ويستمر الصراع

ويستمر الصراع16%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72701 / تحميل: 6393
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

بشئ من امرك، فخذ هاهنا، فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وسار الحسينعليه‌السلام وسار الحرّ في أصحابه يسايره وهو يقول له: يا حسين اني اذكّرك الله في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال له الحسينعليه‌السلام : ( أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه، وهو يريد نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخوفه ابن عمه وقال:أين تذهب؟ فانّك مقتول ؛ فقال:

سأمضي فما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقّا وجاهد مسلما

وآسى الرّجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبورا وباعد(١) مجرما

فإن عشت لم اندم وان متّ لم ألم

كفى بك ذلا ان تعيش وترغما »

فلمّا سمع ذلك الحرّ تنحّى عنه، فكان يسير بأصحابه ناحية، والحسينعليه‌السلام في ناحية أخرى، حتى انتهوا الى عذيب الهجانات(٢) .

ثمّ مضى الحسينعليه‌السلام حتّى انتهى الى قصر بني مقاتل فنزل به، فاذا هو بفسطاط مضروب فقال: ( لمن هذا؟ ) فقيل: لعبيد الله بن الحرّ الجعفيّ، فقال:( ادعوه اليّ ) فلما أتاه الرّسول قال له: هذا الحسين بن عليّ يدعوك، فقال عبيد الله: انّا لله وانّا اليه راجعون، والله ماخرجت من الكوفة الّا كراهية أن يدخلها الحسين وانا بها، والله ما اريد ان اراه ولا يراني ؛ فأتاه الرّسول فأخبره فقام الحسين عليه

__________________

(١) في هامش (ش) و (م): وخالف.

(٢) عذيب الهجانات: موضع في العراق قرب القادسية (معجم البلدان ٤: ٩٢ ).

٨١

السّلامُ فجاءَ حتّى دخلَ عليه فسلّمَ وجلسَ، ثمّ دعاه إِلى الخروج معَه، فأعادَ عليه عُبيدُ اللهِّ بن الحرِّ تلكَ المقالةَ واستقاله ممّا دعاه إِليه، فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : « فإِن لم تنصرْنا فاتّقِ اللّهَ أن تكونَ ممّن يُقاتلُنا؛ واللّهِ لا يسمعُ واعيتَنا(١) أحدٌ ثمّ لا ينصرُنا إلاّ هلكَ » فقالَ: أمّا هذا فلا يكونُ أبداً إِن شاءَ اللّهُ ؛ ثمّ قامَ الحسينُعليه‌السلام من عندِه حتّى دخلَ رحله.

ولمّا كانَ في اخرِ ألليلِ أمرَ فتيانَه بالاستقاءِ منَ الماءِ، ثمّ أمرَ بالرّحيلِ، فارتحلَ من قصرِ بني مُقاتلٍ، فقالَ عُقبةُ بنُ سمعانَ: سِرْنا معَه ساعةً فخفقَ وهوعلى ظهرِفرسِه خفقةً ثمّ انتبهَ، وهو يقولُ: «إِنّا للّهِ وإنّا إِليه راجعونَ، والحمدُ للّهِ ربِّ العالمينَ » ففعلَ ذلكَ مرّتينِ أو ثلاثاً، فأقبلَ إِليه ابنُه علي بنُ الحسينِعليهما‌السلام على فرسٍ فقالَ: ممَّ حمدتَ الله واسترجعتَ؟ فقاَل: «يا بُنَيَّ، إِنِّي خفقتُ خَفقةً فعَنَّ لي فارسٌ علىَ فرسٍ وهو يقولُ: القومُ يسيرونَ، والمنايا تسيرُ إِليهمِ، فعلمتُ أَنّها أَنفسُنا نُعِيَتْ إِلينا» فقالَ له: يا أبَتِ لا أراكَ اللهُّ سوءاً، ألسنا على الحقِّ؟ قالَ: «بلى، والّذي إِليه مرجعُ العبادِ » قال: فإِنّنا إِذاً لا نبالي أَن نموتَ مُحِقِّينَ ؛ فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «جزاكَ اللّه من ولدٍ خيرَ ما جزى وَلداً عن والدِه ».

فلما أصبح نزل فصلّى الغداة، ثم عجّل الرّكوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم فيأتيه الحرّ بن يزيد فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردّاً شديدا امتنعوا عليه، فارتفعوا فلم

__________________

(١) الواعية: الصارخة. « الصحاح - وعى - ٦: ٢٥٢٦ ».

٨٢

يزالوا يتياسرونَ كذاك حتّى انتهَوا إِلى نينَوى - المكانِ الّذي نزلَ به الحسينُعليه‌السلام - فإِذا راكبٌ على نجيبِ له عليه السِّلاحُ متنكِّبٌ قوساً مقبلٌ منَ الكوفةِ، فوَقَفُوا جميعاً ينتظَرونَه(١) فلمّا انتهى إِليهم سلّمَ على الحرِّ وأصحابِه ولم يسلِّمْ على الحسينِ وأصحابِه، ودفعَ إِلى الحرِّ كتاباً من عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ فإِذا فيه:

أمّا بعدُ فَجَعْجِعْ(٢) بالحسينِ حينَ يَبلُغُكَ كتابي ويقدمُ عليكَ رسولي، ولا تُنْزِلْه(٣) إِلاّ بالعراءِ في غيرِ حصنٍ وعلى غيرِماءٍ، فقد أمرتُ رسولي أن يَلزَمَك ولا يفُارِقَكَ حتّى يأْتيني بإِنفاذِكَ أمري، والسّلامُ.

فلمّا قرأ الكتابَ قالَ لهم الحرُ: هذا كتابُ الأَميرِ عُبيدِاللهِّ يأْمرُني أَن أُجَعْجِعَ بكم في المكانِ الّذي يأْتي كتابُه، وهذا رسولُه وقد أمرَه أَلاّ يفارقَني حتّى أُنَفّذَ أَمْرَه.

فنظرَ يزيد بنُ المهاجرِ الكنانيّ(٤) - وكانَ معَ الحسينِعليه‌السلام - إلى رسولِ ابن زيادٍ فعرفَه فقالَ له يزيدُ: ثَكلَتْكَ أُمُّكَ، ماذا جئتَ فيه؟ قالَ: أَطعتُ إِمامي ووفيتُ ببيعتي، فقالَ له ابنُ المهاجرِ: بل عصيتَ ربَّكَ وأطعتَ إِمامَكَ في هلاكِ نفسِكَ وكسبتَ العارَ والنّارَ، وبئسَ الإمامُ إِمامكَ، قالَ اللّهُ عزَّ من قائلٍ

__________________

(١) في هامش «ش»: ينظرونه.

(٢) في الصحاح - جعجع - ٣: ١١٩٦: كتب عبيدالله بن زياد الى عُمربن سعد: أن جعجع بحسين. قال الأصمعي: يعني احبسه، وقال ابن الاعرابي: يعني ضيّق عليه.

(٣) في « ش » و « م»: تتركه، وما في المتن من هامشهما.

(٤) في هامش « ش » و «م»: الكندي.

٨٣

 ( وَجَعَلنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُوْنَ إِلىَ النًارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصرُوْنَ ) (١) فإِمامُكَ منهم.

وأخذَهم الحرُّ بالنُّزولِ في ذلكَ المكانِ على غيرماءٍ ولا قريةٍ، فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : « دَعْنا - ويحك - ننزل في هذه القريةِ أوهذه - يعني نينَوَى والغاضِريّةَ - أو هذه - يعني شِفْنَةَ(٢) - » قالَ: لا واللّهِ ما أستطيعُ ذلكَ، هذا رجل قد بُعِثَ اليّ عيناً عليّ، فقالَ له زُهَيرُ بنُ القَيْنِ: إِنِّي واللّهِ ما أراه يكونُ بعدَ هذا الّذي تَرَوْنَ إِلا أَشدَّ ممّا تَرَوْنَ، يا ابنَ رسولِ اللّهِ، إِنّ قتالَ هؤلاءِ السّاعةَ أهونُ علينا من قتالِ من يأْتينا بعدَهم، فلعَمْري لَيَاْتيَنا بعدَهم ما لا قِبلَ لنا به، فقالَ الحسينعليه‌السلام : «ما كنتُ لأَبدأهم بالقتالِ » ثمّ نزل ؛ وذلكَ يومَ الخميسِ وهو اليوم(٣) الثّاني منَ المحرّمِ سنةَ إِحدى وستَينَ.

فلمّا كانَ منَ الغدِ قدمَ عليهم عُمَرُبنُ سَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ منَ الكوفةِ في أربعةِ آلافِ فارسٍ، فنزلَ بنينوى وبعثَ إِلى الحسينِعليه‌السلام ( عُروةَ بنَ قَيْسٍ )(٤) الأحمسيّ فقالَ له: ائتِهِ فسَلْه ما الّذي جاءَ بكَ؟ وماذا تريدُ؟

وكانَ عُروةُ ممّن كتبَ إلى الحسينِعليه‌السلام فاستحيا منه أن ياْتيَه، فعرضَ ذلكَ على الرؤَساءِ الّذينَ كاتبوه، فكلّهم

__________________

(١) القصص ٢٨: ٤١.

(٢) في هامش « ش » و «م»: شفَيّنة، شُفيّة. وكأنها شفاثا. في هامش «م» نسخة اُخرى:

(٣) في« م» و « ش»: يوم، وما في المتن من «ح » وهامش « ش».

(٤) انظر ص ٣٨ هامش (١) من هذا الكتاب.

٨٤

أبى ذلكَ وكرِهَه، فقامَ إِليه كَثيرُبنُ عبدِاللهِّ الشَّعْبِيّ وكانَ فارساً شُجاعاً لا يَرُدُّ وجهَه لشيءٌ فقالَ: أنا أذهبُ إِليه، وواللّهِ لئن شئتَ لأفْتكنَّ به ؛ فقالَ له عُمَرُ: ما أُريدُ أن تَفتكَ به، ولكنِ ائتِه فسَلْه ما الّذي جاءَ بك؟

فاقبلَ كثيرٌ إِليه، فلمّا رآه أبو ثمامةَ الصّائديُّ قالَ للحسينِعليه‌السلام : أصلَحَكَ اللهّ يا أَبا عبدِاللهِّ، قد جاءَكَ شرُّ أهلِ الأرضِ، وأجرؤهم على دم، وأفتكُهم(١) . وقامَ إِليه فقالَ له: ضَعْ سيفَكَ، قالَ: لا ولا كرامة، إِنّما أنا رسولٌ، فإِن سمعتم منِّي بلّغتُكم ما أرْسِلْتُ به إِليكم، وان أبَيتم انصرفتُ عنكم، قالَ: فإِنِّي آخذُ بقائِمِ سيفِكَ، ثمّ تكلّم بحاجتِكَ، قالَ: لا واللهِّ لا تمسَّه، فقالَ له: أخبرْني بما جئتَ به وأَنا أُبلِّغهُ عنكَ، ولا أدعُكَ تدنو منه فإِنّكَ فاجرٌ ؛ فاستَبّا وانصرفَ إِلى عمر بن سعدٍ فأخبرَه الخبرَ.

فدعا عمرُقُرّةَ بنَ قيسٍ الحنظليّ فقالَ له: ويحَكَ يا قُرّةُ، القَ حسيناً فسَلْه ما جاءَ به وماذا يريد؟ فأتاه قُرّةُ فلمّا رآه الحسينُ مقبلاً قالَ: «أتعرفونَ هذا؟» فقالَ له حبيبُ بنُ مُظاهِرِ: نعم، هذا رجلٌ من حنظلةِ تميم، وهو ابنُ أُختِنا، وقد كنتُ أعرَفه بحسنِ الرٌأي، وما كنتُ أراه يشهَدُ هذا المشهدَ. فجاءَ حتّى سلَّمَ على الحسينِعليه‌السلام وأبلغَه رسالةَ عمرِ بنِ سعدٍ إِليه، فقالَ له الحسينُ: «كَتبَ إِليَّ أهلُ مِصْرِكم هذا أن اقدم، فأمّا إِذ كرهتموني فأنا أنصرفُ عنكم » ثمّ قالَ حبيبُ بنُ مُظاهِر: ويحَكَ يا قُرّةً أينَ ترجعُ؟! إلى القوم الظّالمينَ؟! انْصُرْ هذا الرّجلَ الّذي بآبائه أيّدَكَ اللّهُ بالكرامةِ، فقالَ له قُرّةُ: أَرجعُ إِلى صاحبي

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: وأجرأُه على دم وأفتكه.

