الدم ينزف من كل موضع في جسمه، ولو تركوه لمات بعد قليل. قال ذلك مستغرباً أحد سكان الكوفة، وهو لا يعرف مسلم بن عقيل، لآخر من سكان الكوفة أيضاً.

قال الآخر: ما أظنه إلا مسلم بن عقيل الذي طالب منادي الأمير أن يخرج الناس ليشاهدوا مقتله.

قال الأول: ولكنهم يستطيعون قتله الآن وهو بينهم وحيد، لا قوة فيه ولا قوة معه تحميه وتدافع عنه. ماذا ينتظرون في قتله؟

قال الثاني: ألم تقل أنت إنهم يجبرونه علی الصعود، وإنهم لو تركوه لمات بعد قليل؟ لماذا إذن يجبرونه على الصعود، لو لم يريدوا ان يرموه من سطح القصر؟! هذا هو حكم عبيد الله بن زياد وحكم بني أمية. لا يكفيهم القتل، بل العذاب قبل القتل، والتمثيل بعده. وسترى مسلماً بعد قليل وقد حُزّ رأسه ورأس ابن عروة، وطوف بهما في أزقة الكوفة وأسواقها يخيفون بهما من يفكر في ثورة أو احتجاج أو نقد.

وكان أهل الكوفة قد انتبهوا على صوت يطوف أحياءها، وهو يطلب من أهلها التوجه إلى المسجد الكبير ليروا نهاية (المارقين الخارجين على الإسلام وعلى طاعة إمامهم أمير المؤمنين يزيد بن معاوية).

وقبل أيام، كان أكثر من عشرين ألف مقاتل في الكوفة يبايعون مسلماً على جهاد المارقين الخارجين على الإسلام: يزيد بن معاوية وبني أمية ومن يساندهم ويقف معهم ويعينهم على ظلمهم.

ما الذي حصل في الكوفة؟! كيف تبدلت الأمور في أيام؟!

أين المواثيق والعهود التي قطعوها لمسلم بعد مجيئه الكوفة؟!

١٦١

لقد بايعه عشرون ألف شخص أو أكثر على القتال معه، لم يجبرهم احد على البيعة، وها هو مسلم وحيد يدفعه عدو من العتاة الغلاظ، من هؤلاء الذين لا يجدون متعتهم إلا في رؤية الناس يتألمون ويتعذبون؛ إنهم وحوش، وويل للإنسان من الإنسان حين يتوحش.

كان مسلم بن عقيل ينزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي أول ما جاء الكوفة. وبعد وصول عبيد الله بن زياد والياً عليها، انتقل إلى دار هانئ بن عروة: أحد سادات مذحج ورجالها المعدودين.

وكانت عيون عبيد الله وجواسيسه ترصد كل حركة أو نشاط في الكوفة. لا أحد يستطيع الدخول أو الخروج إلا باذن. البيوت معرضة للتفتيش، والناس كذلك، ومن عرف عنه أنه من أتباع الحسين أو المناصرين له، ومن شك في ولائه للحكم، أدخل السجن أو أوقف. أخذت أطراف الطرق الداخلة والخارجة من الكوفة ومنع الداخلون والخارجون. الإرهاب هو سيد الموقف، يواجهك في كل مكان....

وكل زعماء الكوفة الذين كاتبوا الحسين وعاهدوه، قد استطاع عبيد الله أن يستميل غالبيتهم ويضمهم إليه بالرشوة والترغيب أو الحرمان والتخويف، أو نزع الرئاسة وتحويلها إلى آخرين. لكل منهم أسلوب في التعامل. يضاف إلى هذا، خوف بدأ يتزايد عند هؤلاء الزعماء من الثورة. الثورة التي يحملها شباب قد لا يدينون لزعاماتهم أو يرفضونها ويتمردون عليها. وهي زعامات لا تستند في الغالب إلا إلى مقاييس تقليدية ينكرها الشباب ولا يعترفون بها.

وكان أولئك الزعماء يعرفون ما تعني ثورة الحسين، لو انتصرت، على مصالحهم؛ لأنهم يعرفون الحسين والمثل السامية التي يحملها، وهي مثل عرفوها عند علي أبيه قبله.

كل هذه العوامل شاركت فيما وصلت إليه الحال في الكوفة، وفي ترك مسلم والتخلي عنه وعن الثورة، وعن العهود والمواثيق والخلق والدين.

١٦٢

لكن عاملاً في رأيي أخطر من كل ما ذكر، وإن لم يكن بعيداً عما ذكر؛ ذلك هو الهزيمة الداخلية التي لحقت بمن بايعوا مسلماً أول ما قدم الكوفة. فهذه الهزيمة هي التي شلّت المقاومة واضعفت القدرة على الصمود والمواجهة والنصر، حين شلت الإنسان نفسه من الداخل وأضعفت مقاومته وأسلمته إلى هزيمة لم يعد يفكر معها بالنصر، بل بالسلامة فقط، إن قدر عليها، ثم يروح يبرر فشله وتعوده، ويلتمس الأعذار، وليس من عذر. وهي حالة قد نراها مع غير مسلم وفي غير الكوفة، تريك لا شأن كما هو، في حالات ضعفه وفي حالات قوّته، عندما ينهار وعندما يتحدي.

لم يدخل المبايعون الناكثون القتال فيهزموا ويخسروا. لقد خسروا القتال قبل أن يخوضوه ويجربوه، خسروا القتال قبل القتال.

كانوا يتسابقون في التخلي عن مسلم، وكأنهم نادمون على انهم بايعوه. كانوا يلتمسون الأعذار أمام أنفسهم لتخليهم، وقد لا يحتاجون. لقد حسموا أمرهم، وقطعوا كل صلة لهم بأيام قليلة سابقة لا يريدون أن يذكروها، ولا أن يذكرهم أحد بها.

