ويستمر الصراع

ويستمر الصراع0%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 226
المشاهدات: 62013
تحميل: 4186

توضيحات:

ويستمر الصراع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62013 / تحميل: 4186
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لكن مالكاً أحس بالقتل بعد ذاك، حين رأى ضرار بن الأزور قد جرد سيفه متهيئاً لقتله. قال مالك لخالد، وهو يشير إلى زوجته، قبل أن يطاح برأسه: هذه التي قتلتني يا خالد.

وكانت زوجة مالك: أم نهشل أو أم تميم، من أجمل النساء، وذات أجمل ساقين بين نساء العرب. كان خالد يريدها، يريدها بأي ثمن، وأرخص ثمن هو قتل زوجها مالك.

وقتل مالك، وفي نفس الليلة أو قبل ان يأتي الليل، كانت أم نهشل تقاد إلى خيمة سيف الله الذي لم يمنعه دين ولا مرؤة عن اغتصاب امرأة مفجوعة بزوجها لم يجف دمه ولا دماء قومه بعد. والمغتصب هو القاتل: سيف الله!!.

قال كعب وجسمه يضطرب من هول ما يسمع والألوان تتعاقب على وجهة:

أحق ما تقول؟! إنني لا أصدق. أيفعل خالد بن الوليد كل هذا، ثم يسمونه سيف الله؟! والله لقد كدت أن أظلم هؤلاء المساكين وأنا أسمع عكس هذه يردده المشوهون المزورون من أنصار السلطة. هل تعلم أي خطأ كبير كنت سأقع فيه لولا أن أراك؟! ماذا فعل خليفة المسلمين بالمسلمين؟! لكن قل لي كيف كان موقف عمر بن الخطاب، وهو صاحب أبي بكر والمقرب منه؟ لقد سمعت أن رأيه كان مخالفاً لرأي أبي بكر، وأنه طلب من أبي بكر أن يقيم حدين على خالد: قتل امرىء مسلم، والزنا بامرأته. وسمعت كذلك أن أبا قتادة وعبد الله بن عمر قد شهدا عند أبي بكر ببراءة مالك وصحة إسلامه، وأنه أقام الصلاة هو وقومه. وهما شاهدان على ذلك، وقد أقسما إلا يقاتلا تحت لواء لخالد بن الوليد بعد الذي فعله مع مالك وامرأته.

قال الربيع: هل تصدق إذا قلت لك: إن أبا بكر لم يلتفت إلى ما قاله عمر، ولا إلى ما شهد به عبد الله بن عمر وأبو قتادة. كان هم أبي بکر أن يلتمس العذر لخالد فيما فعل. كل ما كان يشغله هو أن يبرئ خالداً بأنه اجتهد فاخطأ. هل رأيت؟ اجهتد فقتل، واجتهد فزنى، وأخطأ في القتل وفي الزنا. هذا هو رأي خليفة المسلمين في جريمتي خالد. لقد نهى عمر، وأنكر عليه التعرض لخالد. أما أبو قتادة وعبد الله بن عمر فقد أغلظ لهما في الكلام وأمرهما بالعودة إلى جيش خالد، وكانا قد أقسما بألا يحاربا تحت لوائه. هذا كان كل ما يفكر به الخليفة، ولتذهب دماء المسلمين إلى حيث تريد أن تذهب.

٤١

وكان كعب قد سرح بفكره بعيداً، والأحداث تتزاحم أمام ناظريه: مالك وذمة الله والصلاة وأم نهشل ودم يسيل. ثم انتبه ليقول لربيع: لشد ما أحزنني ما سمعت! أيقتل خالد مسلماً بلا حق ويزني بامرأته ويشهد الشهود على ذلك، ويعذره خليفة المسلمين ويعفيه من كل عقوبة ويبقيه في منصبه، ويعتبر كل ذلك مجرد خطأ؟! ماذا لو كان غير خالد فعل بعض ما فعله؟! إذن لتحول الإسلام كله إلى سيف يقطع به أبو بكر رأس الظلم والظالمين. أليس هذا ما كان سيفعله أبو بكر لكي يبدو وكأنه حامي الدين وحارسه والساهر على تنفيذ أحكامه؟! والله إن عجبي من موقف أبي بكر أشد من عجبي من فعل خالد. ثم أضاف بابتسامة ساخرة: أذنب مالك أن تكون امرأته جميلة؟!

أكان على المسلمين، لكي ينجوا من سيف خالد، أن يختاروا زوجاتهم من قبيحات النساء؟!

وهكذا أسقط أول حدين في الإسلام: حد القتل وحد الزنا، وستسقط بعدهما حدود كثيرة.

وكان الربيع بادي التعب حين وصل في الحديث إلى هنا، فقال لكعب: هلا جلسنا يا كعب. لقد أتعبني الوقوف والكلام، وفي أحدهما ما يتعب مثلي. وأخذا مجلساً لهما في زاوية ليست بعيدة.

قال كعب: الآن تستطيع أن تكمل حديثك يا أبا حنظلة. ماذا بعد قتل مالك واغتصاب امرأته؟! أظن عندك كلاماً كثيراً؟!

قال الربيع متابعاً حديثه: ثم لم يكتف خالد بقتل مالك، فأمر بأن يوضع رأسه اثفية للقدر التي يطبخ فيها طعام الجيش المسلم، كأنه أعوزه أن يجد حجراً أو سواه يضعه تحت القدر، فجاء برأس مالك. ماذا سيقول المزورون المبررون لقتل مالك، ورأسه أو رأس أي إنسان، يستعمل کحجر تحت القدر بعدما قتل؟! هل تعلم ما الذي أثار دهشة هؤلاء في مأساة مالك؟ الذي أثار دهشتهم أن النار لم تصل إلى رأسه لکثافة شعره، فبقي سليما لم يحترق، حتى نضج طعام المسلمين!! وليست هذه نكتة، وإن كنا نحتاجها في أيامنا السوداء هذه. إنها تتردد بينهم وفي مجالسهم. جريمة أخرى يضيفها مالك إلى جريمة الردة!!