٨٥

بجواب رسالتِه، وأرى رأيي. قالَ: فانصرفَ إِلى عمر بن سعدٍ فأَخبرَه الخبرَ؛ فَقالَ عمرُ: أرجو أن يعافيَني اللهُ من حربه وقتالِه ؛ وكتبَ إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ:

بسم اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمَ، أمّا بعدُ: فإِنِّي حينَ نزلتُ بالحسينِ بعثتُ إِليه رسلي، فسألتُه عمّا اقْدَمَه، وماذا يطلبُ؟ فقالَ: كتبَ إِليَّ أَهْلُ هذه البلادِ، واتتْني رُسُلُهم يسألونَني القدومَ ففعلتُ، فأمّا إِذ كرهوني وبدا لهم غيرُما أتَتْني به رُسُلُهم، فأَنا منصرفٌ عنهم.

قالَ حسّانُ بنُ قائدٍ العَبْسيّ: وكنتُ عندَ عُبيدِاللهِّ حينَ أَتاه هذا الكتابُ، فلمّا قرأه قالَ:

ألآنَ إِذْ عَلِقَتْ مَخَالبنَا بِهِ

يَرْجُو النَّجَاةَ وَلاَتَ حِيْنَ مَنَاصِ

 وكتبَ إِلى عمربن سعدٍ:

أمّا بعدُ: فقد بلغَني كتابُكَ وفهمتُ ما ذكرتَ، فاعرِضْ على الحسينِ أَن يُبايعَ ليزيدَ هو وجميعُ أصحابه، فإِذا فعلَ هو ذلكَ رأينا رأيَنا، والسّلامُ.

فلمّا وردَ الجوابُ على عمر بن سعدٍ قالَ: قد خشيتُ ألاّ يَقبلَ ابنُ زيادٍ العافيةَ.

ووردَ كتابُ ابنِ زيادٍ في الأثرِ إلى عمر بن سعدٍ: أن حُلْ بينَ الحسينِ وأصحابه وبينَ الماءِ فلا يَذوقوا منه قطرةً، كما صُنعَ بالتّقيِّ الزّكيِّ عُثمان بن عفَّان. فبعثَ عمرُبنُ سعدٍ في الوقتِ عَمْرَو بنَ الحجّاجِ في خمسمائةِ فارس، فنزلوا على الشّريعةِ وحالوا بينَ الحسينِ وأصحابه وبينَ الماءِ أن يَستَقُوا منه قطرةً، وذلكَ قبلَ قتل الحسين بثلاثةِ

٨٦

أيّامٍ، ونادى عبدُاللّه بن الحُصين(١) الأزديّ - وكانَ عِدادُه في بَجيلةً - بأعلى صوته: يا حسينُ، ألا تنظرُإِلى الماءِ كأنّه كَبدُ السّماءِ، واللّهِ لا تَذُوقونَ منه قطرةً واحدةً حتّى تموتوا عطشاً؛ فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «اللّهمَّ اقْتًلْهُ عَطَشاً ولا تَغْفِرْله أبداً».

قالَ حميدُ بنُ مسلمٍ: واللّهِ لَعُدْتُه بعدَ ذلكَ في مرضِه، فواللّهِ الّذي لا إِلهَ غيرُه، لقد رأيتُه يَشرَبُ الماءَ حتّى يَبغَرَ(٢) ثمّ يقيئه، ويصيحُ: العطشَ العطش، ثمّ يعودُ فيشرَبُ الماءَ حتّى يَبْغَرَثم يقيئه ويتلَظّى عَطَشاً، فما زالَ ذلكَ دأبه حتّى (لَفَظَ نفسَه )(٣) .

ولمّا رأى الحسينُ نزولَ العساكرِ مع عمرِ بن سعدٍ بنينوى ومدَدَهم لقتالِه أنفذَ إِلى عمر بن سعدٍ: «انِّي أُريدُ أن ألقاكَ(٤) » فاجتمعا ليلاً فتناجيا طويلاً، ثمّ رجعَ عمرُ بنُ سعدٍ إِلى مكانِه وكتبَ إِلى عُبيَدِاللهِّ بن زيادٍ:

أمّا بعدُ: فإِنّ اللّهَ قد أطْفأ النّائرةَ وجَمَعَ الكلمةَ وأَصَلحَ أَمرَ الأمّةِ، هذا حسينٌ قد أَعطاني أن يرجِعَ إِلى المكانِ الّذي أتى منه أو أن يسيرَ إِلى ثَغرٍ منَ الثُّغورِ فَيكونَ رجلاًَ منَ المسلمينَ، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أَن يأَتيَ أميرَ المؤمنينَ يزيدَ فيضعَ يدَه في يدِه، فيرى فيما بينَه وبينَه رأيَه، وفي هذا[لكم](٥) رضىً وللأمّةِ صلاحٌ.

__________________

(١) في «م» وهامش « ش »: حِصْن.

(٢) بغر: كثر شربه للماء، انظر «العين - بغر - ٤: ٤١٥».

(٣) في هامش « ش »: مات.

(٤) في هامش « ش » بعده اضافة: واجتمع معك.

(٥) ما بين المعقوفين اثبتناه من تأريخ الطبري ٥: ٤١٤، والكامل لابن الأثير ٤: ٥٥

٨٧

فلمّا قرأ عُبيدُاللّهِ الكتابَ قالَ: هذا كتابُ ناصحٍ مشفق على قومِه. فقامَ إِليه شِمْرُ بنُ ذي الجَوْشنِ فقالَ: أتَقبلُ هذا منه وقد نزلَ بأرًضِكَ والى جنبكَ؟ واللّهِ لئن رحلَ من بلادِكَ ولم يَضَعْ يدَه في يدِكَ، لَيكونَنَّ أولى بالقَوّةِ ولتكونَنَّ أولى بالضَّعفِ والعجز، فلا تُعْطِه هذه المنزلةَ فإِنّها منَ الوَهْنِ، ولكن لِينَزِلْ على حُكمِكَ هو وأصحابُه، فان عاقبْتَ فأنت (أَولى بالعقوبةِ )(١) وإن عفَوْتَ كانَ ذلكَ لك.

قالَ له ابنُ زيادٍ: نِعْمَ ما رأيتَ، الرأيُ رأيُك، اخْرجُ، بهذا الكتاب إِلى عُمَر بن سعدٍ فلْيَعْرِضْ على الحسينِ وأصحابه النًّزولَ على حُكْمِي، فإِن فَعَلوا فليَبْعَثْ بهم إِليّ سِلماً، وأن هم أًبَوْا فليقاتلْهم، فإِن فَعَلَ فاسمعْ له وأطِعْ، واِن أبى أن يقاتِلَهم فأنتً أَميرُ الجيشِ، واضرِبْ عُنقَه وابعثْ إِليَّ برأسِه.

وكتبَ إِلى عمر بن سعدٍ:انِّي لم أبعثْكَ إِلى الحسينِ لتكفَّ عنه ولا لتُطاوِلَه ولا لتمنّيَه السّلامةَ والبقاءَ ولا لتَعتَذِرَ له ولا لتكونَ له عندي شافعاً، انظرْ فإِن نزلَ حسينٌ وأصحابُه على حكمي واستسلموا فابعثْ بهم إِليَّ سِلْماً، وِان أبوْا فازحَفْ إِليهم حتّى تقتُلَهم وتُمثِّلَ بهم، فإِنّهم لذلكَ مستحقُّونَ، وِان قُتِلَ الحسينُ فأوْطئ الخيلَ صدرَه وظهرَه، فإِنّه عاتٍ ظلومٌ، وليس أَرى أنّ هذا يَضُرُّ بعدَ الموتِ شيئاً، ولكنْ عليّ قولٌ قد قلتُه: لوقتلتُه لفعلتُ هذا به، فإِن أنتَ مضيتَ لأَمرِنا فيه جزَيْناكَ جزاءَ السّامعِ المطيعِ، وإن أبيتَ فاعتزلْ عَمَلَنا وجُنْدَنا، وخلِّ

__________________

والنسخ خالية منه.

(١) في هامش «ش»: وليّ العقوبة.

٨٨

بينَ شمرِ بنِ ذي الجوشنِ وبينَ العسكرِ فإِنّا قد أمرناه بأمرنا، والسّلام.

فأقبلَ شمرٌ بكتاب عًبيدِاللّهِ إِلى عمربن سعدٍ، فلمّا قدمَ عليه وقرأَه قالَ له عمرُ: ما لَكَ ويْلَكَ؟! لا قَرَّبَ اللّهُ دارَكَ، قَبَّح اللهُ ما قَدِمْتَ به عليّ، واللّهِ إِنِّي لاظنُّكَ أنّكَ نهيتَه(١) أن يَقْبَلَ ما كتبتُ به إِليه، وأفسدتَ علينا أمْرنَا، قد كنّا رَجَوْنا أن يصلحَ، لا يستسلمُ واللّهِ حسينٌ، إِنَّ نفسَ أبيه لبَيْنَ جنبَيْه. فقالَ له شمرٌ: أخبِرني ما أَنتَ صانعٌ، أتمضِي لأَمرِ أميرِكَ وتقاتلُ عدوٌه؟ ِوألاّ فخلِّ بيني وبينَ الجندِ والعسكر؛ قالَ: لا، لا واللّهِ ولاكَرامةَ لكَ، ولكنْ أنا أتولىّ ذلكَ، فدونَكَ فكُنْ أنتَ على الرَّجّالةِ. ونهضَ عمرُبنُ سعدٍ إِلى الحسينِ عشيّةَ الخميسِ لتسعٍ مضَيْنَ منَ المحرّمِ.

وجاءَ شِمرٌ حتّى وقفَ على أصحاب الحسينِعليه‌السلام فقالَ: أينَ بَنُو أُختِنا؟ فخرجَ إِليه العبّاسُ وجَعْفَرٌ(٢) وعثمانُ بنوعليِّ بنِ أبي طالب عليه وعليهم السّلامُ فقالوا: ماتريدً؟ فقلَ: أنتم يابني أُختي امِنونَ ؛ فقالتْ له الفِتْيةُ: لَعَنَكَ اللهّ ولَعَنَ أمانَكَ، أتؤمِنُنَا(٣) وابنُ رسولِ اللّهِ لا أمانَ له؟!

ثمّ نادى عمرُ بنُ سعدٍ: يا خيلَ اللّهِ اركبي وأبشري، فركِبَ النّاس ثمّ زحفَ نحوَهمِ بعد العصرِ، وحسينٌعليه‌السلام جالسٌ أمامَ بيتِه مُحتب بسيفِه، إِذ خفقَ برأسِه على ركبتَيْه، وسمعَتْ أُختُه

__________________

(١) في هامش «ش»، و « م»: ثنيته.

(٢) في هامش «ش»: وعبدالله، وفوقه مكتوب: لم يكن في نسخة الشيخ.

(٣) في «م» وهامش «ش»: تؤمنَنا.

٨٩

الصّيحةَ(١) فدنَتْ من أَخيها فقالت: يا أخي أما تسمعُ الأصواتَ قدِ اقتربتْ؟ فرفعَ الحسينُعليه‌السلام رأسَه فقالَ: «إِنِّي رأيتُ رسولَ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله السّاعةَ في المنام(٢) فقالَ لي: إِنّكَ تَرُوحً إِلينا» فلطمتْ أُختُه وجهَها ونادتْ بالويلِ، فقَالَ لها: «ليسَ لكِ الويلُ يا أُخيَّةُ، اسكتي رحمَكِ اللّهُ » وقالَ له العبّاسُ بنُ عليٍّ رحمةُ اللّهِ عليه: يا أخي أتاكَ القومُ، فنهضَ ثمّ قالَ: «يا عبّاسُ، اركَبْ - بنفسي أنتَ يا أخي - حتّى تَلْقاهم وتقولَ لهم: ما لكم وما بَدا لكم؟ وتسألَهم عمّا جاءَ بهم ».

