ويستمر الصراع

ويستمر الصراع0%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 226
المشاهدات: 62682
تحميل: 4329

توضيحات:

ويستمر الصراع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62682 / تحميل: 4329
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال الأوّل: وماذا بعد؟ فما بعد هو المهم، هو ما أريد معرفته.

ما الذي قالوه مما لم تعرفوه قبلاً حتی أسرعتم إلى بيعة لم نتفق عليها ونقض بيعة اتفقنا عليها؟!

قال الثاني: وقبل أن يتكلم أحد منا. وقبل أن تتم مبايعتنا لسعد، أخذ أبو بكر الكلام فقال. (... فهم - يعني قريشاً - أول من عبد الله في هذه الأرض وآمن بالله وبالرسول...).

قال الأوّل: أكان صعباً على الأنصار أن يردوا على أبي بكر وهو يدل بسبق قريش إلى عبادة الله والإيمان به، قائلين (إن الدخول في الإسلام فضل من الله على من دخله. سيكون ثوابه الجنة في الآخرة والصلاح في الدنيا، وهو لا يعني الحق في الحكم، وليس أحدهما ملازماً للآخر ولا سبباً له. لقد دخلنا الإسلام، والله يعبد على خوف والإسلام بعد ضعيف تحيط به المخاطر من كل جانب، والمسلمون معدودون يتخطفهم قريش وتعذبهم كما تريد، لا يستطيعون حماية لأنفسهم، فقوي بنا الاسلام وعز، وقويتم بنا وعززتم. هاجرتم إلينا هاربين خائفين، فآويناكم وحميناكم، وقاسمناكم الأرض والمال، وقاتلنا وقتلنا دفاعاً عن الإسلام والمسلمين. وكان قتلى الأنصار في حروب الإسلام أضعاف أضعاف قتلى المهاجرين من قريش وغير قريش. فإن كان لكم فضل، فلنا مثله أو أكثر منه. وأنت يا أبا بكر، ما كنا لننكر فضلك وسابقتك. ولكن أكان دخولك الإسلام بقصد الحكم؟! أكنت تفكر في الحكم منذ دخلت الإسلام فجئت الآن تطالب به؟! وما شأن هذين اللذين معك، وهما لم يدخلا الإسلام الا بعد ما دخله الكثيرون، ولم يعرف لهما موقف في كل حروب الإسلام؟ أهما معك لتتقوى بهما؟! أترانا نرفضك وحدك ونقبلك مع هذين؟! ما الذي منعكم من الجواب؟!

قال الثاني: كان سعد موعوكاً قد تزمل بملابسه ولا يستطيع الكلام، وإلى جانبه يقف الحباب بن المنذر بن الجموح.

٢١

قال الأول: وأسيد بن حضير وبشير بن سعد! ماذا فعلا؟ لِم لم يردا؟!

قال الثاني: هما والله أصل الفشل ووراء كل ما جرى في ذلك اليوم، كنت أراقبهما جيداً. كانت علائم الرضا والسرور تعلو وجههما وهما ينصتان لأبي بكر. ينصتان باهتمام مثير وكأنهما يطلبان من الآخرين أن ينصتوا إليه ليقتنعوا بما يقول. وإذا حاول أحد أن يبدي رأياً أو معارضة طلباً إليه عدم المقاطعة والسكوت ليمضي أبو بكر في كلامه الذي هيأه لهذا الاجتماع، كنت أشعر وأنا أراهما، إنهما يبيتان أمراً ما، كانت عيونهما تستعرض الوجوه ولا تکفان عن الدوران. كان كل شيء يشير إلى ذلك، لكن لم أتصور أنهما سيذهبان إلى حد خيانة الأنصار ونقض ما تمّ الاتفاق عليه. لماذا؟! إنهما من سادة الأنصار وكانا بين الموافقين على تولية سعد. أية مصلحة لهما في نقض الاتفاق. الوحيد الذي كان صوته يرعد في الجمع هو أبو عمرو الحباب بن المنذر الذي لم يدخر جهداً في تذكير الأنصار بما اتفقوا عليه وحثهم على الوفاء به. كان ناصحاً للأنصار لو سمعوا. لقد حذرهم فلم ينفع التحذير.

قال الأول: ثم ماذا قال بعد ذاك؟ إني لأظنه تكلم طويلاً في الاجتماع. لم يدخر جهداً ولا طاقة ولم يترك شيئاً مما يخاله نافعاً له إلا ذكره وأفاض فيه. إنه الحكم يا صاحبي يستحق منه ذاك وأكثر من ذاك. لكن اللوم، كل اللوم على من يسمع ولا يرد، وهو يستطيع الرد وقطع الحجة بأيسر الكلام وأقلّه.

قال الثاني: أكنت معنا في الاجتماع؟ أراك تتكلّم عن معرفة ودراية وكأنك حضرته.

قال الأول: لا عليك. ماذا قال أبو بكر بعد ذاك؟ وبماذا أجبتم؟

قال الثاني: ثم قال: (... ونحن أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده...).

