ويستمر الصراع

ويستمر الصراع33%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72694 / تحميل: 6393
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وقال محمد بن عيسى بن الطباع: قال عبد الرحمن بن مهدي: كان هشيم أحفظ للحديث من سفيان الثوري، كان يقوى من الحديث على شيء لم يكن يقوى عليه سفيان، وسمعت وكيعاً يقول: نحوا عنّي هشيماً وهاتوا من شئتم - يعني في المذاكرة -.

وقال ابن مهدي: هشيم في حصين أثبت من سفيان وشعبة، وقال علي بن حجر: هشيم وأبو بشر مثل ابن عيينة في الزهري. وقال عيينة بن سعيد عن ابن المبارك قال: من غير الدهر حفظه فلم يغير حفظ هشيم، وقال العجلي: هشيم ثقة يدلس، وسئل أبو حاتم عن هشيم ويزيد بن هارون فقال: هشيم أحفظ منه ومن أبي عوانة »(١) .

عود إلى ترجمة الكلبي

وقد أثنى أبو اسحاق أحمد بن محمد بن ابراهيم الثعلبي على الكلبي، وجعله من أقران مجاهد والسدي حيث قال في ديباجة تفسيره: « وفرقة جرّدوا التفسير دون الأحكام وبيان الحلال والحرام، والحل عن العويصات المشكلات والرد على أهل الزيغ والشبهات، كمشايخ السلف الماضين والعلماء السابقين من التابعين وأتباعهم، مثل مجاهد، ومقاتل، والكلبي، والسدي، رضي الله عنهم أجمعين، ولكل من أهل الحق منهم غرض محمود وسعي مشكور »(٢) .

وقال ابن جزلة: « قال الحسن بن عثمان القاضي: وجدت العلم بالعراق والحجاز ثلاثة: علم أبي حنيفة، وتفسير الكلبي، ومغازي محمد بن إسحاق »(٣) .

وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن علي العامري: « قد خرجت هذا من التفاسير التي سمعتها من الأئمةرحمهم‌الله ، منها: ما سمعت من الأُستاذ الامام أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الإِسفراينيرحمه‌الله ، مثل تفسير مقاتل بن سليمان

____________________

(١). تذهيب التهذيب - مخطوط.

(٢). الكشف والبيان - مخطوط.

(٣). مختصر تاريخ بغداد - مخطوط.

٢١

والحلبي والكلبي وغيرهما ولم أعتمد إلّا بما صحّ عندي بتواتر واستفاضة أو روي في الصحاح بغير طعن الطاعن، والله الموفق لذلك »(١).

وقال ابن قتيبة: « الكلبي صاحب التفسير، وهو محمد بن السائب بن بشر الكلبي، ويكنى أبا النضر وكان نسّاباً عالماً بالتفسير، وتوفي بالكوفة سنة ١٤٦ »(٢) .

وقال البغوي: « وما نقلت فيه من التفسير عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة، ومن بعده من التابعين، أئمة السلف مثل: مجاهد، وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري،رضي‌الله‌عنه ، وقتادة، وأبي العالية، ومحمد بن كعب القرظي، وزيد بن أسلم، والكلبي، والضحاك، ومقاتل بن حبان، ومقاتل بن سليمان، والسدّي، وغيرهم فأكثره مما أخبرني الشيخ أبو سعيد أحمد بن محمد الشريحي المذكور »(٣) .

وقال صديق حسن القنوجي: « وجمعته جمعاً حسناً، بعبارة سهلة، وألفاظ يسيرة، مع تعرض للترجيح بين التفاسير المتعارضة في مواضع كثيرة، وبيان المعنى العربي الإِعرابي واللغوي، مع حرص على إيراد صفوة ما ثبت عن التفسير النبوي، وعن عظماء الصحابة وعلماء التابعين، ومن دونهم من سلف الأئمة وأئمتها المعتبرين، كابن عباس حبر هذه الأمة ومن بعده من الأئمة، مثل مجاهد وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة، وأبي العالية، والقرظي، والكلبي والضحاك، ومقاتل، والسدي، وغيرهم من علماء اللغة والنحو كالفراء، والزجّاج، وسيبويه، والمبرد، والخليل، والنحاس »(٤) .

وقال علي بن محمد البزدوي: « ليس من اتهم بوجه ما يسقط به كلّ حديثه

____________________

(١). الناسخ والمنسوخ - مخطوط.

(٢). المعارف ٥٣٥ - ٥٣٦.

(٣). معالم التنزيل ١ / ٣ هامش تفسير الخازن.

(٤). فتح البيان في مقاصد القرآن ١ / ١٧.

٢٢

مثل الكلبي وأمثاله، ومثل سفيان الثوري وأصحابه، مع جلالة قدره وتقدّمه في العلم والورع »(١).

وقال علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري في شرح كلام البزدوي المذكور ما نصه: « قوله: مثل الكلبي. هو أبو سعيد محمد بن السائب الكلبي صاحب التفسير، ويقال له أبو النضر أيضاً، طعنوا فيه بأنه يروي تفسير كلّ آيه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسمى زوائد الكلبي، وبأنه روى حديثاً عند الحجاج، فسأل عمن يرويه فقال: عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، فلمـّا خرجٍ قيل له: هل سمعت ذلك من الحسن؟ فقال: لا ولكنّي رويت عن الحسن غيظاً له.

وذكر في الأنساب: إن الثوري ومحمد بن إسحاق يرويان عنه ويقولان حدثنا أبو النضر حتى لا يعرف. قال: وكان الكلبي سبائياً من أصحاب عبد الله ابن سبأ، من أولئك الذين يقولون إن علياً لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة، ويملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وإذا رأوا سحابة قالوا أمير المؤمنين فيها، والرعد صوته والبرق سوطه، حتى تبرأ واحد منهم وقال:

ومن قوم إذا ذكروا علياً

يصلّون الصلاة على السحاب

مات الكلبي سنة ١٤٦.

وأمثاله. مثل عطاء بن السائب، والربيعة، وعبد الرحمن، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم، اختلطت عقولهم فلم يقبل رواياتهم التي بعد الاختلاط، وقبلت الروايات التي قبله.

فإنْ قيل: ما نقل عن الكلبي يوجب الطعن عاماً، فينبغي أن لا يقبل رواياته جميعاً.

____________________

(١). أصول الفقه ٣ / ٧٢ بشرح عبد العزيز البخاري.

٢٣

قلنا: إنما يوجب ذلك إذا ثبت ما نقلوا عنه بطريق القطع، فأما إذا اتهم به فلا يثبت حكمه في غير موضع التهمة، وينبغي أن لا يثبت في موضع التهمة أيضاً، إلّا أن ذلك يورث شبهة في الثبوت، وبالشبهة تردّ الحجة، وينتفي ترجح الصدق في الخبر، فلذلك لم يثبت أو معناه.

ليس كل من اتهم بوجه ساقط الحديث، مثل الكلبي، وعبد الله بن لهيعة والحسن بن عمارة، وسفيان الثوري وغيرهم، فإنه قد طعن في كل واحد منهم بوجه، ولكن علوّ درجتهم في الدين، وتقدّم رتبتهم في العلم والورع، منع من قبول ذلك الطعن في حقهم ومن ردّ حديثهم به، إذ لو ردّ حديث أمثال هؤلاء بطعن كل واحد انقطع الرواية واندرس الأخبار، إذ لم يوجد بعد الأنبياءعليهم‌السلام من لا يوجد فيه أدنى شيء مما يجرح إلاّ من شاء الله تعالى، فلذلك لم يلتفت إلى مثل هذا الطعن، فيحمل على أحسن الوجوه، وهو قصد الصيانة »(١) .

ترجمة عبد العزيز البخاري

وعبد العزيز البخاري شارح البزدوي وصاحب الكلام المزبور في الدفاع عن الكلبي، من مشاهير الأئمة الكبار، وقد أثنى عليه عبد القادر القرشي في ( الجواهر المضية في طبقات الحنفية ) ومحمود بن سليمان الكفوي في ( كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار ) والكاتب الجلبي في ( كشف الظنون ).

____________________

(١). كشف الأسرار في شرح أصول الفقه ٣ / ٧٢.

٢٤

(٢)

يحيى بن زياد الفراء

وفسّر يحيى بن زياد الفرّاء ( المولى ) بـ ( الأولى ) كما قال الفخر الرازي بتفسير قوله تعالى:( هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) : «( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) . وفي لفظ المولى هاهنا أقوال: أحدها - قال ابن عباس: مولاكم أي مصيركم. وتحقيقه: أن المولى موضع الولي وهو القرب، فالمعنى: إن النار هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه.

والثاني - قال الكلبي: يعني أولى بكم. وهو قول الزّجاج والفرّاء وأبي عبيدة »(١) .

ترجمة الفراء

١ - ابن خلكان: « أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي، المعروف بالفراء، الديلمي الكوفي، مولى بني أسد، وقيل مولى بني منقر.

كان أبرع الكوفيين، وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب، حكى عن أبي العباس ثعلب أنه قال: لو لا الفراء لما كانت العربية، لأنه خلّصها وضبطها، ولو لا الفرّاء لسقطت العربية، لأنها كانت تتنازع، ويدّعيها كل من أراد، ويتكلّم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم. فتذهب.

وأخذ النحو عن أبي الحسن الكسائي، وهو والأحمر المقدّم ذكره من أشهر

____________________

(١). التفسير الكبير ٢٩ / ٢٢٧.

٢٥

أصحابه وأخصّهم به.