٤٢

قال كعب ويده تمتد إلي رأسه تتحسس شعره: والله إنها لجريمة!! كان على مالك أن يحلق شعره قبل وصول خالد، ثم أضاف: وماذا عن لغة كنانة ولغة قريش، وعن حراس مالك الكنانيين الذين لم يفهموا قول خالد لهم (دفئوا) أسيركم، ففهموها على أنها (اقتلوا) أسيركم، فبادروا إلى قتل مالك؟ أكانت لغة كنانة تختلف عن لغة قريش؟! أكانت كنانة قبيلة من الصين أو الترك، ونزلت جزيرة العرب قبل مقتل مالك بقليل، فلم يفهموا لغة خالد؟!

قال الربيع: والله ما سمعت هذه الحكاية إلا أسرعت بوضع يدي على فمي حتى لا يسمع ضحکي! والله ما كان القوم أشد استخفافاً بالناس واحتقاراً لعقولهم، منهم، وهم يرددون كلاماً لمجانين، مجانين، مجانين، ثلاثاً! وما كانوا مثيرين للضحك كما كانوا في تبريرهم هذا!. ألست من كنانة يا كعب؟! ألست تفهم لغة العرب كل العرب، لا يعسر عليك شيء من شعرهم ونثرهم، وفيهم القحطاني اليماني الابعد عن كنانة، وفيهم الربعي والقيسي، البعيد عن كنانة، وفيهم التميمي والأسدي، وكلهم أبعد من قريش إلى كنانة؟! ألا تعلم أن كنانة هو أبو قريش واسمه النضر بن كنانة ولقبه قريش؟! فكيف اختلفت لغة الابن عن لغة أبيه حتى أصبحتا لغتين، وأصبح المتكلمون بالواحدة منهما لا يفهمون المتكلمين بالأخرى؟! أليس هذا كلام مجانين؟! مجانين من هذا النوع الذي لا ينفع معه سحر ولا رقية، ولا شيء مما يداوى به الجنون؟! لم يجدوا ما يعتذرون به إلا الجنون، فجنوا.

ثم قل لي: هل تستطيع أن تجد في كل (لغة) كنانة، شعراً أو نثراً أو حديثاً، كلمة اختلفت في معناها عما يقابلها في (لغة) قريش؟! كلمة واحدة فقط؟! بل هل تستطيع أن تجد في كل (لغة) كنانة، شعراً أو نثراً أو حديثاً، (دفئوا) بمعنى (اقتلوا) في غير مقتل مالك بن نويرة  إن استطعت؟!ـ وأمهلك الوقت الذي تريد فسأسلم لك بصحة الرواية.

والله يا كعب، لأنا بمحاولة الاعتذار عن خالد وتبرير قتله لمالك، باختلاف (لغة) كنانة عن (لغة) قريش، أشد حزناً مني على قتل مالك. كنت سأقول: جريمة ارتكبها ابن الوليد، وسكت عنها أبو بكر، وينتهي الأمر. فما أكثر الجرائم في تاريخنا، وما أكثر السكوت عنها!

٤٣

لكن لم يدر في ذهني أبداً أن يصل الجنون بالقوم إلى هذا الحد؟! هذا ليس جنوناً. هذا تعصب بلغ الجنون.

قال كعب وهو يتابع الربيع كلمة كلمة: والله ما أدري يا ابا حنظلة ماذا سيقولون للناس، وماذا سيقول الناس، وهم يكذبون عليهم، ويعرفون أنهم يكذبون!!

قال الربيع: أترى ذلك صعباً وهم يكذبون على الناس الآن، مع وجود القاتل ومكان القتل، ومن شارك فيه، ومن شهده، ومن طالب بالاقتصاص من القاتل، ومن عفا عنه، ونساء وأطفال وآباء وأمهات. ولغة نتكلمها جميعاً ونشترك فيها جميعاً!! أتراهم وهم لا يستحيون منا، ونحن نعرف الحدث بكل تفاصيله، سيستحيون ممن يأتي بعدنا، وهو لم ير الحدث ولم يشهده ولم يعاصره، إنما هو رواية وحديث سينقل إليه كما يريده الحاكمون. سيقرأه في كل ما يقرأ. لن يكون ذلك صعباً يا ابن عمير. إنها قريش!! طالما كادت الإسلام وتلاعبت به.

قال كعب وهو يهز رأسه تأييدا للربيع: صدقت يا أبا حنظلة. إنها قريش. ثم أضاف بعد لحظات سكت فيها الاثنان: ومسيلمة وبنو حنيفة!! ماذا فعلوا؟ لقد كانت مجزرة في اليمامة!! أصحيح أن مسيلمة قد ادعى النبوة؟!

مسيلمة وبنو حنيفة و( الضفدعة بنت الضفدع )

وانطلقت ضحكة عالية من الربيع قبل أن يقول: بم صدقه بنو حنيفة وصدقوا نبوته؟! أبـ ( يا ضفدعة بنت ضفدع. نقي كما تنقين. أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ) أم بـ (الخابزات خبزاً والثاردات ثرداً واللاقمات لقماً... )؟!

أهذا هو كلام الله الذي نزل به الوحي على مسيلمة ليبلغه إلى بني حنيفة وغير بني حنيفة، وهو كل ما نزل به الوحي؟! أيمكن أن يكون هذا كلام الله يحمله الوحي وينزل به على أحد أنبيائه بعد محمد والقرآن؟!

٤٤

أيبلغ الجنون بأنصار الحكم والمدافعين عنه والمبررين لظلمة، أن يتهموا مسيلمة وبني حنيفة بالجنون، كما فعلوا مع مالك، و( لغة ) كنانة و( لغة ) قريش؟!