٢٢

قال الأول: وسكتم؟! أأعياكم أن تقولوا في الجواب: (ومن يجهل أنكم من قريش عشيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كنتم من الأبعدين عنه، وهناك من هو أقرب إليه منكم وأمس رحماً، ونحسبكم تعرفونه. ولكن بم تطالبون؟ ما هذا (الأمر) الذي أنتم أحق به؟ الحكم؟! أكان الحكم ممّا يورث؟! ألا تعلم يا أبا بكر أن الأنبياء لا يورثون، حتى ما كان قابلاً للإرث؟ أنسيت حديث النبي إليك وحدك دون جميع المسلمين: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)؟! أليس ما تطالبون به الآن، هو الإرث نفسه بعدما مات المورث؟! فهل تريد أن تخالف ما أوصى به النبي إليك، إلا أن يكون عهد، عهد به إليكم بعد ذلك؟ فهاتوه، وإن كنتم رفضتم ما أراد أن يكتبه ويعهد به قبل وفاته. أليس ذلك صحيحاً يا عمر...؟! هل نسيت قولك تلك الليلة يا ابن الخطاب: (إن النبي ليهجر؟!!) ما كان ما أجرأك على الله وعلى رسوله!! وبعد، أليس المسلمون كلهم أولياءه؟! هل جعلتم رابطة النسب بديلاً عن رابطة الإسلام؟! والله إن أبا سفيان لأقرب نسباً منکم. کيف تطلبون هذا (الأمر) بالنسب وهناك علي، ابن عمّه وزوج ابنته وأبو سبطيه، المشغول الآن بتجهيزه؟ هلا استحييتم، وأنتم تطالبون بارث من تركتموه دون أن تلقوا نظرة وداع عليه!! والله ما رأينا أصحاباً أعق لنبيهم منكم). ثم ماذا قال؟

قال الثاني (... ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم...).

قال الأول: وسكتم أيضاً؟! ماذا دهاكم؟! أكنتم خرساً فتعذر عليكم الكلام؟! أين الشجاعة والبلاغة والبصيرة؟! أهناك أبسط من أن تردوا: (وهل أظلم ممن يدعي ما ليس له؟! أليس الأمر أمر المسلمين، جميع المسلمين؟! فلم يكون ظالماً من يريده ويطلبه منهم، كما تريدونه وتطلبونه؟! أليس المسلمون كلهم سواء، يسعى بذمتهم أدناهم؟! فما امتيازكم عنهم، ولم اختصصتم بالأمر دونهم، حتى يكون ظالماً مَن ينازعكم فيه؟!

ثم باسم مَن تتكلمون، ومن تمثّلون؟!

٢٣

إن كنتم تتكلمون باسم قريش، فليست قريش بأحق من غيرها ولا بأولى، وإن كنا نشك بأنكم تمثّلون كل قريش. ثم، أكان النبي يوصي بقبيلة كاملة، فيها المؤمن والفاسق والفاجر، ويترك ابن عمه وزوج ابنته ومن لا يعدل ببلائه في الإسلام، بلاء أي واحد منكم؟! وإن لم يوص فما امتياز قريش، و(الامر) أمر المسلمين، يولون من يريدون ويختارون؟! وربما لن تكونوا منهم؟

وإن كنتم تتكلمون باسم المهاجرين، فلم لا نرى بينكم، أحداً منهم:

عماراً أو أبا ذر أو عبد الله بن مسعود أو سواهم ممن نعرف من أهل الدين والسابقة والجهاد؟! لم أنتم الثلاثة وحدكم، وكلكم من قريش؟!

هذا ما كان على الأنصار أن يردوا به، وأكثر من هذا وأشد من هذا. أكان صعباً عليكم أم غائباً عنكم، أم كنتم تخشون هؤلاء الثلاثة لو واجهتموهم بما يليق بكم، ولستم الأقل ولا الأذل، جاهلية ولا إسلاماً؟!

ثم ما هذا الاستخفاف بكم وبعقولكم، وأبو بكر يعرض البيعة على صاحبيه، وهما يردانها عليه، وكأن كلا منهم زاهد فيها راغب عنها؟! ما الذي جاء بهم إذن، غيرها؟! تركوا نبيهم وجاؤوا يطلبونها. وها هم يخدعونكم بتنازل كل منهم عنها وإظهار الزهد فيها، وكأنها عبء لا يريد أن يتحمله. ألم يفكر أحد فيكم؟! ألم يسأل نفسه؟! أم ذهب بعقولكم الحسد والغيرة من بعضكم؟!

قال الثاني: والله لا أدري ما أقول.هذا ماجرى ذلك اليوم أنقله لك كما رأيته، لا حديثاً ولا روايه عن آخرين.

٢٤

قال الأول: وأنا ما قصدت بسؤالي أن ألومك أو أحملك مشروعية ماجرى، لكنني أفكر فيما سنواجهه في قابل الأيام. والله إنه الذل والمرارة نتجرعها عن رضا أو عن كره. لقد صنعناها بأيدينا. وسترى عاقبة الأمور. سترى قريشاً كما هي، عند ما تسيطر وتحكم. والله ليكون ندم الكبار قبل ندم الصغار. أببعض كلمات لا تقنع طفلاً ولا تخدع صبياً سلمتم أموركم لهم واسترحتم؟! أبمثل هذه السهولة؟! كأنكم كنتم تحملون حملاً أتعبكم فاسرعتم لإلقائه حتى تتخلصوا منه ومن تعبه!!

ثم أطرق برأسه طويلاً وهو يقول بصوت خافت: لعن الله من فعلها، لعن الله من فعلها.

٢٥

الفصل الرابع

البدايات

قريش الحاكمة

العباس، أبو سفيان

الحزن يلف المدينة، والليل يبدو أشد ظلاماً مما هو، والناس لا يتكلمون إلا بالدموع تجري فلا يمسحونها. إنها أول ليلة للمدينة، وقد وارت النبي التراب وودعته إلى الأبد. أهل المدينة يؤوون إلى مضاجعهم مبكرين، ليس لأنّ المجلس الذي اعتادوا السهر فيه قد فقد عميده والمتكلم فيه، ومن اعتادوا رؤيته وسماعه، أخاً ومرشداً وهادياً. ليس لكل ذاك فقط، بل لأنهم يحاولون أن ينسوا همومهم بالنوم إن استطاعوا أن يناموا. فهناك غير وفاة النبي وفراقه، وهو حزن سيلازمهم ما بقوا، هناك الخوف من الفتنة والخلاف. إن قريشاً تريد أن تستأثر بكل شيء بعد وفاة النبي، وهي تعد لذلك منذ زمن. لقد كسبت معركة السقيفة وأزاحت من طريقها سعد بن عبادة ومن يقف معه ويناصره. وبقي أمامها علي بن أبي طالب، الخصم الآخر أو الأخير الذي تريد التخلص منة. عليها أن تجرده من كل عناصر القوة التي يعتمد عليها، وتبعد عنه كل من تستطيع إبعاده من أهله وأصحابه وأنصاره. في صباح تلك الليلة. كان يعقد في بيت أبي بكر اجتماع ضم أبا بكر وعمر وأبا عبيدة والمغيرة بن شعبة.