ولمـّا عزم الفرّاء على الاتصال بالمأمون كان يتردّد إلى الباب، فبينما هو ذات يوم على الباب، إذ جاء أبو بشر ثمامة بن الأشرس النمري المعتزلي - وكان خصيصاً بالمأمون - قال: فرأيت أبهة أديب، فجلست إليه ففاتشته عن اللغة فوجدته بحراً، وفاتشته عن النحو فوجدته نسيج وحده، وعن الفقه فوجدته رجلاً فقيهاً عارفاً باختلاف القوم، وبالنجوم ماهراً، وبالطب خبيراً، وبأيام العرب وأشعارها حاذقاً، فقلت: من تكون وما أظنك إلا الفرّاء؟ قال: انا هو، فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين المأمون، فأمر بإحضاره لوقته وكان سبب اتصاله به

وقال الخطيب في تاريخ بغداد: إنّ الفراء لما اتصل بالمأمون أمره أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العربية وبعد أن فرغ من ذلك خرج إلى الناس وابتدأ في كتاب المعاني، وقال الرّاوي: وأردنا أن نعدّ الناس الذين اجتمعوا لإِملاء كتاب المعاني فلم نضبطهم، فعددنا القضاة فكانوا ثمانين قاضياً، فلم يزل يمليه حتى أتمّه

وكان سبب إملائه كتاب المعاني: أن أحد أصحابه - وهو عمر بن بكير - كان يصحب الحسن بن سهل المقدّم ذكره، فكتب إلى الفراء أنّ الأمير الحسن لا يزال يسألني عن أشياء من القرآن لا يحضرني فيها جواب، فإنْ رأيت أن تجمع لي أصولاً، وتجعل في ذلك كتاباً يرجع اليه فعلت. فلمـّا قرأ الكتاب قال لأصحابه: إجتمعوا حتى أملي عليكم في القرآن، وجعل لهم يوماً، فلمـّا حضروا خرج إليهم وكان في المسجد رجل يؤذن فيه وكان من القراء، فقال له: إقرأ. فقرأ فاتحة الكتاب، ففسّرها حتى مرّ في القرآن كلّه على ذلك، يقرأ الرجل والفرّاء يفسّره، وكتابه هذا نحو ألف ورقة، وهو كتاب لم يعمل مثله، ولا يمكن لأحدٍ أنْ يزيد عليه.

وكان المأمون قد وكّل الفرّاء يلقّن ابنيه النحو، فلما كان يوماً أراد الفرّاء أن ينهض إلى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفرّاء يقدّمانها له، فتنازعا أيّهما

٢٦

يقدّمانها له، فاصطلحا على أن يقدّم كلّ واحد منهما فرداً فقدّماها

وقال الخطيب أيضاً: كان الفقيه محمد بن الحسن ابن خالة الفرّاء، وكان الفرّاء يوماً جالساً عنده فقال له الفرّاء: قلّ رجل أنعم النظر في باب من العلم فأراد غيره إلّا سهل عليه، فقال له محمد: يا أبا زكريا قد أنعمت النظر في العربية، فأسألك عن باب من أبواب الفقه، فقال: هات على بركة الله تعالى. قال: ما تقول في رجل صلّى فسهى فسجد سجدتين للسهو فسهى فيهما؟ ففكّر الفرّاء فيهما ساعة ثم قال: لا شيء عليه. فقال له محمد: ولم؟ قال: لأن التصغير عندنا لا تصغير له، وإنما السجدتان تمام الصلاة وليس للتمام تمام. فقال محمد: ما ظننت آدميّاً يلد مثلك

وقال سلمة بن عاصم: إني لأعجب من الفرّاء كيف كان يعظّم الكسائي وهو أعلم بالنحو منه.

ومولد الفرّاء بالكوفة وتوفّي الفرّاء سنة سبع ومائتين في طريق مكّة، وعمره ثلاثة وستون سنة، رحمه الله تعالى »(١) .

٢ - اليافعي: « وفيها الامام البارع النحوي، يحيى بن زياد الفرّاء الكوفي، أجلّ أصحاب الكسائي، كان رأساً في النحو واللغة، أبرع الكوفيّين وأعلمهم بفنون الأدب، على ما ذكر بعض المؤرّخين، وحكي عن أبي العباس ثعلب أنه قال: لو لا الفرّاء »(٢) .

٣ - الذهبي: « الفرّاء أخباري علامة نحوي، كان رأساً في قوة الحفظ. أملى تصانيفه كلّها حفظاً، مات بطريق مكة سنة ٢٠٧. عن ثلاث وستين سنة. اسمه يحيى بن زياد »(٣) .

____________________

(١). وفيات الأعيان ٥ / ٢٢٥ - ٢٣٠.

(٢). مرآة الجنان حوادث ٢٠٧.

(٣). تذكرة الحفاظ ١ / ٣٧٢.

٢٧

٤ - الذهبي أيضاً: « وهو أجلّ أصحاب الكسائي، وكان رأساً في النحو واللغة »(١) .

٥ - ابن الوردي: « أبرع الكوفيين نحواً وأدباً، وله كتاب الحدود وكتاب المعاني، وكتابان في المشكل، وكتاب النهي، وغير ذلك. توفي بطريق مكة، وعمره نحو ثلاث وستين، كان يفري الكلام فلقّب بذلك »(٢) .

(٣)

أبو زيد اللّغوي

وأمّا تصريح أبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري اللّغوي بورود ( المولى ) بمعنى ( الأولى )، فقد اعترف به ( الدهلوي ) نفسه في كلامه، كما جاء في كلام غلام محمد بن محيي الدين بن عمر الأسلمي في ترجمة ( التحفة الاثنا عشرية ) حيث قال في الجواب عن حديث الغدير: « ولا يخفى أنّ أوّل الغلط في هذا الاستدلال هو إنكار أهل العربيّة قاطبة ثبوت ورود المولى بمعنى الأولى، بل قالوا لم يجيء قط المفعل بمعنى أفعل في موضع ومادة أصلاً، فضلاً عن هذه المادة بالخصوص، إلّا أن أبا زيد اللّغوي جوّز هذا متمسكاً بقول أبي عبيدة في تفسير( هِيَ مَوْلاكُمْ ) أي أولى بكم ».

وستأتي ترجمة أبي زيد اللّغوي في الكتاب إنْ شاء الله تعالى.

____________________

(١). العبر حوادث ٢٠٧.

(٢). تتمة المختصر حوادث ٢٠٧.

٢٨

(٤)

أبو عبيدة

وأمّا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنّى البصري ( المولى ) بـ ( الأولى ) فقد نصّ عليه الفخر الرازي في ( نهاية العقول ) أيضاً كما سيأتي قريباً، وفي ( التفسير ) كما عرفت من عبارته الماضية، وكذا ذكره ابن الجوزي في ( زاد المسير )، واعترف به ( الدّهلوي ) كذلك، وصرّح به الأسلمي المذكور في ( الترجمة العبقريّة ).

ترجمة أبي عبيدة

١ - الذهبي: « أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري، اللغوي الحافظ، صاحب التصانيف، روى عن: هشام بن عروبة وأبي عمرو بن شيبة. وعنه: أبو عثمان المازني وأبو العيناء وخلق.

قال الحافظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي عالم بجميع العلوم من أبي عبيدة. وذكره ابن المبارك فصحّح رواياته.

مات أبو عبيدة سنة عشر ومائتين، وقيل سنة تسع »(١) .

٢ - الذهبي أيضاً: « أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصري اللغوي، العلّامة الأخباري صاحب التصانيف، روى عن: هشام بن عروة وأبي عمر بن العلا وكان أحد أوعية العلم. وقيل توفي سنة إحدى عشرة »(٢) .

٣ - وذكر ابن الأثير في خطبة كتابه ( النهاية ) القول بأنّ أبا عبيدة أوّل من

____________________

(١). تذكرة الحفاظ ١ / ٣٧١.

(٢). العبر حوادث ٢١٠.

٢٩

ألّف في فن غريب الحديث بعد اختلاط الألسن وتداخل اللغات، حيث قال: « فلما أعضل الدّاء وعزّ الدّواء ألهم الله جماعة من أولى المعارف والنهى وذوي البصائر والحجى، أن صرفوا إلى هذا الشأن طرفاً من عنايتهم، وجانباً من رعايتهم، فشرّعوا فيه للناس موارد، ومهّدوا فيه لهم معاهد، حراسة لهذا العلم الشريف من الضّياع، وحفظاً لهذا المهمّ العزيز من الاختلال، فقيل: إنّ أوّل من جمع في هذا الفن شيئاً وألّفه أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، فجمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتاباً »(١).

٤ - وقال السيوطي نقلاً عن أبي الطيّب اللّغوي بعد ذكر الخليل: « وكان في هذا العصر ثلاثة هم أئمة الناس في اللغة والشعر وعلوم العرب، لم ير قبلهم ولا بعدهم مثلهم، عنهم أخذ جلّ ما في أيدي الناس من هذا العلم بل كلّه، وهم أبو زيد وأبو عبيدة والأصمعي، وكلّهم أخذوا عن أبي عمرو اللغة والنحو والشعر، ورووا عنه القراءة. ثم أخذوا بعد أبي عمرو عن عيسى بن عمرو أبي الخطاب الأخفش ويونس بن حبيب، وعن جماعة من ثقات الأعراب وعلمائهم وكان أبو زيد أحفظ الناس للّغة بعد أبي مالك وأوسعهم رواية وأكثرهم أخذاً عن البادية، وقال ابن منادر: كان الأصمعي يجيب في ثلث اللغة، وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها، وكان أبو زيد يجيب في ثلثيها

وأبو زيد من الأنصار، وهو من رواة الحديث، ثقة عندهم مأمون، وكذلك حاله في اللغة، وقد أخذ عنه اللغة أكابر الناس منهم سيبويه وحسبك، قال أبو حاتم عن أبي زيد: كان سيبويه يأتي مجلسي وله ذؤابتان قال: فإذا سمعته يقول: وحدثني من أثق بعربيته فإنّما يريدني.

وكبر سنّ أبي زيد حتى اختلّ حفظه ولم يختل عقله، ومن جلالة أبي زيد في اللغة ما حدثنا به جعفر بن محمد حدثنا محمد بن الحسن الأزدي عن أبي حاتم عن

____________________

(١). النهاية في غريب الحديث - خطبة الكتاب.

٣٠

أبي زيد قال: كتب رجل من أهل رامهرمز إلى الخليل يسأله كيف يقال: ما أوقفك هاهنا ومن أوقفك؟ فكتب إليه: هما واحد. قال أبو زيد: ثم لقيني الخليل فقال لي في ذلك فقلت له: إنما يقال من وقفك وما أوقفك. قال: فرجع إلى قولي.

وأما أبو عبيدة فإنه كان أعلم الثلاثة بأيّام العرب وأخبارهم وأجمعهم لعلومهم، وكان أكمل القوم، قال عمر بن شيبة: كان أبو عبيدة يقول: ما التقى فرسان في جاهلية ولا إسلام إلّا عرفتهما وعرفت فارسيهما، وهو أوّل من ألّف في غريب الحديث ».