لقد كان بنو حنيفة أعقل من ذاك. أعقل كثيراً من ذاك. كانوا أهل حاضرة ومتقدمين على باقي العرب من ساكني الصحراء. أكانوا يدفعون ألوف القتلى لكي تبقى ضفدعة مسيلمة تنق، ولتبقى الخابزات تخبز، والثاردات تثرد، واللاقمات تلقم؟! أليس هذا هو القرآن الذي جاء به مسيلمة إلى قومه من بني حنيفة كما يريد أنصار المجرمين القتلة أن نصدق؟! أيمكن أن يؤمن بنو حنيفة أو غير بني حنيفة بمثل هذا الهذيان، والعرب لم يؤمنوا بمحمد وقرآنه العظيم إلا بعد زمن طويل، خاضوا فيه معارك الفكر قبل معارك السيف؟!

لم يرتد بنو حنيفة ولم يخرجوا عن الإسلام كما يصفوه المشوهون المزورون المنافقون، لكنهم اضطروا للدفاع عن أنفسهم وكرامتهم، وكرامة غيرهم من العرب، حين هاجمهم جيش أبي بكر، لنفس الأسباب التي هاجم بها طليحة ومن معه ومالك وبني يربوع.

وسالت دماء، وثكلت نساء وأمهات وآباء، ويتم وشرد أطفال، إرضاء لنزوة حاكم او متهيئ للحكم وطامع فيه.

ما الذي يدعو بني حنيفة إلى الارتداد؟! أدين أفضل من الإسلام جاءهم به مسيلمة فاعتنقوه ورفضوا الإسلام وارتدوا عنه؟!

هذه يا كعب حقيقة ما اتهم به مسيلمة وبنو حنيفة. لقد أبى القوم إلا كذباً عليهم وتشويهاً لموقفهم. لم يستحيوا ولم يتحرجوا.

قال كعب: لو استحيوا وتحرجوا ما ظلموا. ولكن قل لي يا أبا حنظلة، هل صحيح أن سيف الله قد استولى على إحدى نساء بني حنيفة الجميلات، وكان الرجال هناك ما يزالون يقاتلون الرجال، والدماء من الطرفين تغطي أزقة اليمامه وشوارعها؟ يبدو أن سيف الله لا يدخل معركة إلا مقابل امرأة جميلة يحصل عليها. أظنها كانت بنت مجّاعة ابن مرارة من سادات بني حنيفة. لكن كيف ترك زوجها فلم يقتله كما فعل مع مالك؟

٤٥

قال الربيع ضاحكاً: لأنها لأنها لم تكن ذات زوج.

قال كعب وهو يبادله الضحك: أظن الذي كان يريد أن يتزوجها قد حمد الله على أنه لم يفعل، وإلا لأصبح رأسه اثفية لقدر أخرى يطبخ فيها طعام المسلمين، كصاحبه مالك.

قال الربيع وهو يستعجل الكلمات: لقد أوشك موعدي أن يحل، وعلي الإسراع بالذهاب. لا أريد أن يضيع علي موعدي، حديث القتل والظلم، وإن حديثه لا ينتهي عندنا، ليس أكثر منه، أين توجهت ستجد هذا الحديث.

قال كعب: والله يا أبا حنظلة، لقد كشفت عن أسرار ما كان لي أن أعرفها من غيرك. وربما لا يعرفها غيرك، فجزاك الله خير ما يجزي هؤلاء الناطقين بالحق، لا يميلون عنه ولا يتبعون سواه. لكن سؤالاً واحداً، واحداً فقط، أتمنى أن تكمل به حديثك، وسأعفيك من حديث ( المرتدين ) الآخرين.

قال الربيع: ألا يكفيك من حديث القتل ما سمعت حتى الآن؟! والله لن تجد غيره، ولن تسمع غيره.

قال كعب: ولقد قبلت. بالله عليك يا أبا حنظلة إلا ما انتظرت قليلاً: لحظات معدودات تزيل فيها شكاً وتكشف عن حق. ألا يستحق ذلك منك لحظات ما أحسبها ستفوت عليك موعدك، أو إن شئت، سرت معك حتى ينتهي حديثك، فأكون قد كسبت أنا الحديث، وأدركت أنت موعدك دون إبطاء، ماذا تقول؟

( ردّة كِندة )

قال الربيع: والله إنه لرأي. لا يمكن رفضه ولكن عن ردة من تريد أن يكون الحديث؟! قال كعب: ربما كان الحديث عن ردة كندة هو الأسهل عليك الآن وأخذا الطريق.

٤٦

قال الربيع: اسمع يا صاحبي حديث كندة إذن، فقد يكون أغرب من كل ما سبق، وإن كان ماسبق غريباً كله. كان زياد بن لبيد قد تولى زكاة قوم من كندة، هم بنو عمرو بن معاوية. فجاء أحدهم بناقة اسمها شذرة، ليست له بل لأخيه الذي لم تكن عليه زكاة. فقال مالك الناقة: هذه ناقتي، لا ناقة أخي ولا شأن له بها وأعطاها خطأ، ظاناً أنها له. واعترف أخوه بصحة قوله. وأنه أخطأ في إعطائها.

وخيرا زياداً أن يأخذ أية ناقة غيرها. لكن زياداً رفض، إلا تلك الناقة، وأبقاها في مال الزكاة، واتهم الآخوين: مالك الناقة، ومن أعطاها، بالكفر والخروج عن الإسلام!!

وثارت معارك طويلة، وقتلى ودماء وسبي نساء ويتم أطفال؛ لأن أمير جيش أبي بكر أصر إلا ( شذرة ) التي لا زكاة عليها ولا حق فيها.

أرأيت كيف يكون الظلم؟! أرأيت كيف تسيل الدماء رخيصة في أول حكم في الإسلام: بين امرأة تعجب خالداً، وناقة تعجب زياداً، ثم تسمى الخلافة الراشدة والخلفاء الراشدين، وحديثاً طويلاً عن العدل والمساواة.