فأتاهم العبّاسُ في نحوٍ من عشرينَ فارساً، منهم(٣) زُهَيرُ بن القَيْنِ وحبيبُ بنُ مظاهِرٍ، فقالَ لهم العبّاسُ: ما بدا لكم وما تريدونَ؟ قالوا: جاءَ أًمرُ الأميرِأَن نَعْرضَ عليكم أن تنزلوا على حكمِه أَو نناجِزَكم ؛ قالَ: فلا تعجلوا حتّىَ أَرجعَ إِلى أبي عبدِاللهِّ فأعرِضَ عليه ما ذكرتم، فوقفوا وقالوا: الْقَه فأعْلِمْه، ثمّ الْقَنا بما يقولُ لكَ. فانصرفَ العباسُ راجعاً يركضُ إِلى الحسينِعليه‌السلام يخبرُه الخبرَ، ووقفَ أَصحابُه يخاطِبونَ القومَ ويَعِظُونَهم ويكفّونَهم عن قتاَلِ الحسينِ.

فجاءَ العبّاسُ إِلى الحسينِعليه‌السلام فأخبرَه بما قالَ القومُ، فقالَ: «ارجعْ إِليهم فإِنِ استطعتَ أَن تُؤَخِّرَهم إِلى الغُدْوَةِ(٤) وتَدْفَعَهم

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: الضجّة.

(٢) في «م» وهامثر «ش»: منامي.

(٣) في «م» وهامش «ش»: فيهم.

(٤) في «م» وهامش « ش »: غدوة.

٩٠

عنّا العشيّةَ، لعلّنا نصلِّي لربِّنا الليلةَ وندعوه ونستغفرُه، فهو يَعلمُ أَنَي قد أُحبُّ الصّلاةَ له وتلاوةَ كتابِه والدُّعاءَ والاستغفارَ».

فمضى العبّاسُ إِلى القوم ورجعَ من عندِهم ومعَه رسولٌ من قبَل عمر بن سعدٍ يقول: إِنّا قد أجَّلناكم إِلى غدٍ، فإِنِ استسلمتم سرَّحْناكم إلى أميرِنا عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ، وإِن أَبيتم فلسنا تاركيكم، وانصرفَ.

فجمعَ الحسينعليه‌السلام أَصحابَه عندَ قربِ المساءِ. قالَ عليُّ بنُ الحسينِ زينُ العابدينَعليه‌السلام : «فدنوتُ منه لأَسْمَعَ ما يقولُ لهم، وأَنا إِذ ذاك مريضٌ، فسمعتُ أَبي يقولُ لأصحابِه: أُثني على اللهِّ أَحسنَ الثّناءِ، وأَحمده على السّرّاءِ والضّرّاءِ، اللّهمَّ إِنِّي أحْمَدُكَ على أن أكرمْتَنا بالنُّبُوّةِ وعَلّمتنَا القرآنَ وفَقَّهْتَنَا في الدِّينِ، وجعلت لنا أسماعاً وأَبصاراً وأَفئدةً، فاجعلْنا منَ الشّاكرينَ.

أَمّا بعدُ: فإِنِّي لا أَعلمُ أَصحاباً أَوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أَهلَ بيتٍ أَبرَّ ولا أوصلَ من أَهلِ بيتي فجزاكم اللّهُ عنَي خيراً، أَلا وإِنَي لأَظنَّ أَنّه اخرُ(١) يومٍ لنا من هؤلاءِ، أَلا وإِنّي قد أَذنت لكم فانطلِقوا جميعاً في حِلٍّ ليس عليكم منِّي ذِمامٌ، هذا الليلُ قد غشِيَكم فاتّخِذوه جَملاً.

فقالَ له إِخوتُه وابناؤه وبنوأخيه وابنا عبدِاللهِّ بنِ جعفرٍ: لِمَ نفعلُ ذلكَ؟! لنبقى بعدَكَ؟! لا أَرانا اللهُّ ذلكَ أبداً. بدأهم بهذا القولِ العبّاس بنُ عليٍّ رضوانُ اللهِّ عليه واتّبعتْه الجماعةُ عليه فتكلّموا بمثله ونحوِه.

__________________

(١) في «ش» و «م»: لأَظن يوماً. وما اثبتناه من «ح ».

٩١

فقالَ الحسينُعليه‌السلام : يا بني عقيلٍ، حَسْبُكم منَ القتلِ بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد اذِنْتُ لكم. قالوا: سبحانَ اللهِ، فما يقولُ النّاسُ؟! يقولونَ إِنّا تركْنا شيخَنا وسيِّدَنا وبني عمومتنا - خيرِ الأعمامِ - ولم نرْمِ معَهم بسهِمٍ، ولم نطعنْ معَهم برُمحٍ، ولم نضْرِبْ معَهم بسيفٍ، ولا ندري ما صنعوا، لا واللّهِ ما نفعلُ ذلكَ، ولكنْ ( تَفْدِيكَ أنفسُنا وأموالنُا وأهلونا )(١) ، ونقاتل معَكَ حتّى نَرِدَ موردَكَ، فقَبحَ الله العيشَ بعدَكَ.

وقامَ إِليه مسلمُ بنُ عَوْسَجةَ فقالَ: أنُخلِّي(٢) عنكَ ولمّا نُعذِرْإِلى اللهِ سبحانَه في أداءِ حقِّكَ؟! أما واللهِّ حتّى أطعنَ في صُدورِهم برمحي، وأضربَهم بسيفي ما ثبتَ قائمهُ في يدي، ولو لم يكنْ معي سلاحٌ أُقاتلُهم به لقَذَفْتهم بالحجارةِ، واللهِّ لا نُخلِّيكَ حتّى يعلمَ اللهُ أنْ قد حَفِظْنا غيبةَ رسولِ اللّهِ(٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكَ، واللّهِ لوعلمتُ أنِّي أُقْتَلُ ثمّ أحيا ثم أُحرقُ ثم أحيا ثم أُذَرَّى، يُفعَلُ ذلكَ بي سبعينَ مرة ما فارقتُكَ حتّى ألقى حِمامي دونَكَ، فكيفَ لا أفعلُ ذلكَ ِوانّما هي قَتْلةٌ واحدةُ ثمّ هي الكَرامةُ الّتي لا انْقِضاءَ لها أبداً.

وقامَ زُهَيرُ بنُ القَيْن البجليّ - رحمةُ اللهِّ عليهِ - فقالَ: واللهِ لوَددْتُ أنِّي قُتِلْتُ ثمّ نُشِرْتُ ثمّ قُتِلْت حتّى أًقتلَ هكذا ألفَ مرّةٍ، وأَنّ الله تعالى يدفعُ بذلكَ القتلَ عن نفسِكَ، وعن أنفُسِ هؤلاء الفِتْيانِ من أهل بيتِكَ.

__________________

(١) كذا في «م» وهامش «ش»، وفي «ش»:(نُفدّيك أنفسنا وأموالنا وأهلينا).

(٢) في «م» وهامش «ش»: أنحن نخلي.

(٣) في هامش «ش»: رسوله.

٩٢

وتكلّمَ جماعةُ أصحابه(١) بكلام يُشبهُ بَعضُه بعضاً في وجهٍ واحدٍ، فجزّاهم الحسينُعليه‌السلام خيراً وَانصرفَ إلى مضِربه(٢) ».

قالَ عليُّ بنُ الحسينِعليهما‌السلام : «اِنيّ لَجالسٌ في تلكَ العشيّةِ الّتي قُتِلَ أبي في صبيحتِها، وعندي عمّتي زينبُ تمرّضني، إِذِ اعتزلَ أبي في خباءٍ له وعندَه جُويْنٌ مولى أبي ذرٍّ الغفار وهويُعالجُ سيفَه ويُصلِحُه وأبي يقولُ:

يَادَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيْلِ

كَمْ لكَ بالإشراقِ وَالأصِيْلِ

مِنْ صَاحِبٍ أوْ طَالِبِ قَتِيْلِ

وَالدَّهْرُ لا يَقْنَعُ بالْبَدِيْل

وانَّمَا الأمْرُ إِلى الجَلِيْلِ

وَكلُّ حَيٍّ سَالِكٌ سَبِيْلِيْ

 فأعادَها مرّتينِ أو ثلاثاً حتّى فهِمْتُها وعَرفْتُ ما أرادَ، فخنقَتْني العَبْرةُ فردَدْتُها ولزمتُ السُّكوتَ، وعلمتُ أنّ البلاءَ قد نزلَ، وأمّا عمّتي فإنهّا سَمِعَتْ ماسَمِعْتُ وهيَ امرأةٌ ومن شاْنِ النساءِ الرّقّةُ والجَزعُ، فلم تَملِكْ نفسَها أنْ وَثَبَتْ تجرُّثوبَها(٣) وأنّها لَحاسرة، حتّى انتهتْ إِليه فقالتْ: وا ثكْلاه! ليتَ الموتَ أعدمَني الحياةَ، اليومَ ماتْتْ أُمِّي فاطمةُ وأبي عليّ وأخي الحسنُ، يا خليفةَ الماضِي وثِمالَ الباقي. فنظرَ إِليها الحسينُعليه‌السلام فقالَ لها: يا أُخيَّةُ لا يذْهِبَنَ حلمَكِ الشّيطانُ، وتَرَقْرَقَتْ عيناه بالدُموعِ وقالَ: لو تُرِكَ القَطَا لَنامَ(٤) ؛ فقالتْ: يا ويلتاه!

__________________

(١) في هامش «ش»: من أصحابه.

(٢) المضرب: الفسطاط أو الخيمة «القاموس المحيط - ضرب ١: ٩٥».

(٣) في «م» وهامش «ش»: ذيولها.

(٤) يضرب مثلاًَ للرجل يُستثار فيُظْلَم. انُظر جمهرة الامثال للعسكري ٢: ١٩٤ / ١٥١٨.

٩٣

أفتُغتصبُ نفسُكَ اغتصاباً؟! فذاكَ أقْرَحُ لِقَلبي وأشدَّ على نفسي. ثمّ لطمتْ وجهَها وهَوَتْ إلى جيبِها فشقّتْه وخرتْ مغشيّاً عليها.

فقامَ إِليها الحسينُعليه‌السلام فصبّ على وجهها الماءَ وقالَ لها: يا أُختاه! اتّقي اللهَّ وتعَزَيْ بعزاءِ اللّهِ، واعْلمي أنّ أهَلَ الأرضِ يموتونَ وأهلَ السّماءِ لا يَبْقَوْنَ، وأنَّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجهَ اللهِّ الّذي خلقَ ألخلقَ بقدرتهِ، ويبعثُ الخلقَ ويعودونَ، وهو فردٌ وحدَه، أبي خيرٌ منِّي، وأُمِّي خيرٌ منِّي، وأخي خيرٌ منِّي، ولي ولكلِّ مسلمٍ برسولِ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله أُسوةٌ. فعزّاها بهذا ونحوِه وقالَ لها: يا أُخيّةُ إِنِّي أقسمتُ فأبِرِّي قَسَمي، لا تَشُقِّي عليَّ جيبأً، ولا تَخْمشي(١) عليَّ وجهاً، ولا تَدْعِي عليٌ بالويلِ والثّبورِ إِذا أنا هلكتُ. ثمّ جاءَ بها حتّى أجلسَها عنديّ.

ثمّ خرجَ إِلى أصحابه فأمرَهم أَن يُقَرِّبَ بعضُهم بيوتَهم من بعضٍ، وأن يُدخِلوا الأطنابَ بعضها في بعضٍ، وأن يكونوا بينَ البيوتِ، فيستقبلونَ القومَ من وجهٍ واحدٍ والبيوتُ من ورائهم وعن أيْمانِهم وعن شمائِلهم قد حَفّتْ بهم إلاّ الوجهَ الّذي يأْتيهم منه عدوُّهم.

ورجعَعليه‌السلام إِلى مكانِه فقامَ الليلَ كلَّه يُصلّي ويستغفرُ ويدعو ويتضرّعُ، وقامَ أصحابُه كذلكَ يُصَلًّونَ ويدعونَ ويستغفرونَ »(٢) .

__________________

(١) خمش وجهه: خدشه ولطمه وضربه وقطع عضواً منه. «القاموس - خمش - ٢: ٢٧٣».