وقال السيوطي نقلاً عن أبي الطيّب: « أخبرنا جعفر بن محمد أخبرنا إبراهيم ابن حمد قال قال أبو حاتم: إذا فسّرت حروف القرآن المختلف فيها وحكيت عن العرب شيئاً فإنّما أحكيه عن الثقات منهم، مثل أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة ويونس، وثقات من فصحاء الأعراب وحملة العلم »(١) .

(٥)

أبو الحسن الأخفش

وممن نصّ على مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ): أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي المعروف بالأخفش قال الفخر الرازي: « إنّ أبا عبيدة وإنْ قال في قوله تعالى:( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) معناه: هي أولى بكم. وذكر هذا أيضاً الأخفش والزّجاج وعلي بن عيسى واستشهدوا ببيت لبيد »(٢) .

____________________

(١). المزهر في اللغة ٢ / ٢٤٩.

(٢). نهاية العقول في الكلام ودراية الأصول - مخطوط.

٣١

ترجمة الأخفش

١ - ابن خلكان: « أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء النحوي البلخي المعروف بالأخفش الأوسط. أحد نحاة البصرة من أئمة العربية، وأخذ النحو عن سيبويه وكان أكبر منه، وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إلّا وعرضه عليّ وكان يرى أنه أعلم به منّي وأنا اليوم أعلم به منه

وكانت وفاته سنة خمس عشرة ومائتين، وقيل سنة إحدى وعشرين ومائتين رحمه الله تعالى »(١) .

٢ - اليافعي: « وفيها الأخفش الأوسط إمام العربية »(٢) .

٣ - السيوطي: « قال المبرد: أحفظ من أخذ عن سيبويه الأخفش ثم الناشي ثم قطرب. قال: وكان الأخفش أعلم الناس بالكلام وأحذقهم بالجدل »(٣) .

(٦)

أبو العباس ثعلب

وأما تفسير أبي العباس ثعلب أحمد بن يحيى الشيباني البغدادي ( المولى ) بـ ( الأولى ) فقد ذكره الحسين بن أحمد الزوزني في شرح المعلّقات السّبع حيث قال:

« فغدت كلا الفرجين تحسب أنه

مولى المخافة خلفها وأمامها

الفرج موضع المخافة، والفرج ما بين قوائم الدواب، فما بين اليدين فرج

____________________

(١). وفيات الأعيان ٢ / ١٢٢.

(٢). مرآة الجنان حوادث ٢١٥.

(٣). بغية الوعاة ١ / ٥٩٠.

٣٢

وما بين الرجلين فرج، والجمع فروج.

وقال ثعلب: إن المولى في هذا البيت بمعنى الأولى بالشيء كقوله تعالى( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) أي هي الأولى بكم »(١) .

مصادر ترجمة ثعلب

ولقد ترجم لأبي العباس ثعلب بكل ثناء وتبجيل في المصادر التالية:

١ - وفيات الأعيان ١ / ٨٤ - ٨٧.

٢ - تاريخ بغداد ٥ / ٢٠٤.

٣ - مرآة الجنان حوادث سنة ٢٩١.

٤ - العبر في خبر من غبر حوادث سنة ٢٩١.

٥ - تتمة المختصر في أخبار البشر حوادث سنة ٢٩١.

وقد أوردنا في الكتاب سابقاً ترجمته عن هذه الكتب.

وقال الذهبي بترجمته في ( تذكرة الحفاظ ): « ثعلب - العلّامة المحدّث شيخ اللّغة والعربية حدّث عنه: نفطويه ومحمد بن العباس اليزيدي وعلى الأخفش ومحمد بن الأعرابي وأحمد بن كامل وأبو عمرو الزاهد ومحمد بن مقسم وآخرون. مولده سنة ٢٠٠. وابتدأ بالطلب سنة ست عشرة حتى برع في علم الأدب، ولو سمع إذ ذاك لسمع من عفان ودونه.

وإنما أخرجته في هذا الكتاب لأنه قال: سمعت من القواريري مائة ألف حديث. وقال الخطيب. وقال الخطيب: كان ثعلب ثقة حجة ديّناً صالحاً مشهوراً بالحفظ قال المبرّد: أعلم الكوفيين ثعلب. فذكر له الفرّاء فقال: لا يعشره »(٢) .

____________________

(١). شرح المعلقات للزوزني: ٩١.

(٢). تذكرة الحفاظ ٢ / ٦٦٦.

٣٣

(٧)

أبو العباس المبرد

وأما حكم أبي العباس محمد بن يزيد المبرد بمجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) فقد ذكره علم الهدى السيد المرتضىرضي‌الله‌عنه حيث قال: « قال أبو العباس بالمبرّد في كتابه المترجم عن صفات الله تعالى: أصل يا ولي أولى الذي هو أولى وأحق، ومثله المولى »(١) .

مصادر ترجمة المبرد

وللمبرّد ترجمة في كثير من كتب التاريخ والأدب مع المدح العظيم والثناء الجميل، وقد أشرنا سابقاً إلى ترجمته في عدة من المصادر، مثل:

١ - وفيات الأعيان ٤ / ٣١٤.

٢ - العبر في خبر من غبر حوادث: ٢٨٥.

٣ - تاريخ بغداد ٣ / ٣٨٠ - ٣٨٧.

٤ - مرآة الجنان حوادث: ٢٨٥.

٥ - بغية الوعاة ١ / ٢٦٩.

٦ - المنتظم في تاريخ الأمم ٧ / ٩ - ١١.

وقد نصّ جلال الدين السّيوطي على وثاقته حيث قال: « وكان فصيحاً بليغاً مفوهاً ثقةً أخباريا علّامة صاحب نوادر وظرافة »(٢) .

____________________

(١). الشافي في الامامة: ١٢٣.

(٢). بغية الوعاة ١ / ٢٦٩.

٣٤

ترجمة الشريف المرتضى

وأما السيد المرتضى الذي نقل عن المبرد كلامه المذكور فمن كبار علمائنا الذي أطراهم علماء السنة وأثنوا عليهم الثناء البالغ، وذكروا فضائلهم وأوصافهم الحميدة في معاجم الرجال ومصادر التراجم وقد تقدم سابقاً في الكتاب طرف من كلماتهم في حقه. فراجع.

(٨)

أبو إسحاق الزجّاج

وأما حكم أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بمجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) فهو صريح كلام الفخر الرازي في ( نهاية العقول ) وقد نقلناه آنفا.

ترجمة الزجاج

١ - السمعاني: « والمشهور بهذه النسبة أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل النحوي الزجاج، صاحب كتاب معاني القرآن.

كان من أهل الفضل والدين، حسن الاعتقاد، حميد المذهب، وله مصنفات حسان في الأدب »(١) .

٢ - النووي: « أبو اسحاق الزجاج الامام في العربية، مذكور في الروضة في الشرط في الطلاق، فيمن علّق طلاقها بأوّل ولد، هو أبو إسحاق [ إبراهيم ] بن السرّي بن سهل البصري النحوي، صاحب كتاب معاني القرآن قال الخطيب في

____________________

(١). الأنساب - الزجاج.

٣٥

تاريخ بغداد. كان أبو إسحاق الزجاج هذا من أهل الفضل والدين حسن الاعتقاد وحسن المذهب، له مصنّفات حسان في الأدب. روى عنه علي بن عبد الله بن المغيرة وغيره وتوفي الزجاج يوم الجمعة لإِحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة ٣١١ »(١).

٣ - ابن خلكان: « كان من أهل العلم بالأدب والدّين »(٢) .

٤ - اليافعي: « كان من أهل العلم بالأدب والدّين المتين، وله من التصانيف في معاني القرآن وعلوم الأدب والعربية »(٣) .

(٩)

إبن الأنباري

وأما تصريح محمد بن القاسم الأنباري بمجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) فقد نقله السيد المرتضى حيث قال: « وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في كتابه في القرآن المعروف بالمشكل: والموالي في اللغة ينقسم إلى ثمانية أقسام، أوّلهنّ المولى المنعم المعتق، ثم المنعم عليه المعتق، والمولى الولي والمولى الأولى بالشيء، وذكر شاهداً عليه الآية التي قدّمنا ذكرها، وبيت لبيد، والمولى الجار، والمولى ابن العم، والمولى الصهر، والمولى الحليف، واستشهد على كلّ واحد من أقسام مولى بشيء من الشعر، لم نذكره لأن غرضنا سواه »(٤) .

____________________

(١). تهذيب الأسماء واللغات ٢ / ١٧٠.

(٢). وفيات الأعيان ١ / ٣١ - ٣٣.

(٣). مرآة الجنان، حوادث ٣١٠.

(٤). الشافي في الامامة: ١٣٤.

٣٦

ترجمة ابن الأنباري

١ - السمعاني: « أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن ابن بيان بن سماعة بن فروة بن قطن بن دعامة الأنباري النحوي، صاحب التصانيف، كان من أعلم الناس بالنحو والأدب، وأكثرهم حفظاً روى عنه: أبو الحسن الدار قطني، وأبو عمر ابن حيويه الخزاز، وأبو الحسين بن البواب وطبقتهم.

وكان صدوقاً فاضلاً ديّناً برّاً خيراً من أهل السنّة، وصنّف كتباً كثيرة في علم القرآن وغريب الحديث والمشكل والوقف والابتداء والرد على من خالف مصحف العامة، وكان يملي وأبوه حي، يملي هو في ناحية من المسجد وأبوه في ناحية أخرى، وكان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهد في القرآن، وكان يملي من حفظه، وما كتب عنه الإِملاء قط إلّا من حفظه. وكانت ولادته في رجب سنة ٢٧١. وتوفي ليلة النحر من ذي الحجة سنة ٣٢٨ »(١) .

٢ - ابن الأثير: « ثم صنّف الناس غير من ذكرنا في هذا الفن تصانيف كثيرة منهم: شمس بن حمدويه، وأبو العباس أحمد بن يحيى اللغوي المعروف بثعلب، وأبو العباس محمد بن يزيد الثمالي المعروف بالمبرد، وأبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، وأحمد بن الحسن الكندي، وأبو عمرو محمد بن عبد الواحد الزاهد صاحب ثعلب وغيرهم.