وأسرع الربيع إلى موعده وهو يلعن لم أسمع من يلعن، لکني عرفته. وانتهى حديث كعب والربيع عن حروب ( الردة ) لكن حديثها لم ينته عند الآخرين. فقد بقي المؤرخون بعد كعب والربيع، مصرين على الحديث عن ردة ومرتدين، وسيف الله ومالك ومسيلمة. وما أظنه سينتهي إلا بأن يصحو هذا الضمير العربي المسلم يوماً، فيصحح اسمها ويعطيها الوصف الذي تستحقه.

لقد كانت حروب الردة من أشد الصفحات سواداً في تأريخ الإسلام الذي لا تعوزه الصفحات السوداء، ضل فيها المسلمون، وما يزالون، حتى اليوم، للأسف، وهذا أخطر ما فيها: اختلقت وقائع، وزورت أسباب، وسوقت أوهام، وبيعت ذمم وضمائر، وبرز ظلم سيمهد لظلم طويل تالٍ. حتى أسماء المرتدين غيروها  فأصبح طلحة طليحة، ومسلمة مسيلمة، تصغيراً لهما وتحقيراً، وليس بين العرب إلا طلحة ومسلمة.

٤٧

هذه حقيقة مالا يزال يسمى حتى اليوم، بحروب الردة: رسالة قريش أو إنذارها للعرب، في أول حكم لها، بالخضوع المطلق لسيادتها وسلطانها... أو الخيار الآخر الذي رأيناه مع ( المرتدين ).

وسأكون سعيداً إن استطاع ما قدم في هذا الفصل، أن يحرك عقل وضمير المثقف العربي والمسلم لإغناء هذه الحقيقة والكشف عنها، فما تزال دماء وقتلى ونساء وأطفال يبحثون عمن ينصفهم ويرد إليهم حقهم.

٤٨

الفصل السابع

الحرب بين الجن والخزرج

سعد بن عباده، وأول اغتيال سياسي في الإسلام

لم يكن قد مر وقت طويل على افتراق كعب بن عمير والربيع بن حنظلة حين طرق كعب الباب على الربيع.

قال الربيع وهو يفتح الباب ويرى كعب: مرحباً بك يا أبا مالك. أرجو أن يكون خيراً ما أعادك. لابد أن أخباراً سارة بلغتك بعد افتراقنا ولم ترد المبيت بها دوني. إني أرى الابتسامة واضحة على شفتيك: قال ذلك وهو يقود كعباً إلى المكان الذي اعتاد الجلوس فيه كلما جاء كعب لزيارة الربيع.

قال كعب بعد أن استقر في مجلسه إلى جانب الربيع والابتسامة تأخذ مساحة أكبر في وجهه: جئتك قبل أن تنام فأنا أعرف مواعيد نومك. لم أشأ أن أنتظر حتى صباح الغد، ولا أدري ما يأتي به صباح الغد.

قال الربيع: صدقت والله. هل تعلم كم أسعدتني بمجيئك. لقد خلت أيامنا هذه من أية أخبار سارة، ولعل فيما تحمل منها ما يبعد الحزن عنا. إني أرى الابتسامة في وجهك، أراها ظاهرة، وقلما أخطأت فراستي. قل يا كعب. هل أعاد الخليفة عمر حقوق الذين قتلوا ظلماً فيما سموه حروب ( الردة ).

قال كعب: لا. ليس بهذا جئت.

قال الربيع: هل اقتص عمر من خالد بن الوليد الذي قتل مالكاً وزنا بامرأته في نفس الليلة التي قتل زوجها فيها.

قال كعب: ولا هذا. لم يكن شيء من هذا، إن عمر كان يلح على أبي بكر بأن يقيم على خالد حدي القتل والزنا، وهما القتل والرجم، حتى ضاق أبو بكر بإلحاح عمر ونهاه أن يعود إلى ذكر خالد.

٤٩

قال الربيع: فهل أعاد لفاطمة بنت النبي محمد حقها الذي حرمها منه أبو بكر بحديث (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) الذي لم يروه أحد ولم يسمعه أحد سواه من بين جميع الصحابة الذين بلغوا الألوف، ومنهم صاحبا الشأن فاطمة وعلي، مع أن النبي لم يمت بعيداً عن المسلمين، ليس معه إلا أبو بكر وحده فأسره إليه.

قال كعب: لا، وتلك قصة أخرى كان البطل الثاني فيها عمر نفسه. لقد توفيت فاطمة وهي حزينة حزنين: على فقد أبيها، وعلى ما لحقها من ظلم أصحابه بعده.

قال الربيع وقد بدا حزينا وهو يستعرض الماضي القريب: قصة أخرى! نعم قصة أخرى. والله ما ذكرتها إلا أسرعت إلى عيني أمسح الدموع منهما. لم تحرم فاطمة وحدها؟! لم ترث عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر، النبي محمداً، ولا ترث فاطمة؟! هل قال النبي: نحن معاشر الأنبياء لا نورث بناتنا فقط، وعائشة هي بنت الذي سمع الحديث ورواه، وحفصة - بنت صاحبه ومصدقه ومؤيده؟!

قال كعب: تسألني وكأنني الذي أشعلت حروب الردة وأرسلت الجيوش لقتل المسلمين، وشجعت ابن الوليد على قتل مالك والزنا بامرأته، وحرمت بنت النبي ميراثها؟!!

لم لم تسأل خليفتك أبا بكر قبل موته، أو صاحبه وشريكه، خليفتك الآن؟! لم تقاطعني ولا تتركني أكمل؟! والله لقد كدت تنسيني الحديث الذي جئتك من أجله.

قال الربيع: أعترف أني أخطأت. ولكن ما يضحكك إذن، إذا لم يكن شيء مما ذكرت قد تحقق؟! لا الحقوق أعيدت، ولا الظلم رفع، ولا الحد أقيم على من وجب عليه.

قال كعب: حديث آخر. بعيد عن كل ما ذكرت هو الذي جاء بي إليك هذه الليلة، لا أدري لماذا كتمته عني فلم تذكره ولم تشر إليه ولا مرة واحدة، على طول صحبتي لك. لقد كنتم الأبطال في حروب لم يعرفها ولن يعرفها العرب إلا لكم وحدكم، وهو مجد كبير أضفتموه إلى ما لكم من مجد. فما الذي منعك من الحديث عنه أو ذكره على الأقل، فيما تخوض من حديث، وهو يستحق ذلك منك، ويستحق الأكثر.