(٢) تاريخ الطبري ٥: ٤٢٠، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ١، ٢.

٩٤

قالَ الضحّاكُ بنُ عبدِاللهِّ: ومرَّ بنا خيلٌ لابنِ سعدٍ يحرسُنا، وِانَّ حسيناً لَيقرأ:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا أنَّمَا نُمْليْ لَهُمْ خَيْرٌ لانفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْليْ لَهُمْ لِيَزْدَادُوْا إِثْمَاً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين * مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِيْن عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيْزَ الْخَبِيْثَ مِنَ الطَّيِّب ) (١) فسمعَها من تلكَ الخيلِ رجلٌ يُقالُ له عبداللهّ بن سُميرٍ(٢) ، وكانَ مَضحاكاً وكانَ شجاعاً بطلاًَ فارساً فاتكاً شريفاً فقالَ: نحن وربِّ الكعبةِ الطّيِّبونَ، مُيِّزْنا منكم. فقالَ له بَرِيرُ بنُ خُضيرٍ: يا فاسقُ أَنتَ يجعلُكَ اللهُّ منَ الطّيِّبينَ؟! فقالَ له: من أنتَ ويلَكَ؟ قال: أنا بَرِيرُ بنُ خُضَيْرِ، فتسابّا(٣) .

وأصبحَ الحسيُن بنُ عليّعليهما‌السلام فعبّأَ أصحابَه بعدَ صلاةِ الغداةِ، وكانَ معَه اثنان وثلاثونَ فارساً واربعونَ راجلاًَ، فجعلَ زُهيرَ بنَ القينِ في مَيْمَنةِ أصحابِه، وحبيبَ بنَ مُظاهِرٍ في مَيْسَرةِ أصحابه، وأعطى رايتَه العبّاسَ أخاه، وجعلوا البيوتَ في ظهورِهم، وأمرَ بحَطًبِ وقَصَبٍ كانَ من وراءِ البيوتِ أَن يُتركَ في خَنْدَقٍ كانَ قد حُفِرَ هناكَ وَأن يُحرَقَ بالنّارِ، مخافةَ أن يأتوهم من ورائهم.

وأصبحَ عمرُ بنُ سعدٍ في ذلكَ اليوم وهو يومُ الجمعةِ وقيلَ يومُ السّبتِ، فعبّأ أصحابَه وخرجَ فيمن معَه منً النّاسِ نحوَ الحسينِعليه‌السلام وكانَ على مَيْمَنَتهِ عَمرُو بنُ الحجّاجِ، وعلى مَيْسَرتَه شِمرُ بنُ ذي الجوشنِ، وعلى الخيلِ عُروةُ بنُ قَيْسٍ، وعلى الرّجّالةِ شَبَثُ بنُ رِبعيّ،

__________________

(١) ال عمران ٣: ١٧٨ - ١٧٩.

(٢) في «م» وهامش «ش»: سميرة.

(٣) تاريخ الطبري ٥: ٤٢١، مفصلاً نحوه، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ٣.

٩٥

واعطى الرّايةَ دُرَيداً(١) مولاه.

فروِيَ عن عَليِّ بنِ الحسينِ زينِ العابدينَعليه‌السلام أنّه قالَ: «لمّا صبّحتِ الخيلُ الحسينَ رَفَعَ يديه وقالَ: اللّهَمّ أنتَ ثِقَتي في كلِّ كَرْبِ، ورجائي في كلِّ شدّةٍ(٢) وأنتَ لي في كلِّ أمر نزلَ بي ثقةٌ وعُدَّة، كمَ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فيه الفؤادُ، وتَقِلُّ فيه الحيلةُ، ويخذُلُ فيه الصّديقُ، ويَشمَتُ فيه العدوُّ، أنزلتُه بكَ وشكوتُه إِليكَ رغبةً منِّي إِليكَ عمَّن سواكَ، ففرَّجْتَه وكشفْتَه، وأنتَ وليُّ كلِّ نعمةٍ، وصاحبُ كلِّ حسنةٍ، ومُنتهَى كلِّ رغبةٍ»(٣) .

قالَ: وأقبلَ القومُ يَجولونَ حولَ بيوتِ الحسينِعليه‌السلام فيَروْنَ الخندقَ في ظهورِهم والنّار تَضْطَرِمُ في الحَطَب والقَصب الّذي كانَ أُلقِيَ فيه، فنادى شمرُ بنُ ذي الجوشنِ عليه الَلعنةُ بأعلَى صوته: يا حسينُ أتعجّلتَ النّارَ قبلَ يوم القيامةِ؟ فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «مَنْ هذا؟ كأنّه شمرُ بنُ ذي الجَوشنِ » فقالوا له: نعم، فقالَ له: «يا ابنَ راعيةِ المِعْزَى، أنتَ أولى بها صلِيّاً».

ورَامَ مسلمُ بنُ عَوسَجَةَ أنِ يرميَه بسهمٍ فمنعَه الحسينُ من ذلكَ، فقالَ له: دعْني حتّى أرميَه فإنّ الفاسقَ من عظماءِ الجبّارينَ، وقد أمكنَ اللّهُ منه. فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «لا تَرْمِه، فإِنِّي أكرهُ أن أبدأهم ».

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»نسختان: ١ / دُوَيداً، ٢ / ذوَيداً. وكذا في المصادر.

(٢) في هامش «ش»: شديدة.

(٣) تاريخ الطبري ٥: ٤٢٣، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ٤.

٩٦

ثمّ دعا الحسينُ براحلتهِ فركبَها ونادى بأَعلى صوته: «يا أهلَ ألعراقِ » - وجُلّهم يسمعونَ - فقالَ: «أَيًّها النّاسُ اسمعَوا قَوْلي ولا تَعجَلوا حتّى أَعِظَكم بما يَحقُّ لكم عليّ وحتّى أعْذِرَ إِليكم، فإِن أعطيتموني النّصفَ كنتم بذلكَ أسعدَ، وان لم تُعْطُوني النّصفَ من أنفسِكم فأجمعوا رأيَكم ثمّ لا يَكنْ أمرُكم عليكم غُمّةً ثمّ اقضوا إِليَّ ولا تنظِرونَ، إِنَّ وَلِيّي اللّهُ الّذي نزّلَ الكتابَ وهو يتولّى الصّالحينَ ». ثم حَمدَ اللّهَ وأثنى عليه وذَكَرَ اللهَّ بما هو أهلُه، وصَلّى على النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ملائكةِ اللّهِ وأَنبيائه، فلم يُسْمَعْ متكلِّمٌ قطُّ قبلَه ولا بعدَه أبلغ في منطقٍ منه، ثمّ قالَ:

«أمّا بعدُ: فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمّ ارجِعوا إِلى أنفسِكم وعاتِبوها، فانظروا هل يَصلُح لكم قتلي وانتهاكُ حرمتي؟ ألست ابنَ بنتِ نبيِّكم، وابنَ وصيِّه وابن عمِّه وأَوّل المؤمنينَ المصدِّقِ لرسولِ اللّهِ بما جاءَ به من عندِ ربِّه، أَوَليسَ حمزةً سيدُ الشُهداءِ عمِّي، أَوَليسَ جعفر الطّيّارُ في الجنّةِ بجناحَيْنِ عَمِّي، أوَلم يَبْلُغْكم(١) ما قالَ رسولُ اللهِ لي ولأخي: هذان سيِّدا شبابِ أهلِ الجنّةِ؟! فان صدَّقتموني بما أقولُ وهو الحقُّ، واللّهِ ما تعمّدْتُ كذِباً منذُ عَلِمْتُ أنّ اللهَّ يمقُتُ عليه أهلَهُ، وإِن كذّبتموني فإِنّ فيكم (مَنْ لو )(٢) سأَلتموه عن ذلكَ أخْبَركم، سَلوُا جابرَ بنَ عبدِاللّهِ الأَنصاريّ وأبا سعيدٍ الخُدْريّ وسَهْلَ بن سعدٍ الساعديّ وزيدَ بنَ أرقَمَ وأنسَ بنَ مالكٍ، يُخْبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالةَ من رسولِ اللهِّصلى‌الله‌عليه‌وآله لي

__________________

(١) في هامش «ش» اوما بلغكم.

(٢) في «م» وهامش «ش»: مَن إن.

٩٧

ولأخي، أمَا في هذا ( حاجز لكم )(١) عن سَفْكِ دمي؟! ».

فقالَ له شمرُ بنُ ذي الجوشن: هو يَعْبدُ اللّهَ على حَرْفٍ إِن كانَ يدري (ما تقولُ )(٢) فقالَ له حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ: واللّهِ إِنِّي لأراكَ تَعْبُدُ اللّهَ على سبعينَ حرفاً، وأنا أشهدُ أنّكَ صادقٌ ما تدري ما يقول، قد طبَعَ اللّهُ على قلبِكَ.

ثمّ قالَ لهم الحسينُعليه‌السلام : «فإِن كنتم في شكٍّ من هدْا، أفتشكّونَ أَنِّي ابن بنتِ نبيِّكمْ! فواللّهِ ما بينَ المشرقِ والمغرب ابن بنتِ نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيرِكم، ويحكم أتَطلبوني بقتيلِ منكم قَتلتُه، أومالٍ لكم استهلكتُه، أو بقِصاصِ جراحةٍ؟!» فأخَذوا لا يُكلِّمونَه، فنادى: «يا شَبَثَ بنَ ربْعيّ، يا حَجّارَ بنَ أَبجرَ، يا قيسَ بنَ الأشْعَثِ، يا يزيدَ بن الحارثِ، ألم تكتبوا إِليّ أنْ قد أيْنَعَتِ الثِّمارُ واخضَرَّ الجَنابُ، وانمّا تَقدمُ على جُندٍ لكَ مُجَنَّدٍ؟!» فقالَ له قيسُ بنُ الأَشعثِ: ما ندري ما تقولُ، ولكنِ انْزِلْ على حُكمِ بني عمِّكَ، فإِنّهم لن يُرُوْكَ إلا ما تُحِبُّ. فقالَ له الحسينُ «لا واللهِّ لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذّليل، ولا أَفِرُّ فِرارَ العبيدِ(٣) ». ثمّ نادى: «يا عبادَ اللهِ، إِنِّي عُذْتُ بربِّي وربِّكم أن ترجمون، أعوذُ بربِّي وربِّكم من كلِّ مُتكبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بيومِ الحسابِ ».

ثمّ إنّه أناخَ راحلتَه وأمرَ عُقبةَ بنَ سَمْعانَ فعقلَها، وأَقبلوا

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: حاجز يحجزكم.

(٢) هكذا في النسخ الخطية، لكن الصحيح: ما يقول، وهوموافق لنقل الطبري والكامل.

(٣) في «م»: العبد، وفي «ش»: مشوشة، وهي تحتمل الوجهين، وفي نسخة العلامة المجلسي: العبيد.

٩٨

يزحفونَ نحوَه، فلمّا رأى الحرُّ بنُ يزيدَ أَنّ القومَ قد صمَّمُوا على قتالِ الحسينِعليه‌السلام قالَ لعمر بن سعدٍ: أيْ عُمَر(١) ، أمُقاتِلٌ أنتَ هذا الرّجلَ؟ قالَ: إِيْ واللّهِ قتالاً أيْسَرُه أَن تَسقطَ الرُّؤوسُ وتَطيحَ الأَيدي، قالَ: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضىً؟ قالَ عمر: أما لو كانَ الأمرُ إِليَّ لَفعلتُ، ولكنَّ أميرَكَ قد أبى.