هؤلاء من أئمة اللغة والنحو والفقه والحديث »(٢) .

٣ - ابن خلكان: « كان علّامة وقته في الأدب، وأكثر الناس حفظاً لها، وكان صدوقاً ثقة ديّناً خيّراً من أهل السنّة »(٣) .

____________________

(١). الأنساب - الأنباري.

(٢). النهاية في غريب الحديث - خطبة الكتاب.

(٣). وفيات الأعيان ٣ / ٣٦٣.

٣٧

٤ - الذهبي: « ابن الأنباري الحافظ شيخ الإسلام كان من أفراد الدهر في سعة الحفظ مع الصّدق والدين. قال الخطيب: كان صدوقاً ديّناً من أهل السنّة »(١) .

٥ - الصفدي: « محمد بن القاسم بن محمد بن بشار أبو بكر ابن الأنباري النحوي اللغوي العلّامة كان إماماً في نحو الكوفيين، وأملى كتاب غريب الحديث في خمسة وأربعين ورقة ...»(٢) .

٦ - ابن الجزري: « الإِمام الكبير والأُستاذ الشهير قال أبو علي القالي: كان ابن الأنباري يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهداً في القرآن، وكان ثقة صدوقاً، وكان أحفظ من تقدّم من الكوفيين.

وقال حمزة بن محمد بن ماهر: كان زاهداً متواضعاً.

وقال الداني فيه: إمام في صناعته مع براعة فهـ وسعة علمه وصدق لهجته. وقال أبو علي التنوخي: كان ابن الأنباري يملي من حفظه، ما أملى قط من دفتر قال محمد بن جعفر التميمي: ما رأينا أحفظ من ابن الأنباري ولا أغزر من علمه، حدّثوني عنه أنه قال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقاً. قال التميمي:

وهذا ما لا يحفظ لأحد قبله. وحدّثت عنه أنّه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً بأسانيدها ...»(٣) .

٧ - السيوطي: « قال الزبيدي: كان من أعظم الناس علماً بالنحو والأدب، وأكثرهم حفظاً، سمع من ثعلب وخلق، وكان صدوقاً فاضلاً ديّناً خيّراً من أهل السنّة »(٤) .

____________________

(١). تذكرة الحفاظ ٣ / ٨٤٢.

(٢). الوافي بالوفيات ٤ / ٣٤٤.

(٣). طبقات القراء ٢ / ٢٣٠.

(٤). بغية الوعاة ١ / ٢١٢.

٣٨

(١٠)

محمد بن عزيز السجستاني

وأما تصريح محمد بن عزيز السجستاني العزيزي بمجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) فقد جاء في تفسيره لغريب القرآن المسمى ( نزهة القلوب ) حيث قال: « مولانا. أي: ولينا. والمولى على ثمانية أوجه: المعتق والمعتق والولي والأولى بالشيء وابن العم والصهر والجار والحليف ».

نزهة القلوب

وهذا التفسير أوله: « الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله وسلّم تسليما، هذا تفسير غريب القرآن ألف على حروف المعجم ليقرب تناوله ويسهل حفظه على من أراده. وبالله التوفيق والعون ».

ذكره القاضي الشوكاني بقوله: « تفسير السجستاني المسمى نزهة القلوب أرويه بالإسناد السابق إلى الشماخي أيضا عن أحمد بن عباس السامري عن محمد ابن علي المؤذن عن عبد الله بن محمد بن دحمان عن محمد بن أحمد المعروف بابن الخطاب عن أبي الحسن عبد الباقي بن فارس المقري عن عبد الله بن الحسين بن حسنون المقري عن المؤلف »(١) .

ترجمة العزيزي السجستاني

١ - السيوطي: « محمد بن عزيز أبو بكر العزيزي السجستاني بزائين

____________________

(١). إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر: ٢٥.

٣٩

معجمتين كما ذكره الدارقطني وابن ماكولا وغيرهما. وقيل: الثانية مهملة نسبة لبني عزرة، وردّ بأن القياس فيه العزري لا العزيري.

كان أديباً فاضلاً متواضعاً، أخذ عن أبي بكر الأنباري، وصنّف غريب القرآن المشهور فجوّده، ويقال: إنه صنّفه في خمس عشرة سنة، وكان يقرؤه على شيخه الأنباري يصلح فيه مواضع. رواه عنه ابن سحنون وغيره. مات سنة ٣٠٣.

وقال ابن النجّار في ترجمته: كان عبداً صالحاً، روى عنه غريب القرآن أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان المعروف بابن بطّة العكبري وأبو عمرو عثمان بن أحمد بن سمعان الوزّان، وأبو أحمد عبد الله بن حسنون المقري وغيرهم.

قال: والصحيح في اسم أبيه عزير آخره راء. هكذا رأيته بخط ابن ناصر الحافظ، وذكر أنه شاهده بخط يده وبخط غير واحد من الذين كتبوا كتابه عنه وكانوا متقنين. وذكر لي شيخنا أبو محمد الأخضر أنه رأى نسخة بغريب القرآن بخط مصنفه وفي آخرها: كتبه محمد بن عزير بالراء المهملة »(١) .

٢ - السيوطي: أيضاً: « النوع السادس والثلاثون في معرفة غريبه، أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون منهم: أبو عبيدة وأبو عمرو الزاهد وابن دريد. ومن أشهرها: كتاب العزيزي فقد أقام في تأليفه خمس عشرة سنة يحرّره هو وشيخه أبو بكر ابن الأنباري »(٢) .

٣ - السمعاني: « وكتاب غريب القرآن للعزيري، وهو: محمد بن عزير السجستاني المعروف بالعزيري لأنه من بني عزرة. هكذا ذكره القاضي أبو الفرج محمد بن عبيد الله بن أبي البقاء القاضي، وروى الكتاب عن أبي موسى الأندلسي

____________________

(١). بغية الوعاة ١ / ١٧١.

(٢). الإِتقان في علوم القرآن ١ / ١١٥.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثالث والثلاثون

مصرع مسلم بن عقيل

ماذا جری في الکوفة

ما لهم، ولهذا الرجل؟! ما لهم يجبرونه على الصعود، وهو لا يقوى على السير؟! إن الدم ينزف من كل موضع في جسمه، ولو تركوه لمات بعد قليل. قال ذلك مستغرباً أحد سكان الكوفة، وهو لا يعرف مسلم بن عقيل، لآخر من سكان الكوفة أيضاً.

قال الآخر: ما أظنه إلا مسلم بن عقيل الذي طالب منادي الأمير أن يخرج الناس ليشاهدوا مقتله.

قال الأول: ولكنهم يستطيعون قتله الآن وهو بينهم وحيد، لا قوة فيه ولا قوة معه تحميه وتدافع عنه. ماذا ينتظرون في قتله؟

قال الثاني: ألم تقل أنت إنهم يجبرونه علی الصعود، وإنهم لو تركوه لمات بعد قليل؟ لماذا إذن يجبرونه على الصعود، لو لم يريدوا ان يرموه من سطح القصر؟! هذا هو حكم عبيد الله بن زياد وحكم بني أمية. لا يكفيهم القتل، بل العذاب قبل القتل، والتمثيل بعده. وسترى مسلماً بعد قليل وقد حُزّ رأسه ورأس ابن عروة، وطوف بهما في أزقة الكوفة وأسواقها يخيفون بهما من يفكر في ثورة أو احتجاج أو نقد.

وكان أهل الكوفة قد انتبهوا على صوت يطوف أحياءها، وهو يطلب من أهلها التوجه إلى المسجد الكبير ليروا نهاية (المارقين الخارجين على الإسلام وعلى طاعة إمامهم أمير المؤمنين يزيد بن معاوية).

وقبل أيام، كان أكثر من عشرين ألف مقاتل في الكوفة يبايعون مسلماً على جهاد المارقين الخارجين على الإسلام: يزيد بن معاوية وبني أمية ومن يساندهم ويقف معهم ويعينهم على ظلمهم.

ما الذي حصل في الكوفة؟! كيف تبدلت الأمور في أيام؟!

أين المواثيق والعهود التي قطعوها لمسلم بعد مجيئه الكوفة؟!

١٦١

لقد بايعه عشرون ألف شخص أو أكثر على القتال معه، لم يجبرهم احد على البيعة، وها هو مسلم وحيد يدفعه عدو من العتاة الغلاظ، من هؤلاء الذين لا يجدون متعتهم إلا في رؤية الناس يتألمون ويتعذبون؛ إنهم وحوش، وويل للإنسان من الإنسان حين يتوحش.

كان مسلم بن عقيل ينزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي أول ما جاء الكوفة. وبعد وصول عبيد الله بن زياد والياً عليها، انتقل إلى دار هانئ بن عروة: أحد سادات مذحج ورجالها المعدودين.

وكانت عيون عبيد الله وجواسيسه ترصد كل حركة أو نشاط في الكوفة. لا أحد يستطيع الدخول أو الخروج إلا باذن. البيوت معرضة للتفتيش، والناس كذلك، ومن عرف عنه أنه من أتباع الحسين أو المناصرين له، ومن شك في ولائه للحكم، أدخل السجن أو أوقف. أخذت أطراف الطرق الداخلة والخارجة من الكوفة ومنع الداخلون والخارجون. الإرهاب هو سيد الموقف، يواجهك في كل مكان....

وكل زعماء الكوفة الذين كاتبوا الحسين وعاهدوه، قد استطاع عبيد الله أن يستميل غالبيتهم ويضمهم إليه بالرشوة والترغيب أو الحرمان والتخويف، أو نزع الرئاسة وتحويلها إلى آخرين. لكل منهم أسلوب في التعامل. يضاف إلى هذا، خوف بدأ يتزايد عند هؤلاء الزعماء من الثورة. الثورة التي يحملها شباب قد لا يدينون لزعاماتهم أو يرفضونها ويتمردون عليها. وهي زعامات لا تستند في الغالب إلا إلى مقاييس تقليدية ينكرها الشباب ولا يعترفون بها.

وكان أولئك الزعماء يعرفون ما تعني ثورة الحسين، لو انتصرت، على مصالحهم؛ لأنهم يعرفون الحسين والمثل السامية التي يحملها، وهي مثل عرفوها عند علي أبيه قبله.