قال المغيرة بعد أن استقر به المجلس إلى جانب أبي عبيدة: إني لأرجو أن يكون خيراً ما جمعتنا له يا أبا بكر.

قال عمر: إنه الخليفة الآن وليس أبا بكر يا أبا مطرف. أنسيت كم تعبناً حتى يكون الخليفة؟

قال المغيرة: ليس معنا غريب نحشمه يا عمر، والعهد قريب بالخلافة، لم يعتدها اللسان بعد.

قال ابوبكر: دعونا من هذا الآن لقد جمعتكم لأمر مقلق أريد أن أشاوركم فيه.

٢٦

بلغني أن عدداً من المهاجرين والأنصار ندموا على مبايعتي بالأمس، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المسلمين.

وسيتبعهم آخرون. وهذا يعني لو حصل، أن علياً هو المرشح لأن يتولاها، ويذهب عبثاً كل ما سعينا له وجهدنا فيه وما سنبقی نواجه بسببه اللوم والانكار من المسلمين حين تركنا النبي لم نشارك ولم نحضر غسله ودفنه. هذا ما رأيت أن أسمع رأيكم فيه. أنتركها لابن أبي طالب بعد طول ما تعبنا فيه لشق صف الأنصار وضمان بيعتهم. لم يكن الامر سهلاً معهم كما تعرفون. واعلموا أن العباس بن عبد المطلب لم يبايع بعد، وهو شيخ بني هاشم وعم النبي، وإذا مال إلى جانب ابن أخيه علي فسيكون الأمر في منتهى الصعوبة ولا آمن أن يفلت منا.

وأمر آخر أريد مشاورتكم فيه: هذا الذي سيطرقنا غداً أو بعد غد: أبو سفيان وأنا أخشى أن يثير لنا مشاكل جديدة ونحن لم ننته بعد من المشاكل السابقة.

قال أبو عبيدة: وماذا يرى خليفتنا؟ لابد أنه فكر طويلاً في الأمر، ولابد أن يكون قد وصل إلى رأي فيه، لا عدمنا رأيه.

قال أبو بكر: أريد أن أعرف رأيكم أولاً في هذا الأمر، فلعل فيه خيراً مما رأيت، نتفق عليه ونمضيه. ولن يبعد عليكم رأيي بعد ذاك.

قال الثلاثة: معاذ الله أن يكون فيما نرى خير مما يرى الخليفة. لقد كنت دائماً المدبر لنا، صاحب الرأي السديد. أكنا نستطيع خداع الأنصار والانتصار عليهم لولاك؟!

قال أبو بكر: ليس محل ذلك الآن، فهاتوا ما عندكم. وسنستمع إلى رأي عمر. فماذا عندك يا ابن الخطاب؟

وأبدى عمر رأيه - لكن الثلاثة سخروا منه. لم يكن فيه ما يقنع.

قال أبو بكر: وأنت يا عامر، يا ابن الجراح. ماذا عندك؟

قال أبو عبيدة: والله لم أنته بعد إلى رأي أرضاه، فلعل الخليفة يمنحنا من الوقت ما نقلب فيه الأمر على وجوهه لنصل إلى رأي واحد نرضاه ونذهب به إلى العباس.

٢٧

قال أبو بكر: أقول لك إن الأمر يكاد يفلت منا، وتقول: أمهلنا وقتاً نفكر فيه! أكنت سأدعوكم إلى هذا الاجتماع، في ثاني يوم من خلافتي، لو كان في الأمر متسع. ثم التفت إلى المغيرة قائلاً: وأنت يا مغيرة! ماذا ترى؟ هات ما عندك، أم أنّك كصاحبيك: بين من لا رأي له، وبين من لم يأت بالرأي المصيب.

قال المغيرة: أرى أن نذهب إلى العباس ونجعل له في الحكم نصيباً، ولعقبه من بعده. فإن رفض هو ما سنعرضه عليه، دفعه أبناؤه إلى القبول به، وهم شباب، يستهويهم أن يشاركوا في الحكم، كغيرهم من الشباب، خصوصاً شباب قريش. ونكون بذلك قد قطعنا جانب علي وأضعفناه، وأضعفنا حجته أمام المسلمين، وهم يرون عم النبي وشيخ بني هاشم قد بايع غيره وتركه.

قال أبو بكر: هذا هو الرأي. لكأنك كنت يا مغيرة في داخلي، وأنا أفكر في هذا الأمر. هذا هو الرأي الذي كنت سأبسطه لكم، لقد وافقتني يا مغيرة فيه، ولطالما كنت توافقني فيما أرى.

أما أبو سفيان فأرى أن تتنازل له عن أموال الزكاة التي يحملها معه، وأن نولي أحد أبنائه عملاً من أعمالنا. فأبو سفيان كما تعرفونه، رجل يحب المال والاسم، وبذلك نكون قد أرضيناه واسترحنا منه ومن طول لسانه وعبد مناف وابن أبي قحافة، والجاهلية والإسلام، وأعز حي وأذل حي من قريش.