فأقبلَ الحرُّحتّى وقفَ منَ النّاسِ موقفاً، ومعَه رجلٌ من قومِه يُقالُ له: قُرّةُ بنُ قَيْسٍ، فقالَ: يا قُرّةُ هل سقيتَ فرسَكَ اليومَ؟ قالَ: لا، قالَ: فما تُريدُ أن تَسقِيَه؟ قالَ قُرّةُ: فظننتُ واللّهِ أنّه يُريد أَن يَتنحّى فلا يشهدَ القتالَ، ويكرهُ(٢) أن أَراه حينَ يَصنعُ ذلكَ، فقلتُ له: لم أسقِه وأَنا منطلق فأسقيه، فاعتزلَ ذلكَ المكان الّذي كانَ فيه، فواللّهِ لوأَنّه أطْلَعَني على الّذي يُريدُ لخرجتُ معَه إِلى الحسينِ بنِ عليٍّعليه‌السلام ؛ فأخذَ يَدنو منَ الحسينِ قليلاً قليلاً، فقالَ له المهاجرُ بنُ أوسٍ: ما تُريدُ يا ابنَ يزيدَ، أتريدُ أن تَحملَ؟ فلم يُجبْه وأخَذَهُ مثلُ الأفْكَلِ - وهي الرِّعدةُ - فقالَ له المهاجرُ: إِنّ أمْرَكَ لَمُريبٌ، واللهِّ ما رأيتُ منكَ في موقفٍ قطُّ مثلَ هذا، ولو قيلَ لي: مَنْ أشجعُ أَهلِ الكوفِة ما عَدَوْتُكَ، فما هذا الّذي أرى منكَ؟! فقالَ له الحرُّ: إِنِّي واللّه أُخيِّرُ نفسي بينَ الجنَّةِ والنّارِ، فواللّهِ لا أختارُ على الجنّةِ شيئاً ولو قُطًّعْتُ وحُرِّقْت.

ثمّ ضربَ فرسَه فلحِقَ بالحسينِعليه‌السلام فقالَ له: جُعِلْتُ فِداكَ - يا ابنَ رسولِ اللهِّ - أَنا صاحبُكَ الّذي حبستُكَ عنِ

__________________

(١) في هامش «ش»: يا عمر.

(٢) في «م» وهامش «ش»: فَكَرِه.

٩٩

الرُّجوع، وسايرْتُكَ في الطَريقِ، وجَعْجَعْتُ بكَ في هذا المكانِ، وما ظننتُ انَّ القومَ يَرُدُّونَ عليكَ ماعَرَضْتَه عليهم، ولايَبلُغونَ منكَ هذه المنزلَة، واللهِّ لو علمتُ أنّهم يَنتهونَ بكَ إِلى ما أرى ما رَكِبْتُ منكَ الّذي رَكِبْتُ، وِانِّي تائبٌ إِلى اللهِ تعالى ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلكَ توبةً؟ فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «نَعَمْ، يتوبُ اللّهُ عليكَ فانزِلْ » قالَ: فأنا لكَ فارساً خيرٌ منِّي راجلاً، أقُاتِلهُم على فرسي ساعةً، والى النُّزول ما يَصيرُ اخرُ أمري. فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «فاصنعْ - يَرحمَكَ اللهُّ - ما بدا لكَ ».

فاستقدمَ أمامَ الحسينِعليه‌السلام ثمّ أنشأ رجلٌ من أصحاب الحسينِعليه‌السلام يقولُ:

لَنِعْمََ الْحُرُّ حُرّ بَنِيْ رِيَاح

وَحُرّ عِنْد َمُخْتَلَفِ الرِّمَاحِ

وَنِعْمَ الْحُرُّ إِذْ نَادَى حُسَينٌ

وَجَادَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الصَّبَاحِ

 ثمّ قالَ(١) : يا أهلَ الكوفةِ، لأمِّكم الهَبَلُ والعَبَرُ، أدَعَوْتُم هذا العبدَ الصّالحَ حتّى إِذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتُم أنّكم قاتلو أنفسِكم دونَه ثمّ عَدَوْتُم عليه لِتقتلوه، أمسكتم بنفسِه وأخذتم بكظمِه(٢) ، وأحَطْتم به من كلِّ جانبِ لتِمنعوه التّوجُّهَ في بلادِ اللّهِ العريضةِ، فصارَ كالأسير في أَيديكم لاَ يَملكُ لِنفسِه نفعاً ولا يَدفعُ عنها ضَرّاً(٣) ، وحَلأتمُوه(٤) ونساءه وصِبْيتَه وأهله عن ماءِ الفراتِ

__________________

(١) اي الحر عليه الرحمة.

(٢) يقال: اخذت بكظمه أي بمخرج نفسه «الصحاح - كظم - ٥: ٢٠٢٣».

(٣) في «م» وهامش «ش»: ضرراً.

(٤) حلأه عن الماء: طرده ولم يدعه يشرب «الصحاح - حلأ - ١:٤٥».

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

قال شبيب بن الحارث مذهولاً، وهو يرى زينب وثباتها ورباطة جأشها مع ما نزل بها وما تعرف أنه سينزل بها بعد ساعات: والله يا بنت علي وفاطمة، والله يا أخت الحسين: لو لم أكن في الركب معكم، أرى وأسمع، لما صدقت ما سيروى عنك. تشككت كثيراً فيه، ولكنك يا بطلة كربلاء أكبر من كل ما يروى وينقل. من غيرك يمكن أن تكون المثل الأعلى للنساء؟! لك أو لمثلك تعنو الجباه، واين مثلك؟! فداء لك هؤلاء المدعيات الكاذبات، الراكضات وراء الفتنة، الموغلات في دماء المسلمين، الفاضحات لأزواجهن وأسرار بيوتهن.

قال عامر بن سعد معقباً على كلام شبيب: وأنا والله. ما أحسب بين نساء العالم كله من تستحق أن ننحني لها كهذه البطلة التي لا نعرف لها نظيراً. والله لو أن الجبال تعرضت لمثل ما تعرضت له لانهارت.

اعذريني يا أخت الحسين إذا أنا قصرت فلم أوفك حقك ولا بعض حقك. ما ذاك إلا لأني لا أجد ما أقوله فيك، وكل قول قليل فيك. لن أستيطع أن أوفيك حقك إلا إذا استطعت أن أوفي أخاك الحسين حقه.

هذا كل ما أستطيع وما أظنني سأستطيع غيره، وإن كنت أرجو وأتمنى.

ما أروعك يا بطلة كربلاء، وما أجدرك بهذا الاسم!

٢٠١

الفصل السابع والأربعون

في خيمة الحسين

قال شبيب بن الحارث، وهو يهمس لعامر بن سعد: من هؤلاء الخارجون في مثل هذه الساعة من الليل؟! إلى أين يقصدون؟ أليس هذا مسلم بن عوسجة؟ والذي جنبه، أليس هو زهير بن القين، ومعهما حبيب بن مظاهر، ووراءهم بقية الأنصار؟ إنهم يتجهون إلى خيمة الحسين، ترى ماذا يريدون؟

لابد أن شيئاً خطيراً قد حصل، وهم ذاهبون إلى الحسين لإبلاغه أو للاستفسار عنه. أتظنهم يريدون أن يعتذروا للحسين عن القتال معه، وقد رأوا ألا طاقة لهم بقتال جيش عمر؟! أتظنهم يريدون أن يعرفوا رأي الحسين في مكان المعركة ومواقفهم منها، قبل أن تبدأ، ولا يفصلهم عنها إلا ساعات، وتتلاقى السيوف؟! أتظنهم...؟ وراح شبيب يستعرض ما يمكن أن يرد على ذهنه من الأسباب.

قال عامر: ولِم السؤال أو الأسئلة يا شبيب؟ ألبعد خيمة الحسين عنا، أم أنه سيمنعنا من الدخول؟! امضي بنا ندخل كما يدخلون، وسترى وتسمع جواب ما تسأل عنه.

وأسرع الاثنان إلى خيمة الحسين.

وبدأ الحسين الكلام، فحمد الله ثم حيّا الأنصار وأثنى عليهم بما لاقوه من نصب وعناء وما تركوه من أهل وراحة وأمن، وليس عنده ما يجزيهم عليه إلا الحمد، والأجر والمثوبة من الله. ثم قال: (... فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً خيراً. ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً. ألا وإني أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل، ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وإن القوم إنما يطلبونني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري). ثم سكت.

قال العباس أخوه، وكان أول المتكلمين بعد الحسين من أهل بيته الذين سبقوا إلى الخيمة قبل أن يصل الأنصار (ولِم نفعل ذلك؟! أنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك ابداً).

٢٠٢

ثم تبعه الآخرون من أبناء الحسين وأبناء إخوته وباقي الطالبيين، فأكدوا ما قاله العباس معبرين عن سعادتهم بالموت معه، وأن ليس بينهم من يرفض الشهادة التي لا ينتظرون خيراً منها.

ويأتي دور الأنصار...

ويقوم الشيخ مسلم بن عوسجة: أكبر القوم سناً، يتقدم خطوة نحو الحسين وهو يتقد عزماً وحماساً، كأنما عاد إليه شبابه. قال بصوت عال يسمعه الجميع وبنبرة حادة صارمة لا تردد فيها ولا شك: (أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك؟! أما والله حتی أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي، ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك. ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به؛ لقذفتهم بالحجارة دونك، حتى أموت معك).

ثم قام سعد بن عبد الله فقال: (والله لو علمت أني اقتل ثم أحيى، ثم أحرق حياً، ثم أذر، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك. فكيف لا أفعل ذلك، وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً).

وبعد مسلم وسعد، قام زهير بن القين ليقول: (والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت، حتى أقتل كذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك).

وتعاقب آخرون من الأنصار، ليس فيهم إلا مستبسل يتعجل الموت غداً. ليس فيهم إلا من يرى القتل مع الحق إلاّ غنماً وشهادة لا يفوز بها إلا السعداء، فهو حريص عليها حرص الآخرين على الحياة.

الجميع واثقون من أنفسهم؛ لأنهم واثقون من القضية التي يدافعون عنها. الجميع لا يرون القتل إلا أقل ثمن يدفعون من أجلها، ولو ملكوا غير أنفسهم يقدمونها، لما ترددوا. ولو كان هناك أكثر من القتل لما أبطأوا ولا انتظروا. هذا كل ما يستطيع الإنسان أن يقدمه وأقصى ما يستطيع الإنسان أن يقدمه، ولم يبخلوا به. وكانوا آسفين أنهم لا يستطيعون غيره.

قال شبيب لعامر الذي كان جنبه: قل لي يا ابن سعد، هل سمعت ما سمعت؟! إني لا أصدق، لا أصدق ما أرى وأسمع. إني لأتهم بصري وسمعي!

٢٠٣

قال عامر: والله إني لمثلك، ولولا أن تكون أنت أيضاً قد سمعت الذي سمعت، لكنت أسرع منك إلى إنكاره واتهام بصري وسمعي، لكننا لا نستطيع إلا أن نؤمن بما رأينا وسمعنا؛ لأننا رأيناه وسمعناه، لا رواية ولا حديثاً ينقل، فيزيد وينقص.

قال شبيب وهو يعود إلى الحديث: والله يا عامر لا أدري ممن أنا أشد عجباً: من الحسين، وهو يطلب من أنصاره أن يتركوه، ويحلهم من كل عهد سبق لهم. هو يعتذر عنهم ويسهل لهم طريق النجاة ويدلهم عليه، ويدفع الحرج عنهم بالليل يتخذونه جملاً، لا يراهم ولا يرونه، مع أنه مقبل غداً على قتال ويحتاج إلى أي فرد يقاتل معه؟! أم من هؤلاء الأنصار الذين يعلمون علماً لا شك فيه ولا ريب بأنهم مقتولون غداً، ثم يصرون على الموت، يتسابقون إليه، سعداء باسمين، ساخرين منه؟! إني والله لا أجد من الألفاظ ما أصفهم به إلا أنهم من معدن آخر غير ما نعرف من الرجال.

إنهم من مدرسة الحسين. وماذا تنجب مدرسة الحسين؟!

قال عامر: صدقت، إنها مدرسة الحسين؛ هؤلاء هم العمالقة الذين سيصنعون التأريخ، لا الصغار التافهون.

وخرج الجميع عائدين إلى خيامهم بانتظار صباح الغد: العاشر من محرم الذي سيشهد ميلاد التأريخ الجديد للإنسان.

وانتبهت فإذا الحبر أحمر بلون الدم، وإذا الصفحات التي كتبتها، هي أيضاً حمراء بلون الدم.