٥٠

قال الربيع مستغرباً: عماذا تتكلم؟! أية حروب تعني؟! لقد كان يوم بعاث آخر حروبنا مع الأوس. وأنت تعلم أن النصر كان حليف الأوس فيه. والحرب سجال: يوم لك ويوم عليك. هذه حروبنا، مع إخوتنا الأوس دائماً، ولا أذكر أننا دخلنا في حروب مع غيرهم، وهي مشهورة ومعروفة لك ولغيرك.

قال كعب، وما تزال الابتسامة تلازم شفتيه: وتتصنع الجهل أيضاً يا أبا حنظلة؟!

قال الربيع: والله كاد صبري ينفد معك. قل وأرحني أراحك الله. عن أي شيء تتكلّم؟! لقد قلت ما أعرف، لم أكتم شيئاً ولم أخف شيئاً، وليس عندي ما أضيفه.

قال كعب: وهو ينتقي كلماته بهدوء، وينطق بها بهدوء أكثر: حروبكم مع الجن؟! لقد كانت للخزرج حروب طويلة معهم، سقط فيها قتلى وسالت دماء ودمرت الكثير من مساكن الجن وشردوا في الآفاق. كل هذا جرى، وربما أكثر منه، وأنت لم تشر إليه يوماً في أي من أحاديثك. ألست محقاً في عتبي عليك. بل إنني أحفظ  بعض ما قيل من الشعر في تلك الحروب. لقد كان الجن يقولون الشعر باللغة العربية، كما كانوا يقاتلون بالسهم التي يستعملها العرب في قتالهم. أكان الجن عرباً يا أبا حنظلة؟!

ربما من القحطانيين فيشتركون معكم في النسب، أو من العدنانيين فيقتربون من قريش.

قال الربيع وهو يطلق ضحكة كبيرة: هل أصابك شيء في عقلك يا صاحبي فأستدعي لك من يعالجك برقية أو غيرها مما يعالج به أمثالك؟!

قال كعب: لا والله وليس بي شيء مما تظن، ولن تحتاج إلى استدعاء أحد لعلاجي، وأنا جاد فيما أقول كل الجد، ولم أبتدع هذا الحديث ولم أختلقه.

قال الربيع وقد زاد تعجبه وبدا أكثر فضولاً ورغبة في متابعة كعب: من أين جئت بهذا الحديث؟! إني لا أعرف حرباً لنا مع الجن ولم أر أحداً منهم ولم ينقل أحد من شيوخ قبيلتي أنه رأى أحداً منهم. فهل كان كل أولئك يكذبون علي، وأنت الصادق الوحيد؟! هل رأيت الجن فسمعت منهم ما تتحدث به الآن؟! هل تعرف لغة الجن؟! والله لقد أوشكت أن أجن أنا يا كعب مما أسمع من حديثك عن الجن.

٥١

قال كعب: سأختصر لك ما أريد وتريد معرفته. بعد أن تركتك عائداً إلى البيت، لقيت جماعة من قريش، في حلقة لهم فسلمت وجلست. لم يكن لدي ما يعجلني إلى البيت، وكانوا من أصحابي القدماء.

خاضوا في أمور شتى، وخضت معهم. وصل الحديث إلى السقيفة وسعد بن عبادة وموقفه فيها، وأنت تعرف موقفه، فضحك القوم حين جاء اسم سعد. ولما سألتهم عن سبب ضحكهم، قالوا: تذكرنا الجن فضحكنا. ألا تعلم أن الجن هم الذين قتلوه، ثأراً بمن قتل من زعمائهم في حروب طويلة دارت بين الجن والخزرج، وكان قتله مبعث فرح عم صفوفهم في كل مكان، فقد كان سعد سيداً جليلاً مطاعاً في قومه مسموع الكلمة فيهم، وكان الجن يخشونه دائماً، فترصدوه في حوران من سوريا وسددوا له سهمين لم يخطآه، إذ اختار الجن خير رماتهم لقتل سعد. وكان ذلك انتصاراً كبيراً للجن على الخزرج، نظموا فيه الأشعار وتبادلوا التهاني وتعالت الهتافات. ثم أضاف:

هل تريد يا أبا حنظلة أن أنشدك بعض ما قال الجن من شعر في قتل سعد؟

قال الربيع: أعرفه:

( قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده

ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده )

قال كعب: ذلك هو الحديث الذي جئت أسأل عنه. لم كتمته يا أبا حنظلة طول هذا الوقت. أليس من حقي أن أعتب عليك في كتمانه عني؟!

قال الربيع وهو يعالج ضحكة لم يرد أن تنفجر، والناس نيام: وهل صدقت ما قال أصحابك؟! كنت أظنك غير ذاك يا أبا زهير. هل تريد أن تعرف من قتل سعداً؟ ستعرف من قتل سعداً إذا عرفت ما جرى في السقيفة.

قال كعب، والدهشة تكاد تقيمه من مكانه: أتعني ...؟!

وقبل أن ينطق كعب بالاسم، كان الربيع يومي برأسه: نعم، إنه هو.

٥٢

الفصل الثامن

قريش الحاکمة الشورى عثمان

أبو ذر وعمار وعبد الله بن مسعود

صرخ أحد المتجمهرين في السوق الكبير للمدينة، وهو يسمع أسماء المرشحين للخلافة: ما بالهم كلهم من قريش؟! أليس في المسلمين الآخرين من يصلح للخلافة غير هؤلاء الستة القرشيين؟! ألم يجد عمر من يضيفه إليهم أو يرشحه مكان بعضهم فحصرها في قريش وحدها، وكأنها هي الإسلام؟! منذ متى أصبحت قريش ولية أمور المسلمين وراعية الإسلام؟!