ولم يكمل أبو بكر كلامه حتى صاح الثلاثة بصوت واحد: والله لقد ألهمت الصواب الذي كأنه الوحي، إنه الرأي الذي لا معدل عنه، ما أحسن ما رأيت! لقد أحكمت التدبير. ماذا كنا نصنع لولاك ولولا حكمتك. ليس عبثاً أننا اخترناك لها.

وعند حلول الظلام كان أربعة يتسللون نحو بيت العباس، الواحد بعد الآخر، وهم ملثمون لا يطؤون الأرض إلا بأطراف أصابعهم.

وطرق أحدهم الباب طرقاً خفيفاً.

٢٨

وصاح العباس من داخل البيت وهو يتهيأ للنوم: من الطارق وليست ساعة زيارة. ثم تابع بصوت خافت: نعوذ بالله من طوارق الليل.

وجاء صوت ضعيف من وراء الباب: أنا يا أبا الفضل. هلا فتحت لنا الباب.

وعرف العباس الصوت ومشي إلى الباب يفتحه. قال وهو يرى ثلاثة لم يميزهم كانوا يقفون ناحية من أبي بكر: ومن هؤلاء الذين معك يا أبا بكر.

  قال أبو بكر: ستعرفهم. دعنا ندخل أولاً. لا نريد أن يعلم بمجئينا أحد. ورفع الثلاثة اللثام عن وجوههم.

قال العباس وقد عرفهم: مرحباً بفرسان السقيفة يوم أمس. هيا ادخلوا على الرحب. ادخلوا لقد كنت على وشك أن أنام. منذ صباح الأمس، وأنا لم أذق النوم بعد فراق نبي الله.

ودخل الرجال الأربعة وأبصارهم زائفة تدور في كل اتجاه. وعاد العباس للترحيب بأبي بكر وصاحبيه قائلاً بلهجة فيها سخريه وتقريع وغضب: كيف كانت معرکتكم أمس؟ ما أظنكم إلا سعداء بما حققتموه فيها. لقد أجدتم تمثيل الأدوار وكل منكم يرد الخلافة على صاحبه، وكأنه زاهد فيها.

لماذا لا أرى معكم أسيد بن حضير وبشير بن سعد وعويم بن ساعدة؟! لماذا لم تأتوا بهم؟ ألم يكونوا حلفاءكم وشركاءكم في المؤامرة؟! والله لم يكن صعباً علينا ما أسرعتم إليه لولا الخوف من الله والوفاء لنبيه والرعاية للمسلمين. والله لن يفلح المسلمون بعدها أبداً وأول حكم لهم يقوم على الخداع والتضليل والمكيدة. لقد ركبتم بالمسلمين مركباً صعباً لن ينتهى بهم إلى خير. وسيرى من عاش منكم، الدم يخوضون فيه حتی الركب. والله لن يصلحوا بعدها ولن ينتفعوا. هذا هو الثمن الذي سيدفعه المسلمون. لقد زرعتم بينهم الفتنة والحقد والشقاق ما عاشوا، وسهلتم لهم الجريمه، يرتكبها من قدر عليها منهم.

٢٩

وخيم على الحاضرين سكون طويل قال أبو بكر بعده مخاطباً العباس بصوت مرتعش والكلمات تتقطع على لسانه: لقد جئناك يا أبا الفضل احتراماً لك واعترافاً بمقامك. فأنت عم النبي وشيخ بني هاشم ومن لا يجهل مكانه ولا يدانى في فضله. ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً، ولمن بعدك من عقبك. هذا ما جئناك به، فليس أحب إلينا من رضاك ومشاركتنا في تولينا.

قال العباس وهو يطيل النظر في أبي بكر: ومؤامرة جديدة يا أبا بكر بعد مؤامرة السقيفة؟! ألم تجدوا غير العباس تحاولون خداعه؟!

أظننتم اللعب سهلاً مع العباس؟! هل احترمتم النبي لتحترموا عمه وليس هو بأفضل المسلمين ولا من ذوي سابقتهم؟! لقد فعلتم مع النبي ما لا يفعله أحد مع أي من أهله وعشيرته، لا مع نبيه: قلتم إنه مات ولم يعد يضر ولا ينفع. بئس ما ودعتم به نبيكم!!

اسمع يا أبا بكر ولك الخطاب وحدك: هذا الذي تريد أن تجعله لي ولعقبي من بعدي. هل هو حق لنا أم حقك أم حق المسلمين؟ فإن يكن حقنا، لم نرض ببعضه دون بعض. وإن يكن حقك، فاحتفظ به لك ولا حاجة لنا فيه. وإن يكن حق المسلمين، فليس لك أن تتصرف فيه.

والله إن هي إلا رشوة أردتم بها إضعاف علي وفض المسلمين من حوله. ستصعد المنبر غداً لتقول: ها هو العباس عم النبي وشيخ بني هاشم قد بايع فما لعلي لا يبايع ويأبی إلا الخلاف.

أليس هذا ما كان يدور في رأسك ورؤوس أصحابك، وأنتم تقصدونني في مثل هذه الساعة من الليل؟! أترونني غافلاً عما تبيتون؟!

ونظر بعضهم إلى بعض دون أن يردوا بشيء، ونهضوا متجهين إلى الباب بعد أن أعادوا اللثام على وجوههم، والعباس يتبعهم بضحكة فيها أكثر من معنى.

في اليوم الثاني وصل أبو سفيان المدينة، وهو يحمل أموالاً كبيرة من زكاة المسلمين.

وكان أول ما سأل عنه:

٣٠

- من الذي تولى الحكم بعد محمد؟

قال عمر: لقد ولي المسلمون أبا بكر خليفة لهم. ألست سعيداً يا أبا سفيان بأن يتولى الخلافة مثل أبي بكر؟!