ارتعشت يدي، توقفت عن الكتابة. وما أسرع ما سمعت صوتاً عذباً حزيناً يقول لي: أنسيت؟ أنسيت أنك قد وصلت إلى الفصل الأخير من ملحمة كربلاء، فصل الدم والشهادة؟! أنسيت أنك تكتب عن العاشر من محرم؟! متى سيتحول الحبر إلى دم إن لم يتحول عند الكتابة عن العاشر من محرم؟!

وشعرت أن جسمي كله يرتعش؛ إنّه العاشر من محرّم: ميلاد الإنسان الجديد. تأريخه الجديد الذي لم يكتبه المزورون والمنافقون والضعفاء، كتبه الدم، وما أصدق التأريخ حين يكتبه الدم؟!

٢٠٤

الفصل الثامن والأربعون

في معسكر عمر بن سعد

كانت الأنباء التي تتحدث عن هرب بعض أفراد الجيش من ميدان المعركة، تجنباً لقتال الحسين أو للالتحاق به والقتال معه تثير القلق لدی قادة الجيش الأموي، وتدفعهم إلى استعجال المعركة وحسمها قبل أن تشيع هذه الظاهره وتتحول إلى خطر حقيقي سيهدد الحكم كله.

الحراسة تشدد، والمراقبون ينتشرون بين الجنود، والمسالك والطرق الخارجة من المعسكر، خصوصاً المؤدية إلى معسكر الحسين قد أغلقت تماماً بنوبات حراسة قريبة من بعضها في الليل وفي النهار، وقد اختير أفرادها من المعروفين بولائهم للحكم.

قال أحد الجنود من جيش عمر لآخر معه في نوبة حراسة ليلية: والله لا أدري لِم الانتظار حتى الصباح. لِم لا نفاجئهم الليلة فنأخذهم على غير استعداد ولا تعبئة؟! لن يفلت منهم أحد، ولن يقتل منا أحد.

قال الآخر ممتعضاً: وربما جاء الصباح وأجلوا المعركة. وعلينا أن نسهر ليلة أو ليالي أخرى. لم نعط هؤلاء الخارجين أعداء الإسلام وقتاً إضافياً، ونحن نستطيع أن نباغتهم؟! والله لو أن النبي حي بيننا الآن لما اختلف رأيه عن رأينا، ولقاتلهم في هذه الليلة أو قبل هذه الليلة، ولسبى نساءهم وغنم أموالهم. أليس هذا هو حكمهم؟!

وكان عمر يضحك في سره، وهو يسمع مثل هذه الأحاديث من بعض جنوده.

٢٠٥

ماذا لو علم هؤلاء الجنود بأننا نحن من نذيع هذه الأوصاف والإشاعات عن الحسين ومن معه؟! ماذا لو علموا بأن من نقاتله هو حفيد النبي، وأبوه بطل كل المعارك التي خاضها الإسلام ضد أعدائه؟! ماذا لو علموا أن النساء اللاتي يدعون أن النبي سيسبيهن، هن حفيدات النبي وحبيباته؟! ثم يضيف مكتئباً: آه يا إمارة الري! من أجلك أنا هنا. من أجلك أنا أقاتل الحسين مع معرفتي به، وأخشى أن ينكث ابن مرجانة بعهده بعد قتل الحسين. ما الذي يجمعني إلى شمر بن ذوي الجوشن، هذا الأعرابي الخشن الجلف لولا الري؟! وهذا الآخر: شبث ابن ربعي الذي كان من أنصار علي، ثم تحول خارجياً، وها هو معنا اليوم يحارب الحسين، لا عن عقيدة ولا عن اقتناع وإيمان، إنما حرصاً على مصلحة ودفاعاً عنها. هو يركض وراء مصلحته، وكأنه انتبه ليقول: وأنا مثله اركض وراء مصلحتي. لا فرق بيننا، ربما كنت أسوأ حالاً منه.

وفي مكان آخر من المعسكر كان يدور هذا الحوار بين أفراد من الجيش مجتمعين للطعام. ووقت الطعام يمثل فترة استراحة للجنود، يلتقون ويتحدثون، يروون ما سمعوه أو شاهدوه مما يظنون أنه يستحق الحديث.

قال أحدهم يسأل رفاقه وهم بانتظار الغداء: هؤلاء الذين سنواجههم غداً أو بعد غد، هل تعرفونهم؟! هل هم مشركون أم مرتدون أم خارجون عن الإسلام، أم مسلمون مثلنا؟ فالأنباء مختلفة بشأنهم.

لقد سمعت الأمير عبيد الله يقول لبعض جلسائه قبل أن نأتي إلى هنا، إنهم مشركون كفار، وسمعته مرة أخرى، يقول عنهم: إنهم مرتدون، وإن قائدهم الحسين مرتد كأبيه علي الذي كان مسلماً ثم ارتد، وإن علياً هو الذي قتل الإمام الشهيد عثمان. هذا ما يقوله الأمير، سمعته منه. وحين يقول الأمراء، فعلينا أن نصدقهم. هل نستطيع أن نكذب الأمراء؟!

قال آخر: وما لنا ولهذا؟! لم تتعب نفسك فيه، ما دمنا سنقاتلهم؟! أهذا وقت سؤال، ونحن في ساحة المعركة، لا نعلم متی تبدأ، على أنها لن تتأخر. قد تبدأ اليوم أو غداً أو بعد غد في أبعد الحالات. قال هذا ثم التفت إلى الذي كان إلى جنبه. أليس صحيحاً ما أقول؟! ما لنا ولهذه الأمور؟ إنها ليست من شأننا. إننا هنا جنود للقتال، للقتال فقط. إن قتلنا فعلينا لعنة الله، لم يأتوا بنا إلا لهذا، وإن انتصرنا فغيرنا هو المستفيد.

٢٠٦

قال ثالث: إنه الحق والله. ولكن أتظن أن قتالاً سينشب بيننا وبينهم غداً إذا التقينا، أو بعد غد؟! أنا لا أظن، لن يكون قتال ولا معركة ولا شيء منهما. إنهم لا يزيدون على المائة. لن يستطيعوا القتال، وقد منعنا عنهم الماء، ولا يملك أكثرهم حتی فرساً يهرب عليه. سنحيط بهم من كل جهة. سنبيدهم مع بداية الهجوم. ماذا يفعل مائة أمام أكثر من خمسة آلاف، وآلاف أخرى لا عدد لها، من هنا إلى دمشق.

قال رابع، وهو ينظر إلى سيفه الموضوع إلى جنبه، يقلبه بين لحظة وأخرى: غداً سأرويك من دماء هؤلاء الفاسقين المارقين الخارجين على الدين. إنهم يستحقون القتل، حتى لو كانوا مسلمين وخرجوا على إمامهم. هكذا علمونا. لا والله لن أترك منهم صبياً ولا صبية ولا رضيعاً. هل يكون الابن إلا مثل أبيه. غداً موعدك أيها السيف. لن نبقي منهم أحداً سنستأصلهم.

قال الخامس وهو يضحك في وجوه أصحابه: أما أنا فقد حسمت أمري. ما لي وللحرب والقتال؛ سأتجه إلى خيام النساء.

لا رجال يحموهن ويدافعون عنهن. إنهن الغنيمة التي لا غنيمة مثلها. نساء بلا رجال؛ سأسلب كل ما أقدر عليه. لن يستطعن أن يمتنعن. لن أبقي شيئاً عليهن أستطيع سلبه. سأكون أول المهاجمين لخيام النساء، قبل أن يهجم الآخرون ويسبقوني إليها.

قال سادس وهو يصغي إلى حوارهم غير بعيد عنهم: والله ما أظن أحداً منكم قال صواباً، وما أظن أحداً منكم قال ما يؤمن به. إنكم تعرفون غير ذلك وعكس ذلك؛ لكنه الخوف الذي جاء بكم كما جاء بي إلى هنا معكم. إني لانكر نفسي الآن. لم أكن أتصور أن أقاتل الحسين يوماً، أو أن لا أكون معه وهو يقاتل. هل تعرف أنت - والتفت إلى أول المتكلمين - من هو عبيد الله بن زياد؟! لِم لا نستطيع أن نكذبه، حتى لو كان أميراً، حتى لو كان خليفة. من أين له هذه العصمة التي تمنعه من الكذب؟!

٢٠٧

ألمجرد أنه أصبح أميراً أو خليفة؟! ليس ابن زياد أكثر من مجرم يعين مجرمين، ويستعين بمجرمين وتافهين وجبناء مثلنا. هل تعرفون من تقاتلون غداً؟! إنه الحسين. الحسين الذي ثار من أجلي ومن أجلكم، من أجلنا جميعاً، لو كنا صادقين مع أنفسنا، ولو لا ما غشي على بصائرنا وضللنا بفعلنا وبفعل غيرنا. لقد كان الحسين يستطيع أن يفعل ما فعل سواه ويبقى في أي بلد من بلاد العرب شاء، آمناً مطمئناً، لكنها الأمانة التي أبى أن يحملها غيره، هي التي قادته إلى هنا، غير مبال بالموت ولا مکترث به، من أجلي وأجلكم. سيقتل الحسين غداً، سنقتله نحن.

هل تعرفون من هو الحسين؟! إنه ابن بنت نبيكم، ومعه أهل بيته الذين تريدون قتالهم غداً والهجوم على خيامهم وترويع نسائهم وأطفالهم وسلب ما عليهم مما لا يقدم عليه إنسان له دين أو خلق أو مروءة. هل تعرفون من هو أبو الحسين؟ إنه علي بن أبي طالب: قاتل المشركين وبطل الإسلام في جميع معاركه، وزوج بنت النبي والذي فداه بنفسه حين نام في فراشه، وقريش تطلب قتله. هذا هو الذي ستقاتلونه غداً، وأنا معكم. سأقاتله خوف أن أقتل. سأكون ظالماً آثماً في قتاله لو حييت، أو الى النار لو قتلت أو مت.

ثم انقطع الكلام. لقدكان العريف يقترب منهم.

٢٠٨

الفصل التاسع والأربعون

الحر بن يزيد القلق ثم الحسم

لم يستطع الحر أن ينام ليلة العاشر من محرم حتى صباحه. كان يتقلب على فراشه، ثم ينهض، ثم يعود، قلقاً مضطرباً، كمن يريد أن يصل إلى قرار في أمر أهم ولم يحسمه بعد. قرار خطير فيه الموت، وفيه ثكل الزوجة ويتم الولد وفجيعة الأبوين.

هذا هو القرار الذي أسهر الحر ليلة العاشر. كان عليه أن ينتهي فيه إلى رأي خلال ساعات، وقبل الصباح، على كل حال،

قال وهو يخاطب نفسه أخيراً قبل أن يتخذ قراره: ويحك يا حر، لو أن هؤلاء الذين تتحدث عنهم وتريد أن تتأسی بهم وتتخذهم لك مثلاً: عبيد الله وعمر وشمر وشبث وغيرهم. لو أنهم سرقوا وخانوا أمانة وفروا من قتال، أكنت فاعلاً فعلهم، تسرق وتخون وتفر؛ لأن بعضاً ممن لا خلق لهم ولا دين ولا حياء فعلوا ذلك؟! أليس لك أسوة بمن هو خير من هؤلاء؟!

أيكون زهير بن القين، العثماني الهوى كما تعرف، أفضل منك؟!

أيكون هؤلاء الذين رأيتهم في الطريق يلتحقون بالحسين، سعداء راضين مطمئنين، أفضل منك؟! لقد اختاروا وسعدوا، ولهم أيضاً زوجات وأولاد وآباء وأمهات، فما الذي يمنعك من الاختيار وحسم أمرك حتى الآن؟! ما هذه الحيرة والتردد؟! أهو الخوف من الموت، ولم يكن الموت بعيداً عنك يوماً؟! كان دائماً قريباً إليك في كل قتال تخوضه. أكنت محصناً من الموت؟! أتدري كم ستعيش بعد اليوم، إن لم تمت مع الحسين؟!

وانتهى الحوار. انتهى باختيار الانضمام إلى الحسين والاستشهاد معه، تاركاً الزوجة والولد والأبوين، والجاه والمال.

وفي الصباح خرج الحر من معسكر عمر ومعه قراره؛ كان سعيداً به ليس بينه وبين الخلود الآن إلا مسافة قصيرة، هي هذه التي تفصله عن معسكر الحسين.