كل هذه العوامل شاركت فيما وصلت إليه الحال في الكوفة، وفي ترك مسلم والتخلي عنه وعن الثورة، وعن العهود والمواثيق والخلق والدين.

١٦٢

لكن عاملاً في رأيي أخطر من كل ما ذكر، وإن لم يكن بعيداً عما ذكر؛ ذلك هو الهزيمة الداخلية التي لحقت بمن بايعوا مسلماً أول ما قدم الكوفة. فهذه الهزيمة هي التي شلّت المقاومة واضعفت القدرة على الصمود والمواجهة والنصر، حين شلت الإنسان نفسه من الداخل وأضعفت مقاومته وأسلمته إلى هزيمة لم يعد يفكر معها بالنصر، بل بالسلامة فقط، إن قدر عليها، ثم يروح يبرر فشله وتعوده، ويلتمس الأعذار، وليس من عذر. وهي حالة قد نراها مع غير مسلم وفي غير الكوفة، تريك لا شأن كما هو، في حالات ضعفه وفي حالات قوّته، عندما ينهار وعندما يتحدي.

لم يدخل المبايعون الناكثون القتال فيهزموا ويخسروا. لقد خسروا القتال قبل أن يخوضوه ويجربوه، خسروا القتال قبل القتال.

كانوا يتسابقون في التخلي عن مسلم، وكأنهم نادمون على انهم بايعوه. كانوا يلتمسون الأعذار أمام أنفسهم لتخليهم، وقد لا يحتاجون. لقد حسموا أمرهم، وقطعوا كل صلة لهم بأيام قليلة سابقة لا يريدون أن يذكروها، ولا أن يذكرهم أحد بها.

هذا هو السر في فهم ما جرى مع مسلم في الكوفة، وما سنراه بصورة أقسى وأشد وأظهر عندما يواجه الحسين في ساحة المعركة، الذين كتبوا وعاهدوا والتزموا.

كيف استجاز هؤلاء المبايعون والمعاهدون أن يتحللوا من كل ما ألزموا أنفسهم به فلم يراعوه ولم يحافظوا عليه، ولم يصونوه ولم يتحرجوا من التخلص منه ولم يتذمموا من نقضه، لولا هذه الهزيمة الداخلية التي تملكتهم وسيطرت عليهم.

كيف أفسر أن مسلماً ثار بخمسة آلاف فقط من عشرين ألف أو أكثر سبق أن بايعوه. أين ذهب الآخرون؟!

ثم ينهض مسلم بهؤلاء الخمسة آلاف لقتال عبيد الله الذي لجأ إلى القصر ومعه زعماء القبائل من أنصاره، فما يصل القصر حتى لا يبقى من الخمسة آلاف إلا خمسمئة تسللوا هم أيضاً عند حلول الظلام، فلم يبق واحد، واحد فقط مع مسلم.

وأسأل مرة أخرى: أين العهود والمواثيق وشرف الالتزام بها؟ لقد ذهبت بها الهزيمة الداخلية التي تسيطر على الجماعة في بعض الحالات، فيتهاوى وينهار كل شيء في الإنسان؛ لأن الإنسان نفسه قد تهاوى وانهار.

١٦٣

كان كل واحد من أصحاب مسلم يحاول أن يبرر لنفسه ما أقدم عليه، أوما هو مقدم عليه من تخل عن مسلم أو تنكر لالتزامه إزاءه، بأنه لن يستطيع أن يذبح عنه، وأن الثبات على عهده لمسلم لن يجدي عليه ولا على مسلم شيئاً، وأنه إن نكث فإن الآخرين قد نكثوا. ولو لم ينكث الآخرون، فسيقول لنفسه إنهم لن يستطيعوا أن يقفوا أمام جيش عبيد الله الممتد حتى الشام؛ يحاول أن يقنع نفسه بانه لم يفعل ما يلام عليه. المهم أن يهرب، بعذر، أو حتى بدون عذر.

هذا هو منطق الهزيمة لمن يستجيب لها: سهل بسيط جاهز لن يتعب من يريده في التفتيش عنه. استسلام سريع كامل دون مقاومة، بل دون فكر؛ لأن الفكر يكون مشلولاً عند ذاك.

وهكذا في أسرع ما استسلم أصحاب مسلم لزعماء القبائل - المحصورين في القصر - وهم يطلبون منهم إيثار السلامة والعودة إلى البيوت، وكانوا هم أولى بأن يطلبوا من الزعماء ذلك ولأترك مسلماً، البعيد عن الكوفة، القادم من المدينة، فكيف أسلموا هانئ بن عروة حتى قتل وسحب في السوق، وهو كبير مذحج، كبيرة قبائل اليمن: أكثر سكان الكوفة؟ هل هناك من تفسير آخر غير روح الهزيمة التي تحدثت عنها؟!

لكن كانت هناك روح أخرى تقابل روح الهزيمة وتسخر منها وتهزأ بها. روح الإيمان يشد العزيمة، والعزيمة الإيمان. روح أخرى لا تعرف الخوف ولا تساوم على المبادئ ولا تفكر في الثمن ولا تضع النتائج قبل المقدمات، وهي تخوض حرباً مقدسة ضد الظلم والظالمين دفاعاً عن الحرية والعدل والكرامة. والدفاع عن القضايا الكبيرة ليس تجارة يحسب فيها كل طرف ما يكسب وما يخسر ما يأخذ وما يعطي. ليس هكذا يكون النظر للقضايا الكبيرة والدفاع عنها. وما أظن الانسان كان سيتقدم خطوة لو فكر كل واحد في كل قضية، بما سيكسب أو يخسره؛ على أنه سيكسب حتى لو خسر.

كانت هذه الروح تتمثل في الصفوة من الأنصار الصادقي الإيمان، الصادقي العزيمة كهانئ بن عروة: هذا الشيخ الذي بلغ التسعين. ساومه عبيد الله بن زياد، وهو محجوز عنده، على أن يأتيه بمسلم بن عقيل، فأجابه بثقة وعزم وإيمان صادق لا يهتزو لا يرتجف ولا يتخاذل: (والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه). وكان يعرف الثمن: حز رأسه وأرسل مع رأس مسلم إلى يزيد، كان جسمه يجر في الأسواق، ومع جسم مسلم أيضاً.

١٦٤

وكهذا، الشاب قيس بن مسهر الصيداوي الذي رافق مسلماً منذ خروجه حتى قدومه الكوفة، وحمل رسالته إلى الحسين، ورسالة الحسين إلى أنصاره من أهل الكوفة. لقد قبض عليه الحصين بن نمير، أحد قادة عبيد الله بن زياد، والرسالة معه فاتلفها، وحين جاء به الحصين إلى عبيد الله الذي حاول أن يعرف منه أسماء الأشخاص الذين أرسلها الحسين إليهم، أبى وامتنع بكبرياء الرجل الذي يسخر من الصغار، حتى وهم قادرون على قتله، حتى وهم يتهيؤون لقتله. لقد رآهم يوثقونه ويقودونه إلى سطح القصر، ثم يساومونه على حياته، بأن يسب الحسين ويبرأ منه ويمدح الحكم متمثلاً بيزيد وعبيد الله. فما كان جوابه إلا ابتسامه ساخرة، جمع فيها قيس كل كبرياء الإنسان وكل احتقاره لهؤلاء المشوهين ولقادتهم وأمرائهم ثم رفع صوته بلعن عبيد الله ولعن يزيد ولعن من ولاهما وأمرهما على الناس.

ورمي قيس من أعلى القصر، ليبق علماً ومزاراً ورمزاً، ويصبح الذين قتلوه سبة وعاراً ولعنة تلحقهم كلما ذكروا.

وعبد الله بن يقطر أخي الحسين رضاعة. قبضوا عليه وهو يحمل رسالة من الحسين إلى مسلم، فلم يلن ولم يضعف ولم تخر عزيمته. عرضوا عليه أن يسب الحسين ويمدح يزيد فأبی ومدح الحسين وسب يزيد، وهو يرفع صوته، يريد أن يسمع الذين تجمعوا في الساحة، كما فعل قبله قيس بن مسهر فأمر به ابن زياد فألقي من فوق القصر فتهشمت عظامه. وبقي به رمق فأجهز عليه أحد المشوهين من أصحاب ابن زياد فقتله وأخذ رأسه ليضمن جائزة البطولة.

إننا أمام حالة جديدة من القتل، هي إلقاء الخصم من فوق السطح، ثم الاجهاز عليه إن لم يمت مباشرة. وسنجد حالات جديدة أخرى لم يسبق الأمويين إليها أحد.

ألم أقل: ويل للإنسان من الإنسان حين يتوحش!!

وغير هؤلاء الثلاثة الذين ذكرتهم، هناك أبطال آخرون وبطولات أخرى تنسي هؤلاء المسوخ الضعفاء.

١٦٥

صحيح إنهم قلة، إذا قورنوا بالذين نكثوا وانهاروا وتخاذلوا أو تجاوزوا فانضموا إلى صفوف العدو، ولكن متی كان الثابتون الصادقون المخلصون هم الأكثر بين الناس؟! على مدى التأريخ كانوا قلة، وكان غيرهم الكثرة؛ لأنهم يتجاوزون القيم المألوفة يتسامون في سيرتهم وسلوكهم عليها؛ وهذا ما يمنحهم المكانة التي لا يستطيع غيرهم ان يشغلها.

لو كانوا كغيرهم، ولو كان سهلاً على غيرهم أن يكون مثلهم، لما كان الحديث عنهم بعد أربعة عشر قرناً. إنهم الصفوة التي تضع التأريخ، لكنه التأريخ الذي يفخر به الإنسان ويفخر بالإنسان.

١٦٦

الفصل الرابع والثلاثون

الحسين يتلقی نبأ مصرع مسلم

عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل رجلان من بني أسد، ليسا من الزعماء ولا من ذوي الجاه والنفوذ، وليس لهما من الشأن ما يذكر الناس بهما إلا ارتباط اسميهما بمقتل مسلم بن عقيل. كانا قد التحقا بركب الحسين كبعض هؤلاء الناس الذين رافقوه أو التحقوا به لمجرد الفضول ومعرفة ما سينتهي إليه أمره، وربما كانوا سيدعون أنهم قصدوا القتال معه ابتداء، لو انتصرت ثورته.