قال أبو سفيان وقد بدا عليه الغضب: وما لابن أبي قحافة والخلافة؟!

منذ متى كانت تميم تمد عنقها نحوها؟! مالي أرى الأمر في أذل حي من قريش؟! وماذا فعل آل عبد مناف؟! أرضوا بأن يخرج الأمر منهم ليستقر في تيم؟! إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم. والله لأملانها على أبي فصيل - يعني أبا بكر - خيلاً ورجالاً.

سيعرف أخو تيم قدره حين يجيش مرجل آل عبد مناف. قال ذلك وهو يلوّح بيديه مهدداً.

قال عمر: مهلاً يا أبا سفيان! مالك تزبد وترعد قبل أن تعرف ما ادخرنا لك ولا بنائك؟! أتروننا ننكر فضلك؟! أتروننا نستغني عنك؟!

وهدأ أبو سفيان قليلاً وزال منه الغضب وهو يسمع كلام عمر، ويريد أن يعرف ما فعله أبو بكر.

وتابع عمر: أما يرضيك يا أبا سفيان أن الخليفة ولى ابنك يزيد عملاً له في الشام؟

قال أبو سفيان وهو يمسح شاربين غليظين: وصلة رحم. ما أكرمه وأكرم فعله وإن كان من تيم!

قال عمر: وتنازل لك عما تحمل من أموال الزكاة. كل ما تحمل منها لك.

قال أبو سفيان: هذا والله الخليفة الأمين. نعم من اخترتم لخلافة المسلمين!

ثم قال وكأنه يحدث نفسه: والله ما فعلتم ذلك حباً بأبي سفيان ولكن خوفاً منه. رشوتموه وقبل الرشوة. كلانا سواء فيها، لا أحد أفضل من أحد. لن تكون آخر رشوة منكم. أعرف كيف أخوفكم وأستزيدكم منها.

وكانت رشوة أبي سفيان بتنازل أبي بكر عن أموال الزكاة التي حملها معه، سابقة متبعه فيها عثمان حين تنازل هو أيضاً عن أموال الزکاة التی حملها  كعب بن مالك، ثم حين تنازل لعمه الحكم بن أبي العاص عن صدقات قضاعة البالغة ثلاثمئة ألف.

٣١

الفصل الخامس

البدايات

قريش الحاكمة

حروب (الردّة)

لم يصدق أهل المدينة الأنباء التي تحدثت عن قرب تسيير أبي بكر الجيوش إلى بعض ديار المسلمين.

لماذا؟! ماذا فعلوا ليستحقوا ذلك من أبي بكر؟! إن دموعهم لم تجف بعد على نبيهم! أيام فقط!! ما الذي ينتظرهم إذن في قابل الأيام؟! أهذا هو أول ما يبدأ به خليفتهم بعد ما اطمأن واستثبت له الأمور، ببيعة الأنصار واستبعاد علي وسيطرة قريش؟! إن السؤال يرتسم على كل الوجوه وقد علاها الحزن والقلق والحيرة، وكأنها تتذكر يوم موت النبي.

قال كعب بن عمير للربيع بن حنظلة، وهو يراه خارجاً من بيت أبي بكر:

مالك يا أبا حنظلة مهموماً كئيباً؟! إني لأرى الحزن واضحاً في وجهك. أهناك ما يحزن بعد موت رسول الله، وقد أخذ الحزن معه؟!

قال الربيع: والله كان يعزيني عن فقد رسول الله، أن يكون لنا من أصحابه خلف يخففون وجدنا عليه، وإن كان وجدنا لا يخففه شيء.

قال كعب: وماذا حصل؟ أظنك كنت عند أبي بكر، وهو من أقرب أصحابه إليه وخليفة المسلمين.

قال الربيع: وهو سبب ما ترى من حزني. لم أكن أصدق ما يتردد من أنباء عن إرسال أبي بكر الجيوش لقتال المسلمين ممن تأخر في دفع الزكاة، فأردت أن أستطلع الأمر من مصدره، لعلّ الأنباء لا تصدق، وهي ليست صادقة دائماً. أو لعلها تبالغ فيما تنقل. وربما كان الرجل بريئاً مما نسب إليه ولا علم له به.

٣٢

قال كعب: وماذا وجدت مما أردت معرفته؟ هل كان الأمر كما سمعت، أم إن الرجل مكذوب عليه؟!

قال الربيع: ليت الأمر كان كما سمعت. لقد كانت الأنباء دون ما رأيته عند أبي بكر. كان متحاملاً عليهم كأشد ما يتحامل المرء على عدوه. يتحدث عنهم ولا يعوزه إلا أن يلبس عدة القتال، وإن لم يلبسها يوماً، ولم يعرف القتال في أي من معارك المسلمين.

أهذا هو الوفاء لرسول الله في امته يا عمير؟! لقد كان أبوبكر كمن يفتش عن سبب لقتالهم. كمن يحمل حقداً طويلا عليهم. لماذا؟! لماذا يا كعب؟! ماذا فعلوا؟! انها والله فجيعة اخرى، ولم ننس بعد فجيعتنا برسول الله.

قال كعب: وما هي الأسباب التي استوجبت قتالهم في رأيه؟ ألم تسأله، وقد كنت عنده؟ وان كان من نوى قتالاً، لا يحتاج إلى سبب أو اسباب.

قال الربيع وهو يحاول أن يتذكر كلمات أبي بكر: يقول إنهم حبسوا أموال الزكاة ولم يرسلوها إلى المدينة.

وإنه سيقاتلهم، حتى لو تخلفوا عن دفع عقال بعير - كما قال - مما كانوا يدفعونه لرسول الله. هل تعرف ما يعني بـ (عقال بعير)؟ يعني أنه سيقاتلهم حتى لو تخلفوا عن دفع ما لا قيمة له ولا ثمن ولا حساب.