هذا هو السر في فهم ما جرى مع مسلم في الكوفة، وما سنراه بصورة أقسى وأشد وأظهر عندما يواجه الحسين في ساحة المعركة، الذين كتبوا وعاهدوا والتزموا.

كيف استجاز هؤلاء المبايعون والمعاهدون أن يتحللوا من كل ما ألزموا أنفسهم به فلم يراعوه ولم يحافظوا عليه، ولم يصونوه ولم يتحرجوا من التخلص منه ولم يتذمموا من نقضه، لولا هذه الهزيمة الداخلية التي تملكتهم وسيطرت عليهم.

كيف أفسر أن مسلماً ثار بخمسة آلاف فقط من عشرين ألف أو أكثر سبق أن بايعوه. أين ذهب الآخرون؟!

ثم ينهض مسلم بهؤلاء الخمسة آلاف لقتال عبيد الله الذي لجأ إلى القصر ومعه زعماء القبائل من أنصاره، فما يصل القصر حتى لا يبقى من الخمسة آلاف إلا خمسمئة تسللوا هم أيضاً عند حلول الظلام، فلم يبق واحد، واحد فقط مع مسلم.

وأسأل مرة أخرى: أين العهود والمواثيق وشرف الالتزام بها؟ لقد ذهبت بها الهزيمة الداخلية التي تسيطر على الجماعة في بعض الحالات، فيتهاوى وينهار كل شيء في الإنسان؛ لأن الإنسان نفسه قد تهاوى وانهار.

١٦٣

كان كل واحد من أصحاب مسلم يحاول أن يبرر لنفسه ما أقدم عليه، أوما هو مقدم عليه من تخل عن مسلم أو تنكر لالتزامه إزاءه، بأنه لن يستطيع أن يذبح عنه، وأن الثبات على عهده لمسلم لن يجدي عليه ولا على مسلم شيئاً، وأنه إن نكث فإن الآخرين قد نكثوا. ولو لم ينكث الآخرون، فسيقول لنفسه إنهم لن يستطيعوا أن يقفوا أمام جيش عبيد الله الممتد حتى الشام؛ يحاول أن يقنع نفسه بانه لم يفعل ما يلام عليه. المهم أن يهرب، بعذر، أو حتى بدون عذر.

هذا هو منطق الهزيمة لمن يستجيب لها: سهل بسيط جاهز لن يتعب من يريده في التفتيش عنه. استسلام سريع كامل دون مقاومة، بل دون فكر؛ لأن الفكر يكون مشلولاً عند ذاك.

وهكذا في أسرع ما استسلم أصحاب مسلم لزعماء القبائل - المحصورين في القصر - وهم يطلبون منهم إيثار السلامة والعودة إلى البيوت، وكانوا هم أولى بأن يطلبوا من الزعماء ذلك ولأترك مسلماً، البعيد عن الكوفة، القادم من المدينة، فكيف أسلموا هانئ بن عروة حتى قتل وسحب في السوق، وهو كبير مذحج، كبيرة قبائل اليمن: أكثر سكان الكوفة؟ هل هناك من تفسير آخر غير روح الهزيمة التي تحدثت عنها؟!

لكن كانت هناك روح أخرى تقابل روح الهزيمة وتسخر منها وتهزأ بها. روح الإيمان يشد العزيمة، والعزيمة الإيمان. روح أخرى لا تعرف الخوف ولا تساوم على المبادئ ولا تفكر في الثمن ولا تضع النتائج قبل المقدمات، وهي تخوض حرباً مقدسة ضد الظلم والظالمين دفاعاً عن الحرية والعدل والكرامة. والدفاع عن القضايا الكبيرة ليس تجارة يحسب فيها كل طرف ما يكسب وما يخسر ما يأخذ وما يعطي. ليس هكذا يكون النظر للقضايا الكبيرة والدفاع عنها. وما أظن الانسان كان سيتقدم خطوة لو فكر كل واحد في كل قضية، بما سيكسب أو يخسره؛ على أنه سيكسب حتى لو خسر.

كانت هذه الروح تتمثل في الصفوة من الأنصار الصادقي الإيمان، الصادقي العزيمة كهانئ بن عروة: هذا الشيخ الذي بلغ التسعين. ساومه عبيد الله بن زياد، وهو محجوز عنده، على أن يأتيه بمسلم بن عقيل، فأجابه بثقة وعزم وإيمان صادق لا يهتزو لا يرتجف ولا يتخاذل: (والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه). وكان يعرف الثمن: حز رأسه وأرسل مع رأس مسلم إلى يزيد، كان جسمه يجر في الأسواق، ومع جسم مسلم أيضاً.

١٦٤

وكهذا، الشاب قيس بن مسهر الصيداوي الذي رافق مسلماً منذ خروجه حتى قدومه الكوفة، وحمل رسالته إلى الحسين، ورسالة الحسين إلى أنصاره من أهل الكوفة. لقد قبض عليه الحصين بن نمير، أحد قادة عبيد الله بن زياد، والرسالة معه فاتلفها، وحين جاء به الحصين إلى عبيد الله الذي حاول أن يعرف منه أسماء الأشخاص الذين أرسلها الحسين إليهم، أبى وامتنع بكبرياء الرجل الذي يسخر من الصغار، حتى وهم قادرون على قتله، حتى وهم يتهيؤون لقتله. لقد رآهم يوثقونه ويقودونه إلى سطح القصر، ثم يساومونه على حياته، بأن يسب الحسين ويبرأ منه ويمدح الحكم متمثلاً بيزيد وعبيد الله. فما كان جوابه إلا ابتسامه ساخرة، جمع فيها قيس كل كبرياء الإنسان وكل احتقاره لهؤلاء المشوهين ولقادتهم وأمرائهم ثم رفع صوته بلعن عبيد الله ولعن يزيد ولعن من ولاهما وأمرهما على الناس.