كان ركب الحسين يواصل سيره نحو الكوفة غير عابئ بما يلاقي من جهد ونصب، وهو سيلاقي الأكبر منهما.

وفي مكان من الطريق طلع عليهم راكب قادم من جهة الكوفة، اقترب من الركب ثم ابتعد مغيراً طريقه حين رأى الحسين. ولم يشأ الحسين أن يسأل الرجل عما يحمل من أخبار ما دام قد تجنب ذلك وابتعد، لكن عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل لم يكتفيا بذلك، وأصرا على أن يعرفا ما عند الرجل من أخبار الكوفة. لقد رابهما أمره وهما يريانه يقترب ثم يبتعد ويغير طريقه حين رأى الحسين. أهناك أخبار غير سارة لا يريد أن يبلغها الحسين، لابد عنده الكثير من الأخبار. وأسرعا يتبعانه حتى أدركاه؛ سألاه عما خلف وراءه من أخبار الكوفة، وأخبار الكوفة تعني حينذاك أخبار مسلم بن عقيل والثورة وتطورها وموقف الناس هناك منها. فقال الرجل كمن يأسف لنقل خبر حزين: والله ما تركت الكوفة حتى رأيت مسلماً وهانياً يجران بأرجلهما في السوق.

إذن قتل مسلم وهانئ، وهو مؤشر الخذلان والتراجع والهزيمة. هذا هو الخبر الكبير الذي كان يحمله الرجل. الآن عرفا لماذا ابتعد الرجل وغير طريقه حين رأى الحسين. لكن هذا جزءاً من الخبر، وهو الأسهل فيه. فكيف سيبلغانه الحسين، وهو أصعب جزئيه؟

١٦٧

وطال الحديث بينهما: يتفقان ثم يختلفان، هل سيعلمان الحسين بما سمعاه؟ كيف سينقلانه له؟ إن مقتل مسلم، رسول الحسين وابن عمه، ومعه هانئ، معتمده وكبير أنصاره أمر خطير مفجع لا يجهلان تأثيره ولا يريدان أن يكونا هما اللذين ينقلانه. هل يسكتان؟ أليس السكوت في مثل هذا الأمر خيانة للحسين وثورته؟! ألا يلومهما الناس، بل ألا يلومان نفسهما إذا كتما مثل هذا الخبر وقد علماه؟! ألا يجدر بهما أن يحيطا الحسين بما سمعاه من الرجل، تاركين له حرية التصرف واتخاذ الموقف المناسب، ويكونان قد أبرأا ذمتهما من مسؤولية السكوت والكتمان، والنتائج الخطيرة التي قد تترتب عليهما.

ثم اتفقا أخيراً على أن يخبرا الحسين بعد أن يختليا به وحده، وكان ركب الحسين قد فاتهما خلال متابعتهما للرجل، ووصل مكاناً يدعى الثعلبية حيث نزل الحسين ومعه أنصاره وأهل بيته، يستريحون ويمضون الليل ليستأنفوا السير مع حلول الفجر.

وفي الثعلبية أدرك الرجلان الحسين. أرادا أن يخبراه، لكن الحسين كان وسط أنصاره وأهل بيته، وفيهم أبناء مسلم وأخوته؛ فانتظرا قبل أن يقولا له وقد بان عليهما التردد والارتباك: (رحمك الله، إن عندنا خبراً فإن شئت حدثناك به علانية وإن شئت سراً).

فنظر الحسين إلى من حوله، وهم الصفوة الذي صحبوه وجاؤوا معه، فقال: (ما دون هؤلاء من سر) فأعلماه مقتل مسلم وهانئ كما سمعاه من الرجل الذي خلفاه قبل قليل.

كان الخبر صعباً على الحسين، وزاد من صعوبته وجود أبناء مسلم وإخوته بين الحاضرين وهم يسمعون مقتل أبيهم أو أخيهم الذي كانوا ينتظرون أخبار انتصاره في الكوفة، وهو يقود الثورة فيها، وها هم يسمعون خبر مقتله ومقتل كبير أصحابه هانئ، وفشل الثورة هناك بخيانة البعض وتخلي البعض وتخاذل البعض.

قال شبيب بن الحارث لعامر بن سعد وقد انتحيا جانباً عن الجماعة: ماذا تظن الحسين فاعلاً الآن؟ إنه بادي الحزن. لقد كان مسلم رسوله وموضع ثقتة وابن عمه. وكان هانئ من دعائم الثورة وكبير الثائرين في الكوفة.

قال عامر: ما أخطأت في شيء مما ذكرت، ولكن أترى الحسين سيرده عن قصده قتل مسلم، وهو نفسه ينتظر ما جرى لمسلم منذ خرج من المدينة؟!

١٦٨

ألم يكن فيما سبق قتل مسلم من أخبار، ما يثنيه، لو كان القتل مما يثنيه؟!

إني لأرى قتل مسلم قد شد أكثر من عزمه وعزم أنصاره وأهل بيته، على القتال. لقد كان ذلك في حسابه منذ خرج، وكان في حساب الذين معه منذ خرجوا.

قال شبيب وهو يومئ لمالك: ألا أصغيت يا مالك. إن الحسين يخطب في الجمع. ماذا يقول لهم؟ ماذا يطلب منهم؟ إنه يحلهم من كل ما عاهدوه عليه. يطلب منهم أن يتركوه ويذهبوا في الأرض آمنين، لا ذمام عليهم ولا لوم. انه المطلوب دونهم فعلام يقتلون أنفسهم. ها هو يؤكد القول عليهم.

وعلا من الجميع صوت واحد جازم قاطع لا تردد فيه ولا خوف: لا والله بل نموت قبلك. لن نتركك ولن نخذلك ولن نفارقك. ما أسعدنا بالموت معك في جهاد الظالمين.

وبارك لهم الحسين هذا الموقف.

و مع الفجر، كان الركب يأخذ طريقه إلى الكوفة، وحين وصل إلى زبالة - قرية على الطريق - تلقى الحسين خبراً مفجعاً آخر؛ لقد قتلوا أخاه من الرضاعة، عبد الله بن يقطر، أصعدوه إلی سطح القصر ثم رموه، وكان فيه رمق فأجهزوا عليه واحتزوا رأسه.

١٦٩

الفصل الخامس والثلاثون

عبيد الله بن زياد، ولاية الکوفة والبصرة، العقدة الکبيرة

حين سمع يزيد بتوجّه الحسين إلى الكوفة، أسرع بضمها إلى عبيد الله بن زياد الذي أصبح من ذلك التأريخ والياً على العراق كله: البصرة والكوفة.

وزياد: أبو عبيد الله، هو زياد بن أبيه أو ابن سمية كما كان يعرف؛ لأنه ولد لأب مجهول وأم معروفة هي سمية التي كانت تحترف البغاء في الطائف.

وكان يمكن لهذه العائلة أن تعيش كما يعيش الآخرون مثلهم من ذوي الأنساب المغمورة أو الذين لا أنساب لهم، في بيئة واسعة كبيرة تحتمل كل صنوف الناس، وليس آل زياد بدعاً فيها ولا استثناء.

وقد بدأ زياد حياته بشكل طبيعي، وعمل للإمام. لم يقصد به نسبه ولم يحاسبه الإمام على فعل لا ذنب له فيه.

لكن كل شيء في زياد تغير: الفكر والمذهب والسلوك. لقد تحول زياداً آخر لا صلة له مطلقاً بزياد الأول، منذ أن ادعى معاوية أنه أخوه، في حكاية طويلة مبسوطة في كتب التاريخ وهي تتحدث عن زياد.

وبدأ زياد الآخر يطمع في دور، دور آخر يفرضه النسب الجديد ويتماشى معه؛ فهو منذ اليوم ابن لأبي سفيان وأخ للخليفة وواحد من رجال قريش وأصحاب المكانة والجاه فيها.

غير أن الناس لم تكن تقر له بهذا النسب، وأصبح موضع سخريتهم وهزئهم واستنكارهم، هو ومعاوية الذي منحه النسب. سخر منه الشعراء في شعرهم واستنكروه، وسخر منه الناس في مجالسهم واستنكروه، بل سخر منه قبل أولئك وهؤلاء آل معاوية وأسرته. حتى إذا تولى العباسيون الحكم، أعاد المهدي، بعد أكثر من قرن من الزمان، آل زياد إلى سمية: نسبهم القديم.

١٧٠

من هنا كانت العقدة الكبيرة التي لازمت زياداً وأهله، عقدة نسب أو عقدة شؤم عليهم وعلى غيرهم؛ فلاهم الذين بقوا، كما كانوا، من سواد الناس الذين لا أحد يهتم بهم أو يسأل عنهم، ولا الناس اعترفوا لهم بنسبهم الجديد وعاملوهم على أساسه.

أرادوا أن يردوا الدين لمعاوية ولآل أبي سفيان ويؤكدوا نسبهم فيهم فزادوا (سفيانية) عليهم، ولم يكن هؤلاء بحاجة إلى مزيد.

كانت عقدة النسب هذه وما تخلفه من نتائج، وما تثيره في النفوس الواطئة من عقد إضافية أخرى، قوية واضحة لم تفارقهم يوماً منذ معاوية لهم أو عليهم.

وهذه العقدة هي التي تفسر أن زياداً وضع أول كتاب في مثالب العرب والطعن فيهم وإظهار معايبهم، خلافاً لما ينتظر منه بعد أن أصبح من سادات العرب وأخا خليفتهم.

لماذا؟

الجواب هو ما يقدمه لنا زياد نفسه حين قال لأبنائه وقد ترك لهم (كتاب المثالب) وكان عارفاً بتكذيب العرب لنسبه الجديد وسخريتهم منه: (استظهروا به على العرب فإنّهم يكفون عنكم).

فزياد لا ينكر عيبه غير المنكور، لكنه يفتش عن عيوب الناس ليتقي بها ألسنة من يعيبونه.