هذا ما قاله لي، مؤكداً عليه كلما حاولت أن أثنيه عن عزمه. هذا هو سبب قتالهم: تأخرهم في إرسال الزكاة. بهذا استحل أبو بكر دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم. أهذا سبب لقتال المسلمين؟! ألا يمكن أن يكونوا معذورين؟! ألا يمكن أن يكون قد حال حائل دون إرسالهم أموال الزكاة، والمؤمن يحمل أخاه على خير المحملين ما لم يتيقن. ولقد كان رسول الله يلتمس العذر، حتى لمن أذنب، إذا رأى موضعاً للعذر عنده. والله نفسه يمهل عباده ويرخص لهم في الكثير من الأحوال.

قال كعب: وهل غاب ذلك عن أبي بكر وهو يقرر إرسال الجيوش إلى هؤلاء المساكين؟!

٣٣

قال الربيع: لم يغب عنه ذلك، لقد أراده. أراده عن تفكير وعزم سابقين. أترى تأخير الزكاة سبباً لقتل المسلمين وسبي ذراريهم ونهب أموالهم، وأبو بكر نفسه هو من تنازل عن أموال الزكاة ووهبها لأبي سفيان عند ما جاء المدينة حاملاً معه تلك الأموال؟!

أكان أبو سفيان أولى بأموال الزكاة من هؤلاء الفقراء، وهي أموالهم؟! ولم يكن أبو سفيان إلا جابياً لها، جمعها منهم. لم تكن أموال زكاته ولا زكاة قومه، ولم أسمع أنهم دفعوا زكاة، ولم أسمع أن أبا بكر طالبهم بها.

قال كعب: لكنهم لم ينكروا الزكاة، وانّما تأخروا في تسليمها، مفضلين توزيعها على فقرائهم، وما أكثرهم، وهم أحوج إليها من مسلمي قريش الجدد يتقاسمونها فيما بينهم، وينفقونها من غير حق على ذويهم وأقاربهم. وهل فات أبا بكر قول النبي لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن. لقد قال له: (إن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم...) ماذا يعني النبي في قوله: (وترد على فقرائهم)؟ لقد وزعوها في فقرائهم. فهل في هذا كفر؟! هل في اتباع قول رسول الله كفر؟! أيستحل أبو بكر قتل المسلمين لأنهم امتثلوا أمر رسول الله وأطاعوه؟! أكان عليهم أن يعصوه لينجوا من القتل؟!

قال الربيع وقد انفرجت شفتاه عن ابتسامة ساخرة: ولماذا الزكاة وحدها من فروض الإسلام، هي التي أثارت نقمة أبي بكر وغضبه وغيرته؟! لماذا الزكاة، لا الصلاة مثلاً، وهي مقدمة على الزكاة، وبها يتعارف المسلمون؟!

ألأن الصلاة لا مال فيها، والزكاة فيها المال، تشترى به الذمم ويستمال الأقوياء وتقام سوق الصفقات والمساومات، وأعط وخذ؟!

قال كعب: ألم أقل لك إنها قريش، ما تملك الحكم حتى تستعبد الناس. أنسيت يا أبا حنظلة؟

قال الربيع: معاذ الله! وهل ذلك مما ينسى؟! ولكن قل لي: أكنت تعلم الغيب أم تقرأ دخائل النفوس؟!

٣٤

قال كعب: لا هذا ولا ذاك، لكن أعرف قريشاً، أعرفها جيداً. إن الكثيرين منهم لم يدخلوا الإسلام إلا من أجل الحكم، بعد أن حاربوه طويلاً وفشلوا. إنهم يمثلون القوة التي ستحتكر الحكم وحدها دون باقي المسلمين، أو بالرغم منهم.

قال الربيع وهو يمسك بيد عمير: كفاني حزناً ألا يكون حديثي مع من لقيت إلا عن قتال المسلمين للمسلمين. أحس التعب يا عمير، علي أن أعود إلى البيت، أستودعك الله. قالها الربيع بصوت حزين ثم مضى.

وكانت حروب ما يسمی بالردة نكسة للإسلام وتشويهاً له، وعملية تضليل كبرى تعرّض لها المسلمون في أول حكم لهم بعد النبي مباشرة.

كانت رسالة واضحة شديدة بالغة العنف والشدة إلى جميع العرب بأن يذعنوا لقريش ويستسلموا لحكمها ولا يعارضوا أو يعترضوا على شيء مما تريده. ليس عليهم إلا الخضوع والطاعة، أو القتل والسبي والنهب والثكل واليتم.

هذه هي حروب الردة في حقيقتها. وهذا هو ما قصدته قريش منها وسعت إليه. وأي وصف آخر لها لن يكون إلا تبريراً للظلم ومشاركة فيه والتماس الأعذار لقريش في فرض سيطرتها على المسلمين واحتكار حكمهم وانتهاك حرماتهم في نفوسهم وأموالهم وإعراضهم. وهذا ما كان فعلاً، وما لا يقدر أحد على نكرانه، إلا أن ينسف التأريخ كله، وهذا ما حصل.

ما الذي فعله هؤلاء (المرتدون) كما سماهم الحكم وهو يحاربهم، وكما يصر المؤرخون حتى اليوم على وصفهم به؟!

هل أعلنوا العصيان؟! هل قطعوا الطريق؟! هل هاجموا المسلمين، أو اعتدوا على أحد منهم؟! هل كفروا بالله وخرجوا من الإسلام؟! هل عادوا إلى عبادة الأوثان واللاة ومناة وهبل؟!

لم يكن شيء من ذاك.

ماذا فعلوا إذن؟!