ورمي قيس من أعلى القصر، ليبق علماً ومزاراً ورمزاً، ويصبح الذين قتلوه سبة وعاراً ولعنة تلحقهم كلما ذكروا.

وعبد الله بن يقطر أخي الحسين رضاعة. قبضوا عليه وهو يحمل رسالة من الحسين إلى مسلم، فلم يلن ولم يضعف ولم تخر عزيمته. عرضوا عليه أن يسب الحسين ويمدح يزيد فأبی ومدح الحسين وسب يزيد، وهو يرفع صوته، يريد أن يسمع الذين تجمعوا في الساحة، كما فعل قبله قيس بن مسهر فأمر به ابن زياد فألقي من فوق القصر فتهشمت عظامه. وبقي به رمق فأجهز عليه أحد المشوهين من أصحاب ابن زياد فقتله وأخذ رأسه ليضمن جائزة البطولة.

إننا أمام حالة جديدة من القتل، هي إلقاء الخصم من فوق السطح، ثم الاجهاز عليه إن لم يمت مباشرة. وسنجد حالات جديدة أخرى لم يسبق الأمويين إليها أحد.

ألم أقل: ويل للإنسان من الإنسان حين يتوحش!!

وغير هؤلاء الثلاثة الذين ذكرتهم، هناك أبطال آخرون وبطولات أخرى تنسي هؤلاء المسوخ الضعفاء.

١٦٥

صحيح إنهم قلة، إذا قورنوا بالذين نكثوا وانهاروا وتخاذلوا أو تجاوزوا فانضموا إلى صفوف العدو، ولكن متی كان الثابتون الصادقون المخلصون هم الأكثر بين الناس؟! على مدى التأريخ كانوا قلة، وكان غيرهم الكثرة؛ لأنهم يتجاوزون القيم المألوفة يتسامون في سيرتهم وسلوكهم عليها؛ وهذا ما يمنحهم المكانة التي لا يستطيع غيرهم ان يشغلها.

لو كانوا كغيرهم، ولو كان سهلاً على غيرهم أن يكون مثلهم، لما كان الحديث عنهم بعد أربعة عشر قرناً. إنهم الصفوة التي تضع التأريخ، لكنه التأريخ الذي يفخر به الإنسان ويفخر بالإنسان.

١٦٦

الفصل الرابع والثلاثون

الحسين يتلقی نبأ مصرع مسلم

عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل رجلان من بني أسد، ليسا من الزعماء ولا من ذوي الجاه والنفوذ، وليس لهما من الشأن ما يذكر الناس بهما إلا ارتباط اسميهما بمقتل مسلم بن عقيل. كانا قد التحقا بركب الحسين كبعض هؤلاء الناس الذين رافقوه أو التحقوا به لمجرد الفضول ومعرفة ما سينتهي إليه أمره، وربما كانوا سيدعون أنهم قصدوا القتال معه ابتداء، لو انتصرت ثورته.

كان ركب الحسين يواصل سيره نحو الكوفة غير عابئ بما يلاقي من جهد ونصب، وهو سيلاقي الأكبر منهما.

وفي مكان من الطريق طلع عليهم راكب قادم من جهة الكوفة، اقترب من الركب ثم ابتعد مغيراً طريقه حين رأى الحسين. ولم يشأ الحسين أن يسأل الرجل عما يحمل من أخبار ما دام قد تجنب ذلك وابتعد، لكن عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل لم يكتفيا بذلك، وأصرا على أن يعرفا ما عند الرجل من أخبار الكوفة. لقد رابهما أمره وهما يريانه يقترب ثم يبتعد ويغير طريقه حين رأى الحسين. أهناك أخبار غير سارة لا يريد أن يبلغها الحسين، لابد عنده الكثير من الأخبار. وأسرعا يتبعانه حتى أدركاه؛ سألاه عما خلف وراءه من أخبار الكوفة، وأخبار الكوفة تعني حينذاك أخبار مسلم بن عقيل والثورة وتطورها وموقف الناس هناك منها. فقال الرجل كمن يأسف لنقل خبر حزين: والله ما تركت الكوفة حتى رأيت مسلماً وهانياً يجران بأرجلهما في السوق.

إذن قتل مسلم وهانئ، وهو مؤشر الخذلان والتراجع والهزيمة. هذا هو الخبر الكبير الذي كان يحمله الرجل. الآن عرفا لماذا ابتعد الرجل وغير طريقه حين رأى الحسين. لكن هذا جزءاً من الخبر، وهو الأسهل فيه. فكيف سيبلغانه الحسين، وهو أصعب جزئيه؟

١٦٧

وطال الحديث بينهما: يتفقان ثم يختلفان، هل سيعلمان الحسين بما سمعاه؟ كيف سينقلانه له؟ إن مقتل مسلم، رسول الحسين وابن عمه، ومعه هانئ، معتمده وكبير أنصاره أمر خطير مفجع لا يجهلان تأثيره ولا يريدان أن يكونا هما اللذين ينقلانه. هل يسكتان؟ أليس السكوت في مثل هذا الأمر خيانة للحسين وثورته؟! ألا يلومهما الناس، بل ألا يلومان نفسهما إذا كتما مثل هذا الخبر وقد علماه؟! ألا يجدر بهما أن يحيطا الحسين بما سمعاه من الرجل، تاركين له حرية التصرف واتخاذ الموقف المناسب، ويكونان قد أبرأا ذمتهما من مسؤولية السكوت والكتمان، والنتائج الخطيرة التي قد تترتب عليهما.