ونشأ عبيد الله ابنه حاقداً لكل ما يعتز به الناس من قيم ويفخرون به من مآثر، والناس يومئذ عرب، يفخرون بقديمهم - ما أظنهم ما يزالون - أكثر مما يفخرون بحديثهم. وليس القديم إلا النسب والآباء والأجداد، وهو ما يعوز ابن زياد ويؤذيه في داخله، ويدفع به إلی سلوك عدواني شاذ إزاء كل من له قدر وشرف ومنزلة بين الناس، بالحط منه أو إهانته أو قتله؛ إرضاءً لنوازع لا يعرف، أو لا يريد التخلص منها.

وكان يزيد قد ضم إلى ولاية البصرة التي يتولاها عبيد الله منذ عهد معاوية، ولاية الكوفة؛ ليصبح السيد المطلق على العراق كله. وهو ما لم يحظ به أحد قبله؛ فعبيد الله إذن مدين ليزيد باستمراره في ولاية البصرة، ومدين ليزيد بتولية الكوفة التي ضمت أخيراً إلى البصرة.

١٧١

ولم يكن يزيد ليوليه الكوفة، بعد سماعه بخروج الحسين وتوجهه إليها، إلا لمعرفته بعبيد الله واستعداده لارتكاب كل محرم، لا حدود عنده ولا حرج ولا شيء مما قد يردع الآخرين ويوقفهم أو يمنعهم. إنه أفضل رجال يزيد ليزيد، وخير من يلعب الدور الذي يريده منه في ملحمة كربلاء.

ها هو عبيد الله وعقدتاه: القديمة، عقدة النسب التي أضيفت إليها مؤخراً عقدة يزيد ودينه والوفاء له، أو عقدة الحكم والبقاء فيه. سمها ما شئت، وما نتج من هاتين العقدتين، من عقد أخرى.

وقد تهيأت له المناسبة لحلهما والتخلص منهما.

وليس بين العرب والمسلمين من هو أشرف وأفضل من الحسين. وليس بين العرب والمسلمين من يشفي غيظه ويزيل عقدة النسب عنده، كالحسين. وليس مثل الحسين من يرهب بقتله الناس ويؤكد به ولاءه ووفاءه ليزيد.

إذن فليسرع لقتل الحسين، ليقتله بأبشع صورة، بأبعد صورة عن الإنسان، بأقرب صورة إلى الوحش.

وأظنني وصلت الآن إلى تفسير هذا السلوك الساري الكريه لعبيد الله من الحسين ومن كان مع الحسين من الرجال والنساء والأطفال، موقف لا يمكن تفسيره بغير ما ذكرت.

ما الذي يدعو عبيد الله إلى الكتابة لعمر بن سعد أن يحول بين الحسين وبين الماء: (... ولا يذوقوا منه قطرة...).

ولو سمح عمر بالماء ولم يحل بينه وبين الحسين كما أمر عبيد الله، أكان الحسين مع أصحابه الذين لا يتجاوزون المائة، يستطيعون أن يقاتلوا ويهزموا جيش ابن سعد الذي لا عدد له؟!

وما الذي يدعو عبيد الله إلى الكتابة للحر يأمره بأن يجعجع بالحسين ولا ينزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، ثم لا يكتف بذلك، فيجعل من رسوله بالكتاب رقيباً على عمر في تنفيذ أمره؛ كأنه خشي ألا ينفذ عمر أمره أو يقصر في تنفيذه.

١٧٢

وما الذي يدعوه إلى هذا الموقف الذي اتخذه من السيدة زينب أخت الحسين وباقي النساء المفجوعات حين أدخلن عليه، ومن علي بن الحسين، الفتى المريض ، الذي أراد قتله لولا تعلّق عمته به وإنكار بعض الحاضرين بذلك.

لقد كان موقفاً مخزياً، لا رجولة فيه ولا مروءة ولا شيء مما يحرص القادة عليه في مثل تلك الحال. وعکس عبيد الله، كما هو، حقيراً تافهاً وضيعاً، أسير عقد كانت شؤماً وبلاء علی المسلمين. لقد تجاوز ابن زياد بن أبيه كل ما سار عليه الناس والتزموا به، عرب وغير عرب، إلا بني أمية ورجالهم وأتباعهم.

كان يمكن ألا يكون مجرماً، لكنه أبی، كسب يزيد وخسر نفسه.

١٧٣

الفصل السادس والثلاثون

الوضع فی البصرة - نبيط بن يزيد

قبل أن يترك عبيد الله البصرة إلى الكوفة ليتولى أمرها، كان قد نشر الذعر والإرهاب في كل زاوية وكل بيت فيها. لا أحد يدري من سيؤخذ، تضرب عنقه أو يلقى في السجن دون أن يسأل أحد عنه؛ لأنه شك فيه. ما رأيناه في الكوفة من إرهاب، كان عبيد الله قد سبق إليه في البصرة قبلها.

أخذت أفواه الطرق ووضع الرصد في كل ركن يراقبون الداخل والخارج والمتكلم والساكت، وربما الساكت أكثر. ليس هناك حماية ولا حرمة لأحد. كل شيء مباح، والسلطة هي القانون لا منفذة للقانون.

ثم اشتد الإرهاب أكثر حين كشف أمر سليمان بن رزين: رسول الحسين إلى البصرة الذي شك المنذر بن الجارود أنه مدسوس عليه من عبيد الله، أرسله إليه لاستطلاع نواياه ومعرفة موقفه من الحسين ومن السلطة. وأراد المنذر أن يطمئن عبيد الله ويزيل شكه، فجاء إليه برزين، وهو يسخر فيما بينه وبين نفسه من عبيد الله ومن حيله التي لم تجر عليه. فما كان بأسرع من ضرب عنق رزين الذي ذهب ضحية (ذكاء) المنذر وصدق فراسته وسرعة كشفه لحيلة عبيد الله!!!

وكانت محنة قاسية تعرضت لها البصرة، التي كانت تعيش في الأصل، محنة مع هذا الطاغيه وحاشية له من عشاق الدم والجريمة الذين لا يجدون لذتهم إلا في القتل والتعذيب. مرض غريب ما يزال الإنسان يعاني منه حتى اليوم.

وفي أحد بيوت البصرة البسيطة التي لا تثير الانتباه، وفي واحد من أحيانها المزدحمة بالناس، اعتاد عدد من أنصار الحسين أن يعقدوا اجتماعاتهم فيه، للبحث في الموقف الذي عليهم اتخاذه، خصوصاً بعد ما علموا بعزم الحسين على الخروج.

كانت مارية بنت سعد من أقوى النصيرات في البصرة وأجرأهن.

وقد جعلت من بيتها ملتقى لأنصار الحسين، يجتمعون فيه ويتناقشون ويتبادلون ما لديهم من أخبار وما يبلغهم من معلومات قد تحدد خطواتهم القادمة.

١٧٤

قالت لأحد الانصار وهي تتابع الأخبار بلهفة وشوق: إلى أين وصل يزيد بن مسعود النهشلي؟ علمت أنه جمع بني تميم وحثهم على الانضمام إلى صف الحسين وخلع طاعة بني أمية، وهم كما تعلم أكثر أهل البصرة وأعزهم.

قال الرجل: والله لنعم الرجل ابن مسعود، لم يقصر في جهد ولم يبخل بنصيحة. إنه يواصل سعيه لحشد الأنصار للسير بهم الى الحسين. وإذا كان قد بدأ ببني تميم؛ فلأنهم قبيلته والأقرب إليه والأطوع لرأيه، وسيحد نشاطه إلى غيرهم من أهل البصرة، بعد الفراغ منهم.

قالت مارية وقد بدت قلقة: ألا ترى أن الوقت يضيق، والحسين على عزم الخروج، وإذا لم يسرعوا إلى اللحاق به الآن، فلن يكون خروجهم ذا جدوی بعده. وعلى كل فقد سمعت أن بني سعد قد طلبوا وقتاً للتفكير والرد على دعوة يزيد.

قال الرجل: هل نسيت موقفهم في صفين؟! لعلهم يريدون أن يكرروه.

وقبل أن يكمل الرجل جوابه، كان يسمع على الباب طرقات قد اتفق عليها بين مرتادي البيت من أنصار الحسين.

ودخل يزيد بن نبيط، وهو أحد أشد الأنصار وأنفذهم عزيمة. قال دون أن يجلس: إني قد أزمعت على الخروج، فمن يخرج معي.

قال أصحابه: إنا نخاف عليك يا ابن نبيط، فجيش عبيد الله ينتشر في المدينة، وهو يأخذ على الظنة والشبهة، ولا نأمن أن يكتشفوا أمرك فيأخذوك.

قال يزيد: من استسهل الموت، سهل عليه مادونه. إني لأرجو أن أرزق الشهادة في قتال هؤلاء الظالمين، بين يدي الحسين. ثم ودعهم وخرج. وخرج معه ستة من الأنصار، اثنان فيهم من أبنائه، والتحقوا بالحسين، وهو بعد في أبطح مكة. وكانوا بين الذين استشهدوا في كربلاء.

وأثناء ذلك، كان يزيد بن مسعود النهشلي يسرع في تجهيز أصحابه للالتحاق بالحسين.

وفي الطريق إلى كربلاء بلغه مصرع الحسين، فاشتد حزنه حتى مات أسفاً ألا يكون قد لحق به واستشهد معه.

١٧٥

الفصل السابع والثلاثون

الأزمة

كانت الروح العربية في زمن يزيد قد وصلت إلى أوطأ ما تصل إليه روح إمة، كانت تعيش أزمة حقيقية، أزمة مخيفة ربما لم يعرف لها التأريخ شبيهاً أولم يحدثنا - على الأقل - عن شبيه.

فمنذ بدأ الحكم الأموي مع معاوية، وحتى قبل معاوية، بدأت هذه الأزمة تغزو العربي عقلاً وضميراً، ثم تعيش معه، ثم تحوله إلى غير إنسان. لقد نجح الأمويون في تحطيمه فلم يعد يفكر؛ تعطل الفكر عنده، وتعطل الضمير.

أليست أزمة أن يقارن معاوية بعلي، ثم ينتصر معاوية في الحرب ضده. ونحن بعد في النصف الأول من القرن الهجري الأول، ولم يمضي على فتح مكة إلا ثلاثون عاماً، والصحابة الذين شهدوا فتح مكة كانوا أحياء في تلك الحرب؟!

أليست أزمة أن يحارب العرب بعد أقل من خمسين عاماً على الهجرة، الى جانب يزيد ويدعمونه ويساندونه ضد الحسين؟!