٣٥

إنهم ابطؤوا في إرسال الزكاة. هذا هو الذنب الكبير الذي لم يستطع أبو بكر أن يغفره لهم، وأقسم أنه سيقاتلهم، وبادر لإرسال الجيوش إليهم، وكأنه يريد أن يسد عليهم الطريق لتلافي هذا الخطأ، قبل أن يتلافوه وتسقط حجّته.

ما لأبي بكر معجلاً على المال، لا يتمهل ولا ينتظر؟! أكانت جباية الأموال يتنعم بها شباب قريش المترفون، أهم في نظره من دماء المسلمين؟! ولم تكن دماؤهم وحدها التي ستستباح، بل أموالهم وأعراضهم، وبيوت تنهب وذراري تسبى ونساء تثكل، وأطفال سيواجهون اليتم والعوز والتشرد.

ألم يستطع أبو بكر أن يجد بين أفاضل المسلمين وذوي الدين والسابقة منهم، من يبعثه إلى هؤلاء (المرتدين) يستطلع رأيهم ويعرف عذرهم، ثم هو بالخيار بعد ذاك، إن شاء، قبل العذر إن كان فيه موضع للقبول، وإن شاء رفضه. وسيكون معذوراً بعد ذاك في حربهم؟! أليس هذا هو ما يفعله من يبتغي الخير والإصلاح، ويستبعد جهده عن الحرب والقتل ما وجد إلى ذلك سبيلاً.

ما له لجأ ابتداء إلى الخيار الأخير، فعقد الألوية وعيّن الأمراء وسيّر الجيوش: أحد عشر جيشاً، وأحد عشر أميراً!! ماذا جرى؟! هل كان يريد أن يحارب الفرس أو الروم؟!

ما له يسرع إلى أصعب الخيارات، تاركاً كل الخيارات الأخرى؟! لماذا؟

لأنه يريد أن يوجّه هذه الرسالة أو هذا الإنذار إلى جميع العرب، بأنّ عليهم الطاعة التامة والخضوع المطلق لحكم قريش: ذلك كل ما هو مطلوب منهم وكل ما يستطيعون فعله. ليس لهم أن يراقبوا أو يحاسبوا، أو ينطقوا بلفظ أو يوجهوا كلمة نقد. وهم أحرار فيما سوى ذاك!!!

وتمر بضعة أسابيع قبل أن يلتقي كعب والربيع في نفس المكان الذي كان فيه لقاؤهما السابق.

قال كعب وهو يرى الربيع: آه! أبا حنظلة! ما أشوقني وأحوجني إليك! لقد مضى زمن لم أرك فيه. كنت متعباً في لقائنا السابق. أرجو أن تكون اليوم في حال أفضل يا أبا حنظلة.

٣٦

قال الربيع: كما ترى. لست أفضل. لقد تحقق ما خشيت منه وتخوفت. كيف يكون المسلم أفضل، وهو لا يرى ولا يسمع إلا دماً وبكاءً أين توجه، حروب الرده.

قال كعب: وعن هذا طليحة، أريد أن أسألك. ما الذي حصل، وكيف حصل؟! ولأبدأ بطلحة. كيف وصلت الأمور معه إلى ما وصلت إليه؟ ماذا فعل؟ ما حقيقة أمره؟ إني لا أعرف الرجل، وأنت تعرفه خيراً مني فهل ارتد عن الإسلام؟ هل صحيح ما يدعيه عليه أبو بكر ويتهمه به؟

كان ذلك أول الأسئلة التي طرحها كعب بن عمير على صاحبه الربيع ابن حنظلة.

قال الربيع وهو ينظر إلى كعب باستغراب: كنت أظنك أعقل من ذاك يا عمير! ألم تقل إنك تعرفه؟! فهل عرفت فيه ردة أو خروجاً عن الإسلام؟! لقد جاء وفده إلى المدينة، ونزلوا على وجوه المسلمين فيها. لم يطلبوا إلا اعفاءهم من الزكاة.

وقد أجمع المسلمون الذين أنزلوهم عندهم، على قبول ذلك منهم. وسعوا في مطلبهم عند أبي بكر، مؤكدين أن رأي المسلمين هو قبوله. لكن أبا بكر رفض ذلك وأبى إلا القتال.

أكان طليحة - الذي صغّر أعداؤه اسمه من طلحة إلی طليحة - سيبعث بوفده إلى المدينة، لو كان مرتداً؟! ماذا سيبحث فيها؟! ماذا سيقول الوفد حين يواجه المسلمين هناك، وقد ارتدوا عن دينهم؟! بل لماذا يأتون إلى المدينة وقد أصبحوا أعداء للمسلمين، وأصبح المسلمون أعداء لهم؟! أأمنوا أن يأخذهم المسلمون بتهمة الردة وينفذوا حكمها فيهم؟!

والمسلمون أنفسهم؟! أكانوا سيستقبلون وفد طلحة، وينزلونهم في بيوتهم، وبين المسلمين كبار الصحابة وأهل الدين والسابقة، ثم لا يكتفون بكل ذلك فيصحبونهم إلى أبي بكر دعماً لمطلبهم وتأييداً له واعترافاً بعدم تعارضه مع الإسلام؟!

أكان المسلمون قد ارتدوا هم أيضاً فانضموا إلى المرتدين من وفد طليحة؟! والله يا كعب لقد رأيت هؤلاء، وليس فيهم إلا من يرفع الصوت بـ (لا إله إلا الله، محمد رسول الله). وماذا يطلب من المسلم أكثر من هذا، إلا أن يكون الإسلام عند قريش، إسلاماً آخر لا نعرفه، ولم يخبرنا به رسول الله.

قال كعب: وماذا بعد؟

٣٧

قال الربيع: ورجع الوفد دون أن يستطيع ثني أبي بكر عما اعتزمه في شأنهم.