كان أول من لقيه من أصحابه، هو قرة بن قيس، دار بينهما حديث قصير، لم يخبره الحر بما عزم عليه. أقصى ما تصوره قرة، وهو يصغي إلى حديث الحر، أنه قد يتنحى فلا يشهد القتال ضد الحسين. هذا قد يكون أقصى ما تصوره.

٢٠٩

وكان جيش عمر بن سعد يستعد للهجوم على معسكر الحسين، والحر أحد كبار قادته المعروفين بالشجاعة. لم يخطر على بال أحد منهم أن يكون قائدهم ينوي الالتحاق بالحسين وهم يرونه يدنو من معسكره. كانوا يظنونه يستعجل المعركة، وهو يتقدم الصفوف باتجاه معسكر الحسين.

قال المهاجر بن أوس، أحد أفراد قبيلة الحر، وهو يرى الحر يبتعد عن معسكر عمر ويدنو من معسكر الحسين: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟

لم يجب الحر. اكتفى بنظرة إلى المهاجر لم يفتهمها هذا. فعاد المهاجر يسأله: والله إن أمرك لمريب، وما رأيت منك في موقف قط مثل ما أراه الآن، ولو سئلت من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك.

مالي أراك ترتعش وكأنك لم تدخل حرباً قط ولم تشارك في قتال، وقد أمضيت عمرك فيه مخاطراً بحياتك، مهاجماً، أو مدافعاً حين يتراجع الآخرون أو ينهزمون؟

قال الحر بوضوح هذه المرة: والله ما بي شيء مما تظن؛ لكنني أخير نفسي بين الجنة والنار، بين الحسين ويزيد، وقد اخترت، وضرب فرسه نحو معسكر الحسين.

وفهم المهاجر ما لم يفهمه من نظرة الحر في أول اللقاء. قال شبيب بن الحارث وهو يرى الحر مقبلاً لكنه لا يتبينه: أرسول من عمر في هذا اليوم، وهو يوم قتال، لا رسائل فيه ولا رسل.

قال عامر: إنه يقترب بكامل سلاحه. كأنه الحر. إي والله هو     هو، الحر مرة أخرى. إنه الحر الذي صحبنا من شراف وجعجع بنا. ماذا يريد الآن، وليس بعد القتال شيء يحذّره الإنسان أو يخافه؟!!

وقبل أن يكمل كلامه، كان الحر قد بلغ المعسكر ليكون من أوائل المستشهدين في المعركة مع الحسين.

٢١٠

الفصل الخمسون

صباح العاشر من محرم

عندما يتوحش الإنسان

الأصوات تتعالى في معسكر سعد مزمجرة هائجة خشنة، ليس أخشن منها إلاّ طباع أصحابها.

طبول الحرب تقرع معلنة بدء الزحف. السيوف مجردة من أغمادها في استعراض غريب والرماح تهتز بأيدي مجرمين هوايتهم القتل.

عمر بن سعد يتقدم الجموع الزاحفة يحيط به من جانبيه مجرمون مثله: شمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي وآخرون.

قال عمر وهو يعطي لأفراد الجيش آخر أوامره قبل الزحف: لا ترحموا أحداً، لا طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً، كلهم سواء. كلهم دمهم مباح لكم. هذه هي وصية الأمير عبيد الله إليكم. لا تأخذكم بالمجرمين المارقين رحمة ولا عطف. فترتفع الأصوات في لحظة غياب كامل للضمير وفقدان الإنسان لإنسانيته: نحن طوع الأمر،   سنسر الأمير ونقر عينه.

لن نبقي أحداً منهم، ولو شاء، بدأنا بالأطفال أولاً، سنذبحهم أمام أمهاتهم. ثم كرروا هتافهم للأمير عبيد الله ولأمير المؤمنين ناصر الإسلام: يزيد بن معاوية.

قال شمر وقد بدأ مسروراً بما سمع: بارك الله فيكم؛ هذا هو رأي الأمير في إخلاصكم ووفائكم، ولن يبخل في مكافئتكم على قدر بلائكم. سيضاعف المكافأة لمن يتقدم على سواه في تنفيذ أمره. وهذا قائدكم عمر يضمن لكم مكافأآتكم. الزموا وصية أميركم، أقرّ الله عينه بكم. إن هي إلا ساعة من نهاركم هذا، ثم لا يبقى أثر لهؤلاء المجرمين.

وتقدم جيش عمر باتجاه معسكر الحسين.

قال أحد أفراد الجيش وهو يرى مسروق بن وائل - أحد أفراد نفس الجيش - خارجاً من الصف: مالك يا مسروق خرجت من صفك؟! عد إلى مكانك فيه. سيعاقبك الآمر لو رآك.

٢١١

قال مسروق: كأنك لم تسمع مقالة عمر وشمر! إني أريد أن أكون في أول الجيش، لعلّي أصيب قبل غيري من قدرت أن أصيبه: الحسين أو أحد أهل بيته أو أصحابه أو عياله وأطفاله فتضاعف لي الجائزة. لابد أنها ستكون أكبر من جوائز الآخرين. أليس هذا هو ما وعدنا الاثنان؟!

لم يسر الجيش إلا قليلاً، حين بدا من بعيد فارس يسرع متجها إلى مقدمة الجيش. ويتوقف الزحف، ويسلم الفارس رسالة من الأمير عبيد الله إلى قائد الجيش عمر، ثم يتسلم جوابها ليعود بالسرعة التي جاء بها.

كانت الرسالة تحث عمر على الجد في قتال الحسين ومن معه وأخذهم بمنتهى العنف والشدة، وأن يقطع رأس الحسين بعد ما يقتل ويوطأ جسده بالخيل، وأن تحرق الخيام على من فيها. الأمير يؤكد مما سبق أن أمر به عمر، وهو يوليه قيادة الجيش.

تلك كانت رسالة عبيد الله إلى عمر بن سعد.

ويستأنف الجيش زحفه نحو معسكر الحسين الذي بدا قريباً؛ على مرمى السهم.

وتناول عمر قوساً كان يحمله صاحب رايته، قال وهو يصوب السهم نحو معسكر الحسين: اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمی. قال ذلك وهو يمر يده على شارب غليظ خرجت من تحته ضحكة هستيرية مجنونة.

وغضب شمر، كان يريد أن يكون هو الأول. قال لعمر وهو لا يكتم غضبه:

ما على هذا اتفقنا يا ابن سعد. ألم تكفك إمارة الري فتطلب الزيادة؟! ثم تحرمني أن اكون أول من يرمي ويبدأ القتال، ولن يساوي هذا شيئاً مما نلته؟! أنفست علي حظوتي عند الأمير؟!

وابتسم عمر وربت على كتفي شمر مطمئناً إياه: لن تنقص جائزتك. ستتضاعف، ولن تقل حظوتك. سأعظم دورك عند الأمير يا شمر يا ابن ذي الجوشن. هل رضيت؟! أبقي في نفسك شيء من القائد عمر؟! ورضي شمر وبادل عمر الابتسام.

٢١٢

الفصل الحادي والخمسون

صباح العاشر من محرم

معسكر الشهادة

أربعون فارساً وستون راجلاً لا خيل معهم، ذلك هو عدد جيش الحسين. لكن كانت معهم القضية الكبيرة التي يحملونها ويستعذبون الموت من أجلها: قضية الإنسان. لقد أصبحت جزءاً منهم. لم يكن الموت يخيفهم ولا يشغل بالهم. إنهم ملاقوه اليوم، بعد ساعة، أو أقل أو أكثر.

أحلهم الحسين من عهدهم له، آخر مرة، في الليل، قبل ساعات من بدء المعركة، فأبوا. أصروا على البقاء وعلى القتال وعلى الاستشهاد. يعرفون لماذا يقاتلون، لا يفكرون في كثرة عدوهم وقلتهم، إنهم يعرفون، وقد اختاروا. يبتسمون راضين مطمئنين. أأكثر من الموت؟! ما أهونه ثمناً حين تكون القضية بحجم ما يحملون! ولو قتلوا ثم عادوا إلى الحياة، لما فعلوا غير ما يفعلونه اليوم؛ ذلك ما اعلنوه واكدوه على طول مصاحبتهم للحسين.

قال يزيد بن الحصين في صباح العاشر، وهو يرى حبيب بن مظاهر خارجاً من خيمته يضحك: ما هذه ساعة ضحك يا ابن مظاهر! فيجيبه حبيب: وأي موضع أحق من هذا بالضحك والسرور، وما بيننا وبين الشهادة إلا أن تلتقي السيوف؟!

وفي طرف المعسكر حيث خيم النساء، كان مشهد آخر. مشهد سيصبح جزءاً من ملحمة كربلاء، لا يتم الحديث عنها إلا بالحديث عنه؛ الأطفال يتضورون جوعاً وعطشاً. إنهم أطفال لا يحتملون ما يحتمله الكبار، وربما لا يحتمله حتى الكبار. يبكون فلا تملك الأمهات ما تدفع به البكاء عنهم، فيبكين معهم. لا طعام ولا ماء. كل شيء نفد في المعسكر، حتى الحليب يبس في صدور الأمهات. والشريعة القريبة منهم، يحرسها من جهة الحسين خمسمئة فارس بكامل أسلحتهم يمنعون من يدنو منها.

٢١٣

صاح الحر بن يزيد الذي التحق بالحسين قبل قليل من نفس اليوم: ويحكم أتمنعون الأطفال والنساء من الماء الذي هو حلال حتى للحيوان؟! أعرب أنتم؟! أمسلمون؟! أبشر؟! إن ما تفعلونه لم يفعله أحد قبلكم غير معاوية أبي هذا الفاسق الذي تقاتلون من أجله. ويحكم هلاّ تبتم مما أنتم فيه. والله إن كنت ألوم نفسي على شيء الآن، فعلى أني كنت يوماً منكم. سأغسل عني إثم ذلك اليوم أيها المجرمون، ولا يزيدنا ما تفعلون إلا بصيرة بكم وإصرارا على قتالكم. فرماه رجال عمر بالنبال وهم يصيحون: لا والله. لن يذوقوا من الماء قطرة حتى يموتوا عطشاً، حتى يموتوا كلهم عطشاً، وأنت معهم يا حر.

٢١٤

الفصل الثاني والخمسون

المعركة

جيش عبيد الله بن زياد يقف في مواجهة معسكر الحسين ينتظر أمر الهجوم من قائده عمر. الحسين وأنصاره يعظون أفراد الجيش الذين يسمعونهم الآن ويرونهم. ينادون من يعرفونه منهم. يكلمونهم ينبهونهم إلى خطئهم، وأنهم يقاتلون عن باطل، إنهم يظلمون أنفسهم ويظلمون غيرهم بهذا القتال، ويطلبون منهم أن يرجعوا ويعودوا إلى الصواب مادام الوقت لم يفت بعد. هذا ما يستطيعون أن يفعلوه لهم قبل القتال. آخر ما يستطيعون، وكل ما يستطيعون، لعل فيه ما ينفع، وليس بعده من عذر أمام الله وأمام النفس.

وأعلن عمر الهجوم...

وزحف الجيش: سيوف ورماح وسهام ومشاعل تقذف اللهب. وتواجه على أرض كربلاء الإنسان في أسمى وأروع صوره، مع الإنسان في أدنى واحط صوره.

واستمر القتال بين الألوف وبين المائة نهاراً كاملاً. وقاتل أصحاب الحسين قتالاً لم يعرف التأريخ أبسل ولا أنبل منه. كان آخر ما ينطق به أحدهم وهو يموت: أن يوصي رفاقه بالاستشهاد مع الحسين.

قال حبيب بن مظاهر وقد أدرك مسلم بن عوسجة في آخر رمق: أوصي، مع أني لا حق بك بعد قليل.

قال مسلم، وكان أول قتيل من أصحاب الحسين بعد بلاء لم تعرفه إلا أرض كربلاء: أوصيك بهذا، ورفع بصعوبة يده مشيراً إلى الحسين الذي كان قد سبق إليه حين عرف أنه صرع. كان صوته يزداد ضعفاً وهو ينطق اسم الحسين، ثم أغمض عيينه.