قال آخر: والله إني لحائر فيما فعله عمر. إن كان أراد خير المسلمين فقد أخطأ الطريق إليه. وإن أراد غيره، فيكفي المسلمين ما هم فيه من فرقة واختلاف. أترى هؤلاء الستة، وهم يرشحون أحدهم، سيرشحونه بقلوب صافية أم ستشتعل الفتنة بينهم، اليوم أو غداً. والله إنه لاختيار مشؤوم ما أظنه سينتهي إلى خير، لا للمسلمين ولا للمرشحين أنفسهم.

قال ثالث وهو يدلي برأيه في الموضوع: وأنا والله لا أدري ما أقول. لِمَ لم يتركها عمر للمسلمين يولون من يثقون فيه ومن يرونه رضا لهم؟! مالك يا ابن الخطاب؟! لا أنت بالذي رشحت أحداً كما فعل أبو بكر حين ولاك، ولا أنت بالذي أخرجتها من عنقك وتركتها للمسلمين؟!

قال الأول: ليس هذا فقط، بل إنه جعل زمام الأمور كلها بيد عبد الرحمن بن عوف في حال اختلاف المرشحين وانقسامهم فريقين، فأي فريق كان ابن عوف فيه فإن مرشّحه هو الذي سيتولى الخلافة. لِم لم يرشح عبد الرحمن وحده ما دام هذا موضع ثقته وتفضيله فيحسم الأمر ابتداء، ويريح المسلمين من عواقب الاختلاف، بين المرشحين ثم بين أنصارهم وأتباعهم وأقاربهم؟! أكان ابن عوف أفضل الستة المرشحين؟ لم جعلهم ستة، لا سبعة مثلاً ليكون انتخاب الخليفة أسهل عند الاختلاف، بترشح أكثر الفريقين له؟ أأعجزه أن يجد سابعاً بين المسلمين، أو حتى بين القرشيين يضيفه إلى الستة، ليسهل انتخاب الخليفة ولا يحتاج إلى واحد يتحكم فيه؟! إنني أزداد حيرة كلما ازددت تفكيراً في الأمر.

٥٣

هكذا إذن رسم عمر صورة الحكم في الإسلام: قرشية بامتياز كما يقال الآن. قريش وحدها في الساحة، لا احد معها ولا أحد يشاركها. إن فات الحكم هذا الطرف منها، فإنه سيحط حتماً عند ذاك الطرف.

وحين قال عمار بن ياسر لعبد الرحمن بن عوف في مسرحية الشورى: (إن أردت ألا يختلف المسلمون...) رد عليه عبد الله بن أبي سرح (إن أردت ألا تختلف قريش.....) ثم تجاوز الكلام هذه الحدود، فقال بعض بني مخزوم مخاطباً عماراً أيضاً في أحداث نفس المسرحية (... وما أنت وتأمير قريش لنفسها)؟

هذه هي الشورى التي جاءت بعثمان، لا کمرشح للمسلمين، لكن كمرشح لقريش دون المسلمين.

وبخلافة عثمان التي كانت صفقة مشؤومة بين أطراف حركتهم حسابات ومصالح، يكون قد بدأ فصل جديد سيمهد للأسوأ، في اضطهاد المسلمين وإنهاك حرماتهم في أشخاصهم وأموالهم، واستبعاد ذوي الفضل والسابقة منهم، وتقريب من لا فضل عنده ولا خلق ولا دين.

نحن الآن أمام حكم، كل شيء فيه يؤكد أنه حكم قريش وبني أمية من قريش، لا حكم المسلمين. لقد أصبحت أسماء الوليد بن عقبة بن أبي معيط ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص تحتل الواجهة التي أقصي عنها أبوذر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وليت عثمان اكتفی من خيار المسلمين بذلك: لقد مضى بعيداً في العدوان عليهم والتنكيل بهم.

قال أحد سكان المدينة، يسأل آخر كان واقفاً عند مدخل المسجد الكبير:

من هذا الذي أنزل من ظهر الناقة؟ إن منظره لمحزن. لقد لحق لحم فخذيه بجنبي الناقة. ما أظنه إلا أرهق من طول الغربة. ألا تراه لا يقوى على المشي! أية جريمة ارتكبها؟! لكن حتى لو ارتكب جريمة، فهل يجوز أن يفعل به هذا، وهو غير داخل في العقوبة ولا جزأ منها؟!

قال الآخر: ويحك، هل تعرفه؟ هل تعرف عمن تتكلم؟ هل سمعت بأبي ذر؟

٥٤

قال الأول: ومن لم يسمع بأبي ذر: صاحب رسول الله ورابع أربعة سبقوا إلى الإسلام والزاهد العفيف الذي يقول فيه رسول الله (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)؟! أهو هذا الذي أراه الآن؟!

قال الآخر: وأنه لهو، إنه ابوذر، هذا الذي تراه، وترى لحم فخذيه لاصقاً على جنبي الناقة. لقد أركبوه على ناقة بغير قتب وساروا به يصلون الليل بالنهار، من الشام حتى المدينة، وهو سبب ما ترى.

قال الأول: وماذا فعل؟ هل يمكن لمثل أبي ذر أن يفعل غير ما فيه خير المسلمين وصالحهم؟!

قال الآخر: وهذا هو ذنبه. هذا ما أغاظهم منه. لم يتحملوا منه النصح والارشاد والدعوة إلى المساواة بين المسلمين وعدم أكل أموالهم بالباطل وصرفها في غير وجوهها المشروعة. إنه الحكم الجديد!

وأسرع السائل نحو أبي ذر، لكن الجند دفعوه؛ إذ كان عثمان قد منع الناس من لقائه والكلام معه.

وبعد أيام كان أبو ذر في طريقه إلى الربذة وحيداً، ليس معه إلا زوجته وغلامه، وليس من مودع له إلا علي والحسن والحسين وعمار بن ياسر.