ثم اتفقا أخيراً على أن يخبرا الحسين بعد أن يختليا به وحده، وكان ركب الحسين قد فاتهما خلال متابعتهما للرجل، ووصل مكاناً يدعى الثعلبية حيث نزل الحسين ومعه أنصاره وأهل بيته، يستريحون ويمضون الليل ليستأنفوا السير مع حلول الفجر.

وفي الثعلبية أدرك الرجلان الحسين. أرادا أن يخبراه، لكن الحسين كان وسط أنصاره وأهل بيته، وفيهم أبناء مسلم وأخوته؛ فانتظرا قبل أن يقولا له وقد بان عليهما التردد والارتباك: (رحمك الله، إن عندنا خبراً فإن شئت حدثناك به علانية وإن شئت سراً).

فنظر الحسين إلى من حوله، وهم الصفوة الذي صحبوه وجاؤوا معه، فقال: (ما دون هؤلاء من سر) فأعلماه مقتل مسلم وهانئ كما سمعاه من الرجل الذي خلفاه قبل قليل.

كان الخبر صعباً على الحسين، وزاد من صعوبته وجود أبناء مسلم وإخوته بين الحاضرين وهم يسمعون مقتل أبيهم أو أخيهم الذي كانوا ينتظرون أخبار انتصاره في الكوفة، وهو يقود الثورة فيها، وها هم يسمعون خبر مقتله ومقتل كبير أصحابه هانئ، وفشل الثورة هناك بخيانة البعض وتخلي البعض وتخاذل البعض.

قال شبيب بن الحارث لعامر بن سعد وقد انتحيا جانباً عن الجماعة: ماذا تظن الحسين فاعلاً الآن؟ إنه بادي الحزن. لقد كان مسلم رسوله وموضع ثقتة وابن عمه. وكان هانئ من دعائم الثورة وكبير الثائرين في الكوفة.

قال عامر: ما أخطأت في شيء مما ذكرت، ولكن أترى الحسين سيرده عن قصده قتل مسلم، وهو نفسه ينتظر ما جرى لمسلم منذ خرج من المدينة؟!

١٦٨

ألم يكن فيما سبق قتل مسلم من أخبار، ما يثنيه، لو كان القتل مما يثنيه؟!

إني لأرى قتل مسلم قد شد أكثر من عزمه وعزم أنصاره وأهل بيته، على القتال. لقد كان ذلك في حسابه منذ خرج، وكان في حساب الذين معه منذ خرجوا.

قال شبيب وهو يومئ لمالك: ألا أصغيت يا مالك. إن الحسين يخطب في الجمع. ماذا يقول لهم؟ ماذا يطلب منهم؟ إنه يحلهم من كل ما عاهدوه عليه. يطلب منهم أن يتركوه ويذهبوا في الأرض آمنين، لا ذمام عليهم ولا لوم. انه المطلوب دونهم فعلام يقتلون أنفسهم. ها هو يؤكد القول عليهم.

وعلا من الجميع صوت واحد جازم قاطع لا تردد فيه ولا خوف: لا والله بل نموت قبلك. لن نتركك ولن نخذلك ولن نفارقك. ما أسعدنا بالموت معك في جهاد الظالمين.

وبارك لهم الحسين هذا الموقف.

و مع الفجر، كان الركب يأخذ طريقه إلى الكوفة، وحين وصل إلى زبالة - قرية على الطريق - تلقى الحسين خبراً مفجعاً آخر؛ لقد قتلوا أخاه من الرضاعة، عبد الله بن يقطر، أصعدوه إلی سطح القصر ثم رموه، وكان فيه رمق فأجهزوا عليه واحتزوا رأسه.

١٦٩

الفصل الخامس والثلاثون

عبيد الله بن زياد، ولاية الکوفة والبصرة، العقدة الکبيرة

حين سمع يزيد بتوجّه الحسين إلى الكوفة، أسرع بضمها إلى عبيد الله بن زياد الذي أصبح من ذلك التأريخ والياً على العراق كله: البصرة والكوفة.

وزياد: أبو عبيد الله، هو زياد بن أبيه أو ابن سمية كما كان يعرف؛ لأنه ولد لأب مجهول وأم معروفة هي سمية التي كانت تحترف البغاء في الطائف.

وكان يمكن لهذه العائلة أن تعيش كما يعيش الآخرون مثلهم من ذوي الأنساب المغمورة أو الذين لا أنساب لهم، في بيئة واسعة كبيرة تحتمل كل صنوف الناس، وليس آل زياد بدعاً فيها ولا استثناء.

وقد بدأ زياد حياته بشكل طبيعي، وعمل للإمام. لم يقصد به نسبه ولم يحاسبه الإمام على فعل لا ذنب له فيه.

لكن كل شيء في زياد تغير: الفكر والمذهب والسلوك. لقد تحول زياداً آخر لا صلة له مطلقاً بزياد الأول، منذ أن ادعى معاوية أنه أخوه، في حكاية طويلة مبسوطة في كتب التاريخ وهي تتحدث عن زياد.

وبدأ زياد الآخر يطمع في دور، دور آخر يفرضه النسب الجديد ويتماشى معه؛ فهو منذ اليوم ابن لأبي سفيان وأخ للخليفة وواحد من رجال قريش وأصحاب المكانة والجاه فيها.

غير أن الناس لم تكن تقر له بهذا النسب، وأصبح موضع سخريتهم وهزئهم واستنكارهم، هو ومعاوية الذي منحه النسب. سخر منه الشعراء في شعرهم واستنكروه، وسخر منه الناس في مجالسهم واستنكروه، بل سخر منه قبل أولئك وهؤلاء آل معاوية وأسرته. حتى إذا تولى العباسيون الحكم، أعاد المهدي، بعد أكثر من قرن من الزمان، آل زياد إلى سمية: نسبهم القديم.