وكان الثاني الذي قتل هو أبو وهب، عبد الله بن عمير، بعد أن قاتل قتال كربلاء. جاءت زوجته أم وهب إليه بعد أن قتل، تودعه وتهنئه بالشهادة وتمسح التراب عن رأسه ووجهه، فما كان من شمر بن ذي الجوشن إلا أن أمر بقتلها، فلحقت بزوجها لتكون أول قتيلة في كربلاء.

ثم تتابعت مصارع الأبطال من أنصار الحسين.

٢١٥

قال شبيب بن الحارث مذهولاً، وهو يرى تسابق الأنصار إلى الموت: قل لي يا عامر، ولم يكن عامر أقل ذهولاً منه: أليس هو الموت الذي نخافه ونحذره ونفر منه؟! أليس هو أكره شيء للإنسان؟! كيف يصبح مطلباً له؟! كيف يتحول من عدو إلى حبيب يسارع إليه حريصاً على لقائه وكأنه يخشى أن يفوته؟! كيف يصبح الموت أمنية يا عامر، يتسابق إليه هؤلاء الأنصار؟! قل لي: ماذا فعل الحسين بهؤلاء؟! لقد جعل منهم أبطالاً سيخلد التأريخ أسماءهم في الصفحة الأولى من كتاب الأبطال.

قال عامر: بل لأنهم أبطال، اختاروا الحسين ولحقوا به واستشهدوا معه. أيهم لم يكن بطلاً؟! حبيب بن مظاهر؟! مسلم بن عوسجة؟! زهير بن القين؟! الحر بن يزيد؟!... وراح يعدد بعض من قتل من الأنصار، من منهم لم يكن قادراً على أن يتجنب الموت فأبى إلا الموت، دفاعاً عن قضية الإنسان التي حملها الحسين، فحملوها معه.

وجاء دور آل الحسين، وكان أول من قتل منهم علي الأكبر - ابن الحسين - وآخر من قتل أخوه، أخوه العباس بن علي، بعد أن قدم إخوته الثلاثة - لأمّه وأبيه - قبله للشهادة.

وكان أحد أخواله من أصحاب عبيد الله بن زياد قد جاء بأمان من عبيد الله له ولإخوته الثلاثة. قال وهو يناديهم ويرفع يده بكتاب

الأمان: هذا أمان لكم من الأمير، فهيا، تعالوا معي، إن أخوالكم ينتظرونكم، وسيسرهم سلامتكم وعودتكم.

قال العباس وإخوته الثلاثة بصوت واحد: ليس المجرم بخال لنا، ولا صاحب ابن مرجانة بخال لنا. لا حاجة لنا بأمانك، أعده إلى من كتبه، أو مزقه إن شئت. ثم عادوا إلى المعسكر.

وكان العباس حامل راية الحسين منذ غادر مكة، لم تسقط إلا بقتله. قُطعت يده اليمنی فحمل الراية بيسراه، وقطعت اليسرى، فاحتضن الراية. اخترق الصفوف ووصل الشريعة وأراد أن يشرب، فتذكر من في المعسكر: الحسين والآخرين من أنصار وأهل وأطفال. فترك الماء وأبى أن يشرب قبلهم وعاد، ومعه بعض أصحابه بالماء، لولا أن تمزق القربة سهام مجرمة كانت ترصدها.

٢١٦

كان العطش قد أضر بالأطفال. جاءت الرباب زوجة الحسين، بابنه الرضيع عبد الله وقد يبست شفتاه من العطش، ولا ماء عندها تعطيه، ولا حليب، جف الحليب في صدرها؛ فخرج الحسين به وطلب من جيش عمر أن يسقوا الطفل. إنه رضيع لا قتل عليه، حتى لو استحق الكبار القتل. وإن بعض الماء سيعيد إليه الحياة.

قال بعض الجنود لبعض وهم يرون الطفل: والله ما للطفل من ذنب إنه يكاد يموت في يد أبيه، وفي شربة ماء ما يعيد إليه الحياة. ولن تضعفنا حياته، ولن تزيد من قوة الخصم. ماذا لو سقيناه ومنعنا عنه الموت؟!.

لماذا يرفض قائد الجيش أن يعطوه الماء؟!

واتسع الكلام بين الجنود وانتقل من بعض لبعض، مثيراً معه كلاماً آخر يتجاوز الطفل.

وخشي عمر أن يتطور الأمر ويتحول إلى ثورة قد تطيح به وبأميره وبنظام الحكم كله؛ فأسرع يطلب من أحد المجرمين الذين قطعوا كل ما يصلهم بالإنسان، هو حرملة بن كاهل، أن يقتل الطفل ويحسم الموضوع قبل أن يتسع أكثر ويصعب علاجه. ولم يتردد حرملة، سدد سهمه إلى الطفل وهو بين يدي أبيه. فاضطرب للحظات قبل أن يميل رأسه، والدم يصبغ وجهه وملابس الأطفال التي تلفهم بها الأمهات.

قال شبيب وهو يرى الحسين عائداً والطفل بين يديه، يصبغ الدم جسمه: والله يا عامر، ما أظن أحداً قبل اليوم ولا بعد اليوم، يمكن أن يفعل هذا، ولا دون هذا. والله لقد أنسی الأمويون جرائم المجرمين قبلهم، وسهلوا الطريق على المجرمين بعدهم. لن انسى هذا المنظر أبداً.

سيبقى ماثلاً أمام عيني. لعن الله يوماً وضعتك فيه أمك يا ابن مرجانة، ولعن الله يوماً تسلطت فيه على الناس. أرأيت إلى الإنسان حين يفقد الإنسان في داخله، حين يتحول إلى وحش يركض وراء الدم ويتلذذ به ويعيش عليه!!

لم يجب عامر. كان الدمع قد منعه من الجواب.

٢١٧

الفصل الثالث والخمسون

سلام على أرض كربلاء

الشمس تميل نحو الزوال في العاشر من محرم. الأنصار مصرعون، وآل الحسين إلى جانبهم. قد امتزج دم بدم وتعانق شهيد وشهيد. أشلاء متناثرة لأبطال سيبقون حروفاً بارزة كبيرة في سجل التأريخ. نعم حاملو قضية الإنسان هم.

النساء والأطفال يحيط بهم جيش متوحش يستعد للهجوم، ولا رجال يحمونهم. يرتعشون مذعورين وهم يرون السيوف مشرعة إليهم. ومشاعل اللهب تحملها أيد غلاظ، وعيون تتقد حقداً تخيف أكثر من مشاعل اللهب. إنهم يرونهم ويسمعون تهديدهم. لن يتأخروا، سيهجمون سيحرقون الخيام، سينتزعون الأقراط من الآذان. سيتسابقون في سلب النساء ما عليهن، لن يتركوا لهن إلا ما لا يستحق السلب. سيروعوهن ويخيفوهن. سيجربون (بطولتهم) مع من لا رجل معهم. ستدوس الخيل بسنابكها من في الخيام من نساء وأطفال. سيفعلون هذا وأكثر من هذا بعد مقتل الحسين، وقد فعلوه وفعلوا الأكثر. إنه الحقد الذي لا حدود له. سيكشف الإنسان عن أقبح ما ينحط إليه الإنسان.

بضع خيام لا تضم إلاّ نساء وأطفالاً. هذا هو العدوّ الذي يستعد للهجوم عليه، جيش عمر بن سعد، ذو الألوف من المشوهين والمجرمين.

الحسين وحده، شامخاً عالياً كما هو. لم يبق معه إلاّ الحسين، وما أعظم من بقي معه!! وهل يحتاج الحسين أن يكون معه غيره؟! إنه أكبر من جيش بني أمية. أكبر من كل الجيوش. أكبر من الموت، فهو يسخر منه. كان ينتظر القتل منذ خرج من المدينة. يعلم أن رسالته لا يحققها إلا دمه. لم يفرض عليه القتل، ولم يأته مجبراً ولا مكرهاً.

وكان هذا ما يخيف جيش الأمويين. ماذا يستطيعون أكثر من الموت يخوفون به. والحسين يتحداه، ويسخر منه... ومنهم.

كانوا يريدون أن ينقذوا أنفسهم من شعور الصغار والمهانة فيستعجلون قتل الحسين. يسرعون إليه. يحرض أحدهم الآخر ويشجعه. لا أحد يجرؤ، يضعفون ومعهم كل القوة. أمر لا يخضع للقواعد والمقاييس، ولا تفسره القواعد والمقاييس.

٢١٨

ويصيح عمر مهتاجاً قد تملكه الغضب: ويحكم ماذا تنتظرون؟! إن الحسين وحده، لا أحد معه. سيحرمكم الأمير مكافأتكم وجوائزكم.

وأندفع جيش عمر نحو الحسين: سيوف ورماح وسهام... وصرع الحسين؛ شاركوا كلهم في مصرعه، كل المجرمين والطغاة. لكن الحقد لم يصرع. لم يكف المشوهين قتله، ولم يشف حقدهم، فأمر ابن سعد عشرة من مرتزقة جيشه بأن يطؤوا جسده بعد أن يقطع رأسه. يريدون أن يطمئنوا إلى أنه قتل ولن يخيفهم بعد اليوم. ولم يطمئنوا، ولم يزل خوفهم. بقي يخيفهم بعد مصرعه كما كان قبل مصرعه، هم وكل المجرمين والطغاة.

وصرع الحسين وفي الأفق كانت تتشكل صورة معركة فيها دم وفيها أشلاء، وفيها رؤوس مقطعة وأطفال مذعورون، ونساء تسلب، ورجال يشعلون النار، وسيوف تتقاطع بين الخيام وخيل تجول داخلها، وغبار يرتفع ودخان يلف المخيم.

وبطلة تتحمل دورها في هذا المشهد ثابتة رابطة، تعض على الجراح لتعالج موقفاً لا يقوم فيه أقوى الرجال، وينهار فيه أقوى الرجال؛ إنها أخت الحسين: زينب التي ستكون بطلة هذا المشهد، وبطلة المشهد القادم حين تواجه عبيد الله، ثم حين تواجه يزيد. ثم في فصول أخرى من فصول هذه الملحمة.

وجرى الدم في كربلاء، ليجري في كل مكان وزمان بعد كربلاء.

لا حرمة لأحد ولا لشيء بعدها. كان يوم الحرة ويوم الكعبة، وكان القتل والاستباحة للإنسان، وكان يزيد وعبيد الله، ومايزال يزيد وعبيد الله.

أية كربلاء! أية لوحة بطولات أنت!! والله ما حرت في تحديد البطل، كما حرت وانا أريد أن أحدده في كربلاء. كلهم أبطال. ليس فيهم إلاّ بطل.

أية مدينة تستطيع أن تفاخرك أو تساويك؟! ما أسعدك وأنت تحتضنين كل هذه البطولات!!

كربلاء!

احزني إن شئت فخير الدماء جرت على أرضك.

٢١٩

أو افرحي إن شئت فخير الناس ضمّت أرضك.

ولكن افخري دائماً بأن التأريخ الجديد للإنسان بدأ منك.

ويقف التأريخ مذهولا أمام هذا الذي يرى ويشهد. فما جرى في العاشر من محرم، ما كان لبشر أن يحتمله أو يحتمل بعضه، إلاّ أن يكون استثناء في الحياة، وكان الحسين هذا الاستثناء؛ كان استثناء في الحياة، وسيبقى استثناء فيها.

هنا يقف التأريخ يتحدّى المزورين والكذابين والمشوهين، ويفضحهم.

هنا يكتب التأريخ نفسه، ولا يدع الآخرين من المقبوحين والمأجورين والمنافقين يكتبون ما لم ير ولم يشاهد، ولم يقل ولم يرو.

هنا يشرق التأريخ بدم الحسين.

هنا سيصنع التأريخ الجديد الذي يفخر بالإنسان ويفخر به الإنسان.

هنا لا في مكان آخر ينبت الدم نبلاً وسمواً وإيثاراً وفداء ...

ما أعظمك يا حسين ...

لقد آمنت بك عاطفة

ثم آمنت بك فكراً وعاطفة

لقد سقيت بدمك طريق الصراع الدائم بين الخير والشر؛ فاسمح لي أن أجعل منه عنواناً لكتابي هذا: (ويستمر الصراع )

سلاماً يا حسين...

سلاماً سلاماً سلاماً ولا أملك غير السلام

٢٢٠

221

222

223

224

225

226