قال وهو يودعه، وقد سالت عيناه بالدموع ( أما والله لو أردت دنياهم لأمنوك، ولو رضيت أعمالهم لاحبوك ) لكنه لم يرض أعمالهم فكرهوه وآذوه وأبعدوه، حتى مات في الربذة وحيداً.

وكانت امرأته تبكي قبل أن يموت؛ لأنه لا يملك ثوباً يصلح كفنا له. ذلك هو أبو ذر أحد أكابر الثوار في التاريخ الاسلامي.

٥٥

الفصل التاسع

قريش الحاکمة

أبو ذر، عمار، عبد الله بن مسعود

لكن هل كان أبو ذر هو الوحيد الذي تعرض لأذى عثمان؟ لا أظن، فعثمان لم يترك أحداً من خيار الصحابة يقدر على إيذائه إلا ناله باذاه. وسأبسط لك حديث اثنين غير أبي ذر، من أعلام الصحابة، تاركاً، إلى ما بعد، حديث الثورة. الثورة على عثمان، التي شارك فيها المسلمون من جميع أقطارهم. وكانت أول ثورة صنعتها الجماهير في التاريخ الإسلامي.

أما أول الاثنين فهو عمار بن ياسر، أحد صالحي المسلمين وخيارهم، وابن أول شهيدين في الإسلام. وذنبه أنه ذهب إلى عثمان حاملاً معه كتاباً كان قد كتبه عدد من فضلاء الصحابة، بينهم عمار نفسه، يذكرون فيه ما أحدثه عثمان من أحداث خطيرة ويخوفونه نتائجها ويطلبون إليه إصلاح ما سبق منها وعدم تكرارها، وإنهم لن يسكتوا بعد اليوم عن المظالم التي يتعرض لها المسلمون على يديه.

قال عثمان وهو يخاطب عماراً بعد أن سلمه الكتاب وقرأ جزأ منه: أعلي تقدم من بينهم؟!

قال عمار: لأني أنصحهم لك، ولقد أردت أن أحذرك، لعل التحذير ينفع، والوقت لا يزال أمامك وهو فرصة أخيرة لك لإصلاح ما مضى، حتى لا يكون علينا موضع اللوم، بأننا لم ننبه ولم ننصح.

قال عثمان: كذبت يا ابن سمية.

قال عمار: وأنا ابن سمية، وابن ياسر.

٥٦

وسمية هذه التي يعير عثمان عماراً بها بنسبه إليها متجاوزاً أباه ياسراً، هي أول شهيدة في الإسلام، ماتت تحت تعذيب أبي جهل لها، وفيها وفي زوجها ياسر يقول النبي (أبشروا آل ياسر فمثواكم الجنة). ثم أمر عثمان غلماناً له فطرحوا عماراً أرضاً فضربه عثمان ضرباً شديداً بقدميه اللتين لم يخلع منهما النعل حتى غشي عليه من شدة الضرب وأصابه فتق ظل يعاني منه طول حياته.

خليفة المسلمين لا يريد أن يستمع لنصح أحد من خيار المسلمين. لماذا؟ لأنه سلك طريقاً آخر غير طريق المسلمين.

وعبد الله بن مسعود الذي لم يسلم من عدوان عثمان!! ماذا فعل ليستحق، ليستحق أن تكسر أضلاعه!!

وعبد الله بن مسعود، رابع الناس إسلاماً وأول من جهر بالقرآن في مكة من المسلمين. وكانوا يخافون قريشاً أن يجهروا به.

إنه لم يفعل غير ما يفعله كل مسلم حريص على دينه، يرى الحاكم يقدم على ظلم المسلمين فينكر ذلك ويرفضه. لكن عثمان يمضي في طريقه غير مبال ولا مكترث بإنكار المسلمين ورفضهم، ولا حاسب حساباً لقولهم أو عدم قولهم، لقد أبى إلا أن يحمل بني أمية على رقاب الناس.

وحين بلغه عن عبد الله بن مسعود ما بلغه من انتقاده لأعماله، أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه وأشدها بغضاً عند الله وبعداً عن الاسلام. فأخرجه مولى لعثمان فضرب به الأرض حتى كسر بعض أضلاعه.

قال ابن مسعود، ومولى عثمان يجره إلى خارج المسجد وقد تمزقت ثيابه وسال دمه: لا تخرجني من مسجد خليلي رسول الله. لقد كنت ملازماً لهذا المسجد منذ آمنت بمحمد رسولاً. والله للموت أهون عليّ من مفارقة المسجد، أنا عبد الله بن مسعود، أنا رابع من قال: (أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، قبل أن يسلم خليفتكم ) لكن عثمان كان يؤمیء لمولاه: أن زد في تعذيبه ولا تصغ إليه وأخرج عن المسجد رابع المسلمين؛ لأنه لم يطق مظالم عثمان.

٥٧

الفصل العاشر

قريش... الحاکمة... عثمان

أموال المسلمين... أين ذهبت؟!

قال عبد الله بن الأرقم - خازن بيت مال المسلمين - وهو يوجه كلامه إلى عثمان: كنت أراني خازناً للمسلمين، لا خازناً لك، فخازنك هو غلامك لا أنا. والله لا أتولى لك بيت المال أبداً. ثم ألقى المفاتيح إلى عثمان وخرج وهو يقول: لا والله ما هي أموال عثمان، ولا أموال أبيه عفان ابن أبي العاص وأنها أموال المسلمين يريدني أن أخونهم وأوزعها في بني أمية، كلما جاءه واحد منهم غرف له ما يريد. ماذا أقول لله غداً؟! لن أكون شريكاً في سرقة أموال المسلمين. لن أخونهم في أموالهم وإن غضب عثمان. والله لرضا الله عندي خير من رضا الخليفة، والخوف منه أشد من الخوف من الخليفة.

وكان عثمان قد أمر ابن الأرقم بأن يدفع لعبد الله بن خالد بن أسيد الأموي، حين قدم على عثمان من مكة، ثلاثمائة ألف، ولكل واحد ممن كان معه، مائة ألف، وطلب من عبد الله بن الأرقم أن يدفعها لهم، فاستكثر عبد الله ذلك ورفض أن يدفع المبالغ التي أمر بها عثمان. فقال له عثمان: إنما أنت خازن لنا.