١٧٠

من هنا كانت العقدة الكبيرة التي لازمت زياداً وأهله، عقدة نسب أو عقدة شؤم عليهم وعلى غيرهم؛ فلاهم الذين بقوا، كما كانوا، من سواد الناس الذين لا أحد يهتم بهم أو يسأل عنهم، ولا الناس اعترفوا لهم بنسبهم الجديد وعاملوهم على أساسه.

أرادوا أن يردوا الدين لمعاوية ولآل أبي سفيان ويؤكدوا نسبهم فيهم فزادوا (سفيانية) عليهم، ولم يكن هؤلاء بحاجة إلى مزيد.

كانت عقدة النسب هذه وما تخلفه من نتائج، وما تثيره في النفوس الواطئة من عقد إضافية أخرى، قوية واضحة لم تفارقهم يوماً منذ معاوية لهم أو عليهم.

وهذه العقدة هي التي تفسر أن زياداً وضع أول كتاب في مثالب العرب والطعن فيهم وإظهار معايبهم، خلافاً لما ينتظر منه بعد أن أصبح من سادات العرب وأخا خليفتهم.

لماذا؟

الجواب هو ما يقدمه لنا زياد نفسه حين قال لأبنائه وقد ترك لهم (كتاب المثالب) وكان عارفاً بتكذيب العرب لنسبه الجديد وسخريتهم منه: (استظهروا به على العرب فإنّهم يكفون عنكم).

فزياد لا ينكر عيبه غير المنكور، لكنه يفتش عن عيوب الناس ليتقي بها ألسنة من يعيبونه.

ونشأ عبيد الله ابنه حاقداً لكل ما يعتز به الناس من قيم ويفخرون به من مآثر، والناس يومئذ عرب، يفخرون بقديمهم - ما أظنهم ما يزالون - أكثر مما يفخرون بحديثهم. وليس القديم إلا النسب والآباء والأجداد، وهو ما يعوز ابن زياد ويؤذيه في داخله، ويدفع به إلی سلوك عدواني شاذ إزاء كل من له قدر وشرف ومنزلة بين الناس، بالحط منه أو إهانته أو قتله؛ إرضاءً لنوازع لا يعرف، أو لا يريد التخلص منها.

وكان يزيد قد ضم إلى ولاية البصرة التي يتولاها عبيد الله منذ عهد معاوية، ولاية الكوفة؛ ليصبح السيد المطلق على العراق كله. وهو ما لم يحظ به أحد قبله؛ فعبيد الله إذن مدين ليزيد باستمراره في ولاية البصرة، ومدين ليزيد بتولية الكوفة التي ضمت أخيراً إلى البصرة.

١٧١

ولم يكن يزيد ليوليه الكوفة، بعد سماعه بخروج الحسين وتوجهه إليها، إلا لمعرفته بعبيد الله واستعداده لارتكاب كل محرم، لا حدود عنده ولا حرج ولا شيء مما قد يردع الآخرين ويوقفهم أو يمنعهم. إنه أفضل رجال يزيد ليزيد، وخير من يلعب الدور الذي يريده منه في ملحمة كربلاء.

ها هو عبيد الله وعقدتاه: القديمة، عقدة النسب التي أضيفت إليها مؤخراً عقدة يزيد ودينه والوفاء له، أو عقدة الحكم والبقاء فيه. سمها ما شئت، وما نتج من هاتين العقدتين، من عقد أخرى.

وقد تهيأت له المناسبة لحلهما والتخلص منهما.

وليس بين العرب والمسلمين من هو أشرف وأفضل من الحسين. وليس بين العرب والمسلمين من يشفي غيظه ويزيل عقدة النسب عنده، كالحسين. وليس مثل الحسين من يرهب بقتله الناس ويؤكد به ولاءه ووفاءه ليزيد.

إذن فليسرع لقتل الحسين، ليقتله بأبشع صورة، بأبعد صورة عن الإنسان، بأقرب صورة إلى الوحش.

وأظنني وصلت الآن إلى تفسير هذا السلوك الساري الكريه لعبيد الله من الحسين ومن كان مع الحسين من الرجال والنساء والأطفال، موقف لا يمكن تفسيره بغير ما ذكرت.

ما الذي يدعو عبيد الله إلى الكتابة لعمر بن سعد أن يحول بين الحسين وبين الماء: (... ولا يذوقوا منه قطرة...).

ولو سمح عمر بالماء ولم يحل بينه وبين الحسين كما أمر عبيد الله، أكان الحسين مع أصحابه الذين لا يتجاوزون المائة، يستطيعون أن يقاتلوا ويهزموا جيش ابن سعد الذي لا عدد له؟!

وما الذي يدعو عبيد الله إلى الكتابة للحر يأمره بأن يجعجع بالحسين ولا ينزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، ثم لا يكتف بذلك، فيجعل من رسوله بالكتاب رقيباً على عمر في تنفيذ أمره؛ كأنه خشي ألا ينفذ عمر أمره أو يقصر في تنفيذه.

١٧٢

وما الذي يدعوه إلى هذا الموقف الذي اتخذه من السيدة زينب أخت الحسين وباقي النساء المفجوعات حين أدخلن عليه، ومن علي بن الحسين، الفتى المريض ، الذي أراد قتله لولا تعلّق عمته به وإنكار بعض الحاضرين بذلك.