لولا هذه الأزمة، هل يستطيع معاوية أن يتولى حكم المسلمين، ويكون خليفة لهم، وهو الذي كان قريباً من القتل في أي حرب من حروب المسلمين مع مشركي قريش أو بعدها في فتح مكة؟!

وكيف استطاع أن يجمع جيشاً يحارب به علياً، ثم ينتصر عليه؟!

كيف انضم إليه المسلمون لولا أن تحكمهم وتسيطر عليهم وتشل فكرهم وضميرهم، هذه الأزمة؟!

أيمكن أن يقارن معاوية بعلي في مقياس من مقاييس الناس؟!

وانتهى معاوية، وظلت الأزمة، أو تفاقمت واشتدت.

فإذا كان لمعاوية من يعتذر عنه أو يعتذر له، فأي عذر يمكن أن يسع يزيد؟! وأي عذر يمكن أن يسع المسلمين، وهم يسمحون ليزيد أن يكون خليفة لهم؟!

لقد كانت ملحمة كربلاء أخطر نتائج هذه الأزمة، وستبقى أخطر نتائجها، على كثرة ما نتج عنها.

١٧٦

الفصل الثامن والثلاثون

المدينة - مكة

كان الحديث يدور بينهما بصوت أستطيع أن أسمعه. قال أحدهما لصاحبه: كيف كان موقف المدينة ومكة من معاوية والأمويين؟! ألا ترى أن هذا الموقف كان ضعيفاً متخاذلاً، لا يرتفع مطلقاً إلى ما كان يرجوه المسلمون منهما، ومكانتهما هي ما تعرف. وإليهما تتجه أنظارهم كلما تعرضوا لظلم، وليس كالظلم الذي تعرضوا له في عهد معاوية؟! لقد كان موقفهما، خصوصاً المدينة، قوياً حازماً مع عثمان، وهو خير من معاوية بما لا يقاس، وربما كان معاوية وتأثيره عليه من أقوى أسباب الثورة ضده.

قال الثاني بعد صمت طويل ظننت أنه لن يجيب؛ إليك القصة يا صاحبي: كان المجتمع العربي عموماً يعيش حالة انكسار وتراجع بعد فترة طويلة من النشاط والحركة.

لقد أنهكته سنون متعاقبة من الحروب والقتال والدم والسلاح، منذ الأحداث التي أدت إلى مقتل عثمان، ثم الحروب التي اضطر الإمام إلى خوضها في الجمل وصفين وختمتا باغتياله عام ٤٠هـ، واستيلاء معاوية على الحكم.

وانتهى الحماس الذي يرافق الحروب، وثورة العواطف تسبق ثورة المقاتلين وتشدهم وتقويهم. وعاد السيف إلى غمده. لم يعد خارج الغمد.

وانتهى ما كان يحرك النفوس، وهي تفكر وتناقش وتحكم وتحدد مصيباً ومخطئاً وحقاً وباطلاً.

لقد استولى على الناس شعور بالهزيمة وما يحمله من حالة الإحباط واليأس اللذين يقتلان العزيمة ويشلان المقاومة ويسلمان الإنسان إلى لون من الرضا والقبول بما هو حاصل والتخلي عن التفكير بتغييره.

ولم يكن أحب إلى معاوية ونظامه من هذه الحالة. ولم تكن هذه الحالة خارج حساباته؛ فسارع يغذيها ويرسخها ما أمكنه ذلك.

١٧٧

وكان الإعلام المتمثل بالأحاديث النبوية، المزورة طبعاً، قد بدأ منذ حين يعمل على نشر ثقافة الخضوع والطاعة له (ولاة الأمر) من الحكام ومن دونهم. وقد جند الحكم عدداً من المرتزقة والمنافقين والطامعين من الذين لا أخلاق لهم، لينشروا بين المسلمين أحاديث اختلقوها، تحرم الثورة على هؤلاء الحكام وتحصنهم ضد أي خطر محتمل.

وأظنك تعرف هذه الأحاديث التي أشرت إلى بعضها فيما سبق، وأظنك تعرف أصحابها من هؤلاء المزورين التافهين اللاحقين وراء الحكام وأموالهم. لقد استخدم الحكم الأموي وكل حكم بعده - وحتى اليوم - هذا الإعلام كواحد من أمضى الأسلحة وأشدها فتكاً بالعقل العربي.

وكان من بين ما ساعد على ذلك وفاة الكثيرين من الصحابة القدماء أو تفرقهم في البلدان، ولم يبق منهم أو ممن يسمع منهم في المدينة إلاّ عدد قليل، على رأسهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر. ولم يكن أي منهما صاحب موقف معروف أو اتجاه يخالف اتجاه السلطة أو يعارضها، فعاش كلاهما في كنف السلطة تقذف عليهما من عطاياها وأموالها: أموال المسلمين.

أما أولهما، عبد الله بن عباس، فقد أخذ بيت مال المسلمين وهرب به حين كان والياً على البصرة. وأما ابن عمر، فقد كان يتلقى المائة ألف من معاوية، لا يرفض ولا يتحرج، بل يستزيد. وبايع الاثنان يزيد، خليفة للمسلمين بعد موت معاوية.

وكان معاوية يحاول دائماً أن يؤكد روح الهزيمة عند أصحاب علي ويشعرهم بالضعف والعجز نحوه، وبأنهم أخطؤوا ابتداء في انضمامهم إلى عليّ الذي لم يجنوا منه غير الفشل والحرمان. لكن الرد كان يأتيه جافاً قاسياً أحياناً، وعلى عكس ما يريد دائماً، وأن من الخير له أن يترك الماضي ولا يثيره ولا يذكر علياً، فليس هو من نظرائه ولا ممن يقارنون به، وإذا كانوا خسروا الحرب، فلم يخسروا أنفسهم ولا إيمانهم ولا ولاءهم لعلي وتفضيلهم له، وربما تجاوزوا ذلك إلى تهديد معاوية بالعودة إلى الحرب.

وفي مكة لم تكن الحال لتختلف عنها في المدينة؛ كانت روح الهزيمة، هي نفسها التي تعيشها المدينة.

١٧٨

وكان عبد الله بن الزبير قد لجأ إلى مكة محتمياً أو عائذاً بالبيت كما سمى نفسه، ليبعد عنه أذى الأمويين الذين شغلهم عنه وعن غيره، خروج الحسين.

فابن الزبير لم يجرؤ على إظهار بيعته والدعوة إليها إلا بعد مقتل الحسين.

هذه إذن، إذا استثنينا الشام بلد المنتصرين والعاصمة الجديدة للخلافة، هي الحالة في المدينة ومكة، وغير المدينة ومكة: انهيار وتراجع وهزيمة تفتك بالناس وتشل كل تفكير في ثورة أو عصيان أو هو مادون الثورة والعصيان.

وكان لابد للخروج من الأزمة وتجاوز روح الهزيمة التي بدت وكأنها قدر لا يدفع، من حدث كبير، كبير جداً يهز النفس العربية وينفض عنها ما داخلها من شعور بالعجز والاستسلام.

كانت في حاجة إلى ملحمة كربلاء ودم الحسين.

وكانت كربلاء ودم الحسين؛ لتشتعل الثورات بعده على امتداد الأرض العربية الإسلامية، وهي تتمثل كربلاء والحسين فهل وجدت الآن الجواب على تساؤلك يا صاحبي؟

قال الأول متعجباً: أكنت معهم؟! والله لكأنك تتحدث عن رؤية وسماع!

قال الثاني: وهل نقل الذين رؤوا وسمعوا صحيحاً ما ررأوا وسمعوا؟! هل نحتاج في كل أمر إلى الرؤية والسماع؟! ماذا نفعل بالعقل إذن، وهو الهبة الكبرى، لم يمنحها حاكم ولا سلطان؛ إنه وحده، الحاكم والسلطان.

١٧٩

الفصل التاسع والثلاثون

شراف، ذوحسم

اللقاء الأوّل مع الحر

وصل الركب شراف - محطة على الطريق الذاهب إلى الكوفة بعد زبالة - فنزل يستريح ويتهيأ لسفر آخر يريد أن يواصله حتى الكوفة.

لقد قطعوا، حتى الآن، مسافات طويلة، بين سهل وواد وجبل. الحر قاس لا يطاق، والطريق ما يزال طويلاً وهو غير مستوٍ ولا سهل، لكن الرسالة التي يحملها الركب تنسي التفكير في غيرها؛ كل شيء غيرها هين يسير.

ومع خيوط الفجر الأولى كان الركب يستأنف سيره. ها هو يترك شراف بعزم لا ينثني ولا يلين، إلى المكان الذي سيكتب فيه تأريخ جديد للإنسان، تأريخ لا تزوير فيه ولا كذب ولا ادعاء.

ويبتعد الركب ويرتفع النهار.

وعند الأفق البعيد تلوح سحابة دكناء.

قال أحد أفراد الركب وهو يمد بصره إلى الأفق: إنه نخل، إني أرى نخلاً. ألا ترى؟ انظر. قال ذلك لصاحبه السائر إلى جنبه، لعله يرى هو أيضاً ما رآه.

وابتسم الأسديان: عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل وهما يسمعان ذلك. إنهما يعرفان المكان جيداً، فقد كانا كثيري المرور فيه، ويعلمان ألا نخل فيه. وما ظنه الرجل نخلاً، هو في الحقيقة جيش كثيف مقبل من ناحية الكوفة ومتجه إليهم.

وكان عبيد الله بن زياد قد أقام على جميع الطرق المؤدية إلى الكوفة مراكز تفتيش للتأكد من هوية المارين فيها. أما الطريق بين الكوفة والبصرة، فقد انتشرت - حتى مسافة بعيدة من طرفيه - مفارز من الشرطة، والجيش يسأل من يشك فيه من السالكين، أو يبعث به إلى مركز القيادة في الكوفة؛ لتتولى هي أمره.

لم يكتف عبيد الله بهذه الاجراءات، فبعث الحر بن يزيد الرياحي على رأس جيش من ألف فارس لملاقاة الحسين في الطريق والقدوم به إلى الكوفة. وكان هذا الجيش هو السحابة التي تراءت لأحد أصحاب الحسين وظنها نخلاً.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226