وما هي إلا أيام حتى كانت الأشلاء تتناثر في بزاخة والدماء تصبغ أرضها. واختلطت أشلاء باشلاء ودماء بدماء.

وأحسبك تعرف الباقي.

قال كعب: أعرفه: ثكل ويتم وسبي. لقد أرحتني من هم طويل وحيرة بين هؤلاء وهؤلاء. إنه الحق نطق به لسانك.

قال الربيع وابتسامة خفيفة ارتسمت في وجهه: وقلبي مع لساني أو قبله.

قال كعب بعد لحظة صمت: هل لي أن أسألك يا أبا حنظلة عن مالك بن نويرة وبني يربوع وما يشاع عن ردتهم؟! لقد كان مالك من خيار المسلمين وعاملاً للنبي على صدقات قومه، وامرأ فضل ومعروف وعقل، فهل ارتد، وارتد قومه معه؟ هل تستطيع أن  تخبرني يا أبا حنظله، وليس مثلك من أتوجه إليه بالسؤال. واعذرني إذا أثقلت عليك اليوم، فأنا لا أراك إلا نادراً في هذه الأيام.

٣٨

الفصل السادس

البدايات

حروب الردّة

مالك بن نويرة وبنو يربوع

قال الربيع: إن لذلك حديثاً آخر، حديثاً طويلاً، فاعذرني واکتف بماسمعت، فلن يختلف حديث مالك وبني يربوع، وحديث مسيلمة وبني حنيفة، وحديث كندة وغيرهم، عن حديث طليحة. إنه الظلم نفسه، الظلم الذي لا يحسنه أحد کما تحسنه قريش. فدعني يرحمك الله. ذلك حديث ما ذكرته إلا أخذتني الرعشة من صورة أولئك الرجال، والسيوف تحز رقابهم، والنساء لا يملكن غير النحيب، يلقين بأنفسهن على رجالهن فتدفعهن أيد خشنة وكلام أخشن. وهؤلاء الصغار، قد بلل الدمع خدودهم، ساكتين لا يعرفون شيئاً مما يجري، تدور أعينهم بين آبائهم وأمهاتهم... ثم توقف وقد اختنق صوته.

قال كعب وكأنه غير مصدق ما يسمع: أكل ذلك كان؟!

قال الربيع: وأكثر منه. فاترك هذا الحديث يرحمك الله، ويرحمني منه ومن ذكره.

قال كعب: لا والله. أبعد أن سمعت ما سمعت، تريدني أن أترکك؟! لا، لن أتركك دون أن أسمع بقية الحديث. لكني سأكتفي منك ومنه، بالأقل الذي تستطيعه. لن أثقل عليك. إن في حديثك إنصافاً لهؤلاء المظلومين وانتصاراً لهم. لقد كنت أنا بين الظالمين المهتمين لهم، العاذرين لأبي بكر فيما فعله بهم. ألا تريد أن تكون ممن ينصر المظلوم ويدافع عن الحق ويرد الباطل بلسانه، إن لم يستطع ردّه بيده؟! أليس هذا هو الحديث الذي نحفظه ونردده دائماً؟!

قال الربيع وهو يرى إصرار صاحبه ويسمع حجته: سأقبل ما عرضت، على شرط الاختصار. فلدي موعد لا أريد أن يفوتني. قال كعب: لك ذاك، لن يفوتك موعدك.

٣٩

قال الربيع: كنت قد بدأت الحديث، أول ما بدأته، بطليحة وسأبدؤه الآن بمالك بن نويرة وبني يربوع. فيا لهما، اتجه جيش أبي بكر بعد ما قتل (المرتدين) من أصحاب طليحة. إنها مأساة، لا أريد هذا الحديث. لا أريد أن أتذكر. لقد اتجه (سيف الله) مع سيوف أخرى مجردة حادة، إلى البطاح، حيث منازل بني يربوع. وذهبت سرية من الجيش إلى ناحية هناك، كان فيها مالك وعدد قليل من قومه. وجاء وقت الصلاة، فقام مالك ومن معه من بني يربوع لأدائها. كان سلاحهم عليهم، احتراساً منهم وحذراً أن تدهمهم السرية وهم في الصلاة.

قال قائد السرية، وهو يرى السلاح عليهم: ألستم مسلمين؟!

قالوا: بلى. نحن مسلمون وقد حان وقت الصلاة.

قال قائد السرية: ونحن مسلمون مثلكم ونريد الصلاة أيضاً. ولكن مالي أرى السلاح عليكم، وليس وقت سلاح؟

قالوا: نخشى الغدر، وقد تعلمنا أن نحترس. وأنتم ما لكم لا تنزعون سلاحكم؟!

قال قائد السرية: ضعوا سلاحكم ونضع سلاحنا، ولكم ذمة الله وذمة رسوله ألا نغدر بكم ولا نقطع عليكم صلاتكم ولا نتعرض لكم بسوء حتى تكملوها، ثم لا يكون إلا الخير لنا ولكم، وأنتم إخواننا في الدين. وقد حرم الله علينا دماءكم وأموالكم.

وصدق مالك وبنو يربوع، ولم يكونوا ملومين إذا صدقوا وأمنوا بعد ما أعطو ذمة الله وذمة رسوله. لم يعرفوا ماذا خبأ لهم سيف الله!

وحين كانوا في الصلاة، عاجلهم الجند فقتلوا من قتلوا وجاؤوا بالباقين منهم إلى خالد وقد شدوهم وضيقوا وثاقهم، وبينهم مالك بن نويرة.

لم يدر مالك أن ابن الوليد قد أجمع على قتله، فهو لم يفعل شيئاً يستحق به القتل، بل على العكس، لقد طلب من قومه أن يتفرقوا حتى لا يظن بهم السوء ويحتج عليهم بما لم يريدوا.

٤٠