لقد كان موقفاً مخزياً، لا رجولة فيه ولا مروءة ولا شيء مما يحرص القادة عليه في مثل تلك الحال. وعکس عبيد الله، كما هو، حقيراً تافهاً وضيعاً، أسير عقد كانت شؤماً وبلاء علی المسلمين. لقد تجاوز ابن زياد بن أبيه كل ما سار عليه الناس والتزموا به، عرب وغير عرب، إلا بني أمية ورجالهم وأتباعهم.

كان يمكن ألا يكون مجرماً، لكنه أبی، كسب يزيد وخسر نفسه.

١٧٣

الفصل السادس والثلاثون

الوضع فی البصرة - نبيط بن يزيد

قبل أن يترك عبيد الله البصرة إلى الكوفة ليتولى أمرها، كان قد نشر الذعر والإرهاب في كل زاوية وكل بيت فيها. لا أحد يدري من سيؤخذ، تضرب عنقه أو يلقى في السجن دون أن يسأل أحد عنه؛ لأنه شك فيه. ما رأيناه في الكوفة من إرهاب، كان عبيد الله قد سبق إليه في البصرة قبلها.

أخذت أفواه الطرق ووضع الرصد في كل ركن يراقبون الداخل والخارج والمتكلم والساكت، وربما الساكت أكثر. ليس هناك حماية ولا حرمة لأحد. كل شيء مباح، والسلطة هي القانون لا منفذة للقانون.

ثم اشتد الإرهاب أكثر حين كشف أمر سليمان بن رزين: رسول الحسين إلى البصرة الذي شك المنذر بن الجارود أنه مدسوس عليه من عبيد الله، أرسله إليه لاستطلاع نواياه ومعرفة موقفه من الحسين ومن السلطة. وأراد المنذر أن يطمئن عبيد الله ويزيل شكه، فجاء إليه برزين، وهو يسخر فيما بينه وبين نفسه من عبيد الله ومن حيله التي لم تجر عليه. فما كان بأسرع من ضرب عنق رزين الذي ذهب ضحية (ذكاء) المنذر وصدق فراسته وسرعة كشفه لحيلة عبيد الله!!!

وكانت محنة قاسية تعرضت لها البصرة، التي كانت تعيش في الأصل، محنة مع هذا الطاغيه وحاشية له من عشاق الدم والجريمة الذين لا يجدون لذتهم إلا في القتل والتعذيب. مرض غريب ما يزال الإنسان يعاني منه حتى اليوم.

وفي أحد بيوت البصرة البسيطة التي لا تثير الانتباه، وفي واحد من أحيانها المزدحمة بالناس، اعتاد عدد من أنصار الحسين أن يعقدوا اجتماعاتهم فيه، للبحث في الموقف الذي عليهم اتخاذه، خصوصاً بعد ما علموا بعزم الحسين على الخروج.

كانت مارية بنت سعد من أقوى النصيرات في البصرة وأجرأهن.

وقد جعلت من بيتها ملتقى لأنصار الحسين، يجتمعون فيه ويتناقشون ويتبادلون ما لديهم من أخبار وما يبلغهم من معلومات قد تحدد خطواتهم القادمة.

١٧٤

قالت لأحد الانصار وهي تتابع الأخبار بلهفة وشوق: إلى أين وصل يزيد بن مسعود النهشلي؟ علمت أنه جمع بني تميم وحثهم على الانضمام إلى صف الحسين وخلع طاعة بني أمية، وهم كما تعلم أكثر أهل البصرة وأعزهم.

قال الرجل: والله لنعم الرجل ابن مسعود، لم يقصر في جهد ولم يبخل بنصيحة. إنه يواصل سعيه لحشد الأنصار للسير بهم الى الحسين. وإذا كان قد بدأ ببني تميم؛ فلأنهم قبيلته والأقرب إليه والأطوع لرأيه، وسيحد نشاطه إلى غيرهم من أهل البصرة، بعد الفراغ منهم.

قالت مارية وقد بدت قلقة: ألا ترى أن الوقت يضيق، والحسين على عزم الخروج، وإذا لم يسرعوا إلى اللحاق به الآن، فلن يكون خروجهم ذا جدوی بعده. وعلى كل فقد سمعت أن بني سعد قد طلبوا وقتاً للتفكير والرد على دعوة يزيد.

قال الرجل: هل نسيت موقفهم في صفين؟! لعلهم يريدون أن يكرروه.

وقبل أن يكمل الرجل جوابه، كان يسمع على الباب طرقات قد اتفق عليها بين مرتادي البيت من أنصار الحسين.

ودخل يزيد بن نبيط، وهو أحد أشد الأنصار وأنفذهم عزيمة. قال دون أن يجلس: إني قد أزمعت على الخروج، فمن يخرج معي.

قال أصحابه: إنا نخاف عليك يا ابن نبيط، فجيش عبيد الله ينتشر في المدينة، وهو يأخذ على الظنة والشبهة، ولا نأمن أن يكتشفوا أمرك فيأخذوك.

قال يزيد: من استسهل الموت، سهل عليه مادونه. إني لأرجو أن أرزق الشهادة في قتال هؤلاء الظالمين، بين يدي الحسين. ثم ودعهم وخرج. وخرج معه ستة من الأنصار، اثنان فيهم من أبنائه، والتحقوا بالحسين، وهو بعد في أبطح مكة. وكانوا بين الذين استشهدوا في كربلاء.

وأثناء ذلك، كان يزيد بن مسعود النهشلي يسرع في تجهيز أصحابه للالتحاق بالحسين.

وفي الطريق إلى كربلاء بلغه مصرع الحسين، فاشتد حزنه حتى مات أسفاً ألا يكون قد لحق به واستشهد معه.

١٧٥

الفصل السابع والثلاثون

الأزمة

كانت الروح العربية في زمن يزيد قد وصلت إلى أوطأ ما تصل إليه روح إمة، كانت تعيش أزمة حقيقية، أزمة مخيفة ربما لم يعرف لها التأريخ شبيهاً أولم يحدثنا - على الأقل - عن شبيه.

فمنذ بدأ الحكم الأموي مع معاوية، وحتى قبل معاوية، بدأت هذه الأزمة تغزو العربي عقلاً وضميراً، ثم تعيش معه، ثم تحوله إلى غير إنسان. لقد نجح الأمويون في تحطيمه فلم يعد يفكر؛ تعطل الفكر عنده، وتعطل الضمير.

أليست أزمة أن يقارن معاوية بعلي، ثم ينتصر معاوية في الحرب ضده. ونحن بعد في النصف الأول من القرن الهجري الأول، ولم يمضي على فتح مكة إلا ثلاثون عاماً، والصحابة الذين شهدوا فتح مكة كانوا أحياء في تلك الحرب؟!

أليست أزمة أن يحارب العرب بعد أقل من خمسين عاماً على الهجرة، الى جانب يزيد ويدعمونه ويساندونه ضد الحسين؟!

لولا هذه الأزمة، هل يستطيع معاوية أن يتولى حكم المسلمين، ويكون خليفة لهم، وهو الذي كان قريباً من القتل في أي حرب من حروب المسلمين مع مشركي قريش أو بعدها في فتح مكة؟!

وكيف استطاع أن يجمع جيشاً يحارب به علياً، ثم ينتصر عليه؟!

كيف انضم إليه المسلمون لولا أن تحكمهم وتسيطر عليهم وتشل فكرهم وضميرهم، هذه الأزمة؟!

أيمكن أن يقارن معاوية بعلي في مقياس من مقاييس الناس؟!

وانتهى معاوية، وظلت الأزمة، أو تفاقمت واشتدت.

فإذا كان لمعاوية من يعتذر عنه أو يعتذر له، فأي عذر يمكن أن يسع يزيد؟! وأي عذر يمكن أن يسع المسلمين، وهم يسمحون ليزيد أن يكون خليفة لهم؟!

لقد كانت ملحمة كربلاء أخطر نتائج هذه الأزمة، وستبقى أخطر نتائجها، على كثرة ما نتج عنها.

١٧٦

الفصل الثامن والثلاثون

المدينة - مكة

كان الحديث يدور بينهما بصوت أستطيع أن أسمعه. قال أحدهما لصاحبه: كيف كان موقف المدينة ومكة من معاوية والأمويين؟! ألا ترى أن هذا الموقف كان ضعيفاً متخاذلاً، لا يرتفع مطلقاً إلى ما كان يرجوه المسلمون منهما، ومكانتهما هي ما تعرف. وإليهما تتجه أنظارهم كلما تعرضوا لظلم، وليس كالظلم الذي تعرضوا له في عهد معاوية؟! لقد كان موقفهما، خصوصاً المدينة، قوياً حازماً مع عثمان، وهو خير من معاوية بما لا يقاس، وربما كان معاوية وتأثيره عليه من أقوى أسباب الثورة ضده.

قال الثاني بعد صمت طويل ظننت أنه لن يجيب؛ إليك القصة يا صاحبي: كان المجتمع العربي عموماً يعيش حالة انكسار وتراجع بعد فترة طويلة من النشاط والحركة.

لقد أنهكته سنون متعاقبة من الحروب والقتال والدم والسلاح، منذ الأحداث التي أدت إلى مقتل عثمان، ثم الحروب التي اضطر الإمام إلى خوضها في الجمل وصفين وختمتا باغتياله عام ٤٠هـ، واستيلاء معاوية على الحكم.

وانتهى الحماس الذي يرافق الحروب، وثورة العواطف تسبق ثورة المقاتلين وتشدهم وتقويهم. وعاد السيف إلى غمده. لم يعد خارج الغمد.

وانتهى ما كان يحرك النفوس، وهي تفكر وتناقش وتحكم وتحدد مصيباً ومخطئاً وحقاً وباطلاً.

لقد استولى على الناس شعور بالهزيمة وما يحمله من حالة الإحباط واليأس اللذين يقتلان العزيمة ويشلان المقاومة ويسلمان الإنسان إلى لون من الرضا والقبول بما هو حاصل والتخلي عن التفكير بتغييره.

ولم يكن أحب إلى معاوية ونظامه من هذه الحالة. ولم تكن هذه الحالة خارج حساباته؛ فسارع يغذيها ويرسخها ما أمكنه ذلك.

١٧٧

وكان الإعلام المتمثل بالأحاديث النبوية، المزورة طبعاً، قد بدأ منذ حين يعمل على نشر ثقافة الخضوع والطاعة له (ولاة الأمر) من الحكام ومن دونهم. وقد جند الحكم عدداً من المرتزقة والمنافقين والطامعين من الذين لا أخلاق لهم، لينشروا بين المسلمين أحاديث اختلقوها، تحرم الثورة على هؤلاء الحكام وتحصنهم ضد أي خطر محتمل.

وأظنك تعرف هذه الأحاديث التي أشرت إلى بعضها فيما سبق، وأظنك تعرف أصحابها من هؤلاء المزورين التافهين اللاحقين وراء الحكام وأموالهم. لقد استخدم الحكم الأموي وكل حكم بعده - وحتى اليوم - هذا الإعلام كواحد من أمضى الأسلحة وأشدها فتكاً بالعقل العربي.

وكان من بين ما ساعد على ذلك وفاة الكثيرين من الصحابة القدماء أو تفرقهم في البلدان، ولم يبق منهم أو ممن يسمع منهم في المدينة إلاّ عدد قليل، على رأسهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر. ولم يكن أي منهما صاحب موقف معروف أو اتجاه يخالف اتجاه السلطة أو يعارضها، فعاش كلاهما في كنف السلطة تقذف عليهما من عطاياها وأموالها: أموال المسلمين.

أما أولهما، عبد الله بن عباس، فقد أخذ بيت مال المسلمين وهرب به حين كان والياً على البصرة. وأما ابن عمر، فقد كان يتلقى المائة ألف من معاوية، لا يرفض ولا يتحرج، بل يستزيد. وبايع الاثنان يزيد، خليفة للمسلمين بعد موت معاوية.

وكان معاوية يحاول دائماً أن يؤكد روح الهزيمة عند أصحاب علي ويشعرهم بالضعف والعجز نحوه، وبأنهم أخطؤوا ابتداء في انضمامهم إلى عليّ الذي لم يجنوا منه غير الفشل والحرمان. لكن الرد كان يأتيه جافاً قاسياً أحياناً، وعلى عكس ما يريد دائماً، وأن من الخير له أن يترك الماضي ولا يثيره ولا يذكر علياً، فليس هو من نظرائه ولا ممن يقارنون به، وإذا كانوا خسروا الحرب، فلم يخسروا أنفسهم ولا إيمانهم ولا ولاءهم لعلي وتفضيلهم له، وربما تجاوزوا ذلك إلى تهديد معاوية بالعودة إلى الحرب.

وفي مكة لم تكن الحال لتختلف عنها في المدينة؛ كانت روح الهزيمة، هي نفسها التي تعيشها المدينة.

١٧٨

وكان عبد الله بن الزبير قد لجأ إلى مكة محتمياً أو عائذاً بالبيت كما سمى نفسه، ليبعد عنه أذى الأمويين الذين شغلهم عنه وعن غيره، خروج الحسين.

فابن الزبير لم يجرؤ على إظهار بيعته والدعوة إليها إلا بعد مقتل الحسين.

هذه إذن، إذا استثنينا الشام بلد المنتصرين والعاصمة الجديدة للخلافة، هي الحالة في المدينة ومكة، وغير المدينة ومكة: انهيار وتراجع وهزيمة تفتك بالناس وتشل كل تفكير في ثورة أو عصيان أو هو مادون الثورة والعصيان.

وكان لابد للخروج من الأزمة وتجاوز روح الهزيمة التي بدت وكأنها قدر لا يدفع، من حدث كبير، كبير جداً يهز النفس العربية وينفض عنها ما داخلها من شعور بالعجز والاستسلام.

كانت في حاجة إلى ملحمة كربلاء ودم الحسين.

وكانت كربلاء ودم الحسين؛ لتشتعل الثورات بعده على امتداد الأرض العربية الإسلامية، وهي تتمثل كربلاء والحسين فهل وجدت الآن الجواب على تساؤلك يا صاحبي؟

قال الأول متعجباً: أكنت معهم؟! والله لكأنك تتحدث عن رؤية وسماع!

قال الثاني: وهل نقل الذين رؤوا وسمعوا صحيحاً ما ررأوا وسمعوا؟! هل نحتاج في كل أمر إلى الرؤية والسماع؟! ماذا نفعل بالعقل إذن، وهو الهبة الكبرى، لم يمنحها حاكم ولا سلطان؛ إنه وحده، الحاكم والسلطان.

١٧٩

الفصل التاسع والثلاثون

شراف، ذوحسم

اللقاء الأوّل مع الحر

وصل الركب شراف - محطة على الطريق الذاهب إلى الكوفة بعد زبالة - فنزل يستريح ويتهيأ لسفر آخر يريد أن يواصله حتى الكوفة.

لقد قطعوا، حتى الآن، مسافات طويلة، بين سهل وواد وجبل. الحر قاس لا يطاق، والطريق ما يزال طويلاً وهو غير مستوٍ ولا سهل، لكن الرسالة التي يحملها الركب تنسي التفكير في غيرها؛ كل شيء غيرها هين يسير.

ومع خيوط الفجر الأولى كان الركب يستأنف سيره. ها هو يترك شراف بعزم لا ينثني ولا يلين، إلى المكان الذي سيكتب فيه تأريخ جديد للإنسان، تأريخ لا تزوير فيه ولا كذب ولا ادعاء.

ويبتعد الركب ويرتفع النهار.

وعند الأفق البعيد تلوح سحابة دكناء.

قال أحد أفراد الركب وهو يمد بصره إلى الأفق: إنه نخل، إني أرى نخلاً. ألا ترى؟ انظر. قال ذلك لصاحبه السائر إلى جنبه، لعله يرى هو أيضاً ما رآه.

وابتسم الأسديان: عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل وهما يسمعان ذلك. إنهما يعرفان المكان جيداً، فقد كانا كثيري المرور فيه، ويعلمان ألا نخل فيه. وما ظنه الرجل نخلاً، هو في الحقيقة جيش كثيف مقبل من ناحية الكوفة ومتجه إليهم.

وكان عبيد الله بن زياد قد أقام على جميع الطرق المؤدية إلى الكوفة مراكز تفتيش للتأكد من هوية المارين فيها. أما الطريق بين الكوفة والبصرة، فقد انتشرت - حتى مسافة بعيدة من طرفيه - مفارز من الشرطة، والجيش يسأل من يشك فيه من السالكين، أو يبعث به إلى مركز القيادة في الكوفة؛ لتتولى هي أمره.

لم يكتف عبيد الله بهذه الاجراءات، فبعث الحر بن يزيد الرياحي على رأس جيش من ألف فارس لملاقاة الحسين في الطريق والقدوم به إلى الكوفة. وكان هذا الجيش هو السحابة التي تراءت لأحد أصحاب الحسين وظنها نخلاً.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226