هكذا كان موقف عثمان من أموال المسلمين التي جمعوها بدمائهم وثكل نسائهم ويتم أطفالهم. لقد أصبحت رهناً برغبته، يعطي منها ويحرم من يشاء، لا قيد عليه في ذلك ولا رقابة، ويرفض كل قيد ورقابة، مبعداً المسلمين عنها وكأنها شأن خاص من شؤونه لا شريك له فيه.

٥٨

وهكذا أصبح بيت مال المسلمين، بيت مال الأمويين وأنصارهم يغرفون منه ما يشاؤون، لا يمنعهم منه إلا أن لا يبقى مكان يخزنونه فيه. ولى عمه الحكم بن أبي العاص: طريد رسول الله صدقات قضاعة التي بلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له. ثلاثمائة ألف لم تدخل بيت مال المسلمين وحرموا منها، وفيهم العاجز والمريض والمحتاج، لتدخل بيت الحكم، لم يتعب فيها ولم يجهد ولم يكن مستحقاً لها ولا لبعضها. ويبدو أن سابقة أبي بكر مع أبي سفيان قد تكررت هنا بين عثمان والحكم.

وكان أبو بكر قد تنازل عن أموال الزكاة ووهبها لأبي سفيان حين قدم بها المدينة في أول خلافة أبي بكر.

وغنائم افريقيا!! كل ماغنمه المسلمون في افريقيا من غنائم لا يحصرها عد ولا حساب، ولا يحتويها صندوق ولا خزانة. ماذا فعل بها خليفة المسلمين، وهي حصاد دمائهم وسيوفهم، ولكل ثكلی ويتيم حق فيها ونصيب. لقد وهبها كلها لعبد الله بن أبي سرح، أخيه من الرضاعة.

قال كعب بن عمير للربيع بن حنظلة، وهو شبه مذهول: أيمكن أن يكون هذا يا أبا حنظلة؟! إنني لا أستطيع أن أصدق، ولا أريد أن أصدق ما فعله عثمان.

قال الربيع: وما هو هذا الذي لا تستطيع ولا تريد أن تصدق؟ أليس عليك أن تبدأ به أولاً لأعرف إن كان مما يصدق أو لا. إنك تتكلم وكأني أعلم الغيب أو كأني أعيش في داخلك.

قال كعب: لقد سمعت من أكثر من شخص أنّ عثمان وهب كل ما غنمه المسلمون في أفريقيا لشخص واحد هو عبد الله بن أبي سرح الذي.....!؟

قال الربيع: وسمعته أنا أيضاً وماذا فيه مما لا يصدق، وقد أكده الواهب والموهوب له؟! أي غريب فيما فعله عثمان مع ابن أبي سرح؟! ألم يعتد هذا ومثله أو أمثاله مع غير ابن أبي سرح؟!

٥٩

من يعطي القليل بغير الحق يعطي الكثير، ومن يهب البعض يهب الكل، لن يتحرج عن إعطاء الكل مادام قد استسهل الباطل ورضي به. ليس في عمل عثمان ما يثير استغرابي، أنا على الأقل. فصدق ما لا تستطيع أو لا تريد أن تصدقه كما تقول. كل شيء ممكن جائز عند صاحبنا. أنسيت كيف أصبح خليفة؟! ألم تكن خلافته نفسها نتيجة مساومات وشروط بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، ولا أريد أن أطيل في هذه القصة، فأنت تعرفها كما أعرفها.

قال كعب وكأنه يتذكر أحداث الشورى: لقد ذكرتني يا أبا حنظلة ما لم أنس. هل تعلم كيف ساءت الأمور فيما بعد بين الاثنين؟ هل تعلم أن عثمان جاء يزور عبد الرحمن في مرض موته فرفض عبد الرحمن أن يراه، وكان يدير وجهه عنه كلما أراد عثمان أن يكلمه. ثم طلب ألا يصلي عليه عند وفاته. وإنه كان يقول محرضاً على عثمان: (عاجلوه قبل أن يتجارى في ملكه).

قال الربيع: وأعلم أكثر من ذاك. أعلم أنه جاء الى علي بن أبي طالب بعدما مات أبو ذر في الربذة، فنال من عثمان وطعن فيه. فقال له علي: أليس هذا عملك؟! فقال عبد الرحمن (فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي. إنه خالف ما أعطاني) ما أسرع ما انقلب ابن عوف على عثمان وتباعد ما بينهما وتبدل الحب بغضاً!! إن حبل الباطل لقصير يا عمير. فلنعد لحديثنا الذي كنا فيه، أظنني كنت في ذكر أبي موسی. لقد بعث أبو موسى عامل عثمان على البصرة بمال كثير، فجعل عثمان يقسمه بين ولده وأهله بالصحاف حتى لم يبق منه شيء. لم يكن قابلاً للعد فقسمه بالصحاف حتى لا يتعب، وأظنه تعب حتى وهو يقسمه بالصحاف! هل تريد المزيد؟ عندي منه المزيد والله. هل تريد أن تسمع ما قاله المسور بن مخرمة الزهري لمروان بن الحكم، وكان هذا قد دعا وجوه الناس الی وليمة كبيرة بمناسبة الانتهاء من بناء بيت له أنفق فيه أموالاً طائلة من أموال المسلمين؟ قال المسور وهو يرد على مروان ( والله لقد غزوت معنا افريقيا، وإنك لأقلنا مالاً، فأعطاك ابن عمك خمس افريقيا. وعملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين ) ذلك خليفتك يا عمير. لست أنا المسؤول عنه، إنما المسؤول عنه من رشحه ومن اختاره ومن ولاه أمور المسلمين، وكان عارفاً به. هل تريد المزيد؟ ما يزال عندي المزيد لأحدثك عن تبذير عثمان لأموال المسلمين وعن قطائعه لبني أمية.

